دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

رجحان قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [على ما (١) كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى وهو] قولهم : [القتل أنفى القتل (٢) بقلّة (٣) حروف ما يناظره] أي اللّفظ (٤) الّذي يناظر قولهم : القتل أنفى القتل.

[ومنه (٥)] أي من قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، وما (٦) يناظره منه هو قوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، لأنّ قوله : (وَلَكُمْ) زائد (٧) على معنى قولهم : القتل أنفى القتل ، فحروف (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) مع التّنوين (٨) أحد عشر ، وحروف القتل أنفى القتل ، أربعة عشر ، أعني الحروف الملفوظة (٩) إذ (١٠) بالعبارة يتعلّق الإيجاز لا

________________________________________

(١) أي على الكلام الّذي كان أوجز عندهم في هذا المعنى ، فالظّرف أي عندهم ظرف لما يليه ، أي أوجز ، وقوله : «في هذا المعنى» متعلّق ب «أوجز».

(٢) أي القتل قصاصا أنفى القتل ، أي أكثر نفيا للقتل ظلما من غيره ، ويحتمل أنّ أفعل ليس على بابه ، فالمعنى حينئذ القتل قصاصا ناف للقتل ظلما لما يترتب عليه من القصاص.

(٣) خبر لمبتدأ ، وهو فضله.

(٤) تفسير لما و «قولهم» بيان لمرجع ضمير يناظره البارز ، وأمّا المستتر فهو عائد على ما ، ويناظر من المناظرة ، وهو جعل الشّيء نظيرا وشبيها لشيء.

(٥) وكلمة «من» تبعيضيّة ، أي من جملة الألفاظ الّتي تجعل نظيرا لقولهم : القتل أنفى القتل ، قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

(٦) أي اللّفظ الّذي يناظر قولهم القتل أنفى القتل من جملة قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) هو قوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

(٧) لأنّ قوله : (وَلَكُمْ) لا مدخل له في المناظرة.

(٨) أي مع اعتبار التّنوين في حياة حرفا واحدا ، وإن لم يعتبر التّنوين ، فالحروف (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) عشرة.

(٩) أي هي المعتبرة في الفصاحة.

(١٠) تعليل للتّفسير ب (أعني) ، أي لأن الملاك هي الحروف الملفوظة.

٢٤١

بالكتابة (١) [والنّصّ] أي بالنّصّ (٢) [على المطلوب] يعني الحياة (٣) [وما (٤) يفيده تنكير (حَياةٌ) من (٥) التّعظيم لمنعه (٦)] أي منع القصاص إيّاهم (٧) [عمّا (٨) كانوا عليه

________________________________________

(١) أي فلا تعدّ الياء الّتي في أنفى ، ولا الألف في القصاص لأنّهما لا يتلفظّان في القراءة ، فالكلام الأوجز ما تكون حروفه قليلة في العبارة والقراءة لا بالكتابة ، ثمّ إنّه لو اعتبرت الحروف المكتوبة فأيضا قوله تعالى أقلّ حروف من قولهم.

(٢) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ قوله : «والنّص» عطف على قوله : «بقلّة» ، وكذا قوله : واطّراده وخلوّه واستغنائه والمطابقة.

(٣) أي الحياة هو المطلوب بقوله تعالى : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، فهو صريح في المطلوب بخلاف قولهم : القتل أنفى القتل ، فإنّه لا يشتمل على التّصريح بها.

فالحاصل إنّ قوله تعالى راجح على قولهم ، باشتماله على النّص على المطلوب دون قولهم ، حيث إنّ النّص فيه على انتفاء القتل ، وهو ليس مطلوبا لذاته ، وإنّما يطلب لما يترتّب عليه من الحياة ، ولا ريب أنّ التّصريح بالمطلوب أحسن لكونه أعون على القبول ، وموجبا لرغبة الخاصّ والعامّ إليه.

(٤) عطف على قوله : «بقلّة».

(٥) بيان لما في قوله : «ما يفيده» ، أي بما يفيده تنكير حياة من التّعظيم ، وجه الإفادة أنّ معنى الآية : ولكم في هذا الجنس الّذي هو القصاص حياة عظيمة.

(٦) علّة لعظم الحياة الحاصلة بالقصاص ، أي وإنّما عظمت تلك الحياة الحاصلة بالقصاص «لمنعه» ، أي منع القصاص إيّاهم ، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، ومفعوله محذوف أعني إيّاهم.

(٧) أي النّاس.

(٨) أي عن العمل الّذي كانوا عليه في الجاهليّة من قتل جماعة ، أي عصبة القاتل إذ كانوا في الجاهليّة إذا قتل واحد شخصا قتلوا القاتل ، وقتلوا عصبته ، فلمّا شرّع القصاص الّذي هو قتل القاتل فقطّ كان في القصاص حياة لأولياء القاتل ، لأنّ القاتل إذا قتل وحده كان فيه حياة عظيمة لأصحابه بعد قتلهم معه ، وأمّا قبل مشروعيته واتّباع ما كانت عليه العرب من قتل الجماعة بالواحد كان فيه إماتة عظيمة ، لأنّه إذا قتل واحدا قتل فيه هو وأصحابه ، ففيه إماتة لأصحابه.

٢٤٢

من قتل جماعة بواحد (١)] فحصل لهم (٢) في هذا الجنس من الحكم (٣) أعني القصاص حياة (٤) عظيمة [أو] من (٥) [النّوعيّة أي] ولكم في القصاص نوع من الحياة ، وهي الحياة [الحاصلة للمقتول] أي الّذي يقصد قتله (٦) [والقاتل] أي الّذي يقصد القتل (٧) [بالارتداع] عن القتل (٨) لمكان (٩) العلم بالقصاص. [واطّراده (١٠)] أي وبكون قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)

________________________________________

(١) أي بسبب قتل مقتول واحد قتله قاتل واحد.

(٢) أي للجماعة الّذين كانوا يقتلون وهم أولياء القاتل ، في هذا الجنس من الحكم ، أي المحكوم به ، و «في» في هذا الجنس سببيّة.

(٣) بيان لهذا الجنس ، أي المراد بالحكم هو القصاص ، وهو المحكوم به.

(٤) قوله : «حياة» محكوم عليه ، فالمعنى فحصل لجماعة حياة عظيمة من أجل القصاص.

(٥) أشار بتقدير «من» إلى أنّ قول المصنّف : «أو النّوعيّة» عطف على التّعظيم.

(٦) أي فهذه الحياة ليست حياة حقيقيّة ، بل بقائها واستمرارها ، فكأنّه نوع منها لا حقيقتها بمعنى ابتدائها بعد عدم.

لا يقال :

إنّ الحياة العظيمة المستفادة من قوله : من التّعظيم نوع من الحياة ، وحينئذ فلا تصحّ المقابلة بين النّوعيّة والتّعظيم في كلام المصنّف حيث عطف النّوعيّة على التّعظيم بكلمة أو الدّالّة على المقابلة.

