دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

قلت : (١) الفائدة فيه التّنبيه على ردّ الخطأ فيه ، وإنّ المخاطب اعتقد العكس ، فإنّ قولنا : زيد قائم ، وإن دلّ على نفي القعود ، لكنّه خال عن الدّلالة على أنّ المخاطب اعتقد أنّه قاعد. [وفي قصرها] أي قصر الصّفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام [زيد شاعر لا عمرو ، أو ما عمرو شاعرا بل زيد (٢)] ويجوز ما شاعر عمرو بل زيد ، بتقديم الخبر (٣) ، لكنّه (٤) يجب حينئذ (٥) رفع الاسمين لبطلان العمل (٦) ، ولمّا لم يكن (٧) في قصر الموصوف على الصّفة مثال الإفراد صالحا للقلب لاشتراط عدم التنافي في الإفراد ، وتحققّ التنافي في القلب على زعمه ، أورد للقلب مثالا يتنافى فيه الوصفان ،

______________________________________________________

لأنّ حاصله إنّ الجمع بين النّفي والإثبات للتّنبيه على ردّ الخطأ ، سواء تقدّم أو تأخّر.

(١) وحاصل الجواب والدّفع : إنّ فائدة التّعرّض لنفي الغير بعد الإثبات المطلوب بطريق الحصر هو الإشعار بأنّ المخاطب اعتقد لعكس ، لأنّ القيد الزّائد من البليغ حيث لا يحتاج إليه تطلب له فائدة ، وأقرب شيء يعتبر فائدة له في المقام على ما يقتضيه الذّوق السّليم هو الرّدّ على المخاطب ، فإنّ المتبادر من قولنا : كان كذا لا كذا ، إنّ المعنى لا كذا كما تزعم أيّها المخاطب ، بل كذا ، فإذا لا مجال للاعتراض المذكور.

(٢) فإن كان المخاطب معتقدا شركة زيد وعمرو في الشّاعريّة ، أو في انتفائها ، كان القصر المستفاد منهما قصر إفراد ، وإن كان معتقدا للعكس كان قصر قلب ، ثمّ إنّه أتى بالمثالين لما تقدّم آنفا.

(٣) أي بتقديم الخبر على الاسم ، كما هو مقتضى السّياق.

(٤) أي الشّأن.

(٥) أي حين قدّم خبره على اسمه.

(٦) أي عمل ما لعدم التّرتيب بين الاسم والخبر ، لأنّ شاعر خبر مقدّم ، وعمرو مبتدأ مؤخّر ، فإنّ الشّرط في عملها ترتيب معموليها ، وقد فقد التّرتيب ، ويجوز أن يكون الوصف مبتدأ وما بعده فاعلا ، أغنى من الخبر.

(٧) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره : إنّ المصنّف اكتفى في قصر الصّفة على الموصوف بالمثالين المذكورين ، وهذا على خلاف ما ينبغي فإنّهما ناظر إلى قصر الإفراد إن لم يكن الموصوفان فيهما متنافيين ، وإمّا ناظر إلى قصر القلب إن كان الموصوفان فيهما متنافيين ،

٣٢١

بخلاف قصر الصّفة ، فإنّ مثالا واحدا يصلح لهما (١) ، ولمّا كان (٢) كلّ ما يصلح مثالا لهما يصلح مثالا لقصر التّعيين ، لم يتعرّض لذكره ، وهكذا في سائر الطّرق.

______________________________________________________

فكان عليه أن يورد أربعة أمثلة ، كما صنع ذلك في قصر الموصوف على الصّفة.

وحاصل الجواب :

إنّه لا حاجة إلى إيراد أزيد من المثالين هنا ، لأنّهما صالحان لكلّ من قصر القلب والإفراد بحسب زعم المخاطب ، والسّرّ في ذلك أنّه اشترط التنافي في القلب وعدمه في الإفراد فيما إذا كان القصر قصر الموصوف على الصّفة دون قصر الصّفة على الموصوف ، ولازم ذلك عدم صلوح مثال واحد في الأوّل لكلّ من القصرين وصلوحه لهما في الثّاني.

(١) أي للقلب والإفراد ، وإنّما عدّهما واحدا نظرا إلى متعلّقهما ، والحاصل إنّ مثالا واحدا يصلح لهما ، إذ لم يشترط فيه تنافي الموصوفين ، لأنّ التنافي بالمعنى المذكور بأن يكون مفهوم أحدهما عين نفي الآخر أو ملزوما له لزوما بيّنا ، لا يتصوّر بين الموصوفات ، فلا وجه لاشتراطه ، فإذا ما ذكره المصنّف من المثالين صالح لكلّ منهما ، فلا وجه للاعتراض المذكور.

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره :

أنّه كان على المصنّف أن يتعرّض لقصر التّعيين ، ويذكر له مثالا ، فما وجه تركه له رأسا.

وحاصل الجواب :

إنّه لم يتعرّض لمثال قصر التّعيين رأسا ، أي لا في قصر الموصوف على الصّفة ، ولا في قصر الصّفة على الموصوف ، لأنّ ما ذكره من الأمثلة صالحة لأن تكون أمثلة له ، إذ لا يشترط فيه عدم التنافي ، أو التنافي كما عرفت ، ولهذا لم يتعرّض لذكر قصر التّعيين ، وكذا الكلام في سائر الطّرق ، يعني أورد ـ في الطّرق الباقية من النّفي والاستثناء ، وإنّما وتقديم ما حقّه التّأخير ـ في قصر الموصوف على الصّفة مثال قصر القلب منفردا عن مثال قصر الإفراد لامتناع الاجتماع عنده ، وفي قصر الصّفة على الموصوف مثالا واحدا لهما لإمكان الاجتماع ، وترك مثال قصر التّعيين في الكلّ ، لأنّ كلّ ما هو مثال لهما مثال له بحسب زعم المخاطب.

٣٢٢

[ومنها (١) النّفي والاستثناء (٢) ، كقولك في قصره (٣)] إفرادا (٤) [ما زيد إلّا شاعر (٥) و] قلبا [ما زيد إلّا قائم (٦) ، وفي قصرها (٧)] إفرادا وقلبا [ما شاعر إلّا زيد (٨)]

______________________________________________________

(١) أي من طرق القصر «النّفي» أي بأيّ أداة كان ، لأنّ أدوات النّفي كثيرة ، كليس وما وإن وغيرها ممّا يفيد النّفي.

(٢) أي الاستثناء بإلّا وأخواتها ، ثمّ إنّه لم يقل : ومنها الاستثناء ، لأنّ الاستثناء من الإثبات ، كقولك : جاء القوم إلّا زيدا لا يفيد القصر ، لأنّ الغرض منه الإثبات فقطّ ، والاستثناء قيد مصحّح له ، وكأنّك جاء القوم المغايرون لزيد ، ولو كان الاستثناء المذكور من طرق القصر لكان من طرقه الصّفة أيضا ، نحو : جاء النّاس العابدون ، ولم يقل به أحد بخلاف ما تقدّم فيه النّفي ، فإنّ الغرض منه حينئذ النّفي ، ثمّ الإثبات المحقّقان للقصر ، وليس الغرض منه تحصيل الحكم الإثباتيّ فقطّ.

(٣) قوله : «كقولك في قصره» أي قصر الموصوف على الصّفة «إفرادا» أي قصر إفراد ، أو لأجل قصر الإفراد.

