دروس في البلاغة - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

فعطف (وَقُولُوا) على (لا تَعْبُدُونَ) مع اختلافهما لفظا (١) لكونهما إنشائيّتين معنى ، لأنّ (٢) قوله : (لا تَعْبُدُونَ) إخبار في معنى الإنشاء (٣) [أي لا تعبدوا] وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) لا بدّ له من فعل ، فإمّا أن يقدّر خبرا في معنى الطّلب (٤) ، أي [وتحسنون بمعنى أحسنوا] ، فتكون الجملتان (٥) خبرا لفظا إنشاء معنى ، وفائدة تقدير الخبر (٦) ثمّ جعله بمعنى الإنشاء (٧) إمّا لفظا ، فالملاءمة (٨) مع قوله : (لا تَعْبُدُونَ) وإمّا معنى فالمبالغة (٩)

________________________________________

(١) أي حيث إنّ الأوّل خبر لفظا ، لأنّ لفظة «لا» فيه نافية ، بدليل بقاء النّون الّتي هي علامة الرّفع فلا يصحّ جعل «لا» ناهية ، لأنّها جازمة ، والثّاني أعني قوله : (قُولُوا) إنشاء لفظا ، لأنّها أمر ، فيكون مثالا لاتّفاقهما معنى لا لفظا ، ويكون الخبر أي (لا تَعْبُدُونَ) بمعنى الإنشاء ، أي لا تعبدوا.

(٢) أي لأنّ قوله : «علّة» لاختلاف الجملتين ، (٣) وذلك لأنّ أخذ الميثاق يقتضي الأمر والنّهي ، فهو نهي معنى هنا ، أي لا تعبدوا غير الله.

(٤) أي يقدّر خبر بمعنى الطّلب ، بقرينة المعطوف عليه ، وهو لا تعبدون.

(٥) أي وهما : لا تعبدون وتحسنون.

(٦) أي وهو تحسنون ، ثمّ قوله : «وفائدة تقدير الخبر» مبتدأ خبره ظاهرة ، أي فائدة تقدير الخبر ، ثمّ جعله بمعنى الإنشاء ظاهرة لفظا ومعنى ، ثمّ قوله : «إمّا لفظا» مع قوله : «إمّا معنى» تفصيل لذلك المحذوف.

(٧) أي أحسنوا.

(٨) أي المناسبة مع قوله : «لا تعبدون» ، فقوله : «تحسنون» يناسب قوله : «لا تعبدون» في الخبريّة لفظا.

(٩) أي الخبر كلفظ «لا تعبدون» بمعنى النّهي أبلغ من التّصريح بالنّهي ، أي لا تعبدوا ، وجه الأبلغيّة أنّ المخاطب كأنّه يسارع إلى امتثال النّهي ، فالمتكلّم يخبر عن المخاطب بأنّه سارع إلى الامتثال في زمان الحال.

١٢١

باعتبار أنّ المخاطب كأنّه (١) سارع إلى الامتثال ، فهو (٢) يخبر عنه ، كما تقول : تذهب إلى فلان تقول له كذا ، تريد الأمر ، أي اذهب إلى فلان فقل له كذا ، وهو (٣) أبلغ من الصّريح [أو] يقدّر من أوّل الأمر صريح الطّلب ، على ما هو الظّاهر (٤) أي [وأحسنوا] بالوالدين إحسانا ، فتكونان (٥) إنشائيّتين معنى ، مع أنّ لفظة الأولى (٦) إخبار ، ولفظة الثّانية (٧) إنشاء ، [والجامع (٨) بينهما] أي بين الجملتين (٩) [يجب أن يكون باعتبار المسند إليهما (١٠) والمسندين (١١) جميعا (١٢)] أي باعتبار المسند إليه في الجملة الأولى والمسند إليه في الجملة الثّانية ، وكذا باعتبار المسند في الجملة

________________________________________

(١) أي كأنّ المخاطب سارع إلى الامتثال ، فهذا هو النّكتة في إخراج الكلام لا على مقتضى الظّاهر في هذه الصّورة.

(٢) أي فالمتكلّم هو الله تعالى في الآية المباركة «يخبر عنه» أي عن الامتثال ، أي عن المخاطب بمسارعته عن امتثال المأمور به.

(٣) أي تذهب ، أعني الجملة الخبريّة أبلغ من صريح الأمر ، أي من اذهب.

(٤) أي لأنّ الأصل في الطّلب أن يكون بصيغته الصّريحة.

(٥) أي الجملتان ، وهما لا تعبدون وأحسنوا إنشائيّتين معنى ، والصّواب : فتكونا إنشائيّتين معنى ، لأنّه منصوب عطفا على «يقدّر» المنصوب عطفا على «يقدّر» السّابق ، ونصب ما هو من الأفعال الخمسة بحذف النّون ، اللهمّ إلّا أن يجعل مستأنفا ، أي إذا تقرّر ذلك ، فتكونان إنشائيّتين معنى.

(٦) أي والحال أنّ لفظة الأولى ، وهي «لا تعبدون» إخبار.

(٧) أي وهي قوله : «أحسنوا» إنشاء.

(٨) أي الجامع الّذي اعتبر في مواضع الوصل بين الجملتين ، وهو عبارة عن الوصف الّذي يقتضي الجمع بينهما بحيث يكون مقرّبا لهما.

(٩) أي سواء كان لهما محلّ من الإعراب أم لا.

(١٠) أي باعتبار الأمرين اللّذين أسند إليهما مسندهما في الجملتين.

(١١) أي باعتبار الأمرين اللّذين أسندا إلى أمرين في الجملتين.

(١٢) أي لا باعتبار المسند إليهما فقطّ ، ولا باعتبار المسندين فقطّ ، ولا باعتبار المسند إليه

١٢٢

الأولى ، والمسند في الجملة الثّانية [نحو : يشعر زيد ويكتب] للمناسبة الظّاهرة بين الشّعر والكتابة (١) وتقارنهما (٢) في خيال أصحابهما [ويعطي] زيد [ويمنع] لتضادّ الإعطاء والمنع (٣) ، هذا (٤) عند اتّحاد المسند إليهما ، وأمّا عند تغايرهما فلا بدّ من تناسبهما (٥) أيضا ، وكما أشار إليه بقوله : [وزيد شاعر وعمرو كاتب ، وزيد طويل وعمرو

________________________________________

في إحداهما ، والمسند في الأخرى ، ولا باعتبار عكس ذلك ، وبالجملة لا باعتبار أحدهما فقطّ ، بل باعتبار كليهما ، وفي هذا الكلام ردّ وتخطئة على ما يفهم من ظاهر كلام السّكّاكي هنا حيث قال : «الجامع بين الجملتين إمّا عقليّ ، وهو أن يكون بين الجملتين اتّحاد في تصوّر ما مثل الاتّحاد في المخبر عنه ، أو في المخبر به ، أو في قيد من قيودهما» فإنّه يفهم منه كفاية الجامع في متصوّر واحد فردّه المصنّف بما في المتن.

(١) وجه المناسبة بين الشّعر والكتابة أنّ كلّا منهما تأليف كلام ، غاية الأمر الشّعر تأليف كلام موزون والكتابة تأليف كلام منثور ، فبينهما تماثل من حيث المسندين ، واتّحاد من حيث المسند إليهما. والحاصل : إنّ بين «يشعر زيد ويكتب» جامع باعتبار المسند إليهما ، والمسندين جميعا.

(٢) أي تقارن الشّعر والكتابة في خيال أصحابهما ، وهم الأدباء الّذين يميّزون الجيّد من كلّ من النّظم والنّثر عن رديئهما ، وهذا جامع آخر غير الأوّل ، فإنّ التّقارن في الخيال جامع خياليّ ، فيصحّ أن يكون بين الشّيئين جامعان ، أحدهما خياليّ ، والآخر عقليّ.

