دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

بأكثر منها ، ثمّ قال :] أي السّكّاكي [الاختصار (١) لكونه (٢) نسبيّا يرجع فيه تارة إلى ما سبق] أي إلى كون عبارة المتعارف أكثر منه (٣) [و] يرجع تارة [أخرى إلى كون المقام خليقا (٤) بأبسط ممّا ذكر] ، أي من الكلام الّذي ذكره المتكلّم (٥) وتوهّم بعضهم (٦) أنّ

________________________________________

(١) أي الإيجاز ، لأنّ الإيجاز والاختصار عند السّكّاكي مترادفان ، وإنّما عبّر بالاختصار ثانيا من باب التّفنّن.

(٢) أي لكون الاختصار نسبيّا ، فقوله : «لكونه نسبيا» علّة مقدّمة على المعلول ، أي الاختصار يرجع فيه تارة إلى ما سبق لكونه نسبيّا.

(٣) قوله : «أي إلى كون عبارة ... ، بيان لما سبق ،

لا يقال : إنّ الّذي هو كونه أقلّ من عبارة المتعارف لا كون المتعارف أكثر منه ، فلا وجه لهذا التّفسير.

فإنّه يقال : بأنّ هذا مذكور سابقا التزاما ، لأنّ كون الإيجاز أقلّ من المتعارف مستلزم لكون المتعارف أكثر منه.

(٤) أي جديرا بأبسط ممّا ذكر ، أي ويرجع تارة أخرى في تعريفه إلى كون المقام الّذي أورد فيه الكلام الموجز ، خليقا ، أي حقيقا وجديرا بحسب الظّاهر بكلام أبسط من الكلام الّذي ذكره المتكلّم.

(٥) أي سواء كان ما ذكره المتكلّم أقلّ من عبارة المتعارف ، أو أكثر منها ، أو مساويا لها مثلا : ربّ شخت ويا ربّ قد شخت ، هذه الثّلاثة أقلّ ممّا يقتضيه المقام كما يأتي ، وأوّلها أقلّ من المتعارف ، والثّاني مساو له ، والثّالث أكثر منه.

(٦) أي المتوهّم هو الشّارح الخلخالي ، وحاصل كلامه إنّ المراد بما ذكر في قول المصنّف بأبسط ممّا ذكر ، ما ذكره أنفا ، وهو متعارف الأوساط وهذا غلط ، لأنّه عليه ينحلّ كلام المصنّف لقولنا يرجع الإيجاز أيضا ، إلى اعتبار كون المقام الّذي أورد فيه الكلام الموجز أبسط من المتعارف.

ومحصّل ذلك أنّ الموجز ما كان أقلّ من مقتضى المقام الأبسط من المتعارف ، وهذا صادق بما إذا كان فوق المتعارف ، ودون مقتضى المقام ، أو مساويا للمتعارف ، ودون مقتضى المقام ، أو أقلّ منهما ، ولا يشمل ما إذا كان مقتضى المقام مساويا للمتعارف ، أو انقص ، ففيه قصور ،

٢٢١

المراد بما ذكر متعارف الأوساط وهو (١) غلط لا يخفى على من له قلب (٢) أو ألقى (٣) السّمع وهو شهيد ، يعني (٤) كما أنّ الكلام يوصف بالإيجاز لكونه أقلّ من المتعارف كذلك يوصف به (٥) لكونه أقلّ ممّا يقتضيه المقام بحسب الظّاهر (٦) وإنّما قلنا بحسب الظّاهر لأنّه لو كان أقلّ ممّا يقتضيه المقام ظاهرا وتحقيقا (٧) لم يكن في شيء من البلاغة (٨)

________________________________________

ويلزم على هذا القول أنّ ما كان أقلّ من المتعارف أو مساويا له ، وقد اقتضاه المقام لا يكون الأقلّ منه إيجازا ، مع أنّه إيجاز ، ومن يريد بسط الكلام في هذا المقام فعليه الرّجوع إلى الكتب المبسوطة.

(١) أي ما توهّمه الخلخالي غلط ، لأنّه يلزم على هذا القول أن يكون قول المصنّف ممّا ذكر إظهارا في محلّ الإضمار ، إذ المناسب بأبسط منه ، ولأنّه يكون قاصرا عن بيان المعنيين للإيجاز ، أحدها كون الكلام أقلّ من عبارة المتعارف ، والثّاني كونه أقلّ ممّا هو مقتضى ظاهر المقام على ما بيّنه بقوله «يعني كما أنّ الكلام ...».

(٢) أي عقل كامل صاف عن كدران الوهم ، وشوائب التّقصير في الفهم ، بحيث لا يحتاج في الإدراك والفهم إلى السّمع والإصغاء.

(٣) أي أو يحتاج إلى السّمع والإصغاء إليه وهو شهيد ، أي حاضر القلب غير غافل عمّا ذكره.

(٤) تفسير لتعريف السّكّاكي ، وفيه إشارة إلى بيان الغلط الواقع في كلام الشّارح الخلخالي كما عرفت.

(٥) أي بالإيجاز.

(٦) أي بحسب ظاهر المقام لا بحسب باطنه ، لأنّ باطن المقام يقتضي الاقتصار على ما ذكر ، لأنّه إنّما عدل عمّا يقتضيه الظّاهر لغرض ، كالتّنبيه على قصور العبارة مثلا ، فلذا كان ما هو أقلّ ممّا يقتضيه المقام بحسب الظّاهر بليغا.

(٧) أي وباطنا ، وقوله : «ظاهرا وتحقيقا» منصوب على التّمييز المحوّل عن الفاعل ، أي لأنّه لو كان أقلّ ممّا يقتضيه ظاهر المقام وباطنه لم يكن في شيء من البلاغة.

(٨) أي لعدم مطابقته لمقتضى المقام ظاهرا وباطنا ، وإذا لم يكن في شيء من البلاغة فكيف يوصف بالإيجاز الّذي هو وصف الكلام البليغ؟! أي فلا يوصف بالإيجاز.

٢٢٢

مثاله (١) قوله تعالى : (٢) (تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ)(١) (٣)] الآية ، فإنّه (٤) إطناب بالنّسبة إلى المتعارف أعني قولنا : يا ربّ شخت ، وإيجاز بالنّسبة إلى مقتضى المقام ظاهرا ، لأنّه (٥) مقام بيان انقراض الشّباب وإلمام (٦) المشيب فينبغي أن يبسط فيه (٧) الكلام غاية البسط فللإيجاز (٨) معنيان ،

________________________________________

(١) أي مثال الموجز المفهوم من الإيجاز الرّاجع إلى كون الكلام أقلّ ممّا يقتضيه المقام بحسب الظّاهر.

(٢) أي حكاية عن زكريّا.

(٣) والشّاهد في الآية كونها أقلّ ممّا يقتضيه المقام ، لأنّ المقام يقتضي بسط الكلام كما يأتي من الشّارح توضيح ذلك.

(٤) أي قوله تعالى.

(٥) أي المقام مقام بيان انتهاء الشّباب.

(٦) أي نزول المشيب فهو من عطف اللّازم على الملزوم.

(٧) أي المقام ، أي لكون المقام مقام التّشكّي ممّا ذكر ، ينبغي فيه بسط الكلام غاية البسط بناء على الظّاهر ، كأن يقال : وهن عظم اليد والرّجل ، وضعفت جارحة العين ، ولانت حدّة الأذن ، وهكذا ، ثمّ المراد بالمقام هو مقام التّشكّي إلى الله سبحانه ، فلذا جدير ظاهرا بأن يبسط فيه الكلام ، وأمّا بحسب الباطن فما ذكره هو المناسب للمقام لعدم فرصة إلى أزيد منه ، أو عدم كون الزّائد مناسبا لرعاية الأدب.

