دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

حينئذ فلا يكون مفيدا للاختصاص ، بخلاف ما إذا كانت سالبة ، فإنّ المصحّح عندئذ وقوعها في سياق النّفي ، فيكون التّقديم للاختصاص ، لأنّ القضيّة سالبة.

ومن هنا نستكشف أنّ قوله : «إنّ عدم الغول ...» ليس إشارة إلى كون الآية قضيّة معدولة الموضوع ، بل هو بيان لما هو حاصل المعنى ومرجعه ، فلا يصغى إلى ما ذكره غير واحد من أنّ كلامه هذا إشارة إلى أنّ الآية قضيّة معدولة الموضوع ، كما أنّ قوله : «وإن اعتبرت النّفي في جانب المسند ...» إشارة إلى أنّ الآية يمكن أن تكون قضيّة موجبة معدولة المحمول ، ولا إلى ما أجابوا به عن الوجه الأوّل بأنّ الظّرف يتوسّع فيه أكثر من غيره ، فلا يضرّ الفصل به بين حرف السّلب والموضوع.

وقالوا : إنّما نرتكب هذا العدول لئلا يرد أنّه إذا كان تقديم المسند في الآية للحصر كان معناها نفي حصر الغول في خمور الجنّة لا نفي الغول عنها ، وذلك لأنّ النّفي إذا دخل في كلام فيه قيد بوجه ما يتوجّه إليه ، فعلى هذا يفيد النّفي نفي القصر المستفاد من التّقديم لا ثبوته ، وهذا غير مقصود قطعا.

وعن الوجه الثّاني بأنّ المصحّح لوقوع المبتدأ نكرة في هذا الفرض جعل التّنوين للتّنويع إذا اعتبرنا العدول في جانب المحمول ، وكون الموضوع في تأويل المضاف ، أي عدم الغول إن اعتبرنا العدول في جانب الموضوع ، فإذا يصحّ جعل التّقديم للقصر.

ولا يصغى إلى الجواب بهذين الوجهين ، وجه عدم الإصغاء إنّ جعل التّنوين أو الموضوع بتأويل المضاف والالتزام بالتّوسّع في الظّرف على نحو لا يضرّ الفصل به بين حرف السّلب والموضوع على جعل حرف السّلب خبرا لما يليه تكلّفات باردة بنحو لا يرضى بها اللّبيب ، ولا ملزم يلزمنا على ارتكابها.

وما ذكروه من أنّ الموجب لذلك إنّ جعل القضيّة سالبة محصّلة مستلزم لأن يكون المراد بها نفي الحصر لا ثبوته فاسد قطعا لا أساس له ، لأنّ النّفي كثير ما يتوجّه إلى نفس الثّبوت كما في قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(١) ، فإنّ النّفي يكون متوجها إلى نفي الظّلم مقيّدا ذلك النّفي بالمبالغة في تحقّقه ، وليس النّفي مسلّطا على المبالغة في الظّلم لاستلزامه ثبوت

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٦

٢٢١

إلى الاتّصاف بفي خمور الدّنيا ، وإن اعتبرت النّفي في جانب المسند ، فالمعنى أنّ الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنّة لا يتجاوزه إلى عدم الحصول في خمور الدّنيا ، فالمسند إليه مقصور على المسند قصرا غير حقيقي. وكذلك (١) القياس في قوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ونظيره (٢) ما ذكره صاحب المفتاح في قوله

______________________________________________________

أصل الظّلم له تعالى ، فعلى هذا يصحّ أن لا يعتبر العدول في الآية ، ويكون مفادها قصر نفي الغول على الكون في خمور الجنّة ، فالغول مسلّم الثّبوت والنّزاع في محلّه ، فالمخاطب يعتقد محلّيّة خمور الجنّة والمتكلّم ينفي ذلك.

وكيف كان فالمسند إليه مقصور على المسند قصرا غير حقيقي على كلا التّقديرين ، أي سواء اعتبر النّفي في جانب المسند إليه أو في جانب المسند ، إذ لو كان مقصورا عليه قصرا حقيقيّا يلزم ثبوت الغول فيما عدا خمور الجنّة من خمور الدّنيا وسائر الأشربة ، وهذا وإن كان صحيحا بالنّظر إلى خمور الدّنيا لكن ليس بصحيح بالنّظر إلى سائر الأشربة.

(١) أي ليس القصر حقيقيا في قوله تعالى آمرا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول للكافرين (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي إنّ دينكم مقصور على الاتّصاف بكونه لكم ، ولا يتجاوزه إلى الاتّصاف بكونه لي ، وديني مقصور على الاتّصاف بكونه لي لا يتجاوزه إلى الاتّصاف بكونه لكم ، وهذا لا ينافي أنّه يتّصف به أمّته المؤمنون ، فلهذا يكون القصر إضافيّا ، ويكون من قصر الموصوف على الصّفة.

(٢) أي نظير قصر المسند إليه على المسند المنفي في كونه قصر موصوف على صفته في باب الظّرف ، لا نظيره في التّقديم ، لأنّ المسند فيه مؤخّر على الأصل ، والحصر جاء عن النّفي لا من التّقديم لأنّ المعنى ما حسابهم إلّا على ربّي ، فلهذا كان نظيرا لا مثالا.

وبعبارة أخرى إنّما جعل نظيرا ولم يجعل مثالا ، لأنّ قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) ليس ممّا تقدّم فيه المسند لقصر المسند إليه عليه ، بل الحصر جاء من إن النّافية وإلّا الاستثنائيّة ، ولهذا غيّر الأسلوب حيث لم يقل : وكذا قوله تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي ،) بل قال «ونظيره ...».

٢٢٢

تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي)(١) من أنّ المعنى (١) حسابهم مقصور على الاتّصاف ب (عَلى رَبِّي) لا يتجاوزه إلى الاتّصاف بعليّ (٢) فجميع ذلك (٣) من قصر الموصوف (٤) على الصّفة (٥) دون العكس (٦) كما توهّمه (٧) بعضهم.

______________________________________________________

(١) أي فالمعنى ثبوت حسابهم مقصور على كونه على الله ، لا يتجاوزه إلى كونه على غيره.

(٢) ياء المتكلّم عبارة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بعض النّسخ بعليّ ، غير ربّي ، ووجه النّسخة الثّانية واضح ، لأنّه شامل للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره ، وفي الواقع كذلك ، ووجه الأولى أنّه الّذي يتوهّم كون الحساب عليه لكونه تصدّى للدّعوة إلى الله والجهاد فيه.

(٣) أي جميع ما ذكر من الأمثلة المذكورة في المتن والشّرح.

(٤) أي الغول أو عدم الغول ، ودينكم وديني وحسابهم.

(٥) أي وهي الكون في خمور الجنّة ، والكون لكم ولي ، والكون على ربّي كما في الدّسوقي.

(٦) أي قصر الصّفة على الموصوف ، لأنّ الحمل على العكس يستدعي كون التّقديم لقصر المسند على المسند إليه ، والقانون أنّه لقصر المسند إليه على المسند كما دلّ عليه سياق كلامه ، وصرّح به الفاضل المحشّي أيضا.

