دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

نائم ولا مضطجع ، ونحو ذلك (١) ، فإذا لا قاعد ، فقد نفيت عنه بلا العاطفة شيئا هو منفيّ قبلها بما النّافيّة (٢) وكذا (٣) الكلام في ما يقوم إلّا زيد ، وقوله : بغيرها ، يعني (٤) من أدوات النّفي على ما صرّح به في المفتاح ، وفائدته (٥) الاحتراز عمّا إذا كان منفيّا بفحوى الكلام ، أو علم (٦) المتكلّم أو السّامع ،

______________________________________________________

(١) أي ولا مستلقى ومكبّ.

(٢) أي فحينئذ يلزم كونها مستعملة على غير جهة وضعها ، فلا يصحّ ورودها بعد النّفي والاستثناء ، ثمّ إنّه قد يقال : هذا المنع إنّما هو فيما إذا عطف ما يلي لا العاطفة على المستثنى منه ، وأمّا إذا عطف على المستثنى كما هو الظّاهر ، فلا يجرى هذا المنع ، بل هو جائز لعطفه على المثبت ، فإذا ما زيد إلّا قائم لا قاعد ، صحّ إذا أردت عطف قاعد على قائم ، لأنّ المعنى نفي غير القيام عن زيد وإثباته له ، ثمّ نفي القعود عنه ، وكذا في قصر الصّفة على الموصوف ، لكن يرد عليه أنّ المنقول عن الثّقاة أنّ شرط المنفيّ بلا العاطفة أن لا يكون منفيّا بغيرها قبلها أصلا ، أي لا إجمالا ولا تفصيلا ، ولا ريب أنّ القعود في المثال قد نفي قبلها بما إجمالا ، فلا يصحّ المثال وإن التزمنا بكون ما يلي لا عطفا على المستثنى.

(٣) يعني أنّه لا فرق بين قصر الموصوف على الصّفة ، وهو ما مرّ وبين قصر الصّفة على الموصوف ، وهو ما هنا في هذا المثال ، فإنّك قد نفيت فيه القيام عن عمرو وبكر ، وغيرهما ، من كلّ ما مغاير لزيد ، فلا يصحّ أن تقول : ما يقوم إلّا زيد لا عمرو.

(٤) أي لمّا كان الغير شاملا لغير أدوات النّفي كفحوى الكلام ، وكان غير مراد أتى بالعناية ، وقال الشّارح : يعني من أدوات النّفي.

(٥) أي فائدة تقييد الغير بكونه من أدوات النّفي هو الاحتراز عمّا إذا كان النّفي مدلولا عليه بفحوى الكلام ، أي التّقديم كما في قولنا : زيدا ضربت ، فلا مانع أن يقال : لا عمرا.

(٦) أي والحال أنّ السّامع يعلم خلافه ، كما إذا كنت تعلم بضرب زيد دون عمرو ، والسّامع يعلم بعلمك ذلك إلّا أنّه يعلم خلاف ما تعتقده ، فتقول : ضربت زيدا لا عمرا ، وبالجملة إنّ المراد هو علم المتكلّم أو السّامع بالمنفيّ.

٣٤١

أو نحو ذلك (١) ، كما سيجيء في إنّما. لا يقال : هذا (٢) يقتضي جواز أن يكون منفيّا قبلها بلا العاطفة الأخرى نحو : جاءني الرّجال لا النّساء لا هند. لأنّا نقول : (٣) الضّمير (٤) لذلك المشخّص ، أي بغير لا العاطفة الّتي نفى بها ذلك المنفيّ ، ومعلوم (٥) أنّه يمتنع نفيه قبلها بها لامتناع أن ينفى شيء بلا قبل الإتيان بها ، وهذا (٦) كما يقال : دأب الرّجل الكريم أن لا يؤذي غيره ، فإنّ المفهوم منه أن لا يؤذي

______________________________________________________

(١) أي من الأفعال المتضمّنة للنّفي ، وليس هو معناها صريحا مثل أبى وامتنع وكفّ ، فإنّ معناها الصّريح ثبوت الإباء والامتناع والكفّ ، فيقال : امتنع القوم عن المجيء لا عمرو ، وكفّ القوم أنفسهم عن القتال لا عمرو ، وأبى القوم عن السّير لا عمرو.

(٢) أي ما ذكر في بيان قوله : «بغيرها» ، «يقتضي جواز ...» لأنّ المصنّف لم يشترط إلّا أن لا يكون المنفيّ منفيّا قبلها بغيرها لا بها ، والمتبادر أنّ المراد بغير لا غير نوعها من أدوات النّفي ، وحينئذ يكون المثال المذكور صحيحا ، لأنّ هند ليست منفيّة قبلها بغير نوعها ، بل منفيّة بها.

(٣) أي حاصل الجواب : إنّ المراد غير شخص لا ، ومنه لا أخرى قبلها ، وحينئذ ، فلا يصحّ المثال المذكور ، لأنّ هند منفيّ بغير شخص لا الدّاخلة عليها ، قبل التّصريح بها.

(٤) أي الضّمير في قوله : «بغيرها لذلك المشّخص».

(٥) جواب عن سؤال مقدّر ، تقرير السّؤال : أنّ ما ذكرته في بيان فائدة قوله : «بغيرها» من أنّ الضّمير راجع إلى شخص لا ، وإن كان لا يقتضي التّجويز الّذي ذكره القائل إلّا أنّه يقتضي جواز كون المنفيّ بها منفيّا قبلها بشخصها ، إذ غيرها لا يشمل شخصها مع أنّ هذا غير جائز ، فكان الواجب إدخالها في أدوات في الحكم بعدم الجواز.

وحاصل الجواب : إنّ هذا معلوم استحالته ، إذ لا يمكن أن ينفى بشيء شيء قبل وجوده ، وإذا كان محالا لا يتأتّى وجوده ، فلا معنى للاحتراز عنه ، وقد أشار إليه الشّارح بقوله : «إنّه» أي الشّأن «يمتنع نفيه» أي المنفيّ بلا «قبلها» أي لا «بها» أي بلا.

(٦) أي قوله : «بغيرها» في تناوله لا العاطفة الأخرى ، كقولك : دأب الرّجل الكريم أن لا يؤذي غيره ، في تناول الغير هنا الرّجل الكريم الآخر ، فكما لا يختصّ الغير هنا باللّئيم ، فكذلك لا يختصّ الغير هناك بباقي الأدوات.

٣٤٢

غيره ، سواء كان ذلك الغير كريما ، أو غير كريم ، [ويجامع] أي النّفي بلا العاطفة [الأخيرين] أي إنّما ، والتّقديم (١) [فيقال : إنّما أنا تميميّ لا قيسيّ وهو يأتيني (٢) لا عمرو ، لأنّ (٣) النّفي فيهما] أي في الأخيرين [غير مصرّح به (٤)] كما في النّفي والاستثناء ، فلا يكون المنفيّ بلا لعاطفة منفيّا بغيرها من أدوات النّفي ، وهذا (٥) [كما

______________________________________________________

(١) نسب إلى الشّارح في شرح المفتاح ما هذا لفظه : إن عند اجتماع طرفين أو أكثر إلى أيّهما ينسب إفادة القصر. إلى الأسبق أو الأقوى ، ففي مثل إنّما جاءني زيد لا عمرو ، وإنّما أنا تميميّ لا قيسيّ إلى إنّما ، وفي مثل زيدا ضربت لا عمرا ، وإنّما زيدا ضربت ، وإنّما تميميّ أنا ، إلى التّقديم حتّى يكون المقصور عليه زيدا ، وتميميّ ، انتهى.