(٤) مفعول مطلق لقصره ، أو مفعول لأجله.

(٥) أي لمن يعتقد اتّصافه بالشّعر وغيره ، كالكتابة ونحوها.

(٦) يمكن أن يقال : إنّه لا وجه لتكرار المثال هنا ، وذلك لأنّ قوله : «ما زيد إلّا شاعر» يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد إن قدّرنا لا كاتب ، ولقصر القلب إن قدّرنا لا مفحم ، وكذلك قوله : «ما زيد إلّا قائم» فإنّه إن قدّرنا لا كاتب يكون مثالا لقصر الإفراد ، وإن قدّرنا لا قاعد ، يكون مثالا لقصر القلب.

والسّرّ في ذلك : إنّ المنفيّ ليس بمصرّح به في النّفي والاستثناء ، فلنا أن نقدّره على أحد الوجهين ، بخلاف العطف فإنّ المنفيّ كان فيه مصرّحا به فيستحيل أن يكون منافيا ، وغير مناف ، فلابدّ فيه من المثالين.

(٧) أي قصر الصّفة على الموصوف.

(٨) فإنّه إن كان لمن اعتقد بأنّ كلّا من زيد وعمرو شاعر ، يكون القصر قصر إفراد ، وإن كان لمن اعتقد أنّ عمرا شاعر لا زيد ، يكون القصر قصر قلب.

٣٢٣

والكلّ (١) يصلح مثالا للتّعيين ، والتّفاوت (٢) إنّما هو بحسب اعتقاد المخاطب [ومنها إنّما (٣) كقولك في قصره] إفرادا [إنّما زيد كاتب (٤) و] قلبا [إنّما زيد قائم (٥) ، وفي قصرها] إفرادا وقلبا (٦) ، [إنّما قائم زيد] وفي دلائل الإعجاز (٧) أنّ إنّما ولا العاطفة إنّما يستعملان في الكلام المعتدّ به لقصر القلب دون الإفراد.

______________________________________________________

(١) أي من الأمثلة المذكورة لقصره أو لقصرها «يصلح مثالا للتّعيين».

(٢) أي التّغاير بين ما تقدّم من قصري الإفراد والقلب وبين قصر التّعيين بحسب اعتقاد المخاطب.

لا يقال : إنّه لا اعتقاد للمخاطب في قصر التّعيين كي يكون التّفاوت بحسب اعتقاده ، فكان عليه أن يقول : والتّفاوت إنّما هو بحسب حال المخاطب.

فإنّه يقال في الجواب عن ذلك بأنّ : في الكلام حذف الواو مع ما عطفت ، أي بحسب اعتقاد المخاطب ، وعدم اعتقاده ، بمعنى أنّه إن اعتقد المخاطب الاشتراك ، فالقصر إفراد ، وإن اعتقد العكس فقلب ، وإن لم يعتقد شيئا فتعيين.

(٣) أي سواء بالكسر أو الفتح ، وذلك لأنّ الموجب للحصر في إنّما بالكسر موجود في أنّما بالفتح ، فمن قال : إنّ سبب إفادة إنّما بالكسر الحصر تضمّنها معنى ما وإلّا لا بدّ له أن يقول بإفادة أنّما بالفتح أيضا القصر ، لوجود هذا الملاك فيه أيضا.

(٤) أي لمن اعتقد أنّه كاتب لا شاعر.

(٥) أي لمن اعتقد أنّه قاعد ، ويرد على تعدّد المثال ما مرّ من أنّ المثال الواحد يصلح للإفراد والقلب ، لأنّ القائميّة مثلا إن أضيفت إلى ما ينافيها كالقاعديّة يكون القصر قلبا ، وإن أضيفت إلى ما لا ينافيها كالشّاعريّة يكون القصر إفرادا ، فلا حاجة إلى تعدّد المثال.

(٦) أي بحسب حال المخاطب فإن كان معتقدا أنّ القائم زيد وعمرو ، فالقصر إفراد ، وإن كان معتقدا بأنّه عمرو فقطّ ، فالقصر قلب ، كما أنّه لو كان متردّدا كان القصر تعيينا.

(٧) هذا الكلام اعتراض من الشّارح على المصنّف ، حاصله : إنّ المصنّف جعل إنّما لقصر القلب ، وقصر الإفراد ، هذا مخالف لما في دلائل الإعجاز ، وفيه إنّ إنّما ولا العاطفة إنّما يستعملان في الكلام البليغ في قصر القلب دون الإفراد ، فإذا لا وجه لما صنعه المصنّف.

لا يقال : إنّه لا حزازة في مخالفته للشّيخ ، لأنّ رأيه ليس بحجّة عليه.

٣٢٤

وأشار إلى سبب إفادة إنّما القصر بقوله : [لتضمّنه معنى ما وإلّا] وأشار بلفظ التّضمّن إلى أنّه ليس بمعنى ما وإلّا ، حتّى كأنّهما لفظان مترادفان (١) إذ فرق (٢) بين أن يكون في الشّيء معنى الشّيء (٣) ، وأن يكون الشّيء الشّيء (٤) على الإطلاق (٥) ، فليس (٦) كلّ كلام يصلح فيه ما وإلّا ، يصلح فيه إنّما ، صرّح بذلك الشّيخ في دلائل الإعجاز.

______________________________________________________

لأنّا نقول : إنّ الشّيخ لم يستند على ذلك برأيه ، بل إنّما استند عليه بالاستقراء ، حيث نسب ما ذكره إلى استعمال البلغاء ، فإذا لا وجه لمخالفته له ، فإنّه لا بدّ لكلّ جاهل أن يرجع إلى أهل الخبرة.

(١) أي وليسا بمترادفين حقيقة ، لأنّ من شرط التّرادف الاتّحاد معنى وأفرادا ، وهما متّحدان في المعنى فقطّ ، وقوله : «لتضمّنه معنى ما وإلّا» إشارة إلى ردّ ما ذكره الأصوليّون من أنّ ما في إنّما للنّفي وإنّ للإثبات. وجه الإشارة : أنّه لو كان الأمر كذلك لقال : لكونه بمعنى ما وإلّا ، أو لتضمّنه ما وإلّا ، كتضمّن الكلام للكلمتين ، فإنّ هاتين العبارتين أصرح في إفادة المقصود من قوله : «لتضمّنه معنى ما وإلّا» ، وحيث إنّه عدل منهما إليه يظهر أنّ وجه العدول : الإشارة إلى أنّ ما وإنّ في إنّما ليس للإثبات والنّفي ، بل كلمة ما كافّة زائدة ، وكلمة إنّ في هذا الحال موضوعة لمعنى إجماليّ مشتمل على معنى ما وإلّا ، أي النّفي والإثبات الموجبين للقصر.

(٢) علّة للنّفي ، وملخّص الفرق : إنّ الأوّل يقتضي أن يكون معنى الشّيء الأوّل كلّا ، ومعنى الشّيء الثّاني جزء ، والثّاني : يوجب أن يكون معناهما واحدا ، وهما مترادفان في المعنى ، ثمّ إنّما وما وإلّا من قبيل الأوّل لا الثّاني.

(٣) أي كما في موارد التّضمّن.

(٤) أي كما في موارد التّرادف.

(٥) أي من غير اعتبار التّضمّن.

