دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

أو بواسطة (١) انضمام الغير إليه ، فهو (٢) علّة والآخر (٣) معلول [أو الأقلّ والأكثر (٤)] فإنّ كلّ عدد يصير عند العدّ (٥) فانيا قبل عدد آخر ، فهو أقلّ من الآخر ، والآخر أكثر منه.

________________________________________

(١) أي كما في العقول العشرة ـ على صحّة القول بها ـ أو كحركة الإصبع بالقياس إلى انفتاح الباب ، فقوله : «بالاستقلال» إشارة إلى العلّة التّامّة كحركة الإصبع بالنّسبة إلى حركة الخاتم ، وقوله : «أو بواسطة انضمام الغير إليه» إشارة إلى العلّة النّاقصة ، كالنّجّار بالنّسبة إلى السّرير ، فإنّه يصدر عنه بواسطة الآلة ، وكالنّار بالنّسبة إلى الاحتراق ، فإنّه يصدر عنها بواسطة اليبوسة ، وانتفاء البلل ، وأراد المصنّف ، وكذلك الشّارح بالعلّة ما يشمل السّبب والفاعل الأوّل والمحصّل ، فالأوّل كالزّوال بالنّسبة إلى صحّة صلاة الظّهر ، فإنّ العلّة التّامّة لصحّة الظّهر هي الزّوال والطّهارة وستر العورة ، وجميع ما تتوقّف عليه صحّة صلاة الظّهر ، وأمّا الزّوال فقطّ ، فهي علّة ناقصة لصحّة صلاة الظّهر.

والثّاني : كالله سبحانه وتعالى فإنّه علّة لوجود العالم ، بمعنى أنّه محصّل له إمّا بالاختيار كما هو الصّحيح ، وإمّا بدون الاختيار كما ذهب إليه بعض أرباب الخيال من الحكماء.

(٢) أي الأمر الّذي يصدر عنه أمر آخر علّة.

(٣) أي الأمر الآخر معلول ، والحاصل أنّه حيث كان مفهوم العلّة ما يصدر منه الشّيء ، ومفهوم المعلول ما صدر من الشّيء ، فكان كلّ واحد منهما داخلا في مفهوم الآخر تقيّدا ، فهما متضايفان.

(٤) أي ومن أنواع التّضايف هو التّضايف الّذي بين مفهوميّ الأقلّ والأكثر ، فإنّ الأقلّ من حيث هو أقلّ إنّما يعقل ويتصوّر باعتبار ما هو أكثر منه.

وبعبارة أخرى : إنّما كان الأقلّ والأكثر من المتضايفين ، لأنّ كلّا منهما لا يفهم إلّا باعتبار الآخر ، فتصوّر كلّ منهما مستلزم لتصوّر الآخر ، فمتى حصل أحدهما في المفكّرة حصل الآخر فيها ، وهذا معنى التّضايف.

(٥) أي عند الإسقاط واحدا واحدا ، أو اثنين اثنين ، فمعنى العبارة أنّ كلّ عدد يصير فانيا قبل عدد آخر فهو أقلّ من العدد الآخر ، والآخر أكثر منه كالعشرة والعشرين ، فإنّهما إذا عدّا بواحد أو اثنين تفنى العشرة قبل العشرين بعشر مراتب أو بخمسة مراتب.

١٤١

[أو وهميّ (١)] وهو (٢) أمر بسببه يحتال الوهم في اجتماعهما عند المفكّرة.

________________________________________

(١) عطف على قوله : «عقليّ».

(٢) أي الجامع الوهميّ «أمر بسببه يحتال الوهم» يحتال من الاحتيال بمعنى الحيلة.

وحاصل الكلام في المقام أنّ الشّارح يريد أن يبيّن ما هو المراد من الجامع الوهميّ ، ويقول : إنّه ليس المراد بالوهميّ ما يدركه الوهم ، بل المراد به ما بسببه يقتضي الوهم اجتماع الطّرفين في المفكّرة ، وإن لم يكن مدركا به ، بل كان مدركا بالعقل ، وهذا فيما إذا لم يكن العقل لو خلّي وطبعه مقتضيا للجمع كما إذا كان بين الأمرين شبه التّماثل أو شبه التّضادّ أو التّضادّ ، فإنّ العقل بما أنّه يدرك الواقع ، ويرى أنّ هذه الأمور لا تكون أسبابا للجمع للبينونة بين الطّرفين فيها ، لكنّ الوهم يحتال في تلك الموارد ، ويبرز الأمرين اللّذين لا تماثل بينهما عند العقل في معرض المثلين لقربهما بهما ، ويبرز المتضادّين والمشابهين بهما في معرض المتضايفين ، حيث إنّ المتضادّين أو المتشابهين بهما متلازمين في صقع الذّهن عادة ، فالوهم يرى هذه الأمور جامعة بين الطّرفين ، سواء كانت مدركة به كالتّضادّ الجزئيّ ، وشبه التّضادّ الجزئيّ ، وشبه التّماثل الجزئيّ ، أو كانت مدركة بالعقل كالكلّيّات ، ولا يرد أنّ ما يدركه العقل لا طريق إليه للوهم ، لأنّا قد ذكرنا أنّ كلّ واحد من تلك القوى يدرك ما أدركه الآخر بالذّات بالواسطة ، فالوهم يدرك ما أدركه العقل بالذّات بالواسطة ، ومن ذلك يظهر سرّ جعل الاتّحاد والتّماثل والتّضايف جامعا عقليّا ، والتّضادّ وشبهه وشبه التّماثل جامعا وهميّا ، وهو أنّ الثّلاثة الأولى أمور تقتضي الجمع في الواقع ونفس الأمر ، والعقل يدرك الأمور على حقائقها ويثبتها على مقتضاها ، فمن ذلك يعدّ عنده كلّ واحد من تلك الأمور جامعا ، بخلاف الثّلاثة الأخيرة فإنّها ليست في الحقيقة موجبة للجمع ، والعقل عند التّأمّل يدرك ذلك ، فلا يرضى بعدّها من أسباب الجمع ، ولكنّ الوهم بما أنّه ليس له التّأمل والدّقّة يشتبه عليه الأمر كثيرا ، وأيضا له الاحتيال وإراءة خلاف الواقع واقعا ، ولا يرى في الوجود كمالا أشرف من الاحتيال ، يعدّ تلك الأمور من أسباب الجمع ، ويبرز المتشابهين بالمتماثلين بمنزلتهما والمتضادّين والمتشابهين بهما بمنزلة المتضايفين ، هذا كله بالنّسبة إلى الجامع العقليّ والوهميّ.

وأمّا الكلام في الخياليّ : فهو أنّ سرّ عدّ التّقارن جامعا خياليّا ، هو أنّ الخيال محلّ ومركز لتقارن صور المحسوسات ، لكونها حافظة لما في الحسّ المشترك الّذي هو كالملك ، والحواسّ

١٤٢

بخلاف العقل فإنّه إذا خلّي و (١) نفسه لم يحكم بذلك ، وذلك (٢) [بأن (٣) يكون بين تصوّريهما شبه (٤) تماثل ، كلونيّ (٥) بياض وصفرة ، فإنّ الوهم يبرزهما في معرض

________________________________________

الخمس كجواسيسه ، وتتأدّى إليه صور المحسوسات ، وتجتمع تلك الصّور في خزانته ، وهي الخيال ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إنّ صور الموهومات والمعقولات إنّما تنتزع من تلك الصّور الكائنة في الخيال ، أعني صور المحسوسات ، فمن هاتين النّاحيتين نسبوا الجمع بسبب تقارن الصّور إلى الخيال.