إنّ ما ذكره الشّارح مجرّد تخمين وخيال لا أساس له ، إذ لا وجه لجعل التّقديم أقوى من العطف ، وإنّما مع أنّ دلالتهما على القصر ، ودلالته عليه بالفحوى ، وقد اعترف الشّارح أيضا بكون التّقديم أضعف الطّرق ، فالصّحيح في المقام أن يقال : إنّه إذا جامعت لا العاطفة ، وإنّما والتّقديم كان الحصر مستندا إليهما لتقدّمهما ، وكانت العاطفة مؤكّدة لذلك القصر ، وإذا كان في الكلام التّقديم مع إنّما يسند القصر أيضا إليهما ، لأنّ التّقديم وإن كان أضعف الطّرق ، إلّا أنّ إفادته القصر تكون في عرض إفادة إنّما له لا في طولها ، فلا وجه لجعله مؤكّدا لإنّما.

(٢) والتّمثيل بنحو : زيدا ضربت لا عمرا ، أحسن وأفضل ، وذلك لاحتمال أن يقال : وهو يأتيني ، من باب التّقوّي دون التّخصيص ، إذ قد عرفت في بحث المسند إليه أنّ نحو : أنا سعيت قد يجيء للتّقوّي ، وقد يجيء للتّخصيص.

(٣) علّة لصحّة مجامعة لا العاطفة مع الأخيرين.

(٤) وإنّما المصرّح بهما هو الإثبات والنّفي ضمنيّ ، فلم يقبح حينئذ النّفي بلا العاطفة.

وبعبارة أخرى : وممّا يدلّ على أنّ النّفي الضمنيّ ليس كالتّصريح أنّه يقال : امتنع زيد عن المجيء لا عمرو ، فيعطف على فاعل امتنع بلا ، فيفيد الكلام حصر الامتناع في زيد دون عمرو بواسطة العطف بلا ، وصحّ ذلك لأنّ صريح امتنع زيد إيجاب الامتناع ، فلا يفيد نفي ذلك الإيجاب ، وأمّا نفي المجيء فهو ضمنيّ فجاز العطف بلا ، لكون النّفي في امتنع ضمنيّا ، ولو صرّح به لهذا المعنى. وقيل : لم يجئ زيد لم يصحّ أن يقال : لا عمرو ، لأنّه نفي للنّفي ، فيكون إثباتا ، ووضع لا للنّفي لا الإثبات.

(٥) أي ما ذكرنا من المثالين ، مثل هذا المثال في مجامعة لا مع النّفي الضّمنيّ ، وإن كان

٣٤٣

يقال : امتنع زيد عن المجيء لا عمرو] فإنّه يدلّ على نفي المجيء عن زيد ، لكن لا صريحا بل ضمنا ، وإنّما معناه الصّريح إيجاب امتناع (١) المجيء عن زيد ، فتكون لا نفيا لذلك الإيجاب ، والتّشبيه (٢) بقوله : امتنع زيد عن المجيء لا عمرو ، من جهة أنّ النّفي الضّمنيّ ليس في حكم النّفي الصّريح ، لا من جهة أنّ المنفيّ بلا العاطفة منفيّ قبلها بالنّفي الضّمنيّ ، كما في : إنّما أنا تميميّ لا قيسيّ ، إذ لا دلالة لقولنا : امتنع زيد عن المجيء على نفي امتناع مجيء عمرو لا ضمنا ، ولا صريحا. قال [السّكّاكي : شرط مجامعته] أي مجامعة النّفي بلا العاطفة [الثّالث] أي إنّما [أن لا يكون الوصف مختصّا بالموصوف (٣)]

______________________________________________________

النّفي الضّمنيّ في المثالين منصبّا على المنفيّ بلا ، وفي هذا المثال منصبّا على ما قبلها لا على منفيّها ، فحيث إنّ المشبّه به جائز بلا شكّ ، فكذلك المشبّه لعدم الفرق بينهما إلّا في الخصوصيّة المذكورة وهي لا توجب الميز من جهة الجواز وعدمه.

(١) ولا شكّ أنّ امتناع زيد عن المجيء يتضمّن نفي المجيء عنه.

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أن يقال : لا مناسبة بين أنا تميميّ لا قيسيّ ، وبين قوله : «امتنع زيد عن المجيء لا عمرو» حتّى تثبت المشابهة ، والمناسبة شرط للتّشبيه ، فأجاب بقوله : «والتّشبيه» في أنّ النّفي الضّمنيّ فيهما ليس في حكم النّفي الصّريح في كونه مانعا عن العطف بلا.

نعم ، الفرق بينهما أنّ قوله : إنّما أنا تميميّ ، ينفي كونه قيسيّا ، ولا يدلّ قوله : «امتنع زيد عن المجيء» على نفي امتناع مجيء عمرو.

(٣) أي لا يكون الوصف الّذي أريد حصره في الموصوف بإنّما مختصّا بذلك الموصوف ، وذلك كما في قولك : إنّما تميميّ أنا ، فإنّ التّميميّة لا يجب اختصاصها بالمتكلّم ، هذا شرط بالنّسبة لقصر الصّفة ، ويقاس عليه قصر الموصوف على الصّفة ، فيقال : شرط مجامعة النّفي بلا العاطفة لإنّما أن لا يكون الموصوف مختصّا بتلك الصّفة ، فلا يجوز أو لا يحسن أن يقال : إنّما المتّقي متّبع مناهج السّنّة لا البدعة ، لاختصاص الموصوف بتلك الصّفة ، وكذا لا يقال : إنّما الزّمن قاعد لا قائم لاختصاص الزّمن بالقعود.

فإن القصر لا يكون إلّا عند الاختصاص ، فكيف يشترط عدم الاختصاص في مجامعته لإنّما ، مع أنّ القصر لا يتحقّق إلّا عند الاختصاص.

٣٤٤

ليحصل الفائدة (١) [نحو : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(١) (٢)] فإنّه يمتنع أن يقال : لا الّذين لا يسمعون لأنّ الاستجابة لا تكون إلّا ممّن يسمع ويعقل ، بخلاف إنّما يقوم

______________________________________________________

إنّ المشترط في تحقّق القصر اختصاص الوصف بالموصوف ، أو الموصوف بالصّفة ، بحسب المقام ، والمشترط في المجامعة عدم اختصاص الوصف في نفسه بالموصوف ، وعدم اختصاص الموصوف في نفسه بالصّفة.

وبعبارة أخرى :

إنّ القصر متقوّم على اختصاص الوصف بالموصوف ، أو الموصوف بالصّفة الحاصل من خصوصيّة المقام ، والمشترط في المجامعة عدم اختصاص الوصف في نفسه بالموصوف ، وعدم اختصاص الموصوف في نفسه بالصّفة.

