دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

قال : بحالهما احترازا عن تقديمهما مع إزالتهما (١) عن حالهما. بأن (٢) تؤخّر الأداة عن المقصور عليه ، كقولك في ما ضرب زيد إلّا عمرا «ما ضرب عمرا إلّا زيد» فإنّه يجوز ذلك (٣) لما فيه (٤) من اختلال المعنى وانعكاس المقصود ، وإنّما قلّ تقديمهما بحالهما [لاستلزامه (٥) قصر الصّفة قبل تمامها] لأنّ الصّفة المقصورة على الفاعل مثلا هي الفعل الواقع على المفعول لا مطلق الفعل ، فلا يتمّ المقصور (٦) قبل ذكر المفعول ،

______________________________________________________

(١) أي إزالة المقصور عليه وأداة الاستثناء عن حالهما.

(٢) بيان لإزالتهما عن حالهما.

(٣) أي لا يجوز تأخير الأداة عن المقصور عليه.

(٤) أي لما في التّأخير من اختلال المعنى وانعكاس المقصود ، فيكون قوله : «انعكاس المقصود» عطفا تفسيريّا على اختلال المعنى.

توضيح ذلك : أنّه يلزم من تأخير الأداة عن المقصور عليه انقلاب قصر الفاعل على المفعول إلى قصر المفعول على الفاعل وبالعكس ، وهذا معنى الاختلال والانعكاس ، لأنّ المقصور عليه لا يعلم عند التّقديم من المقصور ، فيظنّ أنّ المقصور عليه هو المقصور ، والمقصور هو المقصور عليه ، وذلك لأنّ معنى قولنا : ما ضرب زيد إلّا عمرا ، ما مضروب زيد إلّا عمرو ، ومعنى قولنا : ما ضرب عمرا إلّا زيد ، ما ضارب عمرو إلّا زيد ، فالمقصود في الأوّل حصر مضروبيّة زيد في عمرو ، والمقصود في الثّاني حصر ضاربيّة عمرو في زيد ، فيلزم الاختلال والانقلاب جدّا ، فلا يجوز.

(٥) أي لاستلزام تقديمهما بحالهما «قصر الصّفة قبل تمامها» وهو غير جائز ، بل ممتنع ، وظاهر هذا الكلام سخيف جدّا ، لأنّ تقديمهما بحالهما لو كان مستلزما لقصر الصّفة قبل تمامها ، لكان ممتنعا لا قليلا ، فلابدّ من الالتزام بأنّه بتقدير مضاف ، أي لإيهام استلزامه قصر الصّفة قبل تمامها ، وإلّا فلا استلزام في نفس الأمر ، لأنّ الكلام يتمّ بآخره ، قوله : «لأنّ الصّفة المقصورة على الفاعل ...» علّة للاستلزام المذكور.

(٦) أي وهو الفعل الواقع على المفعول لا يتمّ قبل المفعول ، فلو قدّم المقصور عليه وهو الفاعل على المفعول لزم قصر الصّفة قبل تمامها.

توضيح ذلك فنقول : إنّ لزوم قصر الصّفة قبل تمامها ظاهر ، إمّا في قصر الصّفة على

٣٦١

فلا يحسن قصره ، وعلى هذا (١) فقس (٢) ، وإنّما جاز (٣) على قلّة نظرا إلى أنّها (٤) في حكم التّامّ باعتبار ذكر المتعلّق في الآخر ،

______________________________________________________

الموصوف في فرض قصر الفاعل على المفعول ، فلأنّ الفعل المتعلّق بالفاعل في قصره على المفعول هو المقصور ، والمفعول هو المقصور عليه ، فحينئذ لو ذكر المفعول قبل الفاعل لزم ما ذكر من قصر الّصفة قبل تمامها ، فإذا ما ضرب زيد إلّا عمرا ، وتؤوّل على أنّ المعنى ما مضروب زيد إلّا عمرو ، لزم ـ لو قدّم المقصور عليه ، وقيل : ما ضرب إلّا عمرا زيد ـ قصر الصّفة قبل تمامها ، لأنّا قدّمنا عمرا وهو المقصور عليه قبل تمام الصّفة المتضمّنة للفعل ، إذ تمامها بذكر الفاعل ، وكذا الفعل المتعلّق بالمفعول في قصره على الفاعل هو المقصور ، فإذا ما ضرب عمرا إلّا زيد ، وقدّر أنّ المعنى ما ضارب عمرو إلّا زيد ، فلو قدّم وقيل : ما ضرب إلّا زيد عمرا لزم قصر الضّرب قبل ذكر متعلّقه على الفاعل ، وهو قصر الصّفة قبل تمامها ، لأنّها تتمّ بعد ذكر المفعول ، وأمّا في قصر الموصوف كما قدّر في المثال ما زيد إلّا ضارب عمرو ، فلا يتّضح فيه قصر الصّفة قبل تمامها ، وإنّما فيه في التّأخير تقديم المقصور على بعض الصّفة المنزّل منزلة التّقديم على الكلّ وفي التّقديم تأخيره عن جميعها.

(١) أي على البيان المذكور للصّفة المقصورة على الفاعل.

(٢) أي فتقول في قصر الفاعل على المفعول : إنّ الصّفة المقصورة على المفعول هي الفعل المتعلّق بالفاعل ، فلا يتمّ المقصور قبل ذكر الفاعل ، فلا يحسن قصره ، كما عرفت ، والفاء في قوله : «فقس» زائدة ، لتحسين اللّفظ.

(٣) جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أن يقال : إذا لم يتمّ المقصور قبل ذكر المفعول في قصر الفاعل على المفعول ، فكيف صاغ جوازه.

وحاصل الجواب :

إنّما جاز على قلّة ، وإن كان مقتضى القياس أن لا يجوز أصلا نظرا إلى أنّ الصّفة تصبح تامّة بذكر المتعلّق في الآخر ، أي في آخر الكلام ، وإنّما يعتبر القصر بعد تمام الكلام لا قبله ، فلا يلزم في الحقيقة حصر الصّفة قبل تمامها.

(٤) أي الصّفة «باعتبار ذكر المتعلّق» أعني المفعول «في الآخر» يعني في آخر الكلام.

٣٦٢

[ووجه الجميع (١)] أي السّبب في إفادة النّفي والاستثناء القصر فيما بين المبتدأ (٢) ، والخبر والفاعل والمفعول (٣) وغير ذلك (٤) [إنّ النّفي في الاستثناء المفرّغ (٥)] الّذي حذف منه المستثنى منه ، وأعرب ما بعد إلّا بحسب العوامل [يتوجّه إلى مقدّر (٦) وهو مستثنى منه] لأنّ (٧) إلّا للإخراج ،

______________________________________________________

(١) أي وجه الحصر في جميع صور الحصر بما وإلّا سواء كان بين الفعل والفاعل أو المبتدأ والخبر أو غيرهما.

(٢) أي نحو : ما زيد إلّا قائم.

(٣) أي نحو : ما ضرب زيد إلّا عمرا.

(٤) أي كالحال وصاحبها ، والمفعول الأوّل والثّاني إلى غير ذلك ممّا تقدّم تفصيله. فالمراد بالوجه سبب إفادة النّفي والاستثناء القصر ، وبالجميع الموارد الّتي يقع فيها القصر بإلّا.

