دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

ولمّا كان له (١) صورة أخرى لا يلي فيها الفعل الهمزة أشار إليها بقوله : [ولإنكار الفعل صورة أخرى ، وهي نحو : أزيدا ضربت أم عمرا لمن يردّد الضّرب بينهما] من غير أن يعتقد تعلّقه بغيرهما (٢) ، فإذا أنكرت تعلّقه (٣) بهما فقد نفيته عن أصله ، لأنّه لا بدّ له (٤) من محلّ يتعلّق به [والإنكار (٥) إمّا للتّوبيخ ، أي ما كان ينبغي أن يكون] ذلك الأمر

________________________________________

(١) أي لإنكار الفعل صورة أخرى ، وضابطها أن يلي الهمزة معمول الفعل المنكر ، ثمّ يعطف على ذلك المعمول بأم أو بغيرها ، وسواء كان معمول الفعل الوالي للهمزة مفعولا كما في مثال المصنّف ، أو كان فاعلا نحو : أزيد ضربك أم عمرو؟ لمن يردّد الضّرب بينهما ، وهو مبنيّ على مذهب من يجيز تقديم الفاعل على عامله ، أو كان ظرفا زمانيّا أو مكانيّا نحو : أفي اللّيل كان هذا أم في النّهار؟ لمن يردّد الكون فيهما ، أو في السّوق كان هذا أم في المسجد؟

لمن يردّد الكون فيهما إلى غير ذلك من المعمولات ، قوله : «بينهما» أي بين زيد وعمرو.

(٢) الأولى أن يقول : بأن يعتقد عدم تعلّقه بغيرهما ، لأنّ هذا هو مراد المتن ، وإلّا فما ذكره الشّارح لا يصحّ ، لأنّه يصدق بما إذا كان المخاطب خاليّ الذّهن عن تعلّقه بثالث في نفس الأمر ، بخلاف ما إذا اعتقد عدم نعلّقه بغيرهما ، فإنّ النّفي حينئذ يكون للفعل من أصله.

والحاصل : إنّ المراد بترديده الضّرب بينهما أن يعتقد الحاضر تعلّقه في نفس الأمر بأحدهما من غير تعيين له ، وقوله : «من غير أن يعتقد ...» بيان لترديد المخاطب بينهما.

(٣) أي تعلّق الضّرب بزيد وعمرو ، وفيه إشارة إلى أنّ المنكر ابتداء هو المفعولان من حيث كونهما متعلّق الفعل ، فإنّ إنكارهما من هذه الحيثيّة يستلزم إنكار الفعل ، لأنّهما محله ، ونفي المحلّ يستلزم نفي الحالّ ، فإنكارهما من هذه الحيثيّة للتّوصّل للمقصود بالذّاتّ وهو إنكار الفعل.

(٤) أي للفعل من محلّ يتعلّق به ، فإذا انتفى المحلّ انتفى الفعل عن أصله ، فيحصل إنكار الفعل.

(٥) أي الاستفهام الإنكاريّ ، وهو من أنكر عليه إذا نهاه.

٢١

الّذي كان [نحو : أعصيت ربّك (١)] فإنّ العصيان واقع (٢) لكنّه منكر ، وما يقال : إنّه (٣) للتّقرير ، فمعناه التّحقيق والتّثبيت [أو لا ينبغي أن يكون] أي أن يحدث ويتحقّق مضمون ما دخلت عليه الهمزة ، وذلك في المستقبل [نحو : أتعصي ربّك (٤)] يعني لا ينبغي أن يتحقّق العصيان [أو للتّكذيب (٥)] في الماضيّ (٦) [أي لم يكن نحو : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ)(١) (٧)] أي لم يفعل ذلك [أو] في المستقبل أي [لا يكون

________________________________________

(١) أي نحو قولك لمن صدر منه عصيان : أعصيت ربّك ، أي لم عصيت ربّك ، أي ما كان ينبغي لك أن تعصيه ، فكان التّوبيخ على أمر واقع في الماضيّ.

فالحاصل : إنّ التّوبيخ ، أي التّعيير والتّقريع إمّا على أمر قد وقع في الماضيّ ، أو على أمر خيف وقوعه في المستقبل بأن كان المخاطب بصدد أن يوقعه ، ففي القسم الأوّل يفسّر التّوبيخ بقوله : «أي ما كان ينبغي أن يكون» وفي القسم الثّاني يفسّر بقوله : «أي لا ينبغي أن يكون».

(٢) أي فلا يكون الإنكار فيه للتّكذيب لوقوع المنكر وهو العصيان.

(٣) أي الإنكار في أعصيت ربّك ، للتّقرير ، فمعناه التّحقيق والتّثبيت ، أي تحقيق ما يعرفه المخاطب من الحكم في هذه الجملة لما سبق من أنّ التّقرير يقال بهذا المعنى.

(٤) أي نحو قولك لمن همّ بالعصيان ولم يقع منه : أتعصي ربّك ، أي إنّ هذا العصيان الّذي أنت بصدد عمله لا ينبغي أن يصدر منك في الاستقبال ، وهذا التّوبيخ لا يقتضي وقوع الموبّخ عليه بالفعل ، كما هو ظاهر ، وإنّما يقتضي كون المخاطب بصدد الفعل.

(٥) عطف على قوله : «للتّوبيخ» ، ويسمّى الإنكار التّكذيبي بالإنكار الإبطاليّ أيضا.

(٦) أي إنّ المخاطب إذا ادّعى وقوع شيء فيما مضى ، أتى المتكلّم بالاستفهام الإنكاريّ تكذيبا له في مدّعاه.

(٧) أي خصّكم بالبنين ، أي لم يصفكم ربّكم بالبنين ، وهذا خطاب لمن اعتقد أنّ الملائكة بنات الله ، وأنّ المولى خصّنا بالذّكور ، وخصّ نفسه بالبنات ، أي لم يكن الله خصّكم بالأفضل الّذي هو الأولاد الذّكور ، واتّخذ لنفسه أولادا دونهم ، وهم البنات ، بل أنتم كاذبون في هذه الدّعوى ، لتعاليه سبحانه عن الولد مطلقا ، فليس المراد توبيخهم ، بل تكذيبهم فيما قالوا ، لأنّ التّوبيخ بصيغة الماضي على فعل حصل من المخاطب.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٤٠.

٢٢

نحو : (أَنُلْزِمُكُمُوها)(١) (١)] أي أنلزمكم تلك الهداية (٢) أو الحجّة (٣) ، بمعنى أنكرهكم على قبولها ، ونقسّركم (٤) على الاهتداء ، والحال إنّكم لها (٥) كارهون ، يعني لا يكون منّا هذا الإلزام (٦) [والتّهكّم (٧)] عطف على الاستبطاء أو على الإنكار ، وذلك

________________________________________

(١) الشّاهد في هذه الآية : مجيء الهمزة في قوله : (أَنُلْزِمُكُمُوها) للاستفهام التّكذيبي في المستقبل.

(٢) تفسير للضّمير المنصوب ، وهو الهاء والهداية في الأصل الدّلالة الموصلة للمطلوب ، أريد بها هنا ما يترتّب عليها من اتّباع الشّرع الّذي قامت به الأدلّة والعمل على طبقه.

(٣) أي الحجّة الّتي قامت على العمل بالشّرع والإكراه عليها من حيث إلزام قبولها ، فيترتّب على ذلك العمل بالشّرع ، أي لا نكرهكم على قبول تلك الحجّة.

