دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

يجعل كذلك [الثّاني (١) كقوله تعالى :] قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون [(١)] (٢) ،

______________________________________________________

والثّاني : إنّ المبحوث عنه في المقام هو الفعل الّذي جعل بمنزلة اللّازم ، ويكون الغرض منه إثباته لفاعله ، أو نفيه عنه مطلقا ، أي من غير اعتبار تعلّقه بمفعول أصلا ، فضلا عن عمومه أو خصوصه ، فإذا كان كناية عن نفسه متعدّيّا يكون الغرض تعلّقه بمفعول مخصوص ، فكيف يكون داخلا فيما يكون الغرض منه إثباته لفاعله ، أو نفيه عنه مطلقا ويمكن الجواب عن كلا الأمرين.

أمّا الجواب عن الأمر الأوّل ، فملخّصه إنّ الكنّاية وإن كانت متقوّمة على اللّزوم إلّا أنّ اللّزوم قد يكون حقيقيّا ، كقولك : زيد كثير الرّماد ، وقد يكون ادّعائيّا ، كما في المقام فإنّ المتكلّم يدعّي الملازمة بين المطلق والمقيّد ، ويقول : إنّهما على نحو لا ينتقل الذّهن من الأوّل إلّا إلى الثّاني ، فالإشكال المذكور لا أساس له.

وأمّا الجواب عن الأمر الثّاني فنقول : إنّ تعلّق الفعل بمفعول مخصوص إنّما هو مقصود على نحو الكناية والانتقال من مدلول الكلام الأوّل إليه بواسطة القرينة ، وهذا لا ينافي كون المبحوث عنه هو الفعل المطلق المنزّل بمنزلة اللّازم ، فإنّ المراد من كونه مطلقا أنّه كذلك بالقياس إلى مدلوله الأوّل ، وما يدلّ عليه بلا قرينة ، فلا تناقض لاختلاف المحمول ، فإنّ الفعل مطلقا بالإضافة إلى مدلوله الأوّل وليس بمطلق بالقياس إلى مدلوله الثّاني المستفاد منه بمعونة القرينة الغير المانعة عن إرادة المعنى الأوّل ، إذ الكلام في الكناية لا المجاز ، لأنّ القرينة في المجاز مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي.

(١) أي الضّرب الثّاني ، وهو الفعل المطلق الّذي لا يجعل كناية عنه مقيّدا.

(٢) أصله هل يستوي الّذين يعلمون الدّين والّذين لا يعلمونه ، ثمّ حذف المفعول ، ونزّل الفعل منزلة اللّازم بحيث صار المراد من الفعل الماهيّة الكلّيّة ، أي هل يستوي الّذين وجدت منهم حقيقة العلم والّذين لم توجد عندهم بعد أن كان المراد بحسب الأصل ، أي الجري الطّبيعي علم شيء مخصوص ، فنزّل المتعدّي منزلة اللّازم ليفيد مبالغة الذّمّ ، إذ في هذا التّنزيل إشارة إلى أنّ الجهّال الّذين لا علم لهم بالدّين ، كأنّهم لا علم لهم أصلا ، وأنّهم

__________________

(١) سورة الزّمر : ٩.

٢٤١

أي لا يستوي من (١) يوجد له حقيقة العلم ، ومن لا يوجد وإنّما قدم (٢) الثّاني لأنّه باعتبار كثرة وقوعه أشدّ اهتماما بحاله [السّكّاكي (٣)] ذكر في بحث إفادة اللّام (٤) الاستغراق أنّه إذا كان المقام خطابيّا (٥)

______________________________________________________

أصبحوا كالبهائم ، فالمعنى لا يستوي من هو من أهل العلم ، ومن ليس له علم أصلا.

(١) أي الغرض نفي الاستواء بين من يوجد له حقيقة ، وبين من لا يوجد بعد إثبات العلم للّذين يعلمون ، ونفيه عن الّذين لا يعلمون من غير اعتبار عموم وخصوص في أفراده ، ولا اعتبار تعلّقه بمعلوم عامّ أو خاصّ ، ولا جعل الكناية عن العلم المتعلّق بمعلوم مخصوص تدلّ عليه القرينة.

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، والتّقدير لماذا ولأي سبب قدم المصنّف الضّرب الثّاني ، وهو أن لا يجعل الفعل كناية عنه ، مع أنّه مشتمل على أمر عدمي ، وهو عدم كونه مجعولا كناية عنه متعدّيا إلى مفعول مخصوص ، والضّرب الأوّل مشتمل على أمر وجودي ، ولذا قدّم الضّرب الأوّل في الإجمال ، لأنّ الوجود أشرف على العدم ، فيقدّم عليه.

وحاصل الجواب : لأنّ الثّاني باعتبار كثرة وقوعه في كلام الله وكلام البلغاء ، بل في كلام عامّة النّاس ، وباعتبار مطلقا من كلّ الوجوه والقيود والتّعلّقات ، كان الاهتمام بحاله أشدّ وبالتّقديم أليق.

(٣) أي هذا توطئة لقوله : «ثمّ إذا كان المقام خطابيّا» فيكون شرحا قبل المتن.

(٤) أي الغرض من ذكر هذا الكلام ، مع أنّ المتعلّق بالمقام إنّما هو ما بعده ، أي قوله : «ثمّ ذكر في بحث حذف المفعول ...» لغرض تعيين موضع الحوالة المذكورة في قول السّكّاكي بالطّريق المذكور ، وتصويب المصنّف على ذلك الضّمير في قوله : «أنّه» للشّأن.

(٥) أي إذا كان المقام الّذي أورد فيه المحلّى باللّام خطابيّا ، أي ما يكتفى فيه بالقضايا المفيدة للظّنّ الواقعة في مخاطبة النّاس بعضهم مع بعض ، كقولك : كلّ من يمشي في اللّيل بالسّلاح فهو سارق ، فإنّ هذا غير مقطوع به ، بل يفيد الظّنّ.

٢٤٢

لا استدلاليّا (١) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : " المؤمن غرّ كريم (٢) والمنافق (٣) خبّ (٤) لئيم" حمل المعرّف باللّام مفردا (٥) كان أو جمعا (٦) على الاستغراق (٧) بعلّة (٨)

______________________________________________________

(١) أي ما يطلب فيه اليقين ، ويسمّى بالبرهان بأن يكون المقام ، أي ما يورد فيه المحلّى باللّام ممّا لا يكتفى فيه بالقضايا الخطابيّة ، بل يطلب فيه القضايا المفيدة لليقين التّي يتمسّك بها العلماء في مقام إثبات المطالب النّظريّة ، وذلك كمقام إقامة الدّليل على عدم تعدّد الآلهة ، وإنّما قيّد حمل المعرّف باللّام على الاستغراق بذلك ، لأنّ المقام إذا لم يكن خطابيّا ، بل كان استدلاليّا يحمل المعرّف على المتيّقن كالواحد في المفرد والثّلاثة في الجمع ، لا على الاستغراق.

فالمتحصّل من الجميع أنّ المراد بالخطابي أن لا يكون في الكلام دليل دلّ على كلّيّة الفعل وجزئيّته ، وبالاستدلالي أن يكون فيه دليل كذلك.

(٢) مثال للخطابيّ ، الغرّ : هو الّذي يكون غافلا عن الحيل لصرفه عقله عن أمور الدّنيا ، واشتغاله بأمور الآخرة ، لا لجهله بالأمور وغباوته ، وحيث كان غافلا عن الحيل لما ذكر ، فينخدع وينقاد لما يراد منه ، لكرم طبعه ، وحسن خلقه ، والكريم جيّد الأخلاق ، واللّئيم سيّء الأخلاق.