فالضّابط في الجامع : أنّ الجمع إمّا بسبب التّقارن في خزانة الصّور أوّلا ، فالأوّل هو الخياليّ ، والثّاني إمّا أن يكون بواسطة أمر يناسب الجمع ، ويقتضيه بحسب نفس الأمر ، فهو العقليّ ، وإلّا فهو الوهميّ ، فالجامع ليس جامعا في الواقع ، بل باعتبار أنّ الوهم جعله جامعا.

(١) أي إذا خلّي العقل مع نفسه بأن لم يتبع الوهم ولم يستمع إلى مقالته التّزوريّة «لم يحكم بذلك» ، أي باجتماع الجملتين ، فالواو في قوله : «ونفسه» بمعنى مع.

نعم ، لو تبع العقل عن الوهم لحكم بذلك الاجتماع تبعا له.

(٢) أي وجود الجامع الوهميّ بين الشّيئين.

(٣) أي الباء للبيان والتّصوير ، أي الجامع الوهميّ مصوّر بأن يكون «تصوّريهما» أي الجملتين «شبه تماثل».

(٤) أي وقد عرفت أنّ المراد بالتّماثل اتّحاد الأمرين في الماهيّة مع اشتراكهما في أظهر الصّفات ، والمراد بشبهه كما سيظهر لك اشتراك الأمرين في أظهر الصّفات من دون الاتّحاد في الماهيّة النّوعيّة ، ولا ريب أنّ حضور أحدهما ليس عين حضور الآخر في المفكّرة واقعا ، لكنّ الوهم يحتال ويبرزهما في معرض المثلين فيحكم بأنّ حضور أحدهما في المتخيّلة عين حضور الآخر.

(٥) الإضافة بيانيّة ، أي كلونين هما بياض وصفرة ، فبينهما جامع وهميّ ، فيصحّ العطف في قولنا : بياض الفضّة يذهب الغمّ وصفرة الذّهب تذهب الهمّ ، فبياض الفضّة وصفرة الذّهب ليسا متماثلين لعدم صدق تعريف التّماثل السّابق عليهما ، متضادّين ، لأنّهما الأمران الوجوديّان اللّذان بينهما غاية الخلاف كالسّوادّ والبياض ، وليس بين البياض والصّفرة غاية الخلاف ، فلا يكونان ضدّين ، وإنّما كان بين البياض والصّفرة أيضا شبه تماثل ، لأنّ الوهم يبرزهما في

١٤٣

المثلين] من جهة أنّه (١) يسبق إلى الوهم أنّهما نوع واحد زيد (٢) في أحدهما عارض بخلاف العقل ، فإنّه (٣) يعرف أنّهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس هو اللون ، [ولذلك] أي ولأنّ الوهم يبرزهما (٤) في معرض المثلين [حسن الجمع بين الثّلاثة الّتي (٥) في قوله :

________________________________________

معرض المثلين ، أي يظهرهما في صفة المثلين ، و «معرض» بوزن مسجد وهو في الأصل مكان عروض الشّيء.

(١) أي الشّأن «يسبق إلى الوهم» لمكان عدم غاية الخلاف بينهما «أنّهما» أي البياض والصّفرة صنفان لنوع واحد.

(٢) فعل مجهول من الزّيادة «وعارض» نائب للفاعل ، ثمّ حدّ الزّيادة إن جعل البياض ، فالعارض هو الإشراق والصّفاء الّذي لا يخرجه عن حقيقة الصّفاء ، وإن جعل الصّفرة ، فالعارض هو الكدرة الّتي لا تخرجه عن الحقيقة فهما نوع واحد عند الوهم.

والسّرّ في ذلك أنّ الوهم ليس دقيقا في إدراكه ، فحيث يرى أنّ الصّفرة والبياض ليس بينهما بينونة ، كما هي بين السّوادّ والبياض يسبق إليه أنّهما من نوع واحد كالسّوادّ والحمرة ، فيحتال على الجمع عند المتخيّلة بخلاف العقل فإنّه له دقّة وتأمّل ، ولذا يرى أنّهما ليسا من نوع واحد ، بل هما نوعان مختلفان ، فلا يحكم باجتماعهما في المفكّرة ، ولو حكم به فإنّما يحكم بتبع الوهم ، وعند الذّهول عمّا في الواقع ، وعدم الدّقّة فيه ، وإلّا فهو عند الملاحظة الحقيقيّة يحكم بأنّهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس هو اللّون.

(٣) أي فإنّ العقل «يعرف أنّهما» أي الصّفرة والبياض «نوعان متباينان داخلان تحت جنس هو اللون».

(٤) أي لأجل أنّ الوهم يبرز الشّيئين اللّذين بينهما شبه تماثل في معرض المثلين «حسن الجمع بين الثّلاثة» ، أي حسن الجمع بالعطف بين الثّلاثة المتباينة في الحقيقة النّوعيّة ، لأنّ الوهم تخيّل فيها تماثلا ، كما تخيّله في البياض والصّفرة.

(٥) أي الّتي وجدت في قول الشّاعر ، وهو محمّد بن وهب يمدح المعتصم بالله ، وذكره بكنية أبي إسحاق صونا لاسمه أن يجري على الألسنة.

١٤٤

ثلاثة تشرق (١) الدّنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحاق والقمر (٢)]

فإنّ الوهم يتوهّم أنّ الثّلاثة من نوع واحد ، وإنّما اختلفت بالعوارض والعقل يعرف (٣) أنّها أمور متباينة [أو (٤)] يكون بين تصوّريهما [تضادّ] وهو التّقابل (٥) بين

________________________________________

(١) أي تضيء الدّنيا «ببهجتها» أي بحسنها ونورها.

(٢) أي هذه الثّلاثة عند النّظر والتّأمّل متباينة بناء على أنّ الشّمس كوكب نهاريّ مضيء لذاته ، والقمر كوكب ليليّ مطموس لذاته مستفاد نوره من نور الشّمس ، وأبو إسحاق إنسان عمّ هداه وغناؤه في زعم الشّاعر جميع العالمين بحيث يشبّه عموم هداه ونفعه بعموم نور الشّمس في التّوصّل إلى الأغراض لكن يسبق إلى الوهم تماثلها في الإشراق ، وإنّها نوع واحد.

والحاصل إنّ هذه الأمور عند العقل ، وإن كانت متباينة إلّا أنّها عند الوهم متماثلة ومتّحدة في النّوع ، وذلك لكمال مناسبة الشّمس والقمر في الإشراق ولكثرة تشبيه عموم العدل والإحسان بنور الشّمس حتّى صار بحيث يتوهّم أنّ له إشراقا ، فأبرزها الوهم في معرض المتماثلات ، ولذا عطف بعضها على بعض ، وهذا المثال وإن كان من عطف المفردات إلّا أنه يصحّ الاستشهاد به ، لأنّه يشترط الجامع في عطف المفردات ، كما يشترط في عطف الجمل ، والجامع الوهميّ موجود فيها ، ثمّ الفرق بين المثالين أنّ البياض والصّفرة مثال ضدّين بينهما شبه تماثل ، والثّلاثة في قول الشّاعر مثال لمختلفين بينهما شبه تماثل.

(٣) أي والعقل يعرف أنّ الثّلاثة المذكورة في قول الشّاعر أمور متباينة ، لأنّ كلّ واحد منها من نوع آخر.

(٤) عطف على «شبه تماثل» ، أي الجامع الوهميّ بأن يكون تصوّريهما شبه تماثل أو تضادّ ، أي يكون بين ما يتصوّر في الجملتين تضادّ.

(٥) أي وهو امتناع اجتماع الوصفين في محلّ واحد في زمان واحد من جهة واحدة ، ثمّ التّقابل بالمعنى المذكور على أربعة أقسام : التّضايف ، والتّضادّ ، وتقابل العدم والملكة ، وتقابل الإيجاب والسّلب.