(٨) أي إذا عرفت ما ذكرناه من أنّ المنسوب إليه في الإيجاز تارة بجعل المتعارف ، وأخرى بجعل مقتضى المقام بحسب الظّاهر ، فللإيجاز الّذي هو الاختصار عند السّكّاكي معنيان ، هما كون الكلام أقلّ من المتعارف ، وكونه أقلّ ممّا يقتضيه المقام بحسب الظّاهر ، ويلزم من كون الإيجاز له معنيان أن يكون الإطناب كذلك ، لكنّه ترك ذلك لانسياق الذّهن ممّا ذكره في الإيجاز.

__________________

(١) سورة مريم : ٤.

٢٢٣

بينهما (١) عموم من وجه [وفيه (٢) نظر ، لأنّ كون الشّيء نسبيّا لا يقتضي تعسّر تحقيق (٣) معناه] إذ كثيرا ما تحقّق (٤) معاني الأمور النّسبيّة ،

________________________________________

(١) أي بين المعنيين عموم وخصوص من وجه ، فإنّ الأوّل عامّ من جهة عدم تقييده بكونه أقلّ ممّا يقتضيه المقام ، وخاصّ من جهة تقييده بأن يكون أقلّ من متعارف الأوساط ، والثّاني عامّ من جهة عدم تقييده بأن يكون أقلّ من متعارف الأوساط ، وخاصّ من جهة كونه مقيّدا بأن يكون أقلّ ممّا يقتضيه المقام ، فيجتمعان في نحو : ربّ شخت ، لكونه أقلّ من عبارة المتعارف ومقتضى المقام جميعا ، وينفرد الأوّل في نحو قول الصّيّاد : غزال ، عند خوف فوات الفرصة ، وينفرد الثّاني في نحو : يا ربّ شخت.

وبعبارة واضحة إنّهما يتصادقان فيما إذا كان الكلام أقلّ من عبارة المتعارف ، ومن مقتضى المقام جميعا ، كما إذا قيل : ربّ شخت ، بحذف حرف النّداء ، وياء الإضافة ، فإنّه أقلّ من مقتضى الحال ، لاقتضائه أبسط منه ، لكونه مقام التّشكّي من إلمام الشّيب ، وانقراض الشّباب ، وأقلّ من عبارة المتعارف أيضا ، وهي يا ربّي شخت ، بزيادة حرف النّداء وياء الإضافة ، وينفرد المعنى الأوّل في قوله : إذا قال الجيش : نعم ، بحذف المبتدأ ، فإنّه أقلّ من عبارة المتعارف ، وهي هذه نعم فاغتنموها ، وليس بأقلّ من مقتضى المقام ، لأنّ المقام لضيقه يقتضي حذف المبتدأ ، وكما مرّ في نحو قولك للصّيّاد : غزال ، عند خوف فوات الفرصة ، فإنّه أقلّ من المتعارف ، وهو هذا غزال ، وليس بأقلّ ممّا يقتضيه المقام ، لأنّه يقتضي هذا الاختصار ، وينفرد المعنى الثّاني في قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(١) ، فإنّ المقام يقتضي أكثر منه ، كما مرّ والمتعارف أقلّ منه كما لا يخفى.

(٢) أي فيما ذكره السّكّاكي من أنّ الإيجاز والإطناب لكونهما نسبيّين لا يتيسّر الكلام فيهما إلّا بترك التّحقيق نظر.

(٣) أي تحقيق مفهومه ، وتعريفه بما يميّزه عمّا عداه ، والحاصل إنّ المتبادر من كلام السّكّاكي أنّ كون الشّيء نسبيّا يقتضي تعسّر بيان معناه بالتّعريف ، وفيه نظر ، لأنّ كون الشّيء نسبيّا لا يقتضي تعسّر بيان معناه بالتّعريف.

(٤) مضارع مبنى للمفعول.

__________________

(١) سورة مريم : ٤.

٢٢٤

وتعرّف (١) بتعريفات تليق بها (٢) كالأبوّة (٣) والأخوّة وغيرهما (٤) والجواب (٥) أنّه لم يرد تعسّر بيان معناها ، لأنّ (٦) ما ذكره بيان لمعناها بل أراد (٧) تعسّر التّحقيق والتّعيين في أنّ هذا القدر إيجاز وذاك إطناب ، [ثمّ البناء (٨) على المتعارف والبسط الموصوف]

________________________________________

(١) مبني للمفعول.

(٢) أي بالأمور النّسبيّة ، أي تعرّف بتعريفات تليق تلك التّعريفات بالأمور النّسبيّة.

(٣) فإنّهم عرّفوها بكون الحيوان متولّدا من نطفة آخر من نوعه.

(٤) أي غير الأبوّة والأخوّة ، كالبنوّة فإنّهم عرّفوها بكون الحيوان متولّدا من نطفة آخر من نوعه أحدهما يسمّى أبا ، والآخر ابنا ، والأخوّة فإنّهم عرّفوها بكون الحيوان متولّدا هو وغيره من نطفة آخر من نوعهما.

(٥) أي الجواب عن النّظر ، إنّ السّكّاكي لم يرد تعسّر بيان معنى الإيجاز والإطناب بالتّعريف الضّابط لكلّ واحد منهما ، كما فهم المصنّف.

(٦) أي لأنّ ما ذكره السّكّاكي من التّعريف بيان لمعنى الإيجاز والإطناب ، وهو دليل على عدم هذه الإرادة.

(٧) أي بل أراد السّكّاكي بتعسّر التّحقيق تعسّر التّعريف المحتوى على تعيين المقدار لكلّ منهما بحيث لا يزاد عليه ولا ينقص عنه ، وإنّما كان تبيين هذا المقدار متعسّرا ، لتوقّفه على اتّحاد المنسوب إليه ، وهو هنا مختلف.

والحاصل إنّه ليس مراد السّكّاكي بتعسّر التّحقيق تعسّر التّعريف المبيّن لمعنى كلّ منهما كما فهم المصنّف ، واعترض عليه بما ذكر بل مراده بتعسّر التّحقيق تعسّر التّعريف المشتمل على تعيين المقدار لكلّ منهما ، وحينئذ فلا اعتراض ، والدّليل على هذه الإرادة تعريفه لكلّ من الإيجاز والإطناب بعد حكمه بتعسّر تحقيقهما الّذي هو الامتناع.

(٨) أي هذا اعتراض ثان على السّكّاكي ، وحاصله إنّ ما ذكره السّكّاكي في تعريف الإيجاز والإطناب من جعلهما مبنيّين على المتعارف والبسط الموصوف ، أي بأن يكون مقتضى المقام أبسط ممّا ذكره المتكلّم ردّ إلى الجهالة ، وذلك لعدم العلم بكميّة متعارف الأوساط ، وكيفيّته ، وبأنّ كلّ مقام أيّ مقدار يقتضي من البسط حتّى يقاس عليه كلامه المتكلّم ، وهذا فاسد ، فإنّ شأن التّعريف الإخراج من الجهالة لا الرّدّ إليها «ثمّ البناء على المتعارف»

٢٢٥

بأن يقال (١) الإيجاز هو الأداء بأقلّ من المتعارف أو (٢) ممّا يليق بالمقام من (٣) كلام أبسط من الكلام المذكور [ردّ (٤) إلى الجهالة] إذ (٥) لا تعرف كميّة (٦) متعارف الأوساط وكيفيّتها (٧)

________________________________________

كما هو مقتضى جعل الإيجاز والإطناب مبنيّين على متعارف الأوساط ، ومقيسين إليه ، «والبسط الموصوف» ، أي البناء على الكلام المبسوط اللّائق بالمقام ، كما هو مقتضى جعلهما مبنيّين على مقتضى المقام ، ومقيسين عليه.

