دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

يعني أنّ العدول إلى المضارع في نحو : (وَلَوْ تَرى) إمّا لما ذكر (١) وإمