دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

[ولذلك] أي ولأنّ التّقديم لردّ (١) الخطأ في تعيين المفعول مع الإصابة في اعتقاد وقوع الفعل على مفعول ما (٢) [لا يقال (٣) : ما زيدا ضربت ولا غيره] لأنّ التّقديم يدلّ على وقوع الضّرب على غير زيد تحقيقا لمعنى (٤) الاختصاص ، وقولك : ولا غيره ، ينفي ذلك (٥)

______________________________________________________

الأمر إن كانت النّسبة إنشائيّة ، فما وقع به التّخصيص إنشاء ، وإن كانت خبريّة فما وقع به خبر. فيكون التّعبير الثّاني أفضل من الأوّل ، أي أعني «لردّ الخطأ».

(١) أي لردّ المتكلّم خطأ المخاطب «في تعيين المفعول مع الإصابة» أي إصابة المخاطب.

(٢) أي أيّ مفعول كان.

(٣) أي لا يقال عند إرادة الرّدّ على المخاطب في اعتقاده وقوع الضّرب منك على زيد «ما زيدا ضربت ولا غيره».

(٤) أي إضافة معنى إلى الاختصاص بيانيّة ، أي تحقيقا لمعنى هو اختصاص زيد بنفي الضّرب عنه ، فإنّ معناه قصر عدم الضّرب على زيد وثبوته لغيره.

وتفصيل ذلك :

إنّ مفاد ما زيدا ضربت حينئذ اختصاص نفي الضّرب بزيد بحيث لا يتعدّى ذلك النّفي إلى غيره ، كما يعتقده المخاطب ، وذلك يفيد أنّ الغير مضروب.

فإذا قيل :

«ولا غيره» كان مناقصا لذلك الّذي أفاده ذلك التّقديم ، لأنّ مفهوم التّقديم ، وصريح «لا غيره» متناقضان إذ مفهوم التّقديم هو ثبوت الضّرب للغير تحقيقا لمعنى الاختصاص ، وصريح مفاد «لا غيره» هو نفي الضّرب عن الغير.

(٥) أي ينفي الاختصاص ، ووقوع الضّرب على غير زيد ، فيكون مفهوم التّقديم ، وهو وقوع الضّرب على غير زيد ، مناقضا لمنطوق «لا غيره» وهو عدم وقوع الضّرب على غير زيد.

والفرق بين المنطوق والمفهوم : أنّ المنطوق هو مدلول اللّفظ وضعا ، والمفهوم ما يلزم من المدلول ، والأوّل معنى مطابقي ، والثّاني معنى التزاميّ.

٢٨١

فيكون مفهوم التّقديم مناقضا (١) لمنطوق لا غيره ، نعم لو كان التّقديم لغرض آخر (٢) غير التّخصيص جاز ، ما زيدا ضربت ولا غيره. وكذا (٣) زيدا ضربت وغيره ، [ولا (٤) ما زيدا ضربت ولكن أكرمته] لأنّ مبنى الكلام ليس على أنّ الخطأ واقع في الفعل ، بأنّه الضّرب حتّى تردّه إلى الصّواب بأنّه الإكرام ، وإنّما الخطأ في تعيين المضروب.

______________________________________________________

(١) أي الجمع بينهما جمع بين المتناقضين ، وهو باطل.

(٢) أي كمجرّد الاهتمام والتّبرّك والاستلذاذ ، وموافقة كلام السّامع ، وضرورة الشّعر والسّجع ، ونحو ذلك ، جاز حينئذ ما زيدا ضربت ولا غيره ، وذلك لعدم لزوم التّناقض حينئذ ، ويمكن أن يكون قوله : «نعم لو كان التّقديم ...» جوابا عن سؤال مقدّر ، والتّقدير : لا يقال : ما زيدا ضربت ولا غيره ، إذا أريد التّخصيص للزوم اجتماع النّقيضين ، وأمّا إذا أريد الاهتمام فلماذا لا يجوز؟

فأجاب بقوله : «نعم لو كان التّقديم لغرض آخر غير التّخصيص جاز ما زيدا ضربت ولا غيره».

(٣) أي هذا المثال مثل «ما زيدا ضربت ولا غيره» ، في المنع والجواز ، أي المنع عند التّخصيص ، والجواز عند قصد غير التّخصيص ، لأنّ التّخصيص يفيد نفي مشاركة الغير ، والعطف يفيد ثبوت المشاركة ، وهو تناقض ، فإنّ جعل التّقديم للاهتمام جاز ، إذ ليس في التّقديم ما ينافي مقتضى العطف.

(٤) أي لا يصحّ أن يقال : «ولا زيدا ضربت ولكن أكرمته» بأن تعقب الفعل المنفيّ الّذي قدّم مفعوله عليه بإثبات فعل آخر يضادّه ، لأنّ مبنى الكلام ليس على أنّ الخطأ في الضّرب ، فتردّه إلى الصّواب في الإكرام ، وإنّما هو على أنّ الخطأ في المضروب أي المفعول حين اعتقد أنّه زيد ، فردّه إلى الصّواب أن تقول : ولكن عمرا.

وبعبارة أخرى : إنّ الّذي يبنى عليه قوله : «ولا زيدا ضربت ولكن أكرمته» ليس هو الخطأ في الفعل ، بل إنّما هو الخطأ في المفعول لما مرّ غير مرّة من أنّ المخاطب في نحو : زيدا ضربت ، قد أصاب في أصل صدور الفعل عن الفاعل ، وإنّما أخطأ في تعيين المفعول ، والاستدراك بلكن يفيد أنّ الّذي بنى عليه الكلام هو الخطأ الواقع في الفعل الّذي هو الضّرب ، فيكون في المثال تدافع ، إذ أوّله يقتضي عدم الخطأ في الفعل وآخره ، أعني «لكن أكرمته» يقتضي

٢٨٢

فالصّواب : ولكن عمرا [وأمّا نحو : زيدا عرفته (١) فتأكيد إن قدّر (٢)] الفعل المحذوف [المفسّر] بالفعل المذكور [قبل المنصوب] أي عرفت زيدا عرفته (وإلّا) أي وإن لم يقدّر المفسّر قبل المنصوب ، بل بعده [فتخصيص (٣)] أي زيدا عرفت عرفته ، لأنّ المحذوف المقدّر كالمذكور ، فالتّقديم عليه كالتّقديم على المذكور في إفادة الاختصاص (٤) ، كما في [بسم الله] (٥) ، فنحو : زيدا عرفته ، محتمل للمعنيين : التّخصيص والتّأكيد (٦) ،

______________________________________________________

الخطأ فيه ، ويرتفع هذا التّدافع لو بدّل قوله : «لكن أكرمته» بقوله : «لكن عمرا» حتّى يصبح الصّدر والذّيل متلائمين ، حيث إنّ كلّا منهما عندئذ ناطق بأنّ مبنى الكلام المحتوي على التّقديم هو الخطأ في المفعول ، بخلاف ما لو قيل : لكن أكرمته ، كما في المتن ، فإنّ الصّدر والذّيل عندئذ يصبحان متناقضين ، كما عرفت.