(٧) أي العكس بعضهم ، وهو العلّامة الخلخالي ، فتوهّم أنّ القصر في قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) من قصر الصّفة على الموصوف ، والمعنى أنّ الكون في خمور الجنّة وصف مقصور على عدم الغول لا يتعدّاه إلى الغول ، وهذا القصر إضافيّ لا حقيقيّ حتّى يلزم أنّه ليس لخمورها صفة إلّا عدم الغول ، مع أنّ له صفات أخر كالسّلامة والرّاحة والتّوهّم مختصّ بالآية المذكورة.

ويرد عليه أوّلا : إنّ الكلام مع من يعتقد أنّ الغول في خمور الجنّة كخمور الدّنيا ، لا مع من يعتقد أنّ الاتصاف بعدم الحصول في خمور الجنّة محقّق للغول ولغيره من الرّاحة والصّحة.

وثانيا : إنّ التّقديم عندهم موضوع لقصر المسند إليه على المسند ، لا لقصر المسند على المسند إليه كي يكون القصر من قصر الصّفة على الموصوف.

__________________

(١) سورة الشّعراء : ١١٣.

٢٢٣

[ولهذا] أي ولأنّ التّقديم (١) يفيد التّخصيص [لم يقدّم الظّرف (٢)] الّذي هو المسند على المسند إليه (٣) [في (لا رَيْبَ فِيهِ)] ولم يقل : لا فيه ريب [لئلّا (٤) يفيد] تقديمه (٥) عليه [ثبوت الرّيب (٦) في سائر كتب الله تعالى]

______________________________________________________

(١) أي تقديم المسند على المسند إليه يفيد تخصيص المسند إليه بالمسند غالبا.

(٢) أعني فيه.

(٣) أي ريب.

(٤) علّة للنّفي ، أي لنفي التّقدّم في قوله : «لم يقدّم» ، ومعنى العبارة لأنّ التّقديم يفيد التّخصيص غالبا ، لم يقدّم الظّرف لئلّا يفيد تقديمه توهّم ثبوت الرّيب في سائر كتب الله تعالى ، نظرا إلى ما هو الغالب من كون التّقديم لقصر المسند إليه على المسند ، فعبارة المصنّف بحذف المضاف وهو التّوهّم ، فإذن لا يرد أنّ قوله : «لئلّا يفيد» غير واقع في محلّه ، إذ التّقديم ليس للتّخصيص دائما حتّى يفيد الكلام المشتمل عليه ذلك ، بل قد يكون لغيره كالاهتمام غاية الأمر أنّه يجيء له غالبا ، فيكون موهما له نظرا إلى الغالب لا مفيدا له على نحو الجزم.

(٥) أي تقديم الظّرف وهو المسند على المسند إليه وهو «ريب».

(٦) أي ثبوت الشّكّ في سائر كتب الله تعالى وهو باطل ، إذ لا ريب في الكتب السّماويّة ، ودلالة «لا فيه ريب» على ثبوت الرّيب في سائر كتب الله ، إنّما هو بحسب دلالة الخطاب على ما في المطوّل ، أي بحسب المفهوم المخالف للخطاب ، فإنّهم اصطلحوا على تسمية المفهوم المخالف بمدلول الخطاب ، والمفهوم الموافق بفحوى الخطاب ، وثبوت الرّيب في سائر كتب الله مفهوم مخالف لقوله تعالى على فرض التّقديم ، حيث إنّ منطوقه عندئذ نفي الرّيب عن القرآن ولازم ذلك أن يكون مفهومه ثبوت الرّيب في سائر كتب الله ، وحيث إنّ هذا المفهوم باطل ، لأنّ المراد بالرّيب هنا كونها ممّا ينبغي أن يرتاب فيه ، لا كونها ممّا وقع فيها الرّيب بالفعل لوقوعه في القرآن ، ولا شكّ أنّ كتب الله ليس ممّا ينبغي لأن يرتاب فيه لما فيها من الإعجاز بنحو الإخبار عن المغيبات والأسرار الكونيّة.

٢٢٤

بناء على اختصاص عدم الرّيب بالقرآن ، وإنّما قال (١) في سائر كتب الله تعالى لأنّه المعتبر في مقابلة القرآن ، كما أنّ المعتبر في مقابلة خمور الجنّة هي خمور الدّنيا لا مطلق المشروبات وغيرها (٢) [أو التّنبيه] عطف على تخصيصه ، أي تقديم المسند للتّنبيه [من أول الأمر (٣) على أنّه] أي المسند [خبر لا نعت] إذ النّعت لا يتقدّم على المنعوت (٤) ،

______________________________________________________

(١) جواب عن سؤال مقدّر تقديره أنّ مقتضى اختصاص عدم الرّيب في القرآن هو ثبوت الرّيب في غيره على نحو الإطلاق دون كتب الله تعالى ، فلا وجه لقوله : «لئلا يفيد ثبوت الرّيب في سائر كتب الله تعالى».

وحاصل الجواب : إنّ ما ذكرته مبنيّ على كون القصر حقيقيّا وليس الأمر كذلك ، فإنّ القصر على فرض التّقديم إضافيّ لأنّ التّخصيص إنّما باعتبار النّظر الّذي يتوهّم فيه المشاركة ، وهو هنا باقي الكتب السّماويّة دون سائر الأشياء ، بل دون سائر الكتب.

(٢) أي غير المشروبات من المطعومات.

لا يقال : إنّا سلّمنا أنّ القصر إضافيّ غالبا ، فالقصر في الآية يحمل عليه على فرض التّقديم جريا على ما هو الغالب ، ولكنّ لا نسلّم أنّ ما يقابل المقصور عليه هو سائر كتب الله تعالى ، لجواز أن يكون سائر الكتب أو سائر الكلمات.

لأنّا نقول : إنّ ما يقابل المقصور عليه إنّما هو الّذي يتوهّم كونه مشاركا له في الحكم لكونه نظيرا له ، وهو هنا سائر كتب الله تعالى لا سائر الكتب ، أو سائر الكلمات ، فإنّ المتبادر إلى الذّهن من نفي الرّيب عن القرآن بطريق القصر هو ثبوت الرّيب في غيره من سائر الكتب السّماويّة ، لكونها نظيرة له في الكينونة من الله تعالى ، كما أنّ المعتبر في مقابلة خمور الجنّة خمور الدّنيا لا سائر المشروبات.

(٣) أي من أوّل أزمان إيراد الكلام ينبّه على أنّ المسند خبر لا نعت ، بخلاف ما إذا أخّر ، فإنّه ربما تظنّ عندئذ أنّه نعت ، وأنّ الخبر سيذكر.

(٤) أي بخلاف الخبر والمبتدأ ، فإنّ الأوّل يتقدّم على الثّاني ، ولازم ذلك أن يكون تقديم المسند منبّها من أول الأمر بأنّه ليس بنعت بل هو خبر وتأخيره موهما لكونه نعتا.

لا يقال : إنّ توهّم كون المسند نعتا موجود في نحو : زيد القائم ، فلماذا لم يقدّموا المسند فيه؟ للعلم من أوّل الأمر بأنّه ليس بنعت.

