دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

من المنساق (١) بلا تعب ، ولا يخفى أنّ هذا (٢) لا يحسن في باب نعم ، لأنّ السّامع ما لم يسمع المفسّر لم يعلم أنّ فيه (٣) ضميرا ، فلا يتحقّق فيه التّشوّق والانتظار.

وضع المظهر موضع المضمر

[وقد يعكس] وضع المضمر موضع المظهر ، أي يوضع (٤) المظهر موضع المضمر [فإن كان] المظهر الّذي وضع موضع المضمر [اسم إشارة فلكمال العناية بتمييزه (٥)] أي تمييز المسند إليه [لاختصاصه (٦) بحكم بديع كقوله (١) : كم عاقل عاقل (٧)] هو (٨) وصف

______________________________________________________

(١) اسم فاعل من انساق ، كمنقاد من انقاد.

(٢) أي التّعليل المذكور في كلام المصنّف ـ أي «لأنّه إذا لم يفهم منه معنى انتظره» ـ لا يحسن في باب نعم. وحاصل الاعتراض على المصنّف : إنّ السّامع ما لم يسمع المفسّر لا يعلم بمجرّد سماع نعم ، إنّ فيه ضميرا فلا يتشوّق ولا ينتظر لمرجعه.

(٣) أي في نعم «ضميرا ، فلا يتحقّق فيه التّشوّق والانتظار» كي يقال : إنّ الحصول «بعد الطّلب أعزّ من المنساق بلا تعب».

(٤) بيان للعكس ، فيوضع المظهر موضع المضمر ، سواء كان المظهر الواقع موقع المضمر بعين لفظه السّابق أو بغيره.

(٥) أي بتمييز المسند إليه عن غيره في ذهن المخاطب فقوله : «بتمييزه» مصدر مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، فمعنى العبارة : إنّ وضع المظهر موضع المضمر إذا كان المظهر اسم إشارة فلأجل كمال عناية المتكلّم بتمييز المسند إليه عن غيره حيث أبرزه في معرض المحسوس.

(٦) أي لاختصاص المسند إليه بحكم بديع ، أي عجيب بحيث لا يغيب عن الخاطر.

(٧) كم الخبريّة المضاف إلى مميّزها المفرد وهو «عاقل» الأوّل في موضع الرّفع على الابتداء ، والجملة أعني «أعيت» خبرها.

(٨) أي «عاقل» الثّاني وصف ل «عاقل» الأوّل ، وليس تأكيدا ، كما توهّمه بعض.

__________________

(١) أي قول الرّاوندي ، وهو رجل من قرى أصفهان ، كان متّهما بالزّندقة والإلحاد.

٤١

عاقل الأوّل ، بمعنى كامل العقل ، متناه فيه (١) [أعيت] أي أعيته (٢) وأعجزته أو أعيت عليه (٣) وصعبت [مذاهبه] أي طرق معاشه (٤) [* وجاهل جاهل تلقاه (٥) مرزوقا* هذا الّذي ترك (٦) الأوهام حائرة* وصيّر العالم النّحرير] أي المتقن من نحر الأمور علما أتقنها (٧) [زنديقا] كافرا نافيا للصّانع العدل

______________________________________________________

(١) أي في العقل ، كما يقال : مررت برجل رجل ، أي كامل في الرّجوليّة.

(٢) التّفسير إشارة إلى حذف المفعول ، فيكون متعدّيّا ، وقوله : «وأعجزته» عطف تفسيريّ له ، وضمير المفعول عائد إلى «عاقل» ، كما أنّ الضّمير المجرور يعود إليه.

(٣) فيه إشارة إلى كون الفعل لازما ، وقوله : «وصعبت» عطف تفسيريّ له ، فقد علم من كلام الشّارح أنّ «أعيت» يستعمل متعدّيّا ولازما ، ولكن الأولى جعله متعدّيّا ، لما تقرّر في محلّه من أنّ الفعل إذا تردّد بين المتعدّي واللّازم فينظر إلى ما قبله أو ما بعده من الأفعال ، فيحمل عليه رعاية للتّناسب ، وما ذكر بعده كقوله : «وصيّر العالم النّحرير زنديقا» متعدّ ، فالحمل عليه أولى.

(٤) أي أسباب معاش ذلك العاقل.

(٥) أي تصادفه وتجده مرزوقا.

(٦) أي ترك بمعنى صيّر ، فمعنى العبارة «هذا الّذي» أي كون العاقل متحيّر الحال ، ومحروم الرّزق ، وكون الجاهل فارغ القلب ومرزوقا ، صيّر العقول متحيّرة إذ لم يفهم السّرّ في ذلك ، لأنّ مقتضى المناسبة والحكمة والعدل أن يكون العاقل مرزوقا لما يترتّب على رزقه من المصالح دون الجاهل.

(٧) أي أتقن الأمور ، وقوله : «علما» تمييز محوّل عن المفعول ، والأصل نحر علم الأمور ، أي أتقنه ، وتفسير النّحر بالإتقان تفسير مجازيّ علاقته المشابهة في إزالة ما به الضّرر ، فإنّ القتل والذّبح الّذي هو معنى النّحر الحقيقي يزيل الدّماء والرّطوبات الّتي في الحيوان والإتقان يزيل الشّكوك والشّبهات ، كما في التّجريد.

لا يقال : إنّه كان الأولى على المصنّف أن يقول : كم عالم عالم ، في مقابل قوله : «وجاهل جاهل» أو يقول : ومجنون مجنون في مقابل قوله : «كم عاقل عاقل».

فإنّه يقال : إنّ في مقابلة الجاهل إشارة إلى أنّ العقل بلا علم كالعدم ، وأنّ الجهل

٤٢

الحكيم (١) ، فقوله (٢) : هذا إشارة إلى حكم سابق غير محسوس ، وهو كون العاقل محروما ، والجاهل مرزوقا ، فكان القياس فيه (٣) الإضمار ، فعدل إلى اسم الإشارة لكمال العناية بتمييزه (٤) ليرى السّامعين أنّ هذا الشّيء المتميّز المتعيّن هو الّذي له الحكم العجيب ، وهو جعل الأوهام حائرة ، والعالم النّحرير زنديقا. فالحكم البديع (٥) هو الّذي

______________________________________________________

كالجنون ، فالعاقل ينبغي له أن يتحلّى بالعلم ويحترز عن الجهل ويتخلّى ، لئلّا يتعطّل عقله ، وكون الجاهل كالمجنون لتباعده عن اكتساب الكمالات.

(١) قائلا بأنّه لو كان له وجود لما كان الأمر كذلك غافلا عن أنّ ما هو الموجود من النّظام التّكويني مطابق للعدل والحكمة ، وأنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو على كلّ شيء قدير.

(٢) أي قول الرّاوندي «هذا» أي لفظ هذا «إشارة إلى حكم سابق وهو» أي الحكم السّابق «كون العاقل محروما والجاهل مرزوقا».

(٣) أي في البيت السّابق هو «الإضمار» بأن يقول : هو الّذي ترك الأوهام حائرة ، وإنّما كان القياس الإضمار لتقدّم ذكر ما يصلح أن يكون مرجعا للضّمير مع كونه غير محسوس ، والإشارة حقيقة في المحسوس.

(٤) أي تمييز المسند إليه باسم الإشارة ليعلم المتكلّم «السّامعين أنّ هذا الشّيء المتميّز المتعيّن هو الّذي له الحكم العجيب وهو جعل الأوهام حائرة ...».