(٦) تفريع على قوله : «أنّه ليس بمعنى ما وإلّا» وذلك كالأمر الّذي شأنه أن ينكر ، فإنّه صالح لأن يستعمل فيه ما وإلّا ، ولا يصلح لإنّما ، لأنّها إنّما تستعمل فيما شأنه أن لا ينكر ، وكمن الزّائدة فإنّه يصلح معها ما وإلّا ، دون إنّما نحو : ما من إله إلّا الله ، ولا يصحّ أن يقال : إنّما من إله الله ، لأنّ من لا تزاد في الإثبات ، فلو كان إنّما بمعناهما كان كلّ كلام يصلح فيه ما وإلّا يصلح فيه إنّما ، فهذا دليل على عدم التّرادف.

٣٢٥

ولمّا اختلفوا (١) في إفادة إنّما القصر ، وفي تضمّنه (٢) معنى ما وإلّا بيّنه (٣) بثلاثة أوجه ، فقال : [لقول المفسّرين : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)(١) بالنّصب (٤) ، معناه ما حرّم عليكم إلّا الميتة (٥) و] هذا المعنى [هو المطابق لقراءة الرّفع]

______________________________________________________

(١) أي فقال بعضهم : إنّها لا تفيد الحصر ، وقيل : تفيده عرفا ، وقيل : عرفا واستعمالا.

(٢) عطف السّبب على المسبّب.

(٣) أي المذكور من إفادة إنّما الحصر ، ومن تضمّنها معنى ما وإلّا ، واستدلّ على تضمّن إنّما معنى ما وإلّا بثلاثة أوجه ، أشار إلى الأوّل بقوله : «لقول المفسّرين» الموثوق بتفسيرهم لكونهم من أئمّة اللّغة والبيان.

(٤) أي نصب (الْمَيْتَةَ).

(٥) وقيل : إنّ في هذا الاستدلال نظر ، لما فيه من الدّور ، لأنّ المفسّرين يستدلّون بقول أهل المعاني ، فإذا استدلّ أهل المعاني بقول المفسّرين جاء الدّور ، فالمناسب الاستدلال باستعمال العرب.

وأجيب عن ذلك بأنّ المفسّرين يستدلّون بكلام علماء المعاني ، هم المتأخّرون منهم ، والمراد بالمفسّرين الّذين استدلّ علماء البيان بكلامهم هم المتقدّمون من العرب العارفون بموضوعات الألفاظ نحو ابن عبّاس وابن مسعود ومجاهد ، فمن فسّر القرآن من أكابر الصّحابة قبل تدوين علم المعاني ، فلا مجال لتوهّم الدّور ، ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا من تقييد المفسّرين بالعارفين الجواب عمّا ربّما يتخيّل من أنّه لا معنى للاستدلال على معنى لفظ لغويّ بقول المفسّرين ، فإنّه لا بدّ من أن يثبت من اللّغة ولا مجال للرّأي فيه.

وجه الظّهور إنّ التّمسّك بقولهم من حيث إنّهم عارفون باللّغة فهو من باب الاستدلال بالنّقل عن اللّغة لا من باب الاستدلال بما أدّى إليه حدسهم ورأيهم.

ثمّ قول المصنّف (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) بالنّصب مبتدأ ، وخبره قوله : «معناه ما حرّم عليكم إلّا الميتة».

__________________

(١) سورة النّحل : ١١٥.

٣٢٦

أي (١) رفع الميتة ، وتقرير (٢) هذا الكلام أنّ في الآية ثلاث قراءات (حرم) مبنيّا للفاعل ، مع نصب الميتة ، ورفعها و (حرم) مبنيّا للمفعول مع رفع الميتة ، كذا في تفسير الكواشي (٣) ، فعلى القراءة (٤) الأولى ، ما في إنّما كافّة ، إذ لو كانت (٥) موصولة لبقي إنّ بلا خبر ، والموصول بلا عائد ، وعلى الثّانية موصولة لتكون الميتة خبرا ،

______________________________________________________

(١) أي تفسير لقوله : «هو المطابق لقراءة الرّفع» ، إذ القراءات بعضها مفسّرة لبعض ، فإذا كانت قراءة الرّفع مفيدة لحصر المحرّم في الميتة ينبغي أن يكون المراد في قراءة النّصب أيضا الحصر ، فلو لم يكن إنّما للحصر لكان الكلام خاليا عن أداة الحصر مع كونه مقصودا.

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره أنّ تأييد قول المفسّرين بالمطابقة لقراءة الرّفع غير صحيح لاشتمال كلتا القراءتين على إنّما ، فيكون على هذا تأييد إفادة إنّما للحصر بنفسه.

وحاصل الجواب أنّه إنّما يلزم تأييد الشّيء بنفسه لو أريد بقراءة الرّفع رفع (الميتة) مع كون (حرم) مبنيّا للمفعول ، وفرض ما مع ذلك كافّة ، وليس الأمر كذلك ، إذ المراد رفع (الميتة) مع كون (حرم) مبنيّا للفاعل ، وليس فيه كلمة إنّما بل كلمتا إن وما الموصولة ، فلا يلزم التأييد بنفسه ، ولو فرض كون المراد رفع (الميتة) مع كون (حرم) مبنيّا للمفعول ، لم يلزم ذلك أيضا ، لأنّ جعل ما كافّة ، وإن كان صحيحا عندئذ إلّا أنّ الأرجح جعلها موصولة لبقاء إن عندئذ على أصلها ، وهو كونها عاملة.

(٣) بضمّ الكاف وتخفيف الواو نسبة إلى كواشة حصن من أعمال الموصل ، وهو الإمام موفّق الدّين أحمد بن يوسف بن الحسين الكواشي.

(٤) أي كون (حرم) مبنيّا للفاعل مع نصب (الميتة).

(٥) جواب عن سؤال مقدّر تقريره أنّه لم لا يجوز أن تكون إنّما مركّبة من إن وما الموصولة ، ويكون ما حرّم الله إلّا الميتة مفيدا للقصر المستفاد من تعريف المسند إليه بالموصوليّة حيث إنّ الموصول عند عدم العهد يحمل على الجنس ، فيفيد القصر عند وقوعه مبتدأ وخبرا.

وحاصل الجواب والدّفع : أنّه لا يمكن عندئذ الالتزام بكون ما موصولة ، لاستلزام إنّ بلا خبر ، والموصول بلا عائد.

٣٢٧

إذ لا يصحّ ارتفاعها بحرّم المبنيّ للفاعل على ما لا يخفى (١) ، والمعنى (٢) إنّ الّذي حرّمه الله تعالى عليكم هو الميتة ، وهذا يفيد الحصر (٣) ، [لما مرّ] في تعريف المسند من أنّ نحو : المنطلق زيد ، وزيد المنطلق ، يفيد قصر الانطلاق على زيد ، فإذا كان إنّما متضمّنا معنى ما وإلّا ، وكان معنى القراءة الأولى ما حرّم الله عليكم إلّا الميتة ، كانت (٤) مطابقة للقراءة الثّانية ، وإلّا (٥) لم تكن مطابقة لها

______________________________________________________

(١) من فساد المعنى ، لأنّ المستتر في (حرم) عائد إلى الله تعالى ، فلا تكون الميتة فاعلا له ، ولأنّه يلزم أن تكون الميتة هو المحرّم ـ بالكسر ـ ، فيفيد المعنى لأنّ الميتة محرّمة ـ بالفتح ـ ، لا محرّمة ـ بالكسر ـ ، لأنّ المحرّم ـ بالكسر ـ هو الله تعالى.