(١) أي الفائدة لا تحصل مع الاختصاص ، لأنّ الوصف إذا كان مختصّا بالموصوف بنفسه ، أو كان الموصوف كذلك ، يتنبّه المخاطب للاختصاص بأدنى تنبيه عليه ، فيكفي فيه كلمة إنّما.

وقبول ، وهم المؤمنون ، وفي بعض الحواشي ، المعنى إنّما يؤمن بك ويطيع لك ، ويقبل منك الّذين يفهمون قولك ، ويقبلون نبوّتك.

(٢) هذا المثال مثال للمنفي ، أعني اختصاص الوصف بالموصوف ، فإنّ الاستجابة مختصّة بذوي الأسماع لا تتعدّاهم إلى الصّمّ ، وعليه فلا يصحّ أن يقال : إنّما يستجيب الّذين يسمعون لا الصّمّ أو لا الّذين لا يسمعون ، بدليل أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ الاستجابة لا تكون إلّا من سامع دون من لا يسمع ، فالتّأكيد بالنّفي بلا غير مفيد في نحو ذلك. والمعنى إنّما يستجيب دعاءك للإيمان الّذين يسمعون سماع تدبّر وإذعان

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٦.

٣٤٥

زيد لا عمرو ، إذ القيام ليس ممّا يختصّ بزيد (١) ، وقال الشيّخ [عبد القاهر : لا تحسن] مجامعته (٢) الثّالث (٣) [في] الوصف [المختصّ كما تحسن في غيره ، وهذا (٤) أقرب] إلى الصّواب ، إذ لا دليل على الامتناع (٥) عند قصد زيادة (٦) التّحقيق والتّأكيد. [وأصل الثّاني] أي الوجه الرّابع من وجوه الاختلاف أنّ أصل النّفي والاستثناء [أن يكون ما استعمل له] أي الحكم الّذي استعمل فيه النّفي والاستثناء [ممّا يجهله (٧) المخاطب وينكره ، بخلاف الثّالث] أي إنّما ،

______________________________________________________

(١) أي فلا مانع من المجامعة المذكورة.

(٢) أي النّفي بلا.

(٣) أي إنّما ، فالمعنى لا تحسن مجامعة النّفي بلا إنّما ، ويمكن أن يكون المراد من المنفي كمال الحسن لا أصل الحسن ، وإلّا كان عين كلام السّكّاكي ، لأنّ الخاليّ عن الحسن لا صحّة له عند البلغاء.

لا يقال : إنّه لا يجوز أن يكون مراد السّكّاكي من مقالته المتقدّمة أنّ عدم الاختصاص بنفسه شرط حسن المجامعة ، فيكون موافقا للشّيخ.

لأنّا نقول : صرّح في المفتاح بأنّه إذا كان له اختصاص لم يصحّ فيه استعمال لا العاطفة بعد إنّما ، فمع هذا التّصريح لا مجال لهذا الحمل ، إلّا أن يكون مراده من عدم الصّحّة عدم الصّحة عند البلغاء ، وهو مساوق لعدم الحسن عند غيرهم.

(٤) أي هذا الّذي قاله عبد القاهر أقرب إلى الصّواب ممّا قاله السّكّاكي.

(٥) أي على امتناع مجامعة النّفي بلا للثّالث ، أعني إنّما.

(٦) أي عند قصد زيادة تحقيق النّفي عن ذلك الغير وتأكيده ، وهذا ردّ لقول السّكّاكي حيث قال : إذا كان الوصف مختصّا امتنعت المجامعة المذكورة لعدم الفائدة.

وحاصل الرّد : إنّا لا نسلّم عدم الفائدة ، إذ قد تحصل فائدة بالمجامعة المذكورة ، وهي زيادة التّحقيق والتّأكيد للنّفي.

(٧) أي يكون الحكم من جملة الأحكام الّتي يجهلها المخاطب بالفعل ، غاية الأمر إنّ المخاطب في مورد قصر القلب يكون جاهلا بالجهل المركّب ، لأنّه معتقد بالعكس ، وفي قصر الإفراد جاهلا بالنّفي لكونه معتقدا للشّركة ، وفي قصر التّعيين يكون جاهلا بكلّ من النّفي والإثبات جهلا بسيطا.

٣٤٦

فإنّ أصله أن يكون الحكم المستعمل هو فيه ممّا يعلمه المخاطب ولا ينكره (١) ، كذا في الإيضاح (٢) نقلا عن دلائل الإعجاز. وفيه (٣) بحث : لأنّ المخاطب إذا كان عالما بالحكم ، ولم يكن حكمه مشوبا بخطأ ، لم يصحّ القصر (٤) ، بل لا يفيد الكلام سوى لازم الحكم.

وجوابه (٥) : إنّ مراده أنّ إنّما يكون لخبر من شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره ، حتّى أنّ إنكاره يزول بأدنى تنبيه لعدم إصراره عليه.

______________________________________________________

(١) أي هذا لا يكون في قصر التّعيين لأنّ المخاطب في قصر التّعيين متردّد وشاكّ ، فلا يتصوّر الإنكار من المتردّد ، بل هو مختصّ بقصر القلب ، والإفراد ، وكيف كان فاستعمال الإنكار في قصر التّعيين على خلاف الأصل والظّاهر.

(٢) حيث قال المصنّف فيه ما هذا لفظه : وأصل الثّالث أن يكون ما استعمل له ممّا يعلمه المخاطب ولا ينكره على عكس الثّاني.

(٣) أي في قوله : «بخلاف الثّالث» أي إنّما بحث واعتراض ، لأنّ المخاطب إذا كان عالما بالحكم ، ولم يكن حكمه مشوبا بالصّواب والخطأ بأن لم يكن جاهلا بالحكم أصلا لا جهلا بسيطا ولا مركّبا لم يصحّ القصر ، لأنّه لردّ الخطأ وبيان الصّواب.

(٤) أي بل للإضراب الانتقالي ، أي لا يفيد الكلام سوى لازم الحكم ، وهو إفادة المتكلّم للمخاطب بأنّه عالم بالحكم مثله ، والوجه فيه أنّ المفروض كون المخاطب عالما بالحكم ، فلا يعقل إفادة نفس الحكم لاستحالة تحصيل الحاصل ، فليس له شأن سوى إفادة أنّ المخبر عالم بالحكم ، وهذا هو لازم الحكم.

(٥) أي جواب الإشكال المذكور ، وحاصله : إنّ قولهم إنّ أصل إنّما أن يكون الحكم الّذي استعملت فيه ممّا يعلمه المخاطب ولا ينكره ، مرادهم به أنّ ذلك الحكم من شأنه أن يكون معلوما للمخاطب لكونه ممّا شأنه أن يظهر أمره ، بحيث يزول الإنكار بأدنى تنبيه في زعم المتكلّم ، فلا ينافي هذا كونه مجهولا بالفعل.