(٥) جواب عن سؤال مقدّر : وهو أنّ الاختصاص يقتضي المغايرة بين المسند إليه وما اختصّ به من الحكم البديع ، ولا مغايرة بينهما في المقام ، لأنّ المسند إليه المشار إليه بهذا هو كون العاقل محروما ، والجاهل مرزوقا ، وهو بنفسه الحكم البديع ، ومعنى كونه حكما بديعا أنّه ضدّ ما كان ينبغي إذ ينبغي أن يكون العاقل مرزوقا ، والجاهل محروما ، فيلزم ما ذكرنا من عدم المغايرة بين المسند إليه والحكم البديع.

وحاصل الجواب : إنّ الحكم البديع عبارة عن ترك الأوهام حائرة وتصيير العالم النّحرير زنديقا ، وهو غير المسند إليه أعني كون العاقل محروما ، والجاهل مرزوقا ، فيصحّ أن يكون الأوّل مختصّا بالثّاني لانتفاء العينيّة ، وتحقّق المغايرة.

وبعبارة واضحة : إنّ المسند إليه المعبّر عنه باسم الإشارة هو كون العاقل محروما والجاهل

٤٣

أثبت للمسند إليه المعبّر عنه باسم الإشارة [أو التّهكّم (١)] عطف (٢) على كمال العناية [بالسّامع كما إذا كان] السّامع (فاقد البصر) أو لا يكون ثمّة (٣) مشار إليه أصلا

______________________________________________________

مرزوقا ، والحكم البديع المختصّ به ، أي الثّابت له هو جعل الأوهام حائرة ، والعالم زنديقا ، والمغايرة بينهما كالشّمس في رائعة النّهار.

(١) قال جار الله : هو الاستهزاء ، وأصله من التّهكّم مقلوب منه ، لأنّه من تهكّمه أي جعله كهّاما.

(٢) أي لا على اختصاصه ، ولا على العناية ، ولم يجعل عطفا على اختصاصه بحكم بديع ليكون من أسباب كمال العناية ، فيوافق كلام المفتاح ، مع أنّه الأقرب ، لئلّا يرد عليه أنّ قصد التّهكّم بالسّامع لا يقتضي كمال العناية بالتّمييز ، بل يقتضي اسم الإشارة سواء قصد به كمال العناية بتمييز أم لا. لأنّ عطفه على قوله : «لاختصاصه» يفيد أنّ التّهكّم بمن لا بصر له يقتضي كمال العناية بتمييز المسند إليه ، كما أنّ اختصاصه بحكم بديع يقتضي ذلك ، وليس الأمر كذلك.

ففي كلام الشّارح حيث عطف التّهكّم على كمال العناية دون غيره تعريض بصاحب المفتاح حيث جعل التّهكّم داخلا تحت كمال العناية مقابلا للاختصاص بالحكم البديع. فإنّه قال : إذا كملت العناية بتمييزه إمّا لأنّه اختصّ بحكم بديع عجيب الشّأن وإمّا لأنّه قصد التّهكّم بالسّامع ، ولم يجعل عطفا على العناية أيضا ، لأنّ المقصود هو التّهكّم لا كمال التّهكّم.

فمعنى العبارة على العطف على كمال العناية ، إنّ المظهر الّذي وضع موضع المضمر إن كان اسم الإشارة فلكمال العناية ، أو التّهكّم بالسّامع والسّخريّة عليه ، كما لو قال الأعمى : من ضربني؟ فقلت له : هذا ضربك ، فكان مقتضى الظّاهر أن يقال له : هو زيد ، لتقدّم المرجع في السّؤال ، لكنّه عدل عن مقتضى الظّاهر وأتى بالاسم الظّاهر أعني اسم الإشارة محلّ الضّمير للتهكّم والاستهزاء بذلك الأعمى ، حيث عبّرت له باسم الإشارة الّذي هو موضوع للمحسوس بحاسّة البصر فنزّلته منزلة البصير تهكّما به.

(٣) أي في موضع الإتيان باسم الإشارة «مشار إليه» محسوس «أصلا» سواء كان السّامع فاقد البصر أو بصيرا ، كما إذا قال لك البصير : من ضربني؟ ف هذا ضربك مشيرا إلى أمر عدميّ كالخلاء ، فالمنفيّ هو المشار إليه المحسوس لا المشار إليه مطلقا ، وإنّما كان الإتيان

٤٤

[أو (١) النّداء على كمال بلادته] أي بلادة السّامع بأنّه لا يدرك غير المحسوس [أو (٢)] على كمال [فطانته] بأنّ غير المحسوس عنده بمنزلة المحسوس [أو ادّعاء كمال ظهوره (٣)] أي ظهور المسند إليه (٤)

______________________________________________________

باسم الإشارة مفيدا للتّهكّم والاستهزاء ، لأنّ الإشارة إلى الأمر العدميّ بما يشار به إلى المشاهد المحسوس يدلّ على عدم الاعتناء بذلك السّامع ، ثمّ كون المشار إليه غير محسوس وغير حاضر لا ينافي كون المقام مقام الإضمار ، وذلك لتقدّم المرجع في السّؤال.

فلا يرد ما يقال : من أنّه إذا لم يكن ثمّة مشار إليه أصلا ، لم يكن ثمّة مرجع للضّمير ، فلا يكون المقام مقام الإضمار لتوقّفه على المرجع ، فلا يصحّ جعل ذلك ممّا وضع الظّاهر موضع المضمر.

(١) أي التّنبيه والإعلام على بلادة السّامع فقوله : «النّداء» بمعنى الإعلام على التّهكّم ، فمعنى العبارة أنّه يوضع اسم الإشارة موضع المضمر لأجل الإعلام على كمال بلادة السّامع ، لأنّ في اسم الإشارة الّذي أصله أن يكون لمحسوس إشارة وإيماء إلى أنّ السّامع لا يدرك إلّا المحسوس ، فإذا قال قائل : من عالم البلد؟ فقيل له : ذلك زيد ، كان ذلك القول مكان هو زيد ، للإشارة إلى كمال بلادة السّامع ، فالإتيان باسم الإشارة خلاف مقتضى الظّاهر ، وفي العدول إليه تنبيه على كمال بلادة ذلك السّائل بأنّه لا يدرك غير المحسوس ، فكان المقام مقام الإضمار لتقدّم المرجع أعني عالم البلد في السّؤال.

(٢) أي أو النّداء على كمال فطانة السّامع «بأنّ غير المحسوس عنده بمنزلة المحسوس» فيستعمل اسم الإشارة الّذي أصله للمحسوس في المعنى الغامض كي يكون إيماء وإشارة إلى أنّ السّامع لذكائه صارت المعقولات عنده كالمحسوس ، وذلك كقول المدرّس بعد توضيح مسألة غامضة ، وهذه عند فلان ظاهرة وواضحة ، مدحا له ، فكان مقتضى الظّاهر أن يقول : وهي ظاهرة عند فلان ، لتقدّم المرجع لكنّه عدل عن مقتضى الظّاهر للتنّبيه على كمال فطانة ذلك السّامع وأنّ المعقولات عنده بمنزلة المحسوسات.