(١) أي يقال في البناء على المتعارف ، الإيجاز هو أداء المقصود بأقلّ من المتعارف والإطناب أداؤه بأكثر منه ، أي من المتعارف.

(٢) عطف على قوله : «من المتعارف» ، وهذا بيان للبناء على البسط ، وحاصله أن يقال الإيجاز أداء المقصود بأقلّ ممّا يليق بالمقام ، والإطناب أداؤه بأكثر منه.

(٣) بيان لما يليق بالمقام ، أي الّذي هو كلام أبسط من الكلام الّذي ذكره المتكلّم.

(٤) أي إحالة على أمر مجهول ، فالجهالة مصدر بمعنى اسم المفعول ، وحاصل الاعتراض الثّاني على السّكّاكي أنّ ما ذكره السّكّاكي من البناء على المتعارف ... ردّ إلى الجهالة لأنّه تعريف الشّيء بما هو أخفى منه ، مع أنّ المقصود هو الإخراج من الجهالة.

(٥) علّة لمحذوف ، أي وإنّما كان في البناء على الأوّل ، وهو متعارف الأوساط ردّ إلى الجهالة ، لأنّه لا تعرف كميّة متعارف الأوساط ...

وحاصله إنّ تصوّر التّعريف متوقّف على تصوّر أجزائه الإضافيّة وغيرها ، والمتعارف المذكور في التّعريف لم يتصوّر قدره ، ولا كيفه ، فيزداد بذلك جهل المستفيد ، فيكون التّعريف المذكور فيه لفظ المتعارف فاسدا ، لكونه تعريفا بمجهول ، ثمّ إنّ معرّفة الكيفيّة وإن لم تتعلّق بالإيجاز والإطناب والمساواة إلّا أنّ عدمه موجب لزيادة الجهل في المتعارف المأخوذ في التّعريف ، ويمكن أن يكون المراد بالكيفيّة كون كلماته طويلة أو قصيرة ، فإذا يضرّ الجهل به فيما هو المقصود أيضا.

(٦) المراد بكميّة متعارف الأوساط عدد كلمات عبارتهم هل أربع كلمات أو خمس.

(٧) أي كيفيّة الألفاظ الّتي هي متعارف الأوساط ، كتقديم بعض الكلمات وتأخير بعضها.

٢٢٦

لاختلاف (١) طبقاتهم (٢) ولا يعرّف (٣) أنّ كلّ مقام ، أيّ مقدار يقتضي من البسط حتّى يقاس عليه (٤) ويرجع إليه والجواب أنّ (٥) الألفاظ قوالب المعاني ، والأوساط الّذين لا يقدّرون في تأدية المعاني على اختلاف العبارات والتّصرف في لطائف الاعتبارات

________________________________________

(١) علّة لقوله لا تعرّف ، أي لا تعرّف ذلك ، لاختلاف مراتب الأوساط ، فمنهم من يعبّر عن المقصود بعبارة قصيرة ، ومنهم من يعبّر عنه بعبارة طويلة.

(٢) أي درجاتهم ومراتبهم.

(٣) عطف على قوله : «إذ لا تعرّف» ، وهذا بيان لكون البناء على البسط فيه ردّ للجهالة ، وحاصله إنّ كون المقام يقتضي كذا وكذا ، لا أقلّ ولا أكثر ، ممّا لا ينضبط فلا يكاد يعرف لتفاوت المقامات كثيرا ، ومقتضياتها مع دقّتها ، فقوله : «لا يعرّف أنّ كلّ مقام أيّ مقدار ...» ، أي ولا يعرّف جواب أنّ كلّ مقام ، والمراد بالمعرفة المنفيّة هنا ، وفيما مرّ المعرفة التصوّريّة ، وقوله : «أيّ مقدار» مفعول مقدّم ل «يقتضي» ، وقوله : «من البسط» أي من ذي البسط ، وأصل التّركيب ولا يعرف جواب أنّ كلّ مقام يقتضي ، أيّ مقدار من الكلام المبسوط حتّى يقاس عليه ، فيحكم بأنّ المذكور أقلّ منه أو أكثر ، وهذا غاية للمنفيّ ، وهو المعرفة من قوله : «ولا يعرّف».

(٤) أي يقاس على القدر الّذي يقتضيه المقام ، وقوله : «ويرجع إليه» عطف تفسير على قوله : «ويقاس عليه».

(٥) هذا جواب عن الأوّل ، أعني البناء على المتعارف ، ويأتي عن الثّاني ، أعني البناء على البسط ، وحاصل الجواب عن الأوّل أنّا لا نسلّم أنّ المتعارف غير معروف ، بل يعرفه كلّ واحد من البلغاء وغيرهم ، وذلك لأنّ الألفاظ قوالب المعاني فهي على قدرها بحسب الوضع ، بمعنى أنّ كلّ لفظ بقدر معناه الموضوع له ، فمن عرف وضع الألفاظ ولو كان عاميّا عرف ، أي معنى يفرغ في ذلك القالب من اللّفظ ، ضرورة أنّ المعنى الّذي يكون على قدر اللّفظ هو ما وضع له مطابقة ، فإذا أراد تأدية المعنى الّذي قصده عبّر عنه باللّفظ الموضوع له من غير زيادة ولا نقص.

فالتّصرف في العبارة بما يوجب طولها وقصرها من اللطّائف والدّقائق الزّائدة على أصل الوضع ، شأن البلغاء والمحقّقين ، ولا يتوقّف متعارف الأوساط ، واستعماله على ذلك ،

٢٢٧

لهم (١) حدّ من الكلام يجري فيما بينهم في المحاورات والمعاملات ، وهذا (٢) معلوم للبلغاء وغيرهم ، فالبناء على المتعارف واضح بالنّسبة إليهما (٣) جميعا وأمّا (٤) البناء على البسط الموصوف ، فإنّما هو معلوم للبلغاء العارفين بمقتضيات الأحوال بقدر ما يمكن لهم ، فلا يجهل عندهم (٥) ما يقتضيه كلّ مقام من مقدار البسط [والأقربّ (٦)]

________________________________________

وحينئذ فمتعارف الأوساط معروف للبلغاء وغيرهم ، ومحدود معيّن عندهم في كلّ حادثة ، وهو اللّفظ الموجود للمعنى الّذي أريد تأديته ، وحيث كان المتعارف محدودا معيّنا فيقاس به ، ويصحّ التّعريف به ، ولا يكون في البناء عليه رد للجهالة ، لوضوحه بالنّسبة للبلغاء وغيرهم.

(١) أي للأوساط حدّ ، فالأوساط مبتدأ وخبره قوله : «لهم حدّ» ، وقوله : «على اختلاف العبارات» ، أي على الإتيان بعبارات مختلفة بالطّول والقصر عند إفادة المعنى الواحد ، وقوله : «والتصرّف» عطف على اختلاف عطف سبب على مسبّب ، أي ولا يقدرون على التّصرف في العبارات بمراعاة النّكات اللطّيفة المعتبرة ، أي الّتي شأنها أن تعتبر.

(٢) أي الحدّ الّذي لا يتعدّى الدّلالة الوضعيّة معلوم للبلغاء وغيرهم.