٣٤٧

وعلى هذا (١) يكون موافقا لما في المفتاح [كقولك لصاحبك ، وقد رأيت شبحا من بعيد (٢) : ما هو إلّا زيد (٣) ، إذا اعتقده غيره] أي إذا اعتقد صاحبك ذلك الشّيخ غير زيد (٤) [مصرّا] على هذا الاعتقاد (٥) [وقد ينزّل المعلوم (٦) منزلة المجهول لاعتبار مناسب (٧) فيستعمل له] أي لذلك المعلوم [الثّاني] أي النّفي والاستثناء [إفرادا] أي (٨) حال كونه قصر إفراد [نحو : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(١) (٩) أي مقصور على

______________________________________________________

(١) أي على التّوجيه المذكور يكون ما في دلائل الإعجاز موافقا لما في المفتاح.

(٢) تمثيل للأصل الثّاني ، أعني النّفي والاستثناء ، ثمّ الشّبح بسكون الباء وفتحها ما يعرف وينظر بالعين كالإنسان والإبل والغنم وسائر المواشي «من بعيد» أي من مكان بعيد أتى به ، لأنّ شأن البعيد أن يجهل وينكر.

(٣) أي مقول لقولك ، أي قولك : ما هو إلّا زيد.

(٤) بأن اعتقد أنّه عمرو ، فيكون القصر في المثال حينئذ قصر قلب.

(٥) أي فهذا المثال قد تحقّق فيه الجهل والإنكار فيما من شأنه أن يجهل وينكر لبعد مضمونه ، وهذا الجهل لا يزول إلّا بتأكيد ، فاستعملت فيه ما وإلّا على أصلهما.

(٦) أي الحكم الّذي هو معلوم «منزلة المجهول» أي الحكم الّذي هو مجهول ومنكر بحيث يحتاج إلى التّأكيد لدفع الإنكار.

(٧) أي هذا التّنزيل لأجل أمر معتبر مناسب للمقام كالإشعار بأنّهم في غاية الاستعظام ، لهلاكه عليه الصّلاة والسّلام في المثال الآتي.

(٨) هذا التّفسير إشارة إلى أنّ قوله : «إفرادا» حال من «الثّاني».

(٩) الآية هكذا : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).

سبب نزول هذه الآية :

أنّه لما أرجف بأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل يوم أحد وأشيع ذلك ، قال النّاس لو كان نبيّا لما قتل ، وقال آخرون : نقاتل على ما قاتل عليه حتّى نلحق به ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ردّا على من زعم أنّه لو كان نبيّا لما قتل ، فقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) يعني أنّه بشر

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.

٣٤٨

الرّسالة لا يتعدّاها (١) إلى التّبرّي من الهلاك] فالمخاطبون وهم الصّحابة رضى الله عنه كانوا عالمين بكونه مقصورا على الرّسالة غير جامع بين الرّسالة والتّبرّي من الهلاك لكنّهم لمّا كانوا يعدّون هلاكه أمرا عظيما [نزّل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إيّاه] أي الهلاك فاستعمل له النّفي والاستثناء ، والاعتبار المناسب هنا هو الإشعار بعظم هذا الأمر في نفوسهم وشدّة حرصهم على بقائه عندهم.

[أو قلبا (٢)] عطف على قوله : إفرادا [نحو : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)(١)] ، فالمخاطبون وهم الرّسل عليهم‌السلام لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرا ولا منكرين

______________________________________________________

اختاره الله لرسالته على خلقه قد مضت من قبله رسل ، فالرّسالة لا تنافي الموت ، ثمّ قال على نحو الإنكار :

(أَفَإِنْ ماتَ) أي أفإن أماته الله وقتله الكفّار ارتددتم عن دينكم ، ومن يرتدد عن دينه فلن يضرّ الله شيئا لأنّه لا يجوز عليه الضّرر ، بل مضرّته عائدة عليه ، لأنّه يستحقّ العقاب الدّائم عند الارتداد.

والشّاهد في الآية :

استعمال النّفي والاستثناء فيها مع كون الحكم معلوما لتنزيله منزلة المجهول المنكر قصدا لاستعظامهم لموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(١) أي الرّسالة ، أي لا يتجاوز النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرّسالة إلى الخلود في الدّنيا ، فيكون القصر قصر موصوف على الصّفة قصر إفراد إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظّاهر تنزيلا لاستعظامهم هلاكه منزلة استبعادهم إيّاه وإنكارهم له كأنّهم اعتقدوا فيه وصفين الرّسالة والخلود والتّبرّي من الهلاك ، فقصّر على الرّسالة نفيا لخلوده وتبرّيه عن الهلاك قصر إفراد.

(٢) أي يستعمل فيما نزّل منزلة المجهول الثّاني ، حال كونه قلبا ، أي قصر قلب.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.

٣٤٩

لذلك ، لكنّهم نزّلوا منزلة المنكرين (١) [لاعتقاد القائلين] وهم الكفّار [إنّ الرّسول لا يكون بشرا (٢) مع إصرار المخاطبين على دعوى الرّسالة] فنزّلهم القائلون منزلة المنكرين للبشريّة لمّا اعتقدوا اعتقادا فاسدا من التّنافي بين الرّسالة والبشريّة ، فقلّبوا (٣) هذا الحكم بأن قالوا : إن أنتم إلّا بشر مثلنا ، أي مقصورون على البشريّة ليس لكم وصف الرّسالة الّتي تدّعونها.

ولمّا كان هنا مظنّة (٤) سؤال ، وهو أنّ القائلين قد ادّعوا التّنافي بين البشريّة والرّسالة ، وقصروا على المخاطبين على البشريّة ، والمخاطبون قد اعترفوا بكونهم مقصورين على البشريّة حيث قالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٥) ،

______________________________________________________

(١) المعنى :

حكى الله سبحانه قصّة ما صنع الكفّار من قوم عاد وثمود ونوح ، والّذي من بعدهم مع رسلهم ، فقال للرّسل قومهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فما كنتم رسلا من الله سبحانه ، فإنّ الرّسل لابدّ أن يكونوا ملائكة ، تريدون أن تمنعونا عمّا كان يعبد آباؤنا من الأصنام والأوثان ، وإن كنتم رسلا فأتونا بحجّة واضحة على صحّة ما تدعونه ، ومعجزة باهرة موجبة لليقين بصدقه.

والشاهد فيه :

ما ذكره الشّارح فإنّ المخاطبين بهذا الكلام وهم الرّسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرا ولا منكرين لذلك لكنّهم نزّلوا منزلة المنكرين.

(٢) أي إنّما يكون ملكا.

(٣) أي القائلون «هذا الحكم» أي المستلزم لنفي البشريّة بحسب زعمهم.

(٤) أي مظنّة اسم مكان ، أي لمّا كان هنا موضع أن يظنّ فيه وقوع «سؤال وهو» أي السّؤال إنّ القائلين قد ادّعوا لتّنافي بين البشريّة والرّسالة ، وقصّروا المخاطبين على البشريّة ، والمخاطبون قد اعترفوا بكونهم مقصورين على البشريّة ، حيث قالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي لسنا من الملائكة.