(٣) أي يوضع اسم الإشارة مكان المضمر لأجل ادّعاء ظهور المسند إليه كما يقال في المسألة المتنازع فيها : هذه ظاهرة ، مكان هي ظاهرة ، وفي العدول إلى اسم الإشارة مع أنّه على خلاف مقتضى الظّاهر ادّعاء كمال ظهور المسألة.

(٤) أي ظهور المسند إليه عند المتكلّم كأنّه محسوس بالبصر ولو لم يكن ظاهرا في نفسه.

٤٥

[وعليه (١)] أي على وضع اسم الإشارة موضع المضمر لادّعاء كمال الظّهور [من غير هذا الباب (٢)] أي باب المسند إليه [تعاللت (٣)] أي أظهرت العلّة والمرض (٤) [كي أشجى (٥)] أي أحزن من شجي بالكسر ، أي صار حزينا ، لا من شجى العظم ، بمعنى نشب في حلقه [وما بك (٦) علّة* تريدين (٧) قتلي قد ظفرت (٨) بذلك*] أي بقتلي كان مقتضى الظّاهر أن يقول به ، لأنّه ليس بمحسوس فعدل إلى ذلك (٩) إشارة إلى أنّ

______________________________________________________

(١) أي وعلى وضع اسم الإشارة موضع المضمر لادّعاء كمال ظهوره «من غير هذا الباب» قول ابن دمية : «تعاللت» ، فقوله : «وعليه» خبر مقدّم ، و «تعاللت» مبتدأ مؤخّر ، وقوله : «من غير هذا الباب» حال من المبتدأ على قول ابن مالك ، كما في الدّسوقي.

(٢) فيكون نظيرا للمقام لا مثالا ، ولهذا فصّل بقوله : «وعليه» ولم يقل نحو : تعاللت.

(٣) خطاب للمحبوبة.

(٤) هذا التّفسير إشارة إلى أنّ باب التّفاعل يستعمل في إظهار ما لم يكن في الواقع ، نحو : تجاهل زيد ، وهو ليس بجاهل ، وتعارج بكر ، أي أظهر العرج ، ولم يكن به عرج.

(٥) أشجى فعل المتكلّم ، بمعنى أحزن من شجي من باب علم ، فهو لازم لا من شجى العظم من باب نصر «بمعنى نشب في حلقه» أي وقف العظم في حلقه ، وذلك لعدم المناسبة.

(٦) حال من التّاء في «تعاللت» مؤكّدة ، لأنّ المراد : وما بك علّة في الواقع ، وهو معنى التّعالل.

(٧) أي تريدين قتلي بإظهار العلّة ، وهو أيضا حال من التّاء في «تعاللت» أو بدل اشتمال من «تعاللت».

(٨) استئناف بياني جواب كأنّه ، لمّا خاطبها قالت : هل حصل القتل فقال في الجواب ، فقد ظفرت بذلك.

الشّاهد : في قوله : «بذلك» حيث لم يقل به ، أي استعمل اسم الإشارة موضع الضّمير لادّعاء أنّ قتله وإن كان من المعاني إلّا أنّه قد ظهر ظهور المحسوس بالبصر الّذي يشار إليه باسم الإشارة ، والضّمير في قوله : «به» ، و «لأنّه» عائد إلى القتل.

(٩) أي فعدل الشّاعر إلى لفظ «ذلك» مكان به ، كي يكون عدوله هذا إشارة إلى أنّ قتله قد ظهر مثل ظهور المحسوس بالبصر الّذي يشار إليه باسم الإشارة ، هذا كلّه إذا كان المظهر

٤٦

قتله قد ظهر ظهور المحسوس [وإن كان] المظهر الّذي وضع موضع المضمر [غيره] أي غير اسم الإشارة (١) [فلزيادة التّمكّن] أي جعل المسند إليه متمكّنا عند السّامع [نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) أي الّذي (٣) يصمد (٤) إليه ويقصد في الحوائج ، لم يقل : هو الصّمد ، لزيادة التّمكّن (٥) [ونظيره] أي نظير (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ) في وضع المظهر موضع المضمر لزيادة التّمكّن [من غيره] أي من غير باب المسند إليه [وبالحقّ (٦)] أي بالحكمة المقتضية

______________________________________________________

الموضوع موضع المضمر اسم إشارة ، وأمّا إذا كان المظهر الموضوع موضع المضمر غير اسم الإشارة «فلزيادة التّمكّن» كما أشار إليه بقوله : «وإن كان غيره فلزيادة التّمكّن».

(١) بأن كان علما أو معرّفا بالإضافة أو بأل.

(٢) الشّاهد : في اسم الجلالة الثّاني ، حيث لم يقل : هو الصّمد ، وأتى بالاسم الظّاهر ، لأنّ الغرض هو تمكين المسند إليه في السّامع ، بمعنى قوّة الحصول في ذهنه ، وهذا الغرض لا يحصل بالضّمير لعدم خلوّه عن الإبهام ، ولذا جعله النّحاة من المبهمات ، والمظهر أدلّ على المسمّى لا سيّما وهو علم ، والعلم قاطع للشّركة ، فهو أدلّ على التّمكّن ، والمراد في المقام بيان عظمة المسند إليه واختصاصه بالصّمديّة ، وزيادة التّمكّن تناسب التّعظيم والاختصاص ، وعرف الصّمد باللّام لإفادة الحصر المطلوب ، ولعلم المخاطبين بصمديته ، ونكّر لفظ أحد لعدم علمهم بأحديّته ، ولم يؤت بالعاطف بين الجملتين ـ أي لم يقل : الله أحد والله الصّمد ـ لكمال الاندراج بينهما ، حيث إنّ الثّانية كالتّتمّة للأولى.

(٣) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ المعنى المذكور أحد معاني الصمّد ، ومن معانيه الدّائم الباقي.

(٤) أي يرجع ، ويلجأ إليه في الحوائج كلّها ، فقوله : «ويقصد» عطف تفسير على قوله : «يصمد».

(٥) أي عدل عن المضمر إلى المظهر ، لزيادة التّفخيم ، والإشعار بأنّ من لم يتّصف بالصّمديّة لم يستحقّ بالألوهيّة ، وكان مقتضى القياس هو الصّمد لسبق ذكر الله تعالى.

(٦) خبر لقوله : «ونظيره» أي «ونظيره بالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزّل».

٤٧

للإنزال (١) [أنزلناه] أي القرآن [وبالحقّ نزّل] حيث لم يقل : وبه نزّل (٢) [أو إدخال الرّوع (٣)] عطف على زيادة التّمكّن ، [في ضمير (٤) السّامع وتربية المهابة (٥)] عنده

______________________________________________________

(١) الحكمة لغة هي المبالغة في العلم ، واصطلاحا هي استكمال النّفس الإنسانيّة بتصوّر الأمور والتّصديق بالحقائق النّظريّة والعمليّة على قدر الطّاقة البشريّة ، والمراد بها هنا ما يشتمل على صلاح المعاش والمعاد ، وسمّاها حقّا ، لأنّها حقّ ثابت في الواقع ، ثمّ الوجه لاقتضائها إنزال الكتب أنّ الإنسان مدنيّ بالطّبع ، يحتاج إلى التّعاون ، فلا يتمّ أمر معاشه إلّا إذا كان بينهم معاملة وعدل ، لأنّ كلّ إنسان كتلة من الغرائز ، مثل غريزة السّيطرة والتّملّك ، وغريزة شهوة البطن والفرج ، وكلّ واحدة منها تتطلّب من صاحبها الإشباع بأيّة وسيلة من الوسائل ولو بطريقة تبعث على الضّرر بمجموعة كبيرة من بني البشر ، فلولا إنزال الكتب وإرسال الرّسل وهدايتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم لتفسخ المجتمع الإنساني ، وتحكم عليه الفوضى.

