دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

لأنّ (١) هل في هل تشكرون ، وهل أنتم تشكرون على أصلها ، لكونها داخلة على الفعل (٢) تحقيقا في الأوّل ، وتقديرا (٣) في الثّاني [و] (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أدلّ على طلب الشّكر [من أفأنتم شاكرون] أيضا [وإن كان (٤) للثّبوت باعتبار] كون الجملة اسميّة [لأنّ (٥) هل أدعى (٦) للفعل من الهمزة ، فتركه معها] أي ترك الفعل مع هل [أدلّ على ذلك] أي على كمال العناية بحصول ما سيتجدّد (٧) [ولهذا] أي لأنّ هل أدعى للفعل (٨) من الهمزة [لا يحسن هل زيد منطلق إلّا من البليغ (٩) لأنّه (١٠)

______________________________________________________

(١) علّة لكون المثالين المذكورين فيهما إبقاء ما سيتجدّد على أصله.

(٢) أي فليس معها إبراز المتجدّد في صورة الثّابت ، بل إبقاء ما سيتجدّد على أصله.

(٣) أي لأنّ أنتم فاعل فعل محذوف يفسّره الظّاهر المذكور.

(٤) أي وإن كان هذا القول أعني أفأنتم شاكرون للثّبوت باعتبار كون الجملة اسميّة وهي تدلّ على الثّبوت المطلق المجرّد عن التّقيّد بزمان.

(٥) علّة لكون هل أنتم شاكرون ، أدلّ على طلب الشّكر من أفأنتم شاكرون.

(٦) أي أشدّ طلبا» للفعل من الهمزة ...».

(٧) أي بخلاف ترك الفعل مع الهمزة ، وذلك لما مرّ من أنّ إبراز غير الثّابت في معرض الثّابت مع وجود ما يقتضي إبرازه بصورة غير الثّابت أدلّ على كمال العناية بحصوله ، ولازم أنّ الأدلّيّة تتفاوت بحسب تفاوت اقتضاء المقتضي شدّة وضعفا ، وحيث إنّ هل أدعى للفعل من الهمزة ، فالأدلّيّة فيها أقوى من الأدلّيّة في الهمزة.

(٨) أي بحيث لا يعدل عنه معها إلّا لشدّة الاهتمام والاعتناء بمفاد المعدول إليه.

(٩) أي لا من غيره ولو راعى ما ذكر لأنّه يعدّ منه مراعاة ما ذكر من باب الاتّفاق بلا قصد ، لأنّ هذا ليس شأنه وإقدامه عليه عند النّاس ليس إلّا كلبس لباس غير متعارف له عندهم ، كما إذا ليس حمّال لباس العالم الدّينيّ.

(١٠) أي لأنّ البليغ هو الّذي يقصد به ، أي بنحو : هل زيد منطلق ، الدّلالة على الثّبات وإبراز ما سيوجد في معرض الموجود المناسبين للجملة الاسميّة ، وقوله : «إبراز» عطف على» الدّلالة» ، أي ويقصد به إبراز ما سيوجد في معرض الموجود.

وحاصله أنّه إذا صدر هذا القول من البليغ كان المنظور إليه معنى لطيفا وهو الاستفهام عن

٤٠١

الّذي يقصد به الدّلالة على الثّبوت وإبراز ما سيوجد في معرض الموجود [وهي] أي هل [قسمان : بسيطة (١) وهي الّتي يطلب بها وجود الشّيء] أو لا وجوده [كقولنا : هل الحركة موجودة] أو لا موجودة [ومركّبة وهي الّتي يطلب بها وجود شيء لشيء] أو لا وجوده له [كقولنا : هل الحركة دائمة] أو لا دائمة.

______________________________________________________

استمرار انطلاق زيد ، وكان الكلام مخرجا على خلاف مقتضى الظّاهر ، وهذا من فنّ البلاغة لإحاطة علمه بما تقتضيه هل من الفعل ، بخلاف ما إذا صدر من غير البليغ لأنّ استعمال اللّفظ في غير موضعه إنّما يكون عن جهل لا عن نظر إلى معنى لطيف ، فيكون هذا القول منه قبيحا ، وعلى فرض أن يقصد نكتة ، فلا اعتداد بقصده لانتفاء بلاغته.

(١) يطلق البسيط على ما لا جزء له خارجا فقطّ كالجوهر الفرد أو لا ذهنا ولا خارجا ، كالله سبحانه ، فإنّه لا ماهية له حتّى يكون له جنس وفصل ، فلا جزء له ذهنا ، كما أنّه لا جزء له خارجا ، ويطلق البسيط على ما يكون أقلّ أجزاء بالنّسبة إلى غيره المقابل له ، والبساطة بهذا المعنى أمر نسبيّ ، وهو المراد هنا ، فإنّ هل البسيطة بسيطة بالقياس إلى المركّبة ، وإلّا فهي في الحقيقة مركّبة.