٢٢٥

وإنّما قال (١) من أوّل الأمر لأنّه ربّما يعلم أنّه خبر لا نعت بالتّأمّل في المعنى (٢) ، والنّظر إلى أنّه لم يرد في الكلام خبر للمبتدأ (٣) [كقوله (١) :

له (٤) همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر (٥)]

______________________________________________________

لأنّا نقول : إنّ هذا التّوهّم ليس ممّا يعتني به ، فإنّه ضعيف جدّا ، يدفع بأدنى تأمّل ، بخلاف التّوهّم الكائن فيما إذا كان المسند إليه نكرة ، فإنّ حاجتها إلى النّعت أشدّ من حاجتها إلى الخبر إذا وقع في الابتداء ، فإذا أخّر الظّرف عنها يتوهّم أنّه نعت توهّما قويّا لا يدفع إلّا بعد التّأمّل العميق.

(١) أي قال المصنّف من أوّل الأمر ، لأنّه أي الشّأن ربّما يعلم في ثاني الحال من التّكلّم أنّ المسند الّذي لم يتقدّم خبر لا نعت.

(٢) ويعلم بغير ذلك أيضا ، ككونه لا يصلح للنّعت لكونه نكرة ، والجزء الآخر معرفة «والنّظر» عطف على «التّأمّل» أي بالنّظر كقولك لزيد خصائص غريبة ، فإنّه لو قيل : خصائص غريبة لزيد ، يحتمل بدوا أنّ الظّرف نعت وبعد عدم ذكر الخبر يعلم أنّه خبر.

(٣) أي بعد الخبر الموجود في الكلام ، فيفهم السّامع أنّ غرض المتكلّم هو الإخبار لا النّعت.

(٤) أي للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همم تعلّت بمعالي الأمور ، ولا نهاية لكبارها.

(٥) المعنى : «همم» على وزن عنب جمع همّة ، وهي الإرادة المتعلّقة على وجه العزم بمراد مّا ، ويمدح الإنسان بتلك الإرادة إذا تعلّت بمعالي الأمور ، «لا منتهى لكبارها» منتهى الشّيء غايته ، والكبار على وزن الكتاب جمع كبير ، وهو خلاف الصّغير «أجلّ» أفعل بمعنى الأعظم.

وحاصل معنى البيت : إنّ المادح يقول : إنّ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همما كثيرة كلّها علّيّة ، لكن بعضها أعلى من بعض باعتبار متعلّقها ، مثلا همّته المتعلّقة بفتح أو غزوة بدر أو غزوة أحد أو خيبر أعظم من همّته المتعلّقة بسائر الغزوات ، فهممه الكبار لا منتهى لها ، وأما همّته الصّغرى أجلّ باعتبار متعلّقها من الدّهر المحيط بما سواه من الممكنات ، وإنّما قلنا : باعتبار متعلّقها ، لأنّ الهمّة هي الإرادة على نحو العزم ، ولا تفاوت فيها باعتبار نفسها.

__________________

(١) أي قول حسان بن ثابت الأنصاري في مدح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٢٦

حيث لم يقل : همم له (١) [أو التّفاؤل (٢)] نحو : سعدت بفرّة وجهك الأيام. (٣)

______________________________________________________

والشّاهد : في قوله : «له همم» حيث قدّم فيه الظّرف ، أعني «له» ليعلم من أوّل الأمر أنّه خبر لا نعت ، فإنّه لو أخّر الظّرف بأن يقول : همم له ، لتوهّم أنّ الظّرف نعت للهمم ، بل احتمال كونه نعتا في خصوص المقام أرجح ، لأنّ النّكرة إذا وقع مبتدأ يستدعي مخصّصا يخصّصه حتّى يفيد ، وإلّا فلا يجوز الابتداء به.

فحاصل الكلام أنّه لم يقل : همم له ، بتأخير الظّرف لئلّا يتوهّم أنّ الظّرف صفة لهمم ، وقوله : «لا منتهى لكبارها» خبر لها ، أو صفة ثانية لها والخبر محذوف ، وكلاهما فاسد ، لأنّه خلاف المقصود ، لأنّ المقصود إثبات الهمم الموصوفة ، بأنّه لا منتهى لكبارها له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا إثبات تلك الصّفة لهممه ، ولا إثبات صفة أخرى لهممه غير تلك الصّفة المذكورة ، لأنّه حينئذ يكون الكلام مسوقا لمدح هممه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لمدحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقدّم الظّرف دفعا للتّوهّمين من أوّل الأمر.

(١) لئلّا يتوهّم أنّ الظّرف نعت ، بل يتعيّن أنّه خبر من أوّل الأمر.

(٢) عطف على قوله : «لتخصيصه» وهو سماع المخاطب من أوّل الأمر ما يسّره.

(٣) البيت هكذا :

وتزيّنت ببقائك الأعوام

سعدت بغرّة وجهك الأيام

المعنى : «سعدت» ماض من (سعد يومنا سعدا) ، أي أيمن ، «الغرّة» هو البياض في جبهة الفرس ، وأراد به هنا الحسن أو الجود ، «تزيّنت» ماض من التّزيين ، «الأعوام» جمع عام بمعنى الحول.

والشّاهد : في تقديم المسند أعني قوله : «سعدت وتزينت» حيث قدّم لأجل التّفاؤل.

ثمّ إنّه ربّما يقال : في المقام إنّ هذا المسند فعل يجب تقديمه على فاعله ، فلا وجه لجعل تقديمه عليه للتّفاؤل ، إذ لا يقال للمسند قدّم لغرض كذا ، إلّا إذا كان جائز التّأخير عن المسند إليه.

وأجيب عن ذلك بأنّ التّمثيل مبنيّ على مذهب الكوفيين المجوّزين لتقديم الفاعل على الفعل ، أو يقال : إنّ الفعل هنا يجوز تأخيره في تركيب آخر ، بأن يقال : الأيام سعدت بغرّة وجهك ، فتقديم سعدت في هذا التّركيب المؤدي إلى كون المسند إليه فاعلا مع صحّة

٢٢٧

[أو التّشويق (١) إلى ذكر المسند إليه] بأن يكون في المسند المتقدّم طول يشوّق

______________________________________________________

تأخيره باعتبار تركيب آخر ، لأجل ما ذكر من التّفاؤل ، بخلاف ما إذا أخّر ، كما في تركيب آخر ، فإنّه لا يكون مشتملا على التّفاؤل ، وكلّ من الوجهين في الجواب قابل للرّد.

أمّا الوجه الأوّل فبعيد جدا ، لأنّ المستفاد من مطاوي كلمات الشّارح أنّه غير ملتزم بما ذهب إليه الكوفيّون فإتيانه بالمثال مبنيّا عليه بعيد غاية البعد.

وأمّا الوجه الثّاني فهو أيضا ملحق بسابقه في الضّعف ، فإنّ من يقول بأنّه لا يقال للمسند قدّم لغرض كذا ، إلّا إذا كان جائز التّأخير ، مراده أنّ المسند الّذي يجب تقديمه على المسند إليه لا يمكن أن يقال له إنّه قدم لغرض كذا ، لأنّ تقديمه واجب ليس لغرض يقتضي ذلك ، وكون المسند جائز التّأخير في تركيب آخر لا يوجب صحّة أن يقال له في هذا التّركيب أنّه قدّم لغرض كذا ، كالتّفاؤل مثلا ، لأنّ المانع هو كون تقديمه في هذا التّركيب من باب اللّابدّيّة والضّرورة ، وهذا المانع لا يرتفع باتّصاف التّقديم بالجواز في تركيب آخر.

