دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

لأنّه (١) أراد أن (٢) يقول : أفناني النّحول فلم يبق منّي (٣) غير خواطر تجول (٤) فيّ ، حتّى لو شئت البكاء (٥)

______________________________________________________

يتصور إذا كان المبيّن ـ بالكسر ـ عين المبيّن ـ بالفتح ـ ، وما في البيت ليس كذلك ، لأنّ المراد بالأوّل هو البكاء الحقيقي ، فلا يصحّ بيانه بالثّاني.

والحاصل إنّ المصنّف لما ذكر أنّ مفعول فعل المشيئة يحذف للبيان بعد الإبهام ، ما لم يكن غريبا. يرد عليه بهذا البيت ، ويقال : إنّ المفعول فيه غير غريب ، ولم يحذف ، فأجاب بأنّه ليس ممّا فيه بيان بعد إبهام ، ويحصل الرّد على صدر الأفاضل أيضا ، كما لا يخفى.

والمتحصّل من الجميع إنّ ذكر مفعول المشيئة ليس لأجل غرابة تعلّق المشيئة به على كلا التّقديرين ، إذ لو كان المراد بالبكاء الأوّل البكاء التّفكّري لوجب أن يقول : لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، وذلك لغرابة تعلّق المشيئة بالبكاء التّفكّري.

(١) تعليل لما ذكره من أنّ المراد بالأوّل البكاء الحقيقي ، لا البكاء التّفكّري ، وحاصل التّعليل : إنّ الكلام مع إرادة البكاء الحقيقي من الأوّل أنسب بمراد الشّاعر ، وهو المبالغة في فنائه حتّى أنّه لم يبق فيه مادّة سوى التّفكّر ، حيث إنّه يكون المعنى على هذا التّقدير ، لو طلبت من نفسي بكاء لم أجده ، بل أجد التّفكّر بدله ، وأمّا لو كان المعنى لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيته ، لم يفد أنّه لم يبق فيه إلّا التّفكّر ، لصحّة بكاء التّفكّر الّذي هو الحزن عند كثرته ، مع بقاء مادّة أخرى.

(٢) أي أفناني من الإفناء أي جعلني النّحول ، أي الهزال فانيا ، يعني أراد الشّاعر أن يقول :

أضعفني الحزن والهزال والضّعف.

(٣) أي فلم يبق الشّوق منّي غير خيالات ، وتفكّر تردّد في قلبي.

(٤) أي تردّد في قلبي ، أعني تذهب وتأتي.

(٥) أي البكاء الحقيقي ، أعني الدّمع.

٢٦١

فمرّيت جفوني (١) ، وعصرت عيني (٢) ليسيل منها دمع لم أجده (٣) ، وخرج منها (٤) بدل الدّمع التّفكّر ، فالبكاء (٥) الّذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم (٦) غير معدّى (٧) إلى التّفكّر البتة ، والبكاء الثّاني مقيّد (٨) معدّى إلى التّفكّر ، فلا يصلح (٩) أنّ

______________________________________________________

(١) الجفون غلاف العين ، و» مرّيت» بمعنى مسحت ، أي فمسحت جفوني ، وأمررت يدي عليها ليسيل الدّمع ، وضمير لم أجده يعود إلى الدّمع.

(٢) أي من دون إمرار اليد عليها.

(٣) جواب لو في قوله : «لو شئت البكاء» أي حتّى لو شئت البكاء ، أي الدّمع ، لم أجده.

(٤) أي من العين أي خرج منها ، بدل الدّمع المطلوب ، التّفكّر الّذي ليس بمطلوب.

(٥) إذا عرفت ما ذكرناه من بيان مقصود الشّاعر ، فظهر أنّ» البكاء الّذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم» ، المراد هو بكاء مطلق ، باعتبار عدم إرادة تعلّقه بمفعول مخصوص ، مبهم بحسب اللّفظ ، وإن كان معيّنا بحسب القصد ، لأنّ المقصود به البكاء الحقيقي.

والمعنى لو شئت أن أوجد حقيقة البكاء لما قدرت على الإتيان بها ، لانعدام مادّة الدّمع فيّ ، وحينئذ فأبكي نزّل منزلة اللّازم كما قيل : والأليق بقول المصنّف أن يقال : فلو شئت أن أبكي دمعا لبكيته فحذف المفعول للاختصار.

(٦) المراد بالإبهام أنّه لم يبيّن متعلّق البكاء ومفعوله ، فيكون تفسيرا للإطلاق ، إذ حينئذ يكون المراد بإطلاقه وإبهامه عدم إرادة تعلّقه بمفعول مخصوص.

(٧) أي غير متجاوز» إلى التّفكر البتّة» ، أي جزما ويقينا.

(٨) أي مقيّد حيث اعتبر فيه تعلّقه بمفعول ، وهو» تفكّرا» فقوله : معدّى إلى التّفكّر تفسير لقوله : «مقيّد».

(٩) وفي بعض النّسخ فلا يصحّ ، والمفاد واحد ، والمعنى فلا يصلح ، أو فلا يصحّ أن يكون البكاء الثّاني تفسيرا للبكاء الأوّل ، وبيانا له ، لعدم كونهما متناسخين ، فإنّ أحدهما مطلق والآخر مقيّد ، فلابدّ في التّفسير أن يكون المفسّر والمبيّن عين المفسّر والمبيّن.

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يكون البكاء الثّاني قرينة للبكاء الأوّل ، إذ لا بدّ فيما يكون قرينة على شيء ، اتّحاد معناه مع ذلك الشّيء ، ولا اتّحاد بينهما في المقام ، فإذا لا بدّ من الالتزام بأنّ عدم حذف مفعول المشيئة إنّما هو لقصور المقتضي ، وعدم الدّليل لا من جهة المانع ، وهو كون تعلّق المشيئة به غريبا.

٢٦٢

يكون تفسيرا للأوّل وبيانا له (١) ، كما إذا لو شئت أن تعطي (٢) درهما أعطيت درهمين ، كذا في دلائل الإعجاز (٣) ، وممّا نشأ في هذا المقام (٤) من سوء الفهم وقلّة

______________________________________________________

(١) ولهذا ذكر مفعول المشيئة هنا مع عدم غرابته.

(٢) أي كما أنّ الدّرهمين لا يصلح تفسيرا للدّرهم ، لا يصلح البكاء الثّاني أيضا تفسيرا للأوّل المطلق المبهم ، والجامع عدم المناسبة بين المفسّر والمفسّر في البيت والمثال ، فلا يجوز حذف جملة» أن تعطي درهما» بقرينة جملة» أعطيت درهمين» لأنّها لا تصلح أن تكون قرينة لها لتباينهما بسبب تباين مفعوليهما ، حيث إنّ المفعول في الأوّل درهم ، وفي الثّاني درهمان ، وهذا المقدار من المخالفة ينافي التّفسير ، بل موهم لخلاف المقصود عند الحذف ، إذ لو قيل : لو شئت أن تعطي أعطيت درهمين ، يتوهّم أنّ المراد من الأوّل أيضا إعطاء الدّرهمين.

ثمّ إنّ هذا المثال تنظير للمقام من حيث عدم صلاحيّة الثّاني أن يكون تفسيرا للأوّل لا من جميع الخصوصيات ، فإنّ الاختلاف في المقام من حيث الإطلاق والتّقييد ، وفي المثال من ناحية خصوصيّة القيد.

إن لماذا جعل المصنّف الفعل الأوّل في البيت مطلقا ، ولم يجعله متعدّيّا إلى الدّمع ، بالالتزام بحذفه للاختصار.