بيان ذلك : إنّ في حيّزها في قولنا : هل الحركة موجودة ، ثلاثة أشياء : الحركة ، والوجود الرّابط ، والوجود المحمول ، ولكنّ الأخيرين بما أنّهما متناسخين ، ولا فرق بينهما في الظّاهر عدّا بمنزلة شيء واحد ، فبهذا الاعتبار يصبح ما في حيّزها شيئان ، فتكون بسيطة بالقياس إلى المركّبة ، لأنّ المركّبة تكون في حيّزها ثلاثة أشياء ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ توصيف هل بالبساطة والتّركيب هنا باعتبار مدخولها ، فقوله : «بسيطة هيي الّتي يطلب بها وجود الشّيء» أي التّصديق بوقوع وجود الشّيء ليوافق ما مرّ من أنّ هل لطلب التّصديق بحيث يكون الوجود محمولا على مدخولها ، كما في هل زيد موجود ، وهل النّار موجودة ، قوله : «هل الحركة موجودة» يقال هذا بعد معرفة الحركة المطلقة ، وهي خروج الجسم من حيّز إلى حيّز ، وقوله : «موجودة» أي ثابتة في الخارج ومتحقّقة فيه ، وقوله : «أو لا موجودة» أي غير ثابتة فيه ، بل هي أمر اعتباريّ وهميّ.

وقوله : «يطلب بها وجود شيء لشيء» أي ثبوته ونسبته له ، وليس المراد به التّحقّق ، كما كان في الأوّل ، فالمراد بالوجود هنا الثّبوت الّذي هو النّسبة بخلافه في الأولى ، فإنّ المراد به

٤٠٢

فإنّ المطلوب وجود الدّوام للحركة (١) أو لا وجوده لها ، وقد اعتبر في هذه (٢) شيئان غير الوجود ، وفي الأولى (٣) شيء واحد ، فكانت مركّبة بالنّسبة إلى الأولى ، وهي بسيطة بالنّسبة إليها. [والباقية] من ألفاظ الاستفهام (٤) تشترك في أنّها [لطلب التّصوّر فقطّ] وتختلف من جهة أنّ المطلوب بكلّ منها تصوّر شيء آخر.

______________________________________________________

التّحقّق في الخارج ، سمّيت الأولى بسيطة لبساطة المسؤول عنه فيها ، والثّانية مركّبة لوجود ما اعتبر في الأولى فيها وزيادة.

والفرق بينهما :

إنّ المركّبة وإن شاركت البسيطة في أنّه يطلب بها وجود الشّيء كوجود الدّوام للحركة في المثال ، إلّا أنّها تخالفها من جهة أنّ البسيطة يطلب بها وجود نفس الموضوع والمركّبة يطلب بها وجود المحمول.

(١) أي ثبوته لها ، فعلم منه أنّ للوجود نوعين رابطيّ وغير رابطيّ ، بل مطلوب لنفسه ، والمراد منه في المركّبة هو الأوّل ، وفي البسيطة هو الثّاني.

(٢) أي المركّبة شيئان ، أي الموضوع والمحمول كالحركة والدّوام في المثال ، حيث استفهم بها عن الثّبوت الحاصل بين شيئين هما الموضوع والمحمول.

(٣) أي البسيطة شيء واحد هو الموضوع ، كالحركة وذلك لأنّها استفهم بها عن الثّبوت الحاصل بين الشّيء ووجوده ، وهما كالشّيء الواحد ، لأنّ الوجود عين الموجود ، فهذه قد استفهم بها عن ثبوت بسيط ، والثّانية عن ثبوت مركّب.

(٤) أي المذكورة سابقا ، أي غير هل والهمزة ، وذلك الغير الباقي تسعة وهي : ما ، ومن ، وكم ، وكيف ، ومتى ، وأين ، وأنّى ، وأيان ، ومهما ، فهذه الألفاظ اشتركت في أنّ جميعها لطلب التّصوّر ، واختلفت في المتصوّرات ، فالمتصوّر بمن غير المتصوّر بما ، وهكذا.

لا يقال : إنّ متى وأيّان بمعنى واحد ، لأنّ كلّ منهما لطلب تعيين الزّمان وتصوّره ، فقد اتّحدا في المتصوّر.