(٢) أي والمعنى على القراءة الثّانية.

(٣) أي يفيد قصر التّحريم على الميتة ، وما عطف عليها في الآية ، لأنّ الّذي حرّم في قوّة المحرّم المعرّف بلام الجنس ، لما عرفت من أنّ الموصول عن عدم العهد يحمل على الجنس والعموم ، فيفيد القصر لما مرّ في تعريف المسند من أنّ نحو المنطلق زيد ، أي مفيد للحصر ، سواء جعلت اللّام موصولة أو حرف تعريف ، فكما أنّ مثال المنطلق زيد ، يفيد حصر الانطلاق في زيد ، كذلك المقام حيث يفيد حصر التّحريم في الميتة ، لأنّ المعنى إنّ المحرّم عليكم هو الميتة ، وإنّما ذكر زيد المنطلق ، وإن لم يكن مقصودا بالاستشهاد ، إذ المقصود به إنّما هو الأوّل وهو المنطلق زيد ، لأنّ الميتة معرّف بلام الجنس فيفيد قصر الميتة على المحرّم أيضا ، كما في زيد المنطلق.

(٤) كان جواب الشّرط أعني قوله : «فإذا كان إنّما متضمّنا ...» ، وحاصل الكلام في المقام أنّه لمّا ثبت أنّ القراءة الثّانية تفيد القصر فوجب أن تكون القراءة الأولى أعني قراءة النّصب أيضا مفيدة للقصر ، لأنّ القراءة الثّانية يجب أن تكون مطابقة للقراءة الأولى لا مباينة.

(٥) أي وإن لم تكن إنّما متضمّنة معنى ما وإلّا لم تكن القراءة الأولى مطابقة للقراءة الثّانية.

٣٢٨

لإفادتها (١) القصر ، فمراد السّكّاكي والمصنّف بقراءة النّصب والرّفع هو القراءة الأولى والثّانية (٢) ، ولهذا (٣) لم يتعرّضا للاختلاف في لفظ حرّم (٤) بل (٥) في لفظ الميتة رفعا ونصبا ، وأمّا على القراءة الثّالثة أعني رفع الميتة ، وحرّم مبنيّا للمفعول ، فيحتمل أن تكون ما كافّة ، أي ما حرّم عليكم إلّا الميتة ، وأن تكون موصولة (٦) أي إنّ الّذي حرّم عليكم (٧) هو الميتة ، ويرجّح هذا (٨) ببقاء إنّ عاملة على ما هو أصلها (٩). وبعضهم توهّم أنّ مراد السّكّاكي والمصنّف بقراءة الرّفع على هذه القراءة الثّالثة (١٠) ،

______________________________________________________

(١) أي لإفادة القراءة الثّانية القصر بخلاف الأولى ، فإنّها لا تفيده على هذا التّقدير ، أي على تقدير عدم تضمّن إنّما معنى ما وإلّا.

(٢) أي وليس مرادهما بقراءة الرّفع القراءة الثّالثة ، وقد عرفت أنّ المراد بالقراءة الأولى قراءة النّصب ، والقراءة الثّانية هي قراءة الرّفع مع بناء (حرم) للفاعل فيهما.

(٣) أي ولأجل أنّ مراد السّكّاكي والمصنّف بقراءة النّصب والرّفع ما ذكرنا لم يتعرّضا ، أي السّكّاكي والمصنّف للاختلاف في لفظ (حرم).

(٤) أي لعدم الاختلاف في لفظ (حرم) حين كان مرادهما ما سبق ، لأنّ (حرم) مبنيّ للفاعل على القراءتين المذكورتين.

(٥) أي تعرّضا للاختلاف في لفظ الميتة لوجود الاختلاف فيه.

(٦) أي في محلّ نصب على أنّها اسم إنّ والميتة خبرها.

(٧) والحصر حاصل على كلّ تقدير ، وهو حاصل بإنّما على التّقدير الأوّل ، وبالتّعريف الجنسي على التّقدير الثّاني.

(٨) أي الاحتمال الثّاني ، وهو كون ما موصولة.

(٩) أي الأصل في إنّ العمل ، فهذا يكون وجها لترجيح الاحتمال الثّاني على الاحتمال الأوّل ، ثمّ إنّه قد يعارض ما ذكره الشّارح من وجه ترجيح جعل ما موصولة على جعلها كافّة بإنّ جعلها كافّة ، يؤيّده رسم الخطّ ، فإنّ رسم الخطّ في ما الموصولة الانفصال ، إلّا أن يقال : بأنّ رسم القرآن غير تابع لرسم الخطّ المصطلح.

(١٠) أي رفع الميتة مع بناء (حرم) للمفعول.

٣٢٩

فطالبهما (١) بالسّبب في اختيار كونها موصولة ، مع أنّ الزّجّاج اختار أنّها (٢) كافّة [ولقول النّحاة (٣) إنّما لإثبات ما يذكر بعده ونفي ما سواه] أي سوى ما يذكر بعده ، أمّا في قصر الموصوف نحو : إنّما زيد قائم ، فهو لإثبات قيام زيد ، ونفي ما سواه من القعود ونحوه (٤) وأمّا في قصر الصّفة نحو إنّما يقوم زيد فهو لإثبات قيامه (٥) ونفي ما سواه من قيام عمرو وبكر وغيرهما ، [ولصحّة (٦) انفصال الضّمير معه] أي مع إنّما نحو : إنّما يقوم أنا ،

______________________________________________________

(١) أي طلب من السّكّاكي والمصنّف ما هو السّبب والعلّة في اختيارهما كون ما موصولة.

(٢) أي ما كافّة نظرا إلى كونها في القرآن مرسومة متّصلة ، والموصولة ترسم منفصلة.

(٣) أي هذا الوجه الثّاني لإفادة إنّما القصر ، وتضمّنها معنى ما وإلّا.

وحاصل هذا القول : إنّ النّحاة الّذين أخذوا النّحو من كلام العرب يقولون بكون إنّما للحصر ، أي إثبات ما يذكر بعده ، ونفي ما سواه ، فدلالتها على ذلك دليل على تضمّنها معنى ما وإلّا ، فمعنى ما هو النّفي ، ومعنى إلّا هو الإثبات.

وبعبارة أخرى : إنّ دلالة إنّما على الحصر دليل على تضمّنها ما الّتي هي للنّفي ، وعلى معنى إلّا الّتي هي للإثبات ، والحاصل : إنّه لمّا كان مفاد إنّما ومفاد ما وإلّا واحدا دالّ على أنّها بمعناهما ، فاندفع ما يقال : إنّ قول النّحاة إنّما يدلّ على وجود معنى القصر في إنّما لا على خصوص تضمّنها معنى ما وإلّا ، فالدّليل لا ينتج المدّعى.

(٤) أي كالاضطجاع.

(٥) أي قيام زيد ، ونفي سواه من قيام عمرو وبكر وغيرهما ، أي غير عمرو وبكر.

(٦) إشارة إلى الوجه الثّالث من الوجوه الثّلاثة ، أي إنّما يفيد القصر لصحّة انفصال الضّمير معه ، قال بعضهم : إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر ، فإنّ ذكره بعد الفعل شيء من متعلّقاته وجب الفاعل وتأخيره ، كما في قولك : إنّما ضرب زيدا أنا ، وكما في بيت الفرزدق الآتي ، فإنّه إذا لم يفصل ، ولم يؤخّر لتبادر إلى الفهم أنّ المقصود الحصر على ذلك المتعلّق ، وإن لم يذكر ، يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى ، والاتّصال نظرا إلى اللّفظ ، إذ لا فاصل لفظيّا ، فظهر بما ذكرنا أنّ المراد بالصّحّة في كلام المصنّف عدم الامتناع الشّامل للوجوب والجواز.