إنّ الوجه فيه أنّ مقصود الشّاعر من المبالغة المذكورة يحصل بمجرد إرادته البكاء الحقيقي من الأوّل ، من دون اعتبار تعلّقه بمفعول خاصّ ، وهو الدّمع ، ومقتضى ذلك جعله مطلقا ومنزّلا منزلة اللّازم.

(٣) أي ما ذكره الشّارح من قوله : «لأنّه أراد أن يقول ...» إلى هنا مذكور في دلائل الإعجاز ، وقد نقل المصنّف هذا في الإيضاح أيضا بأدنى تغيير.

(٤) أي مقام شرح قول المصنّف ، أعني» وأمّا قوله» إلى» فليس منه».

٢٦٣

التّدبّر ، ما قيل : إنّ الكلام في مفعول (١) أبكي والمراد (٢) إنّ البيت ليس من قبيل ما حذف فيه المفعول (٣) للبيان بعد الإبهام ، بل إنّما حذف لغرض آخر (٤) وقيل (٥)

______________________________________________________

(١) أي في حذف مفعول» أبكي» لا في حذف مفعول المشيئة ، وحاصل الكلام في هذا المقام : إنّ الكلام كان في مفعول» شئت» إلّا أنّ بعض الشّراح جعل قول المصنّف ، وهو» وأمّا قوله» إلى قوله : «فليس منه» مسوقا لمفعول» أبكي» لا لمفعول المشيئة ، كما هو التّقرير الأوّل ، وقال : «إنّ الكلام» ، أي كلام المصنّف في مفعول» أبكي» أعني» تفكّرا» لا في مفعول» شئت» أعني جملة» أبكي».

(٢) أي ومراد المصنّف بقوله : «فليس منه» في المتن المتقدّم.

(٣) أي مفعول» أبكي» أعني» تفكّرا» ، أي ليس الحذف للبيان بعد الإبهام.

(٤) أي إنّما حذف مفعول» أبكي» ،» لغرض آخر» من الأغراض التّي توجب الحذف كالاختصار أو التّعميم أو الضّرورة ، أو كونه من باب التّنازع.

ثمّ وجه كون هذا القول ناشئا من سوء الفهم وقلّة التّدبّر أمران :

الأوّل : إنّ هذا مناف لسياق كلام المصنّف ، لأنّ كلامه السّابق كان حول مفعول المشيئة لا حول مفعول» أبكي».

الثّاني : إنّ قول المصنّف هنا ، أعني» وأمّا قوله : ولم يبق» إلى قوله : «لأنّ المراد بالأوّل البكاء الحقيقي» مسوق للرّدّ على صدر الأفاضل القائل بأنّ ذكر مفعول المشيئة في البيت للغرابة ، وليس مسوقا للرّدّ على من زعمّ من أنّ الحذف في البيت للبيان بعد الإبهام ، إلّا أن يقال : إنّه لا مانع من أن يكون قوله : «وأما قوله : فلم يبق ...» مرتبطا بأصل المبحث وهو الحذف للبيان بعد الإبهام ، ويكون القصد دفع توهّم أنّ المراد أبكي تفكّرا ، فحذف» تفكّرا» للبيان بعد الإبهام ، ولكنّ الظّاهر من المصنّف أنّ قصده هو الرّدّ على من زعم أنّ ذكر مفعول المشيئة هنا للغرابة.

والحاصل إنّ ما قيل : إنّ الكلام في مفعول أبكي ، ناشئ من سوء الفهم وقلّة التّدبّر ، لأنّ قائله لم يتدبّر عبارة المتن ، فإنّ قول المصنّف : لأنّ المراد بالأوّل البكاء الحقيقي لا يساعده.

(٥) وفي بعض الحواشي إنّ هذا هو قول صدر الأفاضل ، وإنّما أعاده ليبيّن وجه فساده.

وقيل إنّ هذا توجيه لكلام صدر الأفاضل فيقال من جانبه إنّ المراد من قوله : «لو شئت أن

٢٦٤

يحتمل أن يكون المعنى لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، أي لم يبق فيّ مادّة الدّمع ، فصرت بحيث أقدر على بكاء التّفكّر ، فيكون (١) من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيئة لغرابته ، وفيه (٢) نظر لأنّ ترتّب هذا الكلام على قوله : لم يبق مني الشّوق غير تفكّري ،

______________________________________________________

أبكي بكيت تفكّرا» ليس مجرّد بيان أنّ الشّاعر علّق بكاء التّفكّر على مشيئته وإرادته ، حتّى يرد عليه أنّ هذا خال عن المبالغة ، ومعنى مغسول لا مزيّة له ، بل مراده به إنّ الشّاعر أتى بهذا التّعليق بعد اعتباره عدم بقاء الدّمع في المادّة ، فإذا لا مجال لدعوى خلوّه عن المبالغة.

وقد أجاب عنه الشّارح بقوله : «وفيه نظر» ، والحقّ إنّ هذا قول آخر غير قول صدر الأفاضل ، ويريد هذا القائل : إنّ المراد بالبكاء الأوّل أيضا غير الحقيقي ، أعني بكاء التّفكّر فيصحّ أن يكون الثّاني تفسيرا للأوّل ، فيكون ذكر مفعول المشيئة فيه مع بيانه وتفسيره لغرابته ، لأنّ تعلّق المشيئة ببكاء التّفكر أمر عجيب وغريب.

(١) أي فيكون قول الشّاعر من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيئة للغرابة ، والفرق بين هذا القول وقول صدر الأفاضل : أنّ صدر الأفاضل لم يعتبر عدم بقاء مادّة الدّمع بخلاف هذا القائل حيث اعتبر عدم بقاء مادّة الدّمع ، فالمعنى لم يبق فيّ ، أي في كبدي مادّة الدّمع ، وصرت أقدر على بكاء التّفكّر ، فلو شئت أن أبكي تفكّرا لبكيت تفكّرا ، وعلى كلّ حال فيرد عليهما بما قال الشّارح بقوله : «وفيه نظر».

(٢) أي في قول القائل نظر وإشكال ، وهو أنّ الشّاعر قد رتّب قوله : «فلو شئت أن أبكي تفكّرا» على قوله : «فلم يبق منّي الشّوق غير تفكّري» والتّرتب جاء من الفاء ، ولا ريب أنّ هذا التّرتّب لا يصحّ لو كان المراد من البكاء الأوّل أيضا بكاء التّفكّر ، لأنّ المناسب للتّرتّب كونه إذا طلب بكاء آخر لم يجد سوى التّفكّر.

هذا ما أشار إليه بقوله : «يأبى هذا المعنى» أي التّرتيب يأبى هذا المعنى ، أي كون المراد من البكاء الأوّل هو التّفكّر ، فقوله : «يأبى» خبر أنّ في قوله : «لأنّ التّرتب».

ثمّ بكاء التّفكّر ليس سوى الحزن والأسف على عدم نيل المراد ، وهذا لا يتوقّف على أن لا يبقى الشّوق فيه غير التّفكّر ، وعلى عدم كونه قادرا على البكاء الحقيقي لجواز حصوله ممّن يقدر على البكاء بالدّمع ، كما نرى أنّ كثيرا من النّاس يظهرون الحزن والأسف مع أنّهم قادرون على البكاء الحقيقي ، فإذا لا بدّ من الالتزام بأنّ المراد بالبكاء الأوّل البكاء الحقيقيّ حتّى يصحّ

٢٦٥

يأبى هذا المعنى عند التّأمّل الصّادق ، لأنّ (١) القدرة على بكاء التّفكّر لا تتوقّف على أن لا يبقى فيه غير التّفكّر ، فافهم (٢).

