دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

[أي إنّ لنا في الدّنيا] حلولا [و] إنّ [لنا عنها] إلى الآخرة ارتحالا ، والمسافرون (١) قد توغّلوا (٢) في المضيّ لا رجوع لهم (٣) ، ونحن على أثرهم عن قريب (٤) ، فحذف المسند الّذي (٥) هو ظرف قطعا. لقصد (٦) الاختصار والعدول إلى أقوى الدّليلين ، أعني العقل ، ولضيق المقام أعني (٧) المحافظة على الشّعر ،

______________________________________________________

لنا ارتحالا عنها ، لأنّ الّذين سافروا إلى الآخرة وذهبوا إليها طالت غيبتهم عنّا ، فلا رجوع لهم إلينا ، فنحن نكون كذلك ، والمسند المحذوف وهو الظّرف ، أعني لنا ، أي إنّ لنا محلّا وإنّ لنا مرتحلا.

(١) أي الموتى.

(٢) أي دخلوا في الأرض ، ومعنى غلّ في الأرض إذا سار فيها فأبعد ، فقوله : «المسافرون» مأخوذ من قوله : «في السّفر».

(٣) أي إلى مواطنهم ، وهذا مستفاد من حمل المهل على المهل الكامل بقرينة الواقع ، فإنّ هذا المهل الّذي حصل بالموت لا رجوع معه.

(٤) أي نموت في قريب من الزّمان ، لأنّ كلّ آت قريب ، وهذا مأخوذ من قوله : «إنّ محلّا» لأنّ الحلول في الشّيء يدلّ على عدم الإقامة فيه كثيرا. فحاصل المعنى نحن لاحقون لهم بعد مضيّ زمن قريب.

(٥) أي لنا وهو ظرف قطعا ، بخلاف ما قبله وهو قوله : «فإذا زيد» فإنّه ليس الخبر ، والمسند فيه ظرفا على نحو القطع ، بل يحتمل أن يقدّر ظرفا ، أي فإذا زيد بالباب ، وأن يقدّر غيره كحاضر أو جالس. ففي قوله : «الّذي هو ظرف قطعا» إشارة إلى نكتة ذكر هذا المثال بعد المثال الّذي قبله.

(٦) علّة لحذف المسند ، فله أسباب وعلل : الأوّل قصد الاختصار.

الثّاني : العدول إلى أقوى الدّليلين ، أعني العقل.

الثّالث : ضيق المقام.

(٧) يمكن أن يكون تفسيرا لضيق المقام من حيث سببه لا نفسه ، لأنّ المحافظة على وزن الشّعر سبب لضيق المقام. ويمكن أن يكون تفسيرا للمقام.

٨١

ولاتّباع الاستعمال (١) ، لاطّراد الحذف في مثل إنّ مالا وإنّ ولدا (٢) ، وقد وضع سيبويه (٣) في كتابه لهذا (٤) بابا فقال : هذا باب إنّ مالا وإنّ ولدا (٥) [وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي)(١) فقوله : أنتم ، ليس بمبتدأ لأنّ (٦) لو إنّما تدخل على الفعل ، بل هو (٧) فاعل فعل محذوف ، والأصل لو تملكون أنتم تملكون ، فحذف الفعل الأوّل احترازا عن العبث لوجود المفسّر (٨) ، ثمّ أبدل من الضّمير المتّصل ضمير منفصل على ما هو القانون عند حذف العامل

______________________________________________________

(١) أي لمتابعة الاستعمال الوارد على ترك نظيره ، لأنّه اطّرد حذف الخبر مع تكرار إنّ وتعدّد اسمها ، سواء كانا نكرتين كما في المتن أو معرفتين ، كقولك : إنّ زيدا وإنّ عمرا ، أي أنّ لنا زيدا معروفا بالعلم والفضل ، وأنّ لنا عمرا معروفا بالشّجاعة مثلا.

(٢) أي إنّ لنا مالا وإنّ لنا ولدا.

(٣) قوله : «وقد وضع ...» تأييد لكون الحذف مطّردا.

(٤) أي لحذف المسند في مثل إنّ مالا وإنّ ولدا وضع سيبويه بابا ، وضابط هذا الباب أن تتكرّر إنّ ويتعدّد اسمها ، فيطّرد في هذه الصّورة حذف خبرها في جميع الموادّ والمواقع.

(٥) أي سمّي هذا الباب بباب إنّ مالا وإنّ ولدا.

(٦) تعليل لعدم كون «أنتم» مبتدأ ، لأنّ لو لا تدخل على الاسم ، بل تدخل على الفعل فقط ، كما قال في الألفيّة :

وهي في الاختصاص بالفعل كإن

لكنّ لو أنّ بها قد يقترن

(٧) أي «أنتم» فاعل محذوف تقديره لو تملكون تملكون ، فحذف الفعل الأوّل وأبدل من ضميره المتّصل ، أعني الواو ، ضمير منفصل ، وهو أنتم لتعذّر الاتّصال بعد حذف ما يتّصل به.

(٨) قوله : «لوجود المفسّر» علّة لحذف الفعل الأوّل ، لأنّ الفعل الثّاني المفسّر له قرينة على الحذف ، فمع وجود المفسّر ذكر الفعل الأوّل لغو وعبث.

وقيل : إنّ الغرض من إتيان تملكون الثّاني في الأصل إنّما هو تأكيد تملكون الأوّل أعني المقدّر ، فلمّا حذف الأوّل جعل الثّاني مفسّرا له مع بقاء إفادته التّأكيد أيضا.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٠٠ ، تتمّة الآية : (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً).

٨٢

فالمسند (١) المحذوف هنا فعل وفيما سبق اسم أو جملة [وقوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (٢) يحتمل الأمرين (٣)] حذف المسند أو المسند إليه ، [أي] فصبر جميل [أجمل (٤) أو فأمري] صبر جميل (٥). ففي الحذف تكثير للفائدة بإمكان (٦) حمل الكلام على كلّ من المعنيين بخلاف ما لو ذكر ،

______________________________________________________

(١) هذا الكلام إشارة إلى نكتة ذكر هذا المثال الثّاني ، وهي أن المسند المحذوف في الآية مفرد ، وهو الفعل فقط. وفي المثال السّابق أي قوله : «إنّ محلّا وإنّ مرتحلا» يحتمل أن يكون المحذوف اسما ، أي إن قدّر متعلّق الجار اسم فاعل ، وأن يكون جملة إن قدّر متعلّق الجار فعل ، فلا يكون ذكر هذا المثال تكرارا.

(٢) الصّبر ، كما في الصّحاح هو حبس النّفس عن الجزع ، والجميل منه ما لا شكاية معه إلى الخلق ، وإن كان فيه شكاية إلى الخالق ، كما قال يعقوب عليه‌السلام : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)(١) ، والصّبر الغير الجميل ما فيه شكاية إلى الخلق.

(٣) أي حذف المسند أعني «أجمل» ، وحذف المسند إليه أعني «فأمري» ، فالأصل على الأوّل فصبر جميل أجمل في هذه الواقعة من صبر غير جميل ، وعلى الثّاني «فأمري» أي شأني الّذي أتّصف به «صبر جميل».

(٤) إشارة إلى حذف المسند.

(٥) إشارة إلى حذف المسند إليه. وهنا احتمال ثالث وهو أن يكون من حذفهما معا والأصل فليّ صبر وهو جميل.