لأنّا نقول : إنّ أحدهما للزّمان المطلق ، والآخر للمستقبل كما يأتي ، وحينئذ فهما مختلفان فيه ، لأنّ متى للزّمان المطلق ، وأيّان للمستقبل ، فليسا متّحدين في المتصوّر.

٤٠٣

[قيل (١) فيطلب بما (٢) شرح الاسم كقولنا : ما العنقاء (٣)] طالبا أن يشرح هذا الاسم ، ويبيّن مفهومه ، فيجاب بإيراد لفظ أشهر (٤) [أو ماهيّة (٥) المسمّى] أي حقيقته (٦) الّتي هو (٧) بها هو [كقولنا : ما الحركة] أي ما حقيقة مسمّى هذا اللّفظ؟

______________________________________________________

(١) المقصود بذلك مجرّد النّسبة إلى القائل لا التّبرّي من هذا القيل ، فإنّه قول حقّ مقابله قول السّكّاكي ، وسيأتي أنّه سخيف.

(٢) أي الّتي من أدوات الاستفهام» شرح الاسم» أي كشف معناه ، وبيان مفهومه الإجماليّ الّذي وضع بإزائه لغة أو اصطلاحا ، كما إذا سمعت لفظا ولم تفهم معناه ، فتقول : ما هو طالبا أن يبيّن لك المخاطب مدلوله اللّغوي أو الاصطلاحيّ ، ثمّ المراد بالاسم ما يقابل المسمّى إذ شرح الاسم لا يختصّ بالاسم المقابل للفعل والحرف.

(٣) نسب إلى ربيع الأبرار أنّ العنقاء كانت طائرا فيها من كلّ شيء من الألوان ، وكانت في زمن أصحاب الرّسّ ، تأتي إلى أطفالهم وصغارهم فتخطفهم نحو الجبل فتأكلهم ، فشكوا ذلك إلى نبيّهم صالح ، فدعا الله عليها ، فأهلكها وقطع نسلها ، وقيل : إنّها طائر معروف الاسم مجهول الجسم.

(٤) أي مرادف له أشهر منه عند السّامع سواء كان من هذه اللّغة أم لا ، كقولنا في جواب ما العنقاء؟ طائر عظيم تخطف الصّبيان وهنا بحث تركناه تجنّبا عن التّطويل.

(٥) أي عطف على الاسم ، أي أو شرح ماهيّة المسمّي ، أي الماهيّة التّفصيليّة ، كقولنا في جواب ما الإنسان؟ حيوان ناطق ، وأراد المصنّف بالمسمّى المفهوم الإجماليّ وبماهيته أجزاء ذلك المفهوم الإجماليّ أعني الماهيّة التّفصيليّة الّتي عرفت بالوجود ، حتّى يكون الجواب المبيّن لها حقيقيّا ، فالإنسان مثلا مفهومه الإجماليّ الّذي هو مسمّاه نوع مخصوص من الحيوان ، وماهيّة ذلك المسمّى حيوان ناطق.

(٦) أي أشار بذلك التّفسير إلى أنّه ليس مراد المصنّف بالماهيّة ما يقع جوابا لما هو ، لأنّه شامل لما يكون شرحا للاسم من المفهومات المعدومة ، بل مراده الماهيّة الموجودة.

(٧) أي الحقيقة الّتي هو ، أي المسمّى بها ، أي بالحقيقة ، أي بسببها هو ، أي نفسه مثلا مفهوم الإنسان الإجماليّ ، وهو النّوع المخصوص من الحيوان صار بسبب ماهيّته وهي الحيوانيّة والنّاطقيّة إنسانا ، فالمسمّى ملاحظا إجمالا ، والحقيقة ملاحظة تفصيلا ، فاختلف

٤٠٤

فيجاب بإيراد ذاتيّاته (١) [وتقع هل البسيطة في التّرتيب بينهما] أي بين ما الّتي لشرح الاسم ، والّتي لطلب الماهيّة ، يعني أنّ مقتضى الترتيب الطّبيعي (٢) ، أن يطلب أوّلا شرح الاسم ، ثمّ وجود المفهوم في نفسه ، ثمّ ماهيته وحقيقته ، لأنّ من لا يعرف مفهوم اللّفظ استحال منه أن يطلب وجود ذلك المفهوم ، ومن لا يعرف أنّه موجود

______________________________________________________

السّبب والمسبّب باعتبار الإجمال والتّفصيل ، وبالجملة إنّ الحكماء اصطلحوا على إطلاق الحقيقة على الماهيّة المحرز وجودها في خارج الذّهن الأعمّ من خارج الأعيان ونفس الأمر ، ثمّ تفسير الماهيّة بالحقيقة إشارة إلى أنّ المراد بالماهيّة هي الحقيقة ، لا مطلق ما يقع في جواب ما هو.