______________________________________________________

التّرتّب ، فإنّ خروج التّفكّر من العين ، مع أنّ المطلوب كان خروج الدّمع يتوقّف على عدم بقاء الشّوق ومادّة الدّمع.

(١) تعليل لقوله : «يأبى هذا المعنى» ، أي لأنّ هذا المعنى يوجب توقّف القدرة على بكاء التّفكّر على أن لا يبقى فيه غير التّفكّر ، وهذا التّوقف منتف ، بل المتوقّف على عدم بقاء غير التّفكّر ، هو عدم القدرة على البكاء الحقيقي ، لا القدرة على البكاء التّفكّري ، بل هذه القدرة ثابتة عند بقاء غير التّفكّر أيضا.

والحاصل إنّ الكلام في مفعول» لو شئت» لا في مفعول» أبكي» ، والمعنى لو شئت أن أبكي دمعا بكيت تفكّرا ، لا لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، فيكون هذا البيت من قبيل ما ذكر مفعول المشيئة ، لعدم التّفسير والبيان لا لغرابة التّعلّق.

(٢) لعلّه أشار إلى بطلان ما ذهب إليه صدر الأفاضل من جهة أخرى ، لأنّ لازم ذلك هو الإخبار عن بكاء التّفكّر عند إرادة بكاء التّفكّر ، وليس ذلك إلا من قبيل توضيح الواضحات ، أو إشارة إلى أنّ الفاء لا يقتضي إلا ترتّب مدخوله على ما قبله ، ومسببّيته له ، لا توقّفه بحيث لا يوجد بدونه ، لجواز تعدّد الأسباب لشيء واحد.

فإذا لا وجه للاعتراض على صاحب ضرام السّقط بأنّ كون المعنى لو شئت أن أبكي تفكرا بكيته ، ينافي التّرتّب لعدم توقّفه على عدم بقاء الشّوق غير التّفكّر ، وذلك لأنّه في صحّته كون عدم البقاء المذكور سببا له ، وإن كان له أسباب أخر أيضا كالتّحفظ من التّهلّك بالبكاء الحقيقيّ ، وتوطين النّفس بالصّبر ، ونحو ذلك ، لما يدعو الإنسان إلى الاحتراز عن البكاء الحقيقيّ ، والاجتزاء بالبكاء التّفكّري ، نعم ، كون المراد بالبكاء الأوّل البكاء الحقيقي ، أدخل في المبالغة لاشتماله على تخلّف الإرادة عن المراد فإرادته متعيّن للبليغ ، حيث إنّ ما هو الحسن طبعا واجب بالقياس إليه.

٢٦٦

[وإمّا لدفع توهّم إرادة غير المراد] عطف على إمّا للبيان (١) [ابتداء] متعلّق (٢) بتوهّم.

[كقوله (١) : وكم ذدت (٣)] أي دفعت [عنّي من تحامل حادث (٤)] يقال :

______________________________________________________

(١) أي الحذف إمّا للبيان بعد الإبهام ،» وإمّا لدفع توهّم» السّامع» إرادة» المتكلّم معنى» غير» المعنى» المراد».

(٢) أي قوله : «ابتداء» ظرف متعلّق بتوهّم ، فالمعنى حينئذ إنّ توهّم المخاطب في ابتداء الكلام أنّ المتكلّم أراد غير المراد مندفع بحذف المفعول ، ويجوز تعلّقه بدفع ، أي يحذف المفعول لأجل أن يندفع في أوّل الكلام توهّم إرادة غير المراد ، لكنّ الأوّل هو المناسب لما يأتي في المتن ، ولذا ذكر بعض المحشّين ما هذا لفظه : إنّما لم يجعله متعلّقا بالدّفع ، وجعله متعلّقا بالتّوهّم لدلالة قوله : «إذ لو ذكر اللّحم لربما توهّم قبل ذكر ما بعده» على تعلّقه بالتّوهّم ، ولأنّ التّعلّق بالدّفع يوهم كون الدّفع لا في الابتداء غير حاصل ، كما أنّ التّعلّق بالتّوهّم يدلّ على أنّ التّوهّم في الانتهاء ، أعني بعد ذكر إلى العظم غير متحقّق مع أنّ النّكتة هي الدّفع المطلق ، أعني ابتداء وانتهاء ، على أنّ نفس الدّفع يشعر بالابتدائيّة ، انتهى مورد الحاجة.

الوجه الأوّل متين جدا ، وأمّا الوجه الثّاني فيمكن أن يقال : إنّا لا نسلّم أنّ النّكتة هي الدّفع المطلق ، بل الدّفع في الابتداء ، لأنّ الدّفع في الانتهاء حاصل بغير الحذف ، وذلك لأنّ توهّم غير المراد لا يبقى بعد تمام الكلام ، فلا يصحّ توهّمه بعد الابتداء حتّى يدفع ثانيا.

(٣) بصيغة الخطاب خطاب للممدوح ، وهو ظاهر المتن ، والمعنى حينئذ ظاهر ، وقد يروى بصيغة التّكلّم ، فحينئذ لا يكون مدحا للممدوح ، بل يصف نفسه بالتّثبت على المحن والرّزايا ، ويفتخر بحسن صبره على الوقائع والبلايا.

(٤) المعنى» ذدت» مخاطب من الذّود ، وهو بالذّال المعجمة المفتوحة والواو والدّال المهملة بمعنى الدّفع والطّرد ،» التّحامل» مصدر ، تحامل عليه بمعنى كلّفه ما لا يطيق» الحادث» بمعنى الأمر العظيم ،» السّورة» بالسّين والرّاء بينهما واو ، بمعنى الشّدّة ،» خرزن» بالخاء المعجمة ، وقيل : بالحاء المهملة ماضي من الخزّ أو الحزّ ، بمعنى القطع.

__________________

(١) أي البحتري في مدح أبي الصّقر.

٢٦٧

تحامل فلان عليّ ، إذا لم يعدل (١) ، وكم (٢) خبريّة مميّزها قوله : من تحامل ، قالوا : وإذا فصل بين كم الخبريّة (٣) ومميّزها بفعل متعدّ وجب الإتيان بمن لئلّا يلتبس (٤)

______________________________________________________

(١) أي إذا ظلم ، أي ظلم فلان عليّ ، فالتّحامل هو الظّلم ، وإضافته إلى الحادث إمّا لاميّة ، أي كم دفعت من تعدّي وظلم الحوادث الدّهريّة عليّ ، أو بيانيّة ، أي كم دفعت الظّلم الّذي هو حادث الزّمان عنّي ، وعلى هذا فجعل حادث الزّمان ظلما مبالغة ، كرجل عدل.

(٢) أي لفظة كم في البيت خبريّة ، بمعنى كثير ، ويحتمل أن تكون استفهاميّة محذوفة المميز ، أي كم مرّة أو زمان ، والاستفهام لادّعاء الجهل بالعدد مبالغة في الكثرة ، ولا يضرّ ذلك زيادة من في المفعول ، والحال إنّ الكلام موجب لأنّه مصدّر بالاستفهام الّذي يزاد بعده من.

أقول هذا الاحتمال ضعيف جدّا ، لأنّ الشّرط لزيادة من في الاستفهام أن يكون بهل خاصّة ، وفي إلحاق الهمزة بها نظر ، فضلا عن كم الاستفهاميّة.

(٣) التّقييد بالخبريّة لمكان أنّ كم في البيت خبريّة لا للتّخصيص ، فإنّ كم الاستفهاميّة أيضا كذلك.