(٣) أي نفاقا عمليا.

(٤) الخبّ : بفتح الخاء هو الرّجل الخدّاع ، أي كثير الخدعة والأمر والحيلة ، وأمّا بكسرها فالمخادعة لكنّ الرّواية بالفتح ، لئلّا يشتبه بالمصدر الّذي هو بالكسر لا غير.

والمعنى إنّ المنافق كثير المكر والمخادعة لخبث سريرته ، وصرفه عقله إلى إدراك عيوب النّاس توصلا للإفساد فيهم ، فالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قال ذلك مبالغة لحسن ظنّه بالمؤمن ، وعدم حسن ظنّه بالمنافق ، لا لدليل قطعيّ قام عنده على ذلك ، كيف وقد يوجد في المؤمنين من هو شديد في المكر والخدعة ، فالمقام خطابيّ ، وليس استدلاليّا.

(٥) أي كما في الحديث المذكور على فرض الصّدور ، لأنّ المراد كلّ مؤمن غرّ كريم.

(٦) أي كقولك مثلا : المؤمنون أحقّ بالإحسان ، أي كلّ جماعة من المؤمنين أحقّ به.

(٧) أي استغراق الآحاد في المفرد والجماعات ، أي الجموع في الجمع.

(٨) الباء للسّببيّة متعلّقة بقوله : «حمل» ، وإضافة «علّة» إلى «إيهام» بيانيّة. أي حمل المعرّف

٢٤٣

إيهام أنّ القصد (١) إلى فرد دون آخر مع تحقّق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين على الآخر ، ثمّ ذكر (٢) في بحث حذف المفعول أنّه (٣) قد يكون (٤) للقصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدّي منزلة اللّازم ذهابا (٥) في نحو : فلان يعطي ، إلى معنى يفعل الإعطاء ، ويوجد هذه الحقيقة إيهاما (٦) للمبالغة (٧) بالطّريق (٨) المذكور

______________________________________________________

باللّام على الاستغراق بسبب علّة ، هي إيهام السّامع ، أي الإيقاع في وهمه وفي ذهنه ، فيكون المراد بالإيهام الإيقاع في الوهم ، أي إيقاع المتكلّم في وهم السّامع بأنّ القصد ، أي قصد المتكلّم إلى فرد دون آخر ، مع تحقّق الحقيقة فيهما ، أي في كلا الفردين» ترجيح لأحد المتساويين على الآخر» ، وهو غير جائز ، فوجب حينئذ صرف الحكم إلى استعمال العموم ، وهو حمل المعرّف باللّام على الاستغراق.

(١) المراد هو قصد المتكلّم كما ذكرناه ، ويمكن أن يكون المراد قصد السّامع ، فالمعنى بعلّة إيهام أنّ القصد ، أي التفات السّامع ، وقصده إلى فرد دون آخر مع تحقّق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين على الآخر ، وهو غير جائز ، فوجب عليه حمل المعرّف باللّام على الاستغراق ، لئلّا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر.

(٢) أي ذكر السّكّاكي.

(٣) أي الشّأن ، فيكون الضّمير للشّأن ، أو يعود إلى حذف المفعول.

(٤) أي قد يكون حذف المفعول به للقصد ، والميل إلى نفس الفعل ، أي من غير اعتبار تعلّقه بمن وقع عليه.

(٥) قوله : «ذهابا» حال عن فاعل التّنزيل ، أي حال كون المتكلّم ذاهبا» في نحو : فلان يعطي ، إلى من يفعل الإعطاء» ، أي يوجد حقيقة الإعطاء من دون النّظر إلى المعطى له.

(٦) إيهاما علّة للذّهاب ، وقيل : إنّه مفعول له ، وعامله هو التّنزيل ، فالمعنى إنّما يذهب المتكلّم إلى ذلك ، لأجل إيقاعه في وهم السّامع للمبالغة.

(٧) والمراد من المبالغة هو الحمل على جميع أفراد الحقيقة في المقام الخطابيّ ، كأنّه قيل : يفعل كلّ الإعطاء.

(٨) والمراد من الطّريق المذكور ، هو إيهام أنّ القصد إلى فرد دون آخر ترجيح بلا مرجّح.

٢٤٤

في إفادة اللّام الاستغراق (١) ، فجعل المصنّف (٢) قوله : بالطّريق المذكور إشارة إلى قوله :

ثمّ إذا كان المقام خطابيّا (٣) لا استدلاليّا (٤) حمل المعرف باللّام على الاستغراق وإليه (٥) أشار بقوله : [ثمّ] أي بعد كون الغرض ثبوت أصل الفعل ، وتنزيله منزلة اللّازم ، من غير اعتبار كونه (٦) كناية [إذا كان المقام خطابيّا]

______________________________________________________

(١) المراد من الاستغراق هنا في الإعطاء كون متعلّقه ، أي المعطيات لأنّ كلامنا في استغراق الفعل دون متعلّقه ، انتهى كلام السّكّاكي. فما ذكره الشّارح كلام للسّكّاكي ، أي من قوله : «أنّه قد يكون للقصد ـ إلى ـ في إفادة اللّام الاستغراق».

(٢) قوله : فجعل المصنّف جواب سؤال مقدّر ، والتّقدير هو أن يقال : لماذا جعل المصنّف في الإيضاح قول السّكّاكي» بالطّريق المذكور» إشارة إلى قوله ، أي قول صاحب المفتاح في إفادة اللّام الاستغراق ،» ثمّ إذا كان المقام خطابيّا ، أي من أين أخذ المصنّف «ثمّ إذا كان المقام خطابيّا» ، مع أنّه لم يذكر السّكّاكي في المفتاح إلّا قوله بالطّريق المذكور.

وحاصل الجواب : إنّ جعل المصنّف قول السّكّاكي إشارة إلى قول صاحب المفتاح ، ثمّ إذا كان المقام خطابيّا لا استدلاليّا حمل المعرّف باللّام على الاستغراق ، لأنّ قول السّكّاكي» بالطّريق المذكور» إشارة إلى قوله : «حمل المعرّف باللّام على الاستغراق» لئلّا يلزم التّرجيح بلا مرجّح فالطّريق المذكور ، لإفادة المعرّف باللّام الاستغراق مذكور في قول السّكّاكي ، فلا يبقى مجال للسّؤال.

نعم غير المصنّف جعله إشارة إلى شيء آخر ، كما بيّنه في المطوّل ، فراجع إلّا أنّ الظّاهر إنّ ما ذكره المصنّف أولى ممّا ذكره غيره.

(٣) أي المقام الّذي يكتفى فيه بالكلام الّذي يستعمله أهل المحاورة في مخاطباتهم العرفيّة ممّا يفيد الظّنّ.

(٤) أي المقام الاستدلاليّ ما يطلب منه الكلام المفيد لليقين المنسوب إلى البرهان ، بأن يكون القياس مؤلّفا من القضايا اليقينيّة التّي استعملت لإثبات المطالب النّظريّة.

(٥) أي إلى جعل المصنّف قول السّكّاكي ... أشار المصنّف بقوله : «ثمّ».

(٦) أي الفعل المطلق كناية عن الفعل المقيّد.