لأنّا نقول :

حيثيّة النّوعيّة غير حيثيّة التّعظيم ، وإن كانت الحياة العظيمة نوعا ، فصحّت المقابلة نظرا إلى الحيثيّة ، وإن لم تصحّ نظرا إلى النّوعيّة.

(٧) فالمراد بكلّ من القاتل والمقتول هو القاتل والمقتول بالقوّة لا بالفعل.

(٨) أي بسبب ارتداع القاتل عن القتل.

(٩) علّة لارتداع القاتل عن القتل ، أي علّة ارتداعه هو علمه بالاقتصاص.

(١٠) أي عمومه لأفراده.

(١١) الأولى حذف (وَلَكُمْ) لما عرفت من أنّه لا دخل لها في المناظرة.

٢٤٣

مطّردا (١) إذ الاقتصاص مطلقا (٢) سبب للحياة بخلاف القتل (٣) فإنّه قد يكون أنفى للقتل كالّذي على وجه القصاص ، وقد يكون ادعى له كالقتل ظلما (٤). [وخلوّه (٥) عن التّكرار] بخلاف قولهم ، فإنّه (٦) يشتمل على تكرار القتل ولا يخفى أنّ الخالي عن التّكرار أفضل من المشتمل عليه (٧) وإن لم يكن (٨) مخلا بالفصاحة.

________________________________________

(١) أي عامّا لكلّ فرد من أفراده.

(٢) أي في كلّ وقت وكلّ فرد من أفراد النّاس سبب للحياة.

(٣) أي بخلاف القتل في قولهم : القتل أنفى للقتل ، فإنّه لا اطّراد فيه ، إذ ليس كلّ قتل أنفى للقتل ، بل تارة يكون أنفى له كالقتل قصاصا ، وتارة يكون أدعى له كالقتل ظلما ، وجعل كلامهم هذا غير مطّرد بالنّظر لظاهره ، وإن كان بحسب المراد منه وهو القتل قصاصا مساويا للآية في الاطّراد ، والحاصل إنّ ترجيح الآية على كلامهم بالاطّراد في الآية وعدمه في كلامهم بالنّظر لظاهر كلامهم ، وهذا كاف في التّرجيح.

لا يقال : إنّ الكلام في الفضل بحسب البلاغة وعدم الاطّراد ينافي الصّدق ولا ينافي البلاغة.

لأنّا نقول : إنّ الأولى حينئذ أن يرجّح قوله تعالى على قولهم بالنّص على المقصود من القتل ، فإنّ المراد من كلّ منهما القتل قصاصا والآية نصّ في هذا المراد بخلاف قولهم : إذ لفظ القتل ليس نصّا في القصاص.

(٤) حيث يقتل القاتل بسبب قتل الغير ظلما ، فيكون هذا النّوع من القتل أدعى للقتل.

(٥) أي خلوّ قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) عن التّكرار.

(٦) أي قولهم يشتمل على تكرار القتل.

(٧) أي الخالي عن التّكرار أفضل من المشتمل على التّكرار ، وذلك لأنّ التّكرار من حيث إنّه تكرار من عيوب الكلام.

(٨) أي وإن لم يكن التّكرار مخلا بالفصاحة ، لأنّ أصل الفصاحة مفروغ عنها ، وإنّما الكلام في الفضل والتّرجيح ، فما هو خال عن التّكرار أفضل على ما هو مشتمل عليه ، وإن كان فصيحا ، كترجيح الصّلاة في البيت على الصّلاة في الحمّام.

فإن قلت : في هذا التّكرار ردّ العجز على الصّدر ، وهو من المحسنات.

قلت : إنّ التّرجيح من جهة لا ينافي المرجوحيّة من جهة أخرى ، فكلامهم مشتمل على

٢٤٤

[واستغنائه (١) عن تقدير محذوف] بخلاف قولهم (٢) فإنّ تقديره : القتل أنفى للقتل من تركه. [والمطابقة] أي باشتماله (٣) على صفة المطابقة وهي (٤) الجمع بين

________________________________________

التّكرار ، وعلى ردّ العجز على الصّدر ، فبالنّظر إلى الجهة الأولى معيب ، وبالنّظر إلى الجهة الثّانية ، أي جهة ردّ العجز على الصّدر حسن ، فحسنه ليس من جهة التّكرار ، بل من جهة ردّ العجز على الصّدر ، ولهذا قالوا : الأحسن في ردّ العجز على الصّدر أن لا يؤدّي إلى التّكرار بأن لا يكون كلّ من اللّفظين بمعنى الآخر.

(١) أي باستغناء قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) عن تقدير محذوف.

(٢) أي القتل أنفى للقتل ، فإنّه يحتاج إلى التّقدير ، أي القتل أنفى للقتل من تركه أي القتل ، وقيل : الأولى أن يقول : القتل أنفى للقتل من كلّ زاجر أو من غيره ، فإنّ ترك القتل لا يكون ناف للقتل حتّى يصلح لأن يكون مفضّلا عليه ، وإنّما النّافي ما يزجر القاتل من الضّربّ والشّتم والحبس والتّبعيد.

لا يقال : حاجة قولهم إلى التّقدير لا أساس له ، لأنّ اعتبار هذا الحذف إنّما هو لأمر لفظيّ لا يتوقّف عليه تأدية أصل المعنى ، كما كان في حذف الفعل في الآية.

لأنّا نقول : ليس الأمر كذلك ، لأنّ تفضّل القتل على تركه دون الضّربّ والشّتم والجرح وأمثال ذلك من الزّواجر ، لا يفهم من دون تقدير هذا المحذوف ، بخلاف تقدير الفعل فإنّه لا يتوقّف عليه أصل المراد.

لا يقال : لازم هذا المقال كون قولهم من إيجاز الحذف ، وظاهر كلام المصنّف أنّه من إيجاز القصر.

لأنّا نقول : إنّه مركز لكلّ من الإيجازين ، فمن حيث إنّه مشتمل على معنى كثير ولو مع ملاحظة المحذوف إيجاز قصر ، ومن حيث اشتماله على الحذف إيجاز حذف ، وليس كلام المصنّف ظاهرا في الحصر.

(٣) أي باشتمال قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) على صفة المطابقة.

(٤) أي المطابقة ، «الجمع بين معنيين متقابلين» ، سواء كان التّقابل على وجه التّضاد أو السّلب وإلّايجاب ، أو غير ذلك ، وتعبيره هنا بالمتقابلين أولى ممّا عبّر به في المطوّل حيث وهي الجمع بين المعنيين المتضادّين كالقصاص والحياة ، لأنّ القصاص ليس ضدّا للحياة ، بل سبب للموت الّذي هو ضدّ للحياة بناء على أنّه أمر وجودي يقوم بالحيوان عند مفارقة روحه.

٢٤٥

معنيين متقابلين في الجملة (١) كالقصاص والحياة.