(٥) إنّما تعرّض لبيان وجه إفادة الاستثناء المفرّغ القصر دون غيره من الاستثناء الّذي لا يكون مفرّغا ، ودون الطّرق الثّلاثة الباقية ، لأنّ إفادة التّقديم القصر ليس إلّا بالذّوق السّليم ، فمن له الذّوق يدركه ، إذا راجع وجدانه ، فلا حاجة إلى البيان بالنّسبة إليه ، ومن لم يدركه لعدم هذا الذّوق له لا يفيده البيان ثمّ إفادة طريق العطف للقصر ، وكذا النّفي والاستثناء إذا كان المستثنى منه مذكورا واضحة لا تحتاج إلى البيان ، وإفادة إنّما للقصر لكونه بمعنى ما وإلّا لا تحتاج إلى البيان ، لأنّ البيان في ما وإلّا يغني عن البيان ، أي القصر بإنّما ، فما بقى الخفاء إلّا في الاستثناء المفرّغ ، فلهذا اقتصر المصنّف على بيانه فقطّ.

(٦) أي إلى شيء يمكن أن يقدّر لانسباق الذّهن إليه ، ورجوع تفصيل المعنى إليه ، لأنّه يتوقّف إفادة التّركيب للمعنى على تقديره في نظم الكلام تقديرا يكون كالمذكور بحيث يكون إسقاطه إيجازا.

(٧) علّة لقوله : «يتوجّه إلى مقدّر» فالقرينة على المقدّر هي كلمة إلّا ، وكذلك على عمومه ، ثمّ إنّ هذا التّوجيه إنّما هو ناظر إلى ما إذا كان المستثنى متّصلا بقرينته أن محلّ الكلام هو الاستثناء المفرّغ الّذي لا يقدّر فيه المستثنى منه إلّا متناولا للمستثنى فيكون متّصلا دائما ، ويكون إلّا فيه للإخراج ، فلا يرد عليه ما يقال : إنّ قوله : «لأنّ إلّا للإخراج» ينتقض بما إذا كان المستثنى منقطعا ، وجه عدم الورود أنّ المستثنى المنقطع ليس محلّ الكلام ، فهو خارج تخصّصا ، فلا مجال للنّقض.

٣٦٣

والإخراج يقتضي مخرجا (١) منه [عامّ] ليتناول المستثنى وغيره ، فيتحقّق (٢) الإخراج [مناسب (٣) للمستثنى في جنسه] بأن يقدّر في نحو : ما ضرب إلّا زيد ما ضرب أحد (٤) ، وفي نحو : ما كسوته إلّا جبّة «ما كسوته لباسا (٥)» ، وفي نحو : ما جاءني إلّا راكبا» ما جاءني كائنا (٦) على حال من الأحوال» وفي نحو : ما سرت إلّا يوم الجمعة ، «ما سرت وقتا من الأوقات (٧)» وعلى هذا القياس (٨)

______________________________________________________

(١) أي ليس المخرج منه هنا إلّا المقدّر.

(٢) أي لو لم يكن عامّا لا يتحقّق الإخراج ، إذ البعض إمّا نفس المستثنى ، وإمّا غيره ، فعلى الأوّل يلزم استثناء الشّيء عن نفسه ، ويصبح الكلام متناقضا ، وعلى الثّاني لا يتحقّق دخول المستثنى في المستثنى منه ، فلا يتحقّق الإخراج.

(٣) أي في كونه جنسه ، لأنّ المستثنى من أفراد المستثنى منه لا أنّه أمر مشارك له في الجنس كما هو ظاهر المتن ، ففيه مسامحة.

والحاصل :

إنّ ظاهر قوله مناسب للمستثنى في جنسه يقتضي أنّ الجنس غير المقدّر مع أنّه نفس المقدّر.

وحاصل الجواب :

إنّ في الكلام حذفا أي في كونه جنسه.

(٤) أي فأحد عام شامل لزيد وغيره ، ومناسب له من حيث إنّه جنس له ، أي صالح لأن يحمل عليه.

(٥) أي فلباسا عام شامل للجبّة وغيرها وهو من جنسها.

(٦) أي ما يكون على حال من الأحوال يشمل حال الرّكوب.

(٧) أي فالوقت شامل ليوم الجمعة ، وغيره وهو من جنسه.

(٨) أي فيقدّر في ما صلّيت إلّا في المسجد ، ما صلّيت في مكان إلّا في المسجد ، وفي ما طاب زيد إلّا نفسا ، ما طاب زيد شيئا إلّا نفسا ، وفي ما أعطي إلّا درهما ، ما أعطي شيئا إلّا درهما ، وفي ما مررت إلّا بزيد ، ما مررت بأحد إلّا بزيد.

٣٦٤

[و] في [صفته (١)] يعني الفاعليّة والمفعوليّة والحاليّة ، ونحو ذلك (٢) ، وإذا كان النّفي متوجّها إلى هذا المقدّر العام المناسب للمستثنى في جنسه وصفته [فإذا أوجب (٣) منه] أي من ذلك المقدّر. [شيء بإلّا (٤) جاء القصر] ضرورة بقاء ما عداه على صفة الانتفاء ، [وفي إنّما يؤخّر (٥) المقصور عليه ، تقول : إنّما ضرب زيد عمرا (٦)] فيكون القيد الأخير بمنزلة الواقع بعد إلّا ، فيكون هو المقصور عليه [ولا يجوز تقديمه] أي تقديم المقصور عليه بإنّما [على غيره (٧) للإلباس (٨)] كما إذا قلنا في إنّما ضرب زيد

______________________________________________________

(١) أي بأن يكون المقدّر مناسبا للمستثنى في صفته أيضا ، يعني في كونه فاعلا أو مفعولا أو ظرفا أو حالا أو غير ذلك.

(٢) أي كالظّرفيّة والابتدائيّة والخبريّة.

(٣) أي أثبت من ذلك المنفيّ المقدّر شيء من مصاديقه الّتي في ضمن المنفي بإلّا جاء القصر.

(٤) متعلّق بقوله : «أوجب» أي أثبت بإلّا شيء «جاء القصر» لأنّ ذلك نفي الحكم عن غير الموجب وإثباته لذلك الموجب.

(٥) بيان لموقع المقصور عليه إذا كان القصر بإنّما.

(٦) أي بتأخير عمرو الّذي هو المفعول ، هذا مثال لقصر الفاعل على المفعول ، وتقول في قصر المفعول على الفاعل إنّما ضرب عمرا زيد ، بتأخير زيد الّذي هو الفاعل.

(٧) أي غير المقصور عليه ، أي لا يجوز تقديم المقصور عليه على المقصور حيث كان الطّريق إنّما.