(٤) أي نقهركم ونكرهكم على الإسلام ، أو على الاهتداء ، فالقسر مرادف للإكراه أتى به لأجل التّفنّن في التّعبير.

(٥) أي للهداية كارهون ، و (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

(٦) أي لا يكون منّي إلزام الأمّة الهداية ، ولا قبول الحجّة الدّالّة على العمل بالشّرع ، لأنّ هذا لا يكون إلّا من الله ، فالّذي عليّ البلاغ لا الإكراه ، وهذا الكلام من نوح لقومه الّذين اعتقدوا أنّه يقهر أمّته على الإسلام.

(٧) أي الاستهزاء والسّخريّة ، فهو إمّا معطوف على الاستبطاء ، بناء على أنّ المعطوفات إذا تعدّدت إنّما تعطف على ما عطف عليه أوّلها ، وإمّا عطف على الإنكار ، بناء على أنّ كلّ واحد منها يعطف على ما يليه.

ومحلّ الخلاف ما لم يكن العطف بحرف مرتّب كالفاء وثمّ وحتّى ، وإلّا كان كلّ واحد معطوفا على ما قبله اتّفاقا ، ثمّ ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا كان المعطوف عليه أوّلا ضميرا مجرورا ، فعلى القول بأنّ الجميع معطوف على الأوّل لا بدّ من إعادة الخافض مع الجميع ، عند غير ابن مالك ، وعلى القول بأنّ كلّ واحد معطوف على ما قبله ، فلا يحتاج لإعادته ، إلّا مع الأوّل كما في مررت بك وبزيد وعمرو.

__________________

(١) سورة هود : ٢٨.

٢٣

أنّهم اختلفوا في أنّه إذا ذكر معطوفات كثيرة إنّ الجميع معطوف على الأوّل أو كلّ واحد عطف على ما قبله [نحو : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا)(١) (١)] وذلك أنّ شعيبا عليه‌السلام كان كثير الصّلاة ، وكان قومه إذا رأوه يصلّي تضاحكوا ، فقصدوا بقولهم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) الهزء والسّخريّة لا حقيقة الاستفهام [والتّحقير (٢) نحو : من هذا] استحقارا بشأنه مع أنّك تعرفه

________________________________________

(١) الخطاب إلى شعيب على نبيّنا وعليه‌السلام.

قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ) حكاية عن الكافرين.

فكأنّهم لعنهم الله كانوا يقولون استهزاء وسخرية لشعيب : يا شعيب لا خصوصيّة لك توجب اختصاصك بأن تكون آمرا وناهيا لنا إلّا صلاتك الّتي تلازمها ، ولكن ليست هي بشيء ، كما لست بشيء ، فنسبوا الأمر إلى الصّلاة مجازا عقليّا ، واستعملوا همزة الاستفهام في التّهكّم ، وفي الآية مجاز عقليّ ومجاز لغويّ.

والأوّل باعتبار الإسناد إلى السّبب في الجملة.

والثّاني باعتبار أداة الاستفهام ، وذلك إنّ الاستفهام عن الشّيء يقتضي الجهل به ، والجهل به يقتضي الجهل بفائدته ، والجهل بها يقتضي الاستخفاف به ، وهو ينشأ عنه الهزؤ ، فهو مجاز مرسل علاقته اللّزوم ، فالمراد هو الاستهزاء والسّخريّة لا حقيقة الاستفهام أعني السّؤال عن كون الصّلاة آمرة بما ذكر.

(٢) أي استعمال الاستفهام مجازا بعلاقة اللّزوم ، لأنّ الاستفهام عن الشّيء يقتضي الجهل به ، وهو يقتضي عدم الاعتناء به لأنّ الشّيء المجهول غير ملتفت إليه ، وعدم الاعتناء بالشّيء يقتضي استحقاره ، فاستعمال الاستفهام في التّحقير مجاز مرسل.

__________________

(١) سورة هود : ٨٧.

٢٤

[والتّهويل (١) كقراءة ابن عبّاس : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ) ، بلفظ (٢) الاستفهام] أي من بفتح الميم [ورفع فرعون] على أنّه مبتدأ ومن الاستفهاميّة خبره ، أو بالعكس على اختلاف الرّأيين (٣) ، فإنّه لا معنى لحقيقة الاستفهام ههنا ، وهو ظاهر (٤) ، بل المراد أنّه (٥) لمّا وصف الله العذاب بالشّدّة والفظاعة ، زادهم (٦) تهويلا بقوله : (مِنْ فِرْعَوْنَ) ، أي هل تعرفون (٧) من هو في فرط عتوّه

________________________________________

(١) أي التّفظيع والتّفخيم لشأن المستفهم عنه لينشأ عنه غرض من الأغراض ، وهو في الآية تأكيد شدّة العذاب الّذي نجا منه بنو إسرائيل ، واستعمال أداة الاستفهام في التّهويل مجاز مرسل ، علاقته المسبّبيّة لأنّه أطلق اسم المسبّب ، وأريد السّبب ، لأنّ الاستفهام عن الشّيء مسبّب عن الجهل به ، والجهل مسبّب عن كونه هائلا ، لأنّ الأمر الهائل من شأنه عدم الإدراك حقيقة أو ادّعاء.

(٢) أي والجملة استئنافيّة لتهويل أمر فرعون المفيد لتأكّد شدّة العذاب بسبب أنّه كان متمرّدا معاندا.

(٣) في الاسم الواقع بعد من الاستفهاميّة ، فالأخفش يقول : إنّ الاسم مبتدأ مؤخّر ، ومن الاستفهاميّة خبر مقدّم ، وسيبويه يقول بعكس ذلك.

(٤) أي عدم إرادة حقيقة الاستفهام ههنا ظاهر ، لأنّ الله لا يخفى عليه شيء حتّى يستفهم عنه.

(٥) أي بل المراد أنّه سبحانه لمّا وصف عذاب فرعون لبني إسرائيل بالشّدّة ، أي بما يدلّ على شدّته وفظاعة أمره ، أي شناعته وقباحته ، حيث قال سبحانه : (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) (٣٠) ، ولا شكّ أنّ وصف العذاب بكونه مهينا لمن عذّب به يدلّ على شدّته وشناعته.

(٦) أي زاد المخاطبين تهويلا ، وأصل التّهويل حصل من قوله : (الْمُهِينِ).

(٧) أي هل تعرفون فرعون الّذي هو غاية في عتوّه المفرط ، أي طغيانه الشّديد وشكيمته الشّديدة ، أي تكبّره وتجبّره الشّديدين ، فقوله : «في فرط عتوّه وشدّة شكيمته» من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، والشّكمة في الأصل جلد يجعل على أنف الفرس ، كنّى به هنا عن التّكبّر والتّجبّر والظّلم.

٢٥

وشدّة شكيمته (١) ، فما ظنّكم بعذاب (٢) يكون المعذّب (٣) به مثله (٤) [ولهذا (٥) قال : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٣١)] زيادة لتعريف حاله ، وتهويل عذابه (٦) والاستبعاد (٧) نحو : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى)(١) (٨) فإنّه لا يجوز حمله على حقيقة الاستفهام ، وهو ظاهر ،

________________________________________

(١) أي شدّة طبيعته وشوكته.

