دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

وجميع ذلك (١) معلوم بالاستقراء ، وتصفّح تراكيب البلغاء (٢) وقوله : (٣) قد يفيد بلفظ قد إشارة إلى أنّه قد لا يفيد القصر ، كما في قول الخنساء (٤) :

[إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا]

______________________________________________________

على «هو» ، فلا يوجد في غيره بخلاف الواهب المطلق ، فإنّه لم يقصر عليه ، فيصحّ أن يوجد في غيره ، وكذا سائر الأمثلة المذكورة ، فإنّ المقصور على «هو» في المثال الأوّل هو الرّجوليّة الموصوفة بالكرم ، فلا توجد في غيره بخلاف مطلق الرّجوليّة ، فيوجد في غيره ، ثمّ هذا القصر تحقيقي إذا اتّفق في الخارج انحصار الرّجل الكريم في «هو» مثلا ، ومبالغيّ إن لم يتّفق ذلك ، كما هو الواقع عادة ، وكذا إنّ المقصور على هو في المثال الثّاني هو السّائر المقيّد بكونه راكبا لا مطلق السّائر.

وفي المثال الثّالث هو الأمير المقيّد بكونه في البلد ، لا مطلق الأمير ، وبالجملة إنّ الجنس إن كان مطلقا ، فالمحصور هو الجنس المطلق ، وإن كان مقيّدا فالمحصور حينئذ هو الجنس باعتبار قيده.

(١) أي ما ذكر في هذا الحاصل من قوله : «أنّ المعرف بلام الجنس» إلى قوله : وقد يقيّد بوصف.

(٢) أي تتبّع تراكيبهم.

(٣) أي قول المصنّف في المتن المتقدّم حيث قال : «والثّاني قد يفيد قصر الجنس» ،» بلفظ قد ، إشارة إلى أنّه» أي المعرّف باللّام» قد لا يفيد القصر» لأنّ دخول قد على المضارع يفيد التّقليل ، ولذلك عدّ المناطقة قد يكون سورا للموجبة الجزئيّة ، فتفيد في المقام التّقليل بالنّسبة إلى الإفادة الكلّيّة ، لا بالنّسبة إلى عدم الإفادة.

(٤) الخنساء اسم امرأة شاعرة قالت : في مرثيّة أخيها صخر ، والمعنى إذا كان البكاء على قتيل قبيحا علمت بكائي عليك أيّها الأخ الحسن الجميل.

الإعراب : «إذا» مضاف إلى ما بعده ، وظرف لقولها «رأيت» أو «قبح» على اختلاف القولين ، «قبح» فعل ماض ، «البكاء» فاعل له و «على قتيل» متعلّق له ، والجملة فعل شرط ل «إذا» ، «رأيت» بمعنى علمت ، فعل وفاعل «بكاءك» مفعول أوّل له ، «الحسن الجميلا» نعت ومنعوت

٢٠١

فإنّه يعرف بحسب الذّوق السّليم والطّبع المستقيم والتّدرّب (١) في معرفة معاني كلام العرب أن (٢) ليس المعنى ههنا على القصر وإن أمكن ذلك (٣) بحسب النّظر الظّاهر والتّأمّل القاصر.

______________________________________________________

مفعول ثان ل «رأيت» ، والجملة جواب شرط ل «إذا».

ومحلّ الشّاهد : قولها «الحسن» حيث عرّف بلام الجنس ، لإفادة أنّ اتّصاف المبتدأ به أمر واضح معروف ، لا لإفادة القصر فانتظر.

(١) التّدرّب من الدّربة ، بمعنى التّجربة.

(٢) قوله : «أنّ ليس ...» نائب فاعل «يعرف» أي يعرف أنّه لا معنى في قول الخنساء «رأيت بكاءك الحسن الجميلا» على القصر مطلقا ، لأنّ المعنى على اعتبار القصر الإضافيّ رأيت بكاءك الحسن لا بكاء غيرك ، أي الحسن مقصور على بكائك ، لا يتجاوز إلى بكاء غيرك أصلا ، وعلى اعتبار القصر الحقيقيّ بكاءك حسن لا شيء آخر ، أي الحسن مقصور على «بكاءك» لا يتجاوز إلى شيء آخر أصلا ، وكلّ واحد من هذين المعنيين خارج من مقتضى أسلوب قولها : «إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكائك الحسن الجميلا «لأنّ مقتضى ترتّب الجزاء على الشّرط ههنا هو إخراج بكائه من جنس بكاء القتلى بإثبات الحسن له لا قصره عليه ، فإنّه كما عرفت يقتضي نفيه عن غيره إضافة أو حقيقة ، فلا وجه للحمل عليه.

وبعبارة أخرى إنّ هذا الكلام إنّما هو للرّدّ على من يتوهّم أنّ البكاء على هذا المرثيّ قبيح كغيره ، فالرّدّ يحصل بمجرّد إخراج بكائه من القبح إلى كونه حسنا ، وليس هذا الكلام واردا في مقام من يسلم حسن البكاء ، إلّا أنّه يدّعى أنّ بكاء غيره حسن أيضا ، حتّى يكون معناه أنّ بكاءك هو الحسن الجميلا فقطّ فيفيد القصر الإفراد ، والحاصل إنّ الخنساء لم ترد أنّ ماعدا البكاء على صخر ليس بجميل ، ولا حسن حتّى يفيد كلامها قصرا حقيقيّا أو إضافيا ، بل أرادت أن تخرج بكاءه من جنس بكاء غيره بأن تثبت له الحسن والجمال.

(٣) أي القصر بحسب ظاهر التّعريف بأن يقال : إنّ التّعريف في قولها : «الحسن جالجميلا» لا يؤتى به بدلا من التّنكير إلّا لفائدة ، وهي القصر بأن يجعل القصر مبالغة ، أو إضافيّا بالنّسبة إلى بكاء غيره من القتلى ، إلّا أنّ هذا لا يخلو عن تكلّف ، لأنّ التّعريف ليس للقصر ، بل الغرض من التّعريف هو كون اتّصاف المبتدأ ، أي البكاء على صخر بالخبر ، أي بالحسن والجميل أمرا ظاهرا بحيث لا ينكر ، ولا يشكّ في ذلك هذا هو فائدة التّعريف لا إفادة الحصر.

٢٠٢

[وقيل (١)] في زيد المنطلق ، أو المنطلق زيد [الاسم متعيّن للابتداء] تقدّم أو تأخّر [لدلالته (٢) على الذّات والصّفة] متعيّنة [للخبريّة] تقدّمت أو تأخّرت ، [لدلالتها (٣) على أمر نسبيّ].

______________________________________________________

(١) القائل هو الإمام الرّازي على ما ذكره عبد الحكيم وغيره هذا القول ردّا على الضّابط المتقدّم في نحو : عمرو المنطلق ، والمنطلق عمرو ، من أنّ المبتدأ هو المتقدّم المعلوم عند السّامع سواء كان اسما كالمثال الأوّل ، أو صفة كالمثال الثّاني.

وحاصل الرّدّ إنّ الاسم ، أي عمرو مثلا في المثالين متعيّن للابتداء ، سواء تقدّم كما في المثال الأوّل ، أو تأخّر كما في المثال الثّاني ، فما تقدّم من الضّابط من أنّ الضّابط في التّقديم إذا كان للشّيء صفتان من صفات التّعريف هو علم السّامع باتّصافه بأحدهما لا يرجع إلى محصّل ، بل الضّابط في التّقديم الاسميّة ، وفي التّأخير الوصفيّة ، فالاسم متعيّن للابتداء ، والصّفة متعيّنة للخبريّة.