(٣) أي البلغاء وغيرهم ، وحينئذ لا يكون في البناء على متعارف الأوساط ردّ إلى الجهالة لوضوحه للبلغاء وغيرهم ، وظهر لك ممّا قلناه أنّ القدرة على تأدية المعنى الواحد بعبارات مختلفة في الطّول والقصر ، إنّما هو شأن البلغاء ، بخلاف الأوساط ، فإنّ لهم في إفادة كلّ معنى حدّا معلوما من الكلام ، يجري فيما بينهم يدلّ عليه بحسب الوضع ، ولا قدرة لهم على أزيد من ذلك ولا أنقص.

(٤) أي هذا شروع في جواب الاعتراض الثّاني ، وحاصله إنّ البناء على البسط مقصور على البلغاء ، لا يتجاوزهم إلى غيرهم ، ولا نسلّم عدم معرفة البلغاء لما يقتضيه كلّ مقام عند النّظر فيه ، وحينئذ يكون التّعريف بما فيه البسط الموصوف ليس فيه ردّ للجهالة للعلم بالبسط الموصوف عند البلغاء ، فإذا لا حزازة في التّعريف ، لأنّه لهم وهم عارفون بما يقتضيه المقام.

(٥) أي البلغاء لأنّهم يعرفون ، أي مقام يقتضي البسط ، ويعرفون مقدار البسط في كلّ مقام.

(٦) قد يقال : إنّ التّعبير بالأقرب لا أساس له لوجهين : الأوّل أنّه يدلّ على كون ما ذكره السّكّاكي قريبا إلى الصّواب ، وهذا مناف لغرض المصنّف ، فإنّه شدّد النّكير عليه وبيّن فساده.

٢٢٨

إلى الصّواب [أن يقال المقبول (١) من طرق التّعبير عن المراد تأدية أصله (٢) بلفظ مساو له] أي الأصل المراد (٣)

________________________________________

والثّاني : إنّه يدلّ على أنّ ما ذكره ليس بصواب بل أقرب إليه ، وهذا ليس غرضه ، فإنّه قد أصرّ على ما أفاده أسس بنيانه على القطع والجزم بأنّه صواب.

ويمكن الجواب عنه بأنّ (أفعل) هنا لم يقصد منه التّفضيل ، وإنّما المراد به القريب إلى الصّواب ، فلا مجال للاعتراض الأوّل ، هذا وإن كان على خلاف الظّاهر إلّا أنّه لا مانع من الحمل عليه عند وجود قرينة ، وهي في المقام سبق النّظر منه على السّكّاكي ، وإنّ المراد من القريب إلى الصّواب كونه إيّاه ، وهذا التّعبير ليس بغريب ، فإنّه كثيرا ما يراد من القرب إلى الشّيء كونه نفسه ، كما في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١) ، فإنّ العدل هو التّقوى ، وهذا أيضا وإن كان على خلاف الظّاهر إلّا أنّه لا مانع من الحمل عليه لوجود قرينة ناطقة به ، وهو إصرار المصنّف على صحّة ما بيّنه.

(١) خرج بقوله : «المقبول» ، الإخلال والتّطويل والحشو مفسدا أو غير مفسد ، فإنّ هذه وإن كانت طرقا للتّعبير عن المراد إلّا أنّها غير مقبولة ، وحاصل ما ذكره الشّارح صريحا وما أشار إليه المصنّف منطوقا ومفهوما ، أنّ هنا ستّة طرق ، لأنّ المراد إمّا أنّ يؤدّي بلفظ مساو له أولا ، والثّاني إمّا أن يكون ناقصا عنه ، أو زائدا عليه ، والنّاقص إمّا واف أو غير واف ، والزّائد إمّا لفائدة أولا ، والثّاني إمّا الزّائد فيه معلوم وإمّا غير معلوم ، فهذه ستّة طرق ، المقبول منها ثلاثة ، وهي ما أدّى بلفظ مساو أو بناقص مع الوفاء ، أو بزائد لفائدة ، والثّلاثة الباقية مردودة ، سيّما الأخير إذا كان مشتملا على إيهام خلاف المقصود ، وتسمّى الطّرق المقبولة بالإيجاز والمساواة والإطناب ، وغير المقبولة بالإخلال والتّطويل والحشو.

(٢) أي أصل المراد ، والإضافة بيانيّة ، أي تأدية الأصل الّذي هو المراد.

(٣) إنما زاد لفظ الأصل للإشارة إلى أنّ المعتبر والمقيس عليه في المساواة والإيجاز والإطناب هو المعنى الأوّل اللّغوي ، الّذي يدلّ عليه اللّفظ وضعا بالمطابقة ، لا مطلق المراد ، فإنّه يختلف باختلاف المتكلّمين والمقامات ، فلا وجه لجعله مقيسا عليه ، كما أن مطلق الكلام كذلك ، والمعنى اللّغوي المطابقي هو الّذي يبرزه الأوساط غالبا بالألفاظ الدّالّة عليه

__________________

(١) سورة المائدة : ٨.

٢٢٩

[أو (١)] بلفظ [ناقص عنه واف ، أو (٢) بلفظ زائد عليه لفائدة] فالمساواة أن يكون اللّفظ بمقدار أصل المراد ، والإيجاز أن يكون ناقصا عنه وافيّا به ، والإطناب أن يكون زائدا عليه لفائدة [واحترز (٣) بواف عن الإخلال] ، وهو (٤) أن يكون اللّفظ ناقصا عن أصل المراد غير واف به [كقوله (٥) : والعيش خير في ظلال (٦) النّوك]

________________________________________

مطابقة ، ومن ذلك قلنا : إنّ ما صنعه المصنّف قريب ممّا صنعه السّكّاكي ، فقولنا : جاءني إنسان ، وجاءني حيوان ناطق ، كلاهما من باب المساواة ، وإن كان بينهما تفاوت من حيث الإجمال والتّفصيل ، والقول بأنّ أحدهما إيجاز والآخر إطناب وهم ، فالمساواة هي تأدية أصل المراد بلفظ مساو لأصل المراد.

(١) أي أو تأدية أصل المراد بلفظ ناقص عن المراد ، بأن يؤدّي بأقلّ ممّا وضع لأجزائه ، واف بذلك المراد ، وهذه التأدية هي الإيجاز ، فهو تأدية أصل المراد بلفظ ناقص واف ، واحترز بقوله : «واف» عن الإخلال.

(٢) أي أو تأدية اصل المراد بلفظ زائد عليه بأن يكون أكثر ممّا وضع لأجزائه مطابقة لفائدة ، وهذه التأدية هي الإطناب ، فهو تأدية أصل المراد بلفظ زائد عليه لفائدة ، واحترز بقوله :

«لفائدة» عن التّطويل والحشو ، كما سيأتي.

(٣) قوله : «واحترز» مبنيّ للمفعول.

(٤) أي الإخلال أن يكون اللّفظ ناقصا عن أصل المراد غير واف به لخفاء دلالته بحيث يحتاج فيها إلى تكلّف وإعمال نظر ، ووجه الاحتراز عن الإخلال أنّ المراد بالوفاء في الإيجاز أن تكون الدّلالة على ذلك المراد مع نقصان اللّفظ واضحة في تراكيب البلغاء ، ظاهرة لا خفاء فيها.

(٥) أي كقول الحارث بن حلزة اليشكري ، بكسر الحاء المهملة ، وتشديد اللّام وكسرها ، والزّاي المعجمة المفتوحة ، واليشكري نسبة لبني يشكر ، بطن من بكر بن وائل ، وهو من شعراء الجاهليّة.