(٢) مع أنّه مقتضى الظّاهر لتقدّم المرجع ، وتوضيح ذلك : أنّ كون هذا المثال من قبيل المظهر موضع المضمر ، إنّما يتمّ إذا كان المراد من الحقّين معنى واحد ، كما يدلّ عليه قاعدة إعادة المعرفة معرّفا ، وأمّا إذا كان المراد من الحقّ الثّاني الأوامر والنّواهي على ما قيل ، فلا يكون ممّا نحن فيه ، لأنّ كلا من الحقّين له معنى على حدة.

فالمتحصّل من الجميع أنّ الحقّ الثّاني هو عين الحقّ الأوّل ، فكان مقتضى الظّاهر أن يقال :

وبه نزّل ، فعدل عنه إلى الاسم الظّاهر لزيادة التّمكين ، لأنّ المقام مقام تقرير حكمة الإنزال لئلّا يتوهّم أنّ نزولها لا حكمة فيه.

(٣) قوله : «الرّوع» بفتح الرّاء بمعنى الخوف ، وبضمّ الرّاء بمعنى القلب ، فحينئذ كان الأولى أن يقول : في روع السّامع ، بضمّ الرّاء بدل «في ضمير السّامع».

(٤) أي في قلب السّامع.

(٥) أي تقوية الخوف النّاشئ عن إجلال المتكلّم وعظمته عند السّامع ، فالمراد من تربية المهابة زيادتها ، وإنّما عطف بالواو المفيدة للجمع بين الأمرين ، لقرب الأوّل ، أي إدخال الرّوع من الثّاني ، أي من تربية المهابة ، لأنّ الخوف من الشّيء يستلزم الإجلال والتّعظيم كالخوف في قلوب النّاظرين للملوك والسّلاطين ، وكيف كان فالجمع بينهما أبلغ في المقصود.

٤٨

هذا كالتّأكيد (١) لإدخال الرّوع [أو تقوية (٢) داعي المأمور ومثالهما] أي مثال التّقوية وإدخال الرّوع مع التّربية [قول الخلفاء : أمير المؤمنين (٣) يأمرك بكذا] مكان أنا آمرك ، [وعليه] أي (٤) على وضع المظهر موضع المضمر لتقوية داعي المأمور [من غيره] أي من غير باب المسند إليه

______________________________________________________

(١) لأنّ خشية لحوق الضّرر من شيء يلزمها إجلاله ، وتعظيمه في القلب ، فهو من عطف اللّازم على الملزوم ، لأنّ تربية المهابة لا تغايرهما ، وهي لازمة لإدخال الخوف ، وكذا تربيتها وهي بمنزلة التّأكيد لأنّها تدلّ عليه ، ولذا قال : كالتّأكيد ، ولذا لم بعطف بأو ، وقيل : إنّه لم يدخل بينهما عناد ، لأنّهما متقاربان ، فإنّ الأوّل إدخال الخوف ابتداء ، والثّاني استزادة الخوف الحاصل.

(٢) أي تقوية ما يكون داعيا لمن أمرته بشيء إلى الامتثال ، والإتيان به ، كما في المطوّل ، فإضافة الدّاعي إلى المأمور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول ، وذلك الدّاعي حالة نفسانيّة تقوم المأمور به ، كظنّ الانتقام منه عند مخالفة أمره ، فذات الخليفة مثلا تقتضي الدّاعي المذكور ، والتّعبير عنه بأمير المؤمنين الدّالّ على السّلطة والقدرة والتّمكّن من الإضرار وفعل المكروه بالمأمور ، يقوّي ذلك الدّاعي ، وإنّما عطف هنا بأو ، لأنّ تقوية الدّاعي قد توجد بدون إدخال الرّوع ، وإن جاز جمعهما ، كما في مثال المتن ، ولذا قال : «ومثالهما».

(٣) فالتّعبير عن ذات الأمير بلفظ أمير المؤمنين دون الضّمير الّذي هو لفظ أنا الّذي هو ضمير المتكلّم موجب لدخول الخوف في قلب السّامع لدلالة لفظ أمير المؤمنين على القهر والسّلطان ، وأنّه يعاقب العاصي ، وموجب لازدياد المهابة الحاصلة من رؤية ومشافهة وموجب لتقوية داعي المأمور.

وبعبارة واضحة : موجب للتّقوية وإدخال الرّوع مع التّربية ، بخلاف أنا آمرك ، فإنّه لا يدلّ على ما ذكر فعدل عن المضمر إلى المظهر ، لأنّه أهيب وأدعى إلى الامتثال.

(٤) التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ المناسب لوضع المضمر هو تقوية داعي المأمور لإدخال الرّوع في قلب السّامع ، لأنّ سياق الآية المباركة هو التّرغيب.

٤٩

(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(١) (١)] لم يقل عليّ (٢) ، لما في لفظ الله من تقوية الدّاعي (٣) إلى التوكّل عليه لدلالته على ذات موصوفة بالأوصاف الكاملة من القدرة الباهرة وغيرها (٤) [أو الاستعطاف (٥)] أي طلب العطف (٦) والرّحمة (٧) [كقوله (٨) :

إلهي عبدك العاصي أتاكا]

مقرّا بالذّنوب وقد دعاكا

______________________________________________________

(١) هذه الآية مع ملاحظة مضمونها تأبى عن التّلاؤم مع إدخال الرّوع وتربية المهابة ، لأنّها في صدد بيان جهة التّوكّل ، ومعنى التّوكّل أن يقول العبد بلسان حاله : إلهي أنا لست مستغنيا عن معونتك ، لعلمي بأنّ وراء تدبيري تدبيرك ، فأرجو لطفك في إنجاح ما أروم ـ فقوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ) بعد المشاورة وظهور الأمر فتوكّل ـ موجب لتقوية داعي المأمور.

(٢) أي لم يقل : عليّ ، بضمير المتكلّم ، مع أنّ المقام يقتضيه ، لأنّ المقام مقام التّكلّم «لما في لفظ الله من تقوية الدّاعي ...».

(٣) أي داعي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المأمور بالتّوكّل بعد المشاورة هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) أي من أوصاف الكمال ، وحاصل الكلام : إنّ في لفظ الله من تقوية داعي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التّوكّل عليه لدلالته على ذات موصوفة بالأوصاف الكماليّة ، لأنّ لفظ الجلالة موضوعة للذّات الموصوفة بالقدرة ، وسائر الكمالات ، فتوجب تقوية ذلك الدّاعي بخلاف ضمير المتكلّم ، فإنّه لا يدلّ عليها ، لأنّه موضوع لكلّ متكلّم من حيث هو متكلّم من دون أن يلاحظ فيه صفة من الصّفات زائدة على الذّاتّ.

(٥) أي وضع المظهر موضع المضمر لقصد الاستعطاف.

(٦) أي طلب المتكلّم أن يعطف السّامع عليه.

(٧) عطف تفسيريّ على «العطف».

