دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

[والمراد بالصّفة ههنا الصّفة المعنويّة] أعني (١) المعنى القائم بالغير [لا النّعت (٢)] النّحوي

______________________________________________________

السّبعة ثمانية وعشرون قسما ، هذا تمام الكلام في أقسام القصر إذا كان حقيقيّا.

والثّاني : أي الإضافيّ إمّا قصر الموصوف على الصّفة ، وإمّا قصر الصّفة على الموصوف ، وعلى كلا التّقديرين الكلام المفيد له إمّا مسوق لردّ اعتقاد الشّركة وإمّا مسوق لردّ اعتقاد العكس ، وإمّا مسوق لرفع التّردّد ، والمجموع الحاصل من ضرب الاثنين في الثّلاثة ستّة أقسام ، وعلى جميع التّقادير الطّريق المفيد له ، هي سبعة كما علمت ، ثمّ المجموع الحاصل من ضرب السّتّة في السّبعة (٤٢) قسما ، فمجموع هذه الأقسام مع الأقسام السّابقة هي سبعون قسما.

(١) تفسير الشّارح إشارة إلى أنّ المراد بالمعنويّة ما يقابل الذّاتّ من المعنى القائم بالغير ، وليس المراد هو المعنى مقابل اللّفظ ، ثمّ هذا المعنى قد يدلّ عليه بلفظ اسم الفاعل ، وما شابه ذلك من الصّفات المشتقّة ، ويدلّ عليه بلفظ الفعل ، كقولنا : ما زيد إلّا يقوم ، وقد يدلّ عليه بلفظ اسم الجنس ، كقولنا : ما زيد إلّا الرّجل ، فإنّ الرّجوليّة صفة معنويّة قائمة بالغير يدلّ عليها لفظ الرّجل.

(٢) ليس المراد نفي النّعت النّحويّ فقطّ ، بأن يكون التّعبير لا النّعت النّحويّ فقطّ ، بل ما هو أعمّ منه ومن غيره ، ولا يصحّ أن يكون المراد بالصّفة أعمّ من النّعت النّحويّ ، لأنّ النّعت النّحويّ لا يقع في شيء من طرق القصر ، فلا يعطف ولا يقع بعد إلّا ولا بعد إنّما ولا يتقدّم ولا يتوسّط بينه وبين منعوته ضمير الفصل ، وليس مسندا ولا مسندا إليه حتّى يقصد بتعريفه بلام الجنس أو الاستغراق القصر ، بل المراد به نفي النّعت النّحويّ بالكلّيّة ، بمعنى أنّه لا تصحّ إرادته في باب القصر ، إذ لا يتأتّى قصره بطريق من طرقه ، ولا ينافي هذا قول الشّارح حيث قال : «وبينهما عموم من وجه» لأنّ مراده بيان النّسبة بينهما في حدّ ذاتهما ، وفي نفس الأمر مع قطع النّظر عن هذا الباب.

٣٠١

أعني (١) التّابع الّذي يدلّ على معنى في متبوعه غير الشّمول وبينهما (٢) عموم من وجه لتصادقهما في مثل : أعجبني هذا العلم وتفارقهما في مثل (٣) العلم حسن ، ومررت بهذا الرّجل (٤) ، وأمّا نحو قولك (٥) : ما زيد إلّا أخوك ، وما الباب إلّا ساج ، وما هذا إلّا زيد ، فمن قصر الموصوف على الصّفة تقديرا ، إذ المعنى أنّه مقصور على الاتّصاف بكونه أخا أو ساجا أو زيدا.

______________________________________________________

(١) أي فسّر الشّارح النّعت النّحويّ بأنّه هو التّابع الّذي يدلّ على معنى في متبوعه غير الشّمول كالعالم في قولك : جاءني زيد العالم ، فقد دلّ العالم على معنى هو العلم في متبوعه ، وهو زيد ، واحترز بغير الشّمول عن نحو كلهم في قولك : جاء القوم كلهم ، وهو التّأكيد ، وخرج بالدّلالة على المعنى في المتبوع البدل ، وعطف البيان ، والتّأكيد الّذي ليس للشّمول لأنّها كلها لا تدلّ على المعنى في المتبوع ، لأنّها نفسه.

(٢) أي بين الصّفة المعنويّة المراد هنا ، والنّعت النّحويّ عموم من وجه لتصادقهما على العلم في قولنا : أعجبني هذا العلم ، فإنّ العلم نعت لاسم الإشارة عند بعض النّحويّين ، وأنّه معنى قائم بغيره ، فمعنى تصادقهما هو تحقّقها في مورد لا الحمل.

(٣) مثال لافتراق المعنويّة ، فإنّ في مثل العلم حسن ، صفة معنويّة ، ولا يكون نعتا نحويّا لأنّه مبتدأ.

(٤) مثال لافتراق النّعت ، فإنّ الرّجل صفة لاسم الإشارة ، ولم يدلّ على معنى قائم بالغير بالنّظر إلى أصله ، فلا يكون صفة معنى.

(٥) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره : إنّكم قلتم : إنّ القصر له نوعان : قصر الموصوف على الصّفة ، وقصر الصّفة على الموصوف ، وهذا منقوض بنحو : ما زيد إلّا أخوك ، وما الباب إلّا ساج ، وما هذا إلّا زيد ، حيث إنّ القصر في هذه الأمثلة ليس من أحد النّوعين ، فإنّ كلا من المقصور والمقصور عليه فيها من الذّواتّ.

وحاصل الجواب : إنّها من قصر الموصوف على الصّفة تأويلا ، حيث إنّ المراد بهذه الأمثلة قصر المسند إليه على اتّصافه بكونه أخا أو ساجا أو زيدا ، فإذا يصحّ ما ذكرناه من أنّ القصر نوعان.

٣٠٢

[والأوّل] أي قصر الموصوف على الصّفة [من الحقيقيّ (١) نحو : ما زيد إلّا كاتب إذا أريد أنّه لا يتّصف بغيرها (٢)] أي غير الكتابة من الصّفات [وهو (٣) لا يكاد يوجد لتعذّر الإحاطة بصفات الشّيء] حتّى (٤) يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلّيّة ، بل (٥)

______________________________________________________

(١) قوله : «من الحقيقيّ» حال من الأوّل ، أي النّوع الأوّل حال كونه من الحقيقيّ ، فإنّ الصّحيح هو صحّة وقوع الحال من المبتدأ والخبر ، ولا وجه لاشتراط كون صاحب الحال فاعلا أو مفعولا.

(٢) هذا قيد في المثال ، أي هذا المثال إنّما يكون من الحقيقيّ إذا أريد أنّ زيدا لا يتّصف بغيرها ، أي بكلّ مغاير لها من الصّفات ، وأمّا إذا أريد أنّه يتّصف بالكتابة لا بمقابلها فقطّ ، كالشّعر مثلا ، كان القصر في المثال من القصر الإضافيّ.

(٣) أي قصر الموصوف على الصّفة «لا يكاد» معناه «يوجد» حقيقة من البليغ المتحرّي للصّدق ، وغير قاصد للمبالغة ، وإنّما قلنا ذلك لأنّه كثيرا ما يقع في كلامهم عند قصد المبالغة أو عند عدم التّحرّي للصّدق ، وعدم المبالاة بالكذب.

ثمّ إنّ لفظ «لا يكاد» يعبّر عنه تارة عن قلّة وجود الشّيء ، فيقال : لا يكاد يوجد بمعنى أنّه لا يوجد إلّا نادرا تنزيلا للنّادر منزلة الّذي لا يقارب الوجود مبالغة.