(٢) أي بعذاب مهين شديد ، فهو أخوف وأشدّ وقد نجّيتكم منه فلتشكروني.

(٣) أي ينبغي أن يضبط المعذّب على اسم الفاعل.

(٤) أي مثل فرعون الموصوف بفرط العتوّ وشدّة الشّكيمة ، وتوضيح ما في المقام أن تقول :

إنّ المراد بهذا الاستفهام تفظيع أمر فرعون والتّهويل بشأنه ، وهو مناسب هنا ، لأنّه لمّا وصف عذابه بالشّدّة زيادة في الامتنان على بني إسرائيل بالإنجاء منه ، هوّل بشأن فرعون ، وبيّن فظاعة أمره ليعلم بذلك أنّ العذاب المنجى منه غاية في الشّدّة حيث صدر ممّن هو شديد الشّكيمة عظيم العتوّ ، فكأنّه قيل : نجّيناهم من عذاب من هو غاية في العتوّ والتّجبّر ، وناهيك بعذاب من هو مثله ، وحينئذ فاللّائق أنّكم تشكروني ، فكيف تكفروني!

(٥) أي ولأجل التّهويل بشأن فرعون قال : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)) أي في ظلمه من المسرفين في عتوّه ، فكيف حال العذاب الّذي يصدر من مثله.

(٦) أي عذاب فرعون ، أشار بهذا إلى أنّ تعريف حاله من حيث تهويل عذابه لا من حيثيّة أخرى.

(٧) أي عدّ الشّيء بعيدا ، والفرق بينه وبين الاستبطاء : إنّ الاستبعاد متعلّقه غير متوقّع ، والاستبطاء متعلّقه متوقّع غير أنّه بطيء في زمن انتظاره.

(٨) والشّاهد : في مجيء أنّى للاسبعاد لاستحالة حقيقة الاستفهام عليه تعالى ، فطلب له معنى مجازيّ ، والمناسب هنا هو استبعاد تذكّرهم بدليل قوله : (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) فكأنّه قيل من أين لهم التّذكّر والرّجوع للحقّ ، والحال إنّه قد جاءهم رسول يعلمون أمانته ، فتولّوا وأعرضوا عنه ، بمعنى أنّ الذّكرى بعيدة من حالهم.

والعلاقة بين الاستفهام والاستبعاد : إنّ الاستفهام مسبّب عن استبعاد الوقوع ، لأنّ بعد الشّيء يقتضي الجهل به ، والجهل به يقتضي الاستفهام عنه.

__________________

(١) سورة الدّخان : ١٣ و ١٤.

٢٦

بل المراد استبعاد أن يكون لهم الذّكرى ، بقرينة قوله تعالى : (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) ، أي كيف يذكرون ويتّعظون ويوفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم ، وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل (١) في وجوب الإذكار من كشف الدّخّان (٢) وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآيات والبيّنات من الكتاب المعجز وغيره ، فلم يذكروا وأعرضوا عنه

________________________________________

قوله : «أي كيف يذكرون» إشارة إلى أنّ أنّى في الآية بمعنى كيف ، وقد تقدّم أنّ أنّى إذا كانت بمعنى كيف ، يجب أن يكون بعدها فعل ، ولو بحسب المعنى ، كما أشار إليه الشّارح بقوله : «كيف يذكرون».

(١) أي أشدّ دخولا «في وجوب الإذكار» ، أي في ثبوت التّذكّر.

(٢) أي كشف الدّخان الّذي ظهر في الهواء بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ كشف بدعائه أيضا ، وهذا في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا أولى ممّا قيل : إنّ المراد بالدّخان وكشفه ما يقع يوم القيامة ، لقوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠).

والّذي ذهب إليه ابن مسعود أنّ المراد بالدّخان في الآية ما يرى في السّماء عند الجوع كهيئة الدّخان ، قال : لأنّه عليه‌السلام لمّا دعا قريشا فكذّبوه واستعصوا عليه.

قال : اللهمّ اجعل عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حصدت كلّ شيء ، أكلوا فيها الجلود والميتة من الجوع وينظر أحدهم إلى السّماء ، فينظر كهيئة الدّخّان ، فقام أبو سفيان فقال : يا محمّد إنّك جئت تأمر بطاعة الله وصلة الرّحم ، وإنّ قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم ، فأنزل الله عزوجل (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (١٠).

٢٧

الأمر

[ومنها] أي من أنواع الطّلب [الأمر (١)] وهو طلب فعل غير كفّ (٢) على جهة الاستعلاء (٣) ، وصيغته (٤) تستعمل في معان كثيرة (٥) ، فاختلفوا في حقيقته الموضوعة هي لها (٦) اختلافا كثيرا (٧)

________________________________________

(١) أي هذه المادّة قد تطلق على الفعل ، كما في قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(١) فيجمع حينئذ على الأمور ، وقد تطلق على نوع خاصّ من الكلام المسوق لغرض البعث ، فيجمع على الأوامر ، وكيف كان فقد عرّفه المصنّف بأنّه طلب الفعل استعلاء.

(٢) احترز بغير الكفّ عن النّهي ، لأنّه كما يأتي طلب الكفّ عن الفعل استعلاء.

(٣) أي على طريق طلب العلوّ ، سواء كان عاليا حقيقة ، أي كان له تفوّق يوجب إطاعته عقلا كالمولى أو شرعا كالنّبيّ والأئمّة أو عرفا مثل السّلطان مثلا ، أو لا يكون عاليا حقيقة ، فيسمّى دعاء ، إذا كان الطّلب من السّافل أو التماسا إذا كان من المساوي ، واحترز بقوله : «على جهة الاستعلاء» عن الدّعاء والالتماس.

(٤) أي صيغة الأمر المعهودة المتداولة كثيرا.

(٥) أي نحو : ستّة وعشرين معنى ذكرها أهل الأصول ، وذكر المصنّف بعضا منها.

(٦) أي الموضوعة صيغة الأمر لتلك الحقيقة ، فضمير «هي» يرجع إلى الصّيغة ، وضمير «لها» يعود إلى الحقيقة.

(٧) حاصله : إنّ الأصوليّين اختلفوا في المعنى الّذي وضع له صيغة الأمر ، فقيل : إنّها وضعت للوجوب فقطّ ، وهو مذهب الجمهور ، وقيل : للنّدب فقطّ ، وقيل : للقدر المشترك بينهما ، وهو مجرّد الطّلب على جهة الاستعلاء ، فهي من قبيل المشترك المعنويّ ، وقيل : هي مشتركة بينهما اشتراكا لفظيّا بأن وضعت لكلّ منهما استقلالا ، وقيل : بالتّوقّف أي عدم الدّراية وهو شامل للتّوقّف في كونها للوجوب فقط ، أو للنّدب فقطّ ، والتّوقّف في كونها للقدر المشترك بينهما اشتراكا لفظيّا ، بمعنى أنّا لا نعيّن شيئا ممّا ذكر ، وقيل : مشتركة بين الوجوب والنّدب والإباحة ، وقيل : موضوعة للقدر المشترك بين الثّلاثة ، أي الإذن في الفعل ، والأكثر على أنّها حقيقة في الوجوب فقطّ.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

٢٨

ولمّا لم تكن الدّلائل (١) مفيدة للقطع بشيء قال المصنّف (٢) : [والأظهر أنّ صيغته من المقترنة (٣) باللّام نحو : ليحضر زيد ، وغيرها (٤) نحو : أكرم عمرا ، ورويد بكرا (٥)] فالمراد بصيغته ما دلّ (٦) على طلب فعل غير كفّ استعلاء ، سواء كان اسما (٧) أو فعلا (٨) [موضوعة لطلب الفعل (٩) استعلاء (١٠)]

________________________________________

(١) أي لمّا لم تكن الأدلّة الّتي ذكرها أصحاب الأقوال المذكورة «مفيدة للقطع بشيء» من الأقوال المذكورة.