[وإيجاز (٢) الحذف] عطف على قوله : إيجاز القصر ، [والمحذوف إمّا جزء (٣) جملة] عمدة (٤) كان أو فضلة [مضاف] بدل (٥) من جزء جملة [نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١)]

________________________________________

(١) قوله :

«في الجملة» متعلّق بقوله متقابلين ، والمعنى ولو كان تقابلهما في الجملة ، أي بحسب ما استلزماه كالقصاص والحياة ، فإنّ القصاص إنّما كان مقابلا للحياة ، ومضادّا لها باعتبار أن فيه قتلا ، والقتل يشتمل على الموت المقابل للحياة ، فيكون مقابلا لها في الجملة.

(٢) أي عطف على إيجاز القصر ، وإيجاز الحذف هو الإيجاز الحاصل بسبب حذف شيء من الكلام ، فهو من إضافة المسبّب إلى السّبب.

(٣) المراد بجزء الجملة ما ليس مستقلا كالشّرط وجوابه ، وبالجملة ما كان مستقلا.

(٤) خبر مقدّم لكان ، وأشار الشّارح بذلك التّعميم إلى أنّ المصنّف أراد بجزء الجملة هنا ما يعمّ الجزء الّذي يتوقّف عليه أصل الإفادة وغيره ، فالعمدة كالمبتدأ والخبر والفاعل والفضلة كالمفعول ، والدّليل على أنّ المصنّف أراد بجزء الجملة ما ذكره بعد ذلك ، وبهذا اندفع ما اعترض به على المصنّف حيث أبدل المضاف من جزء الجملة ومثّل له بالآية مع أنّ المضاف المحذوف في الآية مفعول لا جزء الجملة ، لأنّ الجملة والكلام مترادفان ، فلا يكون جزء لها إلّا ما كان عمدة من مسند أو مسند إليه ، وما عداهما من المتعلّقات فخارجة عن حقيقتها ، فلا يرد عليه الاعتراض المذكور.

(٥) أي بدل كلّ من كلّ لا بدل بعض ، لعدم الضمير فيه الرّابط له بالكلّ المبدل منه ، وإنّما لم يجعله نعتا ، لأنّه وإن كان مشتقّا وكذا ما بعده ، أعني قوله : «أو موصوف» لكن عطف عليه ما لا يصحّ جعله نعتا ، وذلك قوله : صفة وشرط لعدم اشتقاقهما ، فجعل الكلّ بدلا ليصحّ الإعراب فيها جميعا.

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

٢٤٦

أي أهل (١) القرية [أو موصوف ، نحو : أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا] متى أضع العمامة تعرفوني (٢) الثّنية العقبة ، وفلان طلّاع الثّنايا ، أي ركّاب (٣) لصعاب الأمور وقوله : جلا ،

________________________________________

(١) هذا إيجاز حذف لمكان حذف المضاف ، وهو مفعول فضلة ولا ضير في عدّه جزء جملة لما ذكر من أنّ المراد بالجزء المعنى العامّ ، ثمّ إنّ هذا التّمثيل إنّما هو مبنيّ على أنّ القريّة لم يرد بها أهلها مجازا مرسلا بعلاقة الحاليّة والمحلّيّة ، وإلّا فلا حذف ولا يصحّ التّمثيل ، لكنّ الظّاهر عدم إرادة الأهل منها مجازا ، فإنّ هذا بعيد عن الأذهان غاية البعد.

(٢) وهذا البيت لسحيم بن وثيل الرّياحي من شعراء الجاهليّة ، وقيل لغيره ، «جلا» بالجيم ، يقال : فلان جلا الأمور ، أي كشفها ، «طلّاع» بالطّاء والعين المهملتين كشدّاد مبالغة من الطّلوع ، يقال : فلان طلع الجبّ ، أي علاه ، «الثّنايا» كسجايا جمع ثنيّة كسجيّة ، وهي بالمثلثة والنّون واليّاء ، العقبة وطريقة الجبل ، يقال : فلان طلّاع الثّنايا إذا كان ساميا لمعالي الأمور ، وراكبا لصعابها لقوّة رجوليّته ورفعة همّته ، بحيث لا يميل إلى أمور منخفضة ، لأنّ المعالي لا تكتسب إلّا من ارتكاب الصّعاب ، وحينئذ ففي قوله : «وطلّاع الثّنايا» تجوّز حيث شبّه صعاب الأمور بالثّنايا ، أي الأماكن المرتفعة كالجبال ، واستعار اسم المشبّه به للمشبّه على طريق الاستعارة المصرّحة ، وقوله : «طلّاع» ترشيح لكونه ملائما للمشبّه به ، «أضع» من الوضع ، «والعمامة» ككتابة معروفة ، أي متى أضع العمامة الّتي سترت بها وجهي من رأسي تعرفوني بأنّي من مشاهر الرّجال ومعارفهم ، وإني أهل العمامة والخصال المرضيّة ، ويحتمل أنّ المعنى متى أضع عمامة الحرب على رأسي ، وهي البيضة الحديد الّتي يلبسها المحارب على رأسه تعرفوني ، أي تعرفوا شجاعتي ، ولا تنكروا تقدّمي ، وغنايّ عنكم ، أو أنّ المعنى متى أضع العمامة الّتي فوق رأسي على الأرض تعرفوني شجاعا لأنّي عند وضعها أتشمّر للحرب ، وألبس البيضة ، وهي ما يستر الرّأس من الحديد فيظهر بذلك شجاعتي وقوّتي.

وكيف كان فالشّاهد في الشّطر الأوّل حيث إنّه إيجاز بسبب حذف الموصوف ، والتّقدير : أنا ابن رجل جلا ، وعليه ما على الأوّل ، فإنّ «رجل» ليس جزء جملة بل فضلة ، لأنّه مضاف إليه ابن.

(٣) صفة مبالغة من الرّكوب والمعنى كثير الرّكوب والتّفوق للأمور الصّعبة.

٢٤٧

جملة وقعت صفة لمحذوف (١) [أي] أنا ابن [رجل جلا] أي انكشف (٢) أمره أو كشف (٣) الأمور ، قيل : جلا ههنا (٤) علم ، وحذف التّنوين باعتبار أنّه منقول (٥) عن الجملة ، أعني الفعل مع الضّمير (٦) ، لا عن الفعل وحده (٧).

[أو صفة نحو : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(١) (٨) أي] كلّ سفينة [صحيحة أو نحوها] كسليمة أو غير معيبة [بدليل (٩) ما قبله] وهو (١٠) قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ

________________________________________

(١) وهو رجل.

(٢) أي ظهر واتّضح أمره ، بحيث لا يجهل ، وعلى هذا المعنى فيكون «جلا» فعلا لازما.

(٣) أي بيّنها ، وعلى هذا فيكون «جلا» متعدّيّا ، ومفعوله محذوف ، وأشار الشّارح بذلك إلى أنّ «جلا» يستعمل لازما ، فيفسّر بالمعنى الأوّل ومتعدّيّا فيفسّر بالمعنى الثّاني.

(٤) أي في البيت ، وعلى هذا القول لا شاهد في البيت لعدم الحذف فيه.

(٥) والعلم المنقول عن الجملة يحكى ، فلا يتغيّر كما في علم النّحو.

(٦) أي مع الضّمير المستتر في الفعل.