(٥) أي المخاطبين ، وهم الرّسل «سلّموا انتفاء الرّسالة عنهم» باعتبار أنّ البشريّة مناف للرّسالة عندهم ، فاعتراف الرّسل بالبشريّة يكون نفيا لرسالتهم على زعمهم ، فلا يكون مبطلا لدعوى الكفّار ، بل مثبت لها بزعمهم.

٣٥٠

فكأنّهم (١) سلّموا انتفاء الرّسالة عنهم أشار إلى جوابه (٢) بقوله : [وقولهم] أي قول الرّسل المخاطبين (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) من] باب [مجاراة (٣) الخصم] وإرخاء (٤) العنان إليه بتسليم بعض مقدّماته [ليعثر (٥)] الخصم ـ من العثار ـ ، وهو الزّلّة (٦) ، وإنّما يفعل ذلك [حيث (٧) يراد تبكيته] أي إسكات الخصم وإلزامه ،

______________________________________________________

(١) وحاصل ذلك أنّ الكفّار قد ادّعوا أنّ المخاطبين وهم الرّسل مقصورون على البشريّة ، وليسوا رسلا بناء على زعمهم من التّنافي بين الوصفين أعني البشريّة والرّسالة ، فإذا قول الرّسل في جوابهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يكون اعترافا لهم بكونهم مقصورين على البشريّة ، وغير متجاوزين عنها إلى الرّسالة ، والحال إنّ الأمر ليس كذلك ، وهم منزّهون من أن يعترفوا كذلك.

(٢) أي جواب السّؤال المذكور ، وحاصل الجواب : إنّ قولهم هذا من باب المماشاة معهم ، وجعله مشتملا على أداة القصر من جهة قصد لتّطابق في الصّورة ، أي كونه على وفق كلامهم صورة ، لا من جهة قصد القصر واقعا ، وإذا ليس في كلامهم حزازة ومنقصة «وقولهم» أي قول الرّسل المخاطبين (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) من باب مجاراة الخصم ، أي مماشاته ، والجري معه في الطّريق من غير مخالفة في السّلوك ، ومثاله أن تريد إزلاق صاحبك ، فتماشيه في الطّريق المستقيم حتّى إذا وصلت إلى مزلقة أزلقته وألقيته في الخطر والمهلكة.

(٣) أي مماشاة الخصم.

(٤) أي عطف على «مجاراة» ، عطف لازم على ملزومه.

(٥) أي لأنّه إذا سلّم له بعض مقدّماته كان ذلك وسيلة لإصغائه لما يلقى إليه بعد ذلك من الكلام المثبت للدّعوى ، فيعثر عند إلقائه ويفحم ، وأمّا إذا عورض من أوّل وهلة ربّما كان ذلك سببا لنفرته ، وعدم إصغائه وعناده ، والمراد ببعض المقدّمات صغرى القياس الّذي ذكرناه أعني كونهم بشرا ، وأمّا كون البشر لا يكون رسولا ، وهو الكبرى فلم يسلّموها.

(٦) وهو الوقوع والسّقوط.

(٧) علّة «ليعثر».

٣٥١

[لا لتسليم (١) انتفاء الرّسالة] فكأنّهم (٢) قالوا إنّ ما ادّعيتم (٣) من كوننا بشرا ، فحقّ لا ننكره ، ولكن هذا (٤) لا ينافي أن يمنّ (٥) الله تعالى علينا بالرّسالة ، فلهذا (٦) أثبتوا البشريّة لأنفسهم وأمّا إثباتها (٧) بطريق القصر فليكون على وفق كلام الخصم

______________________________________________________

(١) قوله : «لا لتسليم انتفاء الرّسالة» عطف على قوله : «من باب مجاراة الخصم» ، والمعنى أنّ ما قاله الرّسل للمجاراة ، ولم يقولوه لتسليم انتفاء الرّسالة عنهم ، وذلك لأنّ المراد ما نحن إلّا بشر لا ملائكة كما تقولون ، لكن لا ملازمة بين البشريّة ونفي الرّسالة كما تعتقدون ، فإنّ الله تعالى يمنّ على من يشاء من عباده بخصوصيّة الرّسالة ، ولو كانوا بشرا.

(٢) أي الرّسل.

(٣) أي أيّها الكفّار.

(٤) أي كوننا بشرا.

(٥) أي ينعم الله سبحانه علينا بالرّسالة.

(٦) أي فلعدم التّنافي بين البشريّة والرّسالة.

(٧) أي إثبات البشريّة «بطريق القصر» حيث قالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ولم يقولوا : نحن بشر مثلكم فقوله : «وأمّا إثباتها» جواب عن سؤال مقدّر ، وتقريره : أنّه يكفي في المجاراة أن يقولوا نحن بشر مثلكم ، فلا وجه لإفادتهم بطريق القصر ، فالنّفي والاستثناء لغو ، إذ ليس المراد إلّا مجرّد البشريّة.

وحاصل الجواب : إنّ قولهم : بطريق القصر لقصد المطابقة لكلام الخصم في الصّورة ، فيكون في الكلام مشاكلة ، وهذا أقوى في المجاراة ، وعلى هذا يكون الحصر غير مراد ، بل هو صوري فقط.

وحاصل الكلام في المقام :

إنّ المصنّف لمّا فرغ من ذكر المثالين لما وإلّا كان في أحدهما جائيا على أصله ، وفي الآخر على خلافه ، أراد أن يذكر مثالين لإنّما كان في أحدهما مستعملا على أصله وفي الآخر على خلافه ، فقال : وكقولك ، عاطفا له على قوله : «وكقولك لصاحبك» الّذي كان مسوقا لذكر المثالين لما وإلّا.

٣٥٢

[وكقولك] عطف على قوله : كقولك لصاحبك وهذا (١) مثال لأصل إنّما ، أي الأصل في إنّما أن يستعمل فيما لا ينكره المخاطب كقولك : [إنّما هو أخوك لمن يعلم ذلك ، ويقرّ به (٢) وأنت تريد أن ترقّقه (٣) عليه] أي (٤) أن تجعل من يعلم ذلك رقيقا مشفقا على أخيه والأولى بناء على ما ذكرنا (٥) أن يكون هذا المثال من الإخراج لا على

______________________________________________________

(١) أي ما ذكره المصنّف مثال لأصل إنّما ، أي بناء على ما يقتضيه ظاهر قول المصنّف من أنّ الأصل في إنّما أن تستعمل فيما هو معلوم للمخاطب ، وعلى هذا فهو مثال لتخريج الكلام على مقتضى الظّاهر ، وليس فيه من التّنزيل بمن يعلم أثر.

(٢) أي بكونه أخا له ، والمراد أنّه يعلم ذلك بقلبه ، ويقرّ به بلسانه.

(٣) أي قوله : «ترقّقه» إمّا بقافين من الرّقّة ضدّ الغلظة ، يقال : رقّ الشّيء وأرقّه ورقّقه ، والتّعدية بعلى بتضمين معنى الإشفاق ، كما أشار إليه الشّارح وحينئذ يقرأ رقيقا أيضا بقافين ، والمراد رقيق القلب ، وإمّا بالفاء والقاف من الرّفق بمعنى اللّطف وحسن الصّنيع.