وذلك لأنّ الأمرين المتقابلين : إمّا أمران وجوديّان ، وإمّا أحدهما وجوديّ والآخر عدميّ ، وعلى الأوّل تارة يكون تصوّر مفهوم أحدهما مستلزما لتصوّر مفهوم الآخر ، كالعلّيّة

١٤٥

أمرين وجوديّين (١) يتعاقبان على محلّ واحد (٢) [كالسّواد والبياض (٣)] في المحسوسات [والإيمان والكفر (٤)] في المعقولات (٥). والحقّ أنّ بينهما (٦) تقابل العدم والملكة ، لأنّ الإيمان هو تصديق النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في جميع ما علم

________________________________________

والمعلوليّة ، والأبوّة والبنوّة ، فيكون التّقابل تقابل التّضايف ، وأخرى لا يكون الأمر كذلك ، كالسّواد والبياض ، حيث لا يستلزم تصوّر مفهوم أحدهما تصوّر مفهوم الآخر ، فيكون تقابل التّضادّ ، وعلى الثّاني إن اعتبر في جانب العدم شأنيّة الوجود ، فالتّقابل يسمّى بتقابل العدم والملكة ، وإن لم يعتبر ذلك كان التّقابل تقابل السّلب والإيجاب.

(١) خرج به تقابل الإيجاب والسّلب ، كتقابل الإنسان واللّا إنسان ، وتقابل العدم والملكة كتقابل العمى والبصر.

(٢) احترز به عن القديم والحادث ، كعلم الله تعالى ، وعلم زيد مثلا ، فإنّهما لا يتعاقبان في محلّ واحد ، لعدم إمكان اتّصاف الله سبحانه بالوصف الحادث ، وعدم إمكان اتّصاف زيد بالوصف القديم ، ثمّ ليس المراد بالوجوديّ هنا خصوص ما يمكن رؤيته ، بل المراد به هنا ما ليس العدم داخلا في مفهومه ، فيشمل الأمور الاعتباريّة ، وحينئذ فيدخل في التّعريف الأمران المتضايفان ، فلا بدّ من زيادة قيد لا يتوقّف تعقّل أحدهما على تعقّل الآخر لأجل إخراجهما.

(٣) أي فيصحّ أن يقال : ذهب السّواد وجاء البياض ، أو يقال : السّواد لون قبيح ، والبياض لون حسن.

(٤) أي فيصحّ أن يقال : ذهب الكفر وجاء الإيمان ، أو يقال : الإيمان حسن والكفر قبيح.

(٥) أي حال كونهما من المعقولات ، فيكون قوله : من المعقولات حالا.

(٦) أي بين الإيمان والكفر ، هذا الكلام من الشّارح اعتراض على المصنّف ، جعل المصنّف التّقابل بين الكفر والإيمان تقابل التّضادّ.

ويقول الشّارح : الحقّ أنّ بين الكفر والإيمان تقابل العدم والملكة ، لا تقابل التّضادّ كما هو ظاهر كلام المصنّف ، إذ على ما زعمه المصنّف لا بدّ أنّ ن يكون الكفر أمرا وجوديّا ، بأن يكون الإيمان عبارة عن التّصديق بما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوحدانيّة جج والبعث والرّسالة ، مع الإقرار باللّسان ، والكفر عبارة عن جحد ذلك وإنكاره ، والجحد أمر وجوديّ كالتّصديق ،

١٤٦

مجيئه به (١) بالضّرورة (٢) أعني (٣) قبول النّفس لذلك ، والإذعان له (٤) على ما هو تفسير التّصديق في المنطق عند المحقّقين (٥) مع الإقرار به (٦) باللّسان ، والكفر عدم الإيمان عمّا من شأنه الإيمان (٧) وقد يقال : الكفر إنكار شيء من ذلك (٨) ، فيكون

________________________________________

فمن لم يجحد ولم يصدّق بما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الضّروريّات ليس بمؤمن ولا كافر ، وهذا خلاف التّحقيق ، فإنّ المحقّقين من المناطقة جعلوا الكفر عبارة عن عدم الإيمان عمّا من شأنه أن يكون مؤمنا ، فالتّقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة ، كما يقول به الشّارح ، ولا تقابل التّضادّ كما هو ظاهر كلام المصنّف.

(١) أي مجيء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه ، فالباء للتّعدية.

(٢) متعلّق ب «علم» أي الإيمان هو التّصديق والإذعان بما علم بالضّرورة أنّه من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالتّوحيد والنّبوّة والبعث والعدل والإمامة ، واحترز به عمّا علم بالآحاد ، فإنّ إنكاره لا يكون كفرا.

(٣) أي التّصديق هو قبول النّفس لما جاء به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير إباء ولا جحود.

(٤) أي انقياد النّفس لما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير إباء ولا جحود ، فيكون قوله : «والإذعان له» تفسير لما قبله ، ثمّ إنّ الشّارح أتى بهذه العناية دفعا لما ربّما يتوهّم من أن يكون المراد بالتّصديق هو إدراك أنّ النّسبة واقعة ، فإنّ هذا ليس إيمان ما لم يفعله ، ولم يلتزم بالانقياد.

(٥) أي كالقطب الشّيرازي وغيره ، وحاصل الكلام في هذا المقام : إنّ التّصديق عند المحقّقين من المناطقة هو إدراك أنّ النّسبة واقعة ، أو ليست بواقعة على وجه الإذعان والقبول وعند غيرهم ، وهو المشهور إدراك أنّ النّسبة واقعة أو ليست بواقعة مطلقا ، أي ولو لم يكن ذلك الإدراك على وجه الإذعان.

(٦) أي بما اعتقده ، أي مع الإقرار بما اعتقده باللّسان ، ولو مرّة في عمره.

(٧) خرج به الجمادات والحيوانات العجم ، فلا يقال لشيء منهما أنّه كافر ، لأنّها ليس من شأنها أن تتّصف بالإيمان.

(٨) أي ممّا علم مجيء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به بالضّرورة ، وعلى هذا القول تثبت الواسطة بين الإيمان والكفر ، فإنّ الشّاكّ والجاهل الّذي لم يذعن ولم يجحد ليس بكافر ولا بمؤمن عندئذ مع أنّهم قد نفوا الواسطة بينهما ، فلا بدّ من الالتزام بكون التّقابل بينهما تقابل العدم والملكة لئلّا تلزم

١٤٧

وجوديّا ، فيكونان (١) متضادّين [وما (٢) يتّصف بها] أي بالمذكورات ، [كالأسود والأبيض والمؤمن والكافر (٣) ، وأمثال ذلك (٤) فإنّه (٥) يعدّ من المتضادّين باعتبار الاشتمال على الوصفين المتضادّين ، أو شبه تضادّ (٦) كالسّماء والأرض (٧)] في المحسوسات فإنّهما (٨)

________________________________________

الواسطة ، فإنّ الشّاكّ والجاهل عندئذ داخل في الكافر لعدم تصديقهما.

(١) أي فيكون الإيمان والكفر متضادّين ، وحينئذ فيصحّ التّمثيل الّذي ذكره المصنّف.

(٢) عطف على السّواد في قوله : «كالسّوادّ والبياض» أي كالذّوات المتّصفة بالمذكورات.

(٣) فإنّ كلّ اثنين متقابلين منها يعدّان ضدّين من حيث الاشتمال على الضّدّين ، بخلاف ذوات تلك المتّصفات من غير إشعار بالأوصاف ، فليست من باب التّضادّ في شيء ، كزيد وعمرو ، فإنّه لا تضادّ بينهما فذات الأسود وذات الأبيض بقطع النظر عن وصفيهما ، وهما البياض والسّواد لا تضادّ بينهما لعدم تواردهما على المحلّ ، لكونهما من الأجسام لا الأعراض ، ويتحقّق التّضادّ بينهما نظرا إلى اتّصافهما بالوصفين المتضادّين ، فيقال : الأسود ذهب ، والأبيض جاء ، والمؤمن حضر ، والكافر غاب.