(٣) فالجامع بينهما وهميّ لما سيأتي من أنّ التّضادّ أمر بسببه يحتال الوهم في اجتماع الأمرين المتضادّين في المفكّرة ، والظّاهر أنّ المراد بالتّضادّ هو المعنى اللّغويّ ، أي مطلق التّنافي ، فلا يرد عليه أنّ التّقابل بين العطاء والمنع هو تقابل العدم والملكة ، هذا إن قلنا : بأنّ المنع هو عدم العطاء عمّن من شأنه العطاء ، وأمّا إن قلنا : إنّه كفّ النّفس عن العطاء ، فالتّقابل بينهما تقابل التّضادّ بحسب اصطلاحهم ، لكونهما حينئذ أمرين وجوديّين ، وكيف كان فالتّناسب حاصل لأجل التّضادّ.

(٤) أي ما ذكرنا من المثالين عند اتّحاد المسند إليهما في الجملتين ، لأنّ الاتّحاد مناسبة ، بل أتمّ مناسبة ، لأنّه جامع عقليّ.

(٥) أي من تناسب المسند إليهما كتناسب المسندين ، أي لا بدّ من جامع آخر ، وهو

١٢٣

قصير لمناسبة بينهما] أي بين زيد وعمرو كالأخوّة ، أو الصّداقة ، أو العداوة ، أو نحو ذلك (١) ، وبالجملة (٢) يجب أن يكون أحدهما مناسبا للآخر وملابسا (٣) له ملابسة لها (٤) نوع اختصاص بهما (٥) [بخلاف زيد شاعر وعمرو كاتب ، بدونها] أي بدون المناسبة بين زيد وعمرو ، فإنّه لا يصحّ (٦) وإن اتّحد المسندان ، ولهذا (٧) حكموا بامتناع نحو : خفّي ضيّق ، وخاتمي ضيّق ،

________________________________________

المناسبة التّامّة والعلاقة الخاصّة بين زيد وعمرو في المثال المذكور ، ولا يكفي كونهما إنسانين أو قائمين أو قاعدين ، والحاصل إنّه إذا اتّحد المسند إليه فيهما ، كما في المثالين السّابقين لم يطلب جامع آخر غير ذلك الاتّحاد ، بل ذلك الاتّحاد هو الجامع ، وإن لم يتّحدا ، فلا بدّ من مناسبة خاصّة كالأخوّة والصّداقة مثلا ، ولا تكفي المناسبة العامّة كالإنسانيّة مثلا.

(١) أي كاشتراكهما في زراعة أو تجارة أو اتّصافهما بعلم أو شجاعة أو أمارة.

(٢) وقيل : إنّ هذا عطف على مقدّر ، والتّقدير هذا كلام بالتّفصيل ، والكلام بالجملة ، أي الإجمال ، وقيل : إنّ التّقدير : أقول قولا متلبّسا بالجملة ، أي بالإجمال ، والمعنى أقول قولا مجملا.

(٣) قوله : «وملابسا له» عطف تفسير لقوله : «مناسبا للآخر».

(٤) أي للملابسة نوع اختصاص ، فيكون قوله : «لها» صفة ملابسة.

(٥) أي بزيد وعمرو ، فقوله : «نوع اختصاص» ، احتراز عن المناسبة العامّة مثل المشاركة في الحيوانيّة والإنسانيّة ونحوهما.

(٦) أي لا يصحّ العطف مع عدم المناسبة بين المسند إليهما فيهما ، وإن كان بين المسندين فيهما مناسبة ، بل وإن كانا متّحدين ، نحو : زيد كاتب وعمرو كاتب.

(٧) أي لعدم المناسبة الخاصّة المشترطة عند تغاير المسند إليهما حكموا بامتناع نحو : «خفّي ضيّق وخاتمي ضيّق» ، وجه الامتناع وعدم صحّة العطف هو عدم مناسبة خاصّة بين المسند إليهما وهما الخفّ والخاتم ، ولا عبرة بمناسبة كونهما معا ملبوسين لبعدها ما لم يوجد بينهما تقارن في الخيال بأن يكون المقصود ذكر الأشياء المتّفقة في الضّيق ، فيصحّ العطف حينئذ ، لأنّه يصير مثل قولك : هذا الأمر ضيّق ، وهذا الأمر ضيّق ، فيتّحد الطّرفان.

١٢٤

[وبخلاف زيد شاعر وعمرو طويل مطلقا (١)] أي سواء كان بين زيد وعمرو مناسبة (٢) أو لم تكن (٣) ، لعدم (٤) تناسب الشّعر وطول القامة. [السّكّاكي] ذكر (٥) أنّه يجب أن يكون بين الجملتين (٦) ما يجمعهما عند (٧) القوّة المفكّرة جمعا من جهة العقل ، وهو الجامع العقليّ

________________________________________

(١) أي لا يصحّ فيه العطف مطلقا.

(٢) أي كالأخوّة والصّداقة والعداوة.

(٣) أي وإن لم تكن بينهما مناسبة خاصّة.

(٤) أي قوله : «لعدم تناسب الشّعر وطول القامة» ، علّة لعدم صحّة العطف مطلقا ، وحاصل الكلام في هذا المقام أنّه على فرض وجود المناسبة بين زيد وعمرو لا يصحّ العطف ، فإنّ المناسبة مفقودة بين المسندين ، أعني الشّعر وطول القامة ، فالمناسبة معدومة ، إمّا من جهة واحدة ، أو من جهتين ، ولذا لا يصحّ العطف مطلقا.

(٥) أي وحاصل ما ذكره السّكّاكي أنّه قسّم الجامع إلى عقليّ ووهميّ وخياليّ ، ونقل المصنّف كلامه مغيّرا لعبارته قصدا لاختصارها وإصلاحها ، فأفسد بدل الإصلاح ، وذلك سيظهر لك بعد الفراغ من شرح كلام المصنّف.

(٦) أي من حيث أجزائهما لا من حيث ذاتهما ، كما هو ظاهره.

(٧) أي في القوّة المفكّرة ، فالعنديّة عنديّة مجازيّة بمعنى في.

وكيف كان فتوضيح الجامع في المقام يحتاج إلى بسط الكلام ، فنقول : إنّ الفلاسفة عرّفوا النّفس في الطّبيعيّات بأنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ، ومرادهم بالكمال الأوّل ما يكمل النّوع في ذاته ، فتخرج به الكمالات الثّانية كالعلم مثلا ، حيث يكون من توابع الكمال الأوّل ، وخرج بقيد لجسم كمال المجرّدات من فصولها المنوّعة ، وخرج بقيد الطّبيعيّ الكمال الحاصل للجسم الصّناعيّ مثل صورة السّرير ، فإنّها كمال أوّل له ، ومرادهم بالآلي في قولهم : «آليّ» هو كون الكمال له آلات ، أي القوى الظّاهريّة والباطنيّة ، ثمّ قسّموا النّفس إلى سماويّة وأرضيّة ، وقسّموا الثّانية إلى النّباتيّة والحيوانيّة والنّطقيّة ، وأثبتوا للحيوانيّة قوى ظاهريّة وباطنيّة ، والأولى خمسة أقسام : الباصرة ، والسّامعة ، والشّامّة ، والذّائقة ، واللّامسة.