(١) أي من الجنس والفصل ، كأن يقال في جواب ما الإنسان؟ حيوان ناطق ، بعد معرفة أنّ الإنسان شيء موجود في نفسه.

(٢) إنّ ما ذكره الشّارح لا يخلو عن قصور ، والتّقريب التّامّ أن يقال : يطلب بما أوّلا ما وضع له اللّفظ من المعنى إجمالا ، ثمّ يطلب شرح هذا المفهوم وتفصيله ، ثمّ يطلب بهل البسيطة وجوده في نفسه ، ثمّ يطلب بما الحقيقيّة حقيقته التّفصيليّة ، ثمّ يطلب بهل المركّبة أعراضه وطواريه ، فهل البسيطة تقع بين نوعين من (ما) الشّارحة والحقيقيّة ، وما الحقيقيّة بين نوعين من (هل) البسيطة والمركبّة.

فيقال أوّلا : ما العنقاء؟ فيجاب أنّها نوع من الطّير ، ثمّ يقال أيضا : ما العنقاء؟ أو ما هذا النّوع؟ فيجاب طائر تخطف الأطفال ، ثمّ يقال : هل العنقاء موجودة؟ فيجاب بأنّها موجودة أو غير موجودة ، ثمّ ما العنقاء؟ أي ما حقيقتها؟ فيجاب بإيراد ذاتيّاتها ، ثمّ يقال : هل هي دائمة؟

فيقال : غير دائمة ، والشّارح قد أسقط مرتبة واحدة ، أي السّؤال بما عن شرح المسمّى وتفصيله بعد العلم به إجمالا ، ويمكن أن يكون المراد به الأعمّ من بيان الموضوع له إجمالا ، وشرحه وتفصيله ، ثمّ إنّ الطّبيعيّ نسبة إلى الطّبع بمعنى العقل ، إذ هو المراعى للمناسبات والتّرتيب الطّبيعيّ هو أن يكون المتأخّر متوقّفا على المتقدّم من غير أن يكون المتقدّم علّة له ، كتقدّم المفرد على المركّب ، والواحد على الاثنين ، ووجه كون ما ذكرناه مقتضى التّرتيب الطّبيعي أنّ مقتضى الطّبع أي العقل المراعى للمناسبة أنّ الشّخص إذا سمع لفظا ولم يعرف مفهومه الّذي وضع له يطلب به مفهوما على وجه الإجمال ، ثمّ إذا وقف على مفهومه الإجماليّ يطلب

٤٠٥

استحال منه أن يطلب حقيقته وماهيّته (١) ، إذ لا حقيقة (٢) للمعدوم ولا ماهيّة له ، والفرق (٣) بين المفهوم من الاسم بالجملة وبين الماهيّة الّتي تفهم من الحدّ بالتّفصيل غير قليل ، فإنّ كلّ من خوطب باسم فهم فهما ما ، ووقف على الشّيء الّذي يدلّ عليه الاسم إذا كان عالما باللّغة ، وأمّا الحدّ فلا يقف عليه إلّا المرتاض بصناعة المنطق ، فالموجودات لها حقائق ومفهومات ، فلها حدود حقيقيّة واسميّة.

______________________________________________________

تفصيله وشرحه ، إذ ما لم يحرز أنّ له مفهوما يستحيل أن يسأل عن تفصيله لاحتمال أن يكون مهملا. ثمّ إذا وقف على تفصيله يطلب وجوده إذ لا يناسب السّؤال عن الوجود قبل معرفة المفهوم تفصيلا ، وأن لا يتوقّف عليه.

نعم ، يتوقّف على معرفته بوجه ما إذ ما لم يحرز أنّ له مفهوما يستحيل عليه أن يطلب وجوده إذ يحتمل أن يكون مهملا ، فلا مفهوم له فضلا عن كونه موجودا ، ثمّ إذا علم وجوده يطلب تفصيل ذلك المفهوم الموجود بالحدّ المتضمّن للجنس والفصل ، إذ ما لم يعرف وجوده يستحيل أن يسأل عن حدّه ، إذ قد عرفت أنّ الحدّ إنّما هو للماهيات الموجودة ، ثمّ إذا علم تفصيل ذلك المفهوم بالحدّ يسأل عن أحواله العارضة له ، كدوامه وحركته وسكونه إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، لأنّ العلم بدوام الشّيء يستدعي سبق العلم بحقيقته ، ثمّ قوله : «لأنّ من لا يعرف ...» علّة لكون مقتضى التّرتيب الطّبيعيّ ما ذكر.