(١) أي إنّ ما سبق من أنّ نحو : زيدا ضربت ، وزيدا عرفت ، مفيد للاختصاص قطعا مورده ما لم يكن هناك ضمير الاسم السّابق يشتغل الفعل عنه بالعمل فيه ، وأمّا إذا كان هناك اشتغال ، فالفعل المذكور تأكيد للفعل المحذوف إن قدّر الفعل المحذوف المفسّر بالفعل المذكور قبل المنصوب مثل عرفت زيدا عرفته.

(٢) وفي هذا ردّ على صاحب الكشّاف حيث جزم بأنّ زيدا عرفته للتّخصيص.

(٣) أي التّخصيص المقيّد بكونه مقصودا ، فلا ينافي أنّ هناك تأكيدا.

(٤) أي كما أنّ تقديم المفعول على الفعل المذكور يفيد الاختصاص ، فكذلك تقديمه على المقدّر ، كما في قولنا : (بِسْمِ اللهِ) فإنّه يفيد التّخصيص بتقدير الفعل مؤخّرا أي باسم الله أبتدئ لا بغيره.

(٥) أي أنّه لا يفيد التّخصيص على فرض جعل المتعلّق المقدّر مؤخّرا ، ويكون ردّا على المشركين حيث كانوا يبتدئون باسم آلهتهم الباطلة ، فقوله : «كما في [بسم الله]» تشبيه في إفادة الاختصاص.

(٦) أي فعلى احتمال التّأكيد يكون الكلام إخبارا بمجرّد معرفة متعلّقه بزيد ، وعلى احتمال التّخصيص يكون الكلام إخبارا بمعرفة مختصّة بزيد ، ردّا على من زعم تعلّقها بعمرو مثلا دون زيد أو زعم تعلّقها بهما ، فالقصر على الأوّل هو قصر ججقلب ، وفي الثّاني قصر التّعيين.

٢٨٣

فالرّجوع في التّعيين (١) إلى القرائن ، وعند قيام القرينة على أنّه (٢) للتّخصيص يكون أوكد من قولنا : زيدا عرفت لما فيه من التّكرار (٣) ، وفي بعض النّسخ [وأمّا نحو : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)(١) فلا يفيد إلّا التّخصيص (٥)] لامتناع أن يقدّر الفعل مقدّما ، نحو : أمّا فهديناهم ثمود ، لالتزامهم وجود فاصل بين أمّا والفاء

______________________________________________________

(١) أي تعيين كون التّقديم للتّأكيد أو التّخصيص.

(٢) أي زيدا عرفته ، للتّخصيص ، بأن كان المقام مقام اختصاص يكون قوله : «زيدا عرفته» آكد ، أي زائدا في التّأكيد من قوله : «زيدا عرفت» ، وهذا يقتضي أن يكون «زيدا عرفت» مفيدا للتّأكيد ، وليس كذلك ، بل لمجرّد الاختصاص ، فالأولى أن يقول : يكون مفيدا للتّأكيد أيضا لما فيه من التّكرار ، إلّا أن يقال : بأنّ التّخصيص يستلزم التّأكيد بخلاف العكس ، إذ ليس التّخصيص إلّا تأكيدا على تأكيد.

(٣) أي تكرار الإسناد المفيد للتّأكيد ، وإن كان غير مقصود منه التّأكيد ، بل المقصود هو التّخصيص ، إذ معلوم أنّ التّخصيص ليس إلّا تأكيدا على تأكيد.

وقيل : إنّ قوله : «آكد» بمعنى أبلغ في الاختصاص ، وقوله : «لما فيه من التّكرار» أي من تكرار الاختصاص ، أمّا الاختصاص الأوّل فقد استفيد من تقديم المفعول على الفعل المقدّر ، وأمّا التّخصيص الثّاني فهو مستفاد من عود الضّمير في الإسناد الثّاني على المفعول المتقدّم ، فكأنّ المفعول متقدّم في الإسناد المتكرّر.

(٤) أي بالنّصب فلا يفيد إلّا التّخصيص ، وأمّا على قراءة الرّفع ، فالتّقديم مفيد لتقوّي الحكم بتكرّر الإسناد.

(٥) أي دون مجرّد التّأكيد ، فالحصر بالنّسبة لمجرّد التّأكيد ، فلا يرد أنّ مع كلّ تخصيص تأكيد ، وإنّما حكم بالتّخصيص في هذه الآية دون تجويز غيره لامتناع أن يقدّر الفعل المفسّر المحذوف مقدّما على ثمود ، نحو : أمّا فهدينا ثمود ، لالتزامهم وجود فاصل بين أمّا والفاء ، وتقدير الفعل مقدّما على مفعوله يستلزم تفويت هذا الالتزام ، فلا يجوز تقدير الفعل مقدّما بدون الفاء ، لأنّ المقدّر هو الجواب والمذكور إنّما هو مفسّر ، والجواب لا بدّ من اقترانه بالفاء ، فلا يجوز تقديره مقدّما بدونها.

__________________

(١) سورة حم السّجدة : ١٧.

٢٨٤

بل التّقدير : أمّا ثمود فهدينا فهديناهم ، بتقديم المفعول (١) ، وفي كون هذا التّقديم (٢) للتّخصيص نظر ، لأنّه (٣) يكون مع الجهل بثبوت أصل الفعل ، كما إذا جاءك زيد وعمرو ، ثمّ سألك سائل ما فعلت بهما؟ فتقول : أمّا زيدا فضربته وأمّا عمرا فأكرمته. فتأمّل (٤) [وكذلك] أي مثل : زيدا عرفت ، في إفادة الاختصاص [قولك :

______________________________________________________

(١) فيفيد التّخصيص.

(٢) أي الحاصل مع أمّا «للتّخصيص نظر» لكونه لإصلاح اللّفظ ، وشرط إفادة التّقديم التّخصيص أن لا يكون لإصلاح التّركيب ، كما في الآية ، وإلّا فلا يكون للاختصاص ، هذا مضافا إلى ما هو موجود في الشّرح.

(٣) أي لأنّ التّقديم المذكور يكون مع الجهل بثبوت أصل الفعل أعني الهداية في الآية ، والتّقديم مع جهل السّامع بثبوت أصل الفعل لا يفيد التّخصيص.