لا يقال : إنّ هذا الدّليل فيه دور ، وذلك لأنّ صحّة الانفصال متوقّفة على التّضمّن كما قال الشّارح : ولا يعرف التّضمّن إلّا بصحّة الانفصال للاستدلال بها عليه.

٣٣٠

فإنّ الانفصال إنّما يجوز عند تعذّر الاتّصال ، ولا تعذّر ههنا إلّا بأن يكون المعنى ما يقوم إلّا أنا ، فيقع بين الضّمير وعامله (١) فصل لغرض (٢) ثمّ استشهد على صّحة هذا الانفصال ببيت من يستشهد بشعره ، ولهذا (٣) صرّح باسمه ، فقال : (٤) [قال الفرزدق : أنا الذّائد] من الذّود ، وهو الطّرد [الحاميّ الذّمار] أي العهد ، وفي الأساس (٥) هو

______________________________________________________

لأنّا نقول : إنّ صحّة الانفصال تتوقّف على التّضمّن ثبوتا ، والتّضمّن يتوقّف على صحّة الانفصال إثباتا فلا دور فيه.

(١) وهو يقوم في المثال وقع الفصل بإلّا ، وليس إلّا لغرض وهو القصر.

فإن قيل : إنّ يقوم للغائب ، وأنا للمتكلّم ، ولا يكون ضمير المتكلّم فاعلا للغائب.

يقال في الجواب : بأنّ الفاعل في الحقيقة محذوف ، أي ما يقوم أحد إلّا أنا.

(٢) أي وهو الحصر.

(٣) أي لأنّ مراد المصنّف الاستشهاد على صحّة الانفصال مع التّمثيل لا مجرّد التّمثيل «صرّح باسمه» فالسّرّ في ذلك بيان أنّ البيت ممّا يصحّ أن يستشهد به.

(٤) أي قال المصنّف : قال الفرزدق :

أنا الذّائد الحامي الذّمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

المعنى :

«الذّائد» بالذّال المعجمة والهمزة والدّال المهملة اسم فاعل من الذّود ، بمعنى الطّرد والمنع ، «الحامي» بالحاء المهملة اسم فاعل من الحماية ، وهو ككناية بمعنى منع الضّرر ، «الذّمار» بالذّال المعجمة والرّاء المهملة ككتاب ما يلزمك حفظه وحمايته ، «يدافع» مضارع من المدافعة بمعنى الدّفع ، «الأحساب» جمع حسب ، وهو بالحاء والسّين المهملتين ، ما يعدّه الإنسان من مفاخر نفسه ، وآبائه.

والشاهد فيه : انفصال الضّمير مع إنّما في قوله : «وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي».

(٥) أي يريد أن يبيّن أنّ الذّمار بمعنى العهد بحسب الأصل ، وأمّا بحسب العرف ، فهو بالمعنى الّذي ذكره صاحب الأساس.

٣٣١

الحامي الذّمار ، إذا حمى (١) ما لو لم يحمه ليم ، وعنّف من (٢) حماه وحريمه (٣). [وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي] لمّا كان غرضه (٤) أن يخصّ المدافع (٥) لا المدافع عنه (٦) فصل الضّمير ، وأخّره (٧) إذ (٨) لو قال : وإنّما أدافع عن أحسابهم لصار المعنى أنّه يدافع عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم ، وهو ليس بمقصوده. ولا يجوز (٩) أن يقال : إنّه محمول على الضّرورة ، لأنّه كان يصحّ أن يقال : إنّما

______________________________________________________

(١) أي حفظ ما لم يحفظه ليم ، أي ذمّ وشدّد عليه.

(٢) بيان لما في قوله : «ما لو لم يحمه» والحمى بالكسر ، ما يحميه الإنسان من مال أو نفس.

(٣) أي أقاربه ، في أقرب الموارد حريم الرّجل ما يحميه ويقاتل عنه ، ولذا سمّيّت نساء الرّجل بالحريم.

(٤) ملخّصه أنّه إذا أخّر الضّمير بعد فصله كان الضّمير محصورا فيه ، لأنّ المحصور فيه يجب تأخيره في إنّما ، فيكون المعنى حينئذ لا يدافع عن أحسابهم إلّا أنا لا غيري ، وهذا لا ينافي مدافعته عن أحساب غيرهم أيضا ، ولو أخّر الأحساب لكانت محصورا فيها ، وكان الواجب حينئذ وصل الضّمير وتحويل الفعل إلى صيغة المتكلّم ، وكان المعنى إنّما أدافع عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم ، ولمّا كان غرض الفرزدق الأوّل دون الثّاني ارتكب التّعبير الأوّل المفيد له ، وعلمنا أنّ غرضه هذا من قرينة المدح.

(٥) أي على صيغة اسم الفاعل ، فالقصر في البيت من قصر الصّفة على الموصوف.

(٦) أي الأحساب.

(٧) أي فصل الضّمير اختيارا ، وأخّره عن الأحساب لوجوب تأخير المحصور فيه عن المحصور في إنّما.

(٨) علّة لمحذوف ، والتّقدير لو أخّر الأحساب ، وأوصل الضّمير بالفعل لفات الغرض ، إذ لو قال : إنّما أدافع عن أحسابهم ... وهو ليس بمقصوده لما فيه من القصور في المدح مع أنّ المقام مقام المبالغة ، لأنّه في معرض التّفاخر.

(٩) أي لا يجوز أن يقال في منع الاستشهاد بالبيت ، وحاصله أنّ ما ذكرتموه من أنّ فصل الضّمير ، وتأخيره دليل على الحصر غير صحيح ، لأنّ ذلك الفصل إنّما هو لتقدير فاصل ،

٣٣٢

أدافع عن أحسابهم أنا ، على أن يكون أنا تأكيدا وليست (١) ما موصولة اسم إنّ وأنا خبرها إذ لا ضرورة في العدول عن لفظ من إلى لفظ ما.

______________________________________________________

وهو إلّا ممنوع ، إذ لا نسلّم أنّ ذلك الفصل ، لتقدير فاصل ، وما المانع من أن يكون الفصل للضّرورة ، لأنّه لو قيل : وإنّما أدافع عن أحسابهم أو مثلي لانكسر البيت ، فعدل إلى فعل الغيبة ، لأنّه هو الّذي يمكن معه الفصل دون فعل المتكلّم لوجوب استتار الضّمير فيه ، وحينئذ فلا يكون فصل الضّمير مع إنّما في البيت لتضمّنه معنى ما وإلّا ، فلم يتمّ الاستدلال.

وحاصل الجواب : أنّه لا ضرورة في البيت إذ له مندوحة عن ارتكاب الفصل المحوجّ لجعل الفعل غيبة ، وهو أن يؤتى بفعل المتكلّم ، ثمّ يؤتى بالضّمير لتأكيد الضّمير المستكين ، والمستتر بأن يقال : وإنّما أدافع عن أحسابهم أنا والوزن واحد ، فلو لم يكن المقصود الحصر لأتى بالتّركيب هكذا.