(٢) أي مشيرا لما هو الأظهر عنده لقوّة دليله.

(٣) أي من الصّيغة المقترنة باللّام ، فمن لبيان أنواع الصّيغة ، وقضيّة كلام المصنّف هذا أنّ الصّيغة الدالّة على الطّلب هي الفعل في قولنا : ليضرب زيد مثلا ، وأنّ اللّام قرينة على إرادة الطّلب به ، وعلى هذا فالإضافة في قولهم : لام الأمر لأدنى ملابسة ، أي اللّام المتقرنة بصيغة الأمر ، ويحتمل أن يكون المجموع من اللّام والفعل هو الدّالّ على الطّلب.

(٤) أي غير المقترنة باللّام نحو : أكرم عمرا ، فهذه الصّيغة فعل محض.

(٥) رويد اسم فعل مبنيّ على الفتح ، بمعنى أمهل ، واعلم أنّ جعل رويد مفيدا للّطلب مبنيّ على المذهب الكوفيّ من أنّ اسم الفعل يدلّ على ما يدلّ عليه الفعل ، لا على مذهب البصريّين من أنّ مدلوله لفظ الفعل إلّا أن يقال : إنّه على مذهبهم يدلّ على الطّلب بواسطة دلالته على لفظ الفعل.

(٦) أي لا خصوص فعل الأمر والمضارع المقرون بلام الأمر.

(٧) أي كرويد مثلا.

(٨) أي كفعل الأمر والمضارع المقرون بلام الأمر.

(٩) ظاهره يشمل طلبه ندبا ، فيخالف ما عليه المشهور والجمهور من أنّه حقيقة في الوجوب.

(١٠) أي حال كون الطّالب مستعليا ، سواء كان عاليا في نفسه أم لا.

٢٩

أي (١) على طريق طلب العلوّ وعدّ الأمر نفسه عاليا ، سواء كان عاليا في نفسه أم لا [لتبادر (٢) الفهم عند سماعها] أي سماع الصّيغة [إلى ذلك] المعنى أعني الطّلب استعلاء ، والتّبادر إلى الفهم من أقوى إمارات الحقيقة (٣) ، [وقد تستعمل] صيغة الأمر [لغيره] أي لغير طلب الفعل استعلاء (٤). [كالإباحة (٥) ، نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين (٦)] فيجوز له أن يجالس أحدهما أو كليهما ، وأن لا يجالس أحدا منهما أصلا ، [والتّهديد (٧)] أي التّخويف

________________________________________

(١) أي في التّفسير إشارة إلى أنّ نصب «استعلاء» بنزع الخافض مع تقدير مضاف ، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل المصدر المحذوف ، أي حال كون الطّالب مستعليا.

(٢) متعلّق بقوله : «الأظهر» ، فالمعنى والأظهر أنّ صيغة الأمر موضوعة لطلب الفعل استعلاء ، لتبادر الفهم أي تبادر المعنى من اللّفظ إلى الفهم.

(٣) أي من أقوى أمارات كون اللّفظ حقيقة في المعنى المتبادر منه.

(٤) أي لغير الأمر مما يناسب المقام بحسب القرائن ، وذلك بأن لا يكون لطلب الفعل أصلا ، أو كان لطلبه لكن لا على سبيل الاستعلاء ، كالإباحة مثلا.

نعم ، لم يتعرّض الشّارح لعلاقة المجاز في ذلك الغير ، وتعرّض أهل الأصول ، فراجع.

(٥) وذلك إنّ المقام الصّالح لها توهّم السّامع عدم جواز الجمع بين أمرين ، والعلاقة في ذلك الإطلاق والتّقييد ، حيث إنّ معنى صيغة الأمر هو الإذن في الفعل مع طلبه على نحو الاستعلاء ، وهنا قد استعملت في الإذن فقطّ ، فإن كانت إرادة الإباحة وهو الإذن مع تساوي الطّرفين من باب أنّها فرد من الإذن المطلق ، يكون المجاز واحدا ، وإن كانت من باب أنّها معنى من المعاني ، ومشتملا على خصوصيّة ليست في المطلق ، يكون المجاز متعدّدا ، من باب سبك المجاز من المجاز.

(٦) يقال هذا عند توهّم السّامع عدم جواز مجالستهما معا ، فأبيح له مجالستهما ، وقيل : إنّ صيغة الأمر في المثال المذكور للتّخيير ، والفرق بينه وبين الإباحة هو جواز الجمع بين الأمرين في الإباحة دون التّخيير.

(٧) والمقام الصّالح له أن لا يكون المأمور راضيا بالمأمور به ، ولا يكون متهيّئا للامتثال ، والعلاقة هنا هو التّضاد بين الطّلب والتّهديد من حيث المتعلّق ، حيث يكون متعلّق طلب

٣٠

وهو أعمّ (١) من الإنذار ، لأنّه (٢) إبلاغ مع التّخويف (٣) ، وفي الصّحاح (٤) الإنذار تخويف مع دعوة [نحو : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(١) (٥)] لظهور أن ليس المراد الأمر بكلّ عمل شاؤوا ، [والتّعجيز نحو : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢) (٦)] إذ ليس المراد طلب

________________________________________

الفعل استعلاء ، هو الواجب أو المندوب ، ولا يكون متعلّق التّهديد إلّا الحرام أو المكروه ، ويمكن أن تكون العلاقة بينهما المشابهة حيث إنّ كلّا من الطّلب والتّهديد يترتّب على مخالفتهما استحقاق العقاب في الجملة ، ويمكن أن تكون السّببيّة والمسبّبيّة ، حيث إنّ طلب الفعل استعلاء يوجب التّخويف والتّهديد على تركه ، ثمّ المجاز على الثّاني مجاز بالاستعارة ، وعلى الأوّل والثّالث مجاز مرسل.

(١) أي التّهديد أعمّ من الإنذار ، فيكون الإنذار داخلا في التّهديد ، ولذا لم ينصّ عليه.

(٢) أي لأنّ الإنذار إبلاغ مصحوب بالتّخويف ، كما في قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)(٣) فصيغة (تَمَتَّعُوا) مع ما بعدها تخويف بأمر مع إبلاغه عن الغير ، والتّهديد هو التّخويف مطلقا ، سواء كان مصحوبا بإبلاغ أو لا بأن كان من عند نفسه ، فيكون أعمّ من الإنذار ، لأنّه تخويف مقيّد والمقيّد أخصّ من المطلق ، فالحاصل إنّ التّهديد وإن كان لا يحتاج إلى الإبلاغ ، إلّا أنّه محتاج إلى ما يدلّ على الوعيد مجملا أو مفصّلا.

(٣) أي الأوضح أن يقال : لأنّه تخويف مع إبلاغ.