(٤) أي في هذا التّفسير إشارة إلى أنّ صيغة فعّل للجعل والتّصيير ، والمراد أنّك تحدث في قلب من ذلك الشّفقة والرّقة على أخيه بسبب ذكرك الأخوّة له ، لأنّه وإن كان عالما بها ، قد يحدث في قلبه الشّفقة بسماعها ، لأنّ الشّيء قد يوجب بسماعه من الغير ما لا يوجب بمجرّد علمه.

(٥) أي من أنّ إنّما تستعمل في مجهول من شأنه أن يعلمه المخاطب ولا ينكره ، حتّى إنكاره يزول بأدنى تنبيه لكونه لا يصرّ عليه ، بناء على هذا فالأولى أن يكون هذا المثال من الإخراج لا على مقتضى الظّاهر ، أي فالحكم في هذا المثال ، وهو الأخوّة وإن كان معلوما للمخاطب لكن لعدم عمله بموجب علمه بالأخوّة ، إذ موجب علمه بها أن يشفق عليه ، ولا يضرّ به نزّل منزلة المجهول ، واستعمل فيه إنّما على خلاف مقتضى الظّاهر ، لأنّ مقتضى الظّاهر أن يجيء إنّما لخبر مجهول بالفعل ، لكن من شأنه أن لا يجهله المخاطب والأخوّة غير مجهول في المثال ، فاستعمال إنّما فيه يكون على خلاف مقتضى الظّاهر بتنزيل العالم بالأخوّة منزلة الجاهل بها ، وعلى هذا الاحتمال يكون قول المصنّف ، وكقولك : إنّما هو أخوك ، عطفا على قوله : «نحو : (وَما مُحَمَّدٌ») ويكون المصنّف لم يمثّل لتخريج إنّما على مقتضى الظّاهر ، لكن هذا الاحتمال فيه شيء ، لأنّه لا يناسب قول المصنّف سابقا ، فيستعمل له الثّاني ، لأنّ الحصر

٣٥٣

مقتضى الظّاهر [وقد ينزّل المجهول (١) منزلة المعلوم (٢) لادّعاء (٣) ظهوره ، فيستعمل (٤) له الثّالث] أي إنّما [نحو] قوله تعالى حكاية عن اليهود : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(١) (٥) ادّعوا أنّ كونهم مصلحين أمر ظاهر من شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره ،

______________________________________________________

في هذا المثال الّذي نزّل فيه المعلوم منزلة المجهول بالطّريق الثّالث لا بالطّريق الثّاني. وإنّما قال الشّارح والأولى ، ولم يقل : والصّواب كي يكون إشارة إلى إمكان الجواب عنه بأنّه يجوز أن يكون هذا المثال على مقتضى الظّاهر من غير تنزيل ، لأنّ المقصود منه ترقيق المخاطب ، لا إفادة الحكم ، فكونه معلوما له لا يضرّ ، والقصر للمبالغة في التّرقيق ، لأنّه يفيد تأكيدا على تأكيد.

(١) أي المجهول عند المخاطب.

(٢) أي منزلة الحكم الّذي من شأنه أن يكون معلوما عند المخاطب بحيث لا يصرّ على إنكاره ، فلا ينافي أنّه مجهول له بالفعل ، وليس المراد منزلة المعلوم له بالفعل ، لأنّ المعلوم بالفعل ليس محلّا للقصر.

(٣) علّة للتّنزيل ، أي ينزّل المجهول منزلة المعلوم لادّعاء المتكلّم ظهوره ، وأنّ إنكاره ممّا لا ينبغي.

(٤) أي فبسبب ذلك التّنزيل يستعمل فيه الطّريق الثّالث من طرق القصر وهو إنّما.

(٥) قال الله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) نزّلت الآية في حقّ المنافقين من اليهود لعنة الله عليهم ، والمراد أنّه إذا قيل للمنافقين (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي ، وصدّ النّاس عن الإيمان (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فردّهم الله بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أي يدّعون الإصلاح ، وهم المفسدون وكاذبون في دعوى أنّهم مصلحون ، ولكن لا يعرفون أنّهم على ضلال وفساد.

والشّاهد : في (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) حيث استعملوا إنّما في إثباتهم الصّلاح لأنفسهم ، وهي إنّما تستعمل في الحكم الّذي من شأنه أن لا ينكر ، ولا يجهل لادّعائهم ظهور صلاحهم ، ففي استعممالهم إنّما في إثبات الصّلاح لادّعائهم ظهوره إشعار بأنّ نقيضه وهو فسادهم ظاهر الانتفاء حتّى لا يحتاج في نفيه إلى التّأكيد بالنّفي والاستثناء ، فقد أنكروا الفساد الّذي اتّصفوا به مبالغين في إنكاره حيث زعموا أنّ نفيه من شأنه أن يلحق بالظّواهر والضّروريات الّتي لا تنكر.

__________________

(١) سورة البقرة : ١١.

٣٥٤

[ولذلك (١) جاء (٢) (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) للرّدّ عليهم مؤكّدا (٣) بما ترى (٤)] من إيراد الجملة الاسميّة (٥) الدّالّة على الثّبات ، وتعريف (٦) الخبر الدّالّ على الحصر. وتوسيط (٧) ضمير الفصل المؤكّد لذلك (٨)

______________________________________________________

(١) أي لأجل ادّعائهم ظهور صلاحهم ومبالغتهم في نفي فسادهم.

(٢) أي جاء قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) لأجل الرّدّ عليهم بإثبات الفساد لهم ، ونفي الإصلاح عنهم حال كون ذلك القول «مؤكّدا بما ترى».

(٣) حال من فاعل جاء ، وهو قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فيكون قوله : «مؤكّدا» على صيغة اسم المفعول.

(٤) أي بما تعلمه ، أي مؤكّدا بتأكيدات شتّى منها كون الحكم في صورة الجملة الاسميّة المفيدة للدّوام والثّبوت ، فالجملة الاسميّة في مقام الذّمّ تفيد الثّبات.

(٥) أي من الجملة الاسميّة الموردة ، فإضافة «إيراد» إلى «الجملة» من إضافة الصّفة للموصوف ، لأنّ المؤكّد هو الجملة الاسميّة لا إيرادها.

(٦) أي ومنها تعريف الخبر الدّالّ على الحصر ، أي على حصر المسند في المسند إليه ، والمعنى لا مفسد إلّا هم ، ثمّ الحصر يتضمّن للتّأكيد لأنّ المنفي فيه يتضمّن إثبات مقابله ، كما أنّ المثبت فيه يتضمّن إثباته نفي مقابله.

(٧) أي ومنها توسّط ضمير الفصل المفيد لتأكيد الحصر المستفاد من تعريف الجزأين أعني المبتدأ والخبر في قوله تعالى : (هُمُ الْمُفْسِدُونَ) وتعريفهما يفيد الحصر المتضمّن للتأكيد.

(٨) أي للحصر المستفاد من تعريف الخبر.