فالحقّ في المقام أن يقال : إنّ تعليل التّقديم بغرض من الأغراض مشروط بأن يكون المسند جائز التّأخير باعتبار نفس التّركيب الّذي قدّم فيه المسند ، ولا ريب أنّ جواز التّأخير بهذا المعنى موجود في المقام ، فإنّ الشّاعر عند ما يتصوّر معنى البيت ، أي ثبوت اليمن والسّعادة للأيّام بسبب غرة وجه المخاطب ، كان له أن يقدّم المسند ، وأتى بالجملة الفعليّة وكان له أن يؤخّره ، وأتى بالجملة الاسميّة ، فحيث إنّه اختار الأوّل ، وترك الثّاني لاحظ لتقديم المسند غرضا من الأغراض قضاء لحقّ كونه بليغا ، وهو في البيت التّفاؤل ، فإذا لا مجال للإشكال المذكور. نعم قد يقال : إنّ التّفاؤل كما أنّه موجود في فرض التّقديم ، كذلك إنّه موجود في فرض التّأخير ، فإذا لا وجه لتعليل التّقديم بالتّفاؤل. وأجيب عن ذلك بأن التّفاؤل هو سماع المخاطب من أول وهلة ما يسرّه ، ومن المعلوم أنّ هذا غير موجود في فرض التّأخير.

(١) عطف على قوله : «للتّخصيص» أي تقديم المسند لتشويق السّامع إلى ذكر المسند إليه ، ووجود التّشويق في المسند يكون من جهة اشتماله على طول ، بذكر وصف أو أوصاف له ، فإنّه يوجب إحداث الشّوق في قلب السّامع إلى ذكر صاحب هذا الوصف أو الأوصاف ، والغرض من التّشويق أوقعيّة المشوق إليه في النّفس ، حيث إنّ الحاصل بعد الطّلب والانتظار أمكن وأوقع ، وأثبت في النّفس.

٢٢٨

النّفس إلى ذكر المسند إليه ، فيكون له (١) وقع في النّفس ، ومحلّ من القبول ، لأنّ الحاصل بعد الطّلب أعزّ من المنساق بلا تعب (٢) [كقوله ((١)) : ثلاثة] هذا هو المسند المتقدّم الموصوف بقوله : [تشرق] من أشرق (٣) بمعنى صار مضيّئا [الدّنيا] فاعل (٤) تشرق ، والعائد إلى الموصوف هو الضّمير المجرور في قوله : [ببهجتها] أي بحسنها ونضارتها أي تصير الدّنيا منوّرة ببهجة هذه الثّلاثة وبهائها ، والمسند إليه المتأخّر هو قوله : [شمس (٥) الضّحى وأبو إسحاق (٦) والقمر].

تنبيه : (٧) [كثير ممّا ذكر في هذا الباب] يعني باب المسند [والّذي قبله] يعني

______________________________________________________

(١) أي للمسند إليه ، أي فيكون للمسند إليه وقع ، أي تأثير في النّفس.

(٢) أي بلا مشقّة.

(٣) أشار بذلك إلى بيان معنى الفعل وإلى ضبطه بضم التّاء ، احترازا عن كونه من شرق ، بمعنى طلع ، فيكون مفتوح التّاء.

(٤) أي ليس الدّنيا ظرفا ، كي يكون مفعولا فيه ، ولا مفعول به على تضمين «تشرق» معنى فعل متعدّي ، وهو أضاءت ، فجعله فاعلا ردّ لتوهّم الظّرفيّة أو المفعوليّة.

(٥) أضاف الشّمس إلى الضّحى ، لأنّه ساعة قوّتها مع عدم شدّة إيذائها.

(٦) كنية المعتصم ، ولا يخفى حسن توسّطه بين الشّمس والقمر ، للإشارة إلى أنّه خير منهما ، لأنّ خير الأمور أوساطها ، ولما فيه من إيهام تولّده من الشّمس والقمر ، وأنّ الشّمس أمّه ، والقمر أبوه. والشّاهد : في هذا البيت أنّه مشتمل على تقديم المسند ، لكونه بذكر ما ذكر له من الوصف مشوّقا إلى ذكر المسند إليه.

(٧) «التّنبيه» يستعمل عند العلماء في موضع يدخل فيه ما بعد التّنبيه فيما قبله دخولا فيه خفاء ، فإذا أريد إزالة ذلك الخفاء يجيء بالتّنبيه ، ولو قال المصنّف : كثير ما ذكر في المسند والمسند إليه ، لكان أوضح.

__________________

(١) أي قول محمد بن وهيب ، وهو من شعراء الدّولة العبّاسيّة ، في مدح المعتصم بالله الملك العبّاسي.

٢٢٩

باب المسند إليه ، [غير مختصّ بهما (١) كالذّكر والحذف وغيرهما] من (٢) التّعريف والتّنكير والتّقديم والتّأخير والإطلاق والتّقييد ، وغير ذلك ممّا سبق (٣) ، وإنّما قال : كثير ممّا ذكر (٤) ، لأنّ بعضها (٥) مختصّ بالبابين (٦) كضمير الفصل المختصّ بما بين المسند إليه والمسند ، وككون المسند فعلا ، فإنّه مختصّ بالمسند (٧) إذ كلّ فعل مسند دائما. قيل : (٨)

______________________________________________________

(١) أي بباب المسند والمسند إليه ، بل يكون الكثير في المفعول به والحال والتّمييز والمضاف إليه. نعم بعضها مختص بهما كضمير الفصل ، حيث إنّه مختصّ بما بين المسند والمسند إليه.

(٢) بيان لقوله : «غيرهما».

(٣) أي كالإبدال والتّأكيد والعطف والقصر والتّخصيص ، وغير ذلك.

(٤) أي قال المصنّف كثير ممّا ذكر ، ولم يقل : جميع ما ذكر غير مختصّ بهما ، إذ لو قال :

جميع ما ذكر غير مختصّ بالبابين ، أعني بباب المسند والمسند إليه ، لورد عليه بضمير الفصل ، وكون المسند فعلا حيث إنّهما ممّا يختصّ بالبابين ، لأنّ نقيض السّالبة الكلّيّة ، هي موجبة جزئيّة.

(٥) أي المذكورات.

(٦) أي غير متجاوز إلى غيرهما ، فيكون الكثير عامّ الجريان ، والقليل خاصّا بهما.

(٧) أي مجرّد الفعل من دون فاعل» مختص بالمسند» ، إذ لا يكون شيء من الفعل مسندا إليه ، حتّى لا يختصّ كون المفرد فعلا بالمسند.

(٨) القائل هو الشّارح الزّوزني ، وحاصل كلامه : أنّه لو قال : وجميع ما ذكر غير مختصّ بالبابين ، أي بل يجري في غيرهما لاقتضى أنّ كلّا ممّا مرّ يجري في كلّ فرد فرد ممّا يغايرهما ، أي كلّ فرد من أفراد الأحوال المذكورة يجري في كلّ فرد ممّا يصدق عليه أنّه غير المسند والمسند إليه ، وهذا غير صحيح لانتقاضه بالتّعريف والتّقديم ، لأنّ التّعريف لا يجري في الحال والتّمييز ، وإن جرى في المفعول ، والتّقديم لا يجري في المضاف إليه ، وإن جرى في المفعول.