وعرّفوا الباصرة : بأنّها قوّة مودعة في ملتقى العصبتين المجوّفتين اللّتين تنبتان من غور

١٢٥

البطنين المقدّمين من الدّماغ يتيامن النّابت منهما يسارا وبالعكس ، أي ويتياسر النّابت منهما يمينا ، حتّى يلتقيا على تقاطع صلبيّ ، ثمّ يمتدّ النّابت يمينا إلى الحدقة اليمنى ، والنّابت يسارا إلى الحدقة اليسرى تدرك الأضواء والألوان أوّلا وبالذّات ، وسائر المبصرات ثانيا وبالعرض.

وعرّفوا السّامعة : بأنّها قوّة مودعة في العصب المفروش على سطح باطن الصّماخ تدرك الأصوات بسبب تموّج الهواء الحاصل بالقرع والقلع العنيفين.

وعرّفوا الشّامّة : بأنّها قوّة مودعة في العصبتين الزّائدتين النّابتتين في مقدّم الدّماغ الشّبيهتين بحلمتي الثّدي تدرك الرّوائح بوصول الهواء المتكيّف بالرّوائح إليها.

وعرّفوا الذّائقة : بأنّها قوّة منبثّة في العصب المفروش على جرم اللّسان تدرك الطّعوم بواسطة الرّطوبة اللّعابيّة.

وعرّفوا اللّامسة : بأنّها قوّة تدرك الملموسات سارية بمعونة الأعصاب في جلد البدن كلّه ولحمه ، إلّا ما يكون عدم الإحساس أنفع بحاله ، كباطن القدم ، وكالوجه في حالتيّ الحرّ والبرد مثلا ، والعظام لا لمس لها ، فإنّها دعائم البدن ، فلو أحسّت لتألّمت بالاصطكاكات ، هذا تمام الكلام في القوى الظّاهريّة.

وأمّا الثّانية أعني القوى الباطنيّة فهي أيضا على خمسة أقسام : الحسّ المشترك ، الخيال ، القوّة الوهميّة ، القوّة الحافظة ، المتخيّلة.

وأمّا الحسّ المشترك : فهي القوّة الّتي ترتسم فيها صور الجزئيّات المحسوسة المدركة بالحواسّ الخمس.

وأمّا الخيال : فهو يحفظ الصّور المرتسمة في الحسّ المشترك ، فهو كالخزانة له ، وبه يعرف من يرى ، ثمّ يغيب ، ثمّ يحضر ، ولو لا هذه القوّة لامتنعت معرفته واختلّ النّظام.

وأمّا القوّة الوهميّة : فهي الّتي تدرك المعاني الجزئيّة ، كالعداوة الّتي تدركها الشّاة من الذّئب ، والمحبّة الّتي يدركها الولد من أمّه.

وأمّا القوّة الحافظة : فهي الحافظة للمعاني الّتي يدركها الوهميّة ، فتكون كالخزانة للقوّة الوهميّة ، ونسبتها إلى الوهميّة نسبة الخيال إلى الحسّ المشترك.

وأمّا المتخيّلة : فهي القوّة الّتي تتصرّف في الصّور المحسوسة ، والمعاني الجزئيّة بالتّركيب

١٢٦

أو من جهة الوهم (١) وهو الجامع الوهميّ ، أو من جهة الخيال (٢) وهو الجامع الخياليّ (٣) والمراد (٤) بالعقل القوّة العاقلة المدركة للكلّيّات ،

________________________________________

والتّفصيل ، مثل إنسان ذي الرّأسين ، أو ذي مائة رأس ، وإنسان عديم الرّأس ، أو حيوان نصفه إنسان ونصفه فرس ، أو بقر أو شاة ، وتسمّى هذه القوّة مفكّرة ، إذا استعملها العقل ، ومتخيّلة إذا استعملها الوهم.

(١) عطف على قوله : «من جهة العقل» فالجامع الوهميّ عبارة عن أمر يجمع بين الشّيئين في القوّة المفكّرة جمعا ناشئا من جهة الوهم ، وذلك بأن يتخيّل بسبب ذلك الجامع على جمعهما في المفكّرة ، وذلك كشبه التّماثل والتّضادّ على ما يأتي ، وليس المراد بالجامع الوهميّ ما يدرك بالوهم من المعاني الجزئيّة الموجودة في المحسوسات على ما يأتي.

(٢) عطف على قوله : «من جهة العقل» فالجامع الخياليّ عبارة عن أمر يجمع بين الشّيئين في القوّة المفكّرة جمعا ناشئا من جهة الخيال ، وذلك بأن يتخيّل الخيال بسبب ذلك الأمر على الجمع بينهما في القوّة المفكّرة ، وليس المراد بالجامع الخياليّ ما يجتمع في الخيال من صور المحسوسات على ما يأتي.

(٣) لم يجر هنا على سنن ما قبله ، حيث نسب الجامع سابقا للقوّة المدركة ، وهي الواهمة لا لخزنتها ، وهي الحافظة ، وهنا نسبه لخزانة القوّة المدركة ، هي الحسّ المشترك ، لأنّ الخيال خزانة للحسّ المشترك ، كما يأتي ، فالحقّ أن يقال : وهو الجامع الحسّي ، ولعلّ ذلك لئلّا يتوهّم أنّ المراد الحسّ الظّاهر كالسّمع والبصر والشّمّ والذّوق واللّمس.

(٤) هذا شروع في بيان القوى الباطنيّة المدركة ، كما زعم الحكماء ، وهي أربعة القوّة الواهمة ، والقوّة العقليّة وقوّة الحسّ المشترك ، والقوّة المفكّرة ، وتفصيل الكلام في المقام أنّ الفلاسفة أثبتوا للنّفس النّاطقة مضافا إلى القوى الظّاهريّة الخمس الحواسّ الباطنيّة السّبع ، وهي القوّة العاقلة وخزانتها ، والوهميّة وخزانتها ، والحسّ المشترك وخزانته ، والمتصرّفة.

وعرّفوا القوّة العاقلة : بأنّها قوّة قائمة بالنّفس تدرك بالذّات الكلّيّات والجزئيّات المجرّدة عن عوارض المادّة المعروضة للصّور ، وعن الأبعاد كالطّول والعرض والعمق ، وذلك لأنّها مجرّدة فلا يقوم بها إلّا المجرّد ، وزعموا أن لتلك القوّة خزانة ، وهي العقل الفيّاض المدبّر لفلك القمر لما بينهما من الارتباط ، فإذا كنت ذاكرا لمعنى الإنسان كان ذلك إدراكا للقوّة العاقلة ، فإذا

١٢٧

غفلت عنه كان مخزونا في العقل الفيّاض. ووجه تسميته بالفيّاض : أنّهم يقولون : إنّ ذلك العقل هو المفيض للكون والفساد على جميع ما فوق كرة الأرض من الحيوانات والنّباتات والمعادن.

وقسّموا القوّة العاقلة : إلى العمّالة والعلّامة ، وعرّفوا الأولى بأنّها قوّة يعرف بها ما شأنه أن يفعله الإنسان بإرادته ، وعرّفوا الثّانية بأنّها قوّة يعرف بها ما شأنه أن يعلمه الإنسان ، وذكروا لكلّ من العقل النّظري والعقل العملي أربع مراتب.

فقالوا : إنّ الأوّل :

إمّا استعداد محض ، وإمّا استعداد اكتساب ، وإمّا استعداد استحضار ، وإمّا كمال ، والأوّل كالقوّة الكائنة للطّفل الخاليّة عن جميع المدركات ، وسمّوها بالعقل الهيولاني تشبيها بالهيولى الخاليّة عن كافّة الصّور الجسميّة.