(٧) أي لأنّه لو كان منقولا عن الفعل وحده ، لم يمنع من التّنوين ، إذ ليس فيه وزن الفعل المانع من الصّرف ، ولا زيادة كزيادة الفعل ، والحاصل إنّ الفعل المنقول للعلميّة إن اعتبر معه ضمير فاعله ، وجعل الجملة علما ، فهو محكى ، وإن لم يعتبر معه الضّمير فحكمه حكم المفرد في الانصراف وعدمه ، فإن كان على وزن يخصّ الفعل أو في أوّله زيادة كزيادة الفعل فإنّه يمتنع من الصّرف ، وإن لم يكن كذلك ، فإنّه يصرف فيرفع بالضّمّة ، وينصب بالفتحة ، ويجرّ بالكسرة حال كونه منوّنا.

(٨) والشّاهد في قوله : (كُلَّ سَفِينَةٍ) حيث حذف فيه الصّفة ، والتّقدير كلّ سفينة غير معيّنة ، بقرينة ما قبله من قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها).

(٩) أي وإنّما قلنا : الوصف محذوف بدليل ما قبله.

(١٠) أي ما قبله قوله تعالى حكاية عن الخضر (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، فإنّه يدلّ على أنّ الملك كان إنّما يأخذ الصّحيحة دون المعيبة ، وإلّا لما كان في جعلها معيبة فائدة.

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٩.

٢٤٨

أَعِيبَها) لدلالته على أنّ الملك كان لا يأخذ المعيبة [أو شرط (١) كما مرّ] في آخر باب الإنشاء [أو جواب شرط (٢)]. وحذفه يكون [إمّا لمجرّد الاختصار (٣) نحو : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(١)] (٦) فهذا (٧) شرط حذف جوابه [أي أعرضوا بدليل

________________________________________

(١) أي أو جزء جملة شرط «كما مرّ» أي في آخر باب الإنشاء من أنّ الشّرط يقدّر في جواب الأمور الأربعة ، وهي التّمنّي والاستفهام والأمر والنّهي ، قال المصنّف : فيما تقدّم ، وهذه الأربعة يجوز تقدير الشّرط بعدها كقولك : ليت لي مالا أنفقه ، أي إن أرزقه أنفقه ، وأين بيتك أزرك ، أي إن تعرفنيه أزرك ، وأكرمني أكرمك ، أي إن تكرمني أكرمك ، ولا تشتم يكن خيرا لك ، أي إن لا تشتم يكن خيرا ، والشّاهد في الجميع هو تقدير الشّرط الّذي هو جزء جملة ، فيكون الإيجاز إيجاز الحذف.

(٢) أي جازم ، أو غير جازم ، بدليل ما يأتي من الأمثلة.

(٣) أي للاختصار المجرّد عن النّكتة المعنويّة يعني أنّ حذف الجواب قد يكون لنكتة لفظيّة ، وهي الاختصار من دون أن تكون فيه نكتة معنويّة ، وقد يكون لنكتتين كما يأتي ، وإنّما كان الاختصار نكتة موجبة للحذف فرارا من العبث لظهور المراد.

(٤) أي الكفّار إذا قيل لهم خيفوا ممّا قد يخصّ بعض النّاس من عذاب الدّنيا ، كما فعل بغيركم.

(٥) أي ما يكون بعد موتكم ، وبعد بعثكم من عذاب الآخرة.

(٦) أي ترحمون بإنجائكم من العذابين ، والشّاهد في كون الآية مشتملة على حذف الجواب لمجرّد الاختصار.

(٧) أي قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) شرط حذف جوابه وهو أعرضوا ، أو أبوا لوضوحه ، وبقرينة الآية الرّادفة.

لا يقال : إنّ حذف الجواب في مثله رعاية لأمر لفظيّ من غير أن يفتقر إليه في تأدية أصل المراد ، فلا يكون من إيجاز الحذف في شيء ، فما حكم به الماتن من أنّ الآية المذكورة من إيجاز الحذف غير صحيح.

لأنّا نقول : إنّ حذف جواب الشّرط في الآية المذكورة من إيجاز الحذف إذ لم يتقدّم ما يدلّ

__________________

(١) سورة يس : ٤٥ و ٤٦.

٢٤٩

ما بعده] وهو قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). [أو للدّلالة (١) على أنّه] أي جواب الشّرط [شيء لا يحيط به الوصف (٢)] أو لتذهب نفس السّامع كلّ مذهب ممكن مثالهما [(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(١) (٣)]

________________________________________

عليه ، بل ما دلّ عليه متأخّر ، فكأنّه لم يذكر ما يدلّ عليه ، فيكون حذف الجواب لمجرّد الاختصار ، ولا يصغى إلى ما ذكره ابن السّبكي بأنّه لا يصحّ التّمثيل لمجرّد الاختصار بالآية ، لأنّه يمكن أن يكون حذف الجواب فيها من القسم الثّاني بأن يكون حذفه للإشارة إلى أنّهم إذا قيل لهم ذلك فعلوا شيئا لا يحيط به الوصف ، وجه عدم الإصغاء أنّ هذه الآية الشّريفة لمكان ذكر ما يدلّ على الجواب المحذوف لا تكون صالحة لأن يكون حذف الجواب للنّكتتين المذكورتين ، بخلاف الآية الآتية ، فإنّها لمكان عدم اكتنافها بما يدلّ على جوابه جديرة بالنّكتتين المذكورتين.

(١) عطف على قوله : «لمجرّد الاختصار» أنّ يكون حذف جواب الشّرط للدّلالة ...

(٢) أي لا يحصره وصف واصف ، بل هو فوق كلّ ما يذكر فيه من الوصف ، وذلك عند قصد المبالغة لكونه أمرا موهوبا منه في مقام الوعيد ، أو مرغوبا فيه في مقام الوعد ، والقرائن تدلّ على هذا المعنى ، ويلزم من كونه بهذه الصّفة ذهاب نفس السّامع إن تصدّى لتقديره كلّ مذهب ، فما من شيء يقدّره فيه إلّا ويحتمل أن يكون هناك أعظم من ذلك ، وهذان المعنيان أعني كونه لا يحيط به الوصف وكون نفس السّامع تذهب فيه كلّ مذهب ممكن مفهومهما مختلف ومصداقهما متّحد قد يقصدهما البليغ معا ، وقد يخطر بباله أحدهما فقطّ ، ولتباينهما مفهوما عطف الثّاني على الأوّل ، بأو فقال : أو لتذهب نفس السّامع في تقديره كلّ مذهب فيحصل الغرض من كمال التّرغيب أو التّرهيب ، ولاتّفاقهما مصداقا مثّل لهما بمثال واحد.

(٣) فقوله : (وَلَوْ تَرى) شرط حذف جوابه إظهارا لكونه لا يحيط به الوصف ، أو لتذهب نفس السّامع كلّ مذهب ممكن ، وتقديره لرأيت أمرا فظيعا مثلا ، وهو يحتمل أن يكون مثالا لهما على البدليّة أو مثالا لاجتماعهما حيث تقصد إفادتهما معا.