(٢) أي لدلالة الاسم على الذّات ، وحاصل التّعليل إنّ الوصف دائما ينسب إلى الذّات ويستند إليها ، ولا تستند الذّات إلى الوصف ، ولازم ذلك أنّ عمرا متعيّن للابتداء تقدّم أو تأخّر ، ومنطلقا مثلا متعيّن للخبريّة كذلك.

(٣) أي لدلالة الصّفة «على أمر نسبيّ» أي على الحدث الّذي ينسب إلى شيء على نحو الصّدور منه ، أو الوقوع عليه أو نحوهما. ومن المعلوم أنّ الدّالّ على الذّات يتعيّن تقديمه لفظا على الدّالّ على الحدث ، كما هو متقدّم وجودا.

ثمّ المراد بالاسم ما يدلّ على الذّات ، والمراد بالصّفة مطلق ما يدلّ على معنى قائم بالغير ، فلا يصحّ ما ذكره عبد الحكيم في المقام من أنّ المراد بالصّفة هنا ما دلّ على الذّات مبهمة باعتبار معنى قائم بها ، ومقابلها الاسم بمعنى ما دلّ على الذّات فقطّ ، أو المعنى فقطّ ، أو الذّات المعيّنة باعتبار المعنى كاسم الزّمان والمكان والآلة ، لأنّ قوله : «لدلالته على الذّات» ينادي بأعلى صوته على أنّ المراد بالاسم ما يدلّ على الذّات ، فلا وجه لما ذكره من التّعميم ، ولأنّ قوله : «لدلالتها على أمر نسبيّ» ناطق بأنّ المراد بالصّفة ، مطلق ما يدلّ على معنى قائم بالغير ، فلا وجه لتقييده بما ذكره من أنّ المراد بالصّفة على ما دلّ على ذات مبهمة باعتبار معنى قائم بها ...

٢٠٣

لأنّ معنى (١) المبتدأ المنسوب إليه ، ومعنى الخبر المنسوب ، والذّات هي المنسوب إليها (٢) والصّفة هي المنسوب (٣) فسواء قلنا : زيد المنطلق ، أو المنطلق زيد ، يكون زيد مبتدأ ، والمنطلق خبرا ، وهذا رأي الإمام الرّازي «قدس الله سرّه» ، [وردّ (٤) بأنّ المعنى

______________________________________________________

(١) وحاصل التّعليل إنّ معنى المبتدأ هو المنسوب إليه ، والمثبت له المعنى وليس معنى المبتدأ الملفوظ به أوّلا ، وكذلك ليس معنى الخبر الملفوظ به ثانيا.

(٢) أي هي التّي نسبت الصّفة إليها ، وقامت بها خارجا بنحو من أنحاء القيام.

(٣) أي هي التّي نسبت إلى الذّات وطرأت عليها خارجا فيكون الاسم متعيّنا للابتداء ، والصّفة متعيّنة للخبريّة ، سواء قلنا : زيد المنطلق ، أو قلنا المنطلق زيد ، وعلى التّقديرين زيد هو المبتدأ ، والمنطلق هو الخبر فبطل الضّابط المذكور.

(٤) بالبناء للمفعول ، والرّادّ هو صاحب المفتاح ، وحاصل الرّدّ أنّ ما قيل : من تعيين الاسم للابتداء مطلقا لدلالته على الذّات ، وتعيّن الصّفة للخبريّة مطلقا لدلالتها على أمر نسبيّ إنّما هو باعتبار استعمال الاسم والصّفة على طبق الوضع ، فإنّ الاسم وضع للدّلالة على الذّات ، والصّفة وضعت للدّلالة على أمر نسبي ، فتعيّن الاسم للابتداء مطلقا ، والصّفة للخبريّة مطلقا ، كما قيل : إلّا أنّ هذا الاستعمال لا ينافي الاستعمال على خلاف الوضع عند الحاجة إليه بحسب التّأويل ، بأن يجعل المنطلق دالّا على الذّات ، بأن يكون المراد من لفظ المنطلق الشّخص الّذي له الانطلاق ، وأن يجعل زيد دالّا على أمر نسبي بأن يكون المراد من زيد صاحب الاسم ، فيكون المنطلق مبتدأ ، وزيد خبرا ، ولا مانع عنه ، وإن كان على خلاف الوضع ، إذ يجوز الاستعمال على خلاف الوضع ، ولا يجب كونه على طبق الوضع دائما.

وبعبارة أخرى : إنّ تعيين الاسم للابتداء والصّفة للخبريّة إنّما يثبت بالدّليل المذكور في المتن ، حكاية عن الرّازي إذا كانت دلالة الاسم على الذّات والصّفة على الأمر النّسبي متعيّنة ، بأن يكون المراد من الاسم الذّات دائما ، ومن الصّفة الأمر النّسبي دائما ، وليس الأمر كذلك ، فإنّ الاسم قد يراد منه الذّات ، كما إذا وقع مبتدأ ، وقد يراد منه الأمر النّسبي ، كما إذا وقع خبرا ، والصّفة أيضا قد يراد بها الذّات ، كما إذا وقعت مبتدأ ، وقد يراد منها الأمر النّسبي ، كما إذا وقعت خبرا ، فالدّليل المذكور لا يكون مثبتا لتعيّن الاسم للمبتدئيّة ، وتعيّن الصّفة للخبريّة.

٢٠٤

الشّخصي الّذي له الصّفة صاحب الاسم] يعني أنّ الصّفة تجعل دالّة على الذّات ومسندا إليها ، والاسم يجعل دالّا على أمر نسبيّ ومسندا ، [وأمّا (١) كونه] أي المسند [جملة فللتّقوّي (٢)] نحو : زيد قام (٣) [أو لكونه سببيّا (٤)]

______________________________________________________

(١) عطف على قول المصنّف» وأمّا إفراده ...» والحاصل إنّ الحالة المقتضيّة لكون المسند جملة هي إذا أريد تقوّي الحكم بنفس التّركيب ، والمراد بتقوّي الحكم أن يكون المسند إليه مكرّرا مثل أنا عرفت.

(٢) أي تقوّي الحكم الّذي هو ثبوت المسند للمسند إليه نحو : زيد قام ، أو سلبه عنه نحو : ما زيد قام ، فيحصل تقوّي الحكم بسبب كون المسند جملة ، ولو لم يكن مقصودا ، فيدخل صور التّخصيص نحو : أنا سعيت في حاجتك ، ورجل جاءني ، لحصول التقوّي فيها ، وإن كان القصد التّخصيص ، كما يأتي في كلام الشّارح ، فاللّام في قوله : «فللتّقوّي» للسّببيّة لا للغرض.

(٣) وجه التقوّي فيه تكرار الإسناد حيث أسندت الجملة الفعليّة إلى المبتدأ ، أو الفعل وحده إلى ضمير المبتدأ ، فاكتسى الحكم قوّة بنفس التّركيب بتكرار التّركيب ، نحو : عرفت عرفت ، ولا بشيء آخر من المؤكّدات ، نحو : إنّ زيدا منطلق ، وضربت زيدا نفسه ، فإنّه قد أريد التقوّي في هذه الصّور ، مع أنّ المسند فيها مفرد لا جملة ، لأنّ التقوّي فيها ليس بنفس تركيب المسند مع المسند إليه بل بأمر آخر.