(٤) أي كالحلو والحامض والمتحرّك والسّاكن.

(٥) أي ما يتّصف بالمذكورات ، وهذا توجيه لجعل الذّوات الموصوفة بالمذكورات متضادّة.

(٦) أي بأن يكون بين الشّيئين شبه تضادّ ، وذلك بأن لا يكون أحدهما ضدّا للآخر ، ولا موصوفا بضدّ ما وصف به الآخر ، ولكن يستلزم كلّ منهما معنى ينافي ما يستلزمه الآخر ، وهو قسمان : ما يكون في المحسوسات كالسّماء والأرض ، وما يكون في المحسوسات والمعقولات كالأوّل والثّاني ، فيقال : السّماء مرفوعة لنا ، والأرض موضوعة لنا ، والأوّل سابق ، والثّاني لاحق ، فالجامع بين المسند إليهما وهميّ ، لتحقّقه بشبه التّضادّ بينهما ، وإنّما لم يحكم عليهما بالتّضادّ ، لأنّهما لا يتعاقبان على محلّ ، وليسا بعرضين ، ولكنّهما يشبهان المتضادّين لما بينهما من الاختلاف.

(٧) أي كشبه التّضادّ الّذي بين السّماء والأرض.

(٨) أي السّماء والأرض أمران وجوديّان ، ولهذا يكون بينهما شبه التّضادّ باعتبار أنّ

١٤٨

وجوديان أحدهما في غاية (١) الارتفاع والآخر في غاية (٢) الانحطاط. وهذا (٣) معنى شبه التّضادّ ، وليسا (٤) متضادّين لعدم تواردهما على المحلّ ، لكونهما من الأجسام دون الأعراض (٥) ، ولا من قبيل (٦) الأسود والأبيض. لأنّ

________________________________________

أحدهما في غاية الارتفاع والآخر في غاية الانحطاط.

(١) أي في كثرة الارتفاع.

(٢) أي في كثرة الانحطاط ، فالمراد بالغاية في الموردين هي الكثرة لا النّهاية ، لأنّ النّهاية لا تتحقّق بين السّماء والأرض ، وإنّما هي بين العرش وبين الماء الّذي تحت الأرض ، فالعرش في غاية الارتفاع والماء تحت الأرض في غاية الانحطاط.

فاندفع حينئذ ما يقال : إنّ السّماء الأوّل ليست في غاية الارتفاع ، لأنّ فوقها أرفع منها ، والأرض العليا ليست في غاية الانحطاط ، ولا حاجة إلى ما قيل في الجواب من أنّ المراد بالسّماء مجموع السّماوات وبالأرض مجموع الأرضين.

(٣) أي كون أحدهما في غاية الارتفاع والآخر في غاية الانحطاط معنى شبه التّضادّ.

(٤) أي إنّ السّماء والأرض لمّا لم يتعاقبا على موضوع أصلا لم يكونا متضادّين ، فهما خارجان من تعريف التّضادّ.

(٥) هذا ظاهر في أنّ مراده من المحلّ في تعريف التّضادّ هو الموضوع ، فعليه كان أولى هناك ذكر الموضوع مكان المحلّ ، وكيف كان فلا يكون السّماء والأرض من المتضادّين لعدم تحقّق ركن التّضادّ فيهما ، وهو إمكان تعاقبهما في موضوع واحد ، كالسّوادّ والبياض ، فإنّه من الممكن تعاقبهما في موضوع واحد.

(٦) هذا الكلام من الشّارح إشارة إلى سؤال وجواب ، أمّا السّؤال فهو أن يقال : إنّ المصنّف قد جعل الأسود والأبيض من قبيل المتضادّين باعتبار اشتمالهما على الوصفين المتضادّين ، فلماذا لم يجعل السّماء والأرض أيضا من هذا القبيل بهذا الاعتبار؟ فما هو الفرق بين المثالين؟

وأمّا الجواب : فهو أن يقال : إنّ السّماء والأرض ليسا من قبيل الأسود والأبيض ، لأنّ الوصفين المتضادّين في نحو الأسود والأبيض جزءان من مفهوميهما ، لأنّ الأسود شيء ثبت له السّواد ، والأبيض شيء ثبت له البياض ، بخلاف السّماء والأرض ، فإنّ الوصفين المتضادّين فيهما ، وهما الارتفاع والانحطاط ليسا داخلين في مفهوميهما ، بل هما لازمان لهما ، ولكونهما لازمين

١٤٩

الوصفين المتضادّين ههنا (١) ليسا بداخلين في مفهوميّ السّماء والأرض [والأوّل (٢) والثّاني] فيما يعمّ المحسوسات (٣) والمعقولات (٤) فإنّ (٥) الأوّل هو الّذي يكون سابقا على الغير ، ولا يكون مسبوقا بالغير ، والثّاني (٦) هو الّذي يكون مسبوقا بواحد فقطّ ، فأشبها (٧) المتضادّين باعتبار اشتمالهما (٨) على وصفين (٩) لا يمكن اجتماعهما (١٠) ، ولم يجعلا متضادّين كالأسود والأبيض ، لأنّه قد يشترط في المتضادّين أن يكون بينهما غاية الخلاف (١١). ولا يخفى (١٢) أنّ مخالفة الثّالث والرّابع وغيرهما ، للأوّل أكثر من

________________________________________

لهما جعلا شبيهين بالمتضادّين.

(١) أي في السّماء والأرض.

(٢) أي وكشبه التّضادّ الّذي بين مفهوم لفظ الأوّل ، ومفهوم لفظ الثّاني.

(٣) أي كما في قولك : المولود الأوّل سابق ، والمولود الثّاني مسبوق.

(٤) أي كما في قولك : علم الأب أوّل ، وعلم الابن ثان.

(٥) بيان لكون الأوّل والثّاني مشابهين بالمتضادّين ، توضيح ذلك : إنّما كان بين مفهوميهما شبه التّضادّ ، فإنّ مفهوم لفظ الأوّل هو الّذي يكون سابقا على الغير سواء كان محسوسا أو معقولا ، ولا يكون مسبوقا بالغير ، أي على فرض وجوده.

(٦) أي ومفهوم لفظ الثّاني ، هو الّذي يكون مسبوقا بواحد فقطّ ، أي لا غير ، وإلّا لصار ثالثا ، فبهذا الاعتبار صار مفهوم الثّاني مشتملا على قيدين ، أحدهما وجوديّ ، والآخر عدميّ كما أنّ مفهوم الأوّل أيضا كذلك.

(٧) أي فأشبه الأوّل والثّاني المتضادّين.

(٨) أي الأوّل والثّاني.

(٩) أي كعدم المسبوقيّة أصلا كالأوّل ، والمسبوقيّة بواحد كالثّاني.

(١٠) أي الوصفين.

(١١) أي كما هو أحد القولين ، فلا تضادّ بين البياض والصّفرة ، لعدم غاية الخلاف بينهما.