٣٥٥

وتصدير (١) الكلام بحرف التّنبيه الدّالّ على أنّ مضمون الكلام ممّا له (٢) خطر ، وبه (٣) عناية ، ثمّ التّأكيد بإنّ (٤) ، ثمّ تعقيبه (٥) بما يدلّ على التّقريع (٦) والتّوبيخ ، وهو قوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (٧) [ومزيّة (٨) إنّما على العطف (٩) أنّه يعقل منها] أي من إنّما [الحكمان] أعني الإثبات للمذكور ، والنّفي عمّا عداه [معا] بخلاف العطف ، فإنّه يفهم منه أوّلا الإثبات ثمّ النّفي ، نحو : زيد قائم لا قاعد ، وبالعكس

______________________________________________________

(١) أي ومنها تصدير الكلام بحرف التّنبيه ، أي ألا الاستفتاحيّة ، لأنّ تصدير الكلام بحرف التّنبيه من المؤكّدات.

(٢) أي لمضمون الكلام خطر ، أي له عظمة ، والوجه في أنّه ممّا له خطر ، لأنّ العلم بإفسادهم منبع الخيرات ، ومبدأ دفع مضرّات المتوجّهة إلى المسلمين منهم.

(٣) أي بمضمون الكلام عناية ، أي اهتمام ، فهو من عطف المسبّب على السّبب ، حيث إنّ كون الشّيء ممّا له خطر يوجب الاهتمام به ، فحيث إنّ التّصدير المذكور يشعر بذلك يكون من المؤكّدات.

(٤) أي التّأكيد بلفظ في قوله : (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ).

(٥) أي تعقيب الكلام ، قوله : «تعقيبه» بالجرّ عطف على «تصدير» ، وقيل : على «إيراد الجملة الاسميّة».

(٦) أي اللّوم ، ثمّ عطف «التّوبيخ» على «التّقريع» عطف تفسيريّ.

(٧) إنّما كان هذا يدلّ على التّقريع والتّوبيخ لإفادته أنّهم من جملة الموتى الّذين لا شعور لهم ، وإلّا لأدركوا إفسادهم بلا تأمّل.

(٨) أي فضيلة إنّما ، وشرفها على العطف.

(٩) أي خصّ العطف بالذّكر ، لأنّ هذه المزيّة ثابتة للتّقديم وللنّفي والاستثناء ، إذ كلّ منهما يتعقّل منه الحكمان ، أي الإثبات والنّفي معا ، أمّا كون التّقديم كذلك ، فالوجه فيه واضح.

وأمّا كون النّفي والاستثناء كذلك ، فلأنّ النّفي فيه وإن كان مفهوما قبل الإثبات إلّا أنّه نفي مطلق ليس عدلا للإثبات ، وما هو عدل له نفي ما عدا المخرج ، ولا ريب أنّ هذا يستفاد عند ذكر المستثنى ، كما أنّ الإثبات كذلك ، فلذلك لم يتعرّض لهما المصنّف ، وخصّ العطف بالذّكر ، وبالجملة إنّ مزيّة إنّما على العطف بلا وغيرها ممّا يفيد الحصر ثابتة بأنّها يعقل

٣٥٦

نحو : ما زيد قائما بل قاعدا [وأحسن مواقعها] أي مواقع إنّما [التّعريض (١) ، نحو : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) ،

______________________________________________________

منها الحكمان معا ، أي يعقل منها حكم الإثبات والنّفي المفادين بالحصر دفعة بخلاف العطف حيث يعقل أحد الحكمين أوّلا ، ثمّ الآخر ثانيا ، وأمّا النّفي والاستثناء والتّقديم ففيهما تعقّل الحكمين أيضا معا ، فلم تظهر هذه المزيّة لإنّما عليهما ، ولذلك لم يتعرّض المصنّف لهما.

أحسن مواقع إنّما التّعريض (١) وهو إمالة الكلام إلى جانب لينتقل الذّهن بمعونة المقام من هذا الجانب إلى جانب آخر هو المقصود ، كما إذا قلت عند مجادلتك مع أحد : لست زانيا ولا أختي زانية ، قصدا لتوبيخه ، فتميل كلامك إلى جانب ، أي تستعمله في معناه الموضوع له لينتقل الذّهن من هذا المعنى بمعونة كون المقام مقام المجادلة إلى المعنى الّذي هو مقصود لك أي ثبوت الزّنا لمقابلك وأخته ، أي أنت زان وأختك زانية.

لا يقال : إذا كان التّعريض بهذا المعنى ، فلا معنى لقوله : «وأحسن مواقعها» التّعريض ، لأنّ الاستعمال المذكور ليس موضع وقعت فيه إنّما ، فإنّه من قبيل المعنى ، وإنّما من مقولة اللّفظ ، وإنّما يكون موقعها الكلام المستعمل تعريضا.

لأنّا نقول : العبارة بتقدير مضاف ، أي أحسن مواقعها ذو التّعريض ، وهو الكلام ، وقد يطلق التّعريض على نفس الكلام المستعمل في معناه ليلوّح بغيره ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التّقدير ، وإنّما كان التّعريض أحسن مواقعها لأنّ إفادة الحكم الّذي شأنها أن تستعمل فيه لا يهمّ المخاطب لكونه معلوما ، أو من شأنه أن يكون معلوما بخلاف المعنى الآخر الملوّح إليه ، فإنّه أهمّ لكون المخاطب جاهلا به مصرّا على إنكاره.

(٢) أي إنّما يتعقّل الحقّ أصحاب العقول ، وإنّك تجزم بأنّه ليس المراد ظاهره ، وهو حصر التّذكّر ، أي تعقّل الحقّ في أولي الألباب ، أي أصحاب العقول ، لأنّ هذا أمر معلوم ، بل هو تعريض بذمّ الكفّار بأنّهم من فرط ، أي تناهي جهلهم إلى الغاية القصوى يكونون كالبهائم ، ويترتّب على ذلك التّعريض التّعريض بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لكمال حرصه على إيمان قومه يتوقّع التّذكّر من البهائم.

٣٥٧

فإنّه تعريض بأنّ الكفّار من فرط (١) جهلهم كالبهائم فطمع النّظر] أي التّأمّل (٢) [منهم كطمعه منها (٣)] أي كطمع النّظر من البهائم.

[ثمّ القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر على ما مرّ (٤) يقع بين الفعل والفاعل ، نحو : ما قام إلّا زيد (٥) ، وغيرهما] كالفاعل والمفعول نحو : ما ضرب زيد إلّا عمرا (٦) ، وما ضرب عمرا إلّا زيد (٧) والمفعولين نحو : ما أعطيت زيدا إلّا درهما (٨) ، وما أعطيت درهما إلّا زيدا ، وغير ذلك من المتعلّقات (٩).

______________________________________________________

(١) أي تناهي جهلهم.

(٢) أي تفسير النّظر بتأمّل إشارة إلى أنّه ليس بمعنى الرّؤية بالعين الباصرة ، بل إنّه بمعنى التّأمل والتّدبّر في الأمور المعقولة.

(٣) أي البهائم ، أي ما يصل إليه النّظر منهم هو ما يصل إليه من البهائم ، فكما أنّ النّظر لا يطمع أحد أن يصدر من البهائم فلا يطمع أحد أن يصدر من الكفّار.