٢٤٥

يكتفي (١) فيه بمجرّد الظّنّ [لا استدلاليّا] يطلب فيه (٢) اليقين البرهاني (٣) [أفاد] المقام (٤) أو الفعل (٥) [ذلك] ، أي كون الغرض ثبوته لفاعله ، أو نفيه عنه مطلقا (٦) مع التّعميم (٧)] في أفراد (٨) الفعل

______________________________________________________

(١) قوله : «يكتفى فيه ...» بيان للمقام الخطابيّ ، فإنّه مقام يطلب فيه الظّنّ دون اليقين ، ثمّ المعرف باللّام في هذا المقام يحمل على الاستغراق دفعا لتوهّم لزوم التّرجيح بلا مرجّح.

(٢) أي في المقام الاستدلاليّ ، فقول الشّارح» يطلب فيه» تفسير للمقام الاستدلاليّ.

(٣) أي اليقين المنسوب إلى البرهان بأن يكون حاصلا بالبرهان وهو القياس المركّب من القضايا اليقينيّة التّي يستعملها العلماء عند إثبات المطالب النّظريّة كما عرفت.

(٤) أي المقام الخطابيّ مع الفعل ، أي المقام الخطابيّ عند حذف المفعول.

(٥) أي الفعل المذكور ، أي الّذي نزّل بمنزلة اللّازم» أفاد ذلك» باعتبار وقوعه في المقام الخطابيّ ، فقوله : «المقام أو الفعل» إشارة إلى احتمال رجوع الضّمير في «أفاد» إلى كلّ واحد منهما.

(٦) أي من غير الاعتبارات الثّلاثة ، أي من غير اعتبار الفعل المطلق كناية عن المقيّد ، ومن غير اعتبار تعلّق الفعل بمفعول ، ومن غير اعتبار عموم ولا خصوص.

(٧) أي مع تعميم الفعل في جميع أفراده ، أي مع تعميم الحكم في جميع أفراد الفعل.

(٨) قد يقال فيه بحث من وجهين : الأوّل إنّ المقام الخطابيّ لا يفيد الغرض المذكور ، وهو ثبوت الفعل لفاعله ، أو نفيه عنه مطلقا ، وإنّما يفيد التّعميم ، والفعل بالعكس ، أي يفيد ثبوته لفاعله مطلقا ، ولا يفيد التّعميم ، فحينئذ لا يصحّ أن يجعل أحدهما مستقلا بإفادة الجميع ، بل المقام والفعل متعاونان في إفادة الجميع.

الثّاني : إنّ مفاد الفعل نفس الثّبوت لا كون الغرض ثبوته لفاعله مطلقا ، أو نفيه عنه كذلك ، فالأولى للشّارح أن يقول إفادة الفعل بمعونة المقام الخطابي ذلك ، أي ثبوته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا مع التّعميم.

وأجيب عن الأوّل بأنّ أو بمعنى واو ، وعن الثّاني بأنّ ما ذكره من كون الغرض كذا من مستتبعات التّركيب الّذي يفيدها ، وإن لم يستعمل فيها ، والمصنّف عبّر بالإفادة لا بالاستعمال ، فلا إشكال.

٢٤٦

[دفعا للتّحكم (١)] اللّازم من حمله (٢) على فرد دون آخر ، وتحقيقه (٣) إنّ معنى يعطي حينئذ (٤) يفعل الإعطاء (٥) فالإعطاء المعرف بلام الحقيقة يحمل في المقام الخطابيّ على استغراق الإعطاءات وشمولها (٦) مبالغة (٧) لئلّا يلزم (٨) ترجيح أحد المتساويين على الآخر.

لا يقال : إفادة التّعميم (٩)

______________________________________________________

(١) أي دفعا لترجيح أحد المتساويين على الآخر من دون مرجّح ، فيكون قوله : «دفعا» مفعولا لقوله : «أفاد».

(٢) أي من حمل الفعل على بعض أفراده دون بعض الآخر ، ومعنى العبارة أفاد ذلك مع التّعميم دفعا للتّحكم ، أي التّرجيح بلا مرجّح اللّازم من حمل الفعل على بعض أفراده دون بعض الآخر.

(٣) أي تحقيق بيان إفادة الفعل في المقام الخطابي العموم.

(٤) أي حين إذا كان القصد ثبوت الفعل لفاعله مطلقا أو نفيه عنه كذلك.

(٥) أي يوجد هذه الحقيقة في ضمن أيّ فرد ، أي جميع الأفراد لئلّا يلزم التّرجيح بلا مرجّح ، وإنّما كان معنى يعطي يفعل الإعطاء لا يفعل إعطاء ، للفرق بين المصدر المعرّف والمصدر المنكر بعد اشتراكهما في أنّ معناهما معلوم للمخاطب والمتكلّم ، وحاصل الفرق إنّ الحضور في الذّهن والقصد إلى الحاضر فيه معتبر في المعرفة دون النّكرة هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إنّ القصد في المقام متعلّق بنفس الفعل ، فهو مركز للاعتبار واللّحاظ وحاضر في الذّهن ، فبضوء هاتين النّاحيتين نستنتج أنّ معنى فلان يعطى ، أي فلان يفعل الإعطاء ، ويوجد هذه الحقيقة ، لا فلان يفعل إعطاء.

(٦) أي شمول الإعطاءات بأن يراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد.

(٧) تمييز من نسبة الشّمول إلى ضمير الإعطاءات ، أي لقصد المبالغة.

(٨) قوله : «لئلّا ...» علّة لمحذوف ، أي ارتكبت المبالغة لئلّا يلزم ...».

(٩) لا يخفى أنّ قيد الإطلاق غير مذكور في كلام السّكّاكي ، بل عبارته هكذا ، أو القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدّي منزلة اللّازم ، ولا ريب أنّ هذا يدلّ على قطع النّظر عن التّعلّق بالمفعول ، ولا يدلّ على قطع النّظر عن اعتبار عموم أفراد الفعل أو خصوصها ، وحينئذ فلا يرد هذا الاعتراض على كلامه.

٢٤٧

في أفراد الفعل تنافى كون الغرض الثّبوت أو النّفي عنه مطلقا ، أي من غير اعتبار عموم ولا خصوص. لأنّا نقول : لا نسلّم ذلك (١) فإنّ عدم كون الشّيء معتبرا في الغرض لا يستلزم عدم

______________________________________________________

نعم المصنّف ذكر في الإيضاح قيد الإطلاق ، وفسّره بما نقله الشّارح ، وحمل كلام السّكّاكي على ذلك ، فحينئذ اتّجه عليه السّؤال المذكور اتّجاها واضحا بيّنا ، لأنّ التّنافي بين التّعميم والإطلاق أظهر من الشّمس ، إذ العموم معتبر في التّعميم ، ومعنى الإطلاق أن لا يعتبر عموم أفراد الفعل أو خصوصها ، ولا تعلّقه لمن وقع عليه فكيف يجتمعان؟

(١) أي المنافاة أو ما ذكر من المنافاة» فإنّ عدم كون الشّيء معتبرا في الغرض والمقصود ، «لا يستلزم عدم كونه مفادا من الكلام» لأنّ عدم اعتبار الشّيء ليس اعتبارا لعدمه ، كالعموم في الفعل ، فإنّ عدمه غير معتبر في الغرض ، فيصحّ أن لا يعتبر الشّيء ، ويوجد مع ذلك بلا قصد.