(٦) الظّلال جمع ظلّة بالضّمّ ، وهي ما يتظلّل به كالخيمة ، النّوك بالنّون ثمّ الواو كقفل وفلس بمعنى الحمق ، وإضافة ظلال إليه من إضافة المشبّه به إلى المشبّه بمعنى أنّه شبّه النّوك بالظّلال بجامع الاشتمال ، ثمّ أضيف المشبّه به إلى المشبّه قصدا للمبالغة ، الكدّ بفتح الكاف وتشديد الدّال المهملة بمعنى التّعب ، الكد بمعنى المكدود ، أي المتعوب.

٢٣٠

أي الحمق والجهالة [ممن عاش كدّا] أي خير ممّن عاش مكدودا متعوبا (١) [أي (٢) النّاعم وفي ظلال العقل] يعني أنّ أصل المراد أنّ العيش النّاعم في ظلال النّوك خير من العيش الشّاقّ في ظلال العقل (٣) ولفظه (٤) غير واف بذلك ، فيكون (٥) مخلا فلا يكون (٦) مقبولا

________________________________________

والشّاهد في البيت كونه مشتملا على الإخلال ، وذلك لأنّه يفيد أنّ العيش في حال الجهل سواء كان ناعما أو لا ، خير من عيش المكدود سواء كان عاقلا أولا ، وليس هذا مراد الشّاعر ، بل مراده أنّ العيش النّاعم فقطّ مع رذيلة الجهل ، والحماقة خير من العيش الشّاق مع فضيلة العقل ، والبيت غير واف بهذا المعنى المراد ، لأنّ اعتبار النّاعم في الأوّل ، وفي ظلال العقل في الثّاني لا دليل عليه لفظا ، وإنّما يفهمه السّامع بعد التّأمل والدقّة والتّوجه ، وبعد التّوجه قدّر النّاعم في المصراع الأوّل ، وفي ظلال العقل في المصراع الثّاني ، وينتقل إلى هو مقصود الشّاعر ، فالبيت مردود لاشتماله على الإخلال.

(١) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ المصدر بمعنى اسم المفعول حال عن فاعل «عاش».

(٢) أي هذا التّفسير من المصنّف إشارة إلى حذف صفة في المصراع الأوّل ، والتّقدير والعيش النّاعم ، وحذف حال في المصراع الثّاني ، والتّقدير ممّن عاش كدّا في ظلال العقل ، وكلّ منهما لا يعلم من الكلام بسهولة ، ولأجل ذلك أصبح مردودا لاشتماله على الإخلال.

(٣) وذلك لأنّ الجاهل الأحمق يتنعّم على أيّ وجه ، ولا يضيق على نفسه بشيء ، ولا يتأمّل في عواقب أموره من الموت ، والقيامة فيجد للعيش لذّة ، بخلاف العاقل فإنّه يتأمّل في العواقب والآفات والفناء والممات ، فلا يجد للعيش لذّة.

(٤) أي لفظ البيت «غير واف بذلك» ، أي بالمعنى المراد لعدم فهم هذين القيدين منه بسهولة.

(٥) أي فيكون لفظ البيت مخلا لعدم وفائه بالمعنى المراد.

(٦) أي فلا يكون البيت مقبولا ، لأنّ العيش وهو العامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وهو العيش النّاعم.

٢٣١

[و] احترز (١) [بفائدة عن التّطويل (٢)] وهو أن يزيد اللّفظ على أصل المراد لا (٣) لفائدة ولا يكون اللّفظ الزّائد متعيّنا (٤) [نحو قوله (٥):] وقدّدت (٦) الأديم لراهشيه* [وألفى] أي وجد [قولها كذبا ومينا (٧)] والكذب والمين واحد (٨) قوله : قدّدت ، أي قطعت ، والرّاهشان العرقان في باطن الذّراعين (٩) والضّمير في راهشيه وفي ألفى لجذيمة (١٠)

________________________________________

(١) مبنيّ للمفعول.

(٢) أي وهو في اللّغة الإسهاب ، أي إطالة الكلام سواء كانت لفائدة أولا ، وفي الاصطلاح هو أن يكون اللّفظ زائدا على أصل المراد لا لفائدة.

(٣) خرج به الإطناب ، لأن الزّائد فيه لفائدة.

(٤) خرج به الحشو حيث يكون اللّفظ الزّائد فيه متعيّنا ، كقولك : فاعلم علم اليوم ، والأمس قبله ، فلفظ قبله حشو ، لأنّ الأمس يدلّ على القبليّة لليوم ، لدخول القبليّة في مفهوم الأمس ، لأنّه اليوم الّذي قبل يومك.

(٥) أي قول عديّ بن زياد العبادي من شعراء الجاهليّة.

(٦) قدّدت بالقاف والدّالين المهملتين أوّلهما مشدّدة من القدّ ، بمعنى القطع ، أي قطعت الأديم ، الأديم بالدّال المهملة بمعنى الجلد ، الرّاهش بالرّاء المهملة والشّين المعجمة بمعنى العروق ، لراهشيه تثنية اللّام بمعنى إلى الّتي للغاية ، والمعنى أي قطعت الجلد الملاصق للعروق إلى أن وصل القطع للرّاهشين.

والشّاهد في قوله : كذبا ومينا ، حيث إنّ أحدهما لا على التّعيين زائد.

(٧) والكذب والمين بمعنى واحد ، فلا فائدة في الجمع بينهما.

لا يقال : فائدته التّأكيد ، لأنّ عطف أحد المترادفين على الآخر يفيد تقرير المعنى في الأذهان.

لأنّا نقول : بأنّ التّقرير هنا لا أساس له ، لأنّ المراد منه الأخبار بأنّ جذيمة قد غدرت به الزّبّاء ، وقطعت راهشيه ، وسال منه الدّم حتّى مات ، وأنّه وجد ما وعدته به من تزوّجه كذبا ، وليس المقام مقتضيا لتأكيد الكذب ، وتقريره في الأذهان.

(٨) أي وهما بمعنى واحد.

(٩) ينزف الدّم منهما عند القطع.

(١٠) هو بفتح الجيم بصيغة المكبّر ، وبضمّها بصيغة المصغّر ، كان من العرب الأولى ،

٢٣٢

الأبرش (١) وفي قدّدت وفي قولها للزّبّاء (٢) والبيت في قصّه قتل الزّبّاء لجذيمة ، وهي (٣) معروفة [و] احترز أيضا بفائدة [عن الحشو (٤)] وهو زيادة معيّنة لا لفائدة [المفسد] للمعنى [كالنّدى (٥) في قوله : ولا فضل فيها] أي في الدّنيّا : [للشّجاعة والنّدى (٦) * وصبر الفتى لو لا لقاء شعوب]

________________________________________

وكان بعد عيسى صلوات الله وسلامه عليه بثلاثين سنة ، وتولّى الملك بعد أبيه ، وهو أوّل من ملك الحيرة ، وكان ملكه متّسعا ، وكان يغيّر على ملك الطّوائف حتّى غلب على كثير ممّا في أيديهم ، وهو أوّل من أوقد الشّمع ، ونصب المجانيق للحرب.

(١) البرش في الأصل نقط يخالف لونها لون سائر الفرس ، ثمّ نقل للأبرص ، وقيل لذلك الرّجل الأبرش لبرص كان به ، فهابت العرب أن تصفه بذلك ، فقالوا : الأبرش.

(٢) وهي امرأة تولّت الملك بعد أبيها.