والثّاني :

كالقوّة الكائنة لمن أدرك البديهيّات ليتمكّن من إدراك النّظريّات بواسطتها وسمّوها بالعقل بالملكة ، والمراد بها ما يقابل العدم ، لأنّ العقل يتلبّس في هذه المرتبة بالوجوديّات الّتي هي البديهيّات السّتّ ، وأمّا العقل الهيولاني فهو قوّة محضة خالية عن جميع الوجوديّات فبينهما تقابل العدم والملكة.

والثّالث :

كالقوّة الكائنة لمن اكتسب النّظريّات من البديهيّات ، وهي مخزونة في العقل الفعّال ، وبتلك القوّة يتمكّن من استحضارها من شاء بمجرّد الالتفات من دون نظر جديد ، وسمّوها بالعقل بالفعل.

والرّابع :

كالقوّة الكائنة لمن يكون جميع العلوم مستحضرا عنده ، وسمّوها بالعقل المستفاد.

هذا تمام الكلام في مراتب العقل النّظري ، وأمّا مراتب العقل العمليّ فهي : تجلية ، وتخلية ، وتحلية ، وفناء.

أمّا التّجلية : فهي تهذيب الظّاهر باستعمال الشّرائع النّبويّة والنّواميس الإلهيّة به ، أي بالعقل

١٢٨

العمليّ.

وأمّا التّخلية : فهي تهذيب الباطن بالعقل العملي عن سوء الأخلاق كالبخل والحسد ، ونحوهما من الملكات الرّذيلة.

وأمّا التّحلية : فهي تزيين الباطن بعد تخليته من الرّذائل بالفضائل والملكات الشّريفة.

وأمّا الفناء : فهو مشاهدة السّالك بالعقل العملي ، كلّ ذي ظهور مستهلكا بنور الله ، وهذه المرتبة لها مراتب ثلاث : المحو والطّمس والمحق.

أمّا المحو : فهو أن يشاهد السّالك كلّ الأفعال فانية في فعله سبحانه وتعالى.

وأمّا الطّمس : فهو أن يشاهد السّالك كلّ الصّفات فانية في وصفه تعالى.

وأمّا المحقّ : فهو أن يشاهد كلّ الوجودات فانية في وجوده سبحانه وتعالى.

هذا تمام الكلام في القوّة العاقلة.

وأمّا الوهميّة : فهي القوّة المدركة للمعاني الجزئيّة الموجودة بشرط أن تكون تلك المدركات الجزئيّة لا تتأتّى إلى مدركها من طرق الحواسّ ، وذلك كإدراك صداقة زيد ، وعداوة بكر ، وإدراك الشّاة ، وإيذاء الذّئب مثلا ، ومحلّ تلك القوّة أوّل التّجويف الآخر من الدّماغ من جهة القفا ، وذلك لأنّهم يقولون : إنّ في الدّماغ تجاويف ، أي بطونا ثلاثة : إحداها في مقدّم الدّماغ ، وأخرى في مؤخّره ، وثالثة في وسطه ، فيزعمون أنّ الوهم قائم بأوّل التّجويف الآخر ، ولتلك القوّة الواهمة خزانة تسمّى الذّاكرة والحافظة قائمة بمؤخّر تجويف الوهم ، فإذا أدركت محبّة زيد ، وعداوة عمرو ، كان ذلك الإدراك بالقوّة الواهمة ، فإذا غفلت عن ذلك كان مخزونا في خزانتها ، وهي الحافظة ، فترجع تلك القوّة إليها عند المراجعة.

وأمّا الحسّ المشترك : فهو القوّة الّتي تتأدّى ، أي تصل إلى الصّور المحسوسة الجزئيّة من الحواسّ الظّاهرة ، فتدركها وهي قائمة بأوّل التّجويف الأوّل من الدّماغ من جهة الجبهة ، ويعنون بالصّور المدركة بهذه القوّة ما يمكن إدراكه بالحواسّ الظّاهرة ، ولو كان مسموعا كصورة زيد المدركة بالبصر ، وكرائحة هذا الشّيء المدركة بالشّمّ ، وكحسن هذا الصّوت ، أو قبحه المدرك بالسّمع ، وحلاوة هذا العسل المدركة بالذّوق ، ونعومة هذا الحرير المدركة باللّمس ، ويعنون بالمعانيّ الجزئيّة المدركة للوهم ما لا يمكن إدراكه بالحواسّ الظّاهرة

١٢٩

كالمحبّة والعداوة والإيذاء ، وخزانة الحسّ المشترك الخيال ، وهو قوّة قائمة بآخر تجويف الحسّ المشترك تبقى فيه تلك الصّور بعد غيبتها عن الحسّ المشترك ، فإذا نظرت لزيد أدركت صورته بالبصر ، وتتأدّى تلك الصّورة للحسّ المشترك ، فيدركها ، فإذا غفلت عنها كانت مخزونة في الخيال ، ليرجع الحسّ إليها عند مراجعتها ، وكذا يقال : فيما إذا ذقت عسلا مثلا ، أو لمست شيئا أو سمعت صوتا ، فالحواسّ الظّاهرة كالطّريق الموصل إليه.

وأمّا المفكّرة : فهي قوّة في التّجويف المتوسّط بين الخزانتين تتصرّف في الصّور الخياليّة ، وفي المعاني الجزئيّة الوهميّة ، وفي المعاني الكلّيّة العقليّة ، وهي دائما لا تسكن يقظة ولا مناما ، وإذا حكمت بين تلك الصّور وتلك المعاني ، فإن كان حكمها بواسطة العقل ، كان ذلك الحكم صوابا في الغالب ، وذلك بأن كان تصرّفها في الأمور الكلّيّة ، وإن كان حكمها بواسطة الوهم بأن كان تصرّفها في معان جزئيّة ، أو بواسطة الخيال ، بأن كان تصرّفها في صور جزئيّة ، كان ذلك الحكم كاذبا في الغالب.

فالأوّل : أي بأن كان حكمها بواسطة العقل ، كالحكم على زيد بأنّه إنسان.

والثّاني : أي بأن كان حكمها بواسطة الوهم ، كالحكم على أنّ زيدا عدوّه.

والثّالث : أي بأن كان حكمها بواسطة الخيال كالحكم باستقرار رأس الحمار على جثّة الإنسان ، وكالحكم على الحبل بأنّه ثعبان ، وهي إنّما تسمّى مفكّرة في الحقيقة ، إذا تصرّفت بواسطة العقل ، بأن كان تصرّفها في معان كلّيّة ، أو تصرّفت بواسطة العقل والوهم معا بأن كان تصرّفها في معان كلّيّة وجزئيّة ، وأمّا إن تصرّفت بواسطة الوهم وحده بأن كان تصرّفها في معان جزئيّة ، أو بواسطة الخيال وحده ، بأن كان تصرّفها في صور جزئيّة أو بواسطتها خصّت باسم المتخيّلة أو المتوهّمة ، وإنّما قيّدنا إدراك القوّة العاقلة بقولنا بالذّات ، أي إنّها قوّة قائمة بالنّفس تدرك بالذّات الكلّيّات لأنّها تدرك المعاني الجزئيّة بواسطة الوهم ، وتدرك أيضا الصّور الجزئيّة بواسطة الحسّ المشترك.

والحسّ يدرك المعاني الجزئيّة بواسطة الوهم ، وهو يدرك الصّور الجزئيّة بواسطة الحسّ المشترك ، فإنّ القوى الباطنيّة كالمرائي المتقابلة يرتسم في كلّ واحدة منها ما يرتسم في الأخرى.

١٣٠

وبالوهم (١) القوّة المدركة للمعاني الجزئيّة الموجودة في المحسوسات من غير أن تتأدّى (٢) إليها من طرق الحواسّ ، كإدراك (٣) الشّاة معنى في الذّئب. وبالخيال (٤) القوّة الّتي تجتمع فيها صور المحسوسات ، وتبقى فيها بعد غيبوبتها

________________________________________

والحاصل : إنّ في الباطن سبعة أمور : القوّة العاقلة ، وخزانتها ، والوهميّة ، وخزانتها ، والحسّ المشترك ، وخزانته ، والمفكّرة.