ولهذا قال الشّارح : فالتّعميم مفاد غير مقصود ، ألا ترى أنّ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، ويدلّ عليهما كلّما استعمل مع أنّ المقصود منه أحدهما ، فإنّ المعروف عندهم عدم جواز إرادة أكثر من معنى واحد من لفظ واحد ، وأنّ نحو : أنا سعيت في حاجتك ، عند قصد التّخصيص يفيد التقوّي ، ضرورة وجود سببه فيه ، وهو تكرّر الإسناد مع أنّه غير مراد ، فكذلك الفعل إذا كان الغرض منه إثباته لفاعله ، أو نفيه عنه مطلقا ، كان عموم أفراده غير معتبر ، وإن كان ذلك العموم مفادا منه بمعونة المقام الخطابيّ حذرا من التّحكم.

لا يقال : بأنّ ما يستفاد من التّركيب بلا قصد ليس من البلاغة في شيء ، إذ البلغاء لا يعوّلون في الإفادة إلّا على ما يقصدونه.

لأنّا نقول : إنّ الغرض من نفس الفعل الثّبوت أو النّفي مطلقا ، وأمّا التّعميم في أفراد الفعل فمستفاد بمعونة المقام الخطابيّ ، فيكون مقصودا.

٢٤٨

كونه مفادا من الكلام ، فالتّعميم مفاد غير مقصود. ولبعضهم (١) في هذا المقام تخيّلات فاسدة لا طائل (٢) تحتها ، فلم نتعرّض لها (٣). [والأوّل] وهو أن يجعل الفعل مطلقا (٤) كناية عنه (٥) متعلّقا بمفعول مخصوص [كقول البحتري (٦) في المعتز بالله (٧)] تعريضا بالمستعين (٨) بالله :

[شجو حسّاده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع]

______________________________________________________

(١) أي لبعض شارحيّ المفتاح ، أي الخلخالي» في هذا المقام تخيّلات فاسدة».

(٢) أي لا فائدة تحت تلك التّخيلات الفاسدة.

(٣) أي التّخيلات الفاسدة.

(٤) أي من غير الاعتبارات المتقدّمة من العموم والخصوص وغيرهما.

(٥) أي عن الفعل حال كونه متعلّقا بمفعول معيّن مخصوص ، كما يأتي في قول البحتري في مدح المعتزّ بالله بن المتوكّل العبّاسي.

(٦) وهو أبو عبادة ، وهو الشّاعر المشهور من شعراء الدّولة العبّاسيّة ، نسبة إلى بحتر بضم الموحدة وسكون الحاء ، وفتح التّاء ، أبو حي من طيّ.

(٧) أي في مدح المعتزّ بالله ، وهو إمّا اسم فاعل ، يقال اعتزّ فلان إذا عدّ نفسه عزيزة ، أو اسم مفعول أي المعزّ بإعزاز الله ، وهذا أحسن ، لأنّه لا يلزم من عدّ الشّخص نفسه عزيزة أن يكون عزيزا في الواقع ، وهو أي المعتزّ بالله أحد الخلفاء العبّاسيين الّذين كانوا ببغداد ، وهو ابن المتوكّل على الله.

(٨) وهو أخ المعتزّ بالله كان منازعا له في أمر الخلافة الباطلة ، فمراد الشّاعر بالحسّاد والأعداء ، هو المستعين بالله وأصحابه.

المعنى : «الشّجو» بالجيم والواو ، كدلو ، الحزن ، «الحسّاد» جمع حاسد ، وال «غيظ» الغضب المحيط بالكبد ، وهو أشدّ الحنق «العدى» بكسر العين وفتح الدّال مقصورا جمع عدوّ «الواعي» بالواو والعين الحافظ لما يسمعه.

أي الّذي يحفظ كلّ ما سمع ، ثمّ قوله : «يرى ويسمع» مؤوّل بالمصدر ، أي رؤية مبصر وسماع واع خبر للمبتدأ ، وصحّة الحمل مبنيّ على المبالغة ، أي أنّ الرّؤية والسّماع كانا سببين

٢٤٩

أي أن (١) يكون ذو رؤية وذو سمع فيدرك (٢) بالبصر [محاسنه و] بالسّمع [أخباره الظّاهرة الدالّة على استحقاقه الإمامة دون غيره فلا يجدوا] نصب (٣) عطف على يدرك ، أي فلا يجد أعداؤه وحسّاده الّذين يتمنّون الإمامة [إلى منازعته] الإمامة [سبيلا (٤)]

______________________________________________________

للحزن والتّأثر على نحو كأنّهما صارا نفسه.

والشّاهد : في قوله : «يرى ويسمع» حيث جعلا أوّلا بمنزلة اللّازم ، ثمّ جعلا كناية عنهما متعلّقين بفضائله ومحاسنه ، وهو مفعول مخصوص بدعوى الملازمة بين مطلق الرّؤية ، ورؤية محاسنه ، ومطلق السّماع ، وسماع فضائله.

(١) أي قوله : «أن يكون ...» تفسير للجملة ، أعني يرى مبصر ، ويسمع واع ، لا للفعل فقطّ.

ثمّ هذا بحسب الحقيقة سبب للحزن والغيظ ، لكنّ الشّاعر جعله خبرا عنهما تنبيها على كماله في السّبب ، فكأنّه خرج عن السّببيّة ، وصار عين المسبّب ، فالحمل فيه نظير زيد عدل على بعض الوجوه.

(٢) هذا إشارة إلى المعنى الكنّائي ، أي إنّ المبصر والسّامع إذا وجدا ، فيدرك ذو رؤية بالبصر محاسنه الواضحة ، ويدرك ذو سمع بالسّمع أخباره الظّاهرة الدالّة تلك المحاسن والأخبار على استحقاقه ، أي المعتزّ الإمامة والخلافة دون غيره ، يعني المستعين ، فجعل الشّاعر السّبب في شجو الحسّاد وغيظهم وجود رؤية راء ، وسمع سامع في الدّنيا ، وادّعى أنّ مطلق وجودهما ملازم لتعلّقهما بمحاسن الممدوح ، وأخباره الظّاهرة ، فعبّر بالفعلين اللّازمين لينتقل الذّهن منهما إلى لازمهما ، وهو كونهما متعلّقين بمفعول مخصوص ، فيكونان كنايتين عن أنفسهما باعتباري اللّازم والمتعدّي.

(٣) أي فلا يجدوا ، بحذف النّون منصوب ، لكونه عطفا على ما هو المنصوب أعني قوله : «فيدرك».

(٤) مفعول» يجدوا» في قوله : «فلا يجدوا» أي فلا يجد أعداؤه إلى منازعة المعتزّ بالله في الإمامة سبيلا وطريقا ، فيسدّ عليهم طريق المنازعة التّي هي سبب الحسد ، فحاصل المعنى إنّ محاسن الممدوح وآثاره وأخباره لم تخف على من له بصر وسمع ، لكثرتها واشتهارها ، ويكفي في معرفة أنّها سبب لاستحقاق الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع ، لظهور دلالتها على ذلك ، فحسّاده وأعداؤه يتمنّون أن لا يكون في الدّنيا من له عين يبصرها ،

٢٥٠

فالحاصل إنّه (١) نزّل يرى ويسمع منزلة اللّازم ، أي من يصدر عنه السّماع والرّؤية من غير تعلّق بمفعول مخصوص ، ثمّ جعلهما (٢) كنايتين عن الرّؤية والسّماع المتعلّقين بمفعول مخصوص (٣) ، هو (٤) محاسنه وأخباره بادّعاء (٥) الملازمة بين مطلق الرّؤية ورؤية آثاره ومحاسنه (٦) ، وكذا بين مطلق السّماع وسماع أخباره للدّلالة (٧) على أنّ آثاره وأخباره بلغت من الكثرة والاشتهار إلى حيث يمتنع إخفاؤها (٨) ، فأبصرها كلّ راء ، وسمعها كلّ واع ، بل (٩) لا يبصر الرّائي إلّا تلك الآثار ، ولا يسمع الواعي إلّا تلك

______________________________________________________

وأذن يسمع بها ، كي يخفى استحقاقه للإمامة والإمارة ، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته.