(١٢) وحاصل ما ذكره الشّارح في نفي التّضادّ بين الأوّل والثّاني هو أنّ الأوّل والثّاني لا يكونان متضادّين عند من يشترك في المتضادّين أن يكون بينهما غاية الخلاف ، ولا عند من لم يشترط ذلك ، أمّا عدم التّضادّ بينهما عند من يشترط أن يكون بينهما غاية الخلاف

١٥٠

مخالفة الثّاني له ، مع أنّ العدم معتبر في مفهوم الأوّل ، فلا يكون وجوديّا ، [فإنّه (١)] أي إنّما يجعل التّضادّ وشبهه جامعا وهميّا ، لأنّ الوهم [ينزّلهما (٢) منزلة التّضايف] في أنّه (٣) لا يحضره (٤) أحد المتضادّين أو الشّبيهين بهما إلّا ويحضره الآخر

________________________________________

فظاهر ، لأنّ مخالفة الثّالث والرّابع فما فوقهما للأوّل أكثر من مخالفة الثّاني له ، وأمّا عدم التّضادّ عند من لم يشترط أن يكون بينهما غاية الخلاف فلأجل امتناع جعلهما من المتضادّين لكن لا من جهة عدم غاية الخلاف بينهما ، بل لأجل اعتبار العدم في مفهوم الأوّل ، فلا يكون أمرا وجوديّا ، فلا يكون ضدّا لغيره لما علم من أنّ الضّدّين هما الأمران الوجوديّان.

(١) أي فإنّ الوهم ينزّل التّضادّ وشبهه منزلة التّضايف ، فيجمعهما في المفكّرة بهذا الاعتبار.

(٢) أي لا يخفى ما في هذه العبارة من الحزازة ، فإنّها ظاهرة في أنّ الوهم يعتبر التّضادّ وشبهه بمنزلة التّضايف ، وداخلين فيه ، كما أنّ العقل بالتّجريد يعتبر التّماثل داخلا في الاتّحاد ، وهذا غير صحيح جدّا ، لأنّ الضّدّين متلازمان عادة عند الوهم ، كما بيّنه الشّارح ، وكذلك مشابهين بهما ، ومقتضى ذلك أن يكونا بنفسهما جامعين من غير حاجة إلى التّنزيل والعناية ، فكان له أن يقول : ـ في بيان كون التّضادّ وشبهه جامعين وهميّين ـ فإنّ التّضادّ وشبهه عنده كالتّضايف عند العقل ، لأنّه كما لا ينفكّ أحد المتضايفين من الآخر عند العقل ، كذلك لا ينفكّ أحد الضّدّين والمشابهين بهما عن الآخر عند الوهم ، فالتّضادّ وشبهه جامعين للمتضادّين والمشابهين بهما عند الوهم ، كما أنّ التّضايف جامع للمتضايفين عند العقل ، وهذا هو المراد من العبارة ، ولكن إرادة هذا المعنى من العبارة المذكورة بعيدة جدّا.

(٣) أي الوهم ، ومتعلّق بقوله : «منزلة».

(٤) أي لا يحضر الوهم أحد المتضادّين أو الشّبيهين بهما ، إلّا ويحضر الوهم الآخر.

وحاصل الكلام في المقام :

إنّ العقل لمّا كان لا يخطر عنده أحد المتضايفين إلّا خطر الآخر ، وبذلك الارتباط جمعهما عند المفكّرة ، فالوهم كذلك في الضّدّين وشبههما ، فالمعنى أنّه يجمعهما عند المفكّرة بسبب أن خطور أحدهما عنده يلزمه غالبا خطور الآخر ، فحكم باجتماعهما عند المفكّرة تنزيلا لغلبة الخطور مع الآخر منزلة عدم الانفكاك كالمتضايفين.

١٥١

[ولذلك (١) تجد الضّدّ أقرب خطورا بالبال مع الضّدّ (٢)] من (٣) المغايرات الغير المتضادّة ، يعني (٤) أنّ ذلك (٥) مبنيّ على حكم الوهم وإلّا (٦) فالعقل يتعقّل كلّا منهما

________________________________________

(١) أي لأجل جعل الوهم وتنزيله التّضادّ منزلة التّضايف «تجد الضّدّ ...».

(٢) أقول : كون الضّدّ أقرب خطورا بالبال ، أي الوهم ليس من أجل التّنزيل ، بل إنّما هو كذلك من دونه فالصّحيح أن يقال : ومن أجل كون التّضاد عند الوهم مثل التّضايف عند العقل ، نجد الضّدّ أقرب خطورا بالبال مع الضّدّ ، ثمّ المراد بالبال في المتن هو الوهم كما أشرنا إليه ، وذلك بقرينة جعل التّضادّ جامعا وهميّا ، ولو كان هذا شأن العقل لما كان مجال لجعله وجعل شبهه جامعا وهميّا ، بل كان اللّازم جعلهما جامعين عقليّين ، ومن ذلك قال الشّارح : «وإلّا فالعقل يتعقّل كلّا منهما ذاهلا عن الآخر».

(٣) متعلّق بقوله : «أقرب» أي تجد الضّدّ أقرب خطورا بالبال ، والوهم من المغايرات الغير المتضادّة كالقيام والقعود والأكل والشّرب مثلا ، فإذا خطر السّواد في الوهم كان ذلك أقرب لخطور البياض فيه من خطور القيام والقعود والأكل والشّرب فيه ، وذلك لأنّ هذه لا يجمعها الوهم لعدم غلبة خطورها مع ما يغايرها ممّا سوى الضّدّ ، بخلاف الضّدّين ، فإنّ الوهم يحكم باجتماعهما.

(٤) تفسير لقول المصنّف : «فإنّه ينزّلهما منزلة التّضايف» أي فإنّ الوهم ينزّلهما منزلة التّضايف.

(٥) أي تنزيل التّضادّ وشبهه منزلة التّضايف مبنيّ على حكم الوهم لا العقل ، فيكون التضادّ جامعا وهميّا ، لأنّه مبنيّ على تصوّر الوهم وإدراكه حكما على خلاف الواقع بتلازمهما في الحضور عنده.

(٦) أي وإن لم يكن ذلك مبنيّا على حكم الوهم ، بل كان مبنيّا على حكم العقل لما صحّ كونه جامعا ، لأنّ العقل يتعقّل كلّا منهما ذاهلا عن الآخر ، وحينئذ فلا يحكم بتلازمهما في الحضور عنده ، فلا يكون التّضادّ وشبهه جامعا عقليّا.

١٥٢

ذاهلا عن الآخر [أو خياليّ (١)] وهو (٢) أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماعهما في المفكّرة (٣) وذلك (٤) [بأن يكون بين تصوّريهما (٥) تقارن في الخيال (٦) سابق (٧)] على العطف ،

________________________________________

(١) وقد خالف المصنّف هنا ما صنعه بالنّسبة إلى الجامع العقليّ والوهميّ ، إذ قد نسب فيهما الجامع إلى القوّة المدركة لا إلى خزانتها ، وهنا نسب إلى الخزانة ، لأنّ الخيال خزانة الصّور المدركة بالحسّ المشترك ، والمدركة للصّور هي الحسّ المشترك ، فكان المناسب لما تقدّم أن يقول : أو حسّيّ ، ولعلّ السّرّ في ذلك هو الإشارة إلى أنّ هذه القوى يصحّ فيها أن ينسب حكم المدركة منها إلى خزانتها ، لأنّها كالمرائي المتقابلة يرتسم في كلّ واحدة منها ما يرتسم فيما يقابلها ، ويمكن أن يكون ذلك من أجل أنّ النّسبة إلى الخيال أخفّ من النّسبة إلى الحسّ المشترك ، إذ لا بدّ عندئذ من إلحاق ياء النّسبة في الصّفة ، فيقال : حسّيّ مشتركيّ ، حيث إنّ إلحاق ياء النّسبة في الموصوف فقطّ يوجب الالتباس بالنّسبة إلى إحدى الحواسّ الظّاهرة.

(٢) أي الجامع الخياليّ أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماع الشّيئين في المفكّرة.

(٣) أي كان له أن يقول : في المتخيّلة.

(٤) أي وجود الجامع الخياليّ.