(٤) وحاصل ما في الصّحاح : إنّ التّهديد أعمّ من الإنذار ، لأنّ الإنذار تخويف مع دعوة لما ينجي من المخوف ، وأمّا التّهديد فهو تخويف مطلقا ، لكنّ الفرق بين ما في الصّحاح وما قبله من جهة أنّ الإنذار على ما في الصّحاح لا يكون إلّا من الرّسول ، لكونه اعتبر في مفهومه الدّعوة ، والإنذار على ما قبله يكون من الرّسول ومن غيره ، لأنّه اعتبر في مفهومه الإبلاغ ، وهو أعمّ من الدّعوة ، لأنّه يكون من الرّسول ومن غيره ، لأنّه يقال لمن أعلم قوما بأنّ جيشا يصحبهم أنّه أنذرهم ولو لم يرسل بذلك.

(٥) أي فترون منّا ما هو أمامكم فهذا يتضمّن وعيدا مجملا.

(٦) الشّاهد : في أنّ صيغة الأمر استعملت للتّعجيز.

__________________

(١) سورة حم السّجدة : ٤٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٣.

(٣) سورة إبراهيم : ٣٠.

٣١

إتيانهم بسورة من مثله لكونه (١) محالا ، والظّرف أعني قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) متعلّق ب (فَأْتُوا) والضّمير ل (عَبْدِنا) (٢) أو صفة (٣) لسورة ، والضّمير ل (نَزَّلْنا) (٤) أو ل (عَبْدِنا). فإن قلت : لم لا يجوز (٥) على الأوّل أن يكون الضّمير لما نزّلنا؟

________________________________________

(١) أي لكون الإتيان (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) محالا من جهة أنّ ذلك خارج عن وسعهم وطاقتهم ، فإذا حاولوا بعد سماع الصّيغة ذلك الإتيان ولم يمكنهم ظهر عجزهم.

(٢) فالمعنى حينئذ وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا من شخص مماثل لعبدنا في كونه أميّا لا يكتب بسورة ، فالمأتي منه موجود والمأتي به معجوز عنه.

(٣) عطف على قوله : «متعلّق ب (فأتوا) فلا أي أو الظّرف صفة لسورة ، بعد كونه متعلّقا بمحذوف ، فيكون الظّرف مستقرّا كما أنّه على الأوّل يكون لغوا.

(٤) أي الضّمير (مِنْ مِثْلِهِ) يرجع إلى (مِمَّا نَزَّلْنا) في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) الآية ، أو يرجع إلى (عَبْدِنا) فيكون المعنى على الأوّل : فأتوا بسورة من وصفها أنّها من مثل ما نزّلنا في حسن النّظم ، وغرابة البيان ، أي من جنسه ، فتكون (من) تبعيضيّة مشوبة ببيان ، وعلى الثّاني : فأتوا بسورة كائنة من مثل عبدنا ، ف (من) على هذا ابتدائيّة ، ويراد على هذا الوجه بمثل عبدنا مثله في مطلق البشريّة ، من غير شرط الأمّيّة لعجز الكلّ ، فالمعجوز عنه على كلا الوجهين هو السّورة الموصوفة بصفة هي كونها من جنس المنزّل ، أو من مثل عبدنا ، ومعلوم أنّ الّذي يفهم من مثل هذا الكلام عند امتناع الإتيان بالمأمور ، أنّ الامتناع لعدم القدرة على الموصوف مع وجوده بوصفه ، كما يقال : ائتني بثوب ملبوس للأمير ، فملبوس الأمير موجود ، وامتنعت القدرة عليه أو لعدم القدرة على الموصوف ، لانتفاء وصفه ، فيلزم امتناع الإتيان به بذلك القيد ، كما يقال : ائتني بثوب قدره أربعون ذراعا ، والفرض أنّه لا ثوب موصوف بهذا الوصف ، وإنّما كان المفهوم من هذا الكلام عند امتناع الإتيان بالمأمور أنّ الامتناع لعدم القدرة على الموصوف مع وجوده بوصفه ، فيفهم أنّ الامتناع لامتناع الوصف ، أو لامتناع تناول الموصوف لعدم القدرة عليه.

(٥) وحاصل الإشكال : هو أن يقال : لم جوّزتم في الضّمير على التّقدير الثّاني وهو كون الظّرف صفة لسورة أن يكون لما نزّلناه ، وأن يكون لعبدنا ، وخصّصتموه على الأوّل بعبدنا ، ولم لا يجوز أيضا أن يكون لما نزّلناه.

٣٢

قلت : لأنّه (١) يقتضي ثبوت مثل القرآن في البلاغة ، وعلوّ الطّبقة بشهادة الذّوق ، إذ التّعجيز (٢) إنّما يكون عن الماتيّ به ، فكأنّ مثل القرآن ثابت لكنّهم عجزوا عن أن يأتوا منه (٣) بسورة ، بخلاف ما إذا كان (٤) وصفا للسّورة ، فإنّ المعجوز عنه هو السّورة الموصوفة باعتبار انتفاء الوصف. إن قلت (٥) : فليكن التّعجيز باعتبار انتفاء المأتيّ منه.

________________________________________

(١) أي كون الضّمير راجعا لما نزّلناه مع جعل الظّرف لغوا متعلّقا بفأتوا يقتضي ثبوت القرآن ... وهو غير صحيح ، لأنّ القرآن لا مثل له أصلا ، والحاصل إنّ الاستقراء دلّ على أنّ مقتضى اللّغة واستعمال البلغاء هو أنّ التّعجيز إنّما يكون عن المأتي به مع ثبوت المأتي منه ، فإذا جعل الضّمير لما نزّلناه ، فإنّ جعل الظّرف متعلّقا بفأتوا أفاد أنّ العجز عن الإتيان بالسّورة الموصوفة بكونها من المثل ، فيفيد نفي المثل حينئذ في حيّز المأتي به المعجوز عنه ، ولازم ذلك ثبوت مثل للقرآن ، وإنّهم عاجزون عن الإتيان بمثل ذلك ، هو غير صحيح أصلا ، إذ لا مثل للقرآن أصلا.

(٢) علّة «يقتضي» ، وحاصل التّعليل : إنّ كون الضّمير راجعا إلى قوله : «ممّا نزّلناه» ثبوت مثل للقرآن ، لأنّ التّعجيز إنّما يكون عن المأتي به ، أعني السّورة مع وجود المأتي منه أعني المثل ، وهو غير صحيح ، لأنّ القرآن لا مثل له.

(٣) أي من المثل الّذي فرض موجودا.

(٤) أي الظّرف وصفا للسّورة ، يعنى إذا كان الظّرف صفة للسّورة لا يقتضي كون الضّمير لما نزّلناه ثبوت مثل القرآن في البلاغة وعلوّ الطّبقة ، لأنّ المعجوز عنه هو السّورة الموصوفة باعتبار انتفاء وصف المثليّة لا باعتبار ثبوته ، لأنّه لا ثبوت له أصلا لا حقيقة ولا اعتبارا ، بل هو منتف مطلقا.

(٥) وحاصل الإشكال : أنّه يمكن أن لا يكون التّعجيز باعتبار المأتي به عند جعل الظّرف لغوا متعلّقا بفأتوا وترجيع الضّمير لما نزّلناه حتّى يلزم ثبوت المثل للقرآن ، بل يجعل التّعجيز باعتبار انتفاء المأتيّ منه ، هو المثل بأن يكون لهم قدرة على الإتيان بسورة من مثله ، إلّا أنّ المثل منتف فهم قادرون على الإتيان بسورة إلّا أنّه لا مثل له حتّى يأتوا منه بسورة ، وحينئذ فلا يقتضي ثبوت المثل ، ولا ينتفي عجزهم باعتبار المأتي به.