(٣) أي القصّة معروفة ، وحاصلها أنّ جذيمة قتل أبا الزّبّاء ، وغلب على ملكه وكانت الزّبّاء عاقلة ، فبعثت إليه بأنّ ملك النّساء لا يخلو من ضعف في السّلطان ، فأردت رجلا أضيف إليه ملكي وأتزوّجه فلم أجد كفؤا غيرك ، فأقدم عليّ لذلك ، فطمع في زواجها لأجل أنّ يتّصل ملكه بملاكها ، فتوجّه إليها ، ولمّا حضر غير مستعدّ للحرب في أبواب حصنها ، فأدخلته الزّبّاء في بيتها فأمرت بشدّ عضديه ، ثمّ أمرت برواهشه فقطعت ، والقصّة طويلة لخّصتها خوفا من التّطويل.

(٤) وهو في اللّغة بمعنى الملأ ، يقال حشّ الوسادة بالقطن ، أي ملأها به ، وفي الاصطلاح هو زيادة معيّنة لا لفائدة ، وبعبارة أخرى الحشو هو أن يزاد في الكلام زيادة بلا فائدة بشرط تعيّن تلك الزيادة ، فالفرق بين الحشو والتّطويل هو تعيين الزّيادة في الأوّل ، دون الثّاني ثمّ الحشو على قسمين أحدهما المفسد ، وثانيهما غير المفسد.

(٥) أي كلّفظ النّدى في بيت أبي الطّيب المتنبّي

(٦) النّدى بالنّون والدّال المهملة كفتى ، بمعنى الكرم والجود والعطاء ، اللّقاء بالقاف واللّام مصدر لقي ، الشّعوب بالشّين المعجمة والعين المهملة كصبور ، اسم من أسماء المنيّة سمّيت بذلك للتّشعّب ، أي التّفرق بها ، وهو علم على جنسها ، فهو ممنوع من الصّرف للعمليّة والتّأنيث ، وإنّما صرفها الشّاعر حيث جرّها بالكسر من دون تنوين

٢٣٣

هي علم للمنيّة صرفها (١) للضّرورة ، وعدم الفضيلة على تقدير عدم الموت (٢) إنّما يظهر في الشّجاعة والصّبر ، لتيقّن الشّجاع بعدم الهلاك (٣) وتيقّن الصّابر بزوال المكروه (٤) بخلاف الباذل ماله إذا تيقّن بالخلود وعرف احتياجه إلى المال دائما ، فإنّ بذله حينئذ أفضل (٥) ممّا إذا تيقّن بالموت ، وتخليف المال (٦)

________________________________________

للضّرورة ، وهي موافقة القوافي.

والشّاهد في النّدى : حيث إنّه حشو مفسد ، كما بيّنه الشّارح ، وأمّا كونه حشوا لأنّه زائد على أصل المراد من كلامه ، وهو تهوين أمر المنيّة بما تظهره من فضل المكارم الّتي يكمل بها الإنسان ، وأمّا كونه مفسدا فقد بينه الشّارح.

وحاصل ما ذكره الشّارح أنّه لو لا العلم بالموت لما كانت الشّجاعة مع اليقين بالخلود من الفضائل ، لأنّ الشّجاعة معناها إلقاء النّفس في لهوات المنايا فإذا انتفت المنيّة بالفرض انتفت الشّجاعة ، وكذا الصّابر مع تيقّن البقاء والدّوام قاطع تقريبا بتبدّل حاله من عسر إلى يسر ، فيكون الصّبر من كلّ أحد ، فالشّجاعة والصّبر فضيلتان مع القول بالفناء واليقين بالموت ، لما فيهما من الإقدام على الموت والمكروه للنّفس ، ولو كان الإنسان يعلم أنّه مخلّد لما كان له في الشّجاعة فضل ، وأمّا النّدى فبالعكس ، لأنّ الموت سبب يسهل النّدى ، ولا يجعل له فضلا ، لأنّ من علم أنّه يموت جدير بأن يجود بماله ، وأمّا القاطع بالبقاء والخلود إذا بذل ماله ودرهمه كان هو الكريم السّخي إنصافا ، ففضل النّدى إنّما يكون باعتقاد الخلود ، بخلاف الشّجاعة والصّبر فضمّه إليهما في سلك واحد خطاء واشتباه.

(١) أي صرف الشّعوب الشّاعر للضّرورة ، مع كونها ممنوعة من الصّرف لما ذكرناه.

(٢) قوله : وعدم الفضيلة ... ، بيان لمفهوم البيت ، وتقرير لما يرد على قوله : والنّدى ، من كونه حشوا مفسدا للمعنى كما عرفت.

(٣) أي فلا يكون له فضل باقتحامه الدّخول في المعركة ، لاستواء النّاس جميعا في ذلك.

(٤) أي بحسب العادة ، وعدم الهلاك بتلك الشّدّة ، فلا فضل فيه لأنّ النّاس كلّهم إذا تيقّنوا ذلك صبروا حرصا على فضيلة عدم الجزع.

(٥) أي لأنّ الخلود يوجب الحاجة لزيادة المال.

(٦) أي لأنّه جدير بأن يجود بماله ، لأنّ بذله برضاه خير من أنّ يؤخذ منه بقسر ، وإجبار بالموت.

٢٣٤

وغاية (١) اعتذاره ما ذكره الإمام ابن جنّي (٢) وهو أنّ في الخلود وتنقّل الأحوال فيه (٣) من عسر إلى يسر ، ومن شدّة إلى رخاء ما يسكّن النّفوس ويسهّل البؤس (٤) فلا يظهر لبذل المال كثير (٥) فضل [و] عن الحشو (٦) [غير المفسد] للمعنى [كقوله (٧) : وأعلم علم (٨) اليوم والأمس قبله] ولكنّني (٩) عن علم ما في غد عمي ، فلفظ قبله ، حشو غير مفسد ،

________________________________________

(١) أي ما يمكن أن يقال في الجواب عن هذا الإشكال في البيت أنّ غاية اعتذاره ، أي الشّاعر ، وقيل إنّ الضمّير عائد على الحشو والكلام ، من باب الحذف والإيصال ، أي غاية الاعتذار عن ذلك الحشو ، بحيث يخرجه عن الفساد ، فحذف الجارّ واتّصل الضّمير بالمصدر.

(٢) أي ما ذكره ابن جني في شرح ديوان المتنبّي ، وحاصل ذلك الاعتذار أنّ نفي الموت ممّا يوجب رجاء الانتقال من عسر إلى يسر ، ومن فقر إلى غنى حسبما جرت به عادة الزّمان الطّويل ، وذلك ممّا يحمل على الكرم لكلّ أحد فينتفي الفضل عن الكرم على تقدير نفي الموت ، لأنّ الإنسان إذا تيقّن الخلود أنفق وهو موقن بالخلف ، لكونه يعلم أنّ الله يخلفه وينقله من حالة العسر إلى حالة اليسر ، بخلاف ما إذا أيقن بالموت ، فإنّه لا يوقن بالخلف لاحتمال أن يأتيه الموت فجأة قبل تغيّر حاله ، وحينئذ فيثبت الفضل للبذل على تقدير وجود الموت.

(٣) أي في الخلود.

(٤) أي الشّدّة.

(٥) أي فضيلة كثيرة كالشّجاعة والصّبر ، فلا يكون النّدى حشوا مفسدا.

(٦) هذا إشارة إلى أنّ قوله : «غير المفسد» عطف على «المفسد» أي احترز بقوله : «لفائدة» عن الحشو غير المفسد للمعنى.

(٧) أي قول زهير بن أبي سلمى من شعراء الجاهليّة.

(٨) مصدر مبيّن للنّوع ، أي أعلم علما متعلّقا بهذين اليومين ، أو أنّه مفعول به بناء على أنّ المراد بالعلم هو المعلوم ، أي أعلم المعلوم ، أي الأمر الواقع في هذين اليومين.