وبهذه السّبعة ينظّم أمر الإدراك ، وذلك لأنّ المفهوم المدرك إمّا كلّيّ أو جزئيّ ، والجزئيّ إمّا صور وهي المحسوسة بالحواسّ الخمس الظّاهرة ، وإمّا معان ولكلّ واحد من الأقسام الثّلاثة مدرك وحافظ ، فمدرك الكلّي هو العقل وحافظه المبدأ الفيّاض ، ومدرك الصّور هو الحسّ المشترك وحافظها هو الخيال ، ومدرك المعاني هو الوهم وحافظها هو الذّاكرة ، ولا بدّ من قوّة أخرى متصرّفة وتسمّى مفكّرة ومتخيّلة.

(١) أي المراد بالوهم هي القوّة المدركة للمعاني الجزئيّة مثل العداوة والصّداقة من زيد ، ومثل إدراك الشّاة الإيذاء والعداوة في الذّئب ، فالعداوة الّتي في الذّئب معنى جزئيّ تدركها الشّاة بالواهمة.

(٢) أي من غير أن تصل إلى تلك المعاني من طرق الحواسّ ، وهذه زيادة توضيح ، لأنّ المعاني عبارة عمّا يقابل الصّور ، والمتأدّى بالحواسّ هو الصّور ، فالمسموعات والمشمومات والمذوقات والملموسات داخلة في الصّور لا في المعاني ، وليس المراد بالصّور خصوص المبصرات ، وبالمعاني ما عداها ، حتّى يدخل فيها ما ذكر.

(٣) أي كالقوّة الّتي تدرك بها الشّاة معنى في الذّئب ، وهو الإيذاء والعداوة ، فالعداوة الّتي تدركها الشّاة بالواهمة معنى جزئيّ ، لم يتأدّ إليها من حاسّة ظاهرة لا من السّمع ، ولا من البصر ، ولا من الشّمّ ، ولا من الذّوق ، ولا من اللّمس. ثمّ قوله : «كإدراك الشّاة» ، إشارة إلى أنّ الوهم ليس مختصّا بذي العقل.

(٤) أي المراد بجامع الخيال هي القوّة التي تجتمع فيها صور المحسوسات ، وتبقى صور المحسوسات في القوّة الخياليّة ، فهي خزانة للحسّ المشترك ، وليست مدركة.

نعم ، متى التفت الحسّ المشترك إلى تلك الصّور بعد غيبتها عنه وجدها حاصلة في

١٣١

عن الحسّ المشترك ، وهو (١) القوّة الّتي تتأدّى إليها صور المحسوسات من طرق الحواسّ (٢) الظّاهرة ، وبالمفكّرة (٣) القوّة الّتي من شانها التّفصيل (٤) والتّركيب (٥) بين الصّور المأخوذة من الحسّ المشترك ،

________________________________________

الخيال الّذي هو خزانته ، فالحسّ المشترك هو المدرك للصّور ، والخيال قوّة ترسم فيه تلك الصّور ، فهو خزانة له.

(١) أي الحسّ المشترك القوّة الّتي تتأدّى ، أي تصل إليها صور المحسوسات من طرق الحواسّ الظّاهرة ، فهو كحوض يصبّ فيه من أنابيب خمسة ، هي الحواس الخمس ، أي السّمع والبصر والشّمّ والذّوق واللّمس.

(٢) إضافة طرق إلى الحواسّ بيانيّة ، وقد عرفت تعريف الحواسّ الظّاهرة مفصّلا.

(٣) أي المراد بالمفكّرة ، أي المتصرّفة ، وكان عليه أن يقول : وبالمتصرّفة ، لأنّها هي الّتي تنقسم إلى المفكّرة والمتخيّلة.

(٤) أي التّفريق بقرينة التّركيب ، أي تفصيل بعض الصّور والمعاني عن بعض ، كصورة إنسان عديم الرّأس وتصوّر صداقة زيد خاليا عن محبّة.

(٥) أي تركيب الصّورة بالصّورة ، كما في قولك : صاحب هذا اللّون المخصوص له هذا الطّعم المخصوص ، وتركيب هذا المعنى بالمعنى ، كما في قولك : ما له هذه العداوة له هذا النّفرة ، وتركيب الصّور بالمعنى ، كما في قولك : صاحب هذه الصّداقة له هذا اللّون.

وتفصيل الكلام في المقام : إنّ شأن تلك القوّة تركيب الصّور المحسوسة الّتي تأخذها من الحسّ المشترك ، وتركيب بعضها مع بعض ، كتركيب رأس الحمار على جثّة الإنسان ، وإثبات إنسان له جناحان ، أو رأسان ، وشأنها أيضا تركيب المعاني الّتي تأخذها من الوهم مع الصّور الّتي تأخذها من الحسّ المشترك ، بأن تثبت تلك المعاني لتلك الصّور ، ولو على وجه لا يصحّ ، كإثبات العداوة للحمار ، والعشق للحجر ، وشأنها أيضا تفصيل الصّور عن المعاني بنفيها عنها ، وتفصيل الصّور بعضها عن بعض ، ومثال تفصيل الصّور بعضها عن بعض ، ولو على وجه لا يصحّ ، كتفصيل أجزاء الإنسان عنه حتّى يكون إنسانا بلا يد ، ولا رجل ولا رأس ، ومثال تفصيل المعاني عن الصّور بنفيها عنها ، كنفي الجمود عن الحجر ، ونفي المائعيّة عن الماء ، ومن أجل ذلك تخترع أمورا لا حقيقة لها ، حتّى أنّها تصوّر المعنى بصورة

١٣٢

والمعاني المدركة بالوهم (١) بعضها (٢) مع بعض ، ونعني بالصّور (٣) ما يمكن إدراكه بإحدى الحواسّ الظّاهرة ، وبالمعاني ما لا يمكن إدراكه بها (٤). فقال (٥) السّكّاكي الجامع بين الجملتين إمّا عقليّ ، وهو أن يكون بين الجملتين

________________________________________

الجسم ، والجسم بصورة المعنى ، فإن اخترعت تلك الأمور بواسطة صور مدركة بالحسّ المشترك ، سمّي ما اخترعته خياليّا ، كاختراعها أعلاما ياقوتيّة منشورة على رماح زبرجديّة ، وإن اخترعتها ، ممّا ليس مدركا بالحسّ سمّي ما اخترعته وهميّا ، وذلك كما إذا سمع إنسان قول القائل : الغول شيء يهلك ، فيصوّره بصورة مخترعة بخصوصها مركّبة من أنياب مخترعة بخصوصها أيضا.

(١) المناسب لما قبله أن يقول : والمعاني الّتي تأخذها من الوهم ، حتّى يتحقّق التّناسب بين المعاني والصّور ، حيث قال فيما قبله الصّور المأخوذة من الحسّ المشترك ، لأنّ كلّا من الحسّ المشترك والوهم قوّة مدركة لا حافظة ، وإن كان الأوّل مدركا للصّور المحسوسة الواصلة إليها من طرق الحواسّ الظّاهرة ، والثّاني مدركا للمعاني الجزئيّة الموجودة في المحسوسات من غير أن تتأدّى إليها من طرق الحواسّ ، ويظهر من بعض أنّ المعاني الجزئيّة من الوهم والحفظ من المفكّرة ، أي الحافظة فهي خزانته.