(٥) أي بين تصوّر الشّيئين تقارن في الخيال ، وسيأتي من الشّارح الاعتراض على ذلك من أنّ اللّازم أن يكون بين نفس الشّيئين تقارن في الخيال ، لا بين تصوّريهما.

(٦) أي خيال المخاطب على ما في الأطول ، وهو مبنيّ على الغالب من مراعاة حال المخاطب.

لا يقال : إنّ التّقارن لو كان جامعا لصحّ العطف في جميع الموارد ، لأنّ صور جميع الأشياء ثابتة في الخيال.

لأنّا نقول : ليس المراد بالتّقارن فيه مجرّد الثّبوت فيه ، بل الثّبوت مع التّقارن عند التّذكّر والإحضار بحيث أنّ الذّهن عند الالتفات إلى أحدهما يلتفت إلى الآخر من دون تراخ.

(٧) أي سابق ذلك التّقارن في خيال المخاطب على العطف ليكون مصحّحا له ، وأمّا لو كان التّقارن حاصلا بالعطف فلا يكفي ، يعني أنّ في العطف أيضا تقارنا ، لأنّه جمع بينهما إلّا أنّ هذا التّقارن لا يكفي ، بل لا بدّ في الخيال أن يكون بينهما تقارن

١٥٣

لأسباب (١) مؤدّية إلى ذلك [وأسبابه] أي وأسباب التّقارن في الخيال [مختلفة (٢) ، ولذلك (٣) اختلفت الصّور الثابتة في الخيالات ترتّبا (٤) ووضوحا]

________________________________________

سابق على هذا التّقارن الحاصل بالعطف.

(١) متعلّق بتقارن وعلّة ، والمعنى بأن يكون بينهما تقارن في الخيال لأجل أسباب موصلة إلى ذلك التّقارن الخياليّ السّابق على العطف.

(٢) أي توضيح ذلك : إنّ تلك الأسباب وإن كانت راجعة إلى مخالطة ذوات تلك الصّور الحسّيّة المقترنة في الخيال إلّا أنّ أسباب تلك المخالطة مختلفة ، فيمكن وجودها عند شخص دون آخر ، مثلا إذا تعلّقت همّة إنسان بصناعة الكتابة أوجب له ذلك مخالطة آلاتها من قلم ودواة ومداد وقرطاس ، وهذه المخالطة تقتضي أن تقترن صور المذكورات في خياله ، فيصحّ أن يعطف بعضها على بعض عند إلقاء الكلام إلى الكاتب لا إلى الفلّاح ، فيقال له : القلم عندي ، والقرطاس عندك ، وإن تعلّقت همّة إنسان بصناعة الصّياغة أوجب له ذلك مخالطة الصّائغ لآلاتها ، فتقترن بها صورها في خياله ، فيصحّ أن يعطف بعضها على بعض إذا ألقي الكلام إليه لا إلى الكاتب ، وإن كان الإنسان من أهل التّعيّش بالحيوانات كالغنم والإبل مثلا ، وكان راعيا أوجب له ذلك مخالطتها وأمورها ، فصنعة الرّعي تقتضي مخالطة الرّاعي لما يتعلّق به من العصا والجبال وما يرعيه من الحيوانات ، وتوجب ذلك تقارن صورها في خياله ، فيصحّ عطف بعضها على بعض إذا ألقي إليه الكلام ، لا إلى إمام الجماعة.

فالحاصل إنّ سبب تقارن الصّور هو المخالطة لذواتها ، وسبب المخالطة هو الشّغل الّذي يحتاج إليها ، وحيث إنّ الشّغل مختلف ، فالمخالطة مختلفة ، ولازم ذلك اختلاف التّقارن.

(٣) أي لأجل اختلاف أسباب التّقارن من المخالطات والأشغال.

(٤) أي كلّ واحد منهما تمييز محوّل عن فاعل اختلفت ، أي اختلفت ترتّب الصّور ووضوحها ، والمراد بترتّبها اجتماعها في الخيال على هيئة خاصّة من حيث التّقدّم والتّأخّر بحيث لا ينفكّ بعضها عن بعض ، والمراد بوضوحها عدم غيبتها عن الخيال على أيّ هيئة كانت ، فمعنى اختلاف الصّور ترتّبا كون الصّور على هيئة خاصّة في خيال ، وعلى غيرها في خيال آخر ، ومعنى اختلافها وضوحا عدم غيبتها عن خيال ، وغيبتها عن خيال آخر ، أو عدم خطورها فيه أصلا.

١٥٤

فكم من صور لا انفكاك بينها (١) في خيال ، وهي (٢) في خيال آخر ممّا لا تجتمع (٣) أصلا ، وكم من صور (٤) لا تغيب (٥) عن خيال ، وهي في خيال آخر (٦) ممّا لا يقع قطّ [ولصاحب علم المعاني فضل (٧) احتياج إلى معرفة الجامع] ،

________________________________________

(١) أي لا انفكاك بين تلك الصّور في خيال أي حال كونها على هيئة خاصّة في خيال ، وهذا معنى الاختلاف في التّرتّب.

(٢) أي الصّور.

(٣) أي لا تجتمع بتلك الهيئة الخاصّة مثلا صور الدّواة والقلم والمداد والكتاب متقارنة في خيال الكاتب بالتّرتّب المذكور ، لأنّه يستفيد من الدّواة أوّلا ، ومن القلم ثانيا ، ومن المداد والكتاب ثالثا ، وفي خيال طالب العلم متقارنة بغير هذا التّرتّب ، وهو تقدّم صورة الكتاب على صورة الدّواة والقلم ، حيث إنّه يمارس الكتاب أوّلا ، ويحتاج إلى الدّواة والقلم في بعض الأوقات ، وثانيا فإذا ألقى الكلام المشتمل على تلك الأمور إلى الكاتب لا بدّ أن يراعي فيه التّرتيب الّذي عنده بأن يقال : أعطني دواتك وقلمك وكتابك ، وكذلك الأمر بالقياس إلى طالب العلم ، ولو انعكس الأمر لا يصحّ العطف.

(٤) أي هذا ناظر إلى قوله : «وضوحا».

(٥) أي كصورة الدّواة والقلم والكتاب بالقياس إلى خيال الكاتب.

(٦) أي كخيال القصّاب مثلا.

(٧) أي زيادة احتياج ، أي حاجة أكيدة ، فهو من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وقصد المصنّف بهذا حثّ صاحب هذا العلم على معرفة جزئيّات الجامع الواقعة في تراكيب البلغاء في مقام الفصل والوصل.

وبهذا اندفع ما يقال : إنّ صاحب هذا العلم يعرف أنّ الجامع العقليّ أمور ثلاثة ، والوهميّ أيضا ثلاثة ، والخياليّ واحد ، فلا معنى لحثّه على معرفتها ، وإنّما الّذي يحثّ على معرفتها طالب هذا العلم ، فكان الأولى للمصنّف أن يقول : ولطالب علم المعاني.

وبعبارة أخرى : إنّ المراد هو تعيين الجامع وتشخيصه في تراكيب البلغاء وتطبيق الكبريّات المعلومة له على الصّغريّات الواقعة في تلك التّراكيب ، ولا ريب أنّ هذا صعب جدّا.

١٥٥

لأنّ معظم أبوابه (١) الفصل والوصل ، وهو (٢) مبنيّ على الجامع [لا سيّما (٣)] الجامع [الخياليّ ، فإنّ جمعه (٤) على مجرى (٥) الألف والعادة] بحسب انعقاد (٦) الأسباب في (٧) إثبات الصّور في خزانة الخيال ، وتباين (٨) الأسباب ممّا يفوته الحصر.