(٩) أي ولكنّني عن علم ما في غد ، أي عن علم الواقع في غد عمي ، أي جاهل ، ومعنى البيت أنّ علمي يحيط بما مضى ، وبما هو حاضر ، ولكنّني جاهل عمّا يقع في المستقبل ، أي لا ادري ماذا يكون غدا ، والشّاهد : في قبله ، حيث يكون حشوا ، أي زائدا على أصل المراد

٢٣٥

وهذا (١) بخلاف ما يقال أبصرته بعيني وسمعته بأذني ، وكتبته بيدي في مقام يفتقر إلى التّأكيد

[المساواة (٢)]

قدّمها (٣) لأنّها (٤) الأصل المقيس عليه [نحو : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(١) (٥)]

________________________________________

لا لفائدة ، لأنّ الأمس يدلّ على القبليّة لليوم لدخولها في مفهومه ، فيكون كالمين بالقياس إلى الكذب ، نعم ، هو غير مفسد ، لأنّه لا يبطل بوجوده المعنى.

(١) أي قبله ، وقوله : «هذا بخلاف ما يقال ...» ، دفع لما يقال من أنّه لماذا لم يجعل قبله بمنزلة عيني وأذني ويدي للتّأكيد ، فلا يكون حشوا.

وبعبارة واضحة إنّ زيادة «قبله» في البيت بمنزلة زيادة الأذن واليد والعين ، لأنّ السّمع ليس إلّا بالأذن والكتابة ليس إلّا باليد ، والإبصار ليس إلّا بالعين ، فكما لم يجعلوا ذلك حشوا ، بل جعلوه تأكيدا كذلك قبله.

وحاصل الجواب إنّ التّأكيد إنّما يكون عند خوف الإنكار ، أو وجوده ، أو تجويز الغفلة ، أو نحو ذلك ، ولا يصحّ شيء من ذلك هنا ، فزيادة «قبله» ليست لقصد التّأكيد لعدم اقتضاء المقام له ، بخلاف زيادة اليد والأذن والعين في المثال ، فإنّها لقصد التّأكيد ، وذلك لأنّ الإبصار قد يكون بالقلب ، فدفع بقوله : بعيني ، إرادته ، وقد يطلق السّمع على العلم ، فدفع بقوله : بإذني إرادته ، وقوله : كتبت ، قد يستعمل بمعنى أمرت بالكتابة ، فدفع بقوله : بيدي إرادته ، والحاصل إنّ التّأكيد إن اقتضاه المقام كما في الأمثلة المذكورة كان لفائدة لا حشوا ، وإلّا كان حشوا كما في البيت.

(٢) هذا شروع في الأمثلة بعد التّعريف.

(٣) أي قدّم المساواة على الإيجاز والإطناب في مقام التّمثيل.

(٤) أي المساواة الأصل ، أي أصل يقاس عليه الإيجاز والإطناب عند السّكّاكي ، ثمّ وجه تقديمها عليهما عند المصنّف قلّة مباحثها.

(٥) الإعراب : (وَ) حرف عطف ، (لا) حرف نفي ، (يَحِيقُ) بمعنى ينزل فعل مضارع ، (الْمَكْرُ السَّيِّئُ) نعت ومنعوت فاعل (يَحِيقُ) ، والتّوصيف بالشّيء لإخراج المكر الحسن ، وهو

__________________

(١) سورة فاطر : ٤٣.

٢٣٦

[وقوله (١):] فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي وإن (٢) خلت أنّ المنتأى عنك واسع] ، أي موضع البعد عنك ذو سعة ، شبّه (٣) في حال سخطه وهو له (٤) باللّيل ، قيل في الآية : حذف المستثنى منه (٥) وفي البيت حذف جواب الشّرط (٦) فيكون كلّ منهما إيجازا لا مساواة.

________________________________________

مكر المؤمن وتفكره في أمر دينه ، (إِلَّا) حرف استثناء مفرّغ ، (بِأَهْلِهِ) متعلّق ب (يَحِيقُ) ، والجملة عطف على سابقتها ، والشّاهد كونها مساو لأصل المراد ، والمعنى : ولا يحيق ، أي لا ينزل المكر السّيئ إلّا بأهله ، أي إلّا بمستحقّه بعصيانه وكفره.

(١) أي قول النّابغة الذّبياني في مدح أبي قابوس ، وهو النّعمان بن المنذر ، ملك الحيرة ، حين غضب عليه ، وقد كان من ندمائه ، وأهل أنسه ، فمدحه بأنّ مطروده لا يفرّ منه ، ولو بعد في المسافة ، لأنّ له أعوانا في محلّ قرب أو بعد ، يأتون به إليه ، فمتى ذهبت لمكان أدركه كاللّيل.

(٢) أي ظننت ، و «المنتأى» بالنّون السّاكنة والتّاء المفتوحة والهمزة الممدودة ، محلّ الانتياء ، وهو البعد مأخوذ من انتأى عنه ، أي بعد ، فهو اسم مكان ، وعليه فلا يتعلّق به الجار والمجرور ، لأنّ اسم المكان لا يعمل ، ولا في الظّرف على الصّحيح ، وحينئذ ف «عنك» متعلّق ب «واسع» ، لتضمّنه معنى البعد ، وظاهر كلام المصنّف أنّه متعلّق بالمنتأى ، حيث قال : أي موضع البعد عنك ذو سعة ، وأجيب بأنّه علي رأي من جوّز عمله في الظّرف. والشّاهد في البيت كونه مساويا للمعنى المراد.

(٣) أي شبّه الشّاعر الممدوح حال سخطه ، أي غضب المحبوب.

(٤) أي تخويفه له ، أي شبّه السّلطان حال كونه في تلك الحالة ، وهذه إنّما يناسبها التّشبيه باللّيل بجامع الكدورات.

(٥) أي كان التّقدير لا يحيق المكر السّيئ بأحد إلّا بأهله.

(٦) أي لأنّ التّقدير ، وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع ، أي فأنت مدرك لي فيه ، وجعل جواب الشّرط محذوفا بناء على مذهب البصريّين من أنّ الجواب لا يتقدّم ، وإلّا فلا حذف لكون الجواب هو المقدّم.

٢٣٧

وفيه (١) نظر ، لأنّ اعتبار هذا الحذف رعاية لأمر لفظي لا يفتقر إليه في تأدية أصل المراد (٢) حتّى لو صرّح به (٣) لكان إطنابا (٤) بل تطويلا (٥) وبالجملة (٦) لا نسلّم أنّ لفظ الآية والبيت ناقص عن أصل المراد.

[والإيجاز

ضربان (٧) ،

________________________________________

(١) أي في هذا القيل نظر ، لأنّ اعتبار هذا الحذف في الآية والبيت «لأمر لفظي» ، المراد بالأمر اللّفظي ما لا يتوقّف إفادة المعنى عليه في الاستعمال ، وإنّما جرّ إلى تقديره مراعاة القواعد النّحويّة الموضوعة لسبك تراكيب الكلام ، وسمّي ذلك أمرا لفظيّا لعدم توقّف تبادر المعنى المقصود على تقديره.

(٢) لأنّ معنى المستثنى منه مفهوم من الكلام ، وكذلك الجزاء معناه مفهوم من المصراع الأوّل بلا حاجة إلى التّقدير ، فالتّقدير في كلّ منهما لأمر لفظي لا لتوقّف أصل المراد عليه.

(٣) أي بالمحذوف.

(٤) أي إن كان لفائدة.