والحاصل : إنّ التّخصيص لا يكون بالتّقديم مع الجهل بثبوت أصل الفعل ، بل بالتّقديم مع العلم بثبوت أصل الفعل ، فالتّقديم في الآية المذكورة لا يكون للتّخصيص ، لأنّ المخاطب كان جاهلا بما صنع الله بثمود ، وأنّه ما ذا فعل بهم! فقيل في جوابه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) حيث يكون الغرض إثبات أصل الهداية ، أي الدّعوة إلى الحقّ المتعلّقة بهم ثمّ الإخبار بسوء صنيعهم لبيان أنّ إهلاكهم كان بعد إقامة الحجّة عليهم ، وليس الغرض منها بيان أنّ ثمود هدوا ، فاستحبّوا العمى على الهدى دون غيرهم ردّا على من زعم انفرادهم بالهداية أو مشاركته لهم بها ، كي يكون التّقديم فيها للتّخصيص.

فالمراد من النّظر المذكور ردّ قول المصنّف حيث قال : («وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فلا يفيد إلّا التّخصيص» كما أنّ التّقديم في مثال : «أمّا زيدا فضربته ..» ليس للتّخصيص والحصر ، لأنّ المخاطب لم يكن عارفا بثبوت أصل الضّرب والإكرام ، وقد عرفت أنّ التّقديم مع جهل السّامع بثبوت أصل الفعل لا يكون للتّخصيص.

(٤) أي في هذا البحث ليظهر لك أنّ الغرض من الآية بيان أنّ أصل الهداية ، أي الدّعوة إلى الحقّ حصلت لهم والإخبار بسوء صنيعهم ليعلم أنّ إهلاكهم إنّما كان بعد إقامة الحجّة عليهم ، فلا يتصوّر زعم الاشتراك ، أو انفراد غيرهم في تحقّق الهداية منهم ، واستحباب العمى عليها ، وحينئذ لا يتصوّر التّخصيص كما قال المصنّف.

٢٨٥

بزيد مررت] في المفعول بواسطة ، لمن اعتقد أنّك مررت بإنسان ، وأنّه غير زيد (١) ، وكذلك (٢) يوم الجمعة سرت (٣) ، وفي المسجد صلّيت (٤) ، وتأديبا ضربت (٥) ، وماشيا حججت (٦) ، [والتّخصيص لازم للتّقديم غالبا (٧)]

______________________________________________________

(١) أي اعتقد أنّك مررت بإنسان مع زيد ، فقد أصاب في أنّك مررت بإنسان ، وأخطأ في أنّك مررت بمن هو غير زيد في المثال الأوّل ، وفي أنّك مررت بإنسان مع زيد في المثال ، فقولك : بزيد مررت ، قصر قلب في المثال الأوّل ، وقصر إفراد في المثال الثّاني.

(٢) أي مثل المفعول بلا واسطة ، أو مع واسطة ، سائر المعمولات للفعل ، كالظّرف والحال والمفعول له.

(٣) مثال لظرف الزّمان ، ويقال لمن اعتقد أنّك سرت في غير يوم الجمعة ، أو فيه وفي يوم السّبت ، فعلى الأوّل القصر قصر قلب ، وعلى الثّاني قصر إفراد.

(٤) مثال لظرف المكان ، يقال لمن اعتقد أنّك صلّيت في غير المسجد ، أو فيه وفي البيت مثلا ، فعلى الأوّل القصر قلب ، وفي الثّاني إفراد.

(٥) مثال للمفعول له ، يقال لمن اعتقد أنّك ضربته تشفّيا لا تأديبا أو لأجلهما معا.

(٦) مثال لتقديم الحال ، يقال لمن اعتقد أنّك حججت راكبا لا ماشيا ، أو حججت راكبا وماشيا معا ، فالقصر قلب على الأوّل ، وإفراد على الثّاني.

(٧) والّذي عليه الجمهور أنّ التّخصيص هو الحصر ، وقال تقي الدّين السّبكي : هو غيره ، والمراد بالتّخصيص هنا هو المعنى الثّاني ، وهو ثبوت الحكم المذكور ، سواء كان بالإثبات أو بالنّفي للمقدّم والتّخصيص بهذا المعنى لازم للتّقديم غالبا.

وبعبارة أخرى : إنّ التّخصيص هو قصد المتكلّم إفادة السّامع خصوص شيء من غير تعرّض لغيره بإثبات ولا نفي بسبب اعتناء المتكلّم بذلك الشّيء ، فإذا زيدا ضربت ، كان المقصود الأهمّ إفادة خصوص وقوع الضّرب على زيد ، لا إفادة حصول الضّرب منك ، ولا تعرّض في الكلام لغير زيد ، بإثبات ولا نفي ، وأمّا الحصر فمعناه نفي غير المذكور ، وإثبات المذكور ، ويعبّر عنه بما وإلّا ، مثل : ما ضربت إلّا زيدا ، أو بإنّما مثل : إنّما زيد شاعر ، فهو زائد على الاختصاص ، ولا يستفاد بمجرّد التّقديم ، ومعنى الغلبة أنّ التّخصيص يكون في أكثر الموارد والمواضع للتّقديم لا في أقلها.

٢٨٦

أي لا ينفكّ (١) عن تقديم المفعول ونحوه (٢) في أكثر الصّور (٣) بشهادة (٤) الاستقراء ، وحكم الذّوق (٥) وإنّما قال غالبا ، لأنّ اللّزوم الكلّي غير متحقّق (٦) ، إذ التّقديم قد يكون لأغراض أخر (٧) كمجرّد الاهتمام (٨) والتّبرّك (٩) والاستلذاذ (١٠) وموافقة كلام السّامع (١١) وضرورة الشّعر ورعاية السّجع (١٢)

______________________________________________________

(١) أي لا ينفكّ التّخصيص عن تقديم المفعول.

(٢) أي كالحال والتّمييز.

(٣) فيه إشارة إلى أنّ اللّزوم ليس بكلّي كلزوم الزّوجيّة للأربعة ، بل جزئيّ والغالبيّة بالنّسبة إلى الموادّ.

(٤) متعلّق بقوله : «لا ينفكّ».

(٥) أي السّليم أو العقل الصّافي.

(٦) أي غير ثابت.

(٧) أي غير التّخصيص.

(٨) أي كالاهتمام المجرّد من التّخصيص ، نحو : العلم لزمت ، فإنّ الأهمّ تعلّق اللّزوم بالعلم لا صدوره منه.

(٩) كما في قولنا : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحببت.

(١٠) أي كقولك : ليلى أحببت.

(١١) كما في قولك : زيدا أكرمت ، في جواب من أكرمت؟ فتقدّم زيدا قصدا لموافقة كلام السّامع الّذي فيه من الاستفهاميّة الّتي هي المفعول.

(١٢) وهي توافق الآي في القرآن ، لأنّ ما يسمّى في غير القرآن سجعة ، يسمّى في القرآن فاصلة ، رعاية للأدب ، إذ السّجع في الأصل هدير الحمام ، فإطلاقه على القرآن يشعر على نحو من إساءة الأدب.