(٤) أي المسند سببيّا ، وقد عرفت فيما سبق أنّ المراد بالمسند السّببيّ كلّ جملة علّقت على مبتدأ بعائد لم يكن مسندا إليه ، كما في زيد أبوه قائم ، وزيد قام أبوه ، وزيد مررت به ، والمسند في جميع الأمثلة المذكورة جملة.

وبعبارة أخرى الخبر السّببيّ بمنزلة الوصف بحال ما هو من متعلّق الموصوف كقائم في قولك : جاءني رجل قائم أبوه ، فإنّ القيام حال الأب ، وهو من جملة متعلّقات زيد ، قال الشّارح في المطوّل : «والخبر السّببي بمنزلة الوصف الّذي يكون بحال ما هو من متعلّق الموصوف إلّا أنّه لا يكون إلّا جملة» وهذا التّعريف منه للمسند السّببيّ إنّما يستقيم على تعريف السّكّاكي للمسند السّببيّ حيث قال : هو أن يكون مفهوم المسند مع الحكم عليه بأنّه ثابت للشّيء الّذي بني عليه ذلك

٢٠٥

نحو : زيد (١) أبوه قائم

______________________________________________________

المسند ، أي جعل خبرا عنه أو منتف عنه ، مطلوب التّعليق بغير ما بني عليه ذلك المسند ، تعليق إثبات لذلك الغير بنوع ما ، أو تعليق نفي عنه بنوع ما ، أو يكون المسند فعلا يستدعي الإسناد إلى ما بعده بالإثبات أو بالنّفي فيطلب تعليق ذلك المسند متعلّقا بما قبله بسبب ما.

فالأوّل : نحو : زيد أبوه منطلق ، ـ إلى أن قال : ـ والثّاني : نحو : عمرو ضرب أخوه.

فإنّ المسند السّببي على هذا التّفسير يكون بمنزلة الوصف السّببي في كونه مثله حال ما هو من جملة سبب المسند إليه ، كالأب والأخ والعمّ والابن والبنت في نحو : زيد أبوه منطلق ، وعمرو أخوه شاعر ، وبكر عمّه قاض ، وخالدّ ابنه حكيم ، وبشر بنته معلّمة ، وأمّا على تعريف الشّارح ، حيث قال : «ويمكن أن يفسّر بأنّه جملة علّقت على المبتدأ بعائد بشرط أن لا يكون ذلك العائد مسندا إليه في تلك الجملة» ، فلا يستقيم ما ذكره ، لأنّ المسند السّببيّ على هذا التّعريف يصدق على ضربته ومررت به ، في نحو : زيد ضربته وعمرو مررت به ، مع أنّ المسند ليس حال ما هو من جملة سبب المسند إليه ، بل هو حال نفس المسند إليه.

نعم أغلب أفراد المسند السّببيّ حال ما هو من جملة سبب المسند إليه أيضا ، فما ذكره الشّارح إمّا ناظر إلى مذهب السّكّاكي ، وإمّا مبنيّ على الغالب.

(١) أي المسند في هذا المثال جملة لكونه سببيّا للمسند إليه ، بخلاف زيد قائم أبوه ، فإنّه ليس بجملة ، بل هو مفرد لما علم من أنّ اسم الفاعل مع فاعله المظهر أو المضمر من قبيل المفرد.

٢٠٦

[لما مرّ (١)] من (٢) أنّ إفراده يكون لكونه غير سببيّ مع عدم إفادة التقوّي ، وسبب التقوّي في مثل زيد قام ، على ما ذكره صاحب (٣) المفتاح هو أنّ المبتدأ (٤) لكونه مبتدأ يستدعي (٥) أن يسند إليه (٦) شيء ، فإذا جاء بعده (٧) ما يصلح (٨) أن يسند إلى ذلك المبتدأ صرفه (٩)

______________________________________________________

(١) أي مثل مثال مرّ في بحث ذكر المسند ، حيث قال : المراد بالسّببيّ مثل زيد أبوه قائم ، فقوله : «كما مرّ» حوالة المثال على سابق الكلام.

(٢) بيان لما في قوله : «كما مرّ» ، والمعنى كما مرّ من أنّ كون المسند مفردا» يكون لكونه غير سببيّ مع عدم إفادة التقوّي» أي تقوّي الحكم ، فبطريق المقابلة يعلم أنّ كونه جملة لإفادة التقوّي ، أو لكونه سببيا.

(٣) أي دون ما ذكره الشّيخ ، كما يأتي في كلام الشّارح ، وقد وقع الخلاف بين السّكّاكي والشّيخ في سبب إفادة الجملة الفعليّة المسندة إلى المبتدأ التقوّي ، فذكر السّكّاكي شيئا والشّيخ شيئا آخر ، وقد ذكر الشّارح كلا المذهبين فانتظر تفصيلهما ، وما يرد عليهما. وحاصل الكلام في المقام أنّ سبب التقوّي ، أي ما يتوصّل به إلى التقوّي على مذهب صاحب المفتاح ، «هو» أي السّبب «أنّ المبتدأ لكونه» أي المبتدأ «مبتدأ» ، أي لا لكونه اسما جامدا أو مشتقّا ، أو ثلاثيّا أو رباعيّا ، أو غير ذلك من الحالات الكائنة فيه.

(٤) لو قال : هو أنّ المسند إليه لكونه مسندا إليه يستدعي أن يسند إليه شيء لكان أعمّ وأوضح.

(٥) أي يستدعي المبتدأ.

(٦) أي المبتدأ.

(٧) أي المبتدأ.

(٨) أي المراد بما يصلح هو الخبر مفردا كان نحو قائم ، وهذا في زيد قائم وعمرو هذا ، أو جملة نحو قام ، في زيد قام ، واحترز به عمّا لا يصلح أن يسند إلى المبتدأ ، نحو : زيد حجر ، لأنّ زيدا لا يكون حجرا.

(٩) أي صرف ما يصلح أن يسند إلى المبتدأ ، أي «صرفه ذلك المبتدأ إلى نفسه» ، فقوله : «صرفه» جواب «إذا» في قوله : «فإذا جاء» ، «وذلك المبتدأ» فاعل «صرفه».

٢٠٧

ذلك المبتدأ إلى نفسه سواء كان (١) خاليا عن الضّمير ، أو متضمّنا له (٢) فينعقد بينهما (٣) حكم ، ثمّ إذا كان متضمّنا لضميره (٤) المعتدّ به (٥) بأن لا يكون (٦) مشابها للخالي عن الضّمير ، كما في (٧) زيد قائم ،

______________________________________________________

(١) أي سواء كان ما يصلح «خاليا عن الضّمير» كغلام في قولك : أنت غلام.

(٢) أي لضمير المرفوع العائد إلى المبتدأ ، ثمّ ما كان مشتملا للضّمير كان مشابها للخالي عن الضّمير ، كقائم في زيد قائم أو غير مشابه له ، كقام في زيد قام ، ثمّ الوجه في كون اسم الفاعل مشابها للخالي عن الضّمير ، أنّه لم يتغيّر في الأحوال الثّلاثة تقول : أنا قائم ، وأنت قائم ، وهو قائم ، كما تقول : أنا رجل ، وأنت رجل ، وهو رجل.

(٣) أي بين المبتدأ وما يصلح.