(٤) لأنّه إذا فصل بفعل متعدّ بين كم الخبريّة ومميّزها وجب نصب مميّزها حيث يتعذّر الإضافة مع الفعل ، وحينئذ يلتبس المميّز بمفعول ذلك الفعل فدفعا للالتباس يجب أن يزاد من على مميّزها ليعلم أنّه ليس بمفعول ، إذ كلمة من لا تزاد في المفعول إذا كان الكلام موجبا ، هذا هو عند المشهور ، خلافا للفرّاء فإنّه يجرّ المميّز بتقدير من ، وخلافا ليونس فإنّه يجوّز الإضافة مع الفصل ، فعلى مذهبهما لا مجال للالتباس إلا أنّهما ضعيفان جدّا لبعد جواز الإضافة مع الفصل ، وكون التّقدير خلاف الأصل ، فالظّاهر صحّة ما ذهب إليه الجمهور ، فيزاد من دفعا للالتباس.

وبالجملة إنّ الوجه في ذلك أنّه إذا فصل بين كم ومميّزه فعل متعدّ يجب نصب المميّز ، لتعذّر الإضافة ، فبالنّصب يشتبه بالمفعول فيجب إدخال من عليه ، لأنّه يؤيّد التّمييز ، لأنّ إدخال من على التّمييز ههنا نظير إدخالها عليه في نحو قولهم : طاب زيد فارسا ، فإنّ فارسا لكونه مشتقّا يحتمل الحاليّة والتّمييزيّة ، لكن زيادة من فيه نحو : لله دره من فارس ، وقولهم : عزّ من قائل ، يؤيّد التّمييز ، لأنّ من تزاد في التّمييز لا في الحال.

٢٦٨

بالمفعول ومحلّ كم (١) النّصب على أنّها (٢) مفعول ذدت ، وقيل : المميّز محذوف ، أي كم مرّة ، ومن في من تحامل زائدة (٣) ، وفيه نظر (٤) للاستغناء عن هذا الحذف (٥) والزّيادة (٦) بما ذكرناه (٧) [وسورة أيّام (٨)] أي شدّتها وصولتها [حززن (٩)] أي قطعن اللّحم [إلى العظم] فحذف المفعول ، أعني اللّحم [إذ لو ذكر اللّحم لربّما توهّم قبل ذكر ما بعده] أي ما بعد اللّحم ، يعني إلى العظم [إنّ الحزّ لم ينته إلى العظم] وإنّما كان في بعض اللّحم ، فحذف دفعا لهذا التّوهّم (١٠)

______________________________________________________

(١) أي محلّ لفظة كم هو النّصب على المفعوليّة للفعل المتعدّي ، الّذي وقع بعدها ، وفصل بينها وبين مميّزها.

(٢) أي كم الخبريّة.

(٣) أي زائدة في الإثبات على مذهب الأخفش.

(٤) أي فيما قيل نظر.

(٥) أي حذف المميّز.

(٦) أي زيادة من ، لأنّ كلّ من الحذف والزّيادة على خلاف الأصل.

(٧) أي حيث قلنا : إنّ محلّ كم النّصب على أنّها مفعول «ذدت» ، ومن تحامل مميّزها ، وزيادة من على مميّزها ، إنّما هي لدفع الالتباس بالمفعول ، فيكون هذا الوجه أرجح ، حيث إنّه غني عن التّقدير والزّيادة.

(٨) عطف على «تحامل» حادث ، فيكون كالتّفسير له ، والمعنى كم دفعت عني من تحامل حادث ، ومن سورة أيّام ، أي من كلفة ومشقّة ، ومن شدّة أيّام وصولتها.

(٩) الجملة في محلّ جرّ صفة لسورة ، وأتى بضمير الجمع ، وقال : «حززن» إمّا نظرا إلى أنّ لكلّ يوم سورة ، وإمّا لأنّ المضاف اكتسب الجمعيّة من المضاف إليه ، كما في قوله :

فما حبّ الدّيار شغفن قلبي

ولكنّ حبّ من سكن الدّيارا

حيث يكون ضمير شغفن عائدا إلى الحبّ ، وهو مفرد اكتسب الجمع من المضاف إليه ، أعني الدّيار.

(١٠) أي فترك ذكر اللّحم ليندفع ابتداء من السّامع هذا التّوهّم ، لأنّ الشّاعر كان حريصا على

٢٦٩

[وإمّا (١) لأنّه أريد ذكره] أي ذكر المفعول [ثانيا على وجه يتضمّن إيقاع الفعل على صريح لفظه] لا على الضّمير

______________________________________________________

بيان أنّ ما دفعه الممدوح عنه ، من شدّة الأيّام قد بلغ إلى العظم ، لغاية شدّته بحيث لا يخالج قلب السّامع خلاف ذلك أصلا ، ولو في الابتداء لأنّ ذلك آكد في تحقيق إحسان الممدوح ، حيث دفع ما هو بهذه الصّفة.

لا يقال : إنّ هذا التّوهّم يندفع بذكر المفعول بعد قوله : «إلى العظم» بأن يقال : حززن إلى العظم اللّحم ، فلا ملجأ إلى الحذف.

لأنّا نقول : إنّ الأصل تقديم المفعول إذا كان بلا واسطة على المفعول بالواسطة ، ومن المعلوم أنّ قوله : «إلى العظم» مفعول بالواسطة ، أي بواسطة حرف جر ، و «اللّحم» مفعول بلا واسطة ، فإذا لا وجه لتأخير «اللّحم» عن «إلى العظم» في البيت ، مع إمكان حصول الغرض ، وهو دفع التّوهّم البدوي من دونه لصحّة الحذف.

والمتحصّل من جميع ما ذكر أنّه قد يحذف المفعول لدفع التّوهّم البدوي. ثمّ الشّاهد : في قوله : «حززن إلى العظم» حيث حذف المفعول ، أي اللّحم ، لدفع التّوهّم البدوي.

(١) عطف أيضا على قوله : «إمّا للبيان بعد الإبهام» ، والضّمير في قوله : «لأنّه» للشّأن ، أي يحذف المفعول ، إمّا للبيان بعد الإبهام ، وإمّا لأنّه ـ أي الشّأن ـ أريد ذكره ، أي ذكر المفعول ثانيا على وجه يتضمّن ذلك الوجه إيقاع الفعل ، أي إعمال الفعل على صريح لفظ المفعول ، لا على ضميره سواء كان الفعل المقصود إيقاعه عين الفعل المحذوف مفعوله ، كما في قولك : ضرب زيد ، وضربت عمرا ، أو غيره ، كما في قول البحتري.

والحاصل إنّ المفعول يحذف في الجملة الأولى ليذكر في الجملة الثّانية على وجه يقع الفعل في الجملة الثّانية على صريح لفظه ، إذ لو ذكر المفعول أوّلا في الجملة ، لذكر في الجملة الثّانية بالإضمار ، فيقع الفعل في الجملة الثّانية على الضّمير العائد إلى المذكور أوّلا ، هذا خلاف الغرض ، لأنّ الغرض إيقاعه على صريح لفظه ، فلذا يحذف في الجملة الأولى حتّى يذكر في الجملة الثّانية بلفظه فيحصل المقصود ، كالمثال المذكور حيث لم يقل : ضرب زيد عمرا وضربته.

٢٧٠

العائد إليه [إظهارا (١) لكمال العناية بوقوعه (٢)] أي الفعل [عليه] أي على المفعول ، حتّى كأنّه لا يرضى (٣) أن يوقعه على ضميره ، وإن كان كناية عنه [كقوله (١) :

قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ

دد والمجد والمكارم مثلا (٤)]

أي وقد طلبنا لك مثلا (٥)

______________________________________________________

لا يقال : إنّ ذكر المفعول أوّلا لا ينافي ذكره ثانيا بلفظه ، غايته أنّه من وضع الظّاهر موضع الضّمير ، لكمال العناية به.