والحاصل أنّه إذا سمع السّامع (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ذهبت نفسه وتعلّقت بكلّ طريق ممكن وجعلته جوابا كسقوط لحمهم أو حرقهم أو ضربهم.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٧.

٢٥٠

فحذف جواب الشّرط للدّلالة على أنّه لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السّامع كلّ مذهب ممكن [أو غير (١) ذلك] المذكور (٢) كالمسند إليه (٣) والمسند (٤) والمفعول (٥) كما مرّ في الأبواب السّابقة (٦) ، وكالمعطوف مع حرف العطف [نحو : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ)(١) (٧) أي ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده] يعني قوله تعالى : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) (٨).

[وإمّا جملة] عطف على إمّا جزء جملة.

فإن قلت : ماذا اراد بالجملة (٩) ههنا حيث لم يعدّ (١٠) الشّرط والجزاء جملة.

________________________________________

(١) بالرّفع على قوله : «جواب شرط» أو على قوله : «مضاف».

(٢) أي غير ذلك المذكور الّذي هو المضاف والصّفة والموصوف وغيرها.

(٣) أي كحذف المسند إليه نحو : قال لي كيف أنت ، قلت : عليل ، أي أنا عليل.

(٤) أي كحذف المسند نحو : هل ضربت زيدا أو عمرا ، قال المخاطب : زيدا.

(٥) كقولك للمخاطب : هل ضربت زيدا أو أكرمته ، فقال : ضربت.

(٦) أي باب المسند إليه والمسند وباب متعلّقات الفعل.

(٧) والشّاهد في الآية : حذف المعطوف وحرف العطف ، أعني ومن أنفق من بعده وأورث ذلك إيجازها.

(٨) بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ الإنفاق قبل فتح مكّة إذا انضمّ إليه الجهاد أكثر ثوابا عند الله من النّفقة والجهاد بعد ذلك ، وذلك لأنّ القتال قبل الفتح كان أشدّ والحاجة إلى النّفقة والجهاد كان أكثر ، ثمّ سوّى بين الجميع في أصل الوعد بالخبر ، حيث قال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).

(٩) أي ما هو مراد المصنّف من الجملة.

(١٠) أي لم يعدّ المصنّف الشّرط والجزاء جملة ، بل عدّ كلّ واحد منهما من أفراد جزء الجملة ، مع أنّ كلّ واحد منهما جملة.

__________________

(١) سورة الحديد : ١٠.

٢٥١

قلت : أراد (١) الكلام المستقلّ الّذي لا يكون جزء من كلام آخر [مسبّبة (٢) عن] سبب [مذكور ، نحو : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ)(١) (٤)] فهذا سبب مذكور حذف مسبّبه. [أي فعل (٥) ما فعل ، أو سبّب المذكور (٦) ، نحو : قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ)(٢) (٧) ،

________________________________________

(١) أي أراد المصنّف بالجملة الكلام المستقلّ بالإفادة الّذي لا يكون جزء من كلام آخر ، فالشّرط والجزاء من أجزاء الجملة مع تركّبهما من المبتدأ والخبر ، أو الفعل والفاعل ، لأنّ كلّ واحد منهما يكون جزء من كلام آخر.

(٢) بدل من جملة ، ولا يصحّ أن يكون صفة لها ، لأنّ الأصل فيها الاشتقاق ، وهي وإن كانت مشتقّة إلّا أنّ ما عطف عليها مثل قوله : «أو سبب جامد».

(٣) المراد بالحقّ الإسلام ، وبإحقاقه إثباته وإظهاره ، والمراد بالباطل الكفر ، وبإبطاله محوه وإعدامه ، أي ليثبت الإسلام ، ويظهره ويمحو الكفر ويعدمه.

(٤) الشّاهد في الآية :

كونها مشتملة على حذف جملة مستقلّة ، وهي مسبّبة عن سبب مذكور ، وهو قوله : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ) ، والقرينة على هذا الحذف هو اللّام في (لِيُحِقَ) فإنّه للتّعليل ، فيقتضي شيئا معلّلا ، وحيث إنّه ليس مذكورا ، فيقدّر أي فعل ما فعل ، والضّمير في الفعلين يعود إلى الله تعالى.

(٥) الضّمير في الفعلين يعود إلى الله تعالى ، وما كناية عن كسر قوّة أهل الكفر ، مع كثرتهم وغلبة المسلمين عليهم مع قلّتهم ، وحينئذ فمعنى مجموع الكلام كسر الله قوّة الكفّار وجعل لأهل الإسلام الغلبة عليهم لأجل إثبات الإسلام وإظهاره ومحو الكفر وإعدامه ، ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف من أنّ هذه الجملة سبب لمسبّب محذوف ، أحد احتمالين ، ثانيهما إنّ قوله : (لِيُحِقَ) متعلّق ب (وَيَقْطَعَ) قبله من قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) ، وعلى هذا لا تكون الآية ممّا نحن فيه.

(٦) أي لمسبّب مذكور.

(٧) تمام الآية :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) الآية.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨.

(٢) سورة البقرة : ٦٠.

٢٥٢

[(فَانْفَجَرَتْ) ، إن قدّر (١) فضربه بها] فيكون قوله : فضربه بها جملة محذوفة (٢) ، هي سبب (٣) لقوله : (فَانْفَجَرَتْ) [ويجوز أن يقدّر (٤) ، فإن ضربت بها فقد (٥) انفجرت] فيكون المحذوف جزء (٦) جملة هو الشّرط (٧) ، ومثل هذه الفاء (٨) تسمّى فاء فصيحة.

________________________________________

والشّاهد في قوله تعالى : كونه من باب إيجاز الحذف ، حيث حذفت فيه الجملة المستقلّة السّببيّة ، وهي قوله : «فضربه بها» أي فضرب موسى الحجر بالعصا.

(١) هذا شرط لكون الآية من قبيل كون الجملة المحذوفة فيها سببا لمسبّب مذكور ، ثمّ إنّ ظاهر كلام الشّارح إنّ الفاء في قوله : «فضربه فيها» أيضا مقدّرة وأنّ الحذف للعاطف والمعطوف جميعا.

(٢) أشار بحذفها إلى سرعة الامتثال حتّى أنّ الأثر وهو الانفجار لم يتأخّر عن الأمر.

(٣) أي مضمونها سبب لمضمون قوله : (فَانْفَجَرَتْ).

(٤) هذا مقابل لقوله : «إن قدّر فضربه بها».

(٥) تقدير قد ، لأجل الفاء الدّاخلة على الماضيّ ، إذ الماضيّ إذا وقع جوابا للشّرط يمتنع فيه الفاء من دون قد ، أي لا يقترن بالفاء إلّا مع قد.

(٦) فلا تكون الآية عندئذ ممّا نحن فيه.

(٧) أي المراد بالشّرط هو فعل الشّرط وأداته ، وظاهرن أنّ المذكور على هذا الاحتمال ، وهو قوله : (فَانْفَجَرَتْ) جواب الشّرط ، ويرد عليه أنّ كون الجواب ماضيا ينافي استقبال الشّرط ، إذ مقتضى كون الجواب معلّقا على الشّرط أن يكون مستقبلا بالنّسبة له ، وكونه ماضيا يقتضي وقوعه قبله ، لا سيّما مع اقترانه بقد ، ويجاب عنه بأنّ الماضيّ يؤول مضمونه بمعنى المضارع ، أي إن ضربت يحصل الانفجار.