(١) عطف على «حقيقته» عطف مرادف على مرادفه ، كالإنسان والبشر ، إذ ليس المراد بها مطلق ما يقع في جواب ما هو ، فإنّ المعدوم أيضا له مفهوم يقال في جواب ما الشّارحة.

(٢) إشارة إلى أنّ المراد بالماهيّة هي الماهيّة الموجودة في نفس الأمر لا مطلق الماهيّة.

(٣) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره أنّه لا وجه لجعل المصنّف (ما) على قسمين الشّارحيّة والحقيقيّة ، لأنّ ما الشّارحيّة بعينها هي الحقيقيّة ، حيث إنّ المطلوب بها هو المطلوب بها بعد العلم بوجوده ، وهذا القدر لا يكفي في جعلها قسما برأسها ، وإلّا لكانت الأقسام كثيرة بأن يكون ما يطلب به شرح اسم الجوهر قسما ، وما يطلب به شرح اسم العرض قسما ، وهكذا.

وحاصل الجواب : إنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّا ذكرنا أنّ المطلوب بما الشّارحة هو مجرّد بيان مفهوم اللّفظ الإجماليّ الّذي وضع له ، وبما الحقيقيّة بيان ماهيّة هذا المفهوم ، أي أجزاؤه من الجنس والفصل تفصيلا ، والأوّل أمر سهل معلوم لكلّ أحد عارف باللّغة بخلاف الثّاني ،

٤٠٦

وأمّا المعدومات فليس لها إلّا المفهومات ، فلا حدود لها إلّا بحسب الاسم (١) ، لأنّ (٢) الحدّ بحسب الذّاتّ (٣) لا يكون إلّا بعد أن يعرف أنّ الذّاتّ موجودة ،

______________________________________________________

فإنّه أمر لا يمكن أن يصل أحد مغزاه إلّا من هو مرتاض في المنطق ، ألا ترى أنّ المطلوب بما الشّارحيّة في قولنا : ما الإنسان؟ هو بيان المفهوم الإجماليّ ، فيكفي لنا أن نقول بشر ، والمطلوب بما الحقيقيّة في قولنا : ما هو الإنسان؟ هو ماهيّته التّفصيليّة من الجنس والفصل ، فلا يمكن لأحد أن يأتي بحقّ الجواب إلّا أن يكون من له كمال دراية بصناعة المنطق ، فيقول : حيوان ناطق.

لا يقال : سلّمنا أنّ الفرق بين ما هو المطلوب بما الشّارحة على نحو الإجمال ، وما هو المطلوب بما الحقيقيّة واضح ، ولكن لا فرق بين ما هو المطلوب بما الشّارحة تفصيلا ، وما هو المطلوب بما الحقيقيّة ، لأنّ كلّا من المطلوبين ملبّس بلباس التّفصيل.

لأنّا نقول : وإن كان الأمر كذلك ، أي كلّ منهما ملبّس بلباس التّفصيل ، إلّا أنّ مركز التّفصيل فيما هو المطلوب بما الحقيقيّة ذاتيّات الشّيء من الجنس والفصل بخلاف ما هو المطلوب بما الشّارحة ، فإنّ مركز التّفصيل فيه خواصّ الشّيء من الأعراض الخاصّة.

قوله : «بالجملة» متعلّق بالمفهوم والباء للملابسة ، أي المفهوم المتلبّس بالإجمال أو أنّه حال من المفهوم ، أي حال كونه إجمالا ، أي مجملا.

قوله : «غير قليل» أي ظاهر واضح.

(١) أي بحسب اللّفظ ، كما إذا قال من لم يعرف معنى الدّور : ما الدّور؟ فيقال في جوابه هو توقف شيء على نفسه ، أو يقال في جواب من لم يعرف معنى الضّدّين ، الضّدّان أمران وجوديّان بينهما غاية الخلاف ، كالسّواد والبياض.

(٢) علّة لمفهوم الحصر ، أي ليس لها حدود بحسب الحقيقة.

(٣) أي بحسب الحقيقة ، والأولى أن يقول : فلا تعريف لها إلّا بحسب الاسم ، لأنّ الحدّ ما كان بالذّاتيّات ، ولا ذاتيّات لها ، لأنّ الذّات عبارة عن الحقيقة ، وهي الماهيّة الموجودة.