وتارة يعبّر به عن نفي الوقوع والبعد عنه ، أي لا يقرب ذلك الشّيء إلى الوجود أصلا ، وهذا الثّاني هو المناسب لقوله : «لتعذّر الإحاطة» بصفات الشّيء عادة ، لأنّه إذا تعذّر للمخلوق الإحاطة بصفات الشّيء لا يصحّ أن يأتي به قاصدا لمعناه الحقيقيّ ، وذلك لعدم تمكّنه حينئذ من الاحتراز عن الكذب. إذ ما من موجود إلّا ويكون له صفات يتعذّر الإحاطة بها ، وهذا القصر متضمّن لنفي جميع ما عدا الوصف عن هذا الموصوف الموقوف على الإحاطة المتعذّرة ، لأنّ العاقل لا يحيط بأوصاف نفسه لا سيّما الباطنيّة والاعتباريّة ، فكيف بأوصاف غيره!

(٤) لفظة «حتّى» ليست للغاية بل تعليليّة ، والمعنى ليست الإحاطة بجميع صفات الشّيء ممكنة ليثبت له شيء منها ، وينفي عنه ما عداه.

(٥) إضراب انتقال عن التّعذّر العادّي إلى التّعذّر العقليّ ، فلا يرد عليه بأنّه لا وجه لهذا الإضراب ، لأنّ قول المصنّف : «لا يكاد يوجد» يفيد المحاليّة ، وجه عدم الورود أنّ ما ذكره

٣٠٣

هذا (١) محال ، لأنّ للصّفة المنفيّة نقيضا ، وهو (٢) من الصّفات الّتي لا يمكن نفيها ضرورة امتناع ارتفاع النّقيضين ، مثلا إذا قلنا : ما زيد إلّا كاتب ، وأردنا أنّه لا يتّصف بغيره لزم أن لا يتّصف بالقيام ولا بنقيضه (٣) وهو (٤) محال. [والثّاني] أي قصر الصّفة على الموصوف من الحقيقيّ (٥) [كثير (٦) نحو : ما في الدّار إلّا زيدا] على معنى أنّ الحصول (٧) في الدّار المعيّنة (٨) مقصور على زيد.

______________________________________________________

المصنّف ناظر إلى الاستحالة العاديّة ، وما ذكره الشّارح ناظر إلى الاستحالة العقليّة ، فحينئذ لا يكون الإضراب لغوا.

(١) أي قصر الموصوف على الصّفة قصرا حقيقيّا محال.

(٢) أي ونقيض الصّفة المنفيّة عن الشّيء صفة له أيضا ، ولا يمكن نفيها عنه ، لأنّ نفيها عنه مستلزم لارتفاع النّقيضين عن محلّ واحد ، وهو محال كاجتماع النّقيضين.

والحاصل إنّ لكلّ صفة منفيّة نقيضا ، وهو أيضا من الصّفات ، فإذا نفى جميع الصّفات غير صفة واحدة مثلا يلزم ارتفاع النقيضين مثلا ، إذا قلنا : ما زيد إلّا كاتب ، وأردنا أنّه لا يتّصف بغير الكتابة أصلا من الصّفات الوجوديّة والعدميّة لزم أن لا يتّصف بالقيام ولا بعدمه ، ولا بالشّعر ولا بعدمه ، ولا بالحركة ولا بنقيضها ، وهكذا ، فيلزم ما ذكرناه من ارتفاع النّقيضين ، وهو مستحيل عقلا كاستحالة اجتماع النّقيضين.

(٣) أي القعود المستلزم لنفي القيام ، أو عدم القيام الصّادق على الجلوس وغيره.

(٤) أي عدم الاتّصاف بالقيام ونقيض القيام محال لكونه من ارتفاع النّقيضين ، وهو في الاستحالة كاجتماع النّقيضين.

(٥) أي من القصر الحقيقيّ في مقابل القصر الإضافيّ.

(٦) أي شائع وقوعه في الكلام إذ لا يتعذّر معرفة انحصار صفة معيّنة في موصوف معيّن كمعرفة انحصار الكينونة في الدّار في زيد مثلا.

(٧) أي حصول إنسان لا حصول مطلق شيء ، فلا يرد أنّ الدّار لا تخلو عن شيء غير زيد ، أقله الهواء.

(٨) أي إنّما قيّد الدّار بكونها معيّنة ، لأنّ صحّة القصر تتوقّف على كونها معيّنة ، إذ حينئذ صحّ أن تحصر هذه الصّفة ، وهو الكون فيها في زيد ، بحيث لا يكون فيها غيره أصلا ، وأمّا

٣٠٤

[وقد يقصد به (١)] أي بالثّاني [المبالغة لعدم الاعتداد بغير المذكور (٢)] كما يقصد بقولنا : ما في الدّار إلّا زيد ، إنّ جميع من في الدّار ممّن عدا زيدا ، في حكم العدم ، فيكون قصرا حقيقيّا ادّعائيّا (٣).

______________________________________________________

لو أريد مطلق الدّار لم يصحّ حصر الكون في مطلق زيد ، إذ لا بدّ من كون غير زيد في دار ما ، وكيف كان فالأولى التّمثيل بنحو : لا إله إلّا الله ، وما خاتم الأنبياء إلّا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(١) أي رجوع الضّمير المجرور إلى القسم الثّاني من الحقيقيّ كما اختاره الشّارح أنسب وأقرب بحسب اللّفظ ورجوعه إلى الحقيقيّ مطلقا أصحّ وأشمل بحسب المعنى والفائدة لتناوله قسميّ الحقيقيّ معا ، إذ قصر الموصوف على الصّفة قصرا حقيقيّا مبالغة وادّعاء موجود قطعا ، بخلاف قصره عليها حقيقيّا تحقيقيّا ، فإنّه لا يكاد يوجد إلّا في فرض عدم التّحرّز من الكذب ، وقيل : إرجاع الضّمير إلى مطلق القصر أشمل ، إذ لا مانع من اعتبار المبالغة والادّعاء في القصر الإضافيّ ، اللهمّ إلّا أن يقال : لم يقع مثله في كلام البلغاء ، وإن جاز عقلا.

(٢) كما إذا كان المقام مقام مدح المذكور ، كما إذا وجد علماء في البلد ، وأريد المبالغة في كمال صفة العلم في زيد ، فينزّل غير زيد منزلة من انتفت عنه صفة العلم ، لعدم كمالها فيه ، فيقال : لا عالم في البلد إلّا زيد.

(٣) الظّاهر إنّ إطلاق لفظ الحقيقيّ على مثل هذا القصر مجاز ، لأنّ الحقيقة ما يكون مطابقا لنفس الأمر ، والقصر في المقام ليس مطابقا له ، فإطلاق الحقيقيّ عليه مجاز مبتني على التّشبيه ، حيث إنّه يشابه القصر المطابق للواقع في كونه ناظرا إلى جميع ما عدا المقصور عليه.

كما أنّ الكلام المفيد له مشتمل على المجاز في الإسناد ، لأنّه إذا قيل : لا عالم في البلد إلّا زيد على وجه حصر العلم فيه ، ونفيه عن غيره لعدم الاعتداد بالعلم في ذلك الغير ، فنفي العلم عن غير زيد الّذي تضمّنه هذا الحصر ليس كذلك في نفس الأمر ، وإنّما نسب ذلك النّفي إلى الغير بكونه بمنزلة المتّصف بالنّفي لضعف الإثبات فيه ، ونسبة الشّيء إلى غير من هو له مجاز عقليّ.