(٨) أي هذه الفاء وما ماثلها من كلّ فاء اقتضت التّرتيب على محذوف «تسمّى فاء فصيحة» سميّت بذلك لإفصاحها عن الجملة المقدّرة قبلها ، ودلالتها عليها ، فأريد بالفصاحة معناها اللّغويّ ، أي الإبانة والظّهور ، وهذا يقتضي أنّها تسمّى بذلك على كلّ من التّقديرين ، أي تقدير كونها عاطفة ، وكونها رابطة للجواب ، وذكر بعضهم أنّها سمّيت بذلك ، لأنّها لا تدلّ على المحذوف قبلها إلّا عند الفصيح ، أو لأنّها لا ترد إلّا من الفصيح لعدم معرفة غيره بمواردها.

٢٥٣

قيل : على التّقدير الأوّل (١) ، وقيل : على التّقدير الثّاني (٢) ، وقيل : على التّقديرين (٣). [أو غيرهما (٤)] أي غير المسبّب والسّبب [نحو : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ)(١) (٥) على ما مرّ] في بحث الاستئناف (٦) من أنّه على حذف المبتدأ والخبر على قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف (٧).

________________________________________

(١) أي فهي المفصحة عن مقدّر بشرط كونه سببا في مدخولها ، وهو ظاهر كلام المفتاح.

(٢) وعليه فيقال في تعريفها : هي المفصحة عن شرط مقدّر وهو ظاهر كلام الكشّاف.

(٣) وعلى هذا فتعرّف بأنّها ما أفصحت عن محذوف سواء كان سببا أو غيره ، وهذا القول هو الّذي رجّحه السّيّد في شرح المفتاح ، وجعل كلام الكشّاف ، وكلام المفتاح راجعا إليه.

(٤) عطف على مسبّبة ، أي إمّا أن تكون الجملة المحذوفة مسبّبة أو سببا ، أو تكون غير المسبّب والسّبب.

(٥) والشّاهد في الآية أنّه حذفت فيها جملة ليست مسبّبة ولا سببا ، والتّقدير هم نحن ، أي فنعم الماهدون ، هم نحن على حذف المبتدأ والخبر.

(٦) أي من باب الفصل والوصل ، حيث قال : وقد يحذف صدر الاستئناف فعلا كان أو اسما ، وعليه نعم الرّجل زيد ، أو نعم رجلا زيد ، على قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف ، أي هو زيد ، ويجعل الجملة ، أي جملة هو زيد استئنافا جوابا للسّؤال عن تفسير الفاعل المبهم ، حيث قال بعد نعم الرّجل من هو ، فيجاب هو زيد ، وقد يحذف الاستئناف كلّه إمّا مع قيام شيء مقامه ، أو بدون ذلك ، نحو : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي هم نحن على قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف ، وفي هذه الآية المبتدأ محذوف ، كما هو المفروض والخبر ، وهو نحن أيضا محذوف ، وجملة هم نحن ليست سببا لنعم الماهدون ولا مسبّبة عنه.

(٧) وكذا على قول من يجعل المخصوص مبتدأ حذف خبره ، فيكون التّقدير على القولين ، هم نحن أو نحن هم ، وأمّا على قول من يجعله مبتدأ ، والجملة قبله خبره ، فيكون المحذوف حينئذ جزء جملة ، فيخرج عمّا نحن فيه.

__________________

(١) سورة الذّاريات : ٤٨.

٢٥٤

[وإمّا أكثر (١)] عطف على إمّا جملة ، أي أكثر [من جملة] واحدة [نحو : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ)(١) (٢) ، أي] فارسلون [إلى يوسف لاستعبره الرّؤيا ، ففعلوا فأتاه ، فقال له يا يوسف (٣)]. [والحذف على وجهين : أن لا يقام شيء مقام المحذوف (٤)] بل يكتفى بالقرينة (٥) [كما مرّ] في الأمثلة السّابقة (٦) وأن يقام (٧) ، نحو : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(٢) (٨)] فقوله : فقد كذّبت ، ليس جزاء الشّرط ، لأنّ تكذيب الرّسل

________________________________________

(١) أي المحذوف إمّا أكثر من جملة واحدة.

(٢) والشّاهد في الآية : إنّ المحذوف فيها أكثر من جملة واحدة ، بل جمل خمسة مع ما لها من المتعلّقات ، لا يستقيم المعنى إلّا بها أشار المصنّف إلى تقديرها بقوله : «أي إلى يوسف ...» ، فالجملة الأولى هي قوله : «لاستعبره الرّؤيا» أي لأطلب منه تعبيرها وتفسيرها ، والثّانية هي قوله : «ففعلوا» ، والثّالثة هي قوله : «فأتاه» ، والرّابعة هي قوله : «فقال له» ، والخامسة هي قوله : «يا يوسف» ، فإنّ الياء نائبة عن جملة أدعو ، وأمّا قوله : «إلى يوسف» فهو متعلّق الجملة المذكورة أعني أرسلون ، وقوله : «يوسف» الّذي هو المنادى هو المذكور.

(٣) (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) الآية.

(٤) أي بأن لا يوجد شيء يدلّ عليه ، ويستلزمه في مكانه كعلّته المقتضيّة له.

(٥) أي بل يكتفي في فه المحذوف بالقرينة سواء كانت لفظيّة أو حاليّة.

(٦) أي الأمثلة التي تقدّمت لحذف الجملة مثل قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) ، إذ لم يعطف عليه شيء يدلّ على المعطوف المحذوف الّذي هو : ومن أنفق من بعده ، وكذا أنا ابن جلا إذ لم يذكر موصوف ينزّل منزلة الموصوف المحذوف.

(٧) أي أن يقام المحذوف ممّا يدلّ عليه كالعلّة والسّبب ، وليس المراد شيئا أجنبيّا لا يدلّ عليه ، ولا يقتضيه ، لأنّ هذا لا يقام مقام المحذوف.

(٨) والشّاهد في الآية :

قيام شيء مقام المحذوف ، لأنّ نفس تكذيب الرّسل لا يجوز أن يكون مترتّبا على تكذيب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ تكذيبهم سابق على تكذيبه ، مع أنّ الجزاء والجواب يجب أن يكون مضمونه مترتّبا على مضمون الشّرط ، فتكذيب الرّسل قبله سبب لمضمون الجواب المحذوف ، وهو

__________________

(١) سورة يوسف : ٤٥ و ٤٦.

(٢) سورة فاطر : ٤.