(٨) أي قول إبراهيم بن أدهم كان من أبناء الملوك فخرج يوما متصيّدا فهتف به هاتف : ألهذا خلقت أم بهذا أمرت ، ثمّ هتف من قربوس سرجه ، والله ما لهذا خلقت ، ولا بهذا أمرت ، فترك ما مضى ودخل البادية ، وتاب إلى الله ، فتكلّم بهذه الأبيات : «إلهي عبدك العاصي أتاكا» أي رجع إليك بالتّوبة «مقرّا بالذّنوب وقد دعاك» أي سألك ، وبعده :

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

٥٠

لم يقل : أنا العاصي (١) ، لما في لفظ عبدك من التّخضّع (٢) واستحقاق الرّحمة وترقّب الشّفقة

الالتفات

[قال السّكّاكي : هذا] أعني (٣) نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة [غير مختصّ بالمسند إليه ولا] النّقل مطلقا (٤) مختصّ [بهذا القدر] أي بأن يكون عن الحكاية إلى الغيبة ، فلا تخلو العبارة (٥) عن تسامح [بل كلّ من التّكلّم والخطاب والغيبة

______________________________________________________

فإن تغفر فأنت لذلك أهل

وإن تطرد فمن يرحم سواكا

والشّاهد : في قوله : «عبدك العاصي أتاكا» حيث لم يقل : أنا أتيتك ، أي قصد باب عفوك ، وقيل : إنّ البيت المذكور منسوب إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

(١) أي فيكون العاصي حينئذ بدلا من ضمير المتكلّم.

(٢) أي كمال الخضوع والخشوع ليس في ضمير المتكلّم ، ثمّ عطف «استحقاق الرّحمة» على «التّخضّع» من قبيل عطف المسبّب على السّبب ، وكذا قوله : «وترقّب الشّفقة».

(٣) التّفسير المذكور «أعني نقل الكلام ...» إشارة إلى أنّ المشار إليه بقوله : «هذا» ما يفهم ضمنا إيراد قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وقوله : «إلهي عبدك العاصي أتاكا» لأنّ هذين المثالين يتضمّنان «نقل الكلام عن الحكاية» أي المتكلّم ، لأنّ المتكلّم يحكي عن نفسه «إلى الغيبة» أي المستفادة من الاسم الظّاهر ، لأنّ الظّواهر عندهم غيب ، فالحاصل إنّ ما ذكر من نقل الكلام عن حكاية نفس المتكلّم أعني ضمير المتكلّم إلى الغيبة المستفادة من الاسم الظّاهر «غير مختصّ بالمسند إليه» بل تارة يكون في المسند إليه كما مرّ في قول الخلفاء : أمير المؤمنين يأمرك بكذا ، مكان أنا آمرك ، وأخرى يكون في غيره ، كما في قوله تعالى :] فتوكّل على الله [مكان فتوكلّ عليّ.

(٤) أي من دون التّقييد بالنّقل عن الحكاية إلى الغيبة ، وإن كان التّقييد ظاهر العبارة ، وهذا وجه التّسامح.

(٥) أي لا تخلو عبارة المصنّف عن تسامح ، إذ ظاهر كلام المصنّف بمنزلة أن يقال : إنّ نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة غير مختصّ بنقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة.

٥١

مطلقا] أي سواء كان في المسند إليه أو غيره ، وسواء كان كلّ منها (١) واردا في الكلام أو كان مقتضى الظّاهر إيراده (٢) [ينقل إلى الآخر] فتصير الأقسام (٣) ستّة حاصلة من ضرب الثّلاثة في الاثنين ، ولفظ مطلقا ليس في عبارة السّكّاكي لكنّه مراده بحسب ما علم من مذهبه (٤) في الالتفات بالنّظر إلى الأمثلة (٥) [ويسمّى هذا النّقل عند علماء المعاني (٦)

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : إنّ ظاهر كلامه أنّ النّقل المذكور لا يختصّ بنفسه ، بل يوجد في غيره ، مع أنّ وجود نفس الشّيء في غيره محال ، فقول الشّارح «النّقل مطلقا ...» بيان لما هو مراد المصنّف ، فمراده لا النّقل مطلقا مختصّ «بهذا القدر» يعني أنّ النّقل هنا مجرّد عن قيده أي من المتكلّم إلى الغيبة ، بل كان المراد منه ما يشمل له ولغيره ككونه من الخطاب إلى التّكلّم أو الغيبة ، أو من الغيبة إلى التّكلّم أو الخطاب ، أو من التّكلّم إلى الخطاب ، والدّليل على أنّ مراد المصنّف من العبارة ما ذكرناه من قول المصنّف : «بل كلّ من التّكلّم والخطاب والغيبة مطلقا».

(١) أي كلّ من التّكلّم والخطاب وغيره «واردا في الكلام» أي بأن عبّر به أوّلا ، ثمّ عدل عنه إلى الآخر ، كما في الأمثلة الآتية.

(٢) أي إيراد كلّ منها إلّا أنّه لم يورد بأن لم يعبّر به أوّلا ، فعدل عنه إلى الآخر ، كما في الأمثلة السّابقة.

(٣) أي أقسام النّقل «ستّة حاصلة من ضرب الثّلاثة في الاثنين» لأنّ كلّ واحد من الثّلاثة ينقل إلى الآخرين ، أي عن التّكلّم إلى الخطاب والغيبة وعن الخطاب إلى التّكلّم والغيبة وعن الغيبة إلى التّكلّم والخطاب ، فصارت الأقسام ستّة ، وإن ضربت هذه السّتّة في الحالتين وهما أن يكون قد أورد كلّ منهما في الكلام ، ثمّ عدل عنه أو لم يورد لكن كان مقتضى الظّاهر إيراده ، تصير اثني عشر قسما ، وإن ضربتها في المسند إليه وغيره تصبح أربعة وعشرين ، وتأتي أمثلة أكثر هذه الأقسام فيما يأتي.

(٤) أي السّكّاكي من أنّه لا يشترط تقدّم التّعبير ولا اختصاصه بالمسند إليه ، وإن كان عدم الاختصاص به على مذهب الجمهور أيضا.

(٥) لأنّه مثّل بالمسند إليه وغيره ، سواء سبقه تعبير أو لا ، فيكون الإطلاق مستفادا من الأمرين ، أي ما علم من مذهبه والأمثلة.

(٦) الأولى أن يقول عند علماء البلاغة ، لأنّ الالتفات لا يختصّ بعلم المعاني بل يسمّى

٥٢

التفاتا] مأخوذا (١) من التفات الإنسان عن يمينه إلى شماله وبالعكس (٢) [كقوله] أي قول امرئ القيس (١) [تطاول ليلك (٣)] خطاب لنفسه (٤) التفاتا ، ومقتضى الظّاهر ليليّ [بالأثمد (٥)] بفتح الهمزة وضمّ الميم ، اسم موضع [والمشهور (٦) عند الجمهور أنّ

______________________________________________________

النّقل المذكور التفاتا عند علماء العلوم الثّلاثة ، لأنّ الالتفات من علم المعاني باعتبار اقتضاء المقام ، فائدته من طلب مزيد الإصغاء واشتماله على نكتة هي خاصيّة التّركيب ، وأنّه من علم البيان من حيث إنّه إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح والخفاء ، وأنّه من علم البديع ، من حيث كونه يورث الكلام حسنا وطراوة ، فيصغى إليه لطراوته وابتداعه.

(١) أي منقولا.