(٤) أي ما مرّ في هذا الباب ، فإنّ الأمثلة المذكورة أكثرها كان من قبيل قصر المبتدأ على الخبر ، وإن كان بعضها من قبيل قصر الفعل على الفاعل ، كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ويحتمل ضعيفا أن يكون المراد من قوله : «ما مرّ» من كونه إضافيّا أو حقيقيّا ، وكونه قصر موصوف على الصّفة أو العكس.

(٥) هذا مثال لقصر الفعل على الفاعل ، ولا يتعدّاه إلى غيره.

(٦) مثال لقصر الفاعل في المفعول ، بمعنى أنّ الضّرب من جهة الوقوع على مفعول قصر على عمرو.

(٧) مثال لقصر المفعول على الفاعل ، بمعنى أنّ الضّرب الواقع على عمرو من ناحية الصّدور عن فاعل قد قصّر على زيد.

(٨) مثال لقصر المفعول الأوّل في المفعول الثّاني ، والمثال الثّاني بالعكس.

(٩) أي كالحال والتّمييز ونحوهما سوى المفعول معه ، لأنّ المفعول معه لا يجيء بعد إلّا ، ف لا يقال : لا تمش إلّا وزيدا. ومثال الحال فتقول في قصرها على صاحبها : ما جاء راكبا إلّا زيد ، وفي عكسه ما جاء زيد إلّا راكبا ، ومعنى الأوّل ما صاحب المجيء مع الرّكوب إلّا زيد ، ومعنى الثّاني ما زيد إلّا صاحب المجيء راكبا ، فالأوّل من قصر الصّفة ، والثّاني من قصر

٣٥٨

[ففي الاستثناء (١) يؤخّر المقصور عليه مع أداة الاستثناء] حتّى (٢) لو أريد القصر على الفاعل (٣) ، قيل : ما ضرب عمرا إلّا زيد ، ولو أريد القصر على المفعول (٤) قيل : ما ضرب زيد إلّا عمرا ، ومعنى (٥) قصر الفاعل على المفعول مثلا قصر الفعل المسند إلى الفاعل على المفعول (٦) ، وعلى هذا قياس البواقي ، فيرجع (٧) في التّحقيق

______________________________________________________

الموصوف. ومثال التّمييز كقولك : ما طاب زيد إلّا نفسا ، أي ما يطيب من زيد إلّا نفسه ، فهو من قصر الصّفة على الموصوف. مثال المجرور نحو : ما مررت إلّا بزيد ، ومثال الظّرف نحو :

ما جلست إلّا عندك ، ومثال الصّفة نحو : ما جاءني رجل إلّا فاضل ، مثال البدل نحو : ما جاءني أحد إلّا أخوك.

(١) بيان لموقع المقصور عليه إذا كان القصر بطريق إلّا وذلك أنّه قد عرفت أنّ أركان القصر ثلاثة :

المقصور ، المقصور عليه ، أداة القصر.

(٢) أي حتّى للتّفريع بمعنى الفاء.

(٣) أي قصر المفعول على الفاعل ، فالفاعل مقصور عليه ، والمفعول مقصور.

(٤) أي قصر الفاعل على المفعول ، فالمفعول مقصور عليه ، والفاعل مقصور.

(٥) هذا جواب عن سؤال مقدّر ، وتقريره أنّ القصر لا يكون إلّا قصر صفة على الموصوف أو موصوف على الصّفة ، فلا معنى لقصر الفاعل على المفعول وبالعكس ، لأنّ كلّ منهما ذات فلا يصحّ القصر.

وحاصل الجواب :

إنّ قولهم هذا من قصر الفاعل على المفعول ، أو من قصر المفعول على الفاعل على حذف مضاف ، أي من قصر الفعل المسند للفاعل على المفعول أو من قصر الفعل المتعلّق بالمفعول على الفاعل ، لا أنّ ذات الفاعل أو ذات المفعول مقصورة.

(٦) أي أو قصر أحد المفعولين على الآخر ، أو قصر صاحب الحال على الحال ، أو قصر الحال على صاحبها.

(٧) تفريع على ما ذكر من قصر الفعل المسند للفاعل على المفعول ، قوله : «أو قصر الموصوف على الصّفة» تفريع على قصر الفاعل على الفعل المتعلّق بالمفعول.

٣٥٩

إلى قصر الصّفة على الموصوف (١) ، أو قصر الموصوف على الصّفة (٢) ويكون حقيقيّا (٣) وغير حقيقيّ (٤) إفرادا وقلبا وتعيينا ولا يخفى اعتبار ذلك (٥) [وقلّ] أي جاز على قلّة (٦) [تقديمهما] أي تقديم المقصور عليه ، وأداة الاستثناء على المقصور حال كونهما (٧) [بحالهما] وهو أن يلي المقصور عليه الأداة [نحو : ما ضرب إلّا عمرا زيد (٨)] في قصر الفاعل على المفعول [وما ضرب إلّا زيد عمرا (٩)] في قصر المفعول على الفاعل ، وإنّما

______________________________________________________

(١) بأن يقال في نحو : ما قام إلّا زيد ، أنّ القيام مقصور على زيد لا يتعدّاه إلى غيره.

(٢) بأن يقال في نحو : ما ضرب عمرا إلّا زيد ، ما عمرو إلّا مضروب زيد ، فتقصر عمرا على صفة المضروبيّة لزيد.

(٣) أي إذا لم ينظر في القصر إلى شيء دون شيء.

(٤) أي إذا نظر في قصره إلى جهة دون جهة ، وهو على أقسام : قصر إفراد إذا اعتقد المخاطب الشّركة ، وقصر قلب إذا اعتقد المخاطب العكس ، وقصر تعيين إذا تردّد المخاطب.

(٥) أي اعتبار كلّ من قصر الصّفة على الموصوف ، وقصر الموصوف على الصّفة في قصر الفاعل على المفعول أو المفعول على الفاعل ، كما عرفت كان القصر حقيقيّا أو غير حقيقيّ ، مثلا إذا قلت في قصر الفاعل على المفعول : ما ضرب زيد إلّا عمرا ، إن أريد ما مضروب زيد إلّا عمرو دون كلّ ما هو غير عمرو ، وكان من قصر الصّفة قصرا حقيقيّا ، وإن أريد دون خالد كان قصرا إضافيّا ، ثمّ إن أريد الرّدّ على من زعم أنّ مضروب زيد عمرو وخالد مثلا كان إفرادا ، وإن أريد الرّدّ على من زعم أنّ مضروبه خالد دون عمرو كان قلبا ، وإن كان المخاطب متردّدا في المضروب منهما كان تعيينا.

(٦) إشارة إلى أنّه شرط في الجواز مع القلّة وبقائهما بحالهما ليس شرطا للقلّة حتّى تلزم كثرة تقديمهما على تقدير عدم بقائهما على حالهما.

(٧) أي المقصور عليه وأداة الاستثناء بحالهما.

(٨) أي كان في الأصل : ما ضرب زيد إلّا عمرا.

(٩) أي كان في الأصل : ما ضرب عمرا إلّا زيد.

٣٦٠