(٦) قوله : «بإمكان حمل الكلام ...» بيان لتصوير تكثير الفائدة في الحذف ، لأنّ تكثير الفائدة من حيث إمكان الحمل على كلّ منهما إنّما هو في حال الحذف ، إذ ليس في حال الذّكر إلا إمكان الحمل على أحدهما معيّنا ، فحينئذ يندفع إشكال عدم الفرق بين الحذف والذّكر ، إذ المراد هو أحد الأمرين على التّقديرين غاية الأمر إنّ المراد في الذّكر أحدهما معيّنا ، وفي الحذف أحدهما مبهما ، فأين تكثير الفائدة؟ وإنّما يحصل تكثير الفائدة على تقدير الزّيادة حال الحذف على حال الذّكر ، هذا غاية ما يمكن في تقريب الإشكال.

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٦.

٨٣

فإنّه يكون نصّا في أحدهما (١) [ولابدّ] للحذف [من قرينة (٢)] دالّة عليه ليفهم منه المعنى [كوقوع الكلام جوابا لسؤال محقّق نحو : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(١)] ، أي خلقهن الله ، فحذف المسند (٣) ، لأنّ هذا الكلام (٤) عند تحقّق (٥) ما فرض من الشّرط والجزاء يكون جوابا عن سؤال محقّق ،

______________________________________________________

وبقوله : «بإمكان حمل الكلام ...» يندفع الإشكال المذكور لأنّ الإشكال مبنيّ على زيادة الفائدة حقيقة ، وبمعنى كثرة المعنى ، وليس الأمر كذلك ، بل المراد من زيادة الفائدة من حيث الحمل والتّصور.

(١) وهو الّذي ذكر في الكلام وهو إما المسند إليه أو المسند.

(٢) أي تجب القرينة الدالّة على الحذف ، لأنّ الحذف خلاف الأصل ، لا يخفى أنّ وجوب قرينة الحذف لا يخصّ حذف المسند ، وكأنّه لم يذكره في المسند إليه ، لأنّ وجوب القرينة على المحذوف ممّا يعرفه العاقل إلا أنّه لما عبّر عن حذف المسند بالتّرك الموهم للإعراض عنه بالكلّيّة ، والاستغناء عن نصب القرينة ، تداركه بقوله : «ولا بدّ للحذف من قرينة» ثمّ إنّ ضمير «عليه» المجرور راجع إلى الحذف ، والأولى رجوعه إلى المحذوف المستفاد من الحذف.

(٣) أي خلقهنّ لوجود القرينة الدالّة عليه ، وهي وقوع هذا الكلام جوابا عن سؤال محقّق ، وهو قوله : (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

(٤) أي قولهم : الله.

(٥) جواب عن سؤال وارد على قوله : «عن سؤال محقّق» ، وحاصل الإيراد أنّ السّؤال في الآية ليس محقّقا ، لأنّه لم يقع بدليل تعبيره بإن الشّرطيّة التّي للشّك ، فقوله : «إن سألتهم» قضيّة شرطيّة ، وهي لا تقتضي الوقوع ولا عدمه ، فلا يصحّ التّمثيل لجواب السّؤال المحقّق ، وحاصل الجواب إنّ المراد بكون الكلام جوابا لسؤل محقّق ، أنّه محقّق عند تحقّق ما فرض من الشّرط والجزاء ، بمعنى أنّه لو تحقّق سؤال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثبت بأن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من خلق السّماوات والأرض ، لأجابوا عن ذلك بقولهم الله ، بحذف المسند ، أي خلقهنّ ، لوجود

__________________

(١) سورة لقمان : ٢٥.

٨٤

والدّليل (١) على أنّ المرفوع فاعل (٢) والمحذوف فعله أنّه جاء عند عدم الحذف كذلك (٣) ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(١) ، وكقوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٢) (٤).

______________________________________________________

القرينة ، وهو «خلق» في السّؤال ، ومن هنا يعلم أنّ القرينة حقيقة ما وقع في السّؤال ، أعني خلق لا وقوع الكلام ، أعني الله جوابا للسّؤال.

وكيف كان فالأولى أن يقال في التّعليل : لأنّ السّؤال مذكور صريحا.

(١) جواب عمّا يقال : هلّا جعلت لفظ الجلالة في الآية مبتدأ ، والخبر محذوف ، بأن يكون التّقدير : الله خلقهنّ ، ويكون من حذف المسند أيضا. وما المرجّح لكونه فاعلا؟

والدّليل والمرجح لكون لفظ الجلالة فاعلا

أوّلا : إنّ فعليّة الجملة عند عدم الحذف ، كما في الآية الثّانيّة تدلّ على أنّ ذلك هو الصّحيح في الأولى.

وثانيا : إنّ غرض السّائل بيان من نسب إليه الفعل ، وإذا جعل المرفوع فاعلا كانت نسبة الفعل إليه في الدّرجة الأولى ، فكان أقرب إلى إفادة غرضه بخلاف ما إذا جعل مبتدأ فإنّ نسبة الفعل حينئذ إليه في الدّرجة الثّانيّة.

(٢) أي لا مبتدأ ، والخبر محذوف.

(٣) أي كون المرفوع فاعلا. لا يقال إنّه قد جاء في القرآن عند عدم الحذف على أنّه مبتدأ ، كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) إلى قوله : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها)(٣).

وحاصل الجواب إنّ وقوع الأوّل في القرآن أكثر ، وحمل المحتمل على الأكثر أولى.

(٤) الشّاهد في الآيتين هو ذكر الفاعل عند عدم حذف الفعل.

__________________

(١) سورة الزّخرف : ٩.

(٢) سورة يس : ٧٩.

(٣) سورة الأنعام : ٦٣ و ٦٤.

٨٥

[أو مقدّر] عطف على محقّق [نحو :] قول ضرار (١) بن نهشل يرثي يزيد بن نهشل [وليبك (٢) يزيد] كأنّه قيل : من يبكيه (٣)؟ فقال : [ضارع] أي يبكيه ضارع أي ذليل (٤) [الخصومة (٥)] ، لأنّه كان ملجأ للأذلّاء ، وعونا للضّعفاء ، تمامه (٦) [ومختبط (٧) ممّا تطيح] الطّوائح (٨) ، والمختبط هو الّذي يأتي إليك للمعروف (٩)

______________________________________________________

(١) وهو اسم رجل ، ويزيد بن نهشل أخوه ، أي قوله في مرثية أخيه :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح

(٢) قوله : «ليبك» مبنيّ للمفعول ، ويزيد نائب الفاعل ، فقوله : «ليبك يزيد» منشأ لسؤال مقدّر «كأنّه قيل من يبكيه» أي يزيد «فقال» في جواب هذا السّؤال «ضارع» فحذف الفعل مع المفعول وبقي الفاعل.

(٣) يعني لمّا قال الشّاعر : «ليبك يزيد» توهم الشّاعر أنّ هناك سائلا يقول من يبكيه ، فنزّل هذا السّؤال المتوهّم منزلة الواقع ، وقال في جوابه «ضارع» أي يبكيه ضارع تاركا الفعل اعتمادا على وجوده في السّؤال المقدّر.

(٤) تفسير لما قبله ، وفي المصباح أنّ ضرع بمعنى ذلّ وخضع ، فضارع بمعنى ذليل وخاضع.