(٤) أي ضمير المرفوع العائد إلى المبتدأ ، وظاهر العبارة يوهم أنّ الخبر إذا كان متضمّنا لضمير المبتدأ ، فهو مسند إليه ابتداء من دون الضّمير كما سيأتي من بعض المشايخ إلّا أنّه لابدّ لنا من رفع اليد عن هذا الظّهور ، بقرينة أنّ الشّارح لم يرتض ما ذكره بعض المشايخ ، وأورد عليه أنّ المبتدأ لكونه مبتدأ لا يستدعي إسناد غير الخبر ، وحيث إنّ الخبر هو مجموع الضّمير ، وما يتحمّله فهو يستدعي إسناد المجموع ، لا إسناد نفس المتحمّل مجرّدا عن الضّمير ، فمراده من العبارة المذكورة بقرينة ما سيأتي منه أنّ المبتدأ لكونه مبتدأ يستدعي أن يسند إليه شيء ، فإذا جاء بعده ما يصلح مفردا كان أو جملة ، صرفه إلى نفسه ، ثمّ إذا كان مشتملا على الضّمير المعتدّ به أي بأن يقع مسندا إليه صرفه إليه ثانيا ، باعتبار أنّ الإسناد إلى ضمير الشّيء بمنزلة الإسناد إليه ، لأنّه عبارة عنه.

(٥) كما في زيد قام ، فإنّ قام لم يشابه بالخالي لتغيّره في الأحوال الثّلاثة.

(٦) أي «بأن لا يكون» المتضمّن «مشابها للخالي عن الضّمير».

(٧) هذا مثال لما هو المشابه للخالي ، حيث إنّه لا يتغيّر في التّكلّم والخطاب والغيبة ، فيقال : زيد قائم ، وأنا قائم ، وأنت قائم ، كما يقال : أنا غلام ، وأنت غلام ، وهو غلام ، فلا يفيد تقوّي الحكم ، والمفيد لتقوّي الحكم ما هو متحمّل للضّمير المعتدّ به ، نحو قام ، في نحو قولك : زيد قام.

٢٠٨

صرفه (١) ذلك الضّمير إلى المبتدأ ثانيا (٢) فيكتسي الحكم قوّة (٣) ، فعلى هذا (٤) يختصّ التقوّي بما يكون مسندا إلى ضمير المبتدأ ، ويخرج عنه (٥) نحو : زيد ضربته.

______________________________________________________

(١) أي ما يصلح أن يسند إلى المبتدأ «صرفه ذلك المبتدأ ثانيا» فقوله : «صرفه» جواب إذا في قوله : «ثمّ إذا كان ...»

(٢) أي كأنّ الضّمير صرفه إليه صرفا ثانيا باعتبار أنّ الإسناد إليه بمنزلة الإسناد إلى المبتدأ لكونه عبارة عنه.

(٣) وذلك بواسطة تكرار الإسناد ، لأنّ فيه إسنادين : أحدهما بلا واسطة ، والآخر بواسطة الضّمير ، هذا واضح في الإثبات ، وأمّا في النّفي ، فيقال : إنّ الفعل المنفي مع الضّمير المستتر فيه يسند إلى المبتدأ أوّلا ، ثمّ يسند نفس الفعل المنفي بواسطة الضّمير إليه ثانيا ، باعتبار أنّ الإسناد إلى ضمير الشّيء بمنزلة الإسناد إلى نفسه فيحصل إسناد نفي الفعل إلى المبتدأ مرّتين فيحصل التقوّي.

(٤) أي على ما ذكره صاحب المفتاح من أنّ سبب التقوّي في مثل زيد قام ، هو تكرار الإسناد.

(٥) أي عن التقوّي «نحو : زيد ضربته» ، إذ ليس الضّمير المسند إليه ضمير المبتدأ حتّى يصرف الحكم إليه ، بل الضّمير المسند إليه هو ضمير المتكلّم ، ووجه خروجه أنّ التقوّي سببه صرف الضّمير إلى ذلك المبتدأ ، فيتكرّر الحكم ، فيحصل التقوّي ، والضّمير أي ضمير المتكلّم في المثال المذكور لا يصلح للصّرف المذكور ، لأنّه ليس عبارة عن المبتدأ السّابق ، بل هو عبارة عن المتكلّم.

وبعبارة أخرى الفعل في المثال مسند إلى غير ضمير المبتدأ ، فلا يصلح أن يسند إليه ، فلا مجال فيه للقول بأنّ الحكم قد اكتسى قوّة ، لأنّ الحكم الأوّل على المبتدأ ، والحكم الثّاني على غيره ، فلا تكرار ، فلا تقوّي.

وكيف كان فقوله : «ويخرج عنه» عطف على قوله : يختصّ عطف لازم على ملزوم ، وجه الخروج أنّ سبب التقوّي على ما ذكره صاحب المفتاح صرف الضّمير ما يتضمّنه إلى المبتدأ ثانيا ، والضّمير في نحو : زيد ضربته ، لا يكون صالحا للصّرف ، لأنّه ليس عبارة عن المبتدأ كما عرفت.

٢٠٩

ثمّ إنّه قد يقال : إنّه لا وجه للالتزام بخروج نحو : زيد ضربته ، عن التقوّي بناء على ما ذكره السّكاكي ، لأنّه لا يصحّ أن يقال : إنّ زيدا في المثال لكونه مبتدأ يستدعي أن يسند إليه شي ، فإذا جاء بعده ضربته صرفه لنفسه ، فإذا جاء بعده ضمير المفعول الّذي هو الهاء في ضربته صار الفعل مسندا إليه أيضا بالوقوع عليه ، وإذا صار مسندا إليه صرفه للمبتدأ ، لأنّه عينه في المعنى ، فيتكرّر الإسناد إلى المبتدأ ، فيحصل التقوّي ، فحينئذ لا يكون المثال خارجا ، ومن ذلك قال صاحب المفتاح في فصل اعتبار التّقديم والتّأخير مع الفعل ، ونظير قولنا : أنا عرفت في اعتبار التقوّي زيد عرفت ، أو عرفته ، الرّفع يفيد تحقيق أنّك عرفته ، والنّصب يفيد أنّك حقّقت زيدا بالعرفان ، فإنّ قوله : الرّفع يفيد تحقيق أنّك عرفته يدلّ على أنّه ملتزم بأنّه يفيد التقوّي.

وأجيب عن ذلك بأنّ إسناد الفعل للضّمير الواقع مفعولا إسناد غير تام والتقوّي عند السّكّاكي يختصّ بالمسند الّذي يكون إسناده لضمير المبتدأ إسنادا تامّا ، فلا اعتراض على الالتزام بالخروج.

نعم يرد الاعتراض على السّكّاكي في أنّه جعل ضابط كون المسند جملة كونه سببيا ، أو كونه مفيدا لتقوّي الحكم ، وهو غير تامّ لعدم شموله نحو : زيد ضربته.

الإنصاف أنّه داخل في تقوّي الحكم ، كما ذكره القائل ، فإنّ الضّمير في قوله : «إذا كان متضمّنا لضميره» صرفه ذلك الضّمير إلى المبتدأ ثانيا مطلق ، ولا دليل على تقييده بكونه مسندا إليه ، بل الدّليل قام على عدم التّقييد ، وهو ما ذكره القائل من حكاية ما قاله في بحث التّقديم والتّأخير مع الفعل.

وما ذكره المجيب ـ من أنّ الإسناد إلى المفعول إسناد غير تامّ ، والتقوّي عند السّكّاكي يختصّ بالمسند الّذي يكون إسناده لضمير المبتدأ إسنادا تامّا ـ لا يرجع إلى محصّل صحيح ، لأنّ نسبة الضّرب في قولنا : زيد ضربته ، إلى زيد هي النّسبة المفعوليّة من جهة المعنى ، وهي بعينها نسبة لضميره ، فتكون النّسبتان في مقام اللّبّ متناسختين لا متباينتين ، وكون إحداهما هي النّسبة المفعوليّة والأخرى هي النّسبة المبتدئيّة مجرّد اعتبار منّا ، لا يوجب المغايرة الواقعيّة.