لأنّا نقول : الحذف في المفعول أكثر من الوضع المذكور ، على أنّه لو صرّح به أوّلا في البيت الآتي لأوهم تعدّد المثل ، وأنّ المثل الثّاني غير الأوّل ، لأنّ تكرار النّكرة ظاهر في إفادة التّغاير ، فيكون المعنى قد طلبنا لك مثلا فلم نجد لك مثلا آخر ، وهو مخالف للمطلوب.

(١) علّة لقوله : «أريد ذكره ثانيا ...» أي علّة لإرادة الإتيان بصريح اسمه ، ولفظه ثانيا ، وأمّا علّة الحذف فهو الاحتراز عن التّكرار ، إذ مع الإتيان بصريح الاسم ثانيا يلزم التّكرار لو ذكر أوّلا ، وهو غير مقصود.

(٢) أي وقوع الفعل نفيا أو إثباتا على المفعول.

(٣) أي لا يرضى المتكلّم أن يعمل الفعل على ضمير المفعول ، وإن كان الضّمير عبارة عن المفعول ، وإنّما لم يرض المتكلّم بذلك ، لأنّ الضّمير يحتمل أن يعود إلى غير المذكور أوّلا ، وهو على خلاف المطلوب.

(٤) المعنى : «السّؤدد» بمعنى السّيادة ، «المجد» بمعنى الكرم ونيل الشّرف ، «المكارم» جمع مكرمة ، بمعنى فعل الكرم.

والشّاهد : في قوله : «قد طلبنا ...» حيث كان في الأصل : قد طلبنا لك مثلا ، ثمّ حذف المفعول ، أعني مثلا تحرّزا عن التّكرار ، حيث أريد إعمال لم نجد على صريح لفظه ، فلو ذكر أوّلا لزم التّكرار.

(٥) المعنى هو نفي أن يكون له مثل ، لا أنّه طلب له مثلا فلم يجده ، مع وجوده في الواقع ، وإنّما أدّى المعنى بهذه العبارة ليكون نفيا للمثل ببيّنة وبرهان ، لادّعائه أنّه طلب المثل فلم يوجد ولو كان لوجد.

__________________

(١) أي قول البحتري في مدح المعتز بالله.

٢٧١

فحذف مثلا (١). إذ لو ذكره (٢) لكان المناسب (٣) فلم نجده (٤) ، فيفوت الغرض (٥) ، أعني إيقاع عدم الوجدان على صريح لفظ المثل

______________________________________________________

(١) أي حذف مثلا من اللّفظ بقرينة مثلا في آخر البيت.

لا يقال : المحذوف إنّما هو ضميره لا نفسه ، وذلك لأنّ البيت من باب التّنازع ، أي يطلب كل من قوله : «طلبنا» و «لم نجد» مثلا كي يكون مفعولا ، فأعمل الثّاني وحذف ما أضمر في الأوّل ، لأنّه فضلة فالمثل حينئذ مؤخّر فقط لا محذوف ، والمحذوف إنّما هو ضميره.

لأنّا نقول : المراد «فحذف مثلا» أي الّذي كان الأصل ذكره أوّلا ، ليعود عليه الضّمير ، فينتفي التّنازع.

نعم ، أتى التّنازع بعد حذف المثل الأوّل ، وأعمل الثّاني وحذف ضميره من الأوّل ، كما حذف هو ، على أنّه لا مانع من أن نقول : إنّ لفظ «مثل» محذوف من الأوّل لدلالة الثّاني عليه.

(٢) أي لو ذكر الشّاعر مثلا.

(٣) للقاعدة الأوّليّة ، وهو الإتيان بالضّمير ثانيا ، كي يعود إلى اسم مذكور أوّلا.

(٤) أي مثلا.

(٥) لأنّ الغرض في الحقيقة هو نفي الوجدان عن المثل ، ولا شكّ في أنّ إيقاع ذلك النّفي على صريح لفظه أتمّ في تحصيل الغرض من إيقاعه على ضميره لظهور قصور مثل هذه الكناية في إفادة المراد عن رتبة الصّريح وإن كان المسلّم في غير هذا الموضع أنّ الكناية أبلغ من التّصريح.

وبعبارة أخرى : الإتيان بالضّمير تفويت للغرض ، وهو إيقاع نفي الوجدان على صريح لفظ المثل لكمال العناية بعدم وجدان المثل ، وإنّما كان الغرض هو الإيقاع المذكور ، لأنّ الآكد في كمال مدح الممدوح نفي وجدان مثله على وجه لا يتوهّم فيه بل ولا يخطر بالبال أنّ الّذي نفي وجدانه غير المثل ، هذا إنّما يتحقّق في إيقاع نفي الوجدان على صريح لفظ المثل لا على ضميره ، لأنّ الضّمير من حيث هو يحتمل احتمالا ضعيفا نفي وجدان غير المثل ، لاحتمال رجوعه إلى شيء آخر ، وإن تعيّن المعنى بالمقام ، ولكن المبالغة في المدح لا يناسبها إلّا ما لا يأتيه الباطل بوجه ، ولو تخييلا.

٢٧٢

[ويجوز أن يكون السّبب (١)] في حذف مفعول طلبنا [ترك مواجهة الممدوح بطلب (٢) مثل له] قصدا (٣) إلى المبالغة في التّأدّب معه ، حتّى كأنه لا يجوّز وجود المثل له ليطلبه ، فإنّ العاقل لا يطلب إلّا ما يجوّز وجوده [وإمّا للتّعميم (٤)] في المفعول [مع الاختصار (٥) ، كقولك : قد كان منك ما يؤلم (٦) ، أي كلّ أحد] بقرينة إنّ المقام مقام المبالغة (٧) ،

______________________________________________________

(١) أي سبب حذف المفعول في بيت البحتري.

(٢) الظّرف الأوّل ، أعني «بطلب» متعلّق ب «مواجهة» ، والثّاني أعني «له» متعلّق ب «طلب».

(٣) علّة للتّرك ، أي إنّما ترك الشّاعر مواجهة الممدوح بطلب مثل له ، لقصده إلى المبالغة في التّأدّب تعظيما له «حتّى كأنّه لا يجوّز وجود المثل له ليطلبه» لأنّ طلب المثل صريحا ممّا يدلّ على تجويز المثل ، بناء على أنّ العاقل لا يطلب إلّا ما يجوز ، ويمكن وجوده.

لا يقال : إنّ العاقل يقع منه التّمنّي ، وهو طلب متعلّق بالمحال ، فلا وجه لقولك : إنّ العاقل لا يطلب إلّا ما يجوز وجوده.

لأنّا نقول : المراد بالطّلب في المقام الطّلب بالفعل ، وهو الحبّ القلبيّ المقرون بالسّعي ، وأمّا التّمنّي فهو عبارة عن مجرّد حبّ القلب ، فمن ثمّ يتعلّق بما هو المحال. وبالجملة إنّ الغرض يناسب المبالغة في المدح ، إحالة المثل بترك التّصريح بطلبه المشعر بإمكان وجوده.

(٤) أي وإمّا حذف المفعول لإفادة التّعميم فيه ، وعدم قصر السّامع المفعول على ما يذكره ، كقصره المفعول على الدّرهم دون الدّينار في قولنا : فلان يعطي الدّرهم ، بخلاف ما إذا لم يذكر المفعول نحو : فلان يعطي ، فإنّه يحتمل عند الحذف أن يكون المعطى فضّة أو ذهبا أو فرسا أو إبلا ، إلى غير ذلك ، ويحتمل مع كلّ أن يكون كثيرا أو قليلا.