________________________________________

(١) أي أبواب علم المعاني هذا الكلام على وجه المبالغة ، إذ ليس في الحقيقة باب الفصل والوصل معظم أبواب علم المعاني ، والمعنى المراد أنّ علم المعاني معياره الفصل والوصل ، بمعنى أنّ من أدركه كما ينبغي لم يصعب عليه شيء من سائر الأبواب ، بخلاف العكس أو المراد بالمعظم الأصعب. ولمّا يتوقّف تحقّق الفصل والوصل على الجامع تأكّدت حاجة صاحب هذا العلم إلى معرفة الجامع.

(٢) أي باب الفصل والوصل مبنيّ على الجامع وجودا وعدما.

(٣) أي خصوصا الجامع الخياليّ ، فإنّه أوكد أنواع الجامع الثّلاثة.

(٤) أي كونه جامعا بين الشّيئين ، وهذا علّة لقوله : «لا سيّما».

(٥) أي مبنيّ على جريان المألوف والمعتاد ، أي على جريان الصّورة المألوفة والمعتادة ، والمراد بجريانها وقوع ذلك المألوف من الصّور والمعتاد منها وقوعا متكرّرا في الخيالات والنّفوس ، فبذلك يحصل الاقتران الّذي هو الجامع.

(٦) أي وجود الأسباب ، أسباب التّقارن ، فالباء في قوله : «بحسب ...» متعلّق بمجرى ، والمعنى أنّ الجمع به مبنيّ على وجود الصّور المألوفة في الخيال ، ووجودها فيه بحسب الأسباب المقتضية لإثبات تلك الصّور واقترانها في الخيال ، كصنعة الكتابة ، فإنّها سبب لاقتران القلم والدّواة كما عرفت.

(٧) متعلّق بالأسباب ، وإضافة «خزانة» إلى «الخيال» بيانيّة ، وقوله : «في خزانة» متعلّق ب «إثبات» ، والمعنى أنّ كون الخياليّ جامعا بين الشّيئين مبنيّ على جريان الألف والعادة ، أي على وقوع الصّورة المألوفة والمعتادة متكرّرا بحسب انتظام الأسباب ، وحيث إنّ انتظام تلك الأسباب مختلف بالنّظر إلى الأشخاص ترتّبا ووضوحا ، كان لصاحب علم المعاني استفراغ وسعه في معرفة تلك الأسباب ، وتشخيص الجامع الخياليّ صغرى.

(٨) مبتدأ وقوله : «ممّا يفوته الحصر» خبره ، ومعنى العبارة : إنّ الأسباب المتباينة المتغايرة المقتضية لإثبات صور المحسوسات في الخيال ممّا يفوته الحصر ، أي ممّا لا يدخل تحت

١٥٦

فظهر (١) أن ليس المراد بالجامع العقليّ ما يدرك بالعقل (٢) وبالوهميّ ما يدرك بالوهم ، وبالخياليّ ما يدرك بالخيال ، لأنّ (٣) التّضادّ وشبهه

________________________________________

قانون وضابط ، ولكون عدم حصر تلك الأسباب لا يمكن بيانها على ما ينبغي.

اعلم أنّ تلك الأسباب المقتضية لإثبات الصّور في الخيال تختلف باختلاف الأشخاص والأغراض والأزمنة والأمكنة ، وحيث كانت تلك الأسباب لا تنحصر ، فاختلاف الصّور باعتبار الحضور في الخيال لا ينحصر أيضا ، ولذا نجد الشّيء الواحد يشبّه بصور من الصّور الحسّيّة المخزونة في الخيال ، فيشبّهه كلّ شخص بصورة مخالفة لما يشبّهه بها الآخر ، لكون تلك الصّورة الّتي شبّهه بها كلّ واحد هي الحاضرة في خياله ، كما روي أنّ سلاحيّا وصائغا وبقّارا ومؤدّب أطفال طلع عليهم البدر ، فأراد كلّ واحد أن يشبّهه بأفضل ما في خزانة خياله ، فشبّهه المراد بالتّرس المذهّب ، والثّاني بالسّبيكة المدوّرة ، والثّالث بالجبن الأبيض يخرج من قالبه ، والرّابع برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي ثروة ، فالصّور الّتي من شأنها حصولها في الخيال اختلفت في حضورها في الخيالات بمعنى أنّها وجدت في خيال دون آخر ، لأنّ كلّ شخص شبّه بما هو ملائم لما هو مخالطه.

(١) أي فظهر من تفسير الشّارح للجوامع الثّلاثة بما تقدّم في بيانها.

(٢) أي خصوص ما يدرك بالعقل بأن يكون كلّيّا ، بل المراد بالجامع العقليّ أمر بسببه يقتضي العقل اجتماع الشّيئين إمّا بالذّات إن كان كلّيّا ، وإمّا بالواسطة إن كان جزئيّا ، وبعبارة أخرى أنّه لا يعتبر في الجامع العقليّ أن يكون كلّيّا ، بل يكون عقليّا ، ولو كان جزئيّا يدرك في الأصل بالوهم ، فتسمية الاتّحاد في التّصوّر مثلا جامعا عقليّا لكونه سببا في جمع العقل بين الشّيئين ، فيعلم من هذا أنّ الجامع العقليّ هو ما كان سببا في جمع العقل ، سواء كان مدركا بالعقل لكونه كلّيّا أو مدركا بالوهم لكونه جزئيّا ، فالمراد بالعقل أمر بسببه يقتضي العقل في المفكّرة سواء كان من مدركاته بنفسه أو لا ، والمراد بالجامع الوهميّ أمر بسببه يقتضي الوهم الاجتماع في المفكّرة سواء كان من مدركاته بنفسه أو لا ، وكذلك الخيال ، فليس المراد بالجامع العقليّ خصوص ما كان مدركا بالعقل.

(٣) تعليل للنّفي الّذي ادّعي في المراد الوهميّ والخياليّ ، وإنّما لم يلتفت إلى بيان النّفي الّذي ادّعي في العقليّ لوضوح إدراك العقل ما ذكره المصنّف فيه من الاتّحاد والتّماثل والتّضايف ،

١٥٧

ليسا (١) من المعاني الّتي يدركها الوهم ، وكذا التّقارن (٢) في الخيال ليس من الصّور الّتي تجتمع في الخيال ، بل جميع ذلك (٣) معان معقولة (٤)

________________________________________

وإن كان الجامع العقليّ قد يكون مدركا بالوهم.

وحاصل الكلام في المقام : أنّه ليس المراد بالجامع الوهميّ ما يكون مدركا بالوهم «لأنّ التّضادّ» الكائن بين الشّيئين الكلّيّين كما في الأمثلة المذكورة ، فلا يرد بأنّ التّضادّ الجزئيّ وشبه التّضادّ الجزئيّ يدركهما الوهم ، فلا معنى لنفي إدراكه لهما.

(١) أي لأنّ التّضادّ وشبهه «ليسا من المعاني الّتي يدركها الوهم» ، فإنّ شأن الوهم إدراك المعاني الجزئيّة لا الكلّيّة ، كالتّضادّ بين السّواد والبياض ، وشبه التّضادّ بين طبيعيّ السّماء ، وطبيعيّ الأرض ، وبين الأوّل والثّاني.

(٢) أي التّقارن في الخيال الّذي هو الجامع الخياليّ ليس من الصّور الّتي تجتمع في الخيال فإنّ التّقارن ، أي تقارن الصّور من قبيل المعاني ، وإن كان متعلّقا بها.

(٣) أي جميع ما ذكر من الجوامع «معاني معقولة».

(٤) أي معان معقولة بحسب ما ذكره المصنّف من الأمثلة الكلّيّة ، وإلّا فقد يكون من المعاني الموهومة.