٢١٠

ويجب أن يجعل (١) سببيّا وأمّا (٢) على ما ذكره (٣) الشّيخ في دلائل الإعجاز وهو (٤) أنّ الاسم لا يؤتى به معرّى عن العوامل اللّفظيّة (٥) إلّا لحديث (٦)

______________________________________________________

فإذا الصّحيح ما ذكره القائل ، ولا أساس لما أفاده الشّارح من الالتزام بخروج المثال عن التقوّي ، كما أنّه لا أساس لما ذكره المجيب ردّا على ما ذكره القائل من الاعتراض على الشّارح.

(١) أي نحو : زيد ضربته» سببيّا» لأنّ إتيان المسند جملة لأحد أمرين : أي إمّا للتّقوّي ، أو لكونه سببيّا ، فإذا انتفى أحدهما تعيّن الآخر ، والمنتفي هو التقوّي ، والمتعيّن هو السّببي ، فإنّ ما سبق في تعريف المسند السّببي بأنّه جملة علّقت على المبتدأ بعائد يشمل نحو زيد ضربته ، كما صرّح بذلك هناك.

(٢) عطف على قوله : «فعلى هذا» ، وقيل : إنّه عطف على قوله : «على ما ذكره صاحب المفتاح».

(٣) أي ما ذكره الشّيخ من أنّه يفيد التقوّي مشترك بين أخبار المبتدأ إذا تأخرت عنه سواء كانت جملا أو مفردات ، فلا تعلّق له بضابط كون الخبر جملة ، والتّعويل هنا على ما في المفتاح فقطّ.

وكأنّ الشّارح سكت عن ردّ ما ذكره الشّيخ لوضوحه ، ثمّ الرّدّ يمكن أوّلا بأنّ وجود ما ذكره فيما لا يفيد التقوّي ، وهو المسند المفرد يدلّ على أنّه ليس وجه التقوّي ، وثانيا بأنّ ما ذكره من أنّ الإعلام بالشّيء بعد التّنبيه عليه إجمالا أوقع في النّفس فيفيد التقوّي ، لا يختصّ بأن يكون الاسم مبتدأ ، كقولك زيد قام ، أو زيد قائم ، بل يوجد في المفعول والفعل ، كقولك زيدا في المثال الأوّل ، وجاء في المثال الثّاني ، إذ السّامع ينتظر الفعل في الأوّل والفاعل في الثّاني ، فإذا ذكرا كان الكلام أوقع في نفس السّامع ، مع أنّهما لا يفيدان التقوّي أصلا. ومن هنا يعلم أنّ ملاك التقوّي ليس ما ذكره الشّيخ.

(٤) أي ما ذكره الشّيخ.

(٥) أي في الحال أو في الأصل ، والأوّل كقولك : زيد قام ، والثّاني كقولك : إنّ زيدا قام ، فيدخل فيه ما دخلته النّواسخ كالمثال الثّاني.

(٦) أي أراد بالحديث المحكوم به.

٢١١

قد نوي (١) إسناده إليه ، فإذا قلت زيد ، فقد أشعرت (٢) قلب السّامع بأنّك تريد الإخبار عنه (٣) ، فهذا (٤) توطئة له (٥) وتقدمة للإعلام به (٦) ، فإذا قلت قام ، دخل (٧) في قلبه (٨) دخول المأنوس وهذا (٩) أشدّ للثّبوت ، وأمنع من الشّبهة (١٠) والشّكّ (١١) ، وبالجملة (١٢) ليس الإعلام بالشّيء بغتة (١٣) مثل الإعلام به (١٤) بعد التّنبيه عليه (١٥) والتّقدمة فإنّ ذلك (١٦) ، يجري مجرى تأكيد الإعلام (١٧)

______________________________________________________

(١) مبنيّ للمفعول بمعنى قصد ، أي قد قصد إسناد الحديث إلى الاسم.

(٢) أي أعلمت ، إذ أشعرت من الشّعور بمعنى العلم الإجمالي.

(٣) أي الاسم.

(٤) أي ذكر الاسم قبل الخبر مجرّدا عن العوامل ، كقولك زيد.

(٥) أي الحديث والإخبار.

(٦) أي بكونك تريد الإخبار عنه قوله : «تقدمة» عطف تفسير على قوله : «توطئة».

(٧) أي دخل الخبر والإعلام بالحديث.

(٨) أي في قلب السّامع.

(٩) أي دخول الخبر في قلب السّامع دخول المأنوس ، أي بأن يكون الدّخول بعد التّوطئة والتّقدمة «أشدّ للثّبوت» ، أي لثبوت المحمول للموضوع ، كثبوت القيام لزيد في المثال المذكور في المتن.

(١٠) أي شبهة احتمال أن يكون المتّصف بالمحمول غير الموضوع.

(١١) قوله : «والشّكّ» عطف تفسير على «الشّبهة».

(١٢) أي في الجملة ، أي أبيّن وأفسّر ، حاصل ما ذكره الشّيخ عبد القاهر بالإجمال.

(١٣) أي فجأة كما في صورة تقديم المسند إليه.

(١٤) أي بالشّيء.

(١٥) أي على الشّيء ، كما في صورة تأخير المسند إليه.

(١٦) أي الإعلام به بعد التّوطئة والتّقدمة.

(١٧) أي يكون بمنزلة تأكيد الإعلام الصّريح ، كما في نحو : زيد قام زيد قام.

٢١٢

في التقوّي (١) والإحكام (٢) فيدخل (٣) فيه نحو : زيد ضربته ، وزيد مررت به ، وممّا (٤) يكون المسند فيه جملة لا للسّببيّة أو التقوّي ، خبر ضمير الشّأن ولم يتعرّض له (٥) لشهرة أمره (٦) ، وكونه (٧) معلوما ممّا سبق.

______________________________________________________

(١) أي في إفادة تقوّي الحكم وتثبتّه.

(٢) أي الإتقان.

(٣) جواب «أمّا» في قوله : «وأمّا على ما ذكره الشّيخ ...» أي فيدخل في التقوّي» نحو : زيد ضربته ، وزيد مررت به» لما فيه من الإعلام بالخبر بعد التّنبيه عليه والتّقدمة ، لا بغتة وفجأة.

(٤) أي الكلام فقوله : «ممّا يكون ...» خبر مقدّم ، وقوله : «ضمير الشّأن» مبتدأ مؤخّر ، وهذا الكلام من الشّارح شروع في اعتراض وارد على المصنّف وجوابه ، فلابدّ أوّلا من بيان الإيراد ، وثانيا من توضيح الجواب.

أمّا الإيراد فحاصله : إنّ ظاهر كلام المصنّف أنّ الإتيان بالمسند جملة ، إنّما يكون للتّقوّي ، أو لكونه سببيّا ، لأنّ الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر ، مع أنّه قد يكون المسند جملة ، ولا يوجد فيه التقوّي ، ولا كونه سببيّا ، ككونه خبرا عن ضمير الشّأن نحو : هو زيد قائم ، هو الله أحد ، فإنّ الخبر هنا جملة ، ولا يفيد التقوّي ، وليس سببيّا.

(٥) أي لكون المسند المأتي به جملة لأجل كونه خبرا عن ضمير الشّأن ، وهذا القول من الشّارح جواب عن الإيراد المذكور الوارد على المصنّف ، وقد عرفت بيانه.