فالحاصل إنّ كلّا منهما لا يجري في جميع أفراد غير البابين ، إذ من أفراده الحال والتّمييز والمضاف إليه ، ولهذا عدل المصنّف من جميع ما ذكر إلى قوله : «وكثير ممّا ذكر».

٢٣٠

هو (١) إشارة إلى أنّ جميعها (٢) لا يجري في غير البابين ، كالتّعريف ، فإنّه لا يجري في الحال والتّمييز وكالتّقديم ، فإنّه لا يجري في المضاف إليه. وفيه (٣) نظر لأنّ قولنا : جميع ما ذكر في البابين غير مختصّ بهما ، لا يقتضي أن يجري شيء من المذكورات في كلّ واحد من الأمور التّي هي غير المسند إليه والمسند ، فضلا (٤) عن أن يجري

______________________________________________________

(١) أي قول المصنّف : «كثير ممّا ذكر في هذا الباب».

(٢) أي كلّ فرد من الأحوال المذكورة» لا يجري في غير البابين» ، أي في كلّ فرد من أفراد الغير.

(٣) أي في هذا القيل نظر وإشكال ، وحاصل النّظر : إنّا لو قلنا : جميع ما ذكر غير مختصّ بالبابين ، لما اقتضى أن يجري شيء من المذكورات في كلّ واحد من غير البابين ، لأنّه إذا عدم اختصاص الجميع بالبابين يكفي في صدقه ثبوت شيء ممّا ذكر في غير البابين ، وكذا في الكثير إذا قلنا : الكثير غير مختصّ بالبابين ، لا يقتضي أن يكون مجموع الكثير يجري في غير البابين ، بل إذا وجد فرد من الكثير في غير البابين صدق أنّ الكثير لا يختصّ بالبابين.

فالحامل على العدول عن الجميع إلى الكثير ليس ما ذكره الزّوزني ، بل ما ذكره الشّارح وهو ورود الإشكال بضمير الفصل ، وكون المسند فعلا ، حيث إنّهما ممّا يختصّ بالبابين ، فلو قال : جميع ما ذكر غير مختصّ بالبابين لانتقض باختصاصهما بالبابين.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الشّارح الزّوزني إنّما يصحّ لو كان معنى قولنا : جميعها غير مختصّ بالبابين ، أنّ كلّ واحد من تلك الأحوال المذكورة في البابين يجري في كلّ ما يصدق عليه أنّه غيرهما ، حتّى ينتقض بالتّعريف والتّقديم ، وليس كذلك ، بل معناه أنّ كلّا منها يجري في بعض ما يصدق عليه الغير ، لأنّه يكفي في سلب الاختصاص بالبابين عن الجميع تحقّق كلّ منها في بعض ما يصدق عليه الغير ، فلا يلزم جريان واحد من تلك الأحوال في كلّ ما يصدق عليه الغير ، فضلا عن جريان كلّ واحد منها في كلّ ما يصدق عليه الغير.

والمتحصّل من الجميع أنّ الحامل على العدول عن جميع إلى كثير ليس ما ذكره الزّوزني ، بل الحامل على العدول ما ذكره الشّارح ، فتأمّل.

(٤) أي فضل فضلا ، أي زاد إشارة إلى أنّ مراد هذا القائل أنّه لو عبّر بقوله :» جميع ما ذكر ...» لأفاد أنّ كلّ واحد ممّا ذكر يجري في كلّ واحد من غيرهما ، وليس الأمر كذلك ، كما عرفت.

٢٣١

كلّ منها (١) فيه (٢) إذ (٣) يكفي لعدم الاختصاص بالبابين ثبوته في شيء ممّا يغايرهما ، فافهم (٤) ، [والفطن إذا أتقن (٥) اعتبار ذلك فيهما] أي في البابين [لا يخفى (٦) عليه اعتباره في غيرهما] من المفاعيل والملحقات بها والمضاف إليه.

______________________________________________________

(١) أي المذكورة.

(٢) أي في كلّ واحد.

(٣) علّة لعدم الاقتضاء ، أي قولنا : جميع ما ذكر ، لا يقتضي جريان كلّ واحد من الأحوال المذكورة في كلّ واحد ممّا يصدق عليه الغير ، إذ يكفي لعدم الاختصاص ، أي عدم اختصاص كلّ فرد من أفراد الأحوال المتقدّمة في البابين ، «ثبوته» فاعل يكفي ، أي ثبوت واحد ممّا ذكر في واحد ممّا يغاير المسند إليه والمسند ، لأنّ نقيض السّالبة الكلّيّة إنّما هو الموجبة الجزئيّة.

(٤) لعله إشارة إلى أنّ مفاد قولنا : جميع ما ذكر غير مختصّ بهما ، ليس سالبة كلّيّة ، كي يقال : بأنّ نقيضها هي موجبة جزئيّة بل مفاده قضيّة مهملة.

(٥) أي أحكم ، اعتبار كثير ما ذكر في البابين ، أي لا اعتبار ما ذكر فيهما ، إذ بعض ما ذكر فيهما ، كما عرفت ، لا يجري في غيرهما فضلا عن اعتباره فيه ، فيكون المشار إليه هو كثير ما ذكر دون ما ذكر ، لأنّه كما يجري فيهما ويعتبر فيهما ، كذلك يجري في غيرهما ، ويعتبر فيه.

(٦) أي فإذا علم ممّا تقدّم ، مثلا إنّ تعريف المسند إليه بالعلميّة لإحضاره في ذهن السّامع باسم مختصّ به ، حيث يقتضيه المقام ، كما إذا كان المقام مقام مدح ، فأريد إفراده وتمييزه ، لئلّا يخالج قلب السّامع غير الممدوح من أوّل وهلة ، عرف أنّ المفعول به يعرف بالعلميّة لذلك ، كقولك خصّصت زيدا بالثّناء لشرفه على أهل زمانه ، وإذا عرف ممّا تقدّم أنّ الحذف لضيق المقام بسبب الوزن أو الضّجر والسّآمة ، عرف أنّ حذف المفعول به كذلك ، وإذا عرف أنّ الإبدال من المسند إليه لزيادة تقرير النّسبة الحكميّة ، عرف أنّ الإبدال من المفعول به لزيادة تقرير النّسبة الإيقاعيّة ، وهكذا البواقي.

٢٣٢

أحوال متعلّقات الفعل

[أحوال (١) متعلّقات (٢) الفعل]. قد أشير في التّنبيه (٣) إلى أنّ كثيرا من الاعتبارات السّابقة يجري في متعلّقات الفعل ،

______________________________________________________

(١) مبحث أحوال متعلّقات الفعل ، والمراد بالأحوال بعضها ، بقرينة المقام وهي الاقتصار على ذكر البعض ، وإن كان الجمع المضاف ظاهرا في العموم ، كما هو في علم الأصول.

قال في الأطول : والمراد جميع أحوال متعلّقات الفعل ، لأنّ وضع الباب لها ، إلّا أنّه اقتصر على ذكر البعض للاستغناء عن ذكر الباقي ، بما سبق في غير هذا الباب ، لظهور جريانه فيه.

(٢) المراد من متعلّقات الفعل هي المفاعيل الخمسة مع الملحقات ، والأحسن كسر اللّام عند المحقّقين ، وذلك فإنّ التّعلّق هو التّثبت فالمناسب إطلاق المثبت بالكسر على المعمولات لضعفها ، والمتثبت بالفتح على الفعل لقوّته ، وإن كان الفتح أيضا صحيحا ، حيث إنّ كلّا منهما متعلّق بالآخر ، ولازم ذلك إطلاق المتعلّق والمتعلّق على كلّ منهما.