(٥) أي سبب حذف المفعول هو إفادة التّعميم مع الاختصار ، فيتوصّل فيه بواسطة تقليل اللّفظ بحذف المفعول إلى تكثير المعنى أعني العموم.

(٦) أي ما يوجع ، لأنّ قوله : «يؤلم» من الإيلام ، بمعنى الإيجاع ، والمعنى «قد كان منك ما» أي صفة ذميمة ، وهي إيجاع كلّ أحد بشكل عامّ.

(٧) أي بقرينة أنّ مورد الكلام مورد المبالغة في الوصف بالإيلام ، فيكون هذا المقام والمورد قرينة على إرادة العموم في ذلك المفعول ، وأنّه ليس المراد ما يؤلمني أو يؤلم بعض النّاس ، أو نحو ذلك ، بل المراد ما يؤلم كلّ أحد.

٢٧٣

وهذا التّعميم (١) وإن أمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم لكن يفوت الاختصار حينئذ [وعليه] أي (٢) وعلى حذف المفعول للتّعميم مع الاختصار ورد (٣) قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ)(١) أي جميع (٥) عباده ، فالمثال (٦) الأوّل يفيد العموم مبالغة ، والثّاني تحقيقا (٧). [وإمّا لمجرّد (٨) الاختصار] من غير أن

______________________________________________________

(١) يبيّن الشّارح وجه ضمّ المصنّف قوله : «مع الاختصار» إلى التّعميم ، فيقول : إنّ التّعميم يمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم نحو كلّ أحد ، أو جميع النّاس أو المخلوقين «لكن يفوت الاختصار حينئذ» ، أي حين ذكر المفعول بصيغة العموم.

(٢) أي التّفسير لتعيين مرجع الضّمير ، وأنّه يرجع إلى حذف المفعول.

(٣) هو من الورود ، بمعنى الإتيان ، لا من الإيراد بمعنى الاعتراض.

(٤) أي السّلامة من الآفات ، كما في بعض الشّروح.

(٥) أي المكلّفين ، وإنّما قدّر المفعول عامّا ، لأنّ الدّعوة من الله إلى دار السّلام والجنّة بسبب التّكليف عامّة لجميع العباد المكلّفين ، إلّا أنّه لم يجب منهم هذه الدّعوة إلّا السّعداء ، بخلاف الهداية بمعنى الدّلالة الوصلة إلى المطلوب ، فإنّها خاصّة ، ولهذا أطلق الدّعوة في هذه الآية ، وقيّد الهداية في قوله بعد ذلك ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قيّدت الهداية بمشيئة الله تعالى.

(٦) أي إذا عرفت ما ذكرنا حول الآية والمثال الّذي قبله ، فنقول في بيان التّفاوت بينهما إنّ المثال الأوّل أعني «قد كان منك ما يؤلم ... يفيد العموم مبالغة» لأنّ إيلام كلّ أحد من شخص واحد محال عادة على وجه الحقيقة.

(٧) أي المثال الثّاني يفيد العموم على وجه الحقيقة ، لما عرفته من أنّ الدّعوة إلى دار السّلام عامّة لجميع العباد ، ثمّ من هذا الفرق ظهر وجه تغيير المصنّف الأسلوب حيث قال : وعليه (وَاللهُ يَدْعُوا) ولم يقل : وقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ).

(٨) أي إمّا حذف المفعول للاختصار المجرّد عن مصاحبة نكتة أخرى من عموم في المفعول أو خصوص فيه أو غير ذلك ، وقد أشار إليه بقوله : «من غير أن يعتبر معه فائدة أخرى ...» فيكون لبيان أنّ الحذف لمجرّد الاختصار.

__________________

(١) سورة يونس : ٢٥.

٢٧٤

يعتبر معه فائدة أخرى من التّعميم وغيره ، وفي بعض النّسخ [عند قيام قرينة (١)] وهو (٢) تذكرة لما سبق ، ولا حاجة إليه (٣) ، وما يقال من أنّ المراد عند قيام قرينة دالّة على أنّ الحذف لمجرّد الاختصار ليس بسديد (٤) ، لأنّ هذا المعنى معلوم ، ومع هذا جار في سائر (٥) الأقسام ولا وجه لتخصيصه (٦) بمجرّد الاختصار ،

______________________________________________________

(١) «وإمّا لمجرّد الاختصار عند قيام قرينة» دالّة على تعيين المفعول المحذوف.

(٢) أي ما في بعض النّسخ من إضافة «عند قيام قرينة» على قوله : «وإمّا لمجرّد الاختصار» مذكّرة ومنبّهة على ما سبق من المصنّف ، وهو قوله : «وإلّا وجب التّقدير بحسب القرائن» والمستفاد منه أنّ التّقدير أو الحذف يجب أن يكون بحسب القرينة ، وإن كان التّقدير أو الحذف لمجرّد الاختصار.

(٣) أي إلى ما في بعض النّسخ ، لأنّ الحذف لا يجوز إلّا عند قيام قرينة ، فإنّ لزوم القرينة عند الحذف أمر ضروري ، لا يحتاج إلى بيان.

(٤) قوله : «ليس بسديد» خبر لقوله : «ما يقال» ، فلابدّ أوّلا من بيان «ما يقال» ، وثانيا من توضيح عدم كونه سديدا ، فنقول : إنّ ما يقال في الجواب عن جانب المصنّف.

وحاصل الجواب : إنّ قوله : «عند قيام القرينة» في بعض النّسخ ، ليس المراد منه قيام قرينة دالّة على الحذف كي يقال : هذا أمر ضروريّ لا يحتاج إلى البيان ، لأنّ الحذف لا يجوز إلّا عند قيام القرينة ، بل المراد عند قيام قرينة دالّة على أنّ الحذف لمجرّد الاختصار ، والاختصار نكتة من النّكات ، فقيام القرينة على الحذف لمجرّد الاختصار ممّا يحتاج إلى البيان ، ولهذا قال المصنّف : «وإمّا لمجرّد الاختصار عند قيام قرينة».

وأمّا وجه عدم كون هذا الجواب سديدا ، فلأنّ هذا المعنى أي الحذف لمجرّد الاختصار معلوم من قوله : «وجب التّقدير بحسب القرائن» فلا حاجة إلى التّنصيص به.

(٥) أي جميع أقسام حذف المفعول كالحذف للبيان بعد الإبهام وغيره ، إنّما هي عند قيام قرينة فلا وجه لتخصيص قوله : «عند قيام قرينة» بحذف المفعول لمجرّد الاختصار.

(٦) أي قوله : «عند قيام قرينة» ، يمكن أن يقال : يجوز أن يكون وجه تخصيصه بمجرّد الاختصار لضعف نكتة الاختصار ، لأنّ الحذف لمجرّد الاختصار ممّا لا يعتدّ به عند البلغاء ، لكونه من أحوال اللّفظ ، فلا يذهب ذهن السّامع إلى أنّ البليغ يحذف المفعول لمجرّد الاختصار ، فلهذا خصّه بقوله : «عند قيام قرينة».

٢٧٥

[نحو : ـ أصغيت (١) إليه ـ أي أذني ، وعليه (٢)] أي على الحذف لمجرّد الاختصار [قوله تعالى (٣) : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)(١) أي إلى ذاتك (٤)] وههنا (٥) بحث.

______________________________________________________

(١) أصغيت من الإصغاء ، أي الإمالة ، أي أمليت إليه أذني وتقدير الأذن ، لأنّ الإصغاء مخصوص بالأذن ، وهذا الاختصاص قرينة على تعيين الأذن حيث إنّ الإصغاء لا يكون إلّا للأذن.