٢٥٥

متقدّم على تكذيبه ، بل هو سبب لمضمون الجواب المحذوف أقيم (١) مقامه [أي فلا تحزن واصبر] ثمّ الحذف (٢) لا بدّ له من دليل [وأدلّته (٣) كثيرة : منها (٤) أن يدلّ العقل عليه] أي على الحذف ، [والمقصود الأظهر (٥) على تعيين المحذوف ،

________________________________________

عدم الحزن والصّبر ، فيقدّر الجواب ، والتّقدير وإن يكذّبوك فلا تحزن واصبر ، لأنّه قد كذّبت رسل من قبلك ، وأنت مساو لهم في الرّسالة ، فلك بهم أسوة.

(١) أقيم مقامه صفة لسبب ، أي أقيم ذلك السّبب مقام الجواب ، وهو المسبّب.

(٢) المراد من الحذف هو القسم الأوّل ، أي الّذي لم يقم فيه شيء مقام المحذوف ، وقد يقال :

إنّ النّحاة قد قسّموا الحذف إلى حذف اقتصار وحذف اختصار ، وفسّروا الحذف اقتصارا بأن يحذف لا لدليل ، فقد أثبتوا حذفا لا لدليل ، وحينئذ فلا معنى لقول الشّارح : «ثمّ الحذف لا بدّ له من دليل».

وأجيب عن ذلك بأنّ ما ذكره النّحاة مساهلة ، بل عبارة النّحاة المذكورة عبارة مختلّة أو اصطلاح لا مشاحّة فيه ، والحقّ أنّه لا حذف فيه ، بل صار الفعل قاصرا ، وإنّما يسمّونه حذفا نظرا إلى الفعل قبل جعله قاصرا.

(٣) أي أدلّة الحذف كثيرة.

لا يقال : بأنّ كثرة الدّليل إنّما هي بالقياس إلى تعيين المحذوف لا بالنّسبة إلى أصل الحذف ، فإنّ الدّليل عليه هو العقل فقطّ ، وكلامنا في دليل الحذف ، وهو واحد ، فإذا لا وجه لحديث الكثرة.

لأنّا نقول :

بأنّ كلّ ما دلّ على تعيين المحذوف يدلّ على أصل الحذف أيضا ، وحيث إنّ الأمر كذلك ، صحّ التّعبير بالكثرة ، نعم ، لو كان ما يدلّ على التّعيين غير دالّ على أصل الحذف لما كان لحديث الكثرة مجال إلّا أنّ الأمر ليس كذلك.

(٤) أي ومن الأدلّة ، وإنّما أتى بمن ليكون إشارة إلى أنّ هناك أدلّة أخرى لم يذكرها ، كالقرائن اللّفظيّة ، وهي الأغلب وقوعا ، والأكثر وضوحا.

(٥) أي بأن يدلّ العقل على كون الشّيء مقصودا بحسب العرف في الاستعمال ظاهرا عن غيره من المرادات لتبادره في الذّهن.

٢٥٦

نحو : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(١) (١)] فالعقل (٢) دلّ على أنّ هنا حذفا (٣) ، إذ الأحكام الشّرعيّة إنّما تتعلّق بالأفعال (٤) دون الأعيان (٥) ، والمقصود الأظهر من هذه الأشياء المذكورة في الآية (٦) تناولها (٧) الشّامل للأكل وشرب الألبان ، فدلّ على تعيين المحذوف.

________________________________________

(١) والشّاهد في الآية :

كونها من قبيل إيجاز الحذف لمكان حذف المضاف وهو تناول ، وكان في الأصل : حرّمت عليكم تناول الميتة ، والدّليل على أصل الحذف هو العقل ، لأنّه يدرك بأنّ الحرمة لا تتعلّق بالأعيان ، لأنّ الحرمة عبارة عن طلب التّرك مع المنع من الفعل ، ولا معنى لطلب ترك الأعيان بدون ملاحظة تصرّفها ، والدّليل على التّعيين كون التّناول هو المقصود الأظهر ، فإنّ المتبادر عرفا من حرّمت الميتة هو التّناول ، والأكل ، كما أنّ المتبادر من حرّمت الخمر ، الشّرب ، ومن حرّمت الأمّهات النّكاح ، وبهذا التّقرير علم أنّ العقل ليس بنفس الدّليل ، بل إنّما هو مدرك لما يكون دليلا على الحذف ، وهو في المقام عدم تصوّر تعلّق الحرمة بالأعيان ، فإنّ الأحكام الشّرعيّة متعلّقة بأفعال المكلّفين لا بالأعيان الخارجيّة.

(٢) ظاهر هذا الكلام أنّ العقل هو الدّالّ على الحذف ، وليس كذلك ، بل المراد بكون العقل دالّا على الحذف ، أنّه مدرك لذلك بالدّليل القاطع ، والدّليل هو عدم تصوّر تعلّق الحرمة بالأعيان كما سبق.

(٣) أي شيئا محذوفا ، وهو محتمل لأن يقدّر حرّم عليكم أكلها ، أو الانتفاع بها ، أو تناولها أو التّلبّس بها.

(٤) أي أفعال المكلّفين وهو الحقّ ، إذ لا معنى لتعلّق التّكليف بالذّواتّ لعدم القدرة عليها.

(٥) أي دون الذّواتّ كما هو ظاهر الآية ، فإنّ مدلولها تحريم ذوات الميتة.

(٦) وهي الميتة والدّم ولحم الخنزير.

(٧) أي تناول الأشياء المذكورة في الآية إنّما كان التّناول هو المقصود الأظهر من هذه الأشياء نظرا للعرف والعادة في استعمال هذا الكلام ، فإنّ المفهوم عرفا من قول القائل : حرّم عليهم كذا ، تحريم تناوله ، لأنّه أشمل وأدلّ على المقصود بالتّحريم.

__________________

(١) سورة المائدة : ٤.

٢٥٧

وفي قوله ، منها : أن يدلّ أدنى (١) تسامح ، فكأنّه على حذف مضاف ، [ومنها (٢) : أن يدلّ العقل عليهما] أي على الحذف وتعيين المحذوف [نحو : (وَجاءَ رَبُّكَ)(١) (٣)] فالعقل يدلّ على امتناع مجيء الرّبّ تعالى وتقدّس (٤) ، ويدلّ على تعيين المراد أيضا (٥) [أي أمره أو عذابه] فالأمر المعيّن الّذي دلّ عليه العقل هو أحد الأمرين لا أحدهما (٦) على التّعيين.

________________________________________

(١) أي تسامح أدنى ، أي منحطّ ، وذلك لأنّ «أن يدلّ» بمعنى الدّلالة ، حيث إنّ الفعل المنصوب بأن مؤوّل بالمصدر ، أعني الدّلالة ، وهي ليست من الأدلّة ، «فكأنّه على تقدير مضاف» هذا تصحيح لعبارة المصنّف ، وتقدير المضاف في قوله : «وأدلّته كثيرة» فالتّقدير ودلالة أدلّته كثيرة.

(٢) أي من دلالة الأدلّة ، أن يدلّ العقل على الحذف وتعيين المحذوف بأن يكون مستقلّا بإدراك الأمرين بالدّليل القاطع من غير توقّف على قرائن في العبارة أصلا ، وإلّا لكان الدّالّ هو الّذي يكون الكلام مكتنفا به من القرينة.