(٨) وفي بعض النّسخ «للالتباس» والمعنى واحد ، أي لا يجوز التّقديم لأجل وجود الالتباس في التّقديم ، وهو انفهام خلاف المراد ، وذلك لأنّ كلّا من الفاعل والمفعول الواقعين بعد الفعل ، وإنّما يجوز أن يكون هو المقصور عليه دون الآخر هذا ، مع أنّه لم يقترن أحدهما بقرينة تدلّ على كونه هو المقصور عليه ، فمن هاتين النّاحيتين قصدوا أن يجعلوا التّأخير علامة القصر على ذلك المؤخّر ، فلو إنّما ضرب زيد عمرا ، كان عمرا هو المحصور فيه ، ولو قدّمت عمرا كان زيد هو المحصور فيه ، وانعكس المعنى المراد ولم يجعلوا تقديم أحدهما على إنّما علامة على أنّ ما بعدها هو المقصور عليه كما في النّفي والاستثناء ، لكون إنّ إنّما

٣٦٥

عمرا ، إنّما ضرب عمرا زيد بخلاف النّفي والاستثناء ، فإنّه لا إلباس فيه ، إذ المقصور عليه هو المذكور بعد إلّا سواء قدّم (١) أو أخّر ، وههنا (٢) ليس إلّا مذكورا في اللّفظ بل متضمّنا (٣) [وغير (٤) كإلّا في إفادة القصرين] أي قصر الموصوف على الصّفة (٥) وقصر الصّفة على الموصوف (٦) إفرادا وقلبا وتعيينا (٧) [و] في [امتناع مجامعة لا] العاطفة لما سبق (٨) ، فلا يصحّ ما زيد غير شاعر لا كاتب ، ولا ما شاعر غير زيد لا عمرو.

______________________________________________________

لا تقع إلّا في صدر الكلام.

(١) أي قدّم على المقصور ، نحو : ما ضرب إلّا زيد عمرا ، أو أخّر نحو : ما ضرب عمرا إلّا زيد.

(٢) أي في إنّما ليس كلمة إلّا مذكورة في اللّفظ.

(٣) أي بل إنّما متضمّنة لما وإلّا.

(٤) أي لفظ غير كلفظ إلّا الاستثنائيّة في إفادة القصرين.

(٥) أي نحو : ما زيد غير عالم.

(٦) أي نحو : لا شاعر غير زيد.

(٧) إفرادا نحو :

ما زيد غير شاعر لمن اعتقد أنّه شاعر وكاتب ، وقلبا نحو : ما زيد غير قائم لمن اعتقد أنّه قاعد ، وتعيينا نحو : ما شاعر غير زيد لمن تردّد في أنّه زيد أو عمرو ، وظاهرهم أنّ لفظ غير لا يستعمل في القصر الحقيقيّ ، لأنّ الإفراد والقلب والتّعيين من أقسام القصر الإضافيّ ، وليس الأمر كذلك ، بل يستعمل في القصر الحقيقيّ ، نحو : لا إله غير الله ، وما خاتم الأنبياء غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٨) أي في بحث التّقديم من أنّ شرط المنفيّ بلا العاطفة أن لا يكون ذلك المنفيّ منفيّا قبلها بغيرها.

هذا تمام الكلام في بحث القصر ثمّ يقع الكلام في الإنشاء.

٣٦٦

الباب السّادس الإنشاء

[الإنشاء (١)] اعلم أنّ الإنشاء (٢) قد يطلق (٣) على نفس الكلام الّذي ليس لنسبته خارج تطابقه (٤) أو لا تطابقه ، وقد يقال على ما هو فعل المتكلّم أعني إلقاء مثل هذا الكلام ، كما أنّ الإخبار كذلك

______________________________________________________

(١) الإنشاء في اللّغة يطلق على الإبداع والاختراع والإحداث والتّربية ، قال في أقرب الموارد : أنشأه إنشاء ، أي ربّاه تربية.

(٢) أي أعاد المظهر ، حيث قال : اعلم أنّ الإنشاء ، ولم يقل هو ، كي يكون إشارة إلى أنّ المراد بالإنشاء هو لفظ الإنشاء ، فمعنى العبارة : اعلم أنّ لفظ الإنشاء.

(٣) بيان لمعنى الإنشاء اصطلاحا ، فالإنشاء اصطلاحا يطلق على شيئين :

الأوّل : إنّه يقال على الكلام الّذي «لنسبته خارج» أي ليس للنّسبة المفهومة منه ، وهي النّسبة الكلاميّة نسبة خارجيّة.

(٤) أي تقصد مطابقة النّسبة الكلاميّة لهذا الخارج ، أو تقصد عدم مطابقتها له بالإرادة الجدّيّة ، هذا هو المراد من قوله : «تطابقه أو لا تطابقه» وليس المراد نفي وجود النّسبة الخارجيّة عن الكلام الإنشائيّ ، لأنّ الإنشاء لا بدّ له من نسبة خارجيّة تارة لا تكون مطابقة لنسبته الكلاميّة ، وأخرى تكون مطابقة لها ، فإنّ قولك : اضرب مثلا له نسبة كلاميّة ، وهي طلب الضّرب أعني مفهوم إثبات الضّرب على ذمّة المخاطب ، ونسبة خارجيّة ، وهي إمّا اعتبار هذا الثّبوت في نفسه أو عدم اعتباره فيه ، كما إذا قال : اضرب هذلا ، فعلى الأوّل تكون النّسبة الكلاميّة مطابقة للنّسبة الخارجيّة ، وعلى الثّاني غير مطابقة لها.

نعم ، على الأوّل لم تقصد المطابقة لعدم كونه مسوقا لقصد الحكاية عن الخارج ، بل إنّما مسوق لداعي البعث ، فالفرق بين الخبر والإنشاء إنّما هو من جهة وجود قصد الحكاية ، وعدم قصدها ، فالنّفي في قوله : «ليس لنسبته خارج» منصبّ على تطابقه ولا تطابقه ، وهما بمعنى قصد المطابقة ، وقصد عدمها ، هذا تمام في الأوّل.

والثّاني وهو ما أشار إليه بقوله : «وقد يقال على ما هو فعل المتكلّم ، أعني إلقاء مثل هذا الكلام» أتى بالعناية ، وقال : أعني إلقاء مثل هذا الكلام للإشارة إلى أنّ المراد من فعل المتكلّم ليس مطلق فعله ، بل خصوص إلقاء الكلام الإنشائي «كما أنّ الأخبار كذلك» أي يطلق على

٣٦٧

والأظهر أنّ المراد (١) ههنا هو الثّاني بقرينة تقسيمه إلى الطّلب وغير الطّلب (٢) ، وتقسيم الطّلب إلى التّمنّي والاستفهام وغيرهما ، والمراد بها (٣) معانيها المصدريّة لا الكلام المشتمل عليها (٤) بقرينة قوله : واللّفظ الموضوع له كذا وكذا ، لظهور أنّ لفظ

______________________________________________________

الكلام الخبريّ الّذي لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، وقد يطلق على إلقاء المتكلّم له.

(١) أي مراد المصنّف من الإنشاء الاصطلاحيّ هو المعنى الثّاني ، أي فعل المتكلّم لا الأوّل ، أي الكلام الّذي ليس لنسبته خارج ، فمحصّله أنّ في كلام المصنّف استخداما حيث ذكر الإنشاء أوّلا بمعنى الألفاظ المخصوصة الدّالّة على المعاني المخصوصة ، ثمّ أعاد عليه الضّمير بمعنى آخر ، وهو فعل المتكلّم أعني إلقاء الكلام الإنشائيّ والتلفّظ به ، ثمّ الدّليل على ذلك هو التّقسيم ، وحاصله إنّ المصنّف قسّم الإنشاء إلى الطّلبي وغيره ، وقسّم الطّلبي إلى الأمر والنّهي والدّعاء والتّمنّي والاستفهام والمراد بها المعاني المصدريّة بقرينة أنّه بيّن بعد ذلك اللّفظ الموضوع له ليت ، وهمزة وهل وغيرها ، ومعلوم أنّ تلك الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني المصدريّة لا الكلام المخصوص ، فمن هنا نستكشف أنّ المراد بالمقسم هو المعنى المصدريّ ، أي الإلقاء المذكور لئلّا يلزم تقسيم الشّيء إلى غير أقسامه ، وذلك لاعتبار المقسم في جميع الأقسام.