٣٠٥

وأمّا (١) في القصر الغير الحقيقيّ فلا يجعل فيه غير المذكور بمنزلة العدم ، بل يكون المراد أنّ الحصول في الدّار مقصور على زيد بمعنى أنّه ليس حاصلا لعمرو ، وإن كان حاصلا لبكر وخالد.

______________________________________________________

(١) أي هذا الكلام من الشّارح إشارة إلى الفرق بين القصر الإضافيّ والقصر الحقيقيّ الادّعائيّ ، وتوضيح ذلك : إنّ أقسام القصر أربعة :

١ : القصر الحقيقيّ على وجه الحقيقة.

٢ : الحقيقيّ على وجه المبالغة.

٣ : الإضافيّ على وجه الحقيقة.

٤ : الإضافيّ على وجه المبالغة.

ثمّ الفرق بين الحقيقيّين واضح لا يحتاج إلى بيان ، لأنّ الأقسام الثّلاثة أعني قصر الإفراد والقلب والتّعيين المتصوّرة بحسب ردّ اعتقاد المخاطب لا تجري في القصر الحقيقيّ وتجري في الإضافة على وجه الحقيقة.

وكذلك الفرق بين الحقيقيّ الادّعائيّ والإضافيّ الادّعائي واضح حيث إنّ الأوّل يجعل فيه ما عدا المذكور بمنزلة المعدوم ، والثّاني يجعل فيه ما يكون القصر بالإضافة إليه منزلة المعدوم كالمثال المذكور إذا قصد أنّ الحصول في الدّار مقصور على زيد ، لا يتجاوزه إلى عمرو ، وجعل عمرو بمنزلة العدم ، فالأوّل ينزّل فيه جميع من سوى زيد بمنزلة العدم ، والثّاني ينزّل فيه بعض من سواه ، وهو ما يكون القصر بالإضافة إليه منزلة العدم.

وإنّما الكلام في الفرق بين القصر الحقيقيّ على وجه المبالغة والادّعاء ، وبين القصر الإضافيّ على وجه الحقيقة ، والفرق بينهما دقيق ، كثيرا ما يلتبس أحدهما بالآخر ، والفرق بينهما يمكن لأحد أمرين :

الأوّل : إنّ الحقيقيّ الادّعائي مبنيّ على المبالغة ، والتّنزيل ، فإذا ما في الدّار إلّا زيد ، وأردت لا غيره ، وكان فيها غيره ، ونزّلته منزلة العدم كان القصر حقيقيّا ادّعائيّا ، وإن أردت لا عمرو ، وكان فيها بكر وخالد أيضا كان القصر إضافيّا على وجه الحقيقة.

الثّاني : إنّه لا يشترط في الحقيقيّ مطلقا اعتقاد المخاطب على أحد الوجوه الثّلاثة في الإفراد والقلب والتّعيين.

٣٠٦

[والأوّل] أي قصر الموصوف على الصّفة [من غير الحقيقيّ (١) تخصيص أمر (٢) بصفة دون] صفة [أخرى أو مكانها] أي تخصيص أمر بصفة مكان صفة أخرى (٣). [والثّاني] أي قصر الصّفة على الموصوف من غير الحقيقيّ [تخصيص صفة بأمر دون] أمر [آخر (٤) أو مكانه] وقوله : دون أخرى (٥) معناه متجاوزا عن الصّفة الأخرى ،

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : تأتي الأقسام الثّلاثة أعني الإفراد والقلب والتّعيين في الإضافيّ دون الحقيقيّ ، وكلام الشّارح ظاهر في الأمر الأوّل.

(١) أي حال كون الأوّل من غير الحقيقيّ ، أو الأوّل الكائن منه ، فهو حال من المبتدأ ، أعني «الأوّل» أو صفة له ، ويعلم من كلام المصنّف عدم جريان الانقسام إلى الإفراد والقلب والتّعيين في القصر الحقيقيّ ، بل هي مختصّة بالقصر الإضافيّ.

(٢) أي الموصوف كزيد ، أي تخصيص المتكلّم موصوفا بثبوت صفة له حال كونه متجاوزا عن صفة أخرى ، وتاركا لها ، فالباء داخلة على المقصور عليه ، وكلمة «دون» بمعنى متجاوزا حال عن فاعل المصدر ، فإنّ المحذوف كالمذكور.

(٣) هذا قصر القلب ، وما قبله قصر الإفراد ، وأمّا قصر التّعيين فهو داخل في قوله : «أو مكانها» على صنيعة المصنّف ، وفيما قبله على صنيعة السّكّاكي ، وسيأتي من الشّارح ترجيح طريقة صاحب المفتاح على طريقة المصنّف ، ثمّ إنّ قوله : «أو مكانها» عطف على «دون صفة أخرى» ومنصوب على الظّرفيّة للحال المقدّر ، أي واضعا مكانها.

(٤) إشارة إلى قصر الإفراد ، «أو مكانه» إشارة إلى قصر القلب ، ولفظة «أو» في قوله : «أو مكانه» للتّنويع ، فلا ينافي التّعريف.

وبعبارة أخرى : لا يقال : بأنّ ذكر كلمة «أو» مخلّ بالتّعريف لأنّها منبئة عن الإبهام والإجمال ، والتّعريف لا بدّ أن يكون بلفظ موجب للتّوضيح والشّرح.

فإنّه يقال في الجواب : إنّ لفظة «أو» هنا للتّنويع لا للتّرديد ، فلا ينافي التّعريف ، وبعبارة أخرى : إنّها لتقسيم المحدود لا لتقسيم الحدّ ، وما ينافي التّعريف هو الثّاني دون الأوّل.

(٥) إنّما تعرّض الشّارح لبيان «دون أخرى» إشارة إلى توضيح أمرين :

الأوّل : إنّ المراد بقوله : «دون أخرى» أن يتجاوز المتكلّم الصّفة الأخرى ، ويتعرّض لنفيها لا أن يجعلها في معرض السّكوت ، إذ «دون أخرى» يصدق بالسّكوت عن تلك الصّفة ، وعدم

٣٠٧

فإنّ المخاطب اعتقد اشتراكه (١) في صفتين والمتكلّم يخصّصه بإحداهما ، ويتجاوز عن الأخرى ، ومعنى ـ دون ـ في الأصل أدنى مكان من الشّيء ، يقال : هذا دون ذاك ، إذا كان أحطّ (٢) منه قليلا ثمّ استعير (٣) للتّفاوت (٤) في الأحوال والرّتب ، ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ ، وتخطّي (٥) حكم إلى حكم ، ولقائل أن يقول : إن أريد بقوله : دون أخرى ، ودون آخر ، دون صفة واحدة أخرى ، ودون أمر واحد آخر ، فقد خرج عن ذلك (٦) ما إذا اعتقد المخاطب اشتراك ما فوق الاثنين ،

______________________________________________________

التّعرّض لنفيها أو ثبوتها ، وهو ليس بمراد ، فإنّ المراد التّعرّض لانتفائها.

والثّاني : إنّ «دون» بمعنى متجاوزا حال عن التّخصيص ، أي المتكلّم.

(١) أي في العبارة قلب ، والأصل اعتقد اشتراك صفتين فيه.

(٢) حاصله إنّ «دون» يستعمل في المكان المحسوس المنخفض بالنّسبة إلى مكان آخر انخفاضا يسيرا ، فيقال : هذا البيت دون ذلك البيت ، إذا كان أحطّ منه قليلا ، فهو في الأصل اسم مكان حسّيّ ، ثمّ استعمل في المكان المعنويّ من الأحوال والرّتب ، مع مراعاة أنّ صاحب هذا المكان أدنى وأخفض مرتبة من الآخر ، فيقال : زيد دون عمرو في الفضل.