وتوضيح الجواب : إنّ كلام المصنّف وإن كان ظاهرا في أنّ المسند الجملة لا يخلو عن إفادة التقوّي وكونه سببيّا ، فيكون مانعة الخلوّ ، إلّا أنّ هناك قسما آخر من المسند الجملة وليس للتّقوّي ولا سببيّا ، وهو خبر ضمير الشّأن ، ولم يتعرّض له المصنّف لشهرة حكمه ، وهو أنّه لا يخبر عنه إلّا بجملة.

(٦) أي أمر ضمير الشّأن من أنّه لا يخبر عنه إلّا بجملة ، وبعبارة أخرى أنّه قد قرّر في النّحو : إنّ خبر ضمير الشّأن لا يكون إلّا جملة.

(٧) أي كون خبر ضمير الشّأن جملة» معلوما ممّا سبق» في بحث ضمير الشّأن ، في قوله : هو أو هي زيد عالم ، مكان الشّأن أو القصة ، فإنّه يعلم من هذا أنّ خبره لا يكون إلّا جملة ، فعلم منه بطريق الإشارة أنّ خبره لا يكون إلّا جملة ، ومع ذلك لا يفيد التقوّي ، لأنّ المراد بالتقوّي

٢١٣

وأمّا صورة التّخصيص (١) نحو : أنا سعيت في حاجتك ، ورجل جاءني ، فهي داخلة في التقوّي على ما مرّ (٢) [واسميّتها (٣) وفعليّتها (٤) ، وشرطيّتها (٥)

______________________________________________________

في المقام تحقّق ثبوت المحمول للموضوع بتكرّر الإسناد ، وهذا غير موجود في خبر ضمير الشّأن ، لأنّه عبارة عن المبتدأ.

(١) جواب سؤال مقدّر ، وهو أن يقال : إنّ المصنّف خصّ بالذّكر في بيان كون المسند جملة ما يفيد التقوّي ، وما كان سببيّا ، ولم يذكر ما يفيد التّخصيص مع أنّه قد يؤتى به جملة لقصد التّخصيص ، كما في المثال المذكور.

وحاصل ما أجاب به الشّارح : أنّه عند قصد التّخصيص يكون التقوّي حاصلا إلّا أنّه غير مقصود ، فصورة التّخصيص داخلة في التقوّي.

(٢) أي من أنّ التقوّي أعمّ من أن يكون مقصودا ، أو حاصلا من غير قصد ، ففي صورة التّخصيص يحصل التّقوّي بتكرّر الإسناد ، وإن لم يكن مقصودا حين قصد التّخصيص ، ولو قال المصنّف : وأمّا كونه جملة فللتّقوّي ، أو كونه سببيّا أو لكونه خبرا لضمير الشّأن ، أو لكونه للتّخصيص ، لكان أولى.

وكيف كان فقصد التّخصيص لا ينافي إفادة التقوّي ، فالتقوّي يتناول ما يكون فيه المقصود هو التقوّي ، وما يكون فيه المقصود هو التّخصيص ، وكلّ منهما داخل في التقوّي ، فلا حاجة إلى التّعرض بكون المسند جملة للتّخصيص ، بل يعنى عنه التّعرض بكونه جملة للتّقوّي.

(٣) أي اسميّة الجملة المخبر بها ، كما في قولك : زيد أبوه مشغول بوظائفه الدّينيّة.

(٤) أي كون الجملة المخبر بها فعليّة ، كما في قولك : زيد يشتغل أبوه بالخدمات الاجتماعيّة.

(٥) أي كون الجملة المخبر بها شرطيّة ، كما في قولك : زيد إن لقيته يكرمك ، وحاصل الكلام في المقام إنّ المقتضي لإيراد الجملة مطلقا إمّا التّقوّي ، أو كون المسند سببيّا ، وإمّا المقتضي لخصوص كونها اسميّة ، فهو إفادة الثّبوت ، ولكونها فعليّة إفادة التّجدّد ، ولكونها شرطيّة إفادة التّقييد بالشّرط.

٢١٤

لما مرّ (١)] يعني أنّ كون المسند جملة للسّببيّة أو التّقوّي ، وكون تلك الجملة اسميّة للدّوام والثّبوت ، وكونها فعليّة للتّجدّد والحدوث ، والدّلالة على أحد الأزمنة الثّلاثة على أخصر وجه (٢) ، وكونها شرطيّة للاعتبارات المختلفة (٣) الحاصلة من أدوات الشّرط [وظرفيّتها (٤) لاختصار الفعليّة إذ هي (٥)]

______________________________________________________

(١) في بحث المفرد من قصد إفادة الثّبوت فيما إذا كان المسند اسما ، وإفادة التّجدّد والحدوث وأحد الأزمنة على أخصر وجه ، فيما إذا كان فعلا ، وإفادة التّقييد والتّعليق بالشّرط فيما إذا كان مقيّدا به ، ولا فرق في ذلك بين المسند المفرد ، والمسند الّذي يكون جملة ، وإنّما الفرق بينهما من ناحية عدم إفادة الأوّل أحد الأمرين ، أي التقوّي وكونه سببيّا ، وإفادة الثّاني أحدهما.

(٢) أي على وجه أخصر ، لأنّ قولنا : زيد يقرأ الكتاب ، أخصر من قولنا : زيد حاصل منه قراءة القرآن في الزّمان المستقبل ، والحاصل إنّ الجملة الاسميّة تفيد مجرّد الثّبوت ، وأمّا الدّوام فمستفاد من القرائن ، والفعليّة تفيد التّجدّد والحدوث ، وأمّا الاستمرار التّجدّدي فقد يعرض بالقرينة.

(٣) أي التّي لا تعرف إلّا بمعرفة ما بين أدوات الشّرط من الفرق والتّفصيل ، نحو : زيد إن تلقه يكرمك ، حيث يقتضي المقام الإخبار عنه بالإكرام الّذي يحصل على تقدير اللّقى المشكوك ، وزيد إذا لقيته يكرمك ، حيث يقتضي المقام الإخبار عنه بالإكرام الحاصل على تقدير وقوع اللّقى المحقّق ، والفرق بين المثالين أظهر من الشّمس في رابعة النّهار.

(٤) أي كون الجملة المخبر بها ظرفيّة ، أي الحالة المقتضية لكونها ظرفيّة هي ما إذا كان المراد اختصار الفعليّة ، حيث إنّ قولك : زيد في الدّار ، أخصر من قولك : زيد استقرّ في الدّار ، فإذا اقتضى المقام إفادة التّجدّد مع الاختصار أوتي بالمسند ظرفا. ثمّ إنّ عدّ الشّرطيّة والظّرفيّة جملة مبنيّ على المسامحة ، وإلّا ففي الحقيقة إنّ الظّرفيّة مختصر الفعليّة ، والشّرطيّة هي الجزاء المقيّد بالشّرط ، والجزاء هي جملة فعليّة في نحو قولك : إن جئتني أكرمك ، حيث يكون التّقدير أكرمك على تقدير مجيئك إياي ، فليس شيء منهما جملة فعليّة.

(٥) علّة لقوله : «ظرفيّتها لاختصار الفعليّة» بحذف الفعل ، وإقامة الظّرف مقامه.

٢١٥

أي الظّرفيّة (١) [مقدّرة بالفعل على الأصحّ (٢)] لأنّ (٣) الفعل هو الأصل في العمل.