(٣) والشّاهد في الآية : كونها من إيجاز حذف لمكان حذف المضاف فيها ، ويدلّ على أصل الحذف ، وعلى تعيين المحذوف العقل ، وهو أمره أو عذابه.

(٤) لأنّ المجيء يستلزم الانتقال من مكان إلى مكان ، وهذا مستلزم لكون الجائي جسما ، والله سبحانه ليس بجسم ، فيمتنع مجيئه.

(٥) أي كدلالته على امتناع مجيء الرّبّ.

(٦) جواب عن سؤال مقدّر ، توضيح السّؤال أنّ أو في قوله : «أو عذابه» للإبهام والتّرديد ، فالمعنى حينئذ إنّ المحذوف إمّا أمر الله أو عذابه ، فلا تعيين للمحذوف ، فكيف يصحّ القول بأنّ العقل يدلّ على التّعيين.

وحاصل الجواب : إنّ العقل يعيّن الأحد الدّائر بينهما ، والأحد الدّائر بين الأمرين معيّن نظرا إلى عدم ثالث لهما ، وإن كان مبهما بالنّسبة لهما ، فالتّعيين في الآية تعيين نوعي ، وليس تعيينا شخصيّا ، ومراد المصنّف من التّعيين هو الأعمّ من الشّخصيّ والنّوعي.

وبعبارة أخرى :

إنّ ذكر كلمة أو للإشارة إلى أنّ المعيّن أحد الأمرين لا ثالث في البين ، وليس ذكرها

__________________

(١) سورة الفجر : ٢٢.

٢٥٨

[ومنها أن يدلّ العقل عليه والعادة على التّعيين نحو : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)(١) (١)] فإنّ العقل دلّ على أنّ فيه (٢) حذفا ، إذ لا معنى للوم الإنسان على ذات الشّخص (٣). وأمّا تعيين المحذوف [فإنّه يحتمل] أن يقدّر (٤) [في حبّه لقوله تعالى : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) (٥) ، وفي مراودته (٦) لقوله تعالى : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) وفي شأنه (٧)

________________________________________

للدّلالة على أنّ المقدّر هو المعيّن المشخّص ، أي إمّا الأمر وإمّا العذاب حتّى يكون المراد التّعيين الشّخصيّ ، وكان هذا التّرديد مناقضا له.

(١) تمام الآية :

(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) ،

والشّاهد في الآية :

إنّها مشتملة على حذف المضاف يدلّ عليه العقل ، وتدلّ العادة على تعيين المحذوف وهو المراودة.

(٢) أي في قوله تعالى ، مضافا محذوفا.

(٣) أي لأنّ اللّوم لا يتعلّق عرفا بالذّواتّ ، لأنّ ما يتعلّق به اللّوم لا بدّ أن يكون مقدورا ، فإنّ الذّمّ واللّوم على أمر غير مقدور قبيح عقلا ، بل إنّما يلام الإنسان عرفا على أفعاله الاختياريّة.

(٤) وحاصل الكلام في المقام :

إنّ العقل وإن أدرك أنّ قبل الضّمير في «فيه» حذفا ، لكن لا يدرك عين ذلك المحذوف ، لأنّ ذلك المقدّر يحتمل احتمالات ثلاثة ، والمعيّن لأحدها هو العادة.

(٥) حبّا تمييز محوّل عن الفاعل ، أي قد شغفها حبّه ، أي أصاب حبّه شغاف قلبها ، وشغاف القلب غلافه وغشاؤه ، أعني الجلدة الّتي دونه كالحجاب ، وإصابة الحبّ لشغاف قلبها كناية عن إحاطة حبّها له بقلبها.

(٦) أي يحتمل أن يقدّر المحذوف فيه في مراودته لقوله تعالى حكاية عن اللّوائم : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي تخادعه وتطالبه مرّة بعد أخرى برفق وسهولة لتنال شهوتها منه.

(٧) أي يحتمل أن يقدّر المحذوف فيه في شأنه ، وهذا هو الاحتمال الثّالث والأخير.

__________________

(١) سورة يوسف : ٣٢.

٢٥٩

حتّى يشملهما (١)] أي الحبّ والمراودة. [والعادة (٢) دلّت على الثّاني] أي مراودته [لأنّ الحبّ المفرط (٣) لا يلام صاحبه عليه في العادة (٤) لقهره] أي الحبّ المفرط [إيّاه] أي صاحبه (٥) ، فلا يجوز أن يقدّر في حبّه (٦) ولا في شأنه (٧) لكونه شاملا له ، ويتعيّن أن يقدّر في مراودته ، نظرا إلى العادة (٨) ، [ومنها الشّروع في الفعل] يعني من أدلّة تعيين المحذوف (٩)

________________________________________

(١) أي لأجل أن يشمل الأوّل والثّاني ، وإنّما كان المقدّر في الكلام أحد هذه الاحتمالات الثّلاثة ، لأنّ اللّوم كما تقدّم لا يتعلّق إلّا بفعل الإنسان ، والكلام الّذي وقع به اللّوم ، وهو قولهنّ امرأة العزيز : (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مشتمل على فعلين من أفعال اللّوم أحدهما مراودته ، والآخر حبّها ، فيحتمل أن يكون المقدّر في حبّه ، ويحتمل أن يقدّر في مراودته ، ويحتمل أن يقدّر في شأنه الشّامل لكلّ من الحبّ والمراودة.

(٢) أي العادة المتقرّرة عند المحبّين دلّت على الثّاني ، أي مراودته.

(٣) أي الشّديد الغالب.

(٤) أي في عرف المحبّين ، وفي عادتهم المتقرّرة عندهم ، وإنّما يلام عليه عند غيرهم غفلة عن كونه ليس بنقص ، فإن لام عليه أهل الحبّ ، فلأجل لوازمه ، وأمّا من كفّ عن لوازمه الرّديئة فلا لوم عليه.

(٥) ومن الضّروري أنّ الأمر المقهور المغلوب عليه لا يلام عليه الإنسان ، وإنّما يلام على ما دخل تحت كسبه ، واختياره كالمراودة.

(٦) لأنّ النّسوة لم تلمها في الحبّ لكونه قهريّا ، وإنّما لامتها على المراودة.

(٧) قيل : إنّ عدم الجواز في تقدير الحبّ ظاهر ، وأمّا عدم الجواز في تقدير الشّأن فغير ظاهر ، لصحّة تقديره باعتبار الشقّ الصّحيح ، ممّا يشتمل عليه وهو المراودة. فقول الشّارح ، أي ولا في شأنه أتى به إصلاحا لقول المصنّف ، فإنّه كان ينبغي أن يتعرّض له في المتن لمنع إرادة ذلك ، لأنّه لا يظهر تعيّن تقدير المراودة الّذي هو الاحتمال الثّاني إلّا بنفي تقدير الشّأن الّذي هو الاحتمال الثّالث.

(٨) حيث إنّها استقرّت على عدم اللّوم على الحبّ لكونه غير اختياريّ عادة.

(٩) أي بعد دلالة العقل على أصل الحذف يكون من أدلّة تعيين المحذوف الشّروع في الفعل.

٢٦٠