فقوله : «أدنى مكان من الشّيء» أي مكان منخفض بالنّسبة إلى مكان آخر ، فإضافة «أدنى» إلى «مكان» من إضافة الصّفة إلى الموصوف والمراد به المكان المحسوس.

(٣) أي نقل ، أو المراد الاستعارة التّصريحيّة ، فتكون كلمة «دون» استعملت في المكان المعنويّ بالنّقل ، أو بالاستعارة من المكان الحسّيّ بعد تشبيه المكان المعنويّ به.

(٤) أي التّفاوت في المراتب المعنويّة تشبيها لها بالمراتب الحسّيّة حتّى صار استعماله فيه أكثر من الأصل.

(٥) أي تجاوز حكم إلى حكم ، وفي بعض النّسخ تحطّي بالحاء المهملة ، فيكون المعنى انحطاط حكم ، وانخفاضه عن حكم.

(٦) أي عن تفسير القصر الغير الحقيقيّ ، فقوله : «ولقائل أن يقول : «اعتراض على تعريف المصنّف بأنّه ليس جامعا ولا مانعا ، مع أنّ التّعريف لا بدّ أن يكون جامعا ومانعا.

وتوضيح الاعتراض : إنّ المصنّف إن اختار الشّقّ الأوّل من شقّي التّرديد المذكورين في كلام هذا القائل ، كان تعريفه غير جامع لخروج معظم أفراد القصر الإضافيّ ، وهو ما يكون لنفي

٣٠٨

كقولنا : ما زيد إلّا كاتب لمن (١) اعتقده كاتبا أو شاعرا أو منجّما ، وقولنا : ما كاتب إلّا زيد (٢) ، لمن اعتقد الكاتب زيدا وعمرا وبكرا ، وإن أريد الأعمّ من الواحد وغيره ، فقد دخل في هذا التّفسير القصر الحقيقيّ (٣) وكذا الكلام على مكان أخرى ومكان آخر (٤). [فكلّ منهما (٥)] أي فعلم من هذا الكلام (٦) ومن استعمال لفظة أو (٧) فيه أنّ

______________________________________________________

أكثر من صفة واحدة ، أو أمر واحد ، وإن اختار الشّقّ الثّاني كان تعريفه غير مانع لصدقه على القصر الحقيقيّ ، لأنّه تخصيص أمر بصفة دون سائر الصّفات ، وتخصيص صفة بأمر دون سائر الأمور.

(١) ناظر إلى قصر الموصوف على الصّفة ، ويكون القصر فيه قصر إفراد ، ومن باب تخصيص أمر بصفة.

(٢) هذا مثال لقصر الصّفة على الموصوف.

(٣) لأنّ القصر الحقيقيّ هو تخصيص أمر بصفة دون سائر الصّفات ، كما في قولك : ما زيد إلّا كاتب عند إرادة أنّه لا يتّصف بغير الكتابة أصلا ، فإنّ القصر حينئذ حقيقيّ ، وإن كان كاذبا.

والمتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ تعريف القصر لا يكون جامعا ولا مانعا.

(٤) أي من أنّه إن أريد مكان صفة واحدة أخرى ، أو مكان أمر واحد آخر يخرج منه ما إذا كان المخاطب اعتقد اشتراك الموصوف في اكثر من صفتين أو الصّفة في أكثر من موصوفين ، فلا يكون التّعريف جامعا ، لعدم شموله لمعظم أفراد المعرّف ، أي القصر الإضافيّ ، وإن أريد الأعمّ يدخل فيه القصر الحقيقيّ ، لأنّه يصدق عليه أنّه تخصيص أمر بصفة مكان سائر الصّفات ، وتخصيص صفة بأمر مكان سائر الأمور ، فلا يكون التّعريف مانعا.

(٥) أي هذا نتيجة لما تضمّنه التّعريف من التّنويع.

(٦) أي قوله : «تخصيص أمر بصفة دون أخرى».

(٧) أي من استعمال لفظة «أو» التّنويعيّة حيث قال : «أو مكانها ، أو مكانه» ثمّ عطف قوله : «ومن استعمال لفظة أو فيه» على قوله : «من هذا الكلام» من قبيل عطف تفسيريّ للمراد بالإضافة إلى قوله : «فعلم من هذا الكلام» ولا ينافي ذلك ما ذكره بعضهم من أنّه من عطف السّبب على المسبّب ، لأنّ سبب علم ما ذكر من ذلك الكلام استعمال «أو» التّنويعيّة فيه ، وذلك لعدم التّمانع والتّضادّ بين هذين القسمين من العطف ، وإنّما زاد ذلك للتّصريح بأنّ كلمة

٣٠٩

كلّ واحد من قصر الموصوف على الصّفة ، وقصر الصّفة على الموصوف [ضربان (١)] الأوّل (٢) التّخصيص بشيء دون شيء ، والثّاني التّخصيص بشيء مكان شيء [والمخاطب بالأوّل من ضربيّ كلّ (٣)] من قصر الموصوف على الصّفة ، وقصر الصّفة على الموصوف ،

______________________________________________________

«أو» في كلامه للتّنويع لا للتّرديد حتّى ينافي التّفسير.

(١) أي نوعان.

(٢) أي من كلّ منهما ، وكذا يقال في قوله : «والثّاني» وذلك لأنّ التّخصيص بشيء أعمّ من كونه أمرا أو صفة ، وقوله : «دون شيء» أي صفة أو أمر على التّوزيع ، وكذا قوله : «بشيء» أي صفة أو أمر ، وقوله : «مكان شيء» أي صفة أو أمر على التّوزيع ، فتكون الأقسام أربعة.

(٣) المراد بكلّ ما بيّنه الشّارح بقوله : «من قصر الموصوف على الصّفة ، وقصر الصّفة على الموصوف» ولكلّ هذين قسمان :

القسم الأوّل : من قصر الموصوف على الصّفة ، هو الّذي عبّر عنه بقوله : «تخصيص أمر بصفة دون أخرى».

القسم الثّاني منه هو الّذي عبّر عنه بقوله : «تخصيص أمر بصفة مكان صفة أخرى» ، والقسم الأوّل من قصر الصّفة على الموصوف هو الّذي عبّر عنه بقوله : «تخصيص صفة بأمر دون آخر» ، والقسم الثّاني منه هو الّذي عبّر عنه بقوله : «تخصيص صفة بأمر مكان آخر» ، فالقسمان الكائنان لقصر الموصوف هما قصره على صفة دون أخرى ، وقصره عليها مكان أخرى ، والقسمان الكائنان لقصر الصّفة هما قصرها على موصوف دون آخر ، وقصرها عليه مكان آخر ، فأوّل النّوعين فيهما ما فيه كلمة «دون» وثانيهما ما فيه كلمة مكان ، وبذلك ظهر أنّ قول الشّارح ويعنى بالأوّل ... ، المراد به هو القسم الأوّل من النّوع الأوّل ، والقسم الأوّل من النّوع الثّاني ، وبالجملة فالمراد بالأوّل هو الّذي عبّر عنه بلفظ «دون» سواء كان من قصر الموصوف على الصّفة ، أو العكس ، والمراد بالثّاني ما كان فيه لفظ مكان ، وإنّما كان ذاك أوّل ، وهذا ثان لوقوعه كذلك في التّعريف والتّقسيم.