وكيف كان فقد ذكر المصنّف في هذا الباب ثلاثة مطالب :

الأوّل : نكات حذف المفعول به.

الثّاني : نكات تقديمه على الفعل.

الثّالث : نكات تقديم بعض معمولات الفعل على بعض ، وذكر مقدّمة للمطلب الأوّل بقوله : «الفعل مع المفعول ...»

(٣) اللّام في التّنبيه للعهد الذّكري ، أي قال الشّارح : قد أشير ، ولم يقل : قد صرّح ، لأنّه لا يلزم من جريان الكثير في غيرهما أن يجري في تلك المتعلّقات لصدق الغير بغيرها ، كمتعلّقات اسم الفاعل ، والحاصل إنّه لم ينصّ في التّنبيه على جريان تلك الاعتبارات في متعلّقات الفعل خصوصا ، بل أفاد أنّ كثيرا من الاعتبارات غير مختصّ بالمسند إليه والمسند يعني يجري في غيرهما ، ومن الغير متعلّقات الفعل ، إذ لم يخصّ الغير بشيء دون شيء ، بل عامّ لها ولغيرها.

٢٣٣

لكن ذكر في هذا الباب تفصيل بعض من ذلك (١) لاختصاصه (٢) بمزيد (٣) بحث ومهّد لذلك (٤) مقدّمة (٥) فقال : [الفعل مع المفعول كالفعل مع الفاعل (٦) في أنّ الغرض

______________________________________________________

(١) أي من ذلك الكثير الّذي لا يختصّ بالبابين ، بل يجري فيهما ، وفي متعلّقات الفعل ، والمراد بهذا البعض حذف المفعول ، وتقديمه على الفعل ، وتقديم بعض المعمولات على بعض ، وقد تقدّم الحذف ، والتّقديم في البابين.

(٢) أي ذلك البعض.

(٣) أي بحث زائد على البحث السّابق ، والمراد بمزيد البحث بيان النّكات.

(٤) أي لذلك البعض ، أي لبعض ذلك البعض ، لأنّ قول المصنّف الفعل مع المفعول تمهيد لبحث حذف المفعول به.

(٥) وهي قول المصنّف الفعل مع المفعول إلى قوله : «لا إفادة وقوعه مطلقا» ، حيث يكون توطئة لبحث حذف المفعول به المذكور في قوله : «فإذا لم يذكر معه».

(٦) الظّرف معمول لمضاف مقدّر ، أي ذكر الفعل مع المفعول ، كذكره مع الفاعل ، وأريد بكلمة «مع» مجرّد المصاحبة ، فإنّها قد تستعمل في هذا المعنى ، كما صرّح به الشّريف في حواشي المفتاح ، فيكون الظّرف في كلا الموضعين متعلّقا بالمضاف المقدّر.

وكيف كان فالغرض من ذكر متعلّقات الفعل معه إفادة تلبّسه بها من جهات مختلفة ، كالوقوع فيه ومعه وله ، وغير ذلك ، ثمّ المراد من ذكر الفعل مع كلّ من الفاعل والمفعول أعمّ من الذّكر لفظا أو تقديرا. وفي الأطول التّركيب من قبيل زيد قائما ، كعمرو قاعدا ، وفي مثله يتقدّم الحال على العامل ، فقوله : «الفعل» مبتدأ ، «مع المفعول» حال عن الضّمير المستتر في الخبر ، وهو قوله : «كالفعل» ، و «مع الفاعل» حال عن الفعل ، والعامل في الحالين الكاف لتضمّنه معنى التّشبيه ، فالمعنى حينئذ الفعل يشابه حال كونه مصاحبا للمفعول نفسه ، حال كونه مصاحبا للفاعل ، ثمّ إنّ المراد بالمفعول المفعول به ، بقرينة قول الشّارح : «وأمّا بالمفعول فمن جهة وقوعه عليه» ، وقول المصنّف : «نزّل منزلة اللّازم» فإنّه مقدّمة لحذفه ، ثمّ إنّه خصّ البحث بالمفعول به لقربه من الفاعل في احتياج الفعل المتعدّي إليه في التّعقل والوجود بخلاف سائر المفاعيل ، ولكثرة حذفه كثرة شائعة ، وسائر المتعلّقات يعرف حكمها بالقياس عليه.

٢٣٤

من ذكره معه]. أي ذكر (١) كلّ من الفاعل والمفعول مع الفعل ، أو ذكر الفعل مع كلّ منهما [إفادة تلبّسه به] أي تلبّس الفعل بكلّ منهما (٢) ، أمّا بالفاعل فمن جهة وقوعه (٣) منه ، وأمّا بالمفعول فمن جهة وقوعه (٤) عليه [لا إفادة وقوعه (٥)

______________________________________________________

(١) التّفسير المذكور إشارة إلى صحّة إرجاع ضمير ذكره إلى الفاعل والمفعول ، باعتبار كلّ واحد منهما ، أو ضمير معه عائد إليهما ، باعتبار كلّ واحد منهما.

فالحاصل إنّه يجوز إرجاع الضّميرين إلى كلّ من الفعل والفاعلين ، غاية الأمر إفرادهما على تقدير العود إلى الفاعلين إنّما هو باعتبار كلّ واحد منهما.

(٢) أي بكلّ من الفاعل والمفعول ، فتفسير الشّارح إشارة إلى أنّ إفراد الضّمير في كلام المصنّف ، أعني «به» إنّما هو باعتبار كلّ واحد منهما ، ومعنى العبارة : أنّ الغرض من ذكر الفعل مع كلّ منهما إفادة المتكلّم السّامع تلبّس الفعل بكلّ من الفاعل والمفعول ، ولكنّ جهة التّلبّسين مختلفة ، كما أشار إلى الفرق بينهما بقوله : «أمّا بالفعل فمن جهة وقوعه عنه ...».

وحاصل الفرق أنّ تلبّس الفعل بالفاعل من جهة صدوره عنه ، وتلبّسه بالمفعول من جهة وقوعه عليه ، لأنّ الكلام في الفعل المتعدّي ، وهو لا يكون إلّا واقعا على المفعول ، وصادرا من الفاعل بالاختيار ، كقولك : ضرب زيد عمرا ، ولم يكن شموله هنا مرادا ، فلا يراد بما يقوم به من غير صدور منه كقولك : مرض زيد ومات عمرو ، ولهذا لم يقل : أو قيامه به ، مع أنّ الفاعل ينقسم إلى ما يقع منه الفعل كالمثال الأوّل ، وإلى ما يقوم به الفعل كالمثال الثّاني.

(٣) أي فمن حيث صدور الفعل عن الفاعل.

(٤) أي فمن حيث وقوع الفعل الصّادر من الفاعل على المفعول.

(٥) أي وقوع الفعل نفيا أو إثباتا.

٢٣٥

مطلقا (١)] أي ليس الغرض من ذكره (٢) معه إفادة وقوع الفعل وثبوته (٣) في نفسه من (٤) غير إرادة أن يعلم ممّن (٥) وقع عنه ، أو على من وقع عليه ، إذ (٦) لو أريد ذلك (٧) لقيل : (٨) وقع الضّرب أو وجد أو ثبت ، من غير ذكر الفاعل أو المفعول لكونه (٩) عبثا.