٢٨٧

والفاصلة (١) ، ونحو ذلك (٢) قال الله تعالى (٣) : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ)(١) وقال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ)(٢) (٤) وقال : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٣) (٥) وقال : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٤) (٦) إلى غير ذلك ،

______________________________________________________

(١) أي هو تواطؤ الفواصل من الكلام المنثور على حروف واحد.

(٢) كتعجيل المسرّة ، كما في قولك : شرّا يلقى عدوّك ، أو تعجيل المساءة كما في قولك : شرّا يلقى صديقك.

(٣) يقول الله لخزنة النّار : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ،) أي اجمعوا يديه إلى عنقه في الغلّ (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي أدخلوه في النّار ، كذا في بعض التّفاسير.

والشّاهد : في تقديم (الْجَحِيمَ) على (صَلُّوهُ) حيث يكون لمجرّد رعاية الفاصلة من دون مدخليّة لعلّة أخرى ، وهكذا قوله : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) حيث قدّم قوله : (فِي سِلْسِلَةٍ) لمجرّد رعاية الفاصلة ، إذ لو لا رعاية الفاصلة لقال : ثمّ فاسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا.

(٤) وقد قدّم خبر إنّ ، أعني (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ) على اسمها أعني (لَحافِظِينَ) لرعاية الفاصلة ، لأنّ محلّ الخبر هو التّأخير.

(٥) حيث قدّم (الْيَتِيمَ) على (تَقْهَرْ) و (السَّائِلَ) على (تَنْهَرْ) لرعاية الفاصلة.

(٦) أي (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الآية ناظرة إلى اليهود ، أي على الّذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفر ، وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالعصيان والكفر بنعم الله والجحود بأنبيائه ، فاستحقّوا بذلك تحريم هذه الأشياء عليهم.

والشّاهد : في قوله تعالى : (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث قدّم مفعول (يَظْلِمُونَ) لرعاية الفاصلة.

__________________

(١) سورة الحاقّة : ٣٠ و ٣١.

(٢) سورة الانفطار : ١٠.

(٣) سورة الضّحى : ٩ و ١٠.

(٤) سورة النّحل : ١١٩.

٢٨٨

ممّا لا يحسن (١) فيه اعتبار التّخصيص عند من له معرفة بأساليب (٢) الكلام [ولهذا] أي ولأنّ التّخصيص لازم للتّقديم غالبا [يقال : في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) معناه نخصّك (٣) بالعبادة والاستعانة] بمعنى (٤) نجعلك من بين الموجودات مخصوصا بذلك (٥) ، لا نعبد ولا نستعين غيرك [وفي (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(١) (٦) معناه إليه تحشرون ، لا إلى غيره ، ويفيد] التّقديم

______________________________________________________

(١) قوله : «ممّا لا يحسن فيه اعتبار التّخصيص» نفي الحسن لا يستلزم نفي الصّحّة ، ولهذا حمل صاحب الكشّاف ، والقاضي قوله تعالى : (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) على التّخصيص ، أي لا تصلّوه إلّا الجحيم.

(٢) أي قواعده على ما صرّح به ابن الأثير في (المثل السّائر) حتّى ذكر أنّ التّقديم في (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لرعاية حسن النّظم السّجعي الّذي هو على حروف النّون لا للاختصاص على ما قاله الزّمخشريّ.

(٣) أي نفرّدك بالعبادة ، الباء داخلة على المقصور على ما اصطلحوا عليه ، وقد تدخل على المقصور عليه ، كقولك : الجرّ مختصّ بالاسم ، فإنّ الجرّ مقصور والاسم مقصور عليه ، والتّخصيص هنا حقيقي خارج عن قصر الإفراد والقلب والتّعيين ، فإنّها أقسام للإضافي ، كما سيأتي في بحث القصر إن شاء الله تعالى.

(٤) إشارة إلى أنّ الباء داخلة على المقصور.

(٥) أي المذكور من العبادة والاستعانة.

(٦) قال الله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) والمعنى أخبر الله سبحانه عباده بأنّكم سواء متّم أو قتلتم ترجعون وتحشرون إلى الله ، فيجزى كلّ منكم لما يستحقّه.

الشّاهد :

في تقديم المجرور على متعلّقه لبيان اختصاص المتعلّق به ، وكلام أئمّة الأدب في تفسير الآيتين دليل على أنّ التّقديم يفيد التّخصيص ، لأنّه لم توجد آلة من آلات للحصر غير التّقديم ، واعلم أنّ الاختصاص والقصر بمعنى واحد عند علماء المعاني.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٨.

٢٨٩

[في الجميع] أي جميع صور التّخصيص (١) [وراء التّخصيص] أي بعده (٢) [اهتماما بالمقدّم (٣)] لأنّهم يقدّمون الّذي شأنه أهمّ ، وهم ببيانه (٤) أعني (ولهذا (٥) يقدّر) المحذوف (٦) (في] بسم الله [مؤخّرا) أي باسم الله أفعل كذا ، ليفيد مع الاختصاص الاهتمام ، لأنّ المشركين كانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم ، فيقولون : باسم اللّات ، باسم العزّى ، فقصد الموحّد تخصيص اسم الله بالابتداء (٧) للاهتمام والرّدّ عليهم.

______________________________________________________

(١) أي في جميع الصّور الّتي أفاد فيها التّقديم التّخصيص.

(٢) فسّر الشّارح «وراء» ببعد ، دون غير ، ليكون هذا التّفسير إشارة إلى أنّ تأخّر الاهتمام عن الاختصاص إنّما هو بحسب الرّتبة حيث يكون الاهتمام تابعا له ، ومتأخّرا عنه رتبة ، فالمقصود بالذّاتّ هو التّخصيص ، وهذا المعنى لا يستفاد من غير.

(٣) أي اهتماما بالمقدّم بعد التّخصيص ، والمراد بالاهتمام هو كون المقدّم ممّا يعتنى بشأنه لشرف وركنيّة ، فيقتضي ذلك تخصيصه بالتّقديم.

(٤) أي بذكر ما يدلّ عليه ، أعني أي أشدّ اهتماما ، وهم يرجع إلى البلغاء.

(٥) أي ولأجل أنّ التّقديم يفيد الاختصاص ، ويفيد مع ذلك الاهتمام والاعتناء بشأن ما أريد تقديمه يقدر المحذوف في] بسم الله [مؤخّرا.

(٦) أي عامل الجارّ والمجرور.