وقيل : (٤) باسم الفاعل ، لأنّ الأصل في الخبر أن يكون مفردا (٥) ،

______________________________________________________

(١) أي الجملة الظّرفيّة ، لا الكون ظرفا ، إذ الكون ظرفا ليس مقدّرا بالفعل ، والياء في قوله» الظّرفيّة» للنّسبة ، لأنّ المقدّر بالفعل الجملة الظّرفيّة لا كونها ظرفيّة ، فيكون الضّمير في قوله : «إذ هي» مبنيّا على الاستخدام ، حيث إنّ المراد بقوله : «ظرفيّتها» كونه جملة ظرفيّة ، فالياء فيه مصدريّة ، ولا يصحّ جعلها للنّسبة ، لأنّه موجب لكون قوله : «وظرفيّتها» مخالفة لما قبله من قوله : «واسميّتها وفعليّتها وشرطيّتها» ، فإنّ الياء فيه مصدريّة قطعا ، والحاصل إنّ المراد من نفس ظرفيّتها جملة ظرفيّة ، والياء فيها مصدريّة ، والمراد من مرجع الضّمير هي الجملة الظّرفيّة ، والياء فيها للنّسبة ، هذا معنى الاستخدام.

(٢) أي على أصحّ القولين الّذين أشار إليهما ابن مالك بقوله :

وأخبروا بظرف أو بحرف جرّ

ناوين معنى كائن أو استقرّ

(٣) علّة لتقدير الفعل ، لأنّه الأصل في العمل ، واسم الفاعل إنّما يعمل بمشابهته ، فالأولى عند الاحتياج أن يرجع إلى الأصل وهو الفعل ، والوجه في أنّ الفعل هو الأصل في العمل ، هو أنّ العامل إنّما يعمل لافتقاره إلى غيره من زمان ومكان ومحلّ وصاحب وعلّة وآلة ، والفعل أشدّ افتقارا من الاسم ، لأنّه يدلّ على الزّمان والحدث والنّسبة التّي هي من المعاني العرضيّة المفتقرة إلى محلّ تقوم به ، بخلاف الاسم فإنّ المشتقّات وإن كانت تدلّ على الحدث ، إلّا أنّها تدلّ على الذّات أيضا ، والمصدر وإن كان يدلّ على الحدث ، إلّا أنّه لا يدلّ على النّسبة والزّمان ، فليس الاسم بشتّى أقسامه في الافتقار بمثابة الفعل ، ولازم ذلك أن يكون الفعل هو الأصل في التّعلّق والعمل ، وبالجملة إنّ الفعل حدث يقتضي صاحبا ومحلّا وزمانا وعلّة ، فيكون افتقاره من جهة الإحداث ، ومن جهة التّحقّق ، وليس في الاسم إلّا الثّاني ، فيكون افتقاره أشدّ من افتقاره.

(٤) أي قيل : إنّ المقدّر هو اسم الفاعل ، وهذا مقابل الأصحّ ، قائله الكوفيّون ، كما في بعض الشّروح.

(٥) وذلك لأصالة المفرد في الإعراب ، لظهور الإعراب فيه لأنّ الخبر قسم من المعرب ،

٢١٦

ورجّح (١) الأوّل بوقوع الظّرف صلة للموصول ، نحو : الّذي في الدّار أخوك. وأجيب (٢) بأنّ الصّلة من مظانّ الجملة بخلاف الخبر ، ولو قال (٣) إذ الظّرف مقدّر بالفعل على الأصحّ لكان أصوب (٤) ، لأنّ ظاهر عبارته يقتضي أنّ الجملة الظّرفيّة مقدّرة

______________________________________________________

والمعرب في الحقيقة هو المفرد ، واتّصاف الجملة بكونها معربة ، بمعنى أنّها في موضع لو كان اسم مفرد فيه لكان معربا ، لا بمعنى أنّها متّصفة بالإعراب حقيقة.

(١) أي رجّح تقدير الظّرف بالفعل على تقديره باسم الفاعل «بوقوع الظّرف صلة للموصول» ، وصلة الموصول لا تكون إلّا جملة ، فتعيّن تقدير الظّرف بالفعل ليكون جملة ، ولا يجوز أن يقدّر باسم الفاعل ، لأنّه حينئذ يكون من قبيل المفرد ، والصّلة لا بدّ وأن تكون جملة ، فعند التّردّد الحمل عليه أولى.

وبعبارة أخرى إنّه قد تعيّن تقدير الفعل فيما إذا وقع الظّرف صلة ، فيحمل غير الصّلة الّذي تردّدنا في أنّه مقدّر بالفعل ، أو بالاسم على الصّلة ، فنقدّر بالفعل حملا للمشكوك على المتيقن ، لأنّ الحمل على المتيّقن عند الشّكّ أولى ، وذلك جريا للباب على طريقة واحدة ، ووتيرة فاردة.

(٢) وحاصل الجواب : إنّ قياس غير الصّلة ، أعني الخبر ، على الصّلة قياس مع الفارق ، لأنّ كون الظّرف الواقع صلة للموصول مقدّرا بالفعل ـ بحجة أنّ الصّلة من مظانّ الجملة أي من مواضع الجملة ـ لا يوجب كون الظّرف الواقع خبرا مقدّرا بالفعل ، لأنّ الخبر ليس من مظانّ الجملة ، فلا يلزم من تقدير الظّرف بالفعل في الصّلة ، لكونها من مواضع الجملة تقديره بالفعل في الخبر الّذي الأصل فيه الإفراد ، لأنّه معرب ، والأصل في الإعراب المفرد.

(٣) أي ولو قال المصنّف مكان «إذ هي مقدّرة بالفعل» إذا الظّرف ... أي في عبارة المصنّف خلل ، إذ لو حملت على ظاهرها أفادت أنّ الجملة الظّرفيّة مقدّرة بالفعل على الأصحّ ، وأنّها مقدّرة باسم الفاعل على غير الأصحّ ، أي على الصّحيح مع أنّ الظّرف المقدّر باسم الفاعل مفرد اتّفاقا لا جملة ، فحينئذ يكون كلامه فاسدا.

(٤) وإنّما قال أصوب ، لإمكان تأويل عبارة المصنّف على معنى «إذ هي» ، أي كلمة الظّرف أو الجملة من حيث اشتمالها على الظّرف ، ولا يصلح التّأويل على معنى «إذ هي» ، أي الظّرفيّة بمعنى الكون ظرفا ، إذ الكون ظرفا ليس مقدّرا بالفعل.

٢١٧

باسم الفاعل على القول الغير الأصحّ ، ولا يخفى فساده (١). [وأمّا تأخيره] أي تأخير المسند [فلأنّ ذكر المسند إليه أهمّ كما مرّ (٢)] في تقديم المسند إليه. [وأمّا تقديمه] ، أي تقديم المسند [فلتخصيصه (٣) بالمسند إليه] ،

______________________________________________________

(١) أي لأنّ الظّرف على ذلك المذهب مفرد لا جملة كما عرفت ، لأنّ الجمليّة والمفرديّة باعتبار متعلّقه ، وإذا كان متعلّقه اسم فاعل كان مفردا ، وقد جزم بجمليّته أوّلا ، حيث قال : «إذ هي» ، أي الجملة الظّرفيّة ، ثمّ ذكر خلافا هل المقدّر فعل أو اسم ، وهو فاسد ، إذ الجملة لا تقدّر بمفرد أصلا حتّى يجوز قوله : إنّ المقدّر اسم.

(٢) أي كما مرّ مفصّلا ومشروحا في بحث تقديم المسند إليه ، يعني أنّ الأهمّيّة المقتضية لتقديم المسند إليه على المسند ، كما عرفتها سابقا مقتضية لتأخير المسند عن المسند إليه ، حيث إنّ أسباب الأهمّيّة كثيرة :

منها : إنّ الأصل في المسند إليه التّقديم وفي المسند التّأخير ، لأنّ فيه ضميرا عائدا إلى المسند إليه ، نحو : زيد في داره ، فإنّه يترجّح على في داره زيد.