(٥) أي وقت خصومته مع غيره ، أو لأجل خصومة نالته ممّن لا طاقة له على خصومته ، وهو متعلّق بضارع وإن لم يعتمد على شيء ، لأنّ فيه معنى الفعل ، والجار والمجرور تكفيه رائحة الفعل ، فالمعنى يبكيه من يذلّ لأجل خصومة ، لأنّه كان ملجأ للأذلاء ومعينا للضعفاء ، فلا يكون «لخصومة» متعلّقا ب (يبكي) المقدّر ، لإفادته أنّ البكاء يكون للخصومة دون يزيد ، وهو خلاف المقصود.

(٦) أي تمام البيت.

(٧) أي ويبكيه مختبط ، فهو عطف على ضارع.

(٨) أي ممّا أطاحته الشّدائد والوقائع والحوادث ، أي أهلكته الحوادث المهلكة ، فالضّارع بمعنى الماضي ، لأنّ السّؤال والبكاء إنّما يكونان بعد الإطاحة.

(٩) أي لطلب الإحسان.

٨٦

من غير وسيلة (١) تطيح من الإطاحة وهي الإذهاب والإهلاك ، والطّوائح جمع مطيحة على غير القياس (٢) ، كلواقح جمع ملقحة (٣) ، وممّا (٤) متعلّق بمختبط ، وما مصدريّة ، أي سائل يسأل من أجل (٥) إذهاب الوقائع ماله ، أو بيبكي (٦) المقدّر ، أي يبكي لأجل إهلاك المنايا (٧) يزيد [وفضله (٨)]

______________________________________________________

(١) أي من غير قرابة وصداقة ، أو المراد من الوسيلة هي هديّة يهديها ليعطيه أكثر منها.

(٢) وجمعها القياسي مطاوح ومطيحات ، والطّوائح جمع قياسي للطّائحة بمعنى هالكة ، لا مطيحة بمعنى مهلكة ، لأنّ فواعل قياسه أن يكون جمعا لفاعلة لا لمفعلة.

(٣) أي على غير القياس ، لأنّ قياس جمعها ملقحات.

(٤) أي لفظ ممّا متعلّق بمختبط ، لأنّ المتعلّق حينئذ يكون قريبا ، وأيضا يحصل التّساوي والتّوافق بين ضارع ومختبط من جهة كون الخصومة متعلّقا بضارع ، وممّا متعلّقا بمختبط.

(٥) إشارة إلى أنّ «من» للتّعليل وأنّ «ما» مؤوّلة مع الفعل بعدها بمصدر.

(٦) عطف على «بمختبط» ، يعني أنّه متعلّق بمختبط أو بيبكي المقدّر.

(٧) المنايا جمع المنيّة بمعنى الموت ، عبّر بالجمع إمّا للمبالغة وإمّا لأجل أنّ المراد أسباب الموت ، فيكون من باب إطلاق اسم المسبّب على السّبب ، ولا يخفى أنّ الأسباب كثيرة. فيصحّ أن يعبّر بالجمع.

(٨) هذا الكلام إشارة إلى سبب ترجيح المبنيّ للمفعول ـ في قوله : «ليبك يزيد» ـ مع أنّ المبنيّ للفاعل أيضا صحيح ، وجواب عمّا يقال : لماذا عدل الشّاعر إلى هذا التّركيب المقتضي لحذف المسند مع كون الحذف على خلاف الأصل ، ومع إمكان الأصل ، وهو البناء للفاعل ، واستقامة الوزن به ، وذلك بأن يجعل يزيد مفعولا وضارع فاعلا من دون حذف أصلا ، لا للمسند ولا للمسند إليه.

وحاصل ما أجاب ـ بقوله : «وفضله» ـ أنّ ما عدل إليه له فضل على ما عدل عنه ، والغرض بيان ترجيح البناء للمفعول على البناء للفاعل من حيث ما ذكره المصنّف لا ترجيحه من سائر الوجوه حتّى يعترض بأنّ في خلافه ، وهو البناء للفاعل توجد وجوه التّرجيح أيضا كالسّلامة من الحذف مثلا ، وحينئذ فيكون في كلّ منهما جهات ترجيح ، فللبليغ أن يختار كلّا منهما.

٨٧

أي رجحانه نحو : ليبك يزيد ضارع مبنيّا للمفعول (على خلافه) يعني ـ لبيك يزيد ضارع ـ مبنيّا للفاعل ، ناصبا ليزيد ورافعا لضارع [بتكرّر (١) الإسناد] بأن (٢) أجمل أوّلا [إجمالا ثمّ] فصّل ثانيا [تفصيلا] أمّا التّفصيل فظاهر (٣) ، وأمّا الإجمال ، فلأنّه لما قيل (٤) ـ ليبك ـ علم أنّ هناك باكيا يسند إليه هذا البكاء ، لأنّ المسند إلى المفعول لا بدّ له من فاعل محذوف أقيم المفعول مقامه ، ولا شكّ أن المتكرّر أوكد وأقوى ، وأنّ الإجمال ثمّ التّفصيل أوقع في النّفس (٥).

______________________________________________________

(١) خبر فضله ، أي رجحانه على خلافه حاصل «بتكرّر الإسناد».

(٢) هذا الكلام من الشّارح إشارة إلى أنّ قول المصنّف إجمالا وتفصيلا ليسا معمولين للتكرّر ، بل معمولان لمحذوف ، والتّقدير بأن أجمل الإسناد إجمالا ، ثمّ فصّل تفصيلا.

(٣) لأنّ قوله : يبك ، لمّا أسند ثانيا إلى معيّن وهو ضارع كان الفاعل المستحقّ للفعل مذكورا بطريق التّنصيص ، وهو معنى التّفصيل.

(٤) توضيح ذلك أنّه إذا قيل : لبيك علم أنّ هناك باكيا ، لكن لم يعلم أنّه من هو ، فإذا قيل ضارع فصّل ذلك المجمل ، وعلم أنّ ذلك الباكي هو ضارع ، وفي هذا النّوع من الكلام أعني المتضمن للإجمال أوّلا ، والتّفصيل ثانيا ، ضرب من المبالغة ، لأنّ الشّيء إذا أبهم ، ثمّ فسر كان في النّفس أوقع ، ولأنّه إذا ذكر كذلك كان مذكورا مرّتين بعبارتين مختلفتين ، فيكون أبلغ ، إذ لا شكّ في أنّ الإسناد مرّتين أوكد وأوقع في النّفس.

(٥) لأنّ الإسناد إذا علم على وجه الإجمال أولا يحصل للنّفس تهيّؤ إلى علمه على وجه التّفصيل ، ثانيا فإذا علم على وجه التّفصيل يتمكّن في النّفس فضل تمكّن فيكون أوقع في النّفس قطعا ، ولهذا كان أولى وافضل ممّا إذا علم على وجه التّفصيل أوّلا ، وبالجملة إنّ الإجمال ثمّ التّفصيل أوقع في النّفس ، أي أشدّ وقوعا ورسوخا فيها ، لأنّ في الإجمال تشويقا ، وإنّ الحاصل بعد الطّلب أعزّ من المنساق بلا تعب ، والحال إنّ الغرض من إصدار الكلام تمكّن معناه ليقع العمل بمقتضاه.