٤٠٧

حتّى (١) أنّ ما يوضع في أوّل التّعاليم من حدود الأشياء الّتي يبرهن عليها في أثناء التّعاليم (٢) ، إنّما هي حدود اسميّة ، ثمّ إذا برهن عليها وأثبت وجودها. صارت تلك الحدود (٣) بعينها حدودا حقيقيّة ، وجميع ذلك مذكور في الشّفاء (٤)

______________________________________________________

(١) غاية لقوله :

«لأنّ الحدّ بحسب الذّاتّ لا يكون إلّا بعد ...» ، وحاصل كلامه أنّ الحدّ الاسميّ قد ينقلب حقيقيّا ، فإنّ الواضع إذا تعقّل نفس حقيقة شيء كحقيقة الإنسان مثلا ، أي الحيوان النّاطق ، ووضع اللّفظ بإزائها ، فقبل العلم بوجود تلك الحقيقة يكون تعريف الإنسان بالحيوان النّاطق تعريفا اسميّا ، فإذا قال أحد لا يعرف الإنسان ولا وجوده : ما الإنسان؟

فقيل في جوابه :

حيوان ناطق ، كان التّعريف اسميّا ، أمّا لو قال : ما الإنسان بعد ما عرف وجوده في الخارج طالبا بيان حقيقته التّفصيليّة ، كان الحدّ حقيقيّا ، فإذا يمكن أن يكون جواب واحد حدّا بحسب الحقيقة بالإضافة إلى شخص وحدّا اسميّا بالقياس إلى شخص آخر أو حدّا حقيقيّا واسميّا بالنّسبة إلى شخص واحد باعتبار الزّمانين.

(٢) قوله :

«التّعاليم» جمع التّعليم ، المراد به التّراجم كالفصول وأبواب الكتاب ، وقيل المراد بالتّعاليم الرّياضيات بأقسامها الأربعة ، أعني إلهيّات والهندسة والحساب والموسيقى سمّيت بالتّعاليم ، لأنّ الحكماء كانوا يعلّمونها صبيانهم أوّلا.

(٣) أي التّعاريف.

(٤) أي كتاب لابن سينا ، وعلم من كلامه : أنّ الجواب الواحد يجوز أن يكون حدّا بحسب الاسم ، وبحسب الذّاتّ بالقياس إلى شخصين أو بالقياس إلى شخص واحد في وقتين ، كما عرفت.

هذا تمام الكلام في الجزء الثّاني ، ويليه الجزء الثّالث ، إن شاء الله.

٤٠٨

الفهرست

لكون التّقديم أعون على المراد.................................................... ١١

قد يقدّم المسند إليه المسوّر بكلّ على المسند المقرون بحرف النّفي...................... ١٢

تقسيمات القضيّة.............................................................. ١٦

بيان الملازمة بين السّالبة الجزئيّة والموجبة المعدولة المهملة.............................. ١٧

السّالبة المهملة في قوّة السّالبة الكلّيّة.............................................. ١٩

حول دلالة لم يقم إنسان........................................................ ٢٥

قول عبد القاهر حول كلمة كلّ.................................................. ٢٧

حول دلالة لم آخذ كلّ الدّراهم.................................................. ٣٠

أمّا تأخيره فلاقتضاء المقام تقديم المسند............................................ ٣٥

وضع المضمر موضع المظهر...................................................... ٣٦

ليتمكّن ما يعقّبه في ذهن السّامع................................................. ٤٠

وضع المظهر موضع المضمر فإن كان المظهر اسم إشارة فلكمال العناية بتمييزه........... ٤١

أو التّهكّم بالسّامع............................................................. ٤٤

أو ادّعاء كمال ظهوره........................................................... ٤٥

أو غير اسم الإشارة فلزيادة التّمكّن............................................... ٤٧

أو إدخال الرّوع................................................................ ٤٨

أو تقوية داعي المأمور........................................................... ٤٩

أو الاستعطاف................................................................. ٥٠

قول السّكّاكي في نقل الكلام من الحكاية إلى الغيبة................................. ٥١

الالتفات...................................................................... ٥٤

الفرق بين تفسير الجمهور وتفسير السّكّاكي للالتفات............................... ٥٦

٤٠٩

الأمثلة على الالتفات........................................................... ٥٧

وجه الالتفات.................................................................. ٦١

الأسلوب الحكيم............................................................... ٦٤

من خلاف مقتضى الظّاهر تلقّي المخاطب بغير ما يترقّب............................ ٦٥

أو السّائل بغير ما يتطلّب........................................................ ٦٧

ومن خلاف مقتضى الظّاهر التّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي........................ ٧٠

ومن خلاف مقتضى الظّاهر القلب............................................... ٧١

الآراء في القلب................................................................ ٧٢

أحوال المسند.................................................................. ٧٤

أمّا تركه....................................................................... ٧٤

قرينة الحذف إمّا محقّقة.......................................................... ٨٤