نعم ، هذا الجواب مبنيّ على قول ابن مالك من أنّ الضّرورة هي ما لا مندوحة ولا مفرّ عنه للشّاعر ، وأمّا على القول بأنّها ما وقع في الشّعر مطلقا كان للشّاعر عنه مندوحة أم لا لم يتمّ هذا الجواب.

(١) جواب عن سؤال مقدّر تقريره : إنّ الاستشهاد بالبيت على تضمّن إنّما معنى ما وإلّا بالتّقريب المذكور لا يتمّ إذ في المقام وجه آخر يوجب فصل الضّمير ، والقصر من غير تقدير كون إنّما بمعنى ما وإلّا ، وهو أن تجعل ما موصولة اسم إنّ ، وأنا خبرها ، وجملة يدافع عن أحسابهم صلتها ، أي ما ، والمعنى حينئذ إنّ الّذي يدافع عن أحسابهم أنا كما تقول : إنّ الّذي أكرم زيدا أنا ، فيفيد الكلام الحصر بتعريف المسند إليه بالموصوليّة ، كما في قراءة إنما حرم عليكم الميتة بالرّفع ، ويكون فصل الضّمير لكونه خبرا والعامل فيه معنويّ ، وليس مرفوعا بالفعل حتّى يكون مفصولا عنه.

وحاصل الجواب :

إنّ المقام مقام افتخار ، فلا يناسبه التّعبير بما الموصولة الّتي هي لغير العاقل مع إمكان التّعبير بمن واستقامة الوزن ، فلو أراد هذا المعنى لقال : وإنّ من يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ، فلا ضرورة في العدول عن لفظ من إلى لفظ ما ، وأيضا لو كانت موصولة كتبت مفصولة عن إنّ.

٣٣٣

[ومنها (١) التّقديم] أي تقديم ما حقّه التّأخير (٢) كتقديم الخبر على المبتدأ أو المعمولات على الفعل [كقولك في قصره] أي قصر الموصوف [تميميّ أنا] كان الأنسب ذكر المثالين (٣) لأنّ التّميميّة والقيسيّة إن تنافيا (٤) لم يصلح هذا مثالا لقصر الإفراد (٥) ، وإلّا (٦) لم يصلح لقصر القلب ، بل للإفراد (٧) [وفي قصرها ، أنا (٨) كفيت مهمّتك] إفرادا أو قلبا أو تعيينا بحسب اعتقاد (٩) المخاطب.

______________________________________________________

(١) أي من طرق القصر «التّقديم».

(٢) أي هذا التّفسير يشمل تقديم بعض معمولات الفعل على بعض كتقديم المفعول على الفاعل دون الفعل ، مع أنّه لا يفيد الحصر على ما هو الرّاجح ، فالأولى الإتيان بقيد غير ، بأن يقال : أي تقديم ما حقّه التّأخير غير تقديم بعض معمولات الفعل على بعض ، واحترز بقوله : «ما حقّه التّأخير» عمّا يجب تقديمه لصدارته كأين ومتى مثلا.

(٣) أي لأنّ المثال المذكور لا يصلح مثالا للجميع ، أي لقصر القلب والتّعيين والإفراد.

(٤) كما إذا اعتبرنا في النّسب طرف الأب فقطّ ، كما هو المعروف إذ لا يمكن أن يوجد شخص كان جدّه الأعلى قيسيّا وتميميّا معا.

(٥) إذ يشترط فيه عدم تنافي الوصفين ، وهما متنافيان في المثال.

(٦) أي وإن لم يتنافيا كما إذا اعتبرنا في النّسب طرف الأمّ أيضا ، إذ عندئذ يمكن أن يوجد شخص كان جدّه الأعلى من جانب الأمّ قيسيّا ، ومن جانب الأب تميميّا أو بالعكس ، لم يصلح المثال المذكور مثالا لقصر القلب لأنّه قد اعتبر فيه تنافي الوصفين وهو منتف.

(٧) قوله : «بل للإفراد» موجود في بعض النّسخ.

(٨) أي تقديم أنا في هذا المثال يكون من باب تقديم ما حقّه التّأخير على مذهب السّكّاكي القائل بأنّ أصله كفيتك أنا فقدّم أنا للتّخصيص ، وجعل مبتدأ ، لأنّه يرى أنّ تقديم الفاعل المعنوي وهو التّأكيد للاختصاص ، والمصنّف لم يرتضه فليس فيه عنده تقديم ما حقّه التّأخير ، وإن أفاد التّخصيص ، لأنّ تقديم المسند إليه على المسند الفعليّ يفيد الحصر عنده ، فإذا التّمثيل به على زعم الشّارح من تقييد التّقديم بما حقّه التّأخير ليس مستقيما.

(٩) الأولى أن يقول : بحسب ما عند المخاطب ، لأنّ المخاطب في قصر التّعيينلا اعتقاد له ، بل هو شاكّ.

٣٣٤

[وهذه الطّرق] الأربعة (١) بعد اشتراكها (٢) في إفادة القصر [تختلف من وجوه ، فدلالة (٣) الرّابع] أي التّقديم [بالفحوى] أي بمفهوم (٤) الكلام ، بمعنى أنّه إذا تأمّل صاحب (٥) الذّوق السّليم فيه فهم منه القصر ، وإن لم يعرف اصطلاح البلغاء ، في ذلك (٦) [و] دلالة الثّلاثة [الباقية بالوضع (٧)]

______________________________________________________

والحاصل إنّ قوله : «أنا كفيت مهمّك» بمعنى وحدي قصر إفراد لمن اعتقد أنّك وغيرك كفيتما مهمّه ، وقصر قلب بمعنى أنا كفيت مهمّك لا غيري لمن اعتقد أنّ غيرك كفى مهمّه دونك.

(١) أي العطف وما وإلّا وإنّما والتّقديم.

(٢) أي الطّرق الأربعة.

(٣) أي هذا هو الوجه الأوّل من وجوه الاختلاف.

(٤) أي هذا مخالف لما اصطلحوا عليه ، فإنّهم يسمّون مفهوم المخالفة بدليل الخطاب ، ومفهوم الموافقة بفحوى الخطاب ، فيقولون إنّ فحوى جملة (تَقُلْ لَهُما أُفٍ) هو لا تضرب ولا تشتم ، ودليل جملة إن جاءك زيد فأكرمه ، هو إن لم يجئك فلا تكرمه ، والمراد بالفحوى في المقام ليس مفهوم الموافقة ، بل ليس مفهوم المخالفة أيضا ، وإنّما المراد به ما يدلّ عليه الكلام المشتمل على التّقديم في عرف البلغاء ، وهو سرّ التّقديم وملاكه ، فإنّ مثل هذا الكلام إذا صدر من بليغ يدلّ على أنّ في التّقديم سرّا ، إذ البليغ لا يقدم على خلاف ما مقتضى الجري الطّبيعيّ من دون نكتة.

(٥) أي الكلام المشتمل على التّقديم لا يدلّ على القصر ابتداء ، بل يدلّ على حسب الذّوق السّليم ، إذ يدرك بالذّوق السّليم أنّ للتّقديم سرّا وملاكا ، ثمّ يدلّ على القصر ، لأنّ سرّ التّقديم ليس إلّا الحصر ، فيكون التّقديم للحصر.

(٦) أي في كون التّقديم مفيدا للحصر.