٣١٠

ويعني بالأوّل (١) التّخصيص بشيء دون شيء [من يعتقد الشّركة (٢)] أي شركة صفتين في موصوف واحد في قصر الموصوف على الصّفة ، وشركة موصوفين في صفة واحدة في قصر الصّفة على الموصوف ، فالمخاطب (٣) بقولنا : ما زيد إلّا كاتب ، من يعتقد اتّصافه بالشّعر والكتابة ، وبقولنا : ما كاتب إلّا زيد ، من يعتقد اشتراك زيد وعمرو في الكتابة ، [ويسمّى] هذا القصر [قصرا إفرادا (٤) لقطع الشّركة] الّتي اعتقدها المخاطب [و] المخاطب [بالثّاني (٥)] أعني التّخصيص بشيء مكان شيء من ضربيّ كلّ من القصرين

______________________________________________________

(١) أي ما فيه لفظ «دون» ، فالمراد بالثّاني ما فيه لفظ مكان.

(٢) أي غالبا ، فإنّ ما يشتمل على قصر الإفراد قد يكون المخاطب به من يعتقد أنّ المتكلّم يعتقد الشّركة ، ولو كان هذا المخاطب معتقدا للانفراد كان يعتقد مخاطب اتّصاف زيد بالشّعر فقطّ ، ويعتقد أنّك تعتقد اتّصافه بالشّعر والكتابة والتّنجيم مثلا ، فتقول له : ما زيد إلّا شاعر ، لتعلّمك إيّاه أنّك لا تعتقد ما يعتقده فيك.

(٣) اعلم أنّ المقصور أبدا ما بعد إلّا ، والمقصور عليه ما قبلها ، فالمثال الأوّل مثال لقصر الموصوف على الصّفة ، والثّاني لقصر الصّفة على الموصوف.

(٤) إضافة القصر إلى الإفراد في المقام من إضافة السّبب إلى المسبّب ، وكذا قوله : قصر قلب ، قصر تعيين ، ويحتمل أن تكون الإضافة بيانيّة.

(٥) عطف على قوله : «بالأوّل» ، وقوله : «من يعتقد العكس» عطف على قوله : «من يعتقد الشّركة» ، وعاملهما واحد ذاتا وهو المخاطب ، وإن كان متعدّدا بالحيثيّة ، حيث إنّ المخاطب عامل في الجارّ والمجرور أعني «بالأوّل» من حيث إنّه مشتقّ ، وفي «من يعتقد» من حيث إنّه مبتدأ ، فلا يلزم العطف على معمول عاملين مختلفين لعدم التّعدّد بالذّاتّ ، وتقدير المخاطب قبل قوله : «بالثّاني» إشارة إلى أنّه لا بدّ من تقدير العامل في نظم الكلام حذرا من لزوم العطف على معمول عاملين مختلفين.

٣١١

[من يعتقد العكس (١)] أي عكس الحكم الّذي أثبته المتكلّم ، فالمخاطب بقولنا : ما زيد إلّا قائم ، من اعتقد اتّصافه بالقعود دون القيام ، وبقولنا : ما شاعر إلّا زيد ، من اعتقد أنّ الشّاعر عمرو لا زيد ، [ويسمّى] هذا القصر [قصر قلب ، لقلب (٢) حكم المخاطب ، أو تساويا (٣) عنده] عطف على قوله : ويعتقد العكس (٤) ، على ما يفصح عنه لفظ (٥) الإيضاح ، أي المخاطب بالثّاني إمّا من يعتقد العكس ، وإمّا من تساوى عنده الأمران ،

______________________________________________________

(١) أي المخاطب بالثّاني من ضربيّ كلّ من القصرين ، من يعتقد عكس الحكم المثبت ، والمراد بالعكس ما ينافي ذلك الحكم ، ففي قصر الصّفة على الموصوف إذا اعتقد المخاطب أنّ القائم عمرو لا زيد ، تقول : ما قائم إلّا زيد ، حصرا للقائم في زيد ، ونفيا له عن عمرو ، وفي قصر الموصوف إذا اعتقد أنّ زيدا قاعد لا قائم ، تقول : ما زيد إلّا قائم ، أي لا قاعد ، ثمّ الاعتقاد بالعكس هو أغلبيّ ، وإلّا فقد يخاطب به من يعتقد أنّ المتكلّم يعتقد العكس ، وإن كان هو لا يعتقد العكس ، وذلك عند قصد أن يكون الخطاب لإفادة لازم الفائدة ، ببيان المتكلّم أنّ ما عنده هو ما عند المخاطب مثلا ، لا ما توهّمه فيه ، ثمّ المراد بالاعتقاد ما يشمل الظّنّ بقرينة قوله : «أو تساويا عنده» حيث إنّ جعله الاعتقاد مقابلا للشّكّ يدلّ على أنّ المراد به هو مطلق الرّجحان.

(٢) أي لأنّ فيه قلبا وتبديلا لحكم المخاطب كله بغيره.

(٣) الأولى أن يقول : أو يتردّد في ذلك حتّى يشمل ما إذا كان التّردّد في أمرين على نحو لا يدري أنّ الثّابت هل هو أحدهما أو كلاهما ، وكذا ما إذا جزم بثبوت صفة على التّعيين ، وأصاب ، وبثبوت معها لا على لتّعيين ، وكذا ما إذا شكّ في ثبوت واحدة وانتفائها.

(٤) لكونه قريبا ، دون قوله : «يعتقد الشّركة» ، على أنّ العطف عليه مستلزم للزوم الفصل بالأجنبيّ بين المعطوف والمعطوف عليه.

(٥) قال في الإيضاح ما هذا نصّه : والمخاطب بالثّاني من ضربيّ كلّ أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى ، وتخصيص صفة بأمر مكان آخر ، أمّا من يعتقد العكس ، أي اتّصاف ذلك الأمر بغير تلك الصّفة عوضا عنها في الأوّل ، واتّصاف غير ذلك الأمر بتلك الصّفة عوضا عنه في الثّاني ، وهذا يسمّى قصر قلب لقلبه حكم السّامع ، وأمّا من تساوى الأمران عنده ، أي اتّصاف ذلك الأمر بتلك الصّفة واتّصافه بغيرها في الأوّل ، واتّصافه بها ، واتّصاف غيره بها في

٣١٢

أعني الاتّصاف بالصّفة المذكورة ، وغيرها (١) وقصر الموصوف على الصّفة واتّصاف الأمر المذكور و (٢) غيره بالصّفة في قصر الصّفة على الموصوف حتّى (٣) يكون المخاطب بقولنا : ما زيد إلّا قائم (٤) ، من يعتقد اتّصافه بالقيام أو القعود من غير علم بالتّعيين ، وبقولنا : ما شاعر إلّا زيد (٥) ، من يعتقد أنّ الشّاعر زيد أو عمرو ، من غير أن يعلمه (٦) على التّعيين [ويسمّى] هذا القصر [قصر تعيين] لتعيينه ما هو غير معيّن عند المخاطب ، فالحاصل (٧) إنّ التّخصيص (٨) بشيء (٩) دون شيء آخر ، قصر إفراد والتّخصيص

______________________________________________________

الثّاني ، انتهى.

ولا ريب أنّ هذا الكلام صريح في أنّ «من تساوى عنده الأمران» عطف على «من يعتقد العكس» لا على «من يعتقد الشّركة» لمكان كلمة «إمّا» ، فإنّها تنادي بأعلى صوتها على أنّ «من تساوى عنده» عدل لقوله : «إمّا من يعتقد العكس».

(١) أي على سبيل البدليّة ، فالواو بمعنى أو ، يدلّ على ذلك قوله الآتي : «حتّى يكون المخاطب».

(٢) الواو بمعنى أو ، أي أو غيره.