(١) أي البحتري.

(٢) عطف على قوله : «نزّل» أي جعل البحتري الفعلين كنايتين ، يعني جعل مطلق الرّؤية كناية عن رؤية محاسنه وآثاره ، ومطلق السّماع كناية عن سماع أخباره للمبالغة في اشتهارها وجلائها.

(٣) دلّت عليه قرينة ، وهي هنا كون المقام مقام المدح.

(٤) أي المفعول المخصوص محاسنه وأخباره ، لأنّ تعلّقهما به هو الّذي يوجب غيظ العدوّ لا مطلق وجود رؤية وسماع.

(٥) متعلّق بقوله : «جعلهما» ، أو متعلّق بقوله : «كنايتين» ، أي جعلهما كنايتين بواسطة ادّعاء الملازمة بين مطلق الرّؤية ورؤية آثاره ومحاسنه ... وإنّما قال : «بادّعاء الملازمة» لأنّ المطلق ليس ملزوما للمقيّد حتّى يستلزمه ، بل الملازمة بادّعاء الملازمة.

وبعبارة أخرى إنّما احتيج إلى هذا الادّعاء لأجل صحّة الكناية ، وإلّا فالمقيّد ليس لازما للمطلق ، والدّليل على هذه الكناية جعلهما خبرا عن الشّجو والغيظ ، وقد عرفت أنّ ما يوجبهما الرّؤية والسّماع المتعلّقين بالمفعول المخصوص ، لا هما مطلقين.

(٦) والضّمائر في محاسنه وأخباره وآثاره ترجع إلى الممدوح وهو المعتزّ بالله.

(٧) علّة لقوله : «جعلهما كنايتين» ، أو تعليل لقوله : «بادّعاء الملازمة».

(٨) فالضّمائر في قوله : «إخفاؤها ، فأبصرها ، وسمعها» ترجع إلى الآثار والأخبار.

(٩) وجه التّرقي إنّ الرّائي لو أبصر غير محاسنه أيضا ، إمّا منفردا أو مع محاسنه لا تصحّ الكناية على الأوّل ، ولا يحصل المقصود على الثّاني.

٢٥١

الأخبار ، فذكر الملزوم (١) وأراد اللّازم (٢) على ما هو طريق الكناية (٣) ، ففي ترك المفعول (٤) والإعراض عنه إشعار بأنّ فضائله قد بلغت من الظّهور والكثرة إلى حيث يكفي فيها (٥) مجرّد أن يكون ذو سمع وذو بصر حتّى يعلم (٦) أنّه المتفرّد بالفضائل ، ولا يخفى (٧) أنّه يفوت هذا المعنى عند ذكر المفعول ،

______________________________________________________

أمّا الأوّل فلأنّ رؤية محاسنه عندئذ لا تكون ملازمة لمطلق الرّؤية ، وكذا سماع أخباره لا تكون ملازمة لمطلق السّماع لوجودهما بدونهما ، فليس اللّزوم المقوّم للكنّاية موجودا.

وأمّا الثّاني فلأنّه عندئذ يمكن ادّعاء المشاركة في استحقاق الإمامة ، والغرض عدم إمكان ذلك.

(١) أي اللّفظ الدّال عليه ، والمراد به مطلق الرّؤية والسّماع.

(٢) أي رؤية آثاره ومحاسنه وسماع أخباره الدالّة على استحقاقه الإمامة.

(٣) أي على ما هو طريق الكناية عند المصنّف تبعا للمشهور ، من أنّه ذكر الملزوم وإرادة اللّازم ، كما في عريض القفاء حيث أطلق الملزوم ، وهو عرض القفاء ، وأريد لازمه وهو البلاهة والغباوة.

(٤) قوله : «ففي ترك المفعول» وما عطف عليه أي» الإعراض عنه» خبر مقدّم ، و» إشعار» مبتدأ مؤخّر ، والمراد بترك المفعول تركه لفظا ، والمراد بالإعراض عنه تركه في النّيّة والتّقدير ، للإشارة إلى أنّ ترك المفعول ليس عن سهو ، بل تركه عن قصد ليتأتّى التّنزيل المطلوب في المقام.

(٥) أي في فضائله.

(٦) أي يعلم ذو السّمع وذو البصر أنّ الممدوح هو المتفرّد بالفضائل ، أي فيستحق الخلافة دون غيره.

(٧) جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره أنّ إرادة الإطلاق ، ثمّ الخصوص على نحو الكناية ليس إلّا التّلاعب ، إذ المقصود النّهائي هو إفادة إثبات الرّؤية والسّمع لفاعله ، أو نفيهما عنه حال كونهما متعلّقين بالمفعول المخصوص ، فلا حاجة إلى اعتبار الإطلاق أوّلا ، ثمّ جعلهما كناية عن نفسهما مقيّدين بمفعول مخصوص ، بل الّذي ينبغي له الإتيان بهما من أوّل الأمر متعلّقين بالمفعول المخصوص.

٢٥٢

أو تقديره (١) ، [وإلّا] أي وإن لم يكن الغرض عند عدم ذكر المفعول مع الفعل المتعدّي المسند إلى فاعله إثباته لفاعله ، أو نفيه عنه مطلقا (٢) ، بل قصد تعلّقه (٣)

______________________________________________________

وحاصل الجواب : أنّه لو جعل كذلك لفاتت المبالغة في المدح ، إذ لا تحصل إلّا باعتبار الكناية ، حيث إنّ المعنى حينئذ أنّه متى وجد فرد من أفراد الرّؤية أو السّماع حصلت رؤية محاسنه وسماع أخباره ، وهذا يدلّ على أنّ أخباره بلغت من الكثرة والاشتهار إلى حالة يمتنع معها الخفاء» أنّه» أي الشّأن» يفوت هذا المعنى» ، أي الدّلالة على أنّ آثاره وأخباره بلغت من الكثرة إلى حد يمتنع معها الخفاء.

(١) أي تقدير المفعول.

(٢) أي من غير قصد إلى تعلّقه بمفعول ، فليس الإطلاق هنا كالإطلاق السّابق ، فإنّه كان عبارة عن عدم اعتبار عموم أفراد الفعل أو خصوصه مضافا إلى عدم اعتبار تعلّقه بمفعول ، فضلا عن اعتبار عمومه أو خصوصه ، وهذا الإطلاق عبارة عن عدم اعتبار التّعلّق بالمفعول وحده.