(٢) أي من شماله إلى يمينه ، الواو بمعنى أو.

(٣) فيه التفات من التّكلّم إلى الخطاب حيث كان مقتضى الظّاهر تطاول ليليّ ، لأنّ المقام مقام تكلّم وحكاية عن نفسه.

فالالتفات من التّكلّم إلى الخطاب إنّما هو عند السّكّاكي ، لأنّه لم يشترط التّعبير بالفعل ، ولا التفات فيه عند الجمهور ، لأنّهم يشترطونه.

(٤) أي لذاته وشخصه ، يعني أنّ الخطاب ليس على حقيقته إذا لم يرد بالمخاطب من يغايره ، بل أراد ذاته وشخصه ، فالخطاب بكسر الكاف ، لأنّ الشائع في خطاب النّفس التّأنيث ، ويصحّ الفتح نظرا إلى كون النّفس شخصا أو بمعنى المكروب.

وفي بعض الشّروح إنّ ما يتوهّم من أنّه يجب أن يقرأ ليلك بكسر الكاف ، لأنّ الخطاب لنفسه خطأ ، لأنّ الضّمير إنّما يؤنّث إذا كان راجعا إلى لفظ النّفس لكونه مؤنّثا سماعيّا ، وأمّا إذا كان راجعا إلى مدلولها ، فلا يؤنّث لكونه مذكّرا ، وكيف كان فقوله : «تطاول ليلك» كناية عن السّهر.

(٥) الباء بمعنى في ، ثمّ الإثمد بكسر الهمزة والميم ، بمعنى الكحل الأسود.

(٦) هذا من كلام المصنّف مقابل لقول السّكّاكي : قال الفنري : في حواشيه على المطوّل اعلم أنّه تلخّص ممّا ذكره الشّارح أنّ في الالتفات أربعة مذاهب.

ووجه الضبط أن يقال : لا يخلو إمّا أن يشترط فيه سبق التّعبير بطريق آخر أم لا ، الثّاني

__________________

(١) أي قول امرئ القيس في مرثية أبيه.

٥٣

الالتفات هو التّعبير عن معنى بطريق من] الطّرق [الثّلاثة] التّكلّم والخطاب والغيبة [بعد التّعبير عنه] أي عن ذلك المعنى (١) [بآخر منها] أي بطريق آخر من الطّرق الثّلاثة بشرط أن يكون التّعبير الثّاني على خلاف ما يقتضيه الظّاهر (٢) ويترقّبه (٣) السّامع ، ولا بدّ من هذا القيد (٤) ليخرج مثل قولنا : أنا زيد ، وأنت عمرو (٥) ،

______________________________________________________

مذهب الزّمخشري والسّكّاكي ومن تبعهما ، وعلى الأوّل لا يخلو إمّا أن يشترط أن يكون التّعبيران في كلام واحد أو لا ، الأوّل مذهب بعض النّاس ، وعلى الثّاني لا يخلو إمّا أن يشترط كون المخاطب في التّعبيرين واحدا أو لا ، الأوّل مذهب صدر الأفاضل ، والثّاني مذهب الجمهور.

(١) هذا التّفسير صريح في أنّه لا بدّ من اتّحاد معنى الطّريقين ، والمراد الاتّحاد في المصداق ، فيدخل فيه نحو : أنا زيد ، ويحتاج إلى إخراجه بالقيد الّذي ذكره الشّارح ، وهو قوله : «بشرط أن يكون التّعبير الثّاني على خلاف ما يقتضيه الظّاهر».

(٢) أي ظاهر الحال.

(٣) عطف على قوله : «يقتضيه» ، فمعنى العبارة حينئذ ، بشرط أن يكون التّعبير الثّاني على خلاف ما يقتضيه ظاهر الحال ، وعلى خلاف ما ينتظره السّامع ، إذ ما يترقّبه السّامع هو الطّريق الأوّل لا الثّاني.

(٤) أي من شرط أن يكون التّعبير الثّاني على خلاف ما يقتضيه الظّاهر ، وإنّما تركه المصنّف لفهمه من المقام ، لأنّ كلامه إنّما هو في إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظّاهر.

(٥) وجه خروج أنا زيد ، وأنت عمرو ، عن الالتفات أنّه وإن كان يصدق على كلّ واحد منهما أنّه قد عبّر فيه عن معنى وهو الذّات بطريق الغيبة ، بعد التّعبير عنه بطريق آخر ، وهو التّكلّم في المثال الأوّل ، والخطاب في المثال الثّاني ، إلّا أنّ التّعبير الثّاني ممّا يقضيه ظاهر الكلام والحال ، ويترقّبه السّامع ، لأنّ المتكلّم إذا قال : أنا وأنت يترقّب أن يأت بعده باسم ظاهر خبرا عنه ، لأنّ الإخبار عن الضّمير إنّما يكون بالاسم الظّاهر ، فالإخبار به وإن كان من قبيل الغيبة عن ضمير المتكلّم أو المخاطب إلّا أنّه جار على ظاهر ما يستعمل في الكلام.

والحاصل إنّ التّعبير الثّاني في المثالين ليس على خلاف مقتضى الظّاهر ، ولا على خلاف ما يترقّبه السّامع فقد خرجا بالقيد المذكور في كلام الشّارح.

٥٤

ونحن اللّذون صبّحوا الصّباحا (١) ومثل قوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) و (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ،) فإنّ الالتفات إنّما هو في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والباقي جار على أسلوبه ، ومن زعم أنّ في مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) التفاتا (٣) ، والقياس آمنتم ، فقد سها على ما يشهد به كتب النّحو (٤)

______________________________________________________

(١) وجه خروج هذا المثال إنّ فيه الانتقال من ضمير المتكلّم أعني «نحن» إلى الغيبة وهو «اللّذون» إلّا أنّ هذا الانتقال ليس على خلاف مقتضى الظّاهر ، بل ممّا يقتضيه الظّاهر ، لأنّ الإخبار بالظّاهر وإن كان من قبيل الغيبة عن ضمير المتكلّم أو المخاطب إلّا أنّه جار على ظاهر ما يستعمل في الكلام فلم يجر على خلاف ما يترقّبه السّامع ، فخرج بالشّرط المذكور ، إذ لو لا ذلك الشّرط لحكم بأنّ هذا التفات.

وحاصل الكلام أنّه لو لا ذلك القيد لدخل جميع هذه الأمثلة في الالتفات ، لأنّه قد عبّر فيها عن معنى بطريق من الطّرق الثّلاثة بعد التّعبير عنه بطريق آخر ، فخرج جميع هذه الأمثلة بذلك القيد ، لأنّ التّعبير الثّاني فيها ليس على خلاف مقتضى ظاهر الحال ، كما عرفت.

(٢) وجه خروج قوله تعالى عن الالتفات بعد ما كان فيه التّعبير عن المعنى وهو الذّات العليّة بطريق ، بعد التّعبير عنها بآخر ، وهو الغيبة في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) و (أَنْعَمْتَ) إلّا أنّ هذا التّعبير أعني ـ (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ـ على خلاف مقتضى الظّاهر ، لأنّ الالتفات حصل أوّلا بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والثّاني وهو قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أتى على أسلوبه كما في كلام الشّارح فلكلّ واحد من (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) و (اهْدِنَا) و (أَنْعَمْتَ) بالنّظر إلى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وإن كان يصدق عليه أنّه انتقال من طريق إلى آخر لكنّه على خلاف مقتضى الظّاهر ، بل جار على مقتضاه نظرا إلى رعاية وحدة الأسلوب فهذه الثّلاثة خارجة بالشّرط المذكور في كلام الشّارح.