٨٨

[وبوقوع (١) نحو : يزيد ، غير فضلة] لكونه (٢) مسندا إليه لا مفعولا ، كما في خلافه ، [وبكون معرفة الفاعل كحصول نعمة غير مترقّبة (٣) لأنّ أوّل الكلام غير مطمع في ذكره] أي ذكر الفاعل لإسناد الفعل إلى المفعول ، وتمام الكلام به ، بخلاف ما إذا بني للفاعل فإنّه مطمع في ذكر الفاعل ، إذ لا بدّ للفعل من شيء يسند هو إليه (٤).

______________________________________________________

(١) وجه ثان لرجحان البناء للمفعول على البناء للفاعل ، فيكون عطفا على قوله : «بتكرّر الإسناد».

(٢) أي نائب الفاعل ، أعني يزيد مسندا إليه ، وهو الرّكن الأعظم للكلام بخلاف ما إذا نصب على المفعوليّة فإنّه فضلة.

(٣) أي نعمة غير مشوبة بألم الانتظار وتعب الطّلب ، فهي لذة صرفة ، فيكون ألذّ ممّا يكون مشوبا بألم الانتظار.

لا يقال : إنّ هذا ينافي ما ذكره المصنّف في بحث التّشبيه ، من أنّ نيل الشّيء بعد طلبه ألذّ ، وتبعه على ذلك الشّارح.

فإنّه يقال : إنّ حصول الشّيء بدون الطّلب ألذّ من حيث إنّه غير مشوب بالطّلب ، وحصوله مع الطّلب ألذّ باعتبار أنّه لم يكن طلبه بلا أثر ، فحينئذ لا منافاة لتعدّد الجهة والحيثيّة ، وللبليغ أن يعتبر أيّما شاء ، ثمّ إنّ الوجه في كون معرفة الفاعل على تقدير البناء للمفعول كنعمة غير مترقّبة ، وعدم كونها كذلك على تقدير البناء للفاعل ما أشار إليه المصنّف بقوله : «لأنّ أوّل الكلام غير مطمع في ذكره» ، أي بل مؤيّس من ذكره ، حيث إنّ ذكر النّائب ، وجعل الفعل مبنيّا للمفعول في جملة يوجب الإياس من ذكر الفاعل في تلك الجملة لتمام الكلام بدونه ، ويرشد المخاطب إلى أنّ الفاعل لا يذكر له ، بل يحذف ويجعل المفعول أو نحوه نائبا له ، فإذا ذكر الفاعل بعد ذلك في جملة ثانية كانت معرفته كرزق جديد من حيث لا يحتسب.

(٤) لأنّ كلّ فعل معلوم لا بدّ له من فاعل مذكور أو مقدّر يعرف بالقرينة المرشدة إليه ، فكلّما سمع المخاطب الفعل المبنيّ للفاعل يلتفت إلى أنّ الفاعل يذكر بعده ، أو يعرف بنصب قرينة دالّة عليه.

٨٩

[وأمّا ذكره] أي ذكر المسند [فلما مرّ] في ذكر المسند إليه ، من كون الذّكر هو الأصل (١) مع عدم المقتضي للعدول عنه (٢) ، ومن الاحتياط (٣) لضعف التّعويل على القرينة مثل (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(١) (٤).

______________________________________________________

(١) أي الرّاجح والسّابق في الاعتبار.

(٢) أي الأصل ، يعني لا يعدل عن الأصل مع عدم النّكتة المقتضية للعدول عن الذّكر إلى الحذف.

(٣) أي احتياط المتكلّم «لضعف التّعويل» أي الاعتماد «على القرينة» الدالّة على الحذف.

(٤) ومحلّ الشّاهد قوله : (خَلَقَهُنَ) حيث ذكر مع وجود القرينة احتياطا لضعف الاعتماد على القرينة.

لا يقال : إنّ وقوع قوله تعالى : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) جوابا لسؤال محقّق قرينة على حذف المسند لو حذف ، كما حذف في الآية المتقدّمة أي قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) فالفرق بينهما بالذّكر في هذه الآية لضعف التّعويل على القرينة ، والحذف في الآية المتقدّمة ، مع اتّحادهما من حيث السّؤال والسّائل ، والمعنى والمخاطب وهو النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لا وجه له ، فالصّواب إنّ الذّكر هنا لزيادة تقرير المسند.

لأنّا نقول : إنّ وجود القرينة مصحّح للحذف ، ولا موجب ، فإن عوّل على دلالتها حذف المسند ، وإن لم يعوّل عليها احتياطا ، بناء على أنّ المخاطب من حيث هو مخاطب ، مع قطع النّظر عن كونه نبيّا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّه يغفل عن القرينة يذكر المسند ، وإن كان المخاطب واحدا ، وذلك لاختلاف تيقّظ المخاطب من حيث هو مخاطب باختلاف العوارض والأحوال ، فقد يعوّل على القرينة في بعض المواضع ، ولم يعوّل عليها في بعض المواضع ، فيحذف المسند على الأوّل ، ويذكر على الثّاني.

ولك أنّ تقول في الجواب أنّه لمّا كان المسؤولون أغبياء الاعتقاد لكفرهم جاز أنّ يتوهّموا في بعض الحالات أنّ السّائل ، أي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن تجوز عليه الغفلة عن السّؤال ، أو تجوز على من معه ممّن يقصد إسماعه ، أو ينزلوه منزلة من تجوز عليه فيأتون بالجواب احتياطا لضعف التّعويل على القرينة بزعمهم الفاسد.

__________________

(١) سورة الزّخرف : ٩.

٩٠

ومن التعريض بغباوة السّامع (١) نحو : محمّد نبيّنا ، في جواب من قال : من نبيّكم؟ وغير ذلك (٢) ، [أو] لأجل [أن يتعيّن] بذكر المسند [كونه اسما] ، فيفيد الثّبوت والدّوام (٣) ، [أو فعلا] فيفيد التّجدد والحدوث (٤).

______________________________________________________

نعم ، في بعض الحالات لا يتوهّمون ذلك ، فيحذف المسند للتّعويل على القرينة فيختلف الجواب باعتبار ما عسى أن يخطر لهم عند المحاورة.

(١) أي التّنبيه على بلادته بأنّه ليس ممّن يتنبّه بالقرائن ، فكأنّه لا يفهم إلّا المحسوس المشاهد أو المصرّح ، والتّعريض مأخوذ من العرض ، بمعنى الجانب ، والمراد به في اصطلاحهم ذكر المتكلّم شيئا يدلّ به المخاطب على شيء لم يذكره ، ففي المقام المتكلّم يذكر المسند مع وجود القرينة الدالّة عليه ، لأن يميل الكلام إلى جانب ، وهو ما يدلّ عليه بالمطابقة ، ثمّ يدلّ هذا الجانب على المقصود وهو غباوة السّامع ، فقولنا : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّنا ، في جواب من قال : من نبيّكم؟

يدلّ بالمطابقة على ثبوت مفهوم النّبيّ لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ هذا المعنى بما أنّ القرينة كانت موجودة يدلّ على أنّ المراد الجدّي ثبوت الغباوة للسّائل ، فمعنى قولنا : محمّد نبيّنا ، أنت غبيّ أيّها السّائل ، فذكر المسند مع وجود القرينة إشارة إلى أنّ المخاطب غبيّ لا يفهم من القرينة شيئا.

(٢) كالتّهديد والتّرحّم والاستلذاذ ، وإسماع غير السّائل ، وبسط الكلام والتّعظيم والإهانة ، ممّا مرّ في باب المسند إليه.