(٣) أي تعلّق الفعل «بمفعول» أي مخصوص ، وإنّما قال الشّارح : «بل قصد تعلّقه» ، لأنّه لو لم يقصد إثباته أو نفيه مطلقا ، بل قصد إثباته أو نفيه باعتبار خصوص أفراد الفعل أو عمومها من غير اعتبار التّعلّق بمفعول لم يجب تقدير المفعول ، بل لم يجز لفوات المقصود ، وهو قصد إثبات الفعل أو نفيه باعتبار خصوص أفراد الفعل أو عمومها ، إذ تقدير المفعول ينافي العموم ، فإتيان الشّارح بكلمة «بل» الإضرابيّة لأجل صحّة ترتب قوله : «وجب التّقدير بحسب القرائن» على قوله : «وإلّا» ، إذ قوله : «وإلّا» بحسب الظّاهر نفي لما ذكر من المعطوف عليه ، وهو قوله : «إن كان إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا» وذلك على مقتضى ما فسّر به الإطلاق سابقا يصدق بأن يعتبر تعلّقه بمفعول ، أو يعتبر في الفعل عموم أو خصوص ، وحينئذ فلا يصحّ التّرتّب ، والحاصل أنّه إنّما أتى بهذا الإضراب للإشارة إلى أنّ الصّور الدّاخلة تحت إلّا لا تصحّ إرادة جميعها ، إذ من جملتها ما إذا أريد ثبوت الفعل للفاعل على جهة العموم والخصوص ، فلا يصحّ حينئذ رجوع قوله : «وجب التّقدير بحسب القرائن» إليه.

٢٥٣

بمفعول غير مذكور [وجب التّقدير بحسب القرائن (١)] الدالّة على تعيين المفعول ، إن عامّا (٢) فعامّ ، وإن خاصّا فخاصّ (٣) ولمّا وجب تقدير المفعول تعيّن أنّه مراد في المعنى ، ومحذوف من اللّفظ لغرض (٤).

______________________________________________________

(١) أتى بصيغة الجمع ، ولم يقل : بحسب القرينة ، نظرا إلى تعدّد الموارد والأمثلة ، وإلّا فقد يكون الدّال على المقدّر قرينة واحدة.

وأمّا تقييد المصنّف التّقدير هنا بالقرائن ، وعدم تقييده حذف المسند والمسند إليه بها ، مع أنّ الجميع سواء في الحاجة إليها ، إشارة إلى أنّ الحاجة إلى رعاية القرينة هنا أشدّ ، إذ الكلام يتمّ بدون متعلّق الفعل ، فلا يتمكّن المخاطب من فهمه إلّا بالقرينة ، بخلاف المسند والمسند إليه فإنّهما ممّا لا يعرض المخاطب عنه ، فإن عجز عن فهمهما يسأل عن المتكلّم.

(٢) أي وإن كان المدلول عليه بالقرينة عامّا ، فاللّفظ المقدّر عامّ.

(٣) أي وإن كان اللّفظ المدلول عليه بالقرينة خاصّا ، فاللّفظ المقدّر خاصّ.

وبعبارة أخرى إن كانت القرينة عامّا ، فالمفعول المقدّر نحو : قد كان منك ما يؤذي ، أي كلّ أحد ، ونحو قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي كلّ واحد ، وإن كانت القرينة خاصّا ، فالمفعول المقدّر خاصّ نحو قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أي بعثه ، لأنّ الموصول يستدعي أن يكون في صلته ما يرجع إليه ، ونحو قول عائشة : ما رأيت منه وما رأى منّي ، أي العورة.

(٤) إشارة إلى أنّ المحذوف بعد دلالة القرينة عليه يحتاج إلى غرض في باب البلاغة ، والحاصل إنّ الحذف لا بدّ فيه من أمرين :

الأوّل : وجود القرينة الدالّة على تعيين ذلك المحذوف.

الثّاني الغرض الموجب له أو المرجّح له ، والمصنّف لمّا بيّن الشّرط الأوّل بقوله : «وجب التّقدير بحسب القرائن» شرع في تفصيل الثّاني بقوله : «إمّا للبيان بعد الإبهام» لأنّ الحذف حينئذ موجب لتمكّن المبيّن ورسوخه وارتكازه في النّفس ، لما مرّ غير مرّة من أنّ الحاصل بعد الطّلب أعز من المنساق بلا تعب وبلا طلب.

٢٥٤

فأشار إلى تفصيل الغرض بقوله : [ثمّ الحذف إمّا للبيان بعد الإبهام (١) كما في فعل المشيئة (٢)] والإرادة (٣) ونحوهما (٤) ، إذا وقع شرطا (٥) فإنّ الجواب يدلّ عليه (٦) ويبيّنه ، لكنّه (٧) إنّما يحذف [ما لم يكن (٨) تعلّقه به] أي (٩) تعلّق فعل المشيئة بالمفعول

______________________________________________________

(١) أي الإظهار بعد الإخفاء.

(٢) أي كحذف مفعول فعل المشيئة ، أي شاء يشاء ، وما يشتقّ منهما.

(٣) أي فعل الإرادة ، أي أراد يريد ، وما يشتقّ منهما.

(٤) أي كفعل القصد والمحبّة ونحوهما ، كما في قولك : لو أحبّكم لأعطاكم ، أي لو أحبّ إعطاءكم لأعطاكم ، ثمّ قول الشّارح : «ونحوهما» إشارة إلى أنّ ذكر فعل المشيئة ، وعطف الشّارح عليه مبنيّ على كثرة الحذف فيهما ، أي كثرة حذف المفعول فيهما لا على التّخصيص ، بأن يكون الكاف في قوله : «كما في الفعل المشيئة» للتّبيين لا للتّمثيل. وبعبارة أخرى : «ونحوهما» إشارة إلى أنّ الكاف في قول المصنّف للتّمثيل لا للتّبيين.

(٥) أي إذا وقع فعل المشيئة شرطا ، لا يقال : لا ينبغي أن يخصّ ذلك بالشّرط.

(٦) أي يدلّ على ذلك المفعول المحذوف ، وقوله : «يبينه» تفسير لما قبله.

(٧) أي لكنّ مفعول فعل المشيئة ونحوها إنّما يحذف مدة انتفاء كون تعلّق الفعل بذلك المفعول غريبا ، كما أشار إليه بقوله : «ما لم يكن تعلّقه به غريبا».

(٨) ظاهر كلام المصنّف يوهم أنّ كون الحذف للبيان بعد الإبهام مقيّد بذلك الوقت ، أي وقت عدم تعلّقه ، أي فعل المشيئة بالمفعول غريبا حتّى لو كانت غرابة في تعلّقه ، لم يكن الحذف لذلك ، أي للبيان بعد الإبهام ، بل لغرض آخر ، وهذا ليس بمراد جزما ، بل المقيّد به مطلق الحذف.

والمعنى إنّه لا يحذف المفعول إذا كان تعلّق فعل المشيئة به غريبا ، بل عندئذ لا بدّ من ذكره ليأنس ذهن السّامع به ، كما سيأتي عن قريب ، ولذا زاد الشّارح قوله : «لكنّه إنّما يحذف» قبل قول المصنّف» ما لم يكن تعلّقه به غريبا».

(٩) أي فسّر بفعل المشيئة دون مطلق الفعل ، أي لم يقل ، أي تعلّق بالفعل بالمفعول مع كون الحكم شاملا لغير فعل المشيئة والإرادة أيضا ، رعاية لسوق الكلام حيث إنّ المصنّف بين حذف المفعول وغرابة المقام في فعل المشيئة.

٢٥٥

[غريبا نحو : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(١) (١)] أي لو شاء الله هدايتكم لهداكم أجمعين ، فإنّه لما قيل : (وَلَوْ شاءَ) علم السّامع أنّ هناك شيئا علّقت المشيئة عليه (٢) لكنّه (٣) مبهم عنده ، فإذا جيء بجواب الشّرط (٤) صار (٥) مبيّنا له ، وهذا (٦) أوقع في النّفس

______________________________________________________

(١) هذا مثال للنّفي ، أي إنّ المفعول الّذي لم يكن تعلّق فعل المشيئة به غريبا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ،) أي لو شاء الله هدايتكم لهداكم أجمعين.