(٣) لأنّ (الَّذِينَ) منادى في الحقيقة فهو مخاطب ، والمناسب له آمنتم ، فالعدول عن الخطاب إلى الغيبة التفات.

(٤) من أنّ عائد الموصول قياسه أن يكون بلفظ الغيبة ، وإن وقع منادى لأنّ الموصول اسم ظاهر من قبيل الغيبة ، وإن عرض به الخطاب بسبب النّداء ، وحينئذ ف (آمَنُوا) جار على مقتضى الظّاهر ، فخرج عن الالتفات بالقيد المذكور.

٥٥

[وهذا] أي الالتفات بتفسير الجمهور [أخصّ] منه (١) بتفسير السّكّاكي ، لأنّ النّقل (٢) عنده أعمّ من أن يكون قد عبّر عن معنى بطريق من الطّرق ، ثمّ بطريق آخر أو يكون مقتضى الظّاهر أن يعبّر عنه بطريق منها (٣) ، فترك وعدل إلى طريق آخر (٤) ، فيتحقّق الالتفات بتعبير واحد ، وعند الجمهور مخصوص بالأوّل (٥) حتّى لا يتحقّق الالتفات بتعبير واحد ، فكلّ التفات عندهم التفات عنده من غير عكس كما في تطاول ليلك (٦) [مثال الالتفات من التّكلّم إلى الخطاب ،] وما لي لا أعبد الّذي فطرني وإليه ترجعون [(١) (٧)]

______________________________________________________

(١) أي من الالتفات «بتفسير السّكّاكي».

(٢) أي لأنّ النّقل المسمّى بالالتفات عند السّكّاكي «أعمّ من أن يكون قد عبّر عن معنى بطريق من الطّرق» الثّلاثة ، ثمّ عبّر عنه بطريق أو لا ، بل كان مقتضى الظّاهر أن يعبّر عنه بطريق من الطّرق الثّلاثة إلّا أنّه ترك وعدل عنه إلى طريق آخر «فيتحقّق الالتفات بتعبير واحد» عند السّكّاكي دون الجمهور ، فلا يتحقّق الالتفات عندهم إلّا بتعبيرين ، فكلّ التفات عند الجمهور التفات عند السّكّاكي «من غير عكس» أي ليس كلّ التفات عنده التفاتا عندهم ، فالمراد من العكس هو العكس اللّغوي ، أي لا ينعكس كلّيّا بأن يقال كلّ التفات عند السّكّاكي التفات عند الجمهور ، فلا ينافي وجود العكس المنطقي ، بأن يقال : بعض الالتفات عند السّكّاكي التفات عند الجمهور.

(٣) أي من الطّرق الثّلاثة.

(٤) كما في «تطاول ليلك».

(٥) وهو أن يكون قد عبّر عن معنى بطريق من الطّرق ، ثمّ بطريق آخر. فلا يتحقّق الالتفات عند الجمهور إلّا بتعبيرين.

(٦) فإنّ فيه التفات عند السّكّاكي دون الجمهور ، لعدم التّعبيرين.

(٧) قوله تعالى حكاية عن رسول عيسى عليه‌السلام حبيب النّجار حيث قال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) موعظة لقومه لتركهم الإيمان.

الشّاهد في قوله : (تُرْجَعُونَ) حيث أتى به مكان أرجع ، لأنّ مقتضى الظّاهر والمناسب لقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) أن يأتي بفعل المتكلّم فعدل عنه إلى فعل المخاطب أعني (تُرْجَعُونَ) التفاتا من التّكلّم إلى الخطاب.

__________________

(١) سورة يس : ٢٢.

٥٦

ومقتضى الظّاهر أرجع ، والتّحقيق (١) إنّ المراد ما لكم لا تعبدون لكن لمّا عبّر عنهم (٢) بطريق التّكلّم كان (٣) مقتضى ظاهر السّوق إجراء باقي الكلام على ذلك الطّريق فعدل عنه إلى طريق الخطاب فيكون التفاتا على المذهبين [و] مثال الالتفات من التّكلّم [إلى الغيبة (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ومقتضى

______________________________________________________

(١) إشارة إلى جواب اعتراضين واردين ههنا :

الاعتراض الأوّل : إنّ قوله : (تُرْجَعُونَ) ليس خطابا لنفسه ، فكيف يكون التفاتا ، والشّرط فيه أن يكون المعبّر عنه واحدا.

وقد أشار إلى جوابه بقوله : «إنّ المراد ما لكم لا تعبدون» فالمعبّر عنه في الجميع هو المخاطبون ، فالشّرط حاصل.

الاعتراض الثّاني : إنّه لو كان المراد ما ذكر من أنّ المعبّر عنه في الجميع هو المخاطبون لكان قوله : (تُرْجَعُونَ) واردا على مقتضى الظّاهر ، فلا التفات فيه.

وقد أشار إلى جوابه «لكن لمّا عبّر عنهم بطريق التّكلّم كان مقتضى الظّاهر السّوق إجراء باقي الكلام» أي قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) «على ذلك الطّريق» أي على طريق التّكلّم «فعدل عنه إلى طريق الخطاب» أعني (تُرْجَعُونَ) «فيكون التفاتا على المذهبين» أي السّكّاكي والجمهور.

(٢) أي عن المخاطبين.

(٣) جواب لمّا في قوله : «لمّا عبّر ...».

(٤) لأنّ لفظ ربّ اسم مظهر ، والاسم المظهر ، فيكون الالتفات من التّكلّم ، أي لنا إلى الغيبة ، أي (لِرَبِّكَ) وفائدة هذا الالتفات أنّ في لفظ الرّبّ الحثّ على فعل المأمور به أعني الصّلاة الّتي هي من أفضل العبادات ، لأنّ المربّي الحقيقيّ يستحقّ العبادة.

وبعبارة أخرى : إنّ الصّلاة إنّما هي للرّبّ الخالق الفاطر ، ثمّ المراد ب (الْكَوْثَرَ) الخير الكثير أو نهر في الجنّة يسمّى بالكوثر.

٥٧

الظّاهر لنا (١) [و] مثال الالتفات [من الخطاب إلى التّكلّم] قول الشّاعر (١) [طحا] أي ذهب [بك (٢) قلب في الحسان طروب (٣)] ومعنى طروب في الحسان أنّ له طربا في طلب الحسان (٤) ونشاطا في مراودتها (٥) [بعيد الشّباب] تصغير بعد للقرب (٦) ، أي حين ولّى الشّباب وكاد ينصرم (٧) [عصر] ظرف زمان مضاف إلى الجملة الفعليّة أعني قوله : [حان] أي قرب [مشيب يكلّفني ليلى] فيه التفات من الخطاب في بك إلى التّكلّم (٨) ومقتضى الظّاهر يكلّفك وفاعل يكلّفني ضمير القلب ، وليلى مفعوله الثّاني ،

______________________________________________________

(١) لأنّه عبارة عن ضمير المتكلّم في (أَعْطَيْناكَ).