٣٣

قلنا (١) : احتمال عقليّ لا يسبق إلى الفهم ولا يوجد له (٢) مساغ في اعتبارات البلغاء ، واستعمالاتهم فلا اعتداد به ، ولبعضهم (٣) هنا كلام طويل لا طائل تحته [والتّسخير (٤) نحو : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) (١) (٥) ، والإهانة (٦) نحو : (كُونُوا حِجارَةً

________________________________________

(١) وحاصل الجواب : إنّ الاستقرار دلّ على أنّ مثل هذا التّركيب يفهم منه الذّوق أنّ التّعجيز باعتبار المأتي به لا باعتبار المأتي منه ، وحينئذ فيفيد ثبوت المثل.

نعم ، ما ذكر من جعل التّعجيز باعتبار المأتيّ منه مجرّدا احتمال عقليّ ، بخلاف كون التّعجيز باعتبار انتفاء الوصف فإنّه شائع ، لأنّ القيود محطّ القصد.

(٢) أي لا يوجد لذلك الاحتمال العقليّ مجوّز في اعتبارات البلغاء.

(٣) أراد به الطّيّبي في حواشيّ الكشّاف.

(٤) أي جعل الشّيء مسخّرا ومنقادا ، والمقام المناسب له كون المأمور منقادا أو مطيعا للأمر بحيث لا يكون له القدرة على المخالفة والعلاقة هنا السّببيّة والمسبّبيّة ، فإنّ طلب حصول الشّيء عن المخاطب الّذي لا يقدر عليه مع حصوله بسرعة يوجب جعله مسخّرا ومنقادا ، فاللّفظ الموضوع للسّبب استعمل في المسبّب ، فالفرق بينه وبين التّكوين ، كما في قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ)(٢) ، إنّ التّسخير تبديل حالة إلى حالة أخرى فيها مهانة ومذلّة ، والتّكوين هو الإنشاء من العدم إلى الوجود.

(٥) أي (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) أي صاغرين مطرودين عن ساحة القرب والعزّ ، وصدر الآية دليل واضح على أنّ المراد بالأمر التّسخير ، أي فلمّا خرجوا عن جادّة البشر العقلاء ، بتجبّرهم على خالقهم الحكيم الّذي لا يأمرهم إلّا لمصلحة تخصّهم ولا ينهاهم إلّا عن مفسدة تنقصهم ألحقناهم بالحيوانات العجم تنزّلا بهم إلى ما يليق بمثلهم.

(٦) وهي إظهار ما فيه تصغير المهان وقلّة المبالاة به والمقام المناسب له هو كون الآمر غير معتن بشأن المأمور بسبب من الأسباب والعلاقة هي السّببيّة والمسبّبيّة ، لأنّ طلب الشّيء من غير قصد حصوله في الواقع لعدم قدرة المأمور عليه مع كونه من الأحوال الخسيسة يوجب إظهار هونه وحقارته ، فاللّفظ الموضوع للسّبب استعمل في (حَدِيداً)(٣) المسبّب ، نحو :

__________________

(١) سورة البقرة : ٦٥.

(٢) سورة البقرة : ١١٧.

(٣) سورة الإسراء : ٥٣.

٣٤

أَوْ حَدِيداً)(١) إذ ليس الغرض أن لا يطلب منهم كونهم قردة أو حجارة أو حديدا لعدم قدرتهم على ذلك ، لكنّ (١) في التّسخير يحصل الفعل ، أعني صيرورتهم قردة ، وفي الإهانة لا يحصل ، إذ المقصود (٢) قلّة المبالاة بهم ، [والتّسوية (٣) نحو : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) ، ففي الإباحة كأنّ المخاطب توهّم أنّ الفعل محظور عليه ، فأذن له في الفعل مع عدم الحرج في التّرك ، وفي التّسوية كأنّه توهّم أنّ أحد الطّرفين من الفعل والتّرك أنفع له ، وأرجح بالنّسبة إليه ، فدفع ذلك وسوّى بينهما. [والتّمنّي (٤) نحو :

________________________________________

(كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) وهذا المثال يصلح للتّسخير أيضا ، والمثال الّذي يكون نصّا في الإهانة قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٢) ، والحاصل إنّ صدر الآية وذيلها يدلّ على أنّهم لمّا استبعدوا بعثهم خلقا جديدا بعد أن يكونوا عظاما ورفاتا ، أجابهم الله سبحانه بأنّ استبعادكم بإعادة عظامكم ورفاتكم خلقا جديدا ، لا محلّ له حتّى أنّكم لو كنتم من الجمادات المتأصّلة في الموت كالحجارة والحديد ، أو ما هو أعظم منهما تأصّلا في عدم الحياة لأنشائكم أجساما تتحرّك.

(١) أتى بهذا الاستدراك دفعا لتوهّم كون التّسخير والإهانة أمرا واحدا ، حيث إنّه يعتبر في كل واحد منهما عدم القدرة. وحاصل الدّفع : إنّهما يفترقان بعد اشتراكهما في عدم كون الفعل مقدورا للمأمور في أنّ الفعل يحصل في الخارج عند وجود الأمر فورا في التّسخير ، ولا يتحقّق عند تحقّقه في الإهانة.

(٢) أي المقصود من الإهانة قلّة المبالاة بالكفرة.

(٣) أي تستعمل صيغة في التّسوية بين شيئين ، والمقام المناسب لها توهّم المخاطب كون أحد الشّيئين أرجح عن الآخر ، كقوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) فإنّه ربّما يتوهّم أنّ الصبر نافع ، فدفع ذلك بالتّسوية بين الصّبر وعدمه ، فليس المراد بالصّيغة الأمر بالصّبر ، بل المراد كما دلّت عليه القرائن التّسوية بين الأمرين ، والعلاقة بين التّسوية والأمر التّضادّ ، لأنّ التّسوية بين الفعل والتّرك تضادّ إيجاب أحدهما.

(٤) وهو طلب الأمر المحبوب الّذي لا طماعيّة في وقوعه ، والعلاقة بينه وبين الأمر الإطلاق والتّقييد ، حيث إنّ الأمر هو طلب الفعل استعلاء ، قد أطلق على الطّلب المطلق المتحقّق

__________________

(١) سورة الإسراء : ٥٣.

(٢) سورة الدّخان : ٤٩.

٣٥

ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي]

بصبح وما الإصباح منك بأمثل (١)

إذ (٢) ليس الغرض طلب الانجلاء من اللّيل ، إذ ليس ذلك في وسعه (٣) لكنّه يتمنّى ذلك (٤) تخلّصا عمّا عرض له في اللّيل من تباريح (٥) الجوى ، ولاستطالته (٦) تلك اللّيلة ، كأنّه لا طماعيّة له في انجلائها ، فلهذا (٧) يحمل على التّمنّي دون التّرجّي ،

________________________________________

في طلب الأمر المحبوب الّذي لا طماعيّة في وقوعه ، فقد جرّد عن قيد الاستعلاء.