(٢) أي بعض الصّور مع بعض ، فيكون بعضها بدلا من الصّور ، أي شأن القوّة المفكّرة تركيب الصّور والمعاني ، أي بعضها مع بعض ، كإثبات إنسان له جناحان أو رأسان ، كما تقدّم تفصيل ذلك.

(٣) أي الصّور المدركة بالحسّ المشترك.

(٤) أي بإحدى الحواسّ الظّاهرة ، أي المراد بالمعاني ما لا يمكن إدراكه بإحدى الحواسّ.

لا يقال : يدخل في هذا المعاني الكلّيّة المدركة بالعقل.

لأنّا نقول : إنّ ما واقعة على معان جزئيّة ، لأنّ المعاني المدركة بالوهم الّتي الكلام فيها لا تكون إلّا جزئيّة.

(٥) عطف على قوله سابقا : «ذكر» ، وقوله هنا : «السّكّاكي» إظهار في محلّ إضمار لبعد العهد بكثرة الفصل.

١٣٣

اتّحاد في تصوّر ما ، مثل الاتّحاد (١) في المخبر عنه (٢) أو في المخبر به (٣) أو في قيد من قيودهما (٤) ، وهذا (٥) ظاهر في أنّ المراد بالتّصوّر الأمر المتصوّر ، ولمّا كان مقرّرا (٦) أنّه لا يكفي في عطف الجملتين وجود الجامع بين مفردين من مفرداتهما باعتراف السّكّاكي أيضا غيّر المصنّف عبارة السّكّاكي (٧)

________________________________________

(١) ويفهم من هذا الكلام أنّ الاتّحاد في واحد من المخبر عنه ، أو المخبر به ، أو قيد من قيودهما كاف للجمع بين الجملتين ، وفساده واضح ، وهذا اعتراض أشار إليه الشّارح بقوله : «ولمّا كان مقرّرا» وسيجيب عنه الشّارح بما حاصله من أنّ كلامه هنا في بيان الجامع في الجملة ، لا في بيان القدر الكافي بين الجملتين ، لأنّه ذكره في موضع آخر.

(٢) أي المبتدأ ، نحو : زيد كاتب وزيد شاعر ، أو فلان يصلّي ويخشع.

(٣) أي الخبر ، نحو : زيد كاتب وعمرو كاتب ، ولو عبّر بالمسند إليه والمسند ـ بدل المخبر عنه والمخبر به ـ لكان أولى لأجل أن يشمل الجمل الإنشائيّة.

(٤) أي من قيود المسند إليه والمسند مثاله في قيد المسند إليه نحو : زيد الرّاكب قائم وعمرو الرّاكب ضارب ، ومثاله في قيد المسند نحو : زيد أكل راكبا ، وعمرو ضرب راكبا.

(٥) أي قول السّكّاكي : «مثل الاتّحاد» ظاهر في أنّ المراد بالتّصوّر الأمر المتصوّر ، لأنّ المخبر عنه والمخبر به ، وقيدهما أمور متصوّرة لا أنّها تصوّرات ، ولا بأس في إطلاق التّصوّر على المتصوّر ، إذ كثيرا ما تطلق التّصوّرات والتّصديقات على المعلومات التّصوريّة والتّصديقيّة.

(٦) قوله : «مقرّرا» خبر كان مقدّما ، وقوله : أنّه لا يكفي اسمها ، ومعنى العبارة أنّه كان مقرّرا عند البلغاء عدم كفاية وجود الجامع بين مفردين من مفردات الجملتين في عطفهما ، وباعتراف السّكّاكي أيضا ، مع أنّ عبارته السّابقة تؤذن وتشعر بالكفاية غيّر المصنّف عبارة السّكّاكي.

مرادا به الإدراك لا المتصوّر ، لأنّ تصوّر المنكّر نكرة في سياق الإثبات ، فلا يصدق إلّا على فرد ، فيقتضي كفاية الاتّحاد في متصوّر واحد ، فعدل عنه للمعرّف ليفيد أنّ الجامع الاتّحاد في جنس المتصوّر ، فيصدق بتصوّر المسندين والمسند إليهما ، ولا يكفي تصوّر واحد.

(٧) قوله : «غيّر المصنّف عبارة السّكّاكي» جواب لمّا في قوله : «لمّا كان مقرّرا» أي غيّرها للإصلاح لما فيها من إيهام خلاف المقصود ، فأبدل الجملتين بالشّيئين الشّاملين للرّكنين بجعل أل في الشّيئين للعموم بمعنى أنّ كلّ شيئين من الجملتين يجب الجامع بينهما ، فيقتضي ذلك وجوب وجود الجامع بين كلّ ركنين ، وأبدل تصوّر المنكّر بالتّصوّر المعرّف

١٣٤

فقال : [الجامع بين الشّيئين (١) إمّا عقليّ] وهو (٢) أمر بسببه يقتضي العقل اجتماعهما (٣) في المفكّرة ، وذلك (٤) [بأن يكون بينهما اتّحاد في التّصوّر (٥)

________________________________________

والحاصل إنّ المصنّف إنّما عدل عن الجملتين إلى الشّيئين ، لأنّ الجامع يجب في المفردات أيضا ، فنبّه على أنّ ما ذكره لا يخصّ الجملتين ، وعدل عن تصوّر إلى التّصوّر ، لأنّ المتبادر منه كفاية الاتّحاد في متصوّر واحد ، فعدل للمعرّف ليفيد أنّ الجامع الاتّحاد في جنس المتصوّر ، ولا يكفي الاتّحاد في متصوّر واحد.

(١) أي بين كلّ شيئين من الجملتين ، فأل للاستغراق ، فيستفاد منه اشتراط وجود الجامع بين كلّ ركنين من أركانهما.

(٢) أي الجامع العقليّ أمر ، أي كالاتّحاد في التّصوّر والتّماثل.

(٣) أي اجتماع الشّيئين ، أي اجتماع معناهما في المفكّرة ، وهي الآخذة من الوهم والحسّ المشترك لتتصرّف في ذلك المأخوذ منهما بالتّركيب فيه ، والحلّ على وجه الصّحّة أو البطلان ، كما مرّ وأنت خبير بأنّ الّذي أوجب الجمع عند المفكّرة ، وهو قوّة العقل المدركة بسبب الاتّحاد أو التّماثل مثلا ، فلذا يسمّى كلّ منهما جامعا عقليّا.

والحاصل : إنّ القوّة العاقلة هي الّتي تجمع بين الشّيئين في المفكّرة بسبب هذا الأمر ، فتتصرّف فيهما المفكّرة حينئذ بما تتصرّف به ، وعلى هذا فتسمية الاتّحاد في التّصوّر مثلا جامعا عقليّا لكونه سببا في جمع العقل بين الشّيئين ، فعلم من هذا أنّ الجامع العقليّ هو السّبب في جمع العقليّ ، سواء كان مدركا بالعقل لكونه كلّيّا أو مضافا لكلّي أو مدركا بالوهم ، بأن كان جزئيّا لكونه مضافا لجزئيّ ، وليس المراد بالجامع العقليّ ما كان مدركا بالعقل.

(٤) أي الجامع العقليّ «بأن يكون» أي يتحقّق بوجود الاتّحاد أو التّماثل بينهما من تحقّق الجنس في النّوع ، كما يقال : يوجد الحيوان بوجود الإنسان.

(٥) أي عند تصوّر العقل لهما ، وذلك إذا كان الثّاني هو الأوّل نحو : زيد كاتب وهو شاعر ، ولا يضرّ اختلاف الجامع ، فإنّه في المسند إليه عقليّ ، وفي المسندين خياليّ ، وهو تقارن الشّعر والكتابة ، والمراد بالتّصوّر هو التّصوّر المفرد الواقع في الجملتين ، أي في تصوّر المسند إليه أو المسند أو قيد من قيودهما ، كالصّفة أو الحال أو التّمييز أو الظّرف أو غيرها.