(٥) أي إن لم يكن فيه فائدة أصلا ، والمراد بالتّطويل التّطويل بالمعنى اللّغوي ، أي الزّائد لا لفائدة ، وإن كان متعيّنا فاندفع ما يقال إنّ الأولى أن يقول : بل حشوا ، لأنّ الزّائد متعيّن.

(٦) أي أقول قولا ملتبسا بالجملة ، أي بالإجمال ، أي أقول قولا مجملا بأنّ لفظ الآية والبيت لا يكون ناقصا عن أصل المراد كي يخرج عن المساواة.

(٧) أي الإيجاز من حيث هو الإيجاز على ضربين ، وذلك لأنّ اللّفظ قد ينظر فيه إلى كثرة معناه بدلالة الالتزام من غير أن يكون في نفس التّركيب حذف ، ويسمّى بهذا الاعتبار إيجاز القصر ، لوجود الاقتصار في العبارة مع كثرة المعنى ، وقد ينظر فيه من جهة أنّ التّركيب فيه حذف ، ويسمّى إيجاز الحذف.

والفرق بين إيجاز الحذف والمساواة ظاهر ، وكذا الفرق بين مقاميهما ، لأنّ مقام المساواة هو مقام الإتيان بالأصل ، ولا مقتضى للعدول عنه ، ومقام الإيجاز المذكور هو مقام حذف أحد المسندين ، أو المتعلّقات.

وأمّا الفرق بين إيجاز القصر والمساواة وبين مقاميهما ، فهو أنّ المساواة ما جرى به عرف

٢٣٨

إيجاز القصر (١) وهو ما ليس بحذف (٢) نحو : قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(١) (٣) فإنّ معناه (٤) كثير ولفظه يسير] وذلك (٥) لأنّ (٦) معناه أنّ الإنسان إذا علم

________________________________________

الأوساط الّذين لا ينتبهون لإدماج المعاني الكثيرة في لفظ يسير ، والإيجاز بالعكس ، ومقام المساواة كثير مثل أن يكون المخاطب ممّن لا يفهم بالإيجاز ، أو لا يتعلّق غرضه بإدماج المعاني الكثيرة ، ومقام الإيجاز كتعلّق الغرض بالمعاني الكثيرة ، ويكون الخطاب مع من يلتفت إليها ، ولا يحتاج معه إلى بسط.

(١) أي ما يسمّى بإيجاز القصر بكسر القاف على وزن عنب كما حقّقه بعضهم ، وإن كان المشهور فيه فتح القاف وسكون الصّاد.

(٢) أي وهو الكلام الّذي ليس ملتبسا بحذف في نفس تركيبه ، ولكن فيه معان كثيرة اقتضاها بدلالة الالتزام ، أو التّضمّن فالباء للملابسة ، ويصحّ جعلها للسّببيّة ، أي وهو إيجاز ليس بسبب الحذف ، بل بسبب قصر العبارة مع كثرة المعنى.

(٣) أي في نفسه ، ولا يقدر في مشروعيته ، وإلّا كان فيه حذف وسيأتي أنّه لا حذف فيه ، وقوله : (وَلَكُمْ) خبر أوّل ، و (فِي الْقِصاصِ) خبر ثان ، و (حَياةٌ) مبتدأ مؤخّر.

(٤) أي ما قصد إفادته ولو التزاما كثير ولفظه يسير ، أي قليل.

(٥) أي بيان ذلك ، أي كثرة معناه وقلّة لفظه.

(٦) علّة لكون لفظه قليلا ومعناه كثيرا ، زاد معناه ولم يقل : لأنّ الإنسان ، ليكون ذلك إشارة إلى أنّ ما ذكره مدلول قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) فلفظه يسير ومعناه كثير ، ولو قال : لأنّ الإنسان ... ، لكان المتبادر منه أنّه دليل على تضمّن القصاص للحيّاة ، واستلزامه لها ، وهذا ليس بصحيح ، لأنّه مستلزم لأن يكون كلّ ما يتضمّن لها إيجازا ، وهو ممنوع بالضّرورة.

وبالجملة إنّ المراد من قوله : «لأنّ معناه» ، هو المعنى الالتزامي ، وذلك لأنّ المدلول المطابقي لهذا الكلام هو الحكم بأنّ القصاص فيه الحياة للنّاس ، فيستفاد منه أنّ الإنسان إذا علم أنّه قتل لم يقتل ، وترك القتل حياة لهم ، أي إبقاء لحياتهم.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٩.

٢٣٩

أنّه متى قتل قتل كان داعيا له إلى أن لا يقدم على القتل. فارتفع بالقتل الّذي هو القصاص كثير من قتل النّاس بعضهم لبعض ، وكان بارتفاع القتل حياة لهم [ولا حذف فيه (١)] أي ليس فيه (٢) حذف شيء ممّا يؤدّي به أصل المراد واعتبار الفعل (٣) الّذي يتعلّق به الظّرف (٤) رعاية لأمر لفظي (٥) حتّى لو ذكر لكان تطويلا (٦) ، [وفضله (٧)] أي

________________________________________

(١) هذا من تمام العلّة ، وبيان تطبيق القاعدة الكلّيّة على المثال.

(٢) أي ليس في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، حذف شيء ، ممّا يؤدّى به أصل المراد ، والواو في قوله : «ولا حذف فيه» للحال ، أي مع أنّه لا حذف شيء فيه ، فهو من إيجاز القصر ، والباء في قوله : «ممّا يؤدّى به» للسّببيّة.

(٣) المراد به الفعل اللّغوي ، أي الحدث فيشمل اسم فاعل ، وهذا جواب عمّا يقال إنّ في الآية حذفا كي يتعلّق به حرف الجار إذ لا بدّ له من متعلّق ، وحينئذ فلا يصحّ النّفي في قوله : «ولا حذف فيه».

وحاصل الجواب إنّ تقدير فعل أو اسم كي يتعلّق به المجرور إنّما هو لأمر لفظي كما تقدّم ، أي لمراعاة القاعدة النّحويّة المتعلّقة بالتّراكيب ، وهو أنّ المجرور لا بدّ له من متعلّق ، ولم يحتج لتقديره لعدم احتياج إفادة المعنى في العرف إليه ، وهذا ظاهر ، فإنّه لو قيل : زيد كان في الدّار ، بدل زيد في الدّار كان تطويلا في عرف الاستعمال.

(٤) يحتمل أنّه أراد به الجنس فيشمل الطّرفين ، أعني : (وَلَكُمْ) ، و (فِي الْقِصاصِ) ، أو أنّه أراد الأوّل ، والثّاني تابع في التّعلّق.

(٥) أي لقاعدة نحويّة موضوعة لأجل سبك تراكيب الكلام ، وهي أنّ كلّ جارّ ومجرور لا بدّ له من متعلّق يتعلّق به ، لأنّ اعتبار ذلك الفعل ممّا يتوقّف أصل المعنى.

(٦) الأحسن أن يقول : لكان حشوا ، لأنّ الزّائد متعيّن ، وأجاب بعضهم بأنّ مراد الشّارح بالتّطويل التّطويل اللّغوي وهو الزّائد لا لفائدة ، وإن كان متعيّنا فيشمل الحشو ، وإنّما لم يعبّر بالحشو رعاية للأدب في اللّفظ القرآني.

(٧) أي أراد المصنّف أنّ يفرّق بين الكلام القرآني والكلام الّذي جاء في ألسنتهم ليبيّن الفضل بين الكلاميين ، والفرق بين العبارتين فقال : «وفضله» ، أي فضل قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) على الكلام الّذي كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى ، وهو كون القتل أنفى القتل ، أي القتل يمنع القتل ، فتثبت به الحياة.

٢٤٠