ومنها : إنّ في تقديمه تشويق للمسند ، والغرض تقريره في ذهن السّامع ، كما تقدّم في قوله :

«والّذي حارت البريّة فيه ...».

ومنها إنّ في التّقديم تعجيل للمسرّة ، كما في قولك : سعد في دارك ، أو تعجيل للمساءة ، كما في قولك : السّفاح في دار صديقك.

فتحصّل من الجميع أنّ تأخير المسند عن المسند إليه إنّما هو لأهمّيّة تقديم المسند إليه لأصالته ، أو كون التّقديم فيه تشويق إلى آخر ما ذكرناه.

(٣) أي المسند ، وكان الأولى أن يقول : فلكون ذكره أهمّ ، ثمّ يفصّل أسباب الأهمّيّة على طبق بيان تقديم المسند إليه ، ومن أسباب التّقديم تخصيص المسند بالمسند إليه.

ومنها : اشتمال المسند إليه على ضمير المسند نحو : في الدّار صاحبها ، فإنّه لا يجوز صاحبها في الدّار ، وذلك للزوم عود الضّمير إلى المتأخر لفظا ورتبة.

ومنها : تضمّنه الاستفهام ، نحو : كيف زيد ، وأين عمرو ، ومتى الجواب.

٢١٨

أي لقصر (١) المسند إليه على المسند ، على ما حقّقناه في ضمير الفصل (٢) ، لأنّ معنى قولنا : تميمي أنا ، هو أنّه (٣) مقصور على التّميميّة لا يتجاوزها إلى القيسيّة [نحو : (لا فِيها غَوْلٌ)(١) (٤) أي بخلاف خمور الدّنيا] ، فإنّ فيها غولا.

______________________________________________________

(١) أي التّفسير إشارة إلى أنّ المراد من العبارة ما هو خلاف الظّاهر ، يعني معناها تخصيص المسند إليه بالمسند ، مع أنّ الظّاهر هو العكس ، فكان حق العبارة أن يقول : فلتخصيص المسند به ، لأنّ الباء غالبا إنّما تدخل على المقصور عليه ، وههنا دخلت على المقصور على خلاف الأصل.

وبعبارة أخرى إنّ العبارة وإن كانت بحسب المتفاهم العرفيّ ظاهرة في أنّ المسند مقصور ، والمسند إليه مقصور عليه ، لكن لم يرد منها هذا المعنى بل أريد منها عكس ذلك ، على ما جرى عليه اصطلاحهم من إدخالهم الباء على المقصور بعد الاختصاص.

(٢) من أنّ الباء تدخل على المقصور ، وهو الاستعمال الشّائع عندهم ، كما في قولهم : نخصّك بالعبادة ، أي نخصّ العبادة بك.

(٣) أي المتكلّم مقصور على التّميميّة لا يتجاوز المتكلّم التّميميّة إلى القيسيّة ، أي لا يتجاوز وصفه بنسبته إلى تميم إلى وصفه بنسبته إلى قيس ، نحو قولك : قائم زيد.

فمعناه أنّ زيدا مقصور على صفة القيام لا يتجاوزه إلى صفة القعود ، فهو من قصر الموصوف على الصّفة قصرا إضافيا.

(٤) أي ليس في خمور الجنة غول ، أي إذهاب العقل ، لأنّ الغول ما يتبع شرب الخمر من زوال العقل وغيره ، فعدم الغول مقصور على الكون في خمور الجنّة لا يتعدّاه إلى الكون في خمور الدّنيا ، فإنّ فيها غولا ، أي إذهاب العقل وصداع ، وقدّم الخبر ، أعني فيها لقصر المبتدأ عليه ، أعني غول. فإنّ عدم الغول قد قصر على الكينونة بفي خمور الجنة لا يتجاوزها إلى الكينونة بفي خمور الدّنيا ، فهو من قصر الموصوف قصرا إضافيّا ، بمعنى أنّ عدم الغول فيها بالإضافة إلى خمور الدّنيا ، وإليه أشار بقوله : «بخلاف خمور الدّنيا».

__________________

(١) سورة الصّافّات : ٤٧.

٢١٩

فإن قلت : (١) المسند هو الظّرف أعني فيها والمسند إليه ليس بمقصور عليه ، بل على جزء منه ، أعني الضّمير المجرور الرّاجع إلى خمور الجنّة.

(٢) المقصود أنّ عدم الغول مقصور على الاتّصاف بفي خمور الجنّة لا يتجاوزه (٣)

______________________________________________________

(١) وحاصل الإشكال والاعتراض : إنّ المثال المذكور لا يكون مطابقا للممثّل فإنّ الممثّل هو كون تقديم المسند مفيدا لقصر المسند إليه على المسند ، وليس القصر في الآية كذلك ، فإنّه من قبيل قصر المسند إليه على جزء المسند ، وهو الضّمير المجرور الرّاجع إلى خمور الجنّة ، بقرينة قوله : «بخلاف خمور الدّنيا» فإنّه ناطق على أنّ عدم الغول قد خصّص بخمور الجنّة ، بإزاء خمور الدّنيا ، فإنّ المقابل لخمور الدّنيا هو خمور الجنّة لا الكينونة في خمور الجنّة ، مع أنّ الممثّل هو قصر المسند إليه على الظّرف ، وهو مجموع الجارّ والمجرور لا الضّمير المجرور فقط.

(٢) وحاصل الجواب عن الاعتراض المذكور إنّ عبارة المصنّف وإن كانت ظاهرة في أنّ المقصور عليه هو خمور الجنّة إلّا أنّ هذا الظّاهر ليس بمراد له ، بل مراده بقرينة أنّ الممثّل قصر المسند إليه على المسند ، وأنّ الحكم الثّابت للظّرف إنّما يثبت له باعتبار متعلّقه ، أنّ عدم الغول مقصور على الحصول في خمور الجنّة والكينونة فيها ، فإذن لا مجال للاعتراض المذكور.

(٣) أي لا يتجاوز الاتّصاف ، أعني كونه في خمور الجنّة إلى الكون في خمور الدّنيا ، فالمقصور عليه حقيقة هو الصّفة ، أي الكون في خمور الجنّة ، ولا حاجة إلى ذكر الاتّصاف حينئذ ، فيكون من قصر الموصوف على الصّفة ، ويكون القصر إضافيّا ، أي لا يتجاوز عدم الغول بفي خمور الجنّة ، إلى كون عدم الغول في خمور الدّنيا ، وإن كان يتجاوز إلى غيره من المشروبات كاللّبن والعسل.

ثمّ قول الشّارح «أنّ عدم الغول ...» بيان لحاصل المعنى ، لا الإشارة إلى أنّ الآية قضيّة معدولة الموضوع ، لأنّ كلمة لا إذا جعلت جزء للموضوع لا يصحّ الفصل بينهما بالخبر ، وأنّه قد صرّح الشّارح في بحث المساواة بأنّ تقديم الخبر على المبتدأ في مثل في الدّار رجل ، لا يفيد الاختصاص لكونه مصحّحا لوقوع النّكرة مبتدأ ، ولا شكّ أنّه إذا كان قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) معدولة الموضوع كان تقديم الخبر فيه مصحّحا لوقوع النّكرة مبتدأ لكونها واقعة بعد النّفي ،

٢٢٠