(٢) الباء للتّعدية على حدّ ذهبت بزيد ، أي أذهبته «طحا بك» خطاب للنّفس أو لشخصه وذاته لا لنفسه ، ومقتضى الظّاهر طحابي ، ففيه التفات عند السّكّاكي لا عند الجمهور.

(٣) صفة للقلب ، والطّرب خفّة تعتري الإنسان لشدّة سرور أو حزن ، قوله : «في الحسان» متعلّق بقوله : «طروب» أي طروب في طلب الحسان ، والمراد من «الحسان» نساء حسان الصّور ، وحينئذ فتقديم المعمول لإفادة الحصر.

(٤) أي في طلب وصالهنّ.

(٥) أي مطالبتها بالوصال ، فقوله : «نشاطا» تفسير لقوله : «طربا».

وحاصل المعنى : أذهبني وأتلفني قلب موصوف بأنّ له طربا ونشاطا في طلب وصال الحسان دون غيرهنّ ، والحسان جمع حسناء أو حسنى.

(٦) أي للدّلالة على أنّ زمان إذهابه أو طرب قلبه قريب من زمان ذهاب شبابه.

(٧) أي ينقطع لأنّ الانصرام هنا بمعنى الانقطاع.

(٨) لأنّ الياء في قوله : «يكلّفني» للتّكلّم ، فالالتفات من المجرور الّذي في بك ـ في قوله : «طحا بك» ـ إلى المفعول في قوله : «يكلّفني» وقوله : «ليلى» مفعوله الثّاني بتقدير الباء ، أي يكلّفني بليلى لأنّ كلّف لا يتعدّى إلى المفعول الثّاني بنفسه بل بالباء ، يقال : كلّفت زيدا بكذا ، وقد أشار الشّارح إلى تقدير الباء ، بقوله : «والمعنى يطالبني القلب بوصل ليلى» فالتّكليف على هذا بمعنى الطّلب فالمفاعلة في قوله : «يطالبني القلب» على غير بابها.

والحاصل إنّ في قول الشّاعر التفات من الخطاب إلى التّكلّم ، لأنّ الياء في قوله : «يكلّفني» للتّكلّم.

__________________

(١) هو علقمة بن عبيدة العجلى من قصيدة يمدح بها الحارث بن جبلة الغسّانى.

٥٨

والمعنى يطالبني القلب بوصل ليلى ، وروي تكلّفني بالتّاء الفوقانيّة على أنّه مسند إلى ليلى والمفعول محذوف (١) ، أي شدائد فراقها (٢) أو على أنّه خطاب للقلب ، فيكون التفاتا آخر (٣) من الغيبة إلى الخطاب [وقد شطّ] أي بعد [وليها] أي قربها [وعادت عواد (٤) بيننا وخطوب] قال المرزوقي عادت يجوز أن يكون فاعلت من المعاداة (٥) كأنّ الصّوارف (٦) والخطوب صارت تعاديه ،

______________________________________________________

(١) أي المفعول الثّاني محذوف ، والمفعول الأوّل هو الياء في «تكلّفني».

(٢) أي ليلى تكلّفني حمل شدائد فراقها ، هذا هو المفعول الثّاني.

(٣) أي غير ما تقدّم ، فيكون في البيت على هذا الاحتمال الأخير التفاتان :

أحدهما : في الكاف في بك ، مع ياء المتكلّم في «تكلّفني».

وثانيهما : في قلب مع فاعل «تكلّفني» حيث عبّر أوّلا عن القلب بطريق الغيبة أعني الاسم الظّاهر ، وثانيا بطريق الخطاب حيث عبّر عنه بقوله : «تكلّفني» أي أنت يا قلب تكلّفني.

والمتحصّل من الجميع أنّه على رواية يكلّفني بالياء ليس فيه إلّا التفات واحد عند الجمهور والسّكّاكي وهو الالتفات من الخطاب إلى التّكلّم ، وكذا على رواية «تكلّفني» بالتّاء الفوقيّة أنّ جعل الفاعل «ليلى» وأمّا أنّ جعل ضمير القلب كان فيه التفاتان.

(٤) عواد جمع عادية ، وهي ما يصرفك عن الشّيء «وخطوب» جمع خطب ، وهو الأمر العظيم ، وعطف الخطوب على العوادي عطف مرادف على مرادف ، لأنّ العوادي والصّوارف والخطوب ألفاظ مترادفة معناها واحد. فحاصل المعنى عادت عواد أي عواد الدّهر ونوائب الزّمان أحدثت العداوة بيننا حيث اختارت البعد على القرب.

(٥) أي من باب المفاعلة مشتقّ من العداوة ، كان أصله عادوت تحرّكت الواو وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، ثمّ حذفت الألف لالتقاء السّاكنين ، فالفعل محذوف اللّام فوزنه بعد الإعلال فاعلت.

(٦) تفسير للعوادي ، والمراد بها العوائق.

٥٩

ويجوز أن يكون من عاد يعود (١) ، أي عادت (٢) عواد وعوائق كانت تحول بيننا إلى ما كانت عليه قبل (٣) [و] مثال الالتفات من الخطاب [إلى الغيبة] قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)(١) والقياس (٤) بكم [و] مثال الالتفات [من الغيبة إلى التّكلّم] قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ)(٢) (٥) ومقتضى الظّاهر فساقه ، أي ساق الله ذلك السّحاب وأجراه (٦) إلى بلد ميّت [و] مثال الالتفات من الغيبة [إلى الخطاب] قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٧) ومقتضى إيّاه [ووجهه] أي (٨) وجه حسن الالتفات [أنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان] ذلك ذلك الكلام

______________________________________________________

(١) أي مأخوذا من مصدر عاد بمعنى رجع ، وهو العود بمعنى الرّجوع وعلى هذا لا حذف فيه ، ووزنه فعلت ، وأصله عودت قلبت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها صار عادت.

(٢) أي رجعت العوادي الّتي تحول بيننا إلى ما كانت عليه أوّلا من الحيلولة.

(٣) أي قبل الحيلولة بيننا.

(٤) الظّاهر أنّ تعبيره عن مقتضى الظّاهر بالقياس تفنّن.

والحاصل إنّ مقتضى الظّاهر جرين بكم ، ولكنّ الّذي دعا إلى تغيير الكلام عن الخطاب إلى الغيبة ، قصد التّأدّب في الكلام بترك المواجهة بالذّمّ ، ولو كان المخاطب مرتكبا للذّنب ، ولكنّ التّكلّم معه بلسان مؤدّب أدعى لصرفه عن معاودة الذّنب.

(٥) قال : سقناه مكان ساقه ، وفائدة الالتفات هو التّعظيم ، لأنّه فعل عظيم لا يقدر عليه إلّا ذو القدرة الباهرة.

(٦) قوله : «وأجراه» عطف تفسير على قوله : «ساق الله» وسوق السّحاب إلى البلد الميّت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها كانا من الدّلائل على القدرة الباهرة.

(٧) وجه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب واضح لا تحتاج إلى البيان ، لأنّ قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وصف لاسم ظاهر وهو من قبيل الغيبة ، كما مرّ غير مرّة.

(٨) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ ضمير «وجهه» يرجع إلى الالتفات بحذف المضاف أعني «حسن» ، فحاصل الكلام في المقام أنّ وجه حسن الالتفات في أيّ تركيب كان «إنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن تطرية لنشاط السّامع».

__________________

(١) سورة يونس : ٢٢.

(٢) سورة فاطر : ٩.

٦٠