(٣) المراد من الثّبوت حصول المسند للمسند إليه من غير دلالة على تقييده بالزّمان ، ومن التّجدد هو الحصول واقترانه بالزّمان ، فقولنا زيد عالم يفيد الثّبوت بالوضع ، لأنّ أصل الاسم من حيث إنّه اسم مشتقّا كان أو غير مشتقّ للدّلالة على الثّبوت ، وذلك لعدم اقترانه بالزّمان وضعا.

(٤) الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، أي وجوده بعد أن لم يكن وإفادة الفعل لذلك بالوضع أيضا ، لأنّ الفعل متضمّن للزّمان الموصوف بالتّجدّد ، وعدم الاستقرار ، والحاصل قد يذكر المسند لأجل أن يتعيّن كونه اسما أو فعلا ، بخلاف ما لو حذف ، فإنّه يحتمل كونه اسما وفعلا ، فلا يتعيّن وهو خلاف المقصود.

٩١

[وأمّا إفراده] أي جعل المسند غير جملة (١) [فلكونه غير سببيّ (٢) مع عدم إفادة تقوّي الحكم] ، إذ لو كان سببيّا (٣) نحو : زيد قائم أبوه ، أو مفيدا للتّقوّي (٤) نحو : زيد قام ، فهو جملة قطعا (٥) وأمّا (٦) نحو : زيد قائم ، فليس بمفيد للتّقوّي ، بل هو قريب من ـ زيد قام ـ في ذلك (٧)

______________________________________________________

(١) هذا التّفسير من الشّارح إشارة إلى أنّ المراد بالمفرد المستفاد من قوله : «إفراده» ما يقابل الجملة ، لا ما يقابل المثنّى والمجموع والمضاف وشبهه ، فيشمل ما ليس بجملة.

(٢) أي لاقتضاء المقام كونه غير منسوب إلى السّبب ، بأن يكون مسندا بنفسه لا باعتبار متعلّقه أي الضّمير ، قال بعضهم : سمي الضّمير سببا تشبيها له بالسّبب اللّغوي الّذي هو الحبل ، لأنّ الضّمير تربط به الصّلات والصّفات كما أنّ الأمتعة تربط بالحبل.

(٣) بأن يكون الخبر غير صادر من المسند إليه كالمثال الأوّل.

(٤) بأن تكون المسند جملة كالمثال الثّاني ، أو يكون فيه تكرار الإسناد الموجب للتّقوّي.

(٥) وحاصل الكلام في المقام إنّ سبب كون المسند جملة أحد الأمرين ، أي كونه سببيّا وكونه مفيدا للتّقوّي ، وإنّ سبب الإفراد انتفاؤهما جميعا ، وقوله : «فهو جملة» جواب لو في قوله : «لو كان» ، فهو مرتبط بالأمرين قبله ، والمعنى فواجب أن يؤتى به جملة.

(٦) جواب عن سؤال مقدّر وهو أنّ المصنّف جعل العلّة في الإفراد كون المسند غير سببيّ ، مع عدم إفادة التّقوّي ، فيرد عليه بمثل : زيد قائم ، فإنّه مفيد للتّقوّي ، مع كونه مفردا فقد وجد المعلول وهو التّقوّي ، ولم توجد العلّة مع أنّ العلّة والمعلول متلازمان في الانتفاء والوجود.

وحاصل الجواب إنّ زيدا قائم غير مفيد للتّقوّي ، وإنّما هو قريب ممّا يفيد التّقوّي ، وهو زيد قام ، وذلك لأنّه إن اعتبر تضمّنه للضّمير الموجب لتكرّر الإسناد المفيد للتّقوّي كان مفيدا له ، وإن اعتبر شبهه بالخالي عن الضّمير لم يكن فيه تكرّر الإسناد ، فيدخل في عدم إفادة التّقوّي.

(٧) أي في إفادة التّقوّي لاحتواء كلّ منهما على ضمير مسند إليه عائد إلى المبتدأ ، والتّعبير بالقرب لعدم تغيّر ضمير قائم في حال التّكلّم والخطاب والغيبة ، فيقال : أنا قائم ، أنت قائم ، هو قائم ، فقائم بمنزلة الجامد الّذي لا ضمير فيه ، وحينئذ إن اعتبر تضمّنه للضّمير كان مفيدا للتّقوّي ، وإن اعتبر شبهه بالجامد لم يكن مفيدا له ، فيكون قريبا من زيد قام.

٩٢

وقوله : (١) مع عدم إفادة التّقوّي ، معناه عدم إفادة نفس التّركيب تقوّي الحكم فيخرج ما يفيد التّقوّي بحسب التّكرير (٢) نحو : عرفت عرفت ، أو بحرف التّأكيد نحو : إنّ زيدا عارف ، أو (٣) تقول : إنّ تقوّي الحكم في الاصطلاح هو تأكيده بالطّريق المخصوص ، نحو : زيد قام.

______________________________________________________

(١) جواب عن سؤال مقدّر تقريره :

إنّ المصنّف قد جعل العلّة في إفراد المسند عدم إفادة التّقوّي ، فيفهم منه أنّ العلّة في كونه جملة إفادته التّقوّي ، فيرد على ذلك أنّ عرفت عرفت مفيد للتّقوّي ، والمسند فيه مفرد ، وهو الفعل فقطّ فقد وجدت المعلول بدون العلّة ، مع أنّهما متلازمان في الثّبوت والانتفاء.

وحاصل ما أجاب به الشّارح جوابان :

الأوّل : إنّ قول المصنّف : «مع عدم إفادة تقوّي الحكم» من إضافة المصدر إلى مفعوله بعد حذف الفاعل ، والأصل مع عدم إفادة نفس التّركيب تقوّي الحكم ، وتقوّي الحكم في المثال المذكور إنّما هو تكرّر الإسناد ، فليس من نفس التّركيب ، فخرج قوله : عرفت عرفت.

وحاصل الجواب الثّاني :

إنّ المراد تقوّي الحكم في الاصطلاح ، وهو تأكيده بالطّريق المخصوص ، أعني تكرير الإسناد مع وحدة المسند ، فخرج عرفت عرفت لأنّ المسند فيه متعدّد.

(٢) أي ليس المراد خروجه عن ضابط الإفراد ، إذ المراد إدخاله فيه ، بل المراد خروجه عن القيد الّذي أضيف إليه العدم ، أعني إفادة التّقوّي ، أي إفادة نفس التّركيب تقوّي الحكم ، وإذا خرج عن إفادة التّقوّي دخل في عدم الإفادة فيكون مفردا.

(٣) عطف على «معناه مع عدم ...» ، أي نقول في الجواب : إنّ معناه مع عدم إفادة ... ، أو نقول «إنّ تقوّي الحكم في الاصطلاح هو تأكيده» ، أي الحكم «بالطّريق المخصوص» ، وهو تكرّر الإسناد مع وحدة الفعل ، بأن يكون الفعل مسندا إلى ضمير راجع إلى المبتدأ «نحو : زيد قام» ، فيخرج ما فيه التّكرار ، كالمثال الأوّل أو حرف التّأكيد كالمثال الثّاني.

وبعبارة أخرى :

فخرج المثالان المذكوران وهما عرفت عرفت ، وإنّ زيدا عارف.