(٢) أي تعلّقت المشيئة بذلك الشّيء ، فيكون على بمعنى الباء ، ولو قال تعلّقت المشيئة به بدل» عليه» لكان أوضح ، إذ حاصل المعنى حينئذ أنّه لما قيل : (وَلَوْ شاءَ) علم السّامع أنّ هناك شيئا تعلّقت المشيئة به تعلّق العامل بالمعمول.

فلا يرد ما ربّما يقال إنّ ظاهره أنّ فعل المشيئة معلّق على المفعول به ، مع أنّه ليس كذلك ، لأنّ الإيراد مبنيّ على أن لا تكون على بمعنى الباء ،» وعلّقت» بمعنى تعلّقت ، وقد عرفت أنّ على في قوله : «عليه» بمعنى الباء ، وقوله : «علّقت» بمعنى تعلّقت ، فالمعنى ما ذكرناه ، أعني تعلّقت المشيئة به تعلّق العامل بالمعمول.

(٣) أي الشّيء مبهم عند السّامع.

(٤) وهو في قوله تعالى : (لَهَداكُمْ).

(٥) أي صار ذلك الشّيء وهو المفعول مبيّنا بفتح الياء اسم مفعول خبر لصار ، ويجوز أن يكون اسم صار ضميرا عائدا إلى الجواب ، وحينئذ يكون مبيّنا بكسر الياء اسم فاعل ، فالمعنى على الأوّل فإذا جيء بجواب الشّرط صار ذلك الشّيء مبيّنا وواضحا للسّامع. وعلى الثّاني فإذا جيء بجواب الشّرط صار جواب الشّرط مبيّنا لذلك الشّيء.

وكيف كان فالحاصل إنّ ذلك المفعول دلّ عليه كلّ من الشّرط والجواب ، إلّا أنّ جهة الدلالة مختلفة ، حيث إنّ الشّرط دلّ عليه إجمالا ، والجواب دلّ عليه تفصيلا.

(٦) أي البيان بعد الإبهام» أوقع في النّفس» وأوكد لما فيه من حصول المطلوب بعد الطّلب والتّعب ، ومن البديهي أنّ الحاصل بعد الطّلب أعزّ من المنساق بلا تعب.

وبعبارة أخرى إنّ ذكر الشّيء مرّتين مبهما مرّة ، ومبينا مرّة أخرى أوكد وأوقع في النّفس ، أي الذّهن من ذكره مرّة واحدة ولو مبيّنا.

__________________

(١) سورة النحل : ٩.

٢٥٦

[بخلاف (١)] ما إذا كان تعلّق فعل المشيئة به غريبا فإنّه لا يحذف (٢) حينئذ (٣) ، كما في [نحو] قوله : (٤)

[ولو شئت أن أبكي دما لبكيته]

عليه ولكن ساحة (٥) الصّبر أوسع

______________________________________________________

(١) الأظهر والمناسب أن يكون قوله : «بخلاف» متعلّقا بالمثال ، فالمعنى أنّ مثال عدم غرابة التّعلّق ، نحو : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بخلاف مثال غرابة التّعلّق» نحو : ولو شئت أن أبكي دما لبكيته» ، والمناسب لقول الشّارح» بخلاف ما إذا كان تعلّق فعل المشيئة به غريبا» أن يكون قوله : «بخلاف» متعلّقا بقوله : «ما لم يكن تعلّقه به غريبا» ، بخلاف ما إذا كان تعلّق فعل المشيئة به غريبا ، أي نادرا فالمراد من الغريب هو النّادر.

(٢) أي لا يحسن حذفه كما صرّح به الشّيخ في دلائل الإعجاز ، قال فيه : إذا كان تعلّق فعل المشيئة بمفعوله غريبا ، فحذفه غير مستحسن ، انتهى.

فيعلم من كلامه أنّ المستحسن ذكره ، والمستحسن عند البلغاء في حكم الواجب فلذا قال :

في المطوّل فلابدّ من ذكره.

(٣) أي حين كون تعلّق فعل المشيئة بمفعوله غريبا.

(٤) أي قول أبي يعقوب إسحاق بن حسان بن قوهي ، الشّاعر المعروف بالخريمي ، بالخاء المعجمة والرّاء المهملة ، وقد أخطأ من جعلهما بمهملتين ، كما في كامل المبرّد ، وبمعجمتين كما في الطّبري وغيره ، وقد اشتبه الأمر على الدّسوقي ، فنسب هذه الأبيات إلى أبي الهندام الخزاعي يرثي ابنه الهندام ، كما في الوشاح ، وفي المدرّس الأفضل ، والمطوّل قول : الخزيمي يرثي ابنه ويصف نفسه بشدّة الحزن والصّبر عليه ، أي على ابنه.

وفي بعض التّعاليق إنّه إسحاق بن حسان الخزيمي من شعراء الدّولة العبّاسيّة.

(٥) السّاحة هي أرض واقعة بين الدّور والقصور ، وإثباتها للصّبر استعارة تخييليّة ، ونفس الصّبر من الاستعارة بالكناية ، يعني أنّ الشّاعر شبّه الصّبر في نفسه بالدّور ، في الاشتمال على الوسعة والضّيق ، ثمّ ترك أركان التّشبيه إلّا المشبّه ، وأراد منه معناه ، وأثبت له لازما من لوازم المشبّه به ، أعني الدّار ، وهي السّاحة الأوسع وهو خلاف الضّيق.

والشّاهد : في عدم حذف مفعول المشيئة لغرابة تعلّقها به ،» فإنّ تعلّق فعل المشيئة ببكاء

٢٥٧

فإنّ تعلّق فعل المشيئة ببكاء الدّم غريب ، فذكره (١) ليتقرّر في نفس السّامع ويأنس به (٢) ، [وأما قوله (١) :

ولم يبق منّي الشّوق غير تفكّري

فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا (٣)

فليس منه]. أي ممّا ترك فيه حذف مفعول المشيئة (٤) ، بناء على غرابة تعلّقها به

______________________________________________________

الدّم غريب» ، أي نادر في كلام البلغاء ، وجه غرابته أنّه قلّما يشاء الإنسان أن يخرج الدّم من عينه بطريق البكاء.

(١) أي فذكر بكاء الدّم الّذي هو مفعول فعل المشيئة ، وإن كان الجواب دالّا عليه ليتقرّر ذلك المفعول في نفس السّامع ، ويأنس السّامع به لذكره مرّتين ، الأولى أن أبكي دما ، والثّانية بإعادة الضّمير عليه ، لأنّ الضّمير في (لبكيته) راجع إلى الدّم المذكور أوّلا.

(٢) أي بالمفعول ، لأنّ ذكر الشّيء مرّتين سبب لأنس السّامع به.

لا يقال : إنّه لا وجه لتعليل وجوب الذّكر بالتّقرير ، لأنّه موجود في الحذف أيضا ، حيث إنّ الإيضاح والبيان بعد الإبهام يوجب تقرير المبيّن في الذّهن ، كما عرفت.

لأنّا نقول التّقرير هنا بمعنى الأنس ، كما يدلّ عليه قوله : «ويأنس السّامع به» ، وليس التّقرير بمعنى الرّسوخ بعد الأنس.

والحاصل إنّ اللّازم في مورد الغرابة الذّكر ، ليحصل الأنس ، وليرفع توحّش الذّهن عنه ، وهذا أهمّ من رعاية التّقرير بمعنى الرّسوخ.

(٣) المعنى : «يبق» مضارع من الإبقاء ، وهو ضد الإفناء ، والباقي واضح.