(٣) كلمة حتّى تفريعيّة ، بمعنى الفاء.

(٤) مثال القصر الموصوف على الصّفة.

(٥) مثال لقصر الصّفة على الموصوف.

(٦) أي من غير أن يعلم من يتّصف بالشّاعريّة على التّعيين.

(٧) أي حاصل ما سبق من قوله : والأوّل من غير الحقيقي إلى هنا.

(٨) أي تخصيص المتكلّم شيئا بشيء ، ففاعل المصدر ومفعوله محذوفان ، والمفعول المحذوف الّذي هو الشيء إن كان واقعا على الصّفة ، كان المراد بقوله : «بشيء» الموصف ، فيتحقّق قصر الصّفة على الموصوف ، أي جعلها مقصورة على الموصوف ، وإن كان واقعا على الموصوف ، كان المراد بقوله : «بشيء» الصّفة ، فيتحقّق قصر الموصوف على الصّفة ، أي جعلك هذا الموصوف مقصورا على تلك الصّفة ، فالباء في «بشيء» داخلة على المقصور عليه ، على كلا الأمرين.

(٩) أي صفة كان أو موصوفا.

هذا قسيم لقوله : «إن اعتقد المخاطب فيه العكس».

٣١٣

بشيء مكان شيء ، إن اعتقد المخاطب فيه العكس قصر قلب ، وإن تساويا (١) عنده قصر تعيين. وفيه (٢) نظر ، لأنّا لو سلّمنا أنّ في قصر التّعيين تخصيص شيء بشيء مكان شيء آخر ، فلا يخفى أنّ فيه تخصيص شيء بشيء دون آخر ، فإنّ قولنا : ما زيد إلّا قائم ، لمن يردّده بين القيام والقعود ، تخصيص له بالقيام دون القعود ، ولهذا (٣) جعل السّكّاكي التّخصيص بشيء دون شيء مشتركا بين قصر الإفراد ، والقصر الّذي سمّاه المصنّف قصر تعيين ، وجعل التّخصيص بشيء مكان شيء قصر قلب فقطّ. [وشرط قصر الموصوف على الصّفة إفرادا (٤) عدم تنافي الوصفين (٥)] ليصحّ اعتقاد المخاطب

______________________________________________________

(١) هذا قسيم لقوله : «إن اعتقد المخاطب فيه العكس».

(٢) أي في هذا الحاصل نظر ، وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة ، وهي أنّ الشّارح قد أدخل قصر الإفراد والتّعيين فيما إذا كان التّخصيص مشتملا على كلمة مكان حيث قال : «والتّخصيص بشيء مكان شيء ...».

وإذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول أوّلا : لا نسلّم إدخال قصر التّعيين في التّخصيص بشيء مكان شيء آخر لأنّ المخاطب به لم يثبت الصّفة الأخرى في قصر الموصوف حتّى يثبت المتكلّم مكانها ما يعيّنه ، بل هو متردّد بينهما.

وثانيا : سلّمنا أنّ فيه تخصيصا بشيء مكان شيء آخر ولو احتمالا ، فلا يخفى أنّ فيه أيضا تخصيصا بشيء دون شيء آخر ، فيكون داخلا في قصر الإفراد ، وحينئذ فجعل قصر التّعيين من تخصيص شيء بشيء مكان شيء ، لا من تخصيص شيء بشيء دون شيء آخر تحكّم ، أي حكم بلا وجه ودليل.

(٣) أي لأجل أنّ قصر التّعيين فيه تخصيص شيء بشيء دون آخر ، وإنّ كونه من تخصيص شيء بشيء دون آخر أظهر من كونه من تخصيص شيء مكان آخر ، جعل السّكّاكي ... ، فهذا اعتراض آخر غير ما ذكر من التّحكّم ، أي أنّه يلزمه التّحكّم ، ومخالفة من تقدّمه من المؤلّفين بلا موجب.

(٤) منصوب على أنّه مفعول مطلق لقصر ، أو مفعول لأجله له أي قصر إفراد ، أو لأجل الإفراد.

(٥) أي لا يكون مفهوم أحدهما عين نفي الآخر كالمفحميّة والشّاعريّة ، ولا ملزوما لزوما

٣١٤

اجتماعهما في الموصوف حتّى تكون الصّفة المنفيّة في قولنا : ما زيد إلّا شاعر ، كونه كاتبا أو منجّما لا كونه مفحما ، أي غير شاعر ، لأنّ الإفحام وهو وجدان الرّجل غير شاعر ينافي الشّاعريّة [و] شرط قصر الموصوف على الصّفة [قلبا (١) تحقّق تنافيهما] أي تنافي الوصفين حتّى يكون المنفيّ في قولنا : ما زيد إلّا قائم ، كونه قاعدا أو مضطجعا أو نحو ذلك (٢) ممّا ينافي القيام ، ولقد أحسن (٣) صاحب المفتاح في إهمال هذا الاشتراط ، لأنّ قولنا : ما زيد إلّا شاعر ، لمن اعتقد أنّه كاتب ، وليس بشاعر ، قصر قلب على ما صرّح به (٤) في المفتاح مع عدم تنافي الشّعر والكتابة ، ومثل هذا (٥)

______________________________________________________

بيّنا في الذّهن كالقيام والقعود ، إذ لو كان كذلك لم يتصوّر اعتقاد المخاطب اجتماعهما ، لأنّ امتناع اجتماع النّفي والإثبات بديهيّ ، كما تقرّر في موضعه فلا يتحقّق قصر الإفراد لابتنائه على اعتقاد الشّركة.

وقد يقال : هذا الاشتراط لغو ، لعلمه ممّا تقدّم من أنّ المخاطب بقصر الإفراد من يعتقد الشّركة ، فإنّ هذا يفيد أنّ قصر الإفراد إنّما يكون عند اعتقاد الاشتراك في الوصفين فهو تصريح بما ذكر من عدم التّنافي بين الوصفين ، وخصّ هذا الشّرط بقصر الموصوف على الصّفة دون قصر الصّفة على الموصوف ، لأنّ الموصوفات لا تكون إلّا متنافيّة.

(١) أي قصر قلب ، والمراد بالتّنافي هنا التّنافي في نفس الأمرو الواقع.

(٢) أي ككونه مستلقيا.

(٣) أي هذا تعريض على المصنّف حيث إنّه أساء في اشتراط هذا الشّرط ، وهو تحقّق التّنافي في قصر الموصوف على الصّفة قصر قلب ، فكان ينبغي له إهماله ، كما أهمله السّكّاكي.

(٤) أي لأنّ الشّرط في قصر القلب على ما صرّح به في المفتاح هو اعتقاد المخاطب عكس ما يذكره المتكلّم ، سواء كان التّنافي بينهما محقّقا في الواقع أم لا ، فقول الشّارح «مع عدم تنافي الشّعر والكتابة» أي عدم تنافيهما في الواقع لصحّة اجتماعهما في موصوف واحد ، وإن كان المخاطب يعتقد تنافيهما.

(٥) أي ما زيد إلّا شاعر ، لمن اعتقد أنّه كاتب خارج عن أقسام القصر.

٣١٥

خارج عن أقسام القصر (١) على ما ذكره المصنّف. لا يقال : (٢) هذا شرط للحسن ، أو المراد التّنافي في اعتقاد (٣) المخاطب. لأنّا نقول : أمّا الأوّل (٤) فلا دلالة للفظ عليه ، مع أنّا نسلّم عدم حسن قولنا : ما زيد إلّا شاعر ، لمن اعتقده كاتبا غير شاعر.