(١) أي قول امرئ القيس ، والمراد بالانجلاء الانكشاف ، وبالإصباح ظهور ضوء الصّبح ، وهو الفجر وأوّل النّهار ، فكأنّه يقول : انكشف أيّها اللّيل الطّويل طولا لا يرجى معه الانكشاف ، وقوله : «وما الإصباح منك بأمثل» أي بأفضل.

وحاصل المعنى : كأنّه يقول انكشف أيّها اللّيل الطّويل طولا لا يرجى معه الانكشاف ، وعلى تقدير الانكشاف فالإصباح لا يكون أفضل منه عندي ، لمقاساتي الهموم والأحزان فيه ، كما أقاسيها في اللّيل ، فاللّيل قد شارك النّهار في مقاساة الهموم لاشتراكهما في علّتها ، وهي فراق الحبيب ، فطلب النّهار ليس لخلوّه عنها ، بل لأنّ بعض الشّرّ أهون من بعض.

(٢) علّة للتّمنّي.

(٣) أي وسع اللّيل ، والأحسن أن يقول : لأنّ اللّيل ممّا يؤمر ويخاطب ، لأنّه لا ينبغي أن يكون المكلّف عاقلا يفهم الخطاب.

(٤) أي الانجلاء ، فكأنّه يقول : ليتك تنجلي.

(٥) التّباريح بالحاء المهملة : الشّدائد ، جمع تبريح ، بمعنى الشّدّة والجوى بالجيم : الحرقة وشدّة الوجد من حزن أو عشق.

(٦) علّة مقدّمة على المعلول ، وهو قوله : «كأنّه لا طماعيّة» أي وكأنّه لا طماعيّة له في انجلاء تلك اللّيلة لاستطالتها أعني لعدّها طويلة جدّا.

(٧) أي فلأجل عدم الطّماعيّة في الانجلاء والانكشاف حمل الأمر على التّمنّي ليناسب حال التّشكّي من الأحزان والهموم وشدّتها ، لأنّه لا يناسبها إلّا عدم الطّماعيّة في انجلاء اللّيل ، وذلك لأنّ كثرتها ولزومها لليل يعدّ اللّيل معها ممّا لا يزول ، ولذا جرت العادة بأنّ من وقع في ورطة وشدّة يتسارع باليأس ويتشكّى منها مظهرا لبعد النّجاة ، وما لو كانت مرجوّة الانكشاف لم تستحقّ التّشكّي من ليلها الملازمة له.

٣٦

[والدّعاء] أي الطّلب على سبيل التّضرّع (١) [نحو : (رَبِّ اغْفِرْ لِي ،) والالتماس كقولك لمن يساويك (٢) رتبة أفعل بدون (٣) الاستعلاء] والتّضرّع.

فإن قيل : أيّ حاجة إلى قوله : بدون الاستعلاء ، مع قوله لمن يساويك رتبة (٤).

قلت : قد سبق أنّ الاستعلاء لا يستلزم العلوّ (٥) فيجوز أن يتحقّق (٦) من المساوي ، بل من الأدنى أيضا [ثمّ الأمر (٧) ، قال السّكّاكي : حقّه (٨) الفور ، لأنّه (٩) الظّاهر من

________________________________________

(١) أي التّذلّل والخضوع سواء كان الطّالب أدنى أو أعلى أو مساويا في الرّتبة.

(٢) المراد من المساواة المساواة في نفس الأمر ، أو ولو بحسب زعم المتكلّم ، ولعلّ الثّاني هو الظّاهر.

(٣) قيد في الالتماس ، ثمّ إنّ مناط الأمريّة في الطّلب هو الاستعلاء ، ولو من الأدنى ومناط الدّعاء في الطّلب التّضرّع والخضوع ولو من الأعلى كالسّيّد مع عبده ، ومناط الالتماس في الطّلب هو التّساوي مع نفي التّضرّع والاستعلاء.

(٤) أي مع أنّ المساواة تستلزم عدم الاستعلاء ، فلا حاجة إلى التّقييد بقوله : «بدون الاستعلاء» بل هذا القيد لغو

(٥) أي لا يكون الاستعلاء لازما للعلوّ ، بل قد يوجد العلوّ بدون استعلاء ، وقد يوجد الاستعلاء بدون علوّ ، لأنّ الاستعلاء عدّ الآمر نفسه عاليا ، بأنّ يكون الطّلب الصّادر منه على وجه الغلظة ، وهذا المعنى أي جعل الآمر نفسه عاليا في أمره ، يصحّ من المساوي في نفس الأمر ، ومن الأدنى لأنّ دعاوي النّفس أكثر من أن تحصى وحينئذ فيحتاج إلى قوله : «بدون استعلاء مع قوله لمن يساويك» لإخراج الأمر.

(٦) أي الاستعلاء من المساوي ، لأنّ المنافي للمساواة إنّما هو العلوّ لا الاستعلاء.

(٧) أي صيغته.

(٨) أي مقتضاه وجوب الإتيان بالفعل المأمور به عقيب ورود الأمر في أوّل أوقات الإمكان ، وجواز التّراخي مفوّض إلى القرينة ، فمتى قيل افعل معناه افعل فورا ، ولا يدلّ على التّراخي إلّا بالقرينة.

(٩) أي الفور الظّاهر من الطّلب.

٣٧

الطّلب] عند الإنصاف (١) كما في الاستفهام والنّداء (٢) [ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء (٣) بعد الأمر بخلافه (٤) إلى تغيير (٥)] الأمر [الأوّل دون الجمع (٦)] بين الأمرين ، [وإرادة التّراخي] فإنّ المولى إذا قال لعبده : قم ، ثمّ قال له قبل أن يقوم : اضطجع حتّى المساء (٧) ، يتبادر إلى الفهم إلى أنّه غيّر الأمر بالقيام إلى الأمر بالاضطجاع ، ولم يرد الجمع بين القيام والاضطجاع مع تراخيّ أحدهما (٨) ، [وفيه (٩) نظر] لأنّا لا نسلّم ذلك عند خلوّ المقام عن القرائن.

________________________________________

(١) أي عدم اللّجاج ، أي عند إنصاف النّفس لا عند الحميّة والجدال.

(٢) فإنّ الاستفهام يقتضي فوريّة الجواب ، والنّداء يقتضي فوريّة إقبال المنادى.

(٣) أي بفعل من الأفعال.

(٤) أي بعد الأمر بضدّه ، وقبل الإتيان به.

(٥) متعلّق بتبادر ، أي يتبادر الفهم فيما ذكر إلى تغيّر المتكلّم بالصّيغة الأمر الأوّل بالأمر الثّاني.

(٦) أي من غير أن يتبادر أنّ المتكلّم أراد الجمع بين الفعلين المأمور بهما ، ومن غير أن يتبادر أنّ المتكلّم أراد جواز التّراخي في أحد الأمرين حتّى يمكن الجمع بينهما ، ويلزم من تغيير الأوّل كونه على الفور حيث غيّره بما يعقّبه ، فيثبت المطلوب وهو كونه على الفور.