(٢) والفرق بين الطّلب وغيره هو الإنشاء الطّلبي ما يستدعي مطلوبا ، وغير الطّلبي كالمدح والذّمّ لا يستدعي مطلوبا.

(٣) أي بالتّمنّي والاستفهام وغيرهما كالأمر والنّهي معانيها المصدريّة أعني الإلقاءات التمنّي بالمعنى المصدري. إلقاء عبارة التّمنّي والاستفهام كذلك هو إلقاء عبارة الاستفهام ، وهكذا.

(٤) أي على أدواتها ، والحاصل إنّ التّمنّي والاستفهام وغيرهما تطلق على إلقاءات التّراكيب المخصوصة ، كما تطلق على الأحوال القلبيّة كطلب الأمر المحبوب في التّمنّي وطلب الفهم في الاستفهام ، وهكذا.

٣٦٨

ليت مثلا يستعمل لمعنى (١) التمّنّي لا لقولنا : ليت زيدا قائم ، فافهم (٢) ، فالإنشاء إن لم يكن طلبا كالأفعال المقاربة (٣) وأفعال المدح والذّمّ وصيغ العقود (٤) والقسم وربّ ، ونحو ذلك (٥) ، فلا يبحث عنها (٦) هنا لقلّة (٧) المباحث المناسبة المتعلّقة بها ولأنّ أكثرها (٨) في الأصل إخبار نقلت (٩) إلى معنى الإنشاء (١٠) [إن كان طلبا استدعى مطلوبا

______________________________________________________

(١) أي لأجل إفادة التّمنّي أو اللّام بمعنى في ، أي يستعمل في معنى التّمنّي الّذي هو بالمعنى المصدريّ ، أعني إلقاء نحو : ليت زيدا قائم ، أو يستعمل في نفس التّمنّي الّذي هو الحالة القلبيّة ، ولذلك يقال : إنّ ليت تتضمّن معنى أتمنّى.

(٢) لعلّة إشارة إلى الإشكال وهو أن يقال : إنّ إلقاء الكلام الإنشائيّ ليس من أحوال اللّفظ لأنّه فعل المتكلّم ، مع أنّ البحث يجب أن يكون من أحوال اللّفظ فيقال في الجواب : إنّ البحث عن أحوال الكلام الإنشائيّ يرجع إلى البحث عن أحوال اللّفظ العربيّ.

وكيف كان فالتّمنّي بمعنى إلقاء الكلام على أداة لا يكون مرادا ، لأنّ المراد من الطّلب في الإنشاء الطّلبيّ هو كيفيّة نفسانيّة.

(٣) أي التّكلّم بها.

(٤) كبعت لإنشاء البيع.

(٥) مثل كم الخبريّة ولعلّ وفعل التّعجّب.

(٦) أي عن هذه الأشياء الإنشائيّة الغير الطّلبيّة.

(٧) وذلك لقلّة ورودها على الألسنة.

(٨) أي أكثر هذه الأشياء الإنشائيّة الغير الطّلبيّة ، والمراد بذلك الأكثر ما عدا أفعال التّرجّي والقسم.

(٩) أي نقلت عن الخبريّة إلى الإنشائيّة وحينئذ فيستغنى بأبحاثها الخبريّة عن الإنشائيّة ، لا تنقل مستصحبة لما يرتكب فيها في الخبريّة.

(١٠) أي لفظها إخبار ، ومعناها إنشاء ، فلا يبحث عنها هنا ، بل إنّما يبحث ههنا عن الإنشاء لفظا ومعنى لا عن الإنشاء معنى فقطّ.

٣٦٩

غير حاصل (١) وقت الطّلب] لامتناع (٢) طلب الحاصل. فلو استعمل صيغ الطّلب لمطلوب (٣) حاصل امتنع إجراؤها (٤) على معانيها الحقيقيّة ، ويتولّد منها (٥) بحسب القرائن ما يناسب المقام (٦).

______________________________________________________

(١) أي في اعتقاد المتكلّم فيدخل فيه ما إذا طلب شيئا حاصلا وقت الطّلب لعدم اعتقاد المتكلّم بحصوله ، ثمّ قوله : «غير حاصل» صفة لقوله : «مطلوبا» أي اقتضى مطلوبا من وصفه أنّه غير حاصل وقت الطّلب.

(٢) وفيه أنّ الممنوع تحصيل الحاصل لا طلب ذلك ، إلّا أن يقال المراد بالامتناع عدم اللّياقة لا الامتناع العقليّ ، ويمكن أن يكون المراد الامتناع العقليّ بحمل الطّلب على خلاف ظاهره ، فإنّ الظّاهر إنّ المراد به الطّلب اللّفظي ، أي الكلام الإنشائيّ الطّلبيّ ، والمراد به هو الطّلب القلبيّ ، وهو خلاف الظّاهر ، فحينئذ يصحّ أن يقال : إنّ طلب تحصيل الحاصل بالطّلب القلبيّ محال ، لأنّه عبارة عندهم عن الشّوق المؤكّد المسمّى بالإرادة أو المحبّة والشّهوة ، ثمّ الشّوق المؤكّد أي الإرادة لا تتعلّق بما هو واقع كما هو الظّاهر وجدانا ، وكذلك الشّهوة ، لأنّها لا تبقى بعد حصول المشتهى.

(٣) أي لطلب مطلوب حاصل.

(٤) أي إجراء تلك الصّيغ.

(٥) أي من تلك الصّيغ ما يناسب المقام كطلب دوام الإيمان والتّقوى في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)(١) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ)(٢) ، وهذا الكلام من الشّارح إشارة إلى بيان المعاني المتولّدة من صيغ الطّلب المستعملة في مطلوب حاصل وقت الطّلب ، فالمراد من طلب الإيمان والتّقوى دوامهما لا حصولهما ، لأنّهما حاصلان له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل هذا الطّلب.

(٦) أي كالتّهديد والتّعجيز والاستبطاء.

__________________

(١) سورة النّساء : ١٣٦.

(٢) سورة الأحزاب : ١.

٣٧٠

التّمنّي

[وأنواعه] أي الطّلب [كثيرة منها (١) التّمنّي] وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبّة (٢)

______________________________________________________

(١) أي من أنواع الطّلب ، وأنواع الطّلب هي على ما ذكره المصنّف خمسة : التّمنّي ، والاستفهام ، والأمر ، والنّهي ، والنّداء ، ومنهم من يجعل التّرجّي قسما سادسا ، وبعضهم أخرج التّمنّي والنّداء من أقسام الطّلب بناء على أنّ العاقل لا يطلب ما يعلم استحالته ، فالتّمنّي ليس طلبا ، ولا يستلزمه ، وأنّ طلب الإقبال خارج عن مفهوم النّداء الّذي هو صوت يهتف به الرّجل وإن كان يلزمه.