______________________________________________________

(١) أي القصر الإضافيّ ، أمّا خروجه عن قصر الإفراد فلاعتقاد المخاطب اتّصافه بصفة واحدة ، وفي قصر الإفراد لا بدّ أن يعتقد المخاطب اجتماعهما واتّصافه بهما.

وأمّا خروجه عن قصر التّعيين فلكون المخاطب به متردّدا لا اعتقاد عنده والمخاطب هنا يعتقد ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر.

وأمّا خروجه عن قصر القلب فلعدم تحقّق تنافي الوصفين هنا في الواقع ، وهو شرط فيه عند المصنّف فلابدّ منه على قول المصنّف ، فيكون المثال المذكور خارجا عن أقسام القصر الإضافيّ على ما ذكره المصنّف من اشتراط التّنافي في قصر القلب ، وأمّا على صنيع السّكّاكي من إهماله فلا يكون هذا المثال خارجا عن الأقسام الثّلاثة ، بل من قبيل قصر القلب ، كما علمت.

(٢) أعني لا يقال من جانب المصنّف لدفع الاعتراض المذكور أنّ تحقّق تنافي الوصفين شرط لحسن قصر القلب ، لا لصحّته ، وحينئذ فلا يخرج ما زيد إلّا شاعر ، لمن اعتقد أنّه كاتب ، عن أقسام القصر الثّلاثة ، بل هو من قبيل قصر القلب ، وإن كان غير حسن.

(٣) أي المراد من التّنافي هو التّنافي في اعتقاد المخاطب من حيث اعتقاده بثبوت أحدهما ، وانتفاء الآخر ، سواء تنافيا في الواقع أو لا؟ كما في المثال المذكور ، ثمّ إنّه ليس المراد بتنافيهما في اعتقاد المخاطب اعتقاد تنافيهما في نفس الأمر ، بأن يعتقد أنّه لا يمكن اجتماعهما في نفس الأمر.

(٤) أي وهو كونه شرطا في حسن القلب ، وحاصل الرّدّ أنّا لا نسلّم أنّ هذا مراد المصنّف لعدم دلالة لفظ الكتاب عليه ، لأنّ الأصل في الشّروط أن تكون للصحّة لا للحسن ، بل كلامه في الإيضاح الّذي هو كالشّرح لهذا الكتاب ، ينافي كونه شرطا للحسن لأنّه قال : ليكون إثبات الصّفة مشعرا بانتفاء غيرها ، فإنّ قضيّته أنّ الشّرط للتّحقيق لا للحسن ، سلّمنا أنّ لفظ الكتاب مشعر بأنّه شرط في الحسن ، فلا نسلّم عدم حسن قولنا : ما زيد إلّا شاعر ... ، فبطل حينئذ كونه شرطا في الحسن.

٣١٦

وأمّا الثّاني (١) فلأنّ التّنافي بحسب اعتقاد المخاطب معلوم ممّا ذكره في تفسيره أنّ قصر القلب هو الّذي يعتقد فيه المخاطب العكس ، فيكون هذا الاشتراط ضائعا ، وأيضا لم يصحّ (٢) قول المصنّف في الإيضاح أنّ السّكّاكي لم يشترط في قصر القلب تنافي الوصفين. وعلّل (٣) المصنّف رحمه‌الله اشتراط تنافي الوصفين بقوله : ليكون إثبات

______________________________________________________

(١) أي كون المصنّف أراد تنافي الوصفين في اعتقاد المخاطب لا بحسب نفس الأمر ، فلا يصحّ أن يكون هذا هو المراد لما ذكره الشّارح حيث قال : «فلأنّ التّنافي بحسب اعتقاد المخاطب معلوم ممّا ذكره في تفسيره أنّ قصر القلب هو الّذي يعتقد فيه المخاطب العكس ، فيكون هذا الاشتراط ضائعا» ، أي لغوا ، لأنّ التّنافي بحسب اعتقاد المخاطب مستفاد من كون المخاطب معتقدا للعكس ، وهذا هو المراد بالتّنافي في اعتقاد المخاطب ، فدلّ هذا على أنّ مراده تنافي الوصفين في الواقع ، لا بحسب اعتقاد المخاطب.

(٢) أي على إرادة هذا الاحتمال ، لم يصحّ قول المصنّف في الإيضاح الّذي هو كالشّرح لهذا الكتاب ، وحاصل كلام الشّارح : أنّه لو كان مراد المصنّف من التّنافي التّنافي بحسب اعتقاد المخاطب ، لم يصحّ قول المصنّف في الإيضاح معترضا على السّكّاكي ، أنّه لم يشترط في قصر القلب تنافي الوصفين كما شرطناه ، وذلك لأنّ السّكّاكي قد شرط فيه كون المخاطب معتقدا للعكس ، وهذا هو المراد بالتّنافي في اعتقاد المخاطب ، فمن هنا يظهر أنّ مراد المصنّف من تنافي الوصفين تنافيهما في الواقع ، لا بحسب اعتقاد المخاطب ، إذ يبعد أن يعترض المصنّف على السّكّاكي بما هو قائل ومعترف به ، وإنّما يعترض عليه بما تحقّق إهماله له ، وهو التّنافي في نفس الأمر ، لأنّه ممّا أهمله السّكّاكي.

(٣) أي في الإيضاح ، وأشار الشّارح بهذا إلى بطلان دليل المصنّف بعد ما أبطل مدّعاه من اشتراط الشّرط المذكور ، وهو قوله في الإيضاح ليكون إثبات الصّفة مشعرا بانتفاء الأخرى ، أي إنّما اشترط في قصر القلب تنافي الوصفين لأجل أن يكون إثبات الصّفة مشعرا بانتفاء الأخرى ، انتهى.

فإذا قيل : ما زيد إلّا قائم ، كان إثبات القيام مشعرا بانتفاء القعود ، ولم يحصل ذلك الإشعار ، إلّا إذا كان الوصفان متنافيين في نفس الأمر.

٣١٧

الصّفة مشعرا بانتفاء غيرها ، وفيه نظر بيّن في الشّرح (١). [وقصر التّعيين أعمّ] من أن يكون الوصفان فيه متنافيين أو لا (٢) ، فكلّ مثال يصل لقصر الإفراد والقلب يصلح لقصر التّعيين من غير عكس.

______________________________________________________

(١) وجه النّظر : أنّه يجوز أن يعلم انتفاء ذلك بقرينة من القرائن ، لا بذلك التّنافي بين الوصفين ، وتفصيل ذلك أنّه إن أراد ليكون إثبات المتكلّم الصّفة مشعرا بانتفاء غيرها ، وهو ما اعتقده المخاطب ، ففيه أنّ أداة القصر مشعرة بذلك من غير حاجة للّتنافي ، وإن أراد أنّ إثبات المخاطب الصّفة مشعر بانتفاء غيرها ، وهي الّتي أثبتها المتكلّم كالقيام حتّى يكون هذا عكسا لحكم المخاطب ، فيكون قصر قلب ، ففيه أنّ إثبات المخاطب لا إشعار له بانتفاء شيء أصلا ، إذ غاية ما يفهم منه الإثبات فقطّ ، وانتفاء الغير إن فهمه منه المتكلّم فبقرينة.

أو بعبارة أخرى كأن يقول : ما زيد إلّا قاعد ، فيقول المتكلّم ردّا عليه : ما زيد إلّا شاعر ، ولا يتوقّف على التّنافي.

والحاصل إنّ شرط قصر القلب اعتقاد المخاطب عكس ما يذكره المتكلّم سواء تحقّق التّنافي بينهما أم لا ، وما ذكره المصنّف من اشتراط تنافي الوصفين لا يتمّ ، وحينئذ فالحقّ مع السّكّاكي في إهمال ذلك الشّرط.