(٧) الباء داخلة على المقصور على ما اصطلحوا عليه ، أي فقصد الموحّد تخصيص الابتداء وقصره على اسم الله سبحانه للاهتمام ، حيث إنّه حاك عن الذّاتّ الواجب الوجود المستجمع لجميع الصّفات الكماليّة ، والرّدّ عليهم ، أي على المشركين ، فإنّهم كانوا يبدؤون بغير اسم الله ، ويهتمّون بذلك الغير ، ثمّ إنّ تخصيص الموحّد اسم الله بالابتداء ردّا عليهم من باب قصر القلب ، إن كان الكفّار قاصدين بقولهم : باسم اللّات والعزّى نفي الابتداء عن غير أسماء آلهتهم ، ومن باب قصر الإفراد إن كانوا قاصدين به تقرّبهم بالابتداء بأسمائها إليه سبحانه ، إذ على الأوّل هم يدّعون اختصاص تعلّق الابتداء بأسماء آلهتهم ، وعلى الثّاني يدّعون تعلّق الابتداء بها ، وباسمه تعالى ، ولازم ذلك كون القصر في الأوّل قصر قلب ، في الثّاني قصر إفراد.

٢٩٠

[وأورد (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) يعني لو كان (١) التّقديم مفيدا للاختصاص والاهتمام لوجب أن يؤخّر الفعل ويقدّم (بِاسْمِ رَبِّكَ ،) لأنّ كلام الله تعالى أحقّ برعاية ما تجب رعايته [وأجيب بأنّ الأهمّ فيه (٢) القراءة] لأنّها (٣) أوّل سورة نزلت ، فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض ، وإن كان ذكر الله أهمّ في نفسه ، هذا جواب جار الله العلّامة في الكشّاف [وبأنّه] أي باسم ربّك [متعلّق باقرأ الثّاني]

______________________________________________________

(١) وحاصل الإيراد :

إنّ التّقديم لا يفيد الاختصاص والاهتمام ، إذ لو كان مفيدا لهما لوجب أن يؤخّر الفعل ، ويقدّم ، (بِاسْمِ رَبِّكَ).

ويقال : باسم ربّك اقرأ ، لأنّ كلام الله أحقّ برعاية ما تجب رعايته من النّكات الّتي تجب رعايتها في الكلام البليغ ، فمن عدم تقديم الاسم على الفعل نستكشف أنّ التّقديم لا يكون مفيدا للاختصاص والاهتمام.

(٢) أي في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي الأهمّ فيه هو القراءة ، فلذا قدّم فيه الأمر بالقراءة على الاسم.

(٣) أي سورة اقرأ أوّل سورة نزلت ، قيل : أوّل ما نزل سورة الفاتحة ، وقيل : أوّل ما نزل سورة المدّثّر ، وكيف كان ، فكان الأمر بالقراءة أهمّ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن معتادا بها ، ولأنّ المقصود من إنزال القرآن هو الحفظ المتوقّف على القراءة.

والحاصل :

إنّ اسم الله سبحانه ، وإن كان له أهمّيّة ذاتيّة إلّا أنّ القراءة لها أهمّيّة عرضيّة بالبيان المتقدّم ، وإذا دار الأمر بين رعاية ما بالذّاتّ ، ورعاية ما بالعرض ، تقدّم الثّانية ، لأنّ ما بالعرض ممّا يقتضيه المقام أولى بالتّقديم ، وذلك :

أوّلا : إنّه مطابق لمقتضى الحال والمقام.

وثانيا : إنّه في معرض الذّهول والغفلة دون ما بالذّاتّ ، فلابدّ من رعايته لأن لا يقع في وادي الغفلة والذّهول.

٢٩١

أي هو مفعول اقرأ الّذي بعده (١) [ومعنى (٢)] اقرأ الأوّل أوجد القراءة] من غير اعتبار تعديته إلى مقروء به (٣) ، كما في فلان يعطي (٤) ويمنع ، كذا في المفتاح.

______________________________________________________

(١) والتّقدير : اقرأ باسم ربّك واذكره على وجه التّكرار دائما ، والدّوام والتّكرار مستفاد من الباء الزّائدة في باسم.

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، وتقريره : إنّ باسم ربّك إذا كان مفعولا ل (اقرأ) الثّاني ، فماذا مفعول اقرأ الأوّل ، والجواب أنّه نزّل الفعول المتعدّي منزلة اللّازم ، فعلى هذا لا يكون اقرأ الثّاني تأكيدا للأوّل ، بل هو مستأنف استئنافا بيانيّا جوابا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف أقرأ؟

وذلك لأنّ الثّاني أخصّ ولا تأكيد بين أخصّ وأعمّ ، وحينئذ لا يرد ما يقال : يلزم على جعل الأوّل لازما ، والثّاني متعدّيّا عاملا في الجارّ والمجرور المتقدّم عليه ، الفصل بين المؤكّد والمؤكّد بمعمول المؤكّد ـ بالكسر ـ ، وذلك لا يجوز على أنّه لو سلّمنا أنّ الأخصّ يصلح أن يكون للأعمّ ، لا نسلّم امتناع الفصل بين المؤكّد والمؤكّد بمعمول المؤكّد ـ بالكسر ـ كالفصل بين الموصوف والصّفة بمعمولها كقولك : مررت بزيد وعمرا ضارب.

(٣) أي إلى ما تعلّقت به القراءة ، ووقعت عليه ، وأمّا على الجواب الأوّل فقد اعتبر تعديته إلى مقروء ، وهو اسم ربّك ، فيكون اسم ربّك على الجواب الأوّل مقروء به ، لأنّه مستعان به أو متبرّك به في القرآن لا مقروء ، لأنّ المراد اقرأ القرآن ، أي أوجد القراءة مستعينا أو متبرّكا باسم ربّك.

(٤) أي فلان يوجد حقيقة الإعطاء من غير اعتبار تعلّقه إلى المعطي ، ويوجد حقيقة المنع من دون اعتبار تعلّقه بالممنوع ، كذا في المفتاح.

٢٩٢

تقديم بعض المعمولات على بعض

[وتقديم بعض معمولاته] أي معمولات الفعل [على بعض لأنّ أصله] أي أصل ذلك البعض (١) [التّقديم] على البعض (٢) الآخر [ولا مقتضى للعدول عنه] أي عن الأصل [كالفاعل في نحو : ضرب زيد عمرا] لأنّه (٣) عمدة في الكلام وحقّه أن يلي الفعل ، وإنّما قال في نحو : ضرب زيد عمرا ، لأنّ في نحو : ضرب زيدا غلامه ، مقتضيا للعدول عن الأصل (٤) [والمفعول الأوّل في نحو : أعطيت زيدا درهما] فإنّ أصله التّقديم لما فيه (٥) من معنى الفاعليّة ، وهو أنّه عاط ، أي آخذ للعطاء [أو لأنّ ذكره] أي ذكر ذلك البعض الّذي يقدّم [أهمّ] جعل الأهمّيّة ههنا قسيما (٦) لكون الأصل التّقديم ، وجعلها (٧) في المسند إليه شاملا له ولغيره

______________________________________________________

(١) كالفاعل حيث يكون الأصل فيه تقديمه على المفعول.