(٢) أي على طريق يفهم منه المحبّة ، فتخرج البواقي ، فيكون قوله : «على سبيل المحبّة» احترازا عن الأمر والنّهي والنّداء الخاليّة عن المحبّة ، وقدّم المصنّف التّمنّي لعمومه ، لجريانه في الممكن والممتنع ، وعقّبه بالاستفهام لكثرة مباحثه ، ثمّ بالأمر لاقتضائه الوجود وكثرة مباحثه بالإضافة إلى النّداء ، ثمّ النّهي لمناسبته له في الأحكام ، فلم يبق إلّا النّداء ، فوقع متأخّرا ، ويمكن أن يقال بأنّ هذا التّعريف أوّلا مخالف ما ذكره الشّارح من أنّ المراد بالإنشاء هنا الإلقاء ، وكذلك أقسامه ، إلّا أن يقال : إنّ المراد بالطّلب هو الطّلب اللّفظيّ ، وهو إلقاء الكلام المشتمل على ما يدلّ على الطّلب القلبيّ.

وثانيا : إنّ هذا التّعريف غير مانع ، لأنّ طلب حصول الشّيء على سبيل المحبّة موجود في بعض أقسام الأمر والنّهي وغيرهما ، كقولك : أكرم ابنيّ ، فإنّي أحبّ إكرامه ، ولا تكرم كافرا ، فإنّي أحبّ كفّ نفسك عن إكرامك إيّاه.

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ طلب حصول شيء على سبيل المحبّة وإن كان قد يوجد في غير التّمنّي أيضا إلّا أنّه مقرون مع الطّماعيّة بخلاف التّمنّي ، فإنّه مشروط بعدم الطّماعيّة ، فإذا لا مجال للإشكال فإنّ طلب حصول الشّيء على سبيل المحبّة إن كان مع طمع في حصوله من المخاطب فأمر ، وإن كان مع طمع في تركه فنهي ، وإن كان مع طمع في إقباله فنداء ، وإن لم يكن طمع أصلا فتمنّي.

٣٧١

[واللّفظ الموضوع له (١) ، ليت ، ولا يشترط (٢) إمكان المتمنّى] بخلاف التّرجّي (٣) [تقول (٤) : ليت الشّباب يعود] ولا تقول (٥) لعله يعود ، لكن (٦) إذا كان المتمنّى ممكنا يجب أن لا يكون (٧) لك توقّع وطماعية في وقوعه ،

______________________________________________________

(١) أي للتّمنّي بالمعنى المصدريّ أعني إلقاء كلامه على مقتضي ما زعمه الشّارح من أنّ المراد بالإنشاء وأقسامه فعل المتكلّم ، فالمعنى حينئذ : واللّفظ الموضوع لأجل إلقائه ، وإيجاد كلام للتّمنّي ليت ، فاللّام في قوله : «له» للتّعليل ، أي لا بدّ حينئذ من جعل اللّام للعلّة الغائيّة ، ولا يصحّ جعلها صلة للموضوع وللتّعدية ، لأنّ ليت لم توضع لفعل المتكلّم الّذي هو إلقاء الكلام ، وإنّما وضعت لنفس التّمنّي أعني الكيفيّة النّفسانيّة من الرغبة إلى حصول شيء من دون الطّماعيّة في وقوعه.

(٢) أي لا يشترط في صحّة التّمنّي» إمكان المتمنّى» بل يصحّ مع استحالته ، كعود الشّباب.

وحاصل الكلام : إنّه لا يشترط في المتمنّى إمكانه لذاته بأن يكون جائز الوجود والعدم ، بل يصحّ مع استحالته ، فتارة يكون ممتنعا ، وتارة يكون ممكنا ، نعم ، لا يكون في الواجب ، لأنّ الحاصل يستحيل طلبه.

(٣) أي يشترط فيه إمكان المترجّى ، فلا يجرى في المستحيل والممتنع ، فيكون أخصّ من التّمنّي في الجريان.

(٤) أي تقول في التّمنّي : ليت الشّباب يعود ، مع أنّ عوده محال عادة ، بل عقلا ، فإنّ الشّباب عبارة عن زمان ازدياد القوى النّاميّة كما مرّ في المجاز العقليّ ، وإعادة الزّمان محال عقلا لاستلزامه أن يكون للزّمان زمان ، وأمّا بناء على ما هو الظّاهر من أنّ المراد به قوّة الشّبوبيّة ، فإعادتها محال عادة ، وممكن عقلا.

(٥) وذلك لعدم توقّع عوده وانتفاء طماعية رجوعه مع أنّ ذلك شرط في التّرجّي.

(٦) بيان للفرق بين التّمنّي والتّرجّي ، وملخّص الفرق بينهما : أنّ التّمنّي يجوز أن يستعمل فيما يمكن وقوعه ، وفيما لا يمكن وقوعه ، والتّرجّي لا يستعمل إلّا فيما يمكن وقوعه ، إذ المحال لا يترجّى وقوعه.

(٧) أي يظهر من كلامه هذا التّباين بين التّمنّي والتّرجّي ، من أن المتمنّى يجب أن لا يكون فيه طماعية والتّرجّي أن يكون فيه طماعية في الوقوع.

٣٧٢

وإلّا (١) لصار ترجّيّا [وقد يتمنّى بهل (٢) نحو : هل لي من شفيع ، حيث (٣) يعلم أن لا شفيع له] لأنّه (٤) حينئذ يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام لحصول الجزم بانتفائه (٥)

______________________________________________________

(١) أي وإلّا بأن كان هناك طماعية في الوقوع صار ترجّيا ، وحينئذ لا يستعمل فيه إلّا الألفاظ الدّالّة على التّرجّي كلعلّ وعسى مثلا ، إذا كنت تطلب حصول مال في العام متوقّعا وطامعا في حصوله ، تقول : لعلّ لي مال في هذا العامّ أحجّ به ، وإن كان غير متوقّع ولا طماعية لك فيه ، تقول : ليت لي مال كذا ، والفرق بين التّوقّع والطّمع أنّ الأوّل أبلغ من الثّاني.

(٢) أي على سبيل الاستعارة التّبعيّة بأن شبّه في النّفس التمنّي المطلق بمطلق الاستفهام بجامع مطلق الطّلب في كلّ منهما ، فيسري التّشبيه إلى الجزئيات تبعا ، ثمّ تركت الأركان أي أركان التّشبيه سوى اللّفظ الموضوع للاستفهام الجزئيّ الّذي هو من أفراد المشبّه به ، أي الاستفهام المطلق ، وأريد به التّمنّي الجزئيّ الّذي هو من أفراد المشبّه أعني التّمنّي المطلق ، فهذا يسمّى استعارة لكونه مبتنيا على علاقة المشابهة وتبعيّة ، لأنّ التّشبيه لم يجر في الجزأين ، بل إنّما جرى فيهما بتبع الكلّيّين ، أو على سبيل المجاز المرسل من استعمال المقيّد في المطلق ، ثمّ استعماله في مقيّد آخر ، بيان ذلك أنّ هل لمطلق طلب الفهم ، فاستعملت في مطلق الطّلب ، ثمّ طبّق هذا المطلق في طلب حصول الشّيء المحبوب من حيث اندراجه فيه ، فيكون مجازا مرسلا في مرتبة واحدة.