٩٣

فإن قلت : (١) المسند قد يكون غير سببيّ ، ولا مفيدا للتّقوّي ، ومع هذا لا يكون مفردا (٢) كقولنا : أنا سعيت في حاجتك ، ورجل جاءني ، وما أنا فعلت هذا ، عند قصد التّخصيص (٣).

قلت : (٤) سلّمنا أنّ ليس القصد في هذه الصّور إلى التّقوّي ، لكن لا نسلّم أنّها لا تفيد التّقوّي ، ضرورة حصول تكرار الإسناد الموجب للتّقوّي (٥) ، ولو سلّم (٦) فالمراد

______________________________________________________

(١) هذا إشكال يرد على كلام المصنّف حيث قال : «وأمّا إفراده فلكونه غير سببيّ مع عدم إفادة تقوّي الحكم» ، أي إنّ المسند إذا لم يكن سببيّا ، ولم يكن مفيدا لتقوّي الحكم يكون مفردا ، فيرد عليه أنّ المسند قد يكون غير سببيّ ، ولا مفيدا للتّقوّي ، ومع ذلك لا يكون مفردا «كقولنا : أنا سعيت في حاجتك ، ورجل جاءني ، وما أنا فعلت هذا»

(٢) أي فقد وجدت علّة الإفراد بدون المعلول مع أنّهما متلازمان في الثّبوت والانتفاء.

(٣) أي قوله : «عند قصد التّخصيص» راجع إلى جميع الأمثلة الثّلاثة ، أي المقصود من تقديم المسند إليه فيها هو التّخصص دون تقوّي الحكم ، لعدم مقتضيه كإنكار المخاطب ونحوه ، هذا ظاهر فيما إذا كان التّخصيص لقصر الأفراد ، وأمّا إذا كان لقصر القلب ، ففي عدم الاقتضاء خفاء.

(٤) وملخّص الجواب إنّ الأمثلة المذكورة تفيد التّقوّي فحينئذ تنعدم علّة الإفراد لانتفاء المركّب بانتفاء جزئه.

(٥) فالتّقوّي موجود وإن كان غير مقصود ، والمصنّف إنّما عوّل في علّة الإفراد على عدم إفادة التّقوّي لا على عدم قصده.

(٦) أي لو سلّم عدم إفادة الأمثلة المذكورة للتّقوّي عند قصد التّخصيص ، «فالمراد إنّ إفراد المسند قد يكون لأجل هذا المعنى» أي إنّ أفراد المسند مشروط بكونه غير سببيّ ، ولا مفيدا للتّقوّي فهو لا يكون مفردا إلّا بتحقّق هذا الشّرط ، ولا يلزم أنّه كلّما تحقّق هذا الشّرط تحقّق كون المسند مفردا ، إذ لا يلزم من وجود الشّرط وجود المشروط كالوضوء.

٩٤

إنّ إفراد المسند قد يكون لأجل هذا المعنى ، ولا يلزم منه تحقّق الإفراد في جميع صور تحقّق هذا المعنى ، ثمّ السّببيّ والفعليّ من اصطلاحات (١) صاحب المفتاح حيث سمّى في قسم النّحو (٢) الوصف بحال الشّيء (٣)

______________________________________________________

(١) أي من مخترعاته ، وفي بعض نسخ الشّارح من اصطلاحات السّكّاكي ، وكيف كان فهذا الكلام من الشّارح إشارة إلى دفع اعتراض وارد على المصنّف في تركه تعريف السّببيّ وإتيانه بالمثال حيث قال : «والمراد بالسّببي نحو : زيد أبوه منطلق».

وحاصل الاعتراض إنّ المثال لا يكفي عن تعريف الحقائق ، لأنّ المثال يورد لإيضاح الحقائق بعد تعريفها ، وحاصل الجواب إنّه قد ثبت في محلّه أنّ التّمثيل للشّيء تعريف له ، ثمّ يعلم من مثال السّببيّ مثال ما يقابله وهو الفعليّ ، فلا حاجة إلى ما هو متعارف عند أهل الميزان من التّعريف الّذي يحصل به العلم بماهيّة المعرّف ، أو امتيازه عن جميع ما عداه.

هذا مع تعسّر ضبطه ، والإشكال فيه ، أمّا الإشكال ، فلأنّ الفرق بين أبوه منطلق وبين منطلق أبوه ، في أنّ الأوّل سببيّ دون الثّاني مع اتّحادهما في المعنى مشكل.

وأما تعسّر الضّبط ، فلأنّ المسند السّببيّ أربعة أقسام : جملة اسميّة يكون الخبر فيها فعلا نحو : زيد أبوه انطلق ، أو اسم فاعل نحو : زيد أبوه منطلق ، أو اسم جامد نحو : زيد أخوه عمرو ، أو جملة فعليّة يكون الفاعل فيها مظهرا نحو : زيد انطلق أبوه ، والتّعريف الضّابط لجميع الأقسام متعسّر.

(٢) أي في القسم المدوّن في النّحو من كتابه مفتاح العلوم.

(٣) أي وصفه الحقيقيّ ، لأنّ الكرم وصف حقيقيّ قائم بالرّجل ، ولذا سمّي بالفعليّ ، وهو الّذي يقال له صفة جرت على من هو له ويسمّيه النّحاة وصفا حقيقيّا ، وما يقابله وصفا اعتباريا كرجل قاعد غلمانه ، فإنّ القعود وصف حقيقيّ للغلمان ، ووصف اعتباري للرّجل يقال له قاعد الغلمان ، وهو الّذي يقال له صفة جرت على غير من هو له ، فقد انفرد صاحب المفتاح عنهم بالتّسمية بالفعليّ ، كما انفرد عنهم بإجراء هذا في المسند مع تخصيصه السّببيّ فيه في الجملة ، فمجموع اصطلاحه مبتكر له فصحّ كلام الشّارح «ثمّ السّببيّ والفعليّ من اصطلاحات صاحب المفتاح».

٩٥

نحو : رجل كريم ، وصفا فعليّا ، والوصف بحال ما هو من سببه (١) ، نحو : رجل كريم أبوه ، وصفا سببيّا ، وسمّى في علم المعاني المسند في نحو : زيد قام ، مسندا فعليّا ، وفي نحو : زيد قام أبوه ، مسندا سببيّا ، وفسّرهما بما لا يخلو عن صعوبة وانغلاق. فلهذا اكتفى المصنّف في بيان المسند السّببيّ بالمثال ، وقال : [والمراد بالسّببيّ نحو : زيد أبوه منطلق (٢)] وكذا زيد انطلق أبوه ، ويمكن (٣) أن يفسّر المسند السّببيّ بجملة علّقت (٤) على مبتدأ بعائد لا يكون (٥) مسندا إليه في تلك الجملة ، فيخرج عنه المسند في نحو : زيد منطلق أبوه لأنّه (٦) مفرد ،

______________________________________________________

واندفع ما يقال من أنّ النّحاة أيضا يسمّون الوصف بحال ما هو من سببه وصفا سببيّا.

وحاصل الدّفع إنّهم وإن شاركوه في ذلك لكن لم يشاركوه في تسميته الوصف بحال الشّيء ، فإنّهم سمّوه حقيقيّا وهو سمّاه فعليّا ، وهو قد قسّم المسند أيضا إلى قسمين : وسمّى أحدهما سببيّا ، والآخر فعليّا ، وهم لم يتعرّضوا لذلك أصلا ، فدعوى ابتكار اصطلاحه واختراعه من حيث المجموع في محلّها.