(٧) أي إلى المساء ، فهي غاية ، والغاية لا بدّ لها من مبدأ ، والمناسب هنا أنّ مبدأها عقب ورود الصّيغة ، أي اضطجع زمانا طويلا من هذا الوقت إلى المساء ، وإنّما قيّد بذلك ليتحقّق التّراخيّ ، فإنّه إذا قال : قم ، ثمّ قال اضطجع ، وفعل العبد كليهما على التّعاقب يكون ممتثلا على الفور بخلاف ما إذا أمره بعد الأمر بالقيام بالاضطجاع زمانا ، فإنّه يفهم منه أنّه غير الأمر الأوّل بالأمر الثّاني ، ويلزم من تغيير الأوّل أنّه على الفور حيث غيّره بما ينفيه.

(٨) أي القيام والاضطجاع.

(٩) أي فيما قاله السّكّاكي من اقتضاء الأمر الفوريّة نظرا ، وفي المثال المذكور نظر ، وحاصله : إنّ تغيير الأمر الأوّل بالثّاني في المثال ، إنّما نشأ من القرينة ، وهي قوله : «حتّى المساء» حيث إنّ العادة جارية بأنّ مطلق لا يراد به التّأخير إلى اللّيل ولمّا أمره بالاضطجاع المبدوّ بوقت ورود الصيغة ، والمختوم بالمساء ، فهم تغيير الأوّل ، فلو خلّي الكلام عن القرينة ، كما لو قال :

٣٨

النّهي

[ومنها] أي من أنواع الطّلب [النّهي] وهو طلب الكفّ عن الفعل (١) استعلاء ، [وله حرف واحد ، وهو لا الجازمة (٢) في نحو قولك : لا تفعل ، وهو كالأمر في الاستعلاء (٣)] لأنّه المتبادر إلى الفهم [وقد يستعمل (٥) في غير طلب الكفّ] عن الفعل كما هو (٦) مذهب البعض [أو] طلب [التّرك] كما هو (٧) مذهب البعض ، فإنّهم اختلفوا في أنّ مقتضى النّهي كفّ النّفس عن الفعل بالاشتغال بأحد أضداده (٨) ،

________________________________________

قم ، ثمّ قال له : اضطجع ، من غير أن يزيد حتّى المساء ، لم يتبادر التّغيير ، ولهذا قال الشّارح : لأنّا لا نسلّم ذلك ، أي التّبادر عند خلوّ المقام عن القرائن.

(١) أي من حيث إنّه ملحوظ آلة لا من حيث كونه ملحوظا بالذّاتّ ، فلا ينتقض بنحو اكفف عن القتل ، أو كفّ عن الزّنا ، لأنّ الكفّ في أمثال ذلك ملحوظ بالذّاتّ لا آلة لغيره ، ثمّ إنّ هذا أحد القولين في النّهي ، والقول الآخر إنّه نفس أن لا تفعل ، وطلب التّرك ، ولعلّ الشّارح اقتصر على هذا القول لكونه أرجح عنده.

(٢) أي خرج بهذا القيد لا النّافية.

(٣) أي فالنّهي أيضا موضوع لغة لطلب ترك فعل على سبيل الاستعلاء ، أو لطلب الكفّ عن فعل على جهة الاستعلاء ، وهذا قدر جامع بين الحرمة والكراهة ، كما كان طلب الفعل على جهة الاستعلاء قدرا جامعا بين الوجوب والاستحباب.

(٤) أي الاستعلاء المتبادر إلى الفهم ، والتّبادر من أقوى أمارات الحقيقة.

(٥) أي يستعمل النّهي في غير طلب الكفّ ، وحاصله إنّ صيغة النّهي قد تستعمل في غير ما وضعت له على جهة المجاز كالتّهديد والدّعاء والالتماس.

(٦) أي وضعه لطلب الكفّ عن الفعل مذهب البعض وهم الأشاعرة.

(٧) أي كون النّهي لطلب التّرك مذهب البعض وهو أبو هاشم الجبائيّ.

(٨) أي أضداد الفعل ، أي الأصوليّون اختلفوا في مقتضى النّهي على قولين : الأوّل هو كفّ النّفس عن الفعل بالاشتغال بأحد أضداده ، كمن كان في بيت توجد فيه امرأة أجنبيّة داعية له إلى الزّنا ، ونفسه أيضا داعية له إليه فكفّ نفسه عنه ، ويخرج من البيت ، فهو حينئذ ممتثل

٣٩

أو ترك الفعل ، وهو نفس أن لا تفعل (١) ، [كالتّهديد ، كقولك لعبد لا يمتثل أمرك : لا تمتثل أمري (٢)] وكالدّعاء (٣) ، والالتماس (٤) ، وهو ظاهر [وهذه الأربعة] يعني التّمنّي والاستفهام والأمر والنّهي [يجوز تقدير الشّرط بعدها (٥)] وإيراد الجزاء عقيبها مجزوما بإن المضمرة مع الشّرط (٦) [كقولك] في التّمنّي [ليت لي مالا أنفقه] أي إن أرزقه (٧) أنفقه ،

________________________________________

للنّهي عن الزّنا ، دون ما إذا تركه من دون تحقّق الكفّ ، كما إذا كان مانع من الزّنا ، أو لم تكن نفسه داعية إليه أو لم تكن المرأة حاضرة على التّمكين ، فعندئذ لا يتحقّق الامتثال الموجب لاستحقاق الثّواب.

(١) أي نفس عدم الفعل ، هذا هو القول الثّاني وفسّره بذلك ، لأنّ التّرك يطلق على انصراف القلب عن الفعل ، وكفّ النّفس عنه ، وعلى فعل الضّدّ وعلى عدم الفعل المقدور قصدا ، وهذه المعاني ليس شيء منها بمراد هنا ، وإنّما المراد عدم الفعل المقدور مطلقا.

(٢) أي اترك أمري ، وإنّما كان هذا تهديدا للعلم الضّروري ، بأنّ السّيّد لا يأمر عبده بترك امتثال أمره ، لأنّ المطلوب من العبد الامتثال لا عدمه والعلاقة بين النّهي والتّهديد السّببيّة ، لأنّ النّهي عن الشّيء يتسبّب عنه التّخويف على مخالفته.

(٣) كما في قولك : ربّنا لا تؤاخذنا.

(٤) نحو قولك : لا تعصي ربّك أيّها الأخّ ، والعلاقة بينهما الإطلاق والتّقييد.

(٥) أي بعد الأربعة ، وكذلك ضمير «عقيبها» يرجع إلى «الأربعة».

(٦) الشّرط قد يطلق على فعل الشّرط ، وقد يطلق على أداة الشّرط ، وقد يطلق على التّعليق بينهما ، والمراد به هنا هو المعنى الأوّل ، ثمّ إنّ ما ذكره الشّارح والمصنّف من أنّ الجزم بأداة مقدّرة هو أحد الأقوال في المقام ، لعله هو المشهور ، وبإزائه قولان آخران :

الأوّل ما ذهب إليه الخليل من أنّ هذه الأربعة لتضمّنها معنى الشّرط عملت في الجزاء ، قال الرّضي رحمه‌الله : وهذا ليس ببعيد ، لأنّ الأسماء المتضمّنة لمعنى الشّرط إذا عملت في الشّرط والجزاء ، فلم لا يعمل كلّ ما يتضمّن معنى الشّرط.

والثّاني : ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الجزم بهذه الأمور لمكان نيابتها عن فعل الشّرط ، وأداته من غير تضمين ، وهذان القولان متقاربان.

(٧) بالبناء للمفعول ، وجزم «أنفقه» ، وقيل : الأفضل أن يقدّر : إن يحصل لي مال أنفقه.

٤٠