(٣)» حيث» ظرف لمحذوف ، أي يقال ذلك لقصد التّمنّي حيث يعلم أن لا شفيع له ، فيكون قوله : «يعلم أن لا شفيع له» إشارة إلى قرينة المجاز.

(٤) أي هل» حينئذ» أي حين العلم بعدم شفيع له ،» يمتنع حمله» أي هل على حقيقة الاستفهام لحصول الجزم بانتفاء هذا الحكم والحال أنّ الاستفهام يستدعي الجهل بثبوت الحكم. وبعبارة أخرى : إنّ المتكلّم يعلم بأنّه لا شفيع له ، والاستفهام يقتضي عدم العلم بالانتفاء ، بل الجهل بالشّيء فلو حمل على الاستفهام الحقيقيّ لحصل التّناقض ، فتعيّن الحمل على التّمنّي.

(٥) أي المستفهم عنه ، أي الشّفيع في المثال المذكور.

٣٧٣

والنّكتة (١) في التّمنّي بهل ، والعدول عن ليت هي إبراز المتمنّى لكمال العناية به في صورة الممكن الّذي لا جزم بانتفائه (٢) [و] قد يتمنّى [بلو (٣) ، نحو : لو تأتيني فتحدّثني (٤)

______________________________________________________

إن إنّ هذا إنّما يفيد عدم صحّة حمل هل على الاستفهام ، وأمّا حمله على خصوص التّمنّي فيفتقر إلى قرينة أخرى معيّنة له ، ولا تكفي الصّارفة ، فإنّ مثل هذا الكلام يقال عند العلم بنفي الشّفيع لمجرّد التّحسّر والتّحزّن من دون طلب حصوله ألا ترى أنّه يقال : ما أعظم الحزن لنفي الشّفيع.

لمّا كان الكلام في التّحسّر والتّحزّن على نفي الشّيء الّذي لا يطمع فيه الآن ، ولا في المستقبل يستلزم كون الموصوف بذلك يتمنّى ما فات ، وإلّا لم يتحزّن عليه كان ذلك الكلام تمنّيّا بحسب دلالته الالتزاميّة ، فلا يوجد مورد كان الكلام فيه لمجرّد التّحزّن ، ولم يكن فيه التّمنّي ، فإذا لا حاجة إلى القرينة المعيّنة بل يكفي وجود القرينة الصّارفة.

(١) بيان لنكتة التّمنّي بهل ، هي إبراز المتكلّم المتمنّى» لكمال العناية به» أي بالمتمنّى ، بالفتح ، أي لإظهار الرّغبة فيه إبرازه في صورة الممكن ، الظّرف متعلّق ب» إبراز».

(٢) أي بانتفاء المتمنّى بالفتح ، فإنّ الاستفهام مستلزم لأن يكون المستفهم عنه ممكنا ، وغير مجزوم انتفاؤه بخلاف التّمنّي فإنّه لا يستلزم أن يكون المتمنّى ممكنا وغير مجزوم بانتفائه ، لو لازم ذلك كون استعمال هل في التّمنّي مشعرا بأنّ المتمنّى بالكسر له عناية بالمتمنّى بالفتح في عدّه بمنزلة المستفهم عنه الّذي لا جزم بانتفائه دائما.

(٣) أي على طريق الاستعارة التّبعيّة ، بأن شبّه في النّفس التّمنّي المطلق بمطلق تعليق الامتناع بجامع مطلق الامتناع في كلّ ، ويستتبع هذا التّشبيه تشبيه الجزئيّات بالجزئيّات ، ثمّ استعمل لو الّذي هو موضوع للتّعليق الجزئيّ في التّمنّي الجزئيّ ، فهذا يسمّى استعارة لكونه مبتنيا على علاقة المشابهة ، وتبعيّة لكون التّشبيه غير جار في الجزأين بالأصالة ، بل بالتّبع ، ثمّ إنّه لم يتعرّض الشّارح نكتة العدول عن التّمنّي بليت إلى التّمنّي بلو ، لعدم ظهورها ، ويمكن أن يقال : إنّ النّكتة فيه الإشعار بعزّة المتمنّى حيث أبرزه في صور ما لم يوجد ، لأنّ لو بحسب أصلها حرف امتناع لامتناع.

(٤) أي ليتك تأتيني فتحدّثني.

٣٧٤

بالنّصب (١)] على تقدير ، فإن تحدّثني ، فإنّ النّصب قرينة (٢) على أنّ لو ليست على أصلها ، إذ لا ينصب المضارع بعدها بإضمار أن ، وإنّما يضمر بعد الأشياء السّتّة (٣) ، والمناسب (٤) ههنا هو التّمنّي. قال [السّكّاكي (٥) : كأنّ حروف التّنديم والتّحضيض (٦) ،

______________________________________________________

(١) أي بنصب تحدّثني بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التّمنّي ، وأمّا تأتيني فهو مرفوع بضمّة مقدّرة على الياء للثّقل والفعل المنصوب في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهّم ، والمعنى أتمنّى إتيانا منك فتحديثك لي ، وسمّي ما بعد الفاء جوابا ، والحال أنّه في تأويل مفرد نظرا لمعنى الكلام ، لأنّ المعنى إن وقع منك إتيان فإنّه يقع تحديث ، فقد تضمّن الكلام جواب شرط اقتضاه المعنى.

(٢) أي قرينة لفظيّة» على أنّ لو ليست على أصلها» وهو تعليق الامتناع بالامتناع ، أي امتناع الثّاني لامتناع الأوّل ، بل على خلاف أصلها ، وهو التّمنّي.

(٣) وهي الاستفهام والتّمنّي والعرض ودخل فيه التّخصيص لقربه منه والأمر والنّهي والنّفي.

(٤) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره إنّ النّصب قرينة على مجرّد أنّ لو ليست على أصلها ، بل إنّما هي بمعنى أحد من الأشياء السّتّة ، فحينئذ يحتاج حملها على التّمنّي إلى قرينة معيّنة وهي مفقودة.

وحاصل الجواب : إنّ الأمر وإن كان كذلك ، أي النّصب إنّما يدلّ على أنّ لو بمعنى أحد من الأشياء السّتّة ، ولا يعيّن شيء منها ، إلّا أنّ هنا خصوصيّة تستدعي أن تكون بمعنى التّمنّي وهي أنّ لو في الأصل لتعليق امتناع بامتناع ، والتّمنّي غالبا يتعلّق بالممنوع ، فبينهما كمال المناسبة والملاءمة بخلاف غير التّمنّي ، فهذه المناسبة قرينة معيّنة على أنّها للتّمنّي.

(٥) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره : إنّ قوله : «واللّفظ الموضوع له ، ليت» غير صحيح ، فإنّ حروف التّنديم والتّحضيض تفيد معنى التّمنّي. وحاصل الجواب : بأنّ ذلك ليس بحسب الوضع ، بل بالتّولّد من لو وهل ، لكن بطريق اللّزوم عند التّركيب مع ما ولا المزيدتين بخلاف ما إذا كانت مفردتين ، فإنّ ذلك بطريق الجواز.