(٢) أي كالمفعول حيث يكون الأصل فيه تأخيره عن الفاعل.

(٣) أي لأنّ الفاعل عمدة في الكلام ، أي ركن له فلذا يكون الأصل فيه التّقديم.

(٤) أي اصل تقديم الفاعل على المفعول ، لأنّه لمّا اتّصل بالفاعل ضمير يعود إلى المفعول وجب تأخير الفاعل عن المفعول ، لئلّا يلزم عود الضّمير إلى المتأخّر لفظا ورتبة ، أو لئلّا يلزم الإضمار قبل الذّكر لفظا ومعنى.

(٥) بيان لما هو السّبب لتقديم المفعول الأوّل على المفعول الثّاني ، لأنّ المفعول الأوّل في باب الإعطاء فاعل في المعنى ، فيكون الأصل فيه ، كما أنّ الأصل في الفاعل هو التّقديم.

(٦) أي ضدّا للأصل حيث يكون «لأنّ ذكره» عطفا على «لأنّ أصله» بكلمة أو ، ولا يعطف بأو إلّا الضّدّ على الضّدّ.

(٧) أي جعل الأهمّيّة في باب المسند إليه شاملا للأصل وغيره ، حيث قال في أحوال المسند إليه : وأمّا تقديمه «فلكون ذكره أهمّ» إمّا لأنّه الأصل ، ولا مقتضى للعدول عنه ، وإمّا ليتمكّن الخبر في ذهن السّامع ، فيكون بين ما ذكره في أحوال المسند إليه ، وبين ما ذكره هنا تناقض واضح.

وحاصل الكلام في هذا المقام : إنّ قول الشّارح أعني «جعل الأهمّيّة ههنا قسيما لكون الأصل التّقديم ...» اعتراض على المصنّف بأنّ كلامه هنا مخالف لكلامه في أحوال المسند إليه الموافق لكلام القوم ، وتوضيح ذلك أنّه قد جعل في باب المسند إليه الأهمّيّة أمرا شاملا ،

٢٩٣

من الأمور المقتضية للتّقديم ، وهو الموافق لما في المفتاح ، ولما ذكره الشّيخ عبد القاهر حيث قال : إنّا نجدهم (١) اعتمدوا في التّقديم شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام (٢) ، لكن ينبغي أن يفسّر وجه (٣) العناية بشيء يعرف له (٤) معنى. وقد ظنّ (٥) كثير من النّاس أنّه يكفي أن يقال : قدّم للعناية ، ولكونه أهمّ من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية ،

______________________________________________________

لكون الأصل التّقديم ، ولغيره حيث قال : «وأمّا تقديمه فلكون ذكره أهمّ ، إمّا لأنّه الأصل ، ولا مقتضى للعدول عنه ، وإمّا ليتمكّن الخبر في ذهن السّامع ، وإمّا لتعجيل المسرّة أو المساءة ...» إلى آخر ما ذكره هناك.

فعليه لا يصحّ ما صنعه هنا ، حيث عطف «الأهمّيّة» على «كون الأصل التّقديم» بأو ، فيلزم جعل الخاصّ قسيما للعامّ ، وهو باطل.

وبعبارة أخرى :

إنّ صنيع المصنّف في هذا الباب يستلزم جعل قسم الشّيء قسيما له بمقتضى ما ذكره في بحث المسند إليه.

(١) أي البلغاء.

(٢) عطف تفسيري على «العناية» ، فجعل الاهتمام كالقاعدة الكلّيّة في مطلق الشّمول ، فيعلم أنّ الأصل وغيره من مشمولات الأهمّيّة وجزئيّاتها ، فيلزم الإشكال المذكور.

(٣) أي سبب العناية.

(٤) أي يعرف لذلك الشّيء معنى كالأصالة ، وتمكين الخبر في ذهن السّامع ، وغيرهما من المذكورات هنا في بيان الأهمّيّة.

(٥) أي ظنّ كثير من النّاس ظنّا خطأ ، «أنّه» أي الشّأن يكفي أن يقال : قدّم للعناية ، أي يفهم من كلام الشّيخ عبد القاهر أنّ الأهمّيّة لا تكفي سببا للتّقديم.

٢٩٤

وبم كان أهمّ (١) فمراد (٢) المصنّف بالأهمّيّة ههنا الأهمّيّة العارضة بحسب اعتناء المتكلّم أو السّامع بشأنه (٣) والاهتمام بحاله لغرض من الأغراض (٤) [كقولك : قتل الخارجيّ (٥) فلان] لأنّ الأهمّ (٦) في تعلّق القتل هو الخارجيّ المقتول ، ليخلّص النّاس من شرّه [أو لأنّ في التّأخير (٧) إخلالا ببيان المعنى ،

______________________________________________________

(١) أي إلى هنا كلام الشّيخ عبد القاهر.

(٢) إشارة إلى دفع الاعتراض المذكور ، وحاصل الدّفع : إنّ الأهمّيّة المطلقة إلى الغير المقيّدة بذاتيّة أو عرضيّة لها أسباب منها أصالة التّقديم ، وتمكين الخبر في ذهن السّامع ، وتعجيل المسرّة أو المساءة ، إلى غير ذلك ، ممّا تقدّم في بحث المسند إليه ، فإن كان سببها غير كون الأصل التّقديم من تعجيل المسرّة ونحوه ، فالأهمّيّة تكون عرضيّة مقابلة للأهميّة ، وإن كان سببها كون الأصل التّقديم ، فالأهميّة ذاتيّة.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ المصنّف أراد هنا من الأهمّيّة الأهمّيّة العارضة المقابلة للأهمّيّة الذّاتيّة ، وأراد بالأهمّيّة في بحث المسند إليه الأهمّيّة المطلقة ، فحينئذ ليس في المقام من جعل قسم الشّيء قسيما له عين ولا أثر ، بل إنّما جعل قسم الشّيء قسيما له ، لأنّ الأهمّيّة العارضة قسيم للأهمّيّة الذّاتيّة.

(٣) أي بشأن المقدّم.

(٤) أي غير أصالة التّقديم ، ممّا تقدّم كتعجيل المسرّة أو المساءة أو الاستلذاذ.

(٥) وهو الخارج على السّلطان ، والمراد منه الباغيّ ، فالنّسبة إليه من نسبة الجزئيّ إلى الكلّيّ.