(١) أي من متعلّقات الموصوف كأبيه وغلامه وصديقه وجاريته ، والدّال على تعلّقه له هو الضّمير الرّاجع إلى الموصوف في نحو : رجل كريم أبوه أو غلامه أو صديقه.

(٢) أي المسند السّببيّ في هذه الجملة هو أبوه منطلق هذا مثاله في الجملة الاسميّة وأشار إلى مثاله في الجملة الفعليّة بقوله : «وكذا زيد انطلق أبوه» ، وكان الأولى أن يمثّل المصنّف بالجملة الفعليّة أيضا لئلّا يتوهّم اختصاص المسند السّببيّ بالجملة الاسميّة ، وكون المسند في مثل زيد انطلق أبوه فعليّا إلّا أن يقال : إنّ كون نحو : انطلق أبوه مسندا سببيّا كالشّمس في السّماء الرّابعة في الوضوح ، ففي اقتصار المثال بالجملة الاسميّة ليس توهّم الاختصاص.

(٣) هذا الكلام من الشّارح تعريض على المصنّف ، وإشارة إلى شموليّته تفسيره من دون صعوبة وانغلاق ، وبعبارة أخرى إنّ هذا التّفسير على قاعدة السّكّاكي تفسير لا صعوبة فيه ولا انغلاق صادق على نحو : أبوه منطلق وغيره.

(٤) أي ربطت بمبتدأ «بعائد» أي ربطت بالمبتدأ ملتبسة بعائد.

(٥) أي بشرط أن لا يكون ذلك العائد مسندا إليه «في تلك الجملة»

(٦) أي المسند في نحو : زيد منطلق أبوه مضمر لا جملة ، وذلك لاتّفاقهم على أنّاسم الفاعل مع فاعله سواء كان مظهرا أو مضمرا ليس بجملة ، لما ذكر من عدم تغيّره في التّكلّم والغيبة

٩٦

وفي نحو : (١) (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لأنّ تعليقها (٢) على المبتدأ ليس بعائد وفي نحو : زيد قام ، وزيد هو قائم (٣) لأنّ العائد فيهما مسند إليه ، ودخل فيه (٤) نحو : زيد أبوه قائم ، وزيد قام أبوه ، وزيد مررت به ، وزيد ضرب عمرا في داره ، وزيد ضربته ، ونحو ذلك من الجمل التّي وقعت خبر مبتدأ ، ولا تفيد التّقوّي (٥)

______________________________________________________

والخطاب ، فيقال : أنا قائم ، هو قائم ، أنت قائم.

(١) أي يخرج عن المسند السّببيّ المسند في نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

(٢) أي تعليق جملة (اللهُ أَحَدٌ) «على المبتدأ» أي على هو «ليس بعائد» ، وذلك لاتّحاد المبتدأ والخبر على تقدير أن يكون هو ضمير شأن ، فلفظة (هُوَ) حينئذ مبتدأ وجملة (اللهُ أَحَدٌ) خبره ، ولا تحتاج إلى عائد لأنّها عين المبتدأ في المعنى ، لأنّها مفسّرة له والمفسّر عين المفسّر ، وأمّا إذا فرض هو ضمير المسؤول عنه ، فالخبر مفرد لأنّ الخبر حينئذ هو (اللهُ) فقطّ ، لأنّه لمّا قال المشركون : صف لنا ربّك ، فنزلت هذه السّورة المباركة ، ولفظة (أَحَدٌ) حينئذ خبر بعد خبر. ويمكن أن يكون بدلا من (اللهُ ،) أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أحد.

وكيف كان ففي تعليل خروج (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) بأن تعليقها على المبتدأ ليس بعائد نظر ، لأنّ العائد أعمّ من الضّمير وغيره ، ممّا يفيد التّعلّق كوضع المظهر موضع المضمر نحو : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) وكون الخبر عبارة عن المبتدأ نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

(٣) أي يخرج عن المسند السّببيّ المسند في هذين المثالين «لأنّ العائد فيهما مسند إليه» والمسند السّببيّ على التّفسير المذكور ، هو ما لا يكون ذلك العائد مسندا إليه.

(٤) أي في تفسير المسند السّببيّ الجمل التّي يكون العائد فيها غير مسند إليه في تلك الجمل بأن يكون مجرورا أو منصوبا ، نحو الأمثلة المذكورة في الكتاب.

(٥) أي لعدم تكرار الإسناد في الجملة المشتملة على الجملة الكبرى في الأمثلة المذكورة ، لأنّ جملة الخبر في جميعها علّقت على المبتدأ بعائد ، ليس ذلك العائد مسندا إليه في تلك الجملة.

٩٧

والعمدة في ذلك (١) تتبّع كلام السّكّاكي لأنّا لم نجد هذا الاصطلاح ممّن قبله. [وأمّا كونه] أي المسند [فعلا (٢) فللتّقييد] أي تقييد المسند [بأحد الأزمنة الثّلاثة] أعني الماضي وهو الزّمان الّذي (٣) قبل زمانك الّذي أنت فيه (٤).

______________________________________________________

(١) أي في هذا التّفسير وقيوده من حيث الإدخال والإخراج «تتبّع كلام السّكّاكي» ، ومن خلال تتبّع كلام السّكّاكي يرد الاعتراض على تفسير الشّارح بأنّ السّكّاكي اشترط شرطا زائدا على ما قاله الشّارح ، وهو أن يكون المضاف إلى الضّمير اسما مرفوعا كالمثالين الأوّلين ، وهما زيد أبوه قائم ، وزيد قام أبوه ، وحينئذ تخرج الأمثلة الأخيرة ، فإنّ المسند فيها ليس سببيّا عند السّكّاكي خلافا للشّارح ، والحاصل إنّ المسند السّببيّ عند السّكّاكي أربعة أقسام : جملة اسميّة يكون الخبر فيها فعلا نحو : زيد أبوه ينطلق ، أو اسم فاعل يجوز زيد أبوه منطلق ، أو اسما جامدا نحو : زيد أخوه عمرو ، أو جملة فعليّة يكون الفاعل فيها مظهرا نحو : زيد انطلق أبوه ، والتّعريف الجامع بجميع أقسامه متعسّر فاكتفى بالمثال فقط.

(٢) أي وأمّا الإتيان بالمسند فعلا فلتقييده أي المسند بأحد الأزمنة الثّلاثة ، والمراد من تقييده هو تقييد جزء معناه ، وهو الحدث بأحد من الأزمنة الثّلاثة ، فلا يرد أنّ الزّمان جزء من معنى الفعل ، فلو قيّد المسند به للزم تقييد الشّيء بنفسه بالإضافة إلى الزّمان.

ثمّ إنّ هذا التّقييد إنّما يكون فيما إذا تعلّق به غرض ، كما إذا كان المخاطب معتقدا لعدم وقوع الحدث في خصوص ما يستفاد من الفعل من الزّمان ، والحال إنّه واقع فيه ، فيؤتى بالفعل الدّال على هذا الزّمان الخاصّ ، ولو بالتّقييد المذكور ردّا لاعتقاد المخاطب بعدم وقوعه فيه.

(٣) وهذا التّفسير للزّمان الماضي مبنيّ على أن يكون الماضي سابقا على الحال ، أي يليه الحال ، ويليه المستقبل ، وهو ظاهر ومشهور.