(٢) أي إنّما قال : «وعليه» ، ولم يقل : ونحوه ، للتّفاوت بين قرينتي المثالين فإنّ القرينة في المثال الأوّل لفظ الفعل الّذي هو أصغيت ، وفي المثال الثّاني هو جواب الطّلب ، أي (لَنْ تَرانِي) لأنّ المنفيّ أبدا هو رؤية ذاته تعالى.

(٣) أي قوله تعالى حكاية عن موسى على نبيّنا وعليه أفضل الصّلاة والسّلام.

(٤) أي لأنّ المقصود ـ كما يدلّ عليه كلامه (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) هو النّظر إلى ذاته تعالى.

(٥) أي في قول المصنّف «وإمّا للتّعميم مع الاختصار» بحث ، وحاصله : إنّ ما تقدّم من المصنّف من أنّ الحذف قد يكون للتّعميم مع الاختصار غير سديد ، لأنّ الحذف بمجرّده لا يقتضي تعميما ، كما لا يقتضي تخصيصا ، فإنّ المحذوف يجوز أن يكون خاصّا ، كما يجوز أن يكون عامّا ، ومجرّد الحذف ممّا لا يتعيّن به أحدهما ، فلابدّ من قرينة أخرى تدلّ على تعيين المحذوف بأنّه عامّ أو خاصّ ، فالحذف حينئذ لا يكون إلّا لمجرّد الاختصار ، وهذا ما أشار إليه الشّارح بقوله : «إنّ الحذف للتّعميم مع الاختصار إن لم يكن فيه» أي في الحذف «قرينة دالّة على أنّ المقدّر عامّ ، فلا تعميم أصلا ، وإن كانت» أي القرينة «فالتّعميم مستفاد من عموم المقدّر سواء حذف» أي من اللّفظ «أو لم يحذف» المفعول ، وبعبارة واضحة : إن كانت القرينة دالّة على أنّ المقدّر هو العموم فالتّعميم من عموم المقدّر المستفاد من القرينة «فالحذف لا يكون إلّا لمجرّد الاختصار» أي ومن هنا ظهر أنّ قول المصنّف «إمّا للتّعميم مع الاختصار» غير سديد.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٤٣.

٢٧٦

وهو (١) أنّ الحذف للتّعميم مع الاختصار إن لم يكن فيه قرينة دالّة على أنّ المقدّر عامّ ، فلا تعميم أصلا ، وإن كانت فالتّعميم مستفاد من عموم المقدّر سواء حذف أو لم يحذف ، فالحذف لا يكون إلّا لمجرّد الاختصار. [وإمّا (٢) للرّعاية على الفاصلة نحو :] قوله تعالى : (وَالضُّحى ١ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى)(١) ، (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أي وما قلاك (٤) ، وحصول الاختصار أيضا ظاهر (٥).

______________________________________________________

(١) أي البحث ، وقد ذكرنا توضيح ذلك. إلّا أن يقال في الجواب عن البحث المذكور إنّ البحث المذكور مبنيّ على أن يكون مراد المصنّف بالتّعميم هو التّعميم حقيقة ، وهو ما تدلّ عليه القرينة ، والظّاهر من كلام المصنّف أنّ مراده به هو التّعميم ابتداء ، وهو ما يدلّ عليه الحذف قبل انتقال الذّهن إلى قرينة العموم ، فيكون الحذف حينئذ للتّعميم والاختصار ، فلا بحث في كلام المصنّف.

(٢) أي حذف المفعول إمّا للمحافظة «على الفاصلة» أي على أواخر الفقرات من الكلام أو الآيات القرآنيّة ، والفرق بين الفاصلة والسّجع أنّ الفاصلة أعمّ ، لأنّها تكون في القرآن وغيره ، بخلاف السّجع فإنّه في غير القرآن خاصّة ، ولا يطلق على آخر الآيات القرآنيّة تأدّبا ، لأنّه في الأصل بمعنى هدير الحمامة ، ثمّ كلمة الرّعاية وما يشتقّ منها ، وإن كانت تتعدّى بنفسها إلّا أنّها تكون هنا بمعنى المحافظة ، وهي تتعدّى بعلى ، وفي الكلام حذف مضاف إلى الفاصلة ، أي المحافظة على رويّ الفاصلة.

(٣) أي ما تركك ربّك منذ أوحى إليك.

(٤) أي وما أبغضك ، فحذف المفعول ، ولم يقل قلاك ، للمحافظة على رويّ الفاصلة لتوافق ما قبلها وما بعدها ، لأنّ فواصل الآي في هذه السّورة أغلبها على الألف ، فالحذف في الآية لرعاية الفاصلة والاختصار معا كما أشار إليه بقوله : «وحصول الاختصار أيضا ظاهر».

(٥) هذا الكلام من الشّارح دفع لتوهّم المزاحمة بين ما ذكره المصنّف من أنّ حذف المفعول في الآية لرعاية السّجع ، والفاصلة وبين ما قاله صاحب الكشّاف من أنّ حذف المفعول للاختصار.

وحاصل الدّفع أنّه لا تزاحم في النّكات والأغراض ، لأنّ عدّة النّكات والأغراض جائزة في مثال واحد.

__________________

(١) سورة الضّحى : ٣.

٢٧٧

[وإمّا لاستهجان (١) ذكره] أي ذكر المفعول [كقول عائشة رضي‌الله‌عنه : ما رأيت منه (٢)] أي من النّبيّ عليه‌السلام [ولا رأى منّي] أي العورة. وإمّا لنكتة أخرى (٣) كإخفائه (٤) أو التّمكّن من إنكاره (٥) إن مسّت إليه حاجة ، أو تعيّنه (٦) حقيقة أو ادّعاء (٧) أو نحو ذلك (٨)

______________________________________________________

(١) أي إمّا يكون حذف المفعول لاستقباح ذكره ، ويكون التّفسير أعني «أي ذكر المفعول» لتعيين مرجع الضّمير في «ذكره».

(٢) صدر الحديث : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إناء واحد ، فما رأيت منه ، ولا رأى منّي ، أي ما رأيت منه العورة ، ولا رآها منّي ، فحذف المفعول ، أي العورة من الفعلين لاستقباح ذكره ، والقرينة اقتران هذا الكلام مع ذكر أحواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاشرته للنّساء.

ويمكن أن يكون الحذف هنا للإشارة إلى تأكيد الأمر بستر العورة حسّا من حيث إنّه قد ستر لفظها على السّامع ليكون السّتر اللّفظيّ موافقا للسّتر الحسّي.

(٣) أي بأن يكون حذف المفعول لنكتة ، وغرض آخر غير النّكات والأغراض المذكورة.

(٤) أي إخفاء المفعول عن بعض السّامعين خوفا عليه كأن يقال : الأمير يحبّ ، عند قيام قرينة عند المخاطب الّذي قصد إفهامه دون بعض السّامعين ، على أنّ المراد يحبّني ، فيحذف المتكلّم المفعول خوفا على نفسه بأن يهيّج حسد بعض السّامعين بنسبة محبّة الأمير إليه فيؤذيه.

(٥) أي إنكار المفعول إن مسّت الحاجة إلى الإنكار ، كأن يقال : لعن الله ، ويراد زيد عند قيام القرينة فيحذف المتكلّم ذلك المفعول ليتمكّن من الإنكار عند الضّرورة والحاجة ، أي إذا نسب إليه تعيين زيد ، لأنّ الإنكار مع القرينة أمكن من الإنكار عند التّصريح.