أو مقدّرة...................................................................... ٨٦

وجه ترجيح المبنيّ للمفعول على المبنيّ للفاعل في قوله : «ليبك يزيد».................. ٨٧

وأمّا ذكره...................................................................... ٩٠

وأمّا إفراده..................................................................... ٩٢

وجه تعسّر ضبط المسند السّببيّ................................................... ٩٥

وأمّا كونه فعلا................................................................. ٩٨

وأمّا كونه اسما................................................................ ١٠٣

وأمّا تقييد الفعل بمفعول........................................................ ١٠٦

وأمّا ترك تقييد الفعل.......................................................... ١٠٩

وأمّا تقييد الفعل بالشّرط....................................................... ١١٠

التّنافي بين كلامي العلّامة والشّارح في الشّرط والجزاء............................... ١١٣

الفرق بين مذهبي أهل العربيّة وأهل الميزان في الشّرط............................... ١١٤

الفرق بين إن وإذا............................................................ ١١٥

استعمالات إن............................................................... ١٢٠

التّغليب..................................................................... ١٢٨

٤١٠

وجه استعمال جملتي إن وإذا فعليّة استقباليّة....................................... ١٣١

نكتة العدول عن استقباليّة جملتي إن وإذا إلى غيرها................................ ١٣٧

كلام السّكّاكي في إبراز غير الحاصل في معرض الحاصل............................ ١٤٣

إمّا للتّعريض................................................................. ١٤٣

وجه حسن التّعريض........................................................... ١٤٨

اعتراض ابن الحاجب على المشهور.............................................. ١٥١

ردّ الاعتراض................................................................. ١٥٤

رأي المنطقيّين في إن ولو....................................................... ١٥٩

الفرق بين مذهب المنطقيّين ومذهب أهل العربيّة.................................. ١٦٠

رأي المبرّد حول لو............................................................ ١٦٤

استعمالات لو............................................................... ١٦٥

وأمّا تنكير المسند............................................................. ١٨٢

وأمّا تخصيص المسند.......................................................... ١٨٤

وأمّا تعريف المسند............................................................ ١٨٧

وجه التّوفيق بين المتن والإيضاح في وضع تعريف الإضافة........................... ١٩١

الضّابط في تقديم المعرفتين...................................................... ١٩٣

تعريف الجنس................................................................ ١٩٧

قول الرّازي في : زيد المنطلق.................................................... ٢٠٣

وأمّا كون المسند جملة.......................................................... ٢٠٥

تعريف السّكّاكي للمسند السّببيّ............................................... ٢٠٦

الاعتراض على تعريف السّكّاكي............................................... ٢١٠

رأي الشّيخ عبد القاهر في المسند السّببي......................................... ٢١١

الإيراد على كلام المصنّف في الإتيان بالمسند جملة................................. ٢١٣

كون الجملة ظرفيّة............................................................ ٢١٥

وأمّا تأخير المسند وتقديمه...................................................... ٢١٨

التّحقيق حول (لا فيها غول)................................................ ٢٢٠

٤١١

التّحقيق حول (لا ريب فيها)................................................. ٢٢٤

تقديم المسند للتّنبيه على أنّه من أوّل الأمر خبر لا نعت............................ ٢٢٥

أو للتّفاؤل................................................................... ٢٢٧

أو للتّشويق إلى ذكر المسند إليه................................................. ٢٢٨

كثير ممّا ذكر في البابين غير مختصّ بهما.......................................... ٢٢٩

أحوال متعلّقات الفعل......................................................... ٢٣٣

الفعل مع المفعول كالفعل مع الفاعل............................................. ٢٣٤

الغرض من ذكر الفعل مجرّدا عن المفعول.......................................... ٢٣٧

تنزيل المتعدّي منزلة اللّازم ضربان................................................ ٢٤٠

قول السّكّاكي في إفادة اللّام الاستغراق......................................... ٢٤٢

جعل الفعل مطلقا............................................................. ٢٤٩

حذف المفعول................................................................ ٢٥٥

إمّا للبيان بعد الإبهام.......................................................... ٢٥٥

وإمّا لدفع توهّم إرادة غير المراد.................................................. ٢٦٧

وإمّا لأنّه أريد ذكر المفعول ثانيا................................................. ٢٧٠

وإمّا للتّعميم................................................................. ٢٧٣

وإمّا لمجرّد الاختصار........................................................... ٢٧٤

وإمّا لاستهجان ذكره.......................................................... ٢٧٨

تقديم المفعول ونحوه............................................................ ٢٧٩

لردّ الخطأ في التّعيين........................................................... ٢٧٩