______________________________________________________

(١) أي حال كونه مطلقا عن إرادة العلم بمن وقع عنه أو عليه ، وبعبارة أخرى ليس الغرض إفادة الفعل غير مقيّد بكونه متلبّسا بزيد أو عمرو أو غيرهما.

(٢) أي من ذكر كلّ واحد من الفاعل والمفعول مع الفعل.

(٣) أي ثبوت الفعل في لخارج في نفسه من غير إرادة المتكلّم أن يعلم المخاطب من صدر عنه الفعل ، ومن وقع عليه.

(٤) بيان لقوله : «مطلقا».

(٥) أي يعلم جواب سؤال بقوله : «ممّن وقع ...».

(٦) علّة لقوله : «ليس الغرض من ذكره معه ...».

(٧) أي إفادة وقوع الفعل وثبوته في نفسه مطلقا.

(٨) جواب لو في قوله : «لو أريد ذلك» ، أي لو أريد ذلك لقيل بما ذكر من الألفاظ الدالّة على مجرّد وجود الفعل.

(٩) علّة لقوله : «من غير ذكر الفاعل أو المفعول» أي لكون ذكر الفاعل والمفعول عبثا ، أي غير محتاج إليه ، بل زائد على الغرض المقصود ، وغير المحتاج إليه عبث عند البلغاء ، وإن أفاد فائدة لأنّه زائد على المراد.

فاندفع ما يقال كيف يكون عبثا مع أنّه أفاد فائدة ، وهي بيان من وقع منه الفعل أو عليه ، وبعبارة واضحة ربّما يقال : لا وجه لكون الذّكر عبثا ، لأنّ العبث ما لا فائدة فيه ، وليس الذّكر كذلك ، لأنّه يفيد فائدة ، وهي بيان من وقع منه الفعل أو عليه.

وحاصل الجواب : إنّ عدّ ذكره عبثا إنّما هو بالنّظر إلى مذاق البلغاء ، ولا ريب أنّهم يعدّون ما هو زائد على المراد عبثا ، وإن أفاد فائدة ما.

نعم ما هو كذلك ليس بعبث عند غيرهم ، وذلك لا يضرّنا لكون الكلام ناظرا إلى ما عند البلغاء.

٢٣٦

[فإذا لم (١) يذكر] المفعول به (٢) [معه] أي مع الفعل المتعدّي (٣) المسند (٤) إلى فاعله [فالغرض (٥) إن كان إثباته] أي إثبات الفعل [لفاعله أو نفيه عنه مطلقا] ، أي من غير اعتبار عموم في الفعل بأن يراد جميع أفراده (٦) ، أو خصوص (٧) بأن يراد بعضها (٨) ومن غير اعتبار تعلّقه (٩)

______________________________________________________

(١) مفرّع على قوله : «الفعل مع المفعول» أي تفريع على المقدّمة المذكورة ، يعني إذا عرفت أنّ الغرض من ذكره معه إفادة تلبّسه به لا إفادة وقوعه مطلقا ، فعلم أنّه إذا لم يذكر المفعول به معه ، فالغرض إن كان إثباته مطلقا يجعل بمنزلة اللّازم ، وإلّا فيقدّر بحسب القرائن.

(٢) جعل الشّارح الضّمير المستتر في يذكر راجعا إلى المفعول به ، لا إلى كلّ واحد من الفاعل والمفعول به ، ولا إلى الفعل ، وضمير معه إلى واحد منهما ، مع أنّ ذلك مقتضى ما قبله ، أي جعل الشّارح ضمير «يذكر» راجعا إلى المفعول به تبعا لما ذكره المصنّف بعد ذلك من قوله : (فالغرض إن كان إثباته لفاعله أو نفيه عنه) حيث ساق كلامه حول عدم ذكر المفعول فقطّ.

(٣) اتّصاف الفعل بالمتعدّي إشارة إلى أنّ الفعل اللّازم لا ينزل بمنزلة اللّازم.

(٤) زاده لأنّه قد يسند إلى المفاعيل ، ومعه لا مجال لجعله بمنزلة اللّازم ، فخرج به القائم مقام الفاعل.

(٥) أي غرض المتكلّم من الفعل المجرّد عن المفعول إن كان إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقا ، أي حالة كون الفعل مطلقا ، نزّل ذلك الفعل منزلة اللّازم فانتظر تفصيل ذلك.

(٦) أي الفعل ، والمراد من أفراد الفعل هو الأفراد الواقع على المفاعيل ، نحو : فلان يؤذي كلّ أحد ، فقوله : «بأن يراد جميع أفراده» تصوير لاعتبار العموم ، كما أنّ قوله : «بأن يراد بعضها» تصوير لاعتبار الخصوص.

(٧) عطف على عموم.

(٨) أي بعض الأفراد نحو : فلان يؤذي أباه.

(٩) أي الفعل فقوله : «من غير اعتبار تعلّقه ...» عطف على قوله : «من غير اعتبار عموم ...» ، وكلّ من المعطوف والمعطوف عليه تفسير للإطلاق في قول المصنّف ، أعني «مطلقا» ، وقيل : الأولى إسقاط المعطوف عليه ، أعني قوله : «من غير اعتبار عموم في الفعل ...» والاقتصار

٢٣٧

بمن وقع عليه فضلا عن عمومه (١) وخصوصه [نزّل] الفعل المتعدّي [منزلة اللّازم (٢)

______________________________________________________

على قوله : «من غير اعتبار تعلّقه بمن وقع عليه الفعل» ، لأنّ التّنزيل المذكور إنّما يتوقّف على عدم اعتبار تعلّقه بمن وقع عليه ، ولا يتوقّف على عدم اعتبار عموم أو خصوص ، بل يجوز أن يقصد التّعميم وينزّل منزلة اللّازم. وأجيب بما حاصله : إنّه إنّما أتى بما ذكر في التّفسير لأجل مطابقة قول المصنّف الآتي ، وبيان ذلك أنّ المصنّف أفاد فيما يأتي أنّه إذا لم يكن المقام خطابيا كان مدلول الفعل خصوص الحقيقة ، وإذا كان خطابيا أفاد الفعل العموم بمعونة المقام الخطابي ، فتفصيله الفعل فيما يأتي إلى إفادة العموم أو الخصوص يدلّ على أنّه أراد هنا بالإطلاق عدم اعتبار عموم الفعل أو خصوصه ، فلذلك أدخل الشّارح ذلك في تفسير الإطلاق ، وإن كان تنزيل الفعل منزلة اللّازم لا يتوقّف على ذلك.

(١) أي عموم من وقع عليه الفعل وخصوصه ، أعني المفعول ، ثمّ إنّ عموم المفعول غير عموم الفعل وكذا الخصوص ، لأنّ أفراد الفعل في نحو : فلان يعطي الدّنانير الإعطاءات ، وأفراد المفعول الأشخاص المعطون.

وكيف كان فإنّ فضلا في قوله : «فضلا عن عمومه ...» مصدر ، فيتوسّط بين أعلى وأدنى ، للتّنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفي الأعلى ، واستحالته أي عدّه محالا عرفا ، كقولك : فلان لا يعطي الدّرهم فضلا عن الدّينار ، وتريد أنّ إعطاء الدّرهم منفيّ عنه ومستبعد ، فكيف يتصوّر منه إعطاء الدّينار؟!