١٣٥

أو تماثل (١) فإنّ العقل بتجريده (٢) المثلين عن التّشخّص في الخارج يرفع التّعدّد] بينهما ، فيصيران (٣) متّحدين.

________________________________________

(١) أي أو يكون بينهما تماثل ، وذلك بأن يتّفقا في الحقيقة ، ويختلفا في العوارض ، فمثال ما إذا كان بينهما تماثل في المسند إليه ، كأن يقال : زيد كاتب ، وعمرو شاعر ، فبين زيد وعمرو تماثل في الحقيقة الإنسانيّة ، فكأنّه قيل : الإنسان كاتب ، والإنسان شاعر ، ومثال التّماثل في المسند نحو زيد أب لبكر ، وعمرو أب لخالد ، فأبوّة زيد وأبوّة عمرو حقيقتهما واحدة ، وإن اختلفتا بالشّخص ، فإذا جرّدتا عن الإضافة المشخّصة صارتا شيئا واحدا.

(٢) أي قوله : «فإنّ العقل ...» تعليل لكون التّماثل ما يقتضي بسبب العقل جمعهما في المفكّرة ، وبيان لوجه كون التّماثل جامعا عقليّا ، وهو في الحقيقة جواب عمّا يقال : إنّ إدراك العقل منحصر في الكلّيّات ، وإنّ المتماثلين قد يكونان من الجزئيّات الجسمانيّة ، والعقل لا يدرك الجزئيّات الجسمانيّة ، لأنّ العقل مجرّد عن المادّة والجزئيّات الجسمانيّة ليست مجرّدة عنها ، فلا تناسب العقل المجرّد ، والّذي يناسبه إنّما هو الكلّيّ والجزئيّ المجرّد ، وحيث كان الجزئيّ الجسماني لا يدركه العقل ، فكيف يجمع بينهما في المفكّرة.

وحاصل جواب المصنّف : إنّ العقل يدركهما بعد تجريدهما عن المشخّصات.

وقوله : بتجريد ، مصدر مضاف لفاعله ، وهو متعلّق ب «يرفع» والباء سببيّة ، والمراد بتجريد العقل للمثلين عن المشخّصات عدم ملاحظته لتلك المشخّصات الّتي فيها قوله : «عن التّشخّص» أي عن الصّفة المشخّصة أي المميّز لهما في الخارج الّتي بها يباين أحدهما الآخر من طول وعرض ولون ، قوله : «يرفع التّعدّد ...» أي يرفع العقل التّعدّد الحاصل بين المثلين كزيد وعمرو ، وهذه الجملة خبر إنّ في قوله : «فإنّ العقل» ، أي فإنّ العقل يرفع التّعدّد الحاصل بين المثلين بتجريد العقل لهما عن المشخّصات الخارجيّة.

(٣) أي فيصير المثلان متّحدين في الذّهن ، كالحيوان النّاطق حيث يصيران شيئا واحدا عند المفكّرة.

١٣٦

وذلك (١) لأنّ العقل يجرّد الجزئيّ (٢) الحقيقيّ عن عوارضه المشخّصة الخارجيّة (٣) ، وينتزع منه المعنى الكلّي (٤) فيدركه على (٥) ما تقرّر في موضعه. وإنّما قال (٦) في الخارج ، لأنّه (٧) لا يجرّده (٨)

________________________________________

(١) أي رفع التّعدّد حاصل بالتّجريد المذكور ، لأنّ العقل باعتبار كونه مجرّدا لا يدرك بذاته الجزئيّ من حيث هو جزئيّ ، بل يجرّده عن العوارض الشّخصيّة في الخارج ، وينتزع منه المعنى الكلّي ، فيدركه ، فمثل زيد كاتب ، وعمرو شاعر ، إذا جرّد كلّ منهما عن المشخّصات الخارجيّة صارا متّحدين ، فيكون حضور أحدهما في المفكّرة حضور الآخر ، فنحو : زيد كاتب وعمرو شاعر ، يقومان مقام قولك : الإنسان كاتب والإنسان شاعر ، فعلم من هذا أنّ الاتّحاد جامع ، سواء كان حقيقيّا أو حكميّا.

(٢) المراد به الجزئيّ الجسمانيّ ، وهو ما يمنع نفس تصوّره من وقوع الشّركة فيه.

لا يقال : إنّ تجريد العقل للجزئيّ المذكور لا يكون إلّا بعد إدراكه والعقل لا يدركه ، لأنّه إنّما يدرك الكلّي أو الجزئيّ المجرّد ، وحينئذ فلا يمكن أن يجرّد الجزئيّ الحقيقيّ ، إذ فيه تجريد الشّيء قبل إدراكه.

فإنّه يقال : إنّ المنفيّ عن العقل إدراكه للجزئيّ المذكور بالذّات ، وهذا لا ينافي إدراكه واستشعاره له بالواسطة ، أي بواسطة الحسّ بأن يقال : إنّ الجزئيّات الجسمانيّة تدرك أوّلا بالحسّ فإذا أدركها الحسّ استشعرها العقل ، ثمّ يجرّدها بعد ذلك عن المشخّصات بواسطة المفكّرة ثمّ يدركها بالذّات.

(٣) أي كالألوان والأكوان المخصوصة والمقدار المخصوص ، والمراد بالخارج هنا ما يعمّ خارج الأعيان ، وخارج الأذهان ، فتدخل الجزئيّات المعدومة.

(٤) أي الماهيّة الكلّيّة كماهيّة الإنسان ، أعني الحيوان النّاطق.

(٥) أي «على» متعلّق بقوله : «يجرّد» ، والمراد بموضعه كتب الحكمة والمنطق.

(٦) أي ، وإنّما قال المصنّف : «في الخارج» ، ولم يقل بتجريده المثلين عن جميع العوارض المشخّصة ، لأنّ العقل لا يجرّد الجزئيّ الحقيقي عن المشخّصات العقليّة.

(٧) أي العقل.

(٨) أي الجزئيّ الحقيقي.

١٣٧

عن المشخّصات العقليّة (١) لأنّ (٢) كلّ ما هو موجود في العقل (٣) فلا بدّ له (٤) من تشخّص (٥) فيه (٦) به (٧) يمتاز من سائر المعقولات. وههنا (٨) بحث ، وهو (٩) أنّ التّماثل هو الاتّحاد في النّوع ، مثل اتّحاد زيد وعمر مثلا في الإنسانيّة ، وإذا كان التّماثل جامعا لم تتوقّف صحّة قولنا : زيد كاتب وعمرو

________________________________________

(١) أي الفصول الّتي لا يتحقّق التّمايز بين الكلّيّات في العقل إلّا بها ، كالنّاطقيّة بالنّسبة للإنسان ، والنّاهقيّة بالنّسبة للحمار ، والصّاهليّة بالنّسبة للفرس ، ويقال لها مشخّصات ذهنيّة أيضا.

(٢) أي هذا علّة لعدم تجريد العقل للمشخّصات العقليّة.

(٣) أي كماهيّة الإنسان.

(٤) أي للموجود في العقل.

(٥) أي من مشخّص ومعيّن.

(٦) أي في العقل.

(٧) أي بذلك المشخّص يمتاز ما في العقل عن سائر المعقولات.