(٧) لا يقال : إنّ هذه الثّلاثة إذا كانت دلالتها على القصر بالوضع ، لم يكن البحث عنها من وظيفة هذا الفنّ ، لأنّه باحث عن الخصوصيّات والمزايا الزّائدة على المعاني الوضعيّة.

لأنّا نقول : إنّ هذه الثّلاثة وإن كانت دلالتها على الحصر بالوضع إلّا أنّ أحوال القصر من كونه قلبا أو تعيينا أو إفرادا ، إنّما تستفاد منها بمعونة المقام ، وهي المقصودة في هذا العلم

٣٣٥

لأنّ الواضع وضعها لمعان تفيد القصر [والأصل] أي الوجه الثّاني من وجوه الاختلاف إنّ الأصل (١) [في الأوّل] أي طريق (٢) العطف [النّصّ على المثبت (٣) والمنفيّ (٤) كما مرّ (٥) ، فلا يترك] النّصّ عليهما. [إلّا كراهة الإطناب (٦) ، كما إذا قيل (٧) : زيد يعلم

______________________________________________________

دون ما استفيد منها بمجرّد الوضع.

أو يقال : إنّ هذه الثّلاثة لم توضع للقصر ، بل إنّما وضعت لمعان يجزم العقل عند ملاحظة تلك المعاني بالقصر ، ومراد المصنّف بقوله : «بالوضع» ليس أنّها وضعت له ، بل مراده ما ذكرناه من أنّها تدلّ عليه بسبب وضعها لمعان يجزم العقل بالتّأمّل فيها على القصر ، وإليه أشار الشّارح بقوله : «لأنّ الواضع وضعها» أي لا ، وبل ، والنّفي والاستثناء ، وإنّما «لمعان تفيد القصر».

(١) أي الكثير.

(٢) أي إضافة الطّريق إلى العطف بيانيّة.

(٣) أي على الّذي أثبت له الحكم في قصر الصّفة على الموصوف ، أو على الّذي أثبت لغيره في قصر الموصوف على الصّفة.

(٤) أي النّصّ على المنفيّ ، أي الّذي نفى عنه الحكم في قصر الصّفة ، أو نفى عن غيره في قصر الموصوف.

(٥) أي الأمثلة ، فإنّ في نحو : زيد شاعر لا كاتب ، قد نصّ على المثبت لزيد ، وهو شاعر ، والمنفيّ عنه وهو كاتب ، وفي نحو : ما زيد كاتبا بل شاعر ، فقد نصّ على المنفيّ عن زيد ، وهو كاتب ، وعلى المثبت له ، وهو شاعر ، كما في الأوّل.

غاية الأمر إنّ المنفيّ هنا هو الأوّل ، والمثبت هو الثّاني ، وكان الأمر في الأوّل العكس.

(٦) أي لأجل كراهة التّطويل لغرض من الأغراض ، كضيق المقام أو قصد الإبهام ، أو تأتّي الإنكار لدى الحاجة إليه عند عدم التّنصيص أو استهجان ذكر المتروك صريحا.

(٧) أي قيل عند إرادة إثبات صفات لموصوف واحد.

٣٣٦

النّحو والصّرف والعروض ، أو (١) زيد يعلم النّحو وعمرو وبكر ، فتقول فيهما] أي في هذين المقامين (٢) [زيد يعلم النّحو لا غير] أمّا في الأوّل (٣) فمعناه لا غير النّحو ، أي لا الصّرف ولا العروض ، وأمّا في الثّاني (٤) فمعناه لا غير زيد ، أي لا عمرو ولا بكر ، وحذف المضاف إليه من غير ، وبني هو على الضّمّ (٥) تشبيها بالغايات (٦) ، وذكر بعض (٧) النّحاة أنّ لا في لا غير ليست (٨) عاطفة ، بل لنفي الجنس (٩)

______________________________________________________

(١) أي أو قيل عند إرادة إثبات صفة واحدة لجماعة من الموصوفين.

(٢) أي مقام قصر الموصوف على الصّفة ، وقصر الصّفة على الموصوف.

(٣) أي أمّا لا غير «في الأوّل» أعني زيد يعلم النّحو ... فيكون من قصر الموصوف على صفة واحدة من الصّفات الّتي أثبتها المخاطب له ، ثمّ إنّ غير النّحو ليس نصّا في نفي التّصريف والعروض ، فيكون المنفيّ متروك النّصّ ، إلّا أنّ لا غير قائم مقام لا التّصريف ، ولا العروض فيكون بمنزلة النّصّ.

(٤) أي أمّا لا غير في الثّاني «فمعناه لا غير زيد ، أي لا عمرو ولا بكر» فيكون من قصر الصّفة على واحد ممّن أثبت لهم المخاطب من الموصوفين.

(٥) أي بني غير على الضّمّ لقطعه عن الإضافة.

(٦) أي مثل قبل وبعد ، وسمّيّت بذلك لأنّ الغاية في الحقيقة ما بعدها الّذي هو المضاف إليه المحذوف ، لكن لمّا حذف ونوي معناه وأدّي بذلك الظّرف سمّي غاية من باب تسمية المضاف باسم المضاف إليه.

ثمّ وجه الشّبه بين غير وبين قبل وبعد ، وهما من الغايات هو حذف المضاف إليه من غير ، كما يحذف من الغايات ، وبعد حذف المضاف إليه كان غير مبهما مثلها ، وصار مشابها لها من جهة الإبهام ، وبتلك المشابهة صار مبنيّا على الضّم مثل الغايات.

(٧) أي وهو نجم الأئمّة الرّضي ، وهذا إيراد على عدّ المصنّف لها من طرق القصر.

(٨) أي لأنّ العاطفة ينصّ معها على المثبت والمنفيّ جميعا ، وهنا ليس الأمر كذلك ، فلا تكون عاطفة.

(٩) أي وعلى هذا القول ، فالقصر حاصل نظرا للمعنى ، لأنّ معنى زيد شاعر لا غير ما زيد إلّا شاعر ، فيرجع إلى النّفي والاستثناء ، وحينئذ فما في كلام البعض من أنّ نحو لا غير

٣٣٧

[أو نحوه] أي نحو لا غير (١) مثل لا ما سواه (٢) ، ولا من عداه (٣) ، وما أشبه ذلك (٤) [و] الأصل [في] الثّلاثة [الباقية (٥) النّصّ على المثبت فقطّ] دون المنفيّ ، وهو ظاهر.

______________________________________________________

طريق آخر للقصر على هذا القول وهم ، ثمّ إنّ غير على هذا القول في محلّ نصب على أنّه اسم لا ، والخبر محذوف أي لا غيره عالم في قصر الصّفة أو لا غيره معلوم له في قصر الموصوف.

والحاصل إنّ لا الّتي بينى ما بعدها عند القطع عن الإضافة ، هل هي لا العاطفة أو الّتي لنفي الجنس خلاف ، وكلاهما يفيد القصر فلو جعل الطّريق الأوّل النّفي بلا مطلقا ، أي سواء كانت عاطفة أو لنفي الجنس كان أولى.

(١) أي التّفسير يكون لبيان أنّ مرجع الضّمير في «نحوه» هو «لا غير» أي نحو لا غير ، وحيث أرجع الشّارح الضّمير إلى لا غير علم أنّ نحوه منصوب لعطفه على المنصوب بناء على أنّ جزء المقول له محلّ أو يقدّر لنحوه عامل ، أي أو تقول : نحوه ، ويكون من عطف الجمل.

(٢) أي راجع إلى الأوّل ، أي زيد يعلم النّحو ، لا ما سوى النّحو.

(٣) أي راجع إلى الثّاني ، أي زيد يعلم النّحو لا من عداه ، أي لا عمرو ولا بكر ، ولهذا أتى في الأوّل بكلمة الكائنة لغير ذوي العقول.

(٤) أي نحو ليس غير ، وليس إلّا.

(٥) أي وهي ما وإلّا وإنّما ، والتّقديم هو «النّصّ على المثبت فقطّ» أي المثبت له الحكم في قصر الصّفة ، والمثبت لغيره في قصر الموصوف ، فتقول في ما وإلّا في قصر الصّفة ما قائم إلّا زيد ، فقد نصصت على الّذي أثبت له القيام ، وهو زيد ، ولم تنصّ على الّذي نفى عنه ، وهو عمرو مثلا ، وتقول في قصر الموصوف ما زيد إلّا قائم ، فقد نصصت على الّذي أثبت ، وهو القيام لغيره ، وهو زيد ، ولم تنصّ على الّذي انتفى عن ذلك الغير ، وهو القعود مثلا ، وتقول في إنّما في قصر الصّفة : إنّما قائم زيد ، وفي قصر الموصوف : إنّما زيد قائم ، وتقول في التّقديم في قصرها : أنا كفيت مهمّك ، أي لا عمرو ، وفي قصر الموصوف : زيدا ضربت أي لا عمرا ، بمعنى إنّي اتّصفت بضرب زيد لا بضرب عمرو ، فقد ظهر لك أنّ الطّرق الثّلاثة لا ينصّ فيها إلّا على المثبت ، وإذا نصّ في شيء منها على المنفيّ كان خروجا عن الأصل ، كقولك : ما أنا قلت هذا ، لأنّ المعنى لم أقله لأنّه مقول لغيري ، والأوّل منصوص ، والثّاني

٣٣٨

[والنّفي] أي الوجه الثّالث من وجوه الاختلاف أنّ النّفي بلا العاطفة (١) [لا يجامع الثّاني] أعني النّفي والاستثناء ، فلا يصحّ ما زيد إلّا قائم لا قاعد ، وقد يقع مثل ذلك (٢) في كلام المصنّفين (٣) لا في كلام البلغاء ، [لأنّ (٤) شرط المنفيّ بلا العاطفة (٥) أن لا يكون] ذلك المنفيّ [منفيّا قبلها بغيرها] من أدوات النّفي (٦)

______________________________________________________

مفهوم ، وكقولك : ما زيدا ضربت ، فإنّ المعنى لم أضربه ، وضربه غيري ، فقد ترك الأصل في هذين المثالين إذ المقصود قصر الفعل على غير المذكور لا قصر عدم الفعل على المذكور ، فيكون النّصّ بما ينفى لا بما يثبت ، فترك الأصل.

(١) أي المقصود من النّفي هو النّفي بلا العاطفة بقرينة دليله الآتي ، وهو قوله : «لأنّ المنفيّ بلا العاطفة».

(٢) أي مثل ما زيد إلّا قائم لا قاعد ، أي مجامعة لا العاطفة مع ما وإلّا.

(٣) أي قد يقع في كلام المصنّفين الّذين لا يستشهد بكلامهم لا في كلام البلغاء الّذين يستشهد بكلامهم ، هذا تعريض على الزّمخشري حيث قال في الكشّاف في تفسير قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي لأنّ الأصلح لك لا يعلمه إلّا الله لا أنت.

(٤) علّة لعدم المجامعة.

(٥) أي شرط صحّة نفيه بها.

(٦) أي لا يكون منفيّا بغير شخصها ، وهذا الغير هو ما يفيد النّفي صريحا من الأدوات الموضوعة له ، وهذا صادق على ما إذا كان غير منفيّ أصلا ، وعلى ما إذا كان منفيّا بغير أدوات النّفي كالفحوى ، أو علم السّامع أو علم المتكلّم أو شيء من الأفعال الدّالّة على النّفي ضمنا كأبى وامتنع.

وكيف كان فالمنطوق شامل لفرضين والمفهوم له صورة واحدة ، وهي محلّ الامتناع أعني ما إذا كان المنفيّ بها منفيّا قبلها بغير شخصها من أدوات النّفي مثل ما وليس ولا الّتي لنفي الجنس ولا العاطفة الأخرى المماثلة بلا الّتي وقع بها النّفي في النّوع ، وإن كنت مغايرة لها بالشّخص ، فلا يصحّ قام القوم لا النّساء لا هند ، لأنّ هند منفيّة في ضمن النّساء بغير شخص لا الّتي نفيتها بها ، قوله : «من أدوات النّفي» تخصيص للغير لشموله كلّ غير ينفى به ، وليس الأمر كذلك ، فإنّه لا مانع من كون المنفيّ بلا منفيّا قبلها بالفحوى ، وبنحو أبى وامتنع

٣٣٩

لأنّها (١) موضوعة لأن تنفى بها ما أوجبته للمتبوع لا لأن تعيد بها النّفي في شيء قد نفيته (٢) ، وهذا الشّرط (٣) مفقود في النّفي والاستثناء ، لأنّك إذا ما زيد إلّا قائم ، فقد نفيت عنه (٤) كلّ صفة وقع فيها التّنازع (٥) حتّى كأنّك (٦) ليس هو بقاعد ولا

______________________________________________________

وكفّ.

(١) أي لا العاطفة «موضوعة» أي بحكم الاستقراء والنّقل من الثّقاة العارفين باللّغة «لأن تنفى بها ما أوجبته للمتبوع» أي لأن تنفى بها ما أثبتّه للمتبوع هذا ظاهر في قصر الصّفة على الموصوف مثل جاء زيد لا قاعد ، فإنّك نفيت بلا عن عمرو المجيء الّذي أوجبته لزيد ، ومشكل في قصر الموصوف على الصّفة نحو : زيد قائم لا قاعد ، فإنّ المنفيّ بها القعود ، ولم يثبت للمتبوع الّذي هو قائم كما هو ظاهر.

وأجيب :

بأنّ المراد بما أوجبته للمتبوع المحكوم به أو الثّبوت للمحكوم عليه ، ففي المثال المذكور المتبوع وهو قائم أوجبت له الثّبوت للمسند إليه ، وقد نفيت بها هذا الثّبوت عن التّابع وهو قاعد ، لأنّ معنى زيد قائم لا قاعد ، أنّ زيدا محكوم عليه بالقيام ، وليس محكوما عليه بالقعود ، بل هو منفيّ عنه.

(٢) أي فلا يصحّ ما جاءني إلّا زيد لا عمرو.

(٣) أي عدم كون المنفيّ بها منفيّا قبلها بغيرها «مفقود في النّفي والاستثناء».

(٤) أي عن زيد ، نفيت بلفظ ما كلّ صفة وقع فيها التّنازع كالقعود والنّوم ونحوهما.

(٥) أي من المعلوم أنّ الصّفة الّتي تنفيها بعد هذا بلا ، يجب أن تكون ممّا وقع فيها النّزاع ، لأنّ المقصود من ذكر لا هو التّأكيد.

(٦) أي أتى بكأنّ ، لأنّ هذا القول ليس بمحقّق لما عرفت من أنّ الأصل في الثّلاثة الأخيرة عدم التّصريح بالمنفيّ.

٣٤٠