ومعنى العبارة في المقام أنّه لا يعتبر تعلّق الفعل بمفعول أصلا ، فضلا عن اعتبار عموم من وقع عليه أو خصوصه ، يعني إذا انتفى تعلّقه بمفعول به ، فانتفاء اعتبار عموم مفعوله أو خصوصه إنّما هو من باب أولى.

(٢) أي في أن لا يطلب المفعول ، ولا يجعل ذلك متعلّقا بمفعول ، كما لا يجعل الفعل اللّازم متعلّقا به ، وقوله : «ولم يقدّر له» مفعول عطف على «نزّل منزلة اللّازم» عطف اللّازم على الملزوم ، أي لازم التّنزيل المذكور ، هو عدم تقدير المفعول لئلّا يتوهّم السّامع أنّ الغرض به هو الإخبار بوقوع الفعل باعتبار تعلّقه بالمفعول ، مع أنّ الغرض عدم تعلّقه بالمفعول ، فيلزم خلاف غرض المتكلّم.

٢٣٨

ولم يقدّر له مفعول ، لأنّ المقدّر كالمذكور] في أنّ السّامع يفهم منهما (١) أنّ الغرض الإخبار بوقوع الفعل عن الفاعل باعتبار تعلّقه (٢) بمن وقع عليه ، فإنّ قولنا (٣) فلان يعطي الدّنانير يكون لبيان جنس ما يتناوله الإعطاء ، لا لبيان كونه معطيا ، ويكون كلاما مع من أثبت له إعطاء غير الدّنانير (٤) لا مع (٥) من نفي أن يوجد منه إعطاء.

______________________________________________________

(١) أي من المذكور والمقدّر.

(٢) أي تعلّق الفعل بمن وقع عليه فينتقض غرض المتكلّم ، لأنّ غرض المتكلّم إثبات الفعل للفاعل ، أو نفيه عنه مطلقا.

(٣) استدلال على فهم السّامع ما ذكر ، ومثال لفهم السّامع من المذكور ، أي الدّنانير ، إنّ الغرض بيان جنس ما يتناوله الإعطاء من الدّنانير والدّراهم ، لا لبيان نفس الفعل ، وكون فلان معطيا ، وإلّا لاقتصر في التّعبير على قولنا : فلان معط ، فقوله : فلان يعطي الدّنانير ، مقول لمن سلّم وجود الإعطاء ، وجهل أو أنكر تعلّقه بالدّنانير ، كما أنّ قوله : فلان يعطي ، بدون ذكر الدّنانير مقول لمن نفى من فلان أن يوجد الإعطاء منه.

وبعبارة أخرى : أنّه فرق بين اعتبار تعلّق الفعل بالمفعول ، وبين عدم اعتبار ذلك ، توضيحه أنّك إذا فلان يعطي الدّنانير ، كان معناه الإخبار بالإعطاء المتعلّق بالدّنانير ، ويكون كلاما مع من سلّم وجود الإعطاء ، وجهل تعلّقه بالدّنانير فتردّد أو غفل أو اعتقد خلافه. وإذا فلان يعطي ، كان كلاما مع من جهل وجود الإعطاء ، أو أنكره من أصله.

(٤) أي اعتقد المخاطب على أنّ فلانا يعطي الدّراهم ، فيكون كلام المتكلّم فلان يعطي الدّنانير ، كلاما ملقى إلى منكر فيجب تأكيده ، ويكفي في التّوكيد كون الجملة اسميّة.

(٥) قيل : الأحسن أن يقول : لا مع من يعلم أن يوجد منه الإعطاء ، ولعلّ وجهه أنّه لو كان الغرض تحقّق أصل الإعطاء منه ، لوجب أن يكون مخاطبه خاليّ الذّهن عن الحكم ، وإلّا لوجب التّأكيد ، ويمكن أن يقال : إنّ الجملة الاسميّة خبرها فعليّة مفيدة للتّقوّي والتّأكيد.

٢٣٩

[وهو] أي هذا القسم الّذي نزّل منزلة اللّازم (١) [ضربان : لأنّه إمّا أن يجعل الفعل (٢)] حال كونه [مطلقا] أي من غير اعتبار عموم أو خصوص فيه ، ومن غير اعتبار تعلّقه بالمفعول [كناية (٣) عنه] أي عن ذلك الفعل حال كونه [متعلّقا بمفعول مخصوص دلّت عليه قرينة (٤) أولا (٥)]

______________________________________________________

(١) يعني لم يقصد تعلّقه بمفعول في مقابل القسم الأخير الّذي قصد تعلّقه بمفعول معيّن ، كقولنا : فلان يعطي الدّنانير.

(٢) أي الفعل الّذي كان الغرض إثباته لفاعله ، أو نفيه عنه على نحو المطلق.

(٣) مفعول لقوله : «يجعل «أي يجعل الفعل حال كونه مطلقا كناية عن ذلك الفعل ، حال كونه مقيّدا بأن يكون متعلّقا بمفعول مخصوص ، ومستعملا فيه على طريق الكناية ، ثمّ جعل المطلق كناية عن المقيّد مبنيّ على كفاية اللّزوم ، ولو بحسب الادّعاء فيها ، وإلّا فالمقيّد ليس لازما للمطلق ، مع أنّ الكناية عبارة عن الانتقال من الملزوم إلى اللّازم ، أي ذكر الملزوم وإرادة اللّازم عند المصنّف ، وأمّا عند غيره فبالعكس.

ثمّ الاقتصار على الكناية يشعر بنفي صحة التّجوّز ، ولم يقم عليه دليل ، ولا دليل على نفي جعله كناية عن فعل متعلّق بمفعول عامّ ، فتقول : فلان يعطي ، بمعنى يعطي كلّ أحد ، لأنّ الإعطاء إذا صدر عن مثله لا يخصّ أحدا.

(٤) أي لا بدّ للمعنى المكنى من قرينة كالمجاز.

(٥) عطف على أن يجعل يعني : أو لا يجعل الفعل المطلق كناية عنه ، وقد يقال : إنّ جعل الفعل المنزّل منزلة اللّازم كناية عن نفسه متعدّيّا ، وإن كان غير صحيح من جهة توهّم اتّحاد المعنى الحقيقي والكنّائي ، إلّا أنّه لم يكن مستحيلا ، وذلك لاختلاف اعتباري ، فصحّ أن يجعل بأحد الاعتبارين لازما ، وبالآخر ملزوما ، توضيحه إنّ الفعل عند تنزيله منزلة اللّازم يكون مدلوله الماهيّة الكلّيّة ، فبهذا الاعتبار هو ملزوم ، ثمّ يجعل بعد ذلك كناية عن شيء مخصوص فيصبح مدلوله جزئيّا مخصوصا ، وبهذا الاعتبار هو لازم فلا مجال لتوهّم الاتّحاد لكنّه غير صحيح من جهة أمرين آخرين : الأوّل : إنّ الكناية لا بدّ فيهم من اللّزوم ، فإنّها عبارة عن إطلاق الملزوم وإرادة اللّازم ، وليس الفعل المقيّد لازما للفعل المطلق ، فلا مجال للكنّاية في المقام.

٢٤٠