(٦) أي الأهمّ هنا هو وقوع الفعل على المفعول لا صدوره عن الفاعل ، وحاصله أنّه يقدّم المفعول كالخارجيّ في المثال على الفاعل ـ كالفلان في المثال ـ إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه ، لا وقوعه ممّن صدر عنه ، كما إذا خرج رجل على السّلطان ، وعاش في البلاد ، وكثّر به الأذى فقتل ، وأردت أن تخبر بقتله ، فتقول : قتل الخارجيّ فلان بتقديم الخارجيّ ، وهو المفعول على فلان ، وهو الفاعل ، إذ ليس للنّاس فائدة في أن يعرفوا قاتله ، وإنّما الّذي يريدون علمه وقوع القتل عليه ليتخلّصوا من شرّه.

(٧) أي تأخير ذلك المفعول الّذي قدّم «إخلالا ببيان المعنى» المراد ، وذلك بأن يكون

٢٩٥

نحو قوله تعالى (١) : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ)(١) فإنّه لو أخّر] قوله : (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) عن قوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [لتوهّم أنّه من صلة (يَكْتُمُ) أي يكتم إيمانه من آل فرعون ، [فلم يفهم أنّه] أي ذلك الرّجل كان [منهم] أي من آل فرعون ، والحاصل إنّه ذكر لرجل ثلاثة أوصاف :

______________________________________________________

التّأخير موهما لمعنى هو غير مراد ، فيقدّم المفعول لأجل الاحتراز والتّباعد عن هذا الإيهام.

(١) بعده قوله تعالى : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ).

المعنى : لمّا قصد فرعون قتل موسى ، وعظه وأتباعه رجل مؤمن من آله ، وأخبر الله عن ذلك في هذه الآية ، فقال : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) منه ومن أتباعه على وجه التّقيّة ، وهذا الرجّل على ما ذكره بعض المفسّرين هو الّذي كان وليّ عهده من بعده ، وكان اسمه حبيب ، وقيل : اسمه حزبيل ، (أَتَقْتُلُونَ) الهمزة للإنكار ، أي لا تقتلوا رجلا لأجل أنّه يقول : (رَبِّيَ اللهُ ،) والحال أنّه (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) الدّالّة على صدقه من المعجزات كالعصا واليد البيضاء وغيرهما.

ثمّ قال ـ على وجه التّلطّف ـ : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي فعليه وبال كذبه ، ولا ضير عليكم ، (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) من النّجاة على تقدير إيمانهم ، والهلاك على تقدير ثباتهم على الكفر ، فإنّ موسى عليه‌السلام كان يعدهم النّجاة على تقدير الإيمان ، والهلاك على تقدير الكفر.

والشاهد فيه :

تقديم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) على (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) احترازا عن الإخلال في المعنى على فرض التّأخير ، إذ لتوهّم توهّما قريبا أنّ صلة (يَكْتُمُ) لا تكون منحصرة في المفعول ، أي إيمانه ، بل له صلة أخرى ، وهي كون الرّجل من غير آل فرعون فلم يفهم أنّ ذلك الرّجل من آل فرعون ، والحال إنّ الغرض بيان أنّه منهم لإفادة ذلك مزيّة عناية ، حيث آمن به سبحانه مع كونه من آل فرعون ، فالتّأخير فيه إخلال بهذا المقصود المهمّ ، وقد ذكر لرجل ثلاثة أوصاف :

__________________

(١) سورة المؤمن : ٢٨.

٢٩٦

قدّم الأوّل أعني مؤمن (١) لكونه أشرف ، ثمّ الثّاني لئلّا يتوهّم خلاف المقصود (٢) [أو] لأنّ في التّأخير إخلالا [بالتّناسب كرعاية الفاصلة نحو : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى)(١) (٣)] بتقديم الجارّ والمجرور والمفعول على الفاعل ، لأنّ فواصل الآي على الألف.

______________________________________________________

الأوّل : كونه مؤمنا.

الثّاني : كونه من آل فرعون.

الثّالث : كونه يكتم إيمانه.

(١) أي قدّم الأوّل على الثّاني لكونه أشرف منه.

(٢) أي قدّم الثّاني على الثّالث لئلّا يتوهّم خلاف المقصود ، لأنّ المراد بيان كون الرّجل المؤمن من آل فرعون ، لا بيان كونه يكتم إيمانه منهم ، وفي التّأخير توهّم خلاف المراد ، وفي التّقديم عدمه ، ولذا قدّم ولم يؤخّر.

(٣) قال الله تعالى ـ على نحو الحكاية ـ : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى).

الشّاهد :

في تقديم قوله : (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) عن قوله : (مُوسى) وهو فاعل ل (فَأَوْجَسَ ،) فلو أخّر لفاتت الفاصلة ، لأنّ الفاصلة في الآي هي الألف ، وإنّما قدّم الجارّ والمجرور أعني (فِي نَفْسِهِ) على المفعول أعني (خِيفَةً ،) وإن كان حقّ المفعول التّقديم عليه ، كما سبق ، لأنّ تقديمه يفهم حصر الخيفة في نفسه ، بناء على توهّم كون الظّرف نعتا له ، وهو غير مراد.

__________________

(١) سورة طه : ٦٧.

٢٩٧

باب القصر

[القصر] في اللّغة الحبس (١) وفي الاصطلاح تخصيص شيء بشيء (٢) بطريق مخصوص (٣) وهو (٤) [حقيقيّ وغير حقيقيّ (٥)]

______________________________________________________

(١) تقول :

قصرت نفسي على الشّيء ، إذا حبستها عليه ، كما تقول : قصرت الشّيء على كذا ، إذا لم يتجاوز به غيره.

ومن القصر بمعنى الحبس قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(١) أي محبوسات فيها ، أي حبسن على أزواجهنّ فلا يبرزن لغيرهم.

وقال بعضهم :

هو في اللّغة عدم المجاوزة إلى الغير ، فهو من قصر الشّيء على كذا إذا لم يتجاوز به إلى غيره ، لا من قصرت الشّيء حبسته بدليل تعديته بعلى ، فتقول : قصرت الشّيء على كذا.

(٢) أي جعل شيء خاصّا بشيء ، فالباء داخلة على المقصور عليه على ما هو الظّاهر من العبارة.

(٣) أي بأحد الطّرق الأربعة الآتية من النّفي والاستثناء وغيرهما ، ولجملة القصر أركان ثلاثة : المقصور ، المقصور عليه ، أداة القصر.

(٤) أي ذات القصر ، ولفظ القصر ، فيكون قوله : «هو» ترجمة للقصر ، فقول الشّارح حيث أتى بالضّمير ، وقال : «وهو» إشارة إلى أمرين :

الأوّل : ترجمة القصر.

الثّاني : قوله : «حقيقيّ» خبر لمبتدأ محذوف ، وعليه فيكون في كلام المصنّف استخدام ، لأنّ الضّمير المقدّر الرّاجع إلى القصر بمعنى التّخصيص ، لا بمعنى الذّاتّ ، واللّفظ والتّرجمة.