(٦) أي إنّما سمّيت هذه الحروف بحروف التّنديم والتّحضيض ، لأنّها إذا دخلت على الفعل الماضي ، نحو : هلّا أكرمت زيدا ، أفادت جعل المخاطب نادما على ترك الفعل ، وإذا دخلت

٣٧٥

وهي هلّا ، وألّا بقلب الهاء همزة (١) ، ولو لا ، ولو ما مأخوذة منهما (٢)] خبر كأنّ (٣) ، أي كأنّها مأخوذة من هل ولو اللّتين للتّمنّي حال كونهما (٤) [مركّبتين مع لا وما المزيدتين (٥)

______________________________________________________

على المضارع ، نحو : هلّا تكرم زيدا ، أفادت حضّ المخاطب وحثّه على الفعل.

(١) أي أصلها كان هلّا ، ثمّ أبدلت الهاء همزة ، فصارت ألّا ، وفيه ضعف ، لأنّ عادة العرب أن يبدّلوا الأثقل بالأخفّ ، وهنا الأمر بالعكس.

(٢) أي من هل ولو.

(٣) أي قوله : «مأخوذة منهما» خبر كأنّ في قوله : «كأنّ حروف التّنديم ...» ، ومعنى العبارة : كأنّ حروف التّنديم والتّحضيض مأخوذة منهما ، أي من هل ولو ، وأورد لفظ كأنّ لعدم الجزم بما ذكره من تركيب لو ما وهلّا من لو وما وهل ولا ، لجواز أن يكون كلّ كلمة برأسها ، لأنّ التّصرّف في الحروف بعيد.

(٤) أي هل ولو ، قوله : «مركّبتين» حال لهما.

(٥) وذلك بأن ضمّت لا مع هل ، وأدغمت اللّام في اللّام ، فصارت هلّا ، ثمّ أبدلت الهاء همزة على خلاف القياس ، فصارت ألّا ، وضمّت مع لو فصارت لو لا ، فحصل من التّركيب مع لا ثلاثة أحرف ، أعني هلّا ، وألّا ولو لا ، وضمّت ما مع لو ، فصارت لو ما.

ثمّ إنّه اعترض على المصنّف بأنّ هذه الحروف إنّما أخذت من هل ولو قبل التّركيب لا في حال تركيبهما مع لا وما ، لأنّه مستلزم لاتّحاد المأخوذ والمأخوذ منه ، فإنّ المأخوذ منه المقيّد بالتّركيب هو هلّا ولو لا ولو ما وألّا ، والمأخوذ أيضا نفس تلك الحروف ، وهذا فاسد لاستحالة أخذ الشّيء من نفسه.

وأجيب عنه : بأنّ قوله : «مركّبتين» حال مقدّرة ، والمعنى حينئذ أنّها مأخوذة من هل ولو حال كونهما مقدّرا تركيبهما مع ما ولا المزيدتين أو حال كونهما معزوما على تركيبهما معهما ، فإذا لا مجال للاعتراض المذكور.

نعم ، لو كان حالا محقّقة حيث يكون المعنى أنّها مأخوذة منهما حال كونهما مركّبتين عند الأخذ يلزم الاعتراض المذكور إلّا أنّ الأمر ليس كذلك ، كما عرفت.

٣٧٦

لتضمينهما (١)] علّة لقوله : مركّبتين. والتّضمين (٢) جعل الشّيء في ضمن الشّيء تقول : ضمّنت الكتاب كذا وكذا بابا ، إذا جعلته متضمّنا لتلك الأبواب يعني أنّ الغرض المطلوب من هذا التركيب (٣) والتزامه (٤) هو جعل هل ولو متضمّنتين (٥)

______________________________________________________

(١) قوله :

«لتضمينهما» المقصود هو بيان لزوم معنى التّمنّي لهما ، أي فيصبح معنى التّمنّي عندئذ لازما لهما غير منفكّ عنهما لوضوح استلزام المضمّن المضمّن فيه ، وهذا المعنى أعني اللّزوم هو المقصود بالتّركيب ، وإلّا فأصل التّمنّي على نحو الاتّفاق موجود في هل ولو قبل التّركيب.

فعليه لا يرد ما يقال : إنّ معنى التّمنّي فيهما حاصل قبل التّركيب ، فكيف يكون تضمينهما إيّاه علّة غائيّة وغرضا من التّركيب ، فإنّ الغرض والعلّة الغائيّة لا يسبقان ما ترتّبا عليه.

ووجه عدم الورود : إنّ المراد بتضمينهما معنى التّمنّي جعلهما مشتملتين عليه على جهة النّصّ واللّزوم ، وهذا لم يكن حاصلا قبل التّركيب ، بل الحاصل قبله إنّما كان لتضمّنهما له على جهة الجواز والاتّفاق والدّليل على ذلك هو التّعبير بالمصدر المضاف إلى المفعول فإنّ تضمّنهما التّمنّي إلزامهما إيّاه ، أي جعلهما ملزومين له بخلاف التّعبير بالمصدر المضاف إلى الفاعل أي تضمّنهما له ، فإنّه ليس ظاهرا في اللّزوم ، لأنّ التّضمّن عبارة عن الاشتمال كان هناك لزوم أم لا.

(٢) يريد أن يبيّن أنّ المراد بالتّضمين هنا جعل التّمنّي نفس مدلول هل ولو مركّبتين مع ما ولا ولا جزء مدلولها ، كما هو المراد بالتّضمّن الاصطلاحيّ ، فالتّضمين في المقام نظير ما في قولك : «ضمّنت الكتاب كذا وكذا بابا ، إذا جعلته» مشتملا على تلك الأبواب ، أي نفس أجزاء الكتاب لا جزء منه ، والوجه في ذلك إنّ الحروف الأربعة تدلّ على التّمنّي بالمطابقة لا بالتّضمّن.

(٣) أي تركيب هل ولو مع لا وما في قولك : هلّا ولو ما.

(٤) أي التزام التّركيب معنى التّمنّي.

(٥) أي مستلزمتين.

٣٧٧

[معنى التّمنّي (١) ليتولّد] علّة لتضمينهما ، يعني أنّ الغرض من تضمينهما معنى التّمنّي ليس إفادة التّمنّي (٢) ، بل أن يتولّد [منه] أي من معنى التّمنّي المتضمّنتين هما إيّاه [في الماضي (٣) التّنديم (٤) نحو : هلّا أكرمت زيدا] أو لو ما أكرمته ، على معنى ليتك أكرمته قصدا إلى جعله نادما على ترك الإكرام (٥) [وفي المضارع التّحضيض (٦) نحو : هلّا تقوم (٧)] ولو ما تقوم ،

______________________________________________________

(١) أي إضافة معنى إلى التّمنّي بيانيّة ، أي معنى هو التّمنّي.

(٢) أي ولو على نحو اللّزوم ، لأنّه ليس فيه كثير فائدة ، فإنّ ليت تدلّ عليه كذلك ، بل الغرض من التّضمين هو التّوصّل به إلى التّنديم والتّحضيض.

(٣) أي مع الفعل الماضي ، فكلمة في بمعنى مع.

(٤) أي جعل المخاطب نادما ، وجه التّولّد :

إنّ التّنديم إنّما يكون في الأمور المحبوبة فإذا فات الأمر المحبوب له ندم المخاطب عليه ، وإن كان مستقبلا حضّه وحثّه عليه.

فإن إنّ محبّة المتكلّم للشّيء لا تقتضي تنديم المخاطب عليه ، فكيف يتولّد من طلب المحبوب التّنديم.