وتوضيح ذلك : إنّ التّضايف والتّماثل والاتّحاد والتّضادّ وشبه التّضادّ ، وشبه التّماثل إن لوحظت بالقياس إلى الأمرين الكلّيّين كما في الأمثلة الّتي سبقت ، فهي معان معقولة ومدركة بالعقل أوّلا لا غير ، وإن قيست بالنّسبة إلى الأمرين الجزئيّين فهي معان جزئيّة مدركة بالوهم أوّلا لا غير ، فعندئذ يتوجّه سؤال أنّه إذا كانت تلك الأمور في الفرض الأوّل مدركة بالعقل ، وفي الفرض الثّاني مدركة بالوهم ، فما هو السّرّ في جعل الاتّحاد والتّضايف والتّماثل جامعا عقليّا على الإطلاق ، والتّضادّ وشبهه ، وشبه التّماثل جامعا وهميّا كذلك.

والجواب عنه أنّ العقل يدرك ما أدركه الوهم بواسطته ، وكذلك بالعكس ، كما ذكرنا حيث قلنا : إنّ القوى المدركة كالمرائي المتقابلة يرتسم في كلّ واحدة منها ما يرتسم في الأخرى ، فإذا نقول : السّرّ في عدّ التّماثل والاتّحاد والتّضايف جامعا عقليّا مطلقا ، إنّ هذه الأمور صالحة للجمع في نظر العقل من دون أن يحتال في كونها جامعة إلى شيء ، فإنّ حضور أحد المتّحدين في المفكّرة هو عين حضور الآخر فيها واقعا ، وكذلك حضور أحد المتماثلين بعد

١٥٨

التّجريد ، وعدم ملاحظة الخصوصيّات هو عين حضور الآخر فيها واقعا ، وكذلك حضور أحد المتضايفين عندها مستلزم لحضور الآخر في نفس الأمر ، فهذه الأمور إن كانت كلّيّة ، فلا ينبغي الشّكّ في صحّة نسبتها إلى العقل من ناحية كونها جامعة ، لأنّها مدركة بالعقل حينئذ ، وصالحة للجمع في نظره ، وإن كانت جزئيّة فبما أنّها مدركة بلا واسطة ، وبالعقل بواسطة الوهم ، وتكون صالحة للجمع في نظر كلّ منهما ، فصحّ أن تنسب إلى الوهم ، وإلى العقل في مرحلة الجامعيّة إلّا أنّه اختار نسبتها إلى العقل ، لكونه أشرف وأدقّ في إدراكه وحكمه.

والسّرّ في عدّ التّضادّ وشبهه ، وشبه التّماثل جامعا وهميّا ، إنّ العقل وإن كان يدركها إمّا بالذّات إن كانت كلّيّة وإمّا بالواسطة إن كانت جزئيّة ، إلّا أنّه يرى في كلّ من الفرضين أنّها غير صالحة لجمع الشّيئين في المفكّرة ، وذلك لعدم كون حضور أحدهما عين حضور الآخر ، أو مستلزما له عنده في هذه الفروض ، فمن ذلك لا تصحّ نسبتها إلى العقل في مرحلة الجامعيّة ، وأمّا الوهم فبما أنّه قوّة حيّالة ، وتبرز الشّبيهين بالتّماثل في معرض المثلين ، وترى المتضادّين والشّبيهين بهما مثل المتضايفين فتصحّ نسبتها إليه في مرحلة الجامعيّة على نحو الإطلاق ، ولا ينافي ذلك عدم إدراكه للأمور الكلّيّة لأنّها تدركها بواسطة العقل ، هذا كلّه في الأمور المذكورة السّتّة.

وأمّا التّقارن فهو أيضا إمّا كلّيّ إن لوحظ بالقياس إلى أمرين كلّيّين ، وإمّا جزئيّ إن لوحظ بالقياس إلى أمرين جزئيّين ، فعلى الأوّل مدرك بالعقل ، وعلى الثّاني مدرك بالوهم ، وليس للخيال طريق إلى إدراكه أصلا ، فعندئذ يتوجّه سؤال أنّه إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا ينسب إلى الخيال في مرحلة الجامعيّة.

وجوابه إنّ السّرّ في ذلك هو أنّ العقل ينتزع الكلّيّين المتقارنين من الصّور المقارنة في الخيال ، وكذلك ينتزع تقارنهما من تقارنها فيه ، فإنّ التّقارن الجزئيّ موجود فيه ، وإن لم يكن مدركا له حيث إنّ شأنه إدراك الصّور لا إدراك المعاني ، ولو لم يكن هذا التّقارن الكائن بين الصّور الجزئيّة في الخيال ، لمّا كان العقل واجدا لشيء يوجب اجتماع الأمرين الكلّيّين في المفكّرة ، وإنّما الجامع عنده هو التّقارن الكلّي المنتزع من هذا التّقارن ، وهو الأصل والعمدة في حديث الاجتماع ، فمن ذلك ينبغي أن ينسب كون التّقارن

١٥٩

وقد خفي هذا (١) على كثير من النّاس ، فاعترضوا بأنّ السّواد والبياض مثلا من المحسوسات دون الوهميّات (٢). وأجابوا (٣) بأنّ الجامع كون كلّ منهما مضادّا للآخر ، وهذا (٤) معنى جزئيّ لا يدركه إلّا الوهم.

________________________________________

الكلّي جامعا إلى الخيال ، وإن كان يصحّ أن ينسب إلى العقل أيضا ، إلّا أنّ الأولى نسبته إلى الخيال ، وكذلك فيما إذا كان المتقارنان من المعاني الجزئيّة أو من الصّور ، فإنّ التّقارن على كلا التّقديرين معنى جزئيّ يدركه الوهم ، إلّا أنّه ينتزع المعنيان الجزئيّان كصداقة زيد وعداوة عمرو ، عمّا في الخيال من صورة زيد وصورة عمرو ، وكذلك ينتزع تقارن هذين المعنيين من تقارن هاتين الصّورتين فناسب أن ينسب التّقارن إلى الخيال في مرحلة عدّه من الجوامع ، إذ لو قطع الوهم نظره عن منشأ الانتزاع ، لما يرى شيئا جامعا بين المعنيين ، وهذا إذا كان المتقارنان من المعاني الجزئيّة.

وأمّا إذا كانا من الصّور ، فالأولى أن ينسب تقارنهما إلى الخيال في مرحلة الجامعيّة حيث إنّ متعلّقه حينئذ الصّور الكائنة في الخيال لا المعاني هذا ما يستفاد من مطاوي كلمات الشّارح.

(١) أي عدم كون المراد بالجامع العقليّ ما يدرك بالعقل وبالوهميّ ما يدرك بالوهم ، وبالخياليّ ما يدرك بالخيال ، أي خفي هذا على كثير من النّاس ، فاعتقدوا أنّ الجامع العقليّ هو ما يدرك بالعقل ، والجامع الوهميّ هو ما يدرك بالوهم ، والجامع الخياليّ ما يدرك بالخيال ، «فاعترضوا بأنّ السّوادّ والبياض مثلا من المحسوسات دون الوهميّات».

(٢) أي وحينئذ فمقتضاه أن يكون الجامع بينهما خياليّا ، لأنّ الخيال يدركهما بعد إدراك الحسّ المشترك ، فكيف يجعلهما المصنّف من الوهميّات ، ويجعل الجامع بينهما وهميّا ، مع أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني الجزئيّة.

(٣) عطف على «اعترضوا» أي الّذين اعترضوا أجابوا عن اعتراضهم «بأنّ الجامع» بينهما هو «كون كلّ منهما» أي السّواد والبياض مضادّا للآخر.

(٤) أي كون كلّ منهما مضادّا للآخر «معنى جزئيّ لا يدركه إلّا الوهم» ، فصحّ ما صنعه المصنّف حيث جعل الجامع بينهما وهميّا.

١٦٠