وحاصل الكلام في المقام : إنّ الأمرين الكلّيّين كالإنسان والفرس كلّ منهما حاصل عند العقل ، ومتعيّن فيه عن غيره بواسطة أنّ المعيّن للأوّل هو النّاطقيّة وللثّاني هو الصّاهليّة ، فلو جرّدهما العقل من مميّزهما لزم أنّهما معلوم واحد ، ولزم أنّ الأشياء كلها معلوم واحد عند تجريد سائر الكلّيّات ، وكون الأشياء كلها معلوما واحدا باطل. فلا بدّ من الالتزام بتعدّدها وامتياز بعضها عن البعض عند العقل.

(٨) أي في جعل التّماثل جهة جامعة عقلا بالبيان المتقدّم بحث ونظر.

(٩) أي البحث والنّظر أنّ التّماثل عند الحكماء هو الاتّحاد في النّوع ، أي في الحقيقة ، فإذا كان جامعا لم تتوقّف صحّة قولنا : زيد كاتب وعمرو شاعر على مناسبة بين زيد وعمرو مثل الأخوّة أو الصّداقة ، مع أنّه قد تقدّم أنّ المسند إليهما إذا تغايرا فلا بدّ من مناسبة بينهما كالأخوّة والصّداقة.

وحاصل النّظر : والإشكال : إنّ التّماثل إذا كان جامعا صحّ قولنا : زيد كاتب وعمرو شاعر ، ولم تتوقّف صحّة العطف في المثال المذكور على مناسبة أخرى غير التّماثل ، لأنّ زيدا وعمرا

١٣٨

شاعر على أخوّة زيد وعمرو أو صداقتهما (١) ، أو نحو ذلك (٢) لأنّهما (٣) متماثلان ، لكونهما من أفراد الإنسان ، والجواب إنّ المراد بالتّماثل ههنا (٤) اشتراكهما في وصف له نوع اختصاص بهما على ما سيتّضح في باب التّشبيه (٥).

________________________________________

متماثلان لاشتراكهما في الإنسانيّة ، وقد بيّن في علم الحكمة أنّ المتماثلين هما اللّذان يشتركان في ماهيّة واحدة ، ففي المثال المذكور لا حاجة في صحّة العطف إلى وجود مناسبة بينهما ، إذ العقل يجرّدهما من العوارض المشخّصة الخارجيّة ، فيصير كلّ منهما إنسانا ، فيكون حضور أحدهما في المفكّرة عين حضور الآخر فيه ، وقد مرّ بطلان قولنا : زيد كاتب وعمرو شاعر ، عند عدم فرض مناسبة بين زيد وعمرو ، و «على» في قوله : «على أخوّة ...» متعلّق بقوله : «لم تتوقّف».

(١) أي صداقة زيد وعمرو.

(٢) أي كاشتراكهما في صنعة مثلا : كالنّجّاريّة ، والحدّاديّة ، والحياكة.

(٣) علّة لقوله : «لم تتوقّف».

(٤) أي في كلام المصنّف هو التّماثل عند البيانيّين ، وهو اشتراك الشّيئين في وصف مع اشتراكهما في الحقيقة لا مجرّد اشتراكهما في النّوع.

وحاصل الجواب : إنّ المراد بالتّماثل هنا ليس ما هو المصطلح عند المناطقة والفلاسفة من اتّحاد شيئين أو أشياء في الماهيّة النّوعيّة ، بل المراد به ما هو المصطلح عند البيانيّين من اشتراك أمرين أو أمور في أظهر الأوصاف مضافا إلى الاشتراك في الماهيّة ، فحينئذ إنّ هذا البحث مغالطة منشؤها توهّم أنّ المراد بالتّماثل هنا التّماثل بالمعنى المصطلح عليه عند الحكماء ، وهو الاتّحاد في الحقيقة.

وجوابها منع أنّ المراد بالتّماثل هنا التّماثل بالمعنى المذكور ، بل المراد هو المعنى المصطلح عليه عند البيانيّين ، وهو الاشتراك في وصف له مزيد اختصاص وارتباط بالشّيئين بحيث يوجب اجتماعهما في المفكّرة مع اشتراكهما في الحقيقة ، فإذا لا مجال لهذا الإشكال.

(٥) قوله : على ما سيتّضح في باب التّشبيه إشارة إلى ما يعتبر في تشبيه شيء بشيء آخر من اشتراك المشبّه والمشبّه به في وصف خاصّ زائد على الحقيقة ، فإذا قيل : زيد كعمرو ، ولم يكف أن يقال في الإنسانيّة ، بل لا بدّ من وصف زائد على ذلك ، كالكرم والشّجاعة.

١٣٩

[أو تضايف (١)] وهو (٢) كون الشّيئين بحيث لا يمكن تعقّل كلّ منهما إلّا بالقياس إلى تعقّل الآخر [كما بين العلّة والمعلول (٣)] فإنّ (٤) كلّ أمر يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال (٥)

________________________________________

فإن قلت : المذكور في باب التّشبيه أنّه لا بدّ من المشاركة في وصف خاصّ دون الحقيقة ، والمعتبر هنا المشاركة في الحقيقة والوصف جمعا ، فكيف يحصل ما هنا على ما هناك.

قلت : المشاركة في الحقيقة لازمة للمشاركة في الوصف ، فإذا قيل : زيد كعمرو في الكرم ، فكأنّه قيل : زيد كعمرو في الإنسانيّة مع الكرم ، وحينئذ فيتقوّى بذلك ما اعتبر هنا ، لأنّ لباب الجامع تعلّقا بباب التّشبيه من حيث استدعاء كلّ منهما أمرا مشتركا فيه ، فيكون ما اعتبر في أحدهما معتبرا في الآخر.

(١) عطف على قوله : «أو تماثل» ، ومثال التّضايف نحو : أبو زيد يشعر وابنه يكتب ، فالجامع بين الأب والابن ، وهما مسند إليهما عقليّ ، وهو التّضايف ، وإن كان بين المسندين خياليّا ، وهو التّقارن.

(٢) أي التّضايف «كون الشّيئين بحيث لا يمكن تعقّل كلّ منهما ...» أي بحيث يكون تصوّر أحدهما لازما لتصوّر الآخر ، وحينئذ فحصول كلّ واحد منهما في المفكّرة يستلزم حصول الآخر فيها ضرورة ، وهذا معنى الجمع بينهما فيها ، وليس المراد به اتّحادهما فيها.

(٣) أي كالتّضايف الّذي هو بين مفهوم العلّة ، وهو كون الشّيء سببا ، وبين مفهوم المعلول وهو كون الشّيء مسبّبا عن ذلك الشّيء ، فتصوّر أحدهما متوقّف على تصوّر الآخر ، فيجوز أن يقال : العلّة أصل ، والمعلول فرع بالعطف ، وكذلك يجوز عطف ما يشتمل على ما صدق عليه العلّة على ما يشتمل على ما يصدق عليه المعلول إذا لوحظ المصداقان بما أنّهما علّة ومعلول ، كأن يقال : حركة الإصبع موجودة ، وحركة الخاتم موجودة ، أو حركة الإصبع علّة وحركة الخاتم معلولة ، أو النّار محرقة ، والحطب محرق ، وإنّما قلنا : إذا لو حظ المصداقان ... ، إذ لو لم يلحظا كذلك ليس بينهما التّضايف ، فلا يصحّ العطف.

(٤) الفاء واقعة في جواب شرط مقدّر ، والتّقدير : إذا أردت أن تعرف الفرق بين العلّة والمعلول فنقول لك : إنّ كلّ أمر يصدر عنه أمر آخر ، فهو علّة والأمر الآخر معلول.

(٥) أي في العلّة التّامّة كذات الله تعالى بالنّسبة إلى العقل الأوّل عند الحكماء ، أو كحركة اليد بالقياس إلى حركة المفتاح.

١٤٠