(٥) أي القصر بالمعنى الاصطلاحي ينقسم إلى قسمين ، أي الحقيقيّ والإضافيّ ، وليس المراد بالحقيقيّ هنا ما يقابل المجازيّ ، فلفظ القصر يطلق على كلّ منهما حقيقة.

__________________

(١) سورة الرّحمن : ٧٢.

٢٩٨

لأنّ تخصيص الشّيء بالشّيء إمّا أن يكون بحسب الحقيقة ، وفي نفس الأمر (١) بأن لا يتجاوزه إلى غيره أصلا ، وهو الحقيقيّ (٢) أو بحسب الإضافة إلى شيء آخر ، بأن لا يتجاوزه إلى ذلك الشّيء ، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر في الجملة ، وهو غير حقيقيّ ، بل إضافيّ (٣) كقولك : ما زيد إلّا قائم ، بمعنى أنّه (٤) لا يتجاوز القيام إلى القعود ، لا بمعنى أنّه لا يتجاوزه إلى صفة آخر أصلا (٥) وانقسامه (٦) إلى الحقيقيّ والإضافيّ بهذا المعنى لا ينافي كون التّخصيص مطلقا من قبيل الإضافات.

______________________________________________________

(١) حاصل ما يظهر من الشّارح في انقسام القصر إلى حقيقيّ وغير حقيقيّ ، أنّ الحقيقيّ نسبة إلى الحقيقة ، بمعنى نفس الأمر ، لأنّ قوله : «وفي نفس» عطف تفسيريّ للحقيقة يسمّى القصر قصرا حقيقيّا ، لأنّ عدم تجاوز المقصور للمقصور عليه فيه بحسب نفس الأمر ، وأنّ الإضافيّ نسبة للإضافة ، لأنّ عدم التّجاوز فيه بالإضافة إلى شيء مخصوص ، وفيه نظر ، فإنّ عدم التّجاوز في كلّ من الحقيقيّ والإضافي بحسب نفس الأمر ، إذ لا بدّ في كلّ منهما من المطابقة لنفس الأمر ، وإلّا كان كاذبا ، وحينئذ فلا تظهر مقابلة عدم التّجاوز بحسب الإضافة إلى شيء لعدم التّجاوز بحسب نفس الأمر ، لأنّ عدم التّجاوز بحسب الإضافة إلى شيء بحسب نفس الأمر أيضا ، كما علمت فلا يصحّ ما ذكره الشّارح.

(٢) كقولنا : لا رازق إلّا الله ، فإنّ حصر الرّازقيّة في الله سبحانه وتخصيصها به ، بالنّسبة إلى جميع ما عداه بمعنى أنّ هذه الصّفة لا يتجاوزه إلى غيره.

(٣) دفع لتوهّم أنّ المراد بكونه غير حقيقيّ أنّه مجازيّ ، كما قيل.

(٤) أي زيد لا يكون قاعدا لا يتجاوز القيام إلى القعود ، ولكن يتجاوزه إلى غيره من العلم والشّعر والكتابة.

(٥) أي لو لم يتجاوز إلى صفة أخرى أصلا لكان القصر حقيقيّا ، وهو خلاف المفروض.

(٦) جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ القصر هو التّخصيص والتّخصيص مطلقا ، أي سواء كان حقيقيّا أو إضافيّا من الأمور الإضافيّة ، لأنّها عبارة عن جعل شيء خاصّا بشيء ، فلا محالة يتوقّف تصوّره على تصوّرهما ، فإذا يمتنع اتّصافه بالحقيقيّ ، فلا يصحّ تقسيمه إلى الحقيقيّ والإضافيّ ، لأنّه من تقسيم الشّيء إلى نفسه وغيره.

٢٩٩

[وكلّ واحد منهما] أي من الحقيقيّ وغيره [نوعان : قصر الموصوف على الصّفة] وهو (١) أن لا يتجاوز الموصوف تلك الصّفة إلى صفة أخرى ، لكن يجوز أن تكون تلك الصّفة لموصوف آخر [وقصر الصّفة على الموصوف] وهو أن لا تتجاوز تلك الصّفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر (٢) ، لكن يجوز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخر.

______________________________________________________

وحاصل الجواب : إنّه ليس المراد بالحقيقيّ ما يكون تعقّله في حدّ ذاته لا بالقياس إلى الغير ، بل المراد به التّخصيص الملحوظ بالإضافة إلى جميع ما عدا المقصور عليه ، فهو بهذا المعنى نوع من الإضافة ، بمعنى ما يكون تعقّله محتاجا إلى تعقّل غيره ، كما أنّ الإضافيّ هنا هو التّخصيص الملحوظ بالقياس إلى بعض ما عدا المقصور عليه نوع من الإضافة ، فإذا لا مجال لتخيّل كون هذا التّقسيم من تقسيم الشّيء إلى نفسه وإلى غيره ، لأنّ الإضافات هي النّسب الّتي يتوقّف تعقّلها على تعقّل غيرها ، وهذا المعنى ثابت في القصر الحقيقيّ والإضافيّ ، لتوقّف تعقّل القصر على تعقّل المقصور والمقصور عليه.

(١) أي قصر الموصوف على الصّفة أن لا يتجاوز الموصوف تلك الصّفة إلى صفة أخرى ، كقولك : ما زيد إلّا قائم ، فقد قصرت زيدا على القيام ، ولم يتجاوزه إلى القعود ، ويصحّ أن تكون تلك الصّفة ، وهي القيام لموصوف آخر ، مثل عمرو مثلا.

(٢) كقولك : ما قائم إلّا زيد ، فقد قصرت القيام على زيد بحيث لا يتجاوزه ، وإن كان زيد متّصفا بصفات أخر ، كالأكل والشّرب.

وقوله : «إلى موصوف آخر» المراد هو جنس الموصوف الآخر الصّادق على كلّ موصوف وعلى بعض معيّن.

ولا بأس بذكر أقسام القصر : إنّ أقسام القصر على ما يستفاد من مطاوي كلمات الشّارح ترتقي إلى (٧٠) قسما ، بيان ذلك : إنّ القصر إمّا حقيقيّ وإمّا إضافيّ.

والأوّل : إمّا تحقيقيّ وإمّا ادّعائي ، وكلّ منهما إمّا قصر الموصوف على الصّفة ، وإمّا قصر الصّفة على الموصوف ، والمجموع الحاصل من ضرب الاثنين في الاثنين أربعة ج أقسام ، وعلى جميع التّقادير الطّريق المفيد للحصر إمّا ما وإلّا ، وإمّا إنّما ، وإمّا العطف ، وإمّا تقديم ما حقّه التّأخير ، وإمّا ضمير الفصل ، وإمّا تعريف المسند بلام الجنس أو الاستغراق ، وإمّا تعريف المسند إليه بلام الجنس أو الاستغراق ، ثمّ المجموع الحاصل من ضرب الأربعة في

٣٠٠