(٦) أي تعيّن المفعول حقيقة كأن يقال : نحمد ونشكر ، أي الله لتعيّن أنّه المحمود والمشكور حقيقة.

(٧) أي تعيّن المفعول ادّعاء ، كأن يقال : نخدم ونعظّم ، والمراد هو أمير البلد بادّعاء تعيّنه ، وأنّ الذّهن لا ينصرف عند الإطلاق إلّا إليه.

(٨) كإيهام صونه عن اللّسان ، أو صون اللّسان عنه ، كما تقول في الأوّل : نمدح ونعظّم ، وتريد النّبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قيام القرينة ، فلا يذكر تعظيما له من أن يجرى على اللّسان ، وفي الثّاني تقول : نستعذّ ونلعن أي الشّيطان ، فيحذف لصون اللّسان عنه إهانة له.

٢٧٨

تقديم المفعول ونحوه

[وتقديم (١) مفعوله] أي مفعول الفعل [ونحوه (٢)] أي نحو المفعول من الجارّ والمجرور والظّرف والحال ، وما أشبه ذلك (٣) [عليه] أي على الفعل [لردّ الخطأ في التّعيين (٤) كقولك : زيدا عرفت ، لمن اعتقد أنّك عرفت إنسانا] وأصاب في ذلك [و] اعتقد [أنّه غير زيد] وأخطأ فيه [وتقول لتأكيده] أي تأكيد هذا الرّدّ (٥) زيدا عرفت [لا غيره] وقد (٦) يكون أيضا لردّ الخطأ في الاشتراك كقولك : زيدا عرفت ، لمن اعتقد

______________________________________________________

(١) أي لم يعبّر بتقديم معموله حتّى يستغنى عن قوله : «ونحوه» ، لأنّ الكلام السّابق كان مفروضا في المفعول لكونه الأصل في المعموليّة ، ثمّ قوله : «وتقديم مفعوله» هو المطلب الثّاني من مطالب هذا الباب.

(٢) أتى بذلك لإدخال سائر المتعلّقات الّتي يجوز تقديمها على الفعل.

(٣) أي كالتّمييز والاستثناء والمفعول معه والمفعول فيه.

(٤) أي لردّ المتكلّم خطأ المخاطب في اعتقاده تعيين مفعول الفعل ونحوه ، فيكون القصر قصر قلب لا تعيين ، لأنّه إنّما يلقى للمتردّد كما يأتي ، فالمراد من التّعيين تعيين مفعول الفعل لا قصر التّعيين ، لأنّ المخاطب في قصر التّعيين متردّد وغير معتقد بحكم ، فلا تصحّ نسبة الخطأ إليه ، لأنّ المراد به الخطأ في اعتقاد حكم مخالف للواقع ، فإنّ المخاطب في المثال مصيب في اعتقاد وقوع عرفان المتكلّم على إنسان إلّا أنّه مخطئ في تعيين أنّه غير زيد ، فله اعتقادان : أحدهما مطابق للواقع ، والآخر مخالف له. ثمّ إضافة ردّ في قوله : «لردّ الخطأ» إلى الخطأ من إضافة المصدر إلى مفعوله.

(٥) أي الرّدّ الأوّل ، أعني إذا لم يكتف المخاطب بالرّدّ الأوّل المسمّى بقصر القلب ، يقول : زيدا عرفت لا غيره ، ليكون تأكيدا للرّدّ الأوّل ، وإنّما كان تأكيدا ، لأنّ قوله : زيدا عرفت ، مفاده أنّه عرف زيدا فقطّ ، ولم يعرف غيره ، فقوله : «لا غير» ، تأكيد لما تضمّنه التّركيب المذكور.

(٦) أي كلمة «قد» في قوله : «وقد يكون» للتّحقيق لا للتّقليل ، فإنّ مجيء التّقديم لقصر الإفراد ، مثل مجيئه لقصر القلب في الشّيوع والكثرة ، ثمّ غرض الشّارح من تعرّض ذلك هو الاعتراض على المصنّف بعدم ذكره قصر الإفراد ، مع أنّ التّقديم يفيده ، والاقتصار في مقام البيان من معايب الكلام.

٢٧٩

أنّك عرفت زيدا وعمرا ، وتقول لتأكيده : زيدا عرفت وحده (١) وكذا (٢) في نحو : زيدا أكرم ، وعمرا لا تكرم ، أمرا ونهيا ، فكان الأحسن (٣) أن يقول لإفادة الاختصاص.

______________________________________________________

(١) أي لا مشاركا مع غيره ، ويسمّى هذا القصر قصر إفراد ، كما يأتي. ثمّ لو كان المخاطب مردّدا بين زيد وعمرو ، على وجه الشّكّ ، وزيدا عرفت ، أي لا عمرو ، كان القصر قصر تعيين ، وكان الأحسن أن يقول المصنّف بدل قوله : «لردّ الخطأ ...» لإفادة الاختصاص ، ليشمل هذه الأنواع الثّلاثة من قصر القلب والإفراد والتّعيين.

(٢) أي وقد يكون تقديم المفعول على الفعل لردّ الخطأ في الإنشاء ، فلا يكون مختصّا بالخبر ، والحاصل : إنّ في هذا الكلام إشارة إلى أنّ ردّ الخطأ في قصري القلب والإفراد ، كما يكون في الإخبار يكون في الإنشاء ، فنحو : زيدا أكرم ، وعمرا لا تكرم ، يقال ذلك ردّا على من اعتقد أنّ النّهي عن الإكرام مختصّ بغير عمرو ، أو الأمر به مختصّ بغير زيد في قصر القلب ، وكذا يقال ذلك ردّا على من اعتقد أنّ النّهي عن الإكرام أو الأمر بالإكرام مستو فيه زيد وعمرو في قصر الإفراد.

(٣) أي ليشمل القصر بأنواعه الثّلاثة : الإفراد والقلب والتّعيين ، كما عرفت ، ويدخل فيه نحو : زيدا أكرم وعمرا لا تكرم ، من الإنشاءات ، فإنّ التّقديم فيها لا يعقل أن يكون لردّ الخطأ ، لأنّ الخطأ في الحكم إنّما يتصوّر إذا كان السّامع عالما به قبل إلقاء الكلام ، وفي الإنشاء إنّما يفهم الحكم من نفس الكلام.

لا يقال : إنّ الخطأ إنّما يكون في الحكم ، ولا حكم في الإنشاء.

لأنّا نقول : إنّ الحكم بمعنى النّسبة الّتي يصحّ السّكوت عليها ثابت في الإنشاء ، ولذا قسّموا الجملة إلى الخبريّة والإنشائيّة ، فالحاصل إنّ اعتبار ردّ الخطأ في الإنشاء لا يخلو عن تكلّف ، وهو أن يقال : إنّ الإنشاءات تتضمّن نسبا خبريّة ، مثلا أكرم زيدا متضمّن لقولنا زيد مطلوب إكرامه ، ولا تكرم عمرا متضمّن لقولنا : عمرو مطلوب ترك إكرامه ، فالخطأ في الاعتقاد متصوّر فيهما باعتبار تلك اللّوازم ، فيقال : زيدا أكرمه لمن اعتقد أنّ المطلوب بالإكرام هو عمرو ، أو اعتقد بأنّ المطلوب به هما معا ، أو كان متردّدا في أنّ المطلوب به هو زيد أو عمرو ، وهذا التّكلّف لازم بناء على ما صنعه المصنّف من التّعبير بردّ الخطأ ، وأمّا بناء على التّعبير بالاختصاص فلا تكلّف أصلا ، لأنّ اختصاص النّسبة بشيء متصوّر في الخبر والإنشاء ، غاية

٢٨٠