إنّ المتكلّم إذا ترك المخاطب ما هو محبوب له ندّمه عليه شفقة عليه ، وإذا كان أمرا استقباليّا حضّه وحثّه عليه شفقة عليه وطلبا لخيره ، ولا ريب أنّ طلب مثل هذا الأمر المحبوب الّذي هو خير للمخاطب يتولّد منه التّنديم أو التّحضيض.

(٥) وذلك لأنّ الفعل بعد فوات وقته لا يمكن حصوله في وقته حقيقة ، وإنّما يمكن تمنّيه لصيرورته أمرا مستحيلا ، ولمّا فات إمكانه مع ما فيه من المصلحة المقتضية للفعل المعلومة للمخاطب صار الكلام إشارة إلى أنّه كان مطلوبا من المخاطب ففوّته ، فيصير المخاطب بسماع هذا الكلام المفيد لهذا المعنى نادما.

(٦) أي الحثّ على الفعل لإمكان وجوده ، وقد خرج التّمنّي في هذا عن مفاده الأصليّ بخلاف التّنديم السّابق.

(٧) أي نحو قولك في حضّ المخاطب على القيام» هلّا تقوم» ، أي على معنى ليتك تقوم.

٣٧٨

على معنى ليتك (١) تقوم قصدا إلى حثّه على القيام ، والمذكور في الكتاب (٢) ليس عبارة السّكّاكي لكنّه حاصل كلامه. وقوله : لتضمينهما مصدر مضاف إلى المفعول الأوّل ، ومعنى التّمنّي مفعوله الثّاني (٣) ، ووقع في بعض النّسخ ـ لتضمّنهما ـ على لفظ التّفعّل ، وهو (٤) لا يوافق معنى كلام المفتاح ، وإنّما ذكر هذا (٥) بلفظ كأنّ لعدم القطع بذلك

______________________________________________________

(١) إشارة إلى معناها المطابقيّ وقصدا إلى حثّه إشارة إلى معناها الالتزاميّ.

(٢) جواب سؤال مقدّر ، وهو أن يقال :

إنّ ما ذكره المصنّف في كتاب التّلخيص من قوله : «قال السّكّاكي : كأنّ حروف التّنديم والتّحضيض ...» ليس عبارة السّكّاكي ولم يقل هكذا ، ولم قال المصنّف هذا وبأيّ وجه قال.

والجواب

إنّ ما ذكره المصنّف ليس عبارة السّكّاكي ، بل هو حاصل كلام السّكّاكي.

(٣) أي أصله لتضمين المتكلّم هل ولو معنى التّمنّي ، فحذف الفاعل ، وأضيف المصدر إلى مفعوله الأوّل.

(٤) أي ما في بعض النّسخ لا يوافق معنى كلام المفتاح ، حيث إنّ التّضمّن عبارة عن الاشتمال الغير الدّالّ على الإلزام الّذي هو مقصود السّكّاكي ، وصاحب المفتاح عبّر بالإلزام ومعناه جعل هل ولو ملزومين لمعنى التّمنّي ، وجعله لازما لهما غير منفكّ عنهما ، كما أنّ معنى التّضمين كذلك على ما بيّناه ، فما في المفتاح أخصّ من التّضمّن ، ومساوق للتّضمين.

وبعبارة أخرى : إنّ عدم الموافقة من جهة أنّ كلام المفتاح يدل على أنّ دلالة هل ولو على التّمنّي بفعل فاعل ، وجعل جاعل ، فيوافق النّسخة الّتي فيها التّضمين على لفظ التّفعيل بخلاف النّسخة الّتي فيها التّضمّن على وزن التّفعّل ، فإنّه يقتضي أنّ دلالتهما على التّمنّي أمر ذاتيّ لا بفعل فاعل ، فلا تكون هذه النّسخة موافقة للمفتاح.

(٥) أي إنّما ذكر هذا الكلام المذكور في الكتاب بلفظ كأنّ لعدم قطع المصنّف بكون هذه الحروف مأخوذة منهما باعتبار التّركيب ، بل يجوز أن يكون كلّ منها حرفا موضوعا للتّنديم والتّحضيض من غير اعتبار التّركيب ، فإنّ التّصرّف في الحروف ممّا يأباه كثير من النّحاة ، فلم يتحقّق عنده ذلك بناء على هذا فأتى بما يدلّ على الظّنّ دون القطع.

٣٧٩

[وقد يتمنّى بلعلّ (١) فيعطى حكم ليت (٢)] وينصب في جوابه المضارع على إضمار أن [نحو : لعلّي أحجّ فأزورك ، بالنّصب لبعد (٣) المرجوّ عن الحصول] وبهذا (٤) يشبه (٥) المحالات والممكنات الّتي لا طماعيّة في وقوعها ، فيتولّد منه (٦) معنى التّمنّي.

______________________________________________________

(١) وهي موضوعة للتّرجّي ، وهو كما سيأتي توقّف حصول شيء سواء كان محبوبا أو مكروها ، والمراد من قوله : «وقد يتمنّى بلعلّ» ليس ما هو المتبادر منه بأن تكون مستعملة في التّمنّي ، بل المراد منه أنّه يتمنّى بها على نحو التّوليد ، بمعنى أنّها تستعمل في التّرجّي ، ولكن يتولّد منه ـ من جهة خصوصيّة المقام ككون المرجوّ بعيد الحصول ـ التّمنّي فهو مدلول التزاميّ استفيد منها بمعونة المقام ، والدّليل على ما ذكرناه قوله : «لبعد المرجوّ عن الحصول» فإنّه ينادي بأعلى صوته على أنّ لعلّ قد استعملت في التّرجّي ، لكنّ المرجوّ قد شابه المتمنّى ، فصار ترجّيه بحيث تولّد منه معنى التّمنّي.

(٢) أي فحينئذ تعطى حكم ليت في نصب الجواب الّذي هو المضارع بعد

الفاء بتقدير أن ، فمعنى قولك : «لعلّي أحجّ فأزورك» أي ليت الحجّ صار منّي ، فتصدر الزّيارة.

وحاصل الكلام في المقام أنّ نصب المضارع بعد لعلّ بإضمار أن ، إنّما يدلّ على كون لعلّ دالّا على التّمنّي التزاما وتوليدا بناء على مذهب البصريّين الملتزمين بأنّ المضارع لا ينصب بعد التّرجّي البحث الغير المشوب بالتّمنّي ، وأمّا بناء على مذهب الكوفيّين القائلين بأنّ التّرجّي كالتّمنّي في انتصاب المضارع بعد كلّ منهما ، فلا يدلّ على أنّه يكون دالّا على التّمنّي التزاما.

(٣) أي الظّرف متعلّق بقوله : «يتمنّى» أي إنّما يتمّنى بلعلّ إذا كان المرجوّ كالحجّ في المثال بعيد الحصول.

(٤) أي وبسبب هذا البعد.

(٥) أي يشبه ذلك المرجوّ البعيد الحصول يشبه المحال بجامع عدم الحصول في كلّ.

(٦) أي فيتولّد من ذلك البعد أو الشّبه المذكور معنى التّمنّي ، لما مرّ من أنّه طلب محال أو ممكن لا طمع في وقوعه.

٣٨٠