(٢) هذا إشارة إلى أنّه ليس المراد بكونه أعمّ أنّه أعمّ من لقصرين الآخرين بحسب حقيقته ، لأنّ حقيقته مباينة لحقيقة كلّ من الإفراد والقلب ، لأنّ الإفراد متقوّم على اعتقاد الشّركة ، والقلب متقوّم على اعتقاد العكس ، والتّعيين متقوّم على عدم الاعتقادين ، فلا مجال لكونه أعمّ منهما بحسب حقيقته ، بل المراد أنّه أعمّ منهما من حيث الحمل ، قوله : «من غير عكس» إشارة إلى أنّ المراد بالعكس هو العكس بمعنى اللّغوي ، أي كلّ مادّة تصلح مثالا لقصر التّعيين ، لا تصلح مثالا لواحد منهما لأنّه ربّما صلح للتّعيين ما لا يصلح للإفراد ، وهو الّذي يصلح للقلب ، وربّما صلح له ما لا يصلح للقلب ، وهو الّذي صلح للإفراد ، وبالجملة أنّه ليس كلّ مثال يصلح لقصر القلب أو الإفراد يصلح لقصر التّعيين ، لأنّهما مشروطان بقيد عدم التّنافي أو بالتّنافي ، وقصر التّعيين ليس مشروطا بشيء.

٣١٨

طرق القصر

[وللقصر (١) طرق (٢)] والمذكور ههنا أربعة وغيرها قد سبق ذكره (٣) فالأربعة المذكورة ههنا [منها (٤) العطف كقولك في قصره] أي قصر الموصوف على الصّفة [إفرادا (٥) زيد شاعر لا كاتب ، أو ما زيد كاتبا بل شاعر] ،

______________________________________________________

(١) أي سواء كان حقيقيّا أو إضافة.

(٢) أي أسباب تفيده ، وهي كثيرة ، منها تعريف الجزأين ، وفصل المبتدأ بضمير الفصل ، وقولك مثلا : جاء زيد نفسه ، أي لا غيره ، وقولك : زيد مخصوص بالقيام دون عمرو ، والمذكور ههنا هي أربعة ، وإنّما لم يذكر غيرها ، لأنّ الغير إمّا أنّه ليس معدودا من الطّرق اصطلاحا ، كالتّأكيد المعنوي ، كقولك : جاء زيد نفسه ، وإمّا أنّه مخصوص بالمسندين كضمير الفصل ، وإمّا لأنّه عائد إلى هذه الأربعة ، كبل الّتي هي للإضراب ، ولكن الّتي للاستدراك لا للعطف ، لأنّهما يرجعان إلى معنى العطف ، ولزيادة الطّرق على الأربعة أتى في عدّها بمن التّبعيضيّة ، أعني قوله : «منها العطف».

(٣) أي في بحث المسند إليه ، كضمير الفصل ، وتعريف المسند ، أو المسند إليه بلام الجنس. فالقصر بضمير الفصل ، وتعريف المسند والمسند إليه داخل في القصر الاصطلاحي ، لكنّ المصنّف لم يذكر هذه الثّلاثة في هذا الباب لاختصاصها بالمسند والمسند إليه ، والمقصود في المقام بيان الطّرق العامّة.

(٤) أي من طرق القصر ، العطف بلا ، وبل ، ولكن ، وإنّما قدّم العطف على بقيّة الطّرق ، لأنّه أقواها حيث يصرّح فيه بالطّرفين ، أي المثبت والمنفي بخلاف غيره ، فإنّ النّفي فيه ضمنيّ ، ثمّ قدّم النّفي والاستثناء على إنّما ، لأنّه أصرح دلالة على التّخصيص من إنّما ، وأخّر التّقديم عن الكلّ ، لأنّ دلالته على التّخصيص ذوقيّة لا وضعيّة ، ثمّ إنّ العطف يكون للقصر الحقيقيّ والإضافيّ ، وذلك لأنّه إن كان المعطوف خاصّا نحو : زيد شاعر لا عمرو ، فالقصر إضافيّ ، وإن كان عامّا نحو : زيد شاعر لا غير زيد ، فالقصر حقيقيّ.

(٥) مفعول مطلق لقصر أو مفعول لأجله.

٣١٩

مثّل (١) بمثالين : أوّلهما الوصف المثبت فيه معطوف عليه ، والمنفي معطوف ، والثّاني بالعكس. [وقلبا (٢) زيد قائم لا قاعد (٣) ، أو ما زيد قاعدا بل قائم (٤)]. فإن قلت (٥) : إذا تحقّق تنافيّ الوصفين في قصر القلب ، فإثبات أحدهما يكون مشعرا بانتفاء الغير فما فائدة نفي الغير وإثبات المذكور بطريق الحصر.

______________________________________________________

(١) أي مثّل المصنّف بمثالين : أحدهما أن يكون الوصف المثبت هو المعطوف عليه ، والمنفيّ هو المعطوف ، والثّاني بالعكس ، أي أنّ الوصف المنفيّ فيه معطوف عليه ، والمثبت معطوف ، ثمّ يشترط في إفادة بل القصر أن يتقدّمها نفي كالمثال المذكور ، فنحو : ما زيد كاتبا بل شاعر ، معناه نفي الكتابة عن زيد ، وإثبات الشّعر له ، وتمثيل المصنّف ببل ولا إشعار بأنّ طريق العطف للقصر ، هو لا وبل دون سائر حروف العطف ، وجه الإشعار : أنّه كان في مقام طريق العطف للقصر ، فالاقتصار بهما ، وعدم ذكر غيرهما كاشف عن أنّ طريق العطف للقصر هو لا وبل دون غيرهما ، وإلّا لبيّنه.

(٢) أي اقتصاره على القصرين ، أعني الإفراد والقلب ، ربّما يوهم عدم جريان طريق العطف في قصر التّعيين ، لكنّ المفهوم من دلائل الإعجاز جريانه فيه.

فالاقتصار ليس لعدم الجريان ، بل لما سيصرّح به الشّارح في قوله : «ولمّا كان كلّ ما يصلح مثالا لهما يصلح مثالا لقصر التّعيين ، لم يتعرّض لذكره» فانتظر.

(٣) أي لمن اعتقد أنّه قاعد ، والشّرط وهو تنافي الوصفين موجود.

(٤) أي لمن اعتقد أنّه قاعد ، ومثّل بمثالين لما سبق من أنّ أحدهما مثال للنّفي ، والآخر للإثبات.

(٥) حاصل الإشكال : إنّ قصر القلب بطريق العطف ، لا فائدة له على مذهب المصنّف مطلقا ، وذلك لأنّه شرط فيه تحقّق تنافي الوصفين ، وإذا تحقّق أي ثبت تنافيهما ، كما في المثالين علم من نفي أحدهما ثبوت الآخر ، وكذا من ثبوت أحدهما نفي الآخر ، وحينئذ فلا فائدة في عطف المثبت على المنفيّ ، أو عطف المنفي على المثبت وكذا على مذهب غيره في صورة تحقّق التنافي ، ثمّ هذا الإيراد مبنيّ على تحقّق التنافي ، وقول الشّارح فإثبات أحدهما يكون مشعرا بانتفاء الغير ، أي وكذا نفي أحدهما يكون مشعرا بثبوت الآخر ، ولو زاد الشّارح جانب النّفي على الإثبات لكان أولى ليشمل المثال ، والجواب الّذي ذكره شامل له أيضا ،

٣٢٠