الكلام في نحو : زيد عرفته..................................................... ٢٨٣

الكلام في قوله تعالى : (وأما ثمود فهديناهم).................................. ٢٨٤

التّخصيص لازم للتّقديم غالبا................................................... ٢٨٦

الكلام في قوله تعالى : (اقرأ باسم ربك)....................................... ٢٩١

تقديم بعض المعمولات على بعض............................................... ٢٩٣

لأنّ ذكره أهمّ................................................................ ٢٩٣

٤١٢

أو لأنّ في التّأخير إخلالا ببيان المعنى............................................ ٢٩٥

أو لأنّ في التّأخير إخلالا بالتّناسب............................................. ٢٩٧

باب القصر.................................................................. ٢٩٨

أقسام القصر................................................................. ٢٩٨

أنواع القصر مطلقا............................................................ ٣٠٠

المراد بالصّفة................................................................. ٣٠١

قصر الموصوف على الصّفة من الحقيقيّ.......................................... ٣٠٣

قصر الصّفة على الموصوف من الحقيقيّ.......................................... ٣٠٤

الفرق بين القصر الحقيقيّ والإضافي والقصر الادّعائي.............................. ٣٠٦

قصر الموصوف على الصّفة من غير الحقيقيّ...................................... ٣٠٧

قصر الصّفة على الموصوف من غير الحقيقيّ...................................... ٣٠٧

أقسام القصرين معا........................................................... ٣١٠

قصر الإفراد.................................................................. ٣١١

قصر القلب.................................................................. ٣١٢

قصر التّعيين................................................................. ٣١٣

شرط قصر الإفراد............................................................ ٣١٤

شرط قصر القلب............................................................ ٣١٥

الاعتراض على هذا الشّرط..................................................... ٣١٥

شرط قصر التّعيين............................................................ ٣١٨

طرق القصر.................................................................. ٣١٩

منها العطف................................................................. ٣١٩

ومنها النّفي والاستثناء......................................................... ٣٢٣

ومنها إنّما.................................................................... ٣٢٤

سبب إفادة إنّما القصر........................................................ ٣٢٦

القراءات المختلفة في قوله تعالى : (إنما حرم عليكم الميتة)....................... ٣٢٦

قول النّحاة في إنّما............................................................. ٣٣٠

٤١٣

ومنها التّقديم................................................................. ٣٣٤

الاختلاف بين وجوه القصر.................................................... ٣٣٥

عند اجتماع طرفين أو أكثر إلى أيّهما ينسب إفادة القصر......................... ٣٤٣

شرط اجتماع النّفي بلا العاطفة مع إنّما عند السّكّاكي............................. ٣٤٤

رأي الشّيخ عبد القاهر في اجتماع النّفي بلا العاطفة مع إنّما........................ ٣٤٦

قد ينزّل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب...................................... ٣٤٨

قد ينزّل المجهول منزلة المعلوم لادّعاء ظهوره........................................ ٣٥٤

مزيّة إنّما على العطف.......................................................... ٣٥٦

أحسن مواقع إنّما التّعريض...................................................... ٣٥٧

وقوع القصر بين الفعل والفاعل وغيرهما.......................................... ٣٥٨

موقع المقصور عليه إذا كان القصر بطريق إلّا..................................... ٣٥٩

تقديم المقصور عليه وأداة الاستثناء على المقصور................................... ٣٦٠

وجه الحصر في جميع صور الحصر................................................ ٣٦٣

لا يجوز تقديم المقصور عليه بإنّما على غيره........................................ ٣٦٥

الباب السّادس الإنشاء........................................................ ٣٦٧

الإنشاء إن كان طلبا استدعى مطلوبا غير حاصل وقت الطّلب..................... ٣٧٠

أنواع الإنشاء................................................................. ٣٧١

منها التّمنّي................................................................... ٣٧١

قد يتمنّى بلو................................................................. ٣٧٤

قول السّكّاكي في حروف التّنديم والتّحضيض.................................... ٣٧٥

قد يتمنّى بلعلّ................................................................ ٣٨٠

منها الاستفهام............................................................... ٣٨١

استعمالات الهمزة............................................................. ٣٨٢

استعمالات هل.............................................................. ٣٨٦

وجه جعل السّكّاكي قبح هل رجل عرف........................................ ٣٨٩

تعليل الآخرين قبح هل رجل عرف.............................................. ٣٩٠

٤١٤

الكلام حول قوله تعالى : (فهل أنتم شاكرون).................................. ٣٩٩

أقسام هل................................................................... ٤٠٢

استعمالات ما................................................................ ٤٠٤

الفهرس...................................................................... ٤٠٩

٤١٥