(٤) أي أنت فيه حين التّكلّم ، وربّما يقال إنّ قبل ظرف زمان ، فمعنى العبارة أنّ الماضي هو الزّمان الّذي في زمان متقدّم على الزّمان الّذي تتكلّم فيه ، فحينئذ إن كان الزّمان الماضي عين الزّمان الّذي جعل ظرفا له أعني قبل ، لزم أن يكون الشّيء ظرفا لنفسه ، وإن كان غيره لزم أن يكون للزّمان زمان آخر هو ظرفه ، وكلاهما باطل ، للزوم اتّحاد الظّرف والمظروف في الأوّل ، والتّسلسل في الثّاني وبطلانهما واضح.

وأجيب عن ذلك بوجهين :

٩٨

والمستقبل (١) وهو الزّمان الّذي يترقّب وجوده بعد هذا الزّمان (٢).

______________________________________________________

أحدهما : إنّ المراد بالقبليّة في المقام مجرّد التّقدّم الذّاتي لا التقدّم بالزّمان ، فيكون المعنى إنّ الزّمان الماضي هو الزّمان المتقدّم على زمان تكلّمك ، فإذا لا يلزم شيء من المحذورين.

وثانيهما : إنّ الظّرفيّة في المقام من قبيل ظرفيّة العامّ للخاصّ ، يعني أنّ الماضي هو الزّمان المتحقّق في أجزاء الزّمان الّذي قبل زمان تكلّمك ، وهذا المقدار يكفي في صحة الظّرفيّة ، ورفع استحالة لزوم ظرفيّة الشّيء لنفسه ، كما يقال : زيد في القوم واحد ، أي منفرد وممتاز في صفاته منهم.

(١) «المستقبل» بكسر الباء على صيغة اسم الفاعل ، وبفتح الباء على صيغة اسم المفعول وكلاهما منقول وموافق للمعقول ، لأنّ الزّمان يستقبلك ، كما أنت تستقبله.

وقيل : إنّ الأوّل هو الصّحيح ، لأنّ زمان الاستقبال يستقبل ، أي يتوجّه إلى جانب الحال والاستقبال التّوجّه ، فإذا كان متوجّها موصوفا بالتّوجّه فهو مستقبل بكسر الباء ، لا مستقبل بفتح الباء.

(٢) ربّما يرد على تعريف المستقبل مثل ما تقدّم في تعريف الماضي ، فيقال : إنّ قوله : «يترقّب» دالّ على الزّمان المستقبل ، فيلزم أن يترقّب وجود المستقبل في المستقبل ، لأنّ الزّمان المستقبل الّذي هو مدلول بترقّب ، كما هو ظرف للتّرقّب ظرف لوجود الزّمان المستقبل أيضا ، إذ لا معنى لترقّب وجوده في الماضي أو الحال ، فيكون في الزّمان المستقبل ، فيلزم أن يكون الشّيء ظرفا لنفسه إن فرض اتّحادهما ، أو يكون للزّمان زمان إن فرض تغايرهما.

وأجيب عن ذلك بأنّ المراد بقوله : «يترقّب وجوده» مجرّد تأخّر وجوده ، فكأنّه قال : الزّمان المستقبل هو الزّمان الّذي يكون وجوده متأخّرا عن الزّمان الّذي تتكلّم فيه ، فحينئذ لا يلزم ما ذكر من المحذورين ، ويؤيّد ما ذكرناه ما أفاده بعض الأعلام من أنّ الأفعال الواقعة في التّعاريف لا تدلّ على الزّمان.

ويمكن أن يقال بأنّ المراد بقوله : «يترقّب» هو الترقّب في الحال لا التّرقّب في المستقبل ، فإذا لا مجال للإشكال.

قال الدّسوقي في شرح قوله : «الّذي يترقّب وجوده» ، أي ينتظر وجوده ، أي من شأنه الانتظار إلى وجوده ، أي الزّمان المتأخّر بعد هذا الزّمان ، أي الحاضر ، وحينئذ لا يلزم أن يكون

٩٩

والحال (١) وهو أجزاء من أواخر الماضي وأوائل المستقبل متعاقبة من غير مهلة وتراخ (٢) ، وهذا أمر عرفيّ.

______________________________________________________

الشّيء ظرفا لنفسه ، أو أن يكون للزّمان زمان آخر هو ظرف له ، لأنّ الأفعال الواقعة في التّعاريف لا دلالة لها على زمان انتهى.

(١) أي الزّمان الحاضر عبارة عن آنات من أواخر الماضي وأوائل المستقبل ، بمعنى أنّ زمان الحال لا مصداق له حقيقة وبحسب الدّقّة العقليّة ، حيث إنّ الزّمان مركّب من الآنات ، وهي منصرمة الوجود لا يمكن اجتماعها في الوجود حتّى يتحقّق به زمان الحال ، وإنّما هو موجود بحسب نظر أهل العرف فإنّهم يعدّون آنات من أواخر الماضي وأوائل المستقبل حالا ، وليس له مقدار معيّن بل تعيين مقداره أيضا مفوّض إلى العرف بحسب الأفعال ، فإنّهم يقولون : زيد يأكل ، ويكتب ، ويقرأ القرآن ، ويصلّي ، ويعدّون كلّ ذلك واقعا في الحال ، مع أنّه لا شكّ في اختلاف مقادير أزمنتها. فالتّعريف المذكور تعريف للحال العرفي.

وقيل : إنّ الحال أجزاء من أواخر الماضي وأوائل المستقبل ، مع ما بينهما من الآن الحاضر ، فإنّه لا وجه للاقتصار على الطّرفين ، بل ذكر بعضهم أنّه حقيقة في الآن الحاضر ، لكن لقصره احتاجوا إلى الاعتماد على أجزاء قبله ، وأجزاء بعده.

(٢) أي من غير مهملة وتراخ بين كلّ جزء وما يليه ، لا بين أوّل الأجزاء وآخرها ، إذ المهلة بينهما لازمة إذا طالت المدّة ، كما يقال : زيد يصلّي ، والحال إنّ بعض صلاته ماض ، وبعضها باق فجعلوا الصّلاة الواقعة في الآنات الكثيرة المتعاقبة واقعة في الحال ، فليس الحال زمن التّكلّم فقطّ ، فقوله : «من غير مهلة ...» تفسير وتوضيح لقوله : «متعاقبة» ، أي من غير فصل بين الأجزاء ، وليس قيدا احترازيا عمّا لو كانت الأجزاء متّصلة ، لكن كانت كثيرة ، كشهر وسنة ، فإنّ الأجزاء وإن كانت متعاقبة ، لكن هناك مهلة وتراخ بين أوّلها وآخرها ، لأنّ المجموع لا يخرج عن أن يكون حالا ، لأنّه حيث فرض أنّ هناك أجزاء متّصلة ، فالمهلة بين أوّلها وآخرها لازمة ، فلا معنى لاشتراط انتفاء ذلك.

ثمّ المشار إليه في قوله : «وهذا أمر عرفيّ» يمكن أن يكون مقدار زمان الحال أي مقداره عرفيّ أي مبنيّ على عرف أهل العربيّة ، ويمكن أن يكون تعريف الحال ، أي هذا التّعريف تعريف للحال العرفيّ ، وهو الزّمان الّذي يقع فيه الفعل ، ويقدّر بقدره ، فيختلف باختلافه ،

١٠٠