الإعراب : الواو للعطف ، و» لم» حرف جزم ونفي ، و» يبق» فعل مضارع ،» منّي» متعلّق ب» يبق» ،» الشّوق» فاعل» يبق» ،» غير تفكّري» مضاف ومضاف إليه مفعول ل» يبق» ،» فلو» الفاء للعطف ، و» لو» حرف شرط وامتناع ،» شئت» فعل وفاعل ،» أن أبكي» مؤوّل بالمصدر مفعول» شئت» ، والجملة فعل شرط ل» لو» ،» بكيت تفكّرا» فعل وفاعل ومفعول ، جواب شرط ل» لو» ، والجملة الشّرطيّة عطف على سابقتها.

(٤) أي تعلّق المشيئة بالمفعول ، أي ليس ترك حذف مفعول المشيئة لأجل غرابة تعلّقها به ، كما توهّمه صدر الأفاضل ، لعدم الغرابة فيه ، لكون المراد بالبكاء الأوّل هو البكاء الحقيقي ،

__________________

(١) أي قول أبي الحسن علي بن أحمد الجوهري من شعراء الدّولة العبّاسيّة.

٢٥٨

على ما ذهب إليه صدر الأفاضل (١) في ضرام (٢) السّقط من (٣) إنّ المراد لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا ، فلم يحذف منه مفعول (٤) المشيئة ، ولم يقل : لو شئت بكيت

______________________________________________________

فإنّ المتبادر من قوله : «أن أبكي» هو البكاء الحقيقي ، بل ترك الحذف فيه إنّما هو لعدم دليل على المفعول لو حذف ، والحاصل إنّ مفعول المشيئة هنا مذكور باتّفاق المصنّف وصدر الأفاضل ، وإنّما الخلاف بينهما في علّة ذكره ، فالمصنّف يرى ذكره بسبب عدم قابليّة المقام للحذف ، وذلك لانتفاء القرينة عليه حيث إنّ المراد من البكاء الأوّل أعني» أن أبكي» هو البكاء الحقيقي ، ومن الثّاني أعني» بكيت» هو البكاء المجازي ، أي بكاء التّفكّر فلا يصلح أن يكون الثّاني قرينة على حذف الأوّل ، وصدر الأفاضل يرى ذكره بسبب وجود المانع ، وهو غرابة تعلّق المشيئة به ، لا عدم صلاحيّة المقام ، حيث إنّ المراد من كلا البكاءين عنده هو البكاء المجازي ، أعني التّفكر ، ومن ذلك يظهر أنّ النّفي بليس منصب على قوله : «بناء على غرابة تعلّقها به» بمعنى أنّ الغرابة ليست سببا لترك الحذف ، بل سبب ترك الحذف عدم دليل عليه لو حذف.

فقوله : «على ما ذهب إليه ...» متعلّق بالمنفي الّذي هو ترك الحذف لأجل الغرابة ، كما يظهر من التّعليل الآتي في كلام المصنّف.

(١) وهو الإمام أبو المكارم ، فإنّه زعم أنّ هذا البيت ممّا ترك حذف مفعول المشيئة لأجل الغرابة ، وليس الأمر كذلك.

(٢)» ضرام السّقط» اسم كتاب ، وهو شرح له على ديوان أبي العلاء المعرّي المسمّى بسقط الزّند ، وهو في الأصل عبارة عن النّار السّاقطة من الزّناد ، فشبّه ألفاظ ذلك الدّيوان بالنّار على طريق الاستعارة المصرّحة ، والضّرام في الأصل معناه التّأجيج ، فضرام سقط الزّند تأجيج ناره.

(٣) أي من بيان لما في قوله : «على ما ذهب ...» ، والمعنى أنّ ما ذهب إليه صاحب ضرام السّقط ، من أنّ مراد الشّاعر من البيت المذكور» لو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت تفكّرا».

(٤) أي بكاء التّفكّر ، حيث إنّ التّفكّر مذكور في اللّفظ ، والفعلان متوجّهان إليه ، ولازم ذلك هو كون بكاء التّفكّر مذكورا.

ثمّ إنّ هذا واضح بناء على مذهب من جوّز تشريك العاملين في معمول واحد ، وأمّا على

٢٥٩

تفكّرا ، لأنّ تعلّق المشيئة ببكاء التّفكّر غريب (١) ، كتعلّقها ببكاء الدّم ، وإنّما لم يكن (٢) من هذا القبيل [لأنّ المراد بالأوّل (٣) البكاء الحقيقي] لا البكاء التّفكّري (٤).

______________________________________________________

مذهب من لم يجوّز ذلك ، وذهب إلى أنّ توارد العاملين على معمول واحد مثل توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد في الامتناع ، فعدم الحذف مبنيّ على الالتزام بكونه معمولا لهما ظاهرا عند أهل المحاورة حفظا لقاعدتهم من عدم جواز توارد العاملين على معمول واحد.

ويمكن أن يقال : إنّ في الكلام تنازعا لأنّ كلّا من الشّرط والجزاء طالب للتّفكّر المذكور ، فمفعول» أبكي» إمّا مذكور إن أعملنا الأوّل ، أو مقدّر إن أعملنا الثّاني ، والمقدّر كالمذكور.

وكيف كان فقد توهّم صاحب الضّرام أنّ الشّاهد في عدم حذف مفعول» شئت» أعني جملة» أن أبكي» ، فلذا قال : «لم يحذف منه مفعول المشيئة ...». فدفع المصنّف هذا التّوهّم ، وصرّح بأنّ البيت ليس من قبيل عدم حذف المفعول لغرابة تعلّق المشيئة به.

(١) أي تعلّق المشيئة ببكاء التّفكّر مثل تعلّقها ببكاء الدّم في الغرابة ، فعدم حذف مفعول المشيئة في كلا الموردين لأجل الغرابة.

(٢) أي إنّما لم يكن البيت من قبيل عدم حذف المفعول ، لغرابة تعلّق المشيئة به.

(٣) أي قوله : «أن أبكي» هو البكاء الحقيقي ، أعني البكاء بالدّمع ، فلا يكون مثل المشيئة متعلّقا ببكاء التّفكر.

(٤) أي إذا لا يصحّ ما ذكره صدر الأفاضل من أنّ الأصل لو شئت أن أبكى تفكّرا بكيت تفكّرا ، وبطل قوله : إنّ البيت ممّا ذكر فيه مفعول المشيئة لغرابته ، لأنّ مفعول المشيئة فيه هو البكاء الحقيقي ، وهو ليس غريبا ، وتعيّن القول بأنّ مفعول المشيئة إنّما ذكر لعدم الدّليل الدّالّ عليه لو حذف ، أي ذكر المفعول لعدم وجود ما يقتضي الحذف ، أعني القرينة لا لوجود المانع ، مع إحراز المقتضي ، وهو كون الجواب صالحا للقرينيّة ، كما توهّمه صدر الأفاضل.

ولكن يرد حينئذ أنّه إذا لم يكن مفعول المشيئة غريبا ، فلماذا ذكر ، ولم يحذف ، وليس في كلام الشّارح ما يفيد جواب ذلك صريحا ، ويمكن تقرير المتن على وجه غير ما شرح عليه الشّارح.

لا يرد عليه هذا بأن يقال : إنّ المراد بقوله : «فليس منه» ، أي فعل المشيئة في البيت المذكور ليس من فعل المشيئة الّذي يحذف مفعوله للبيان بعد الإبهام ، لأنّ البيان بعد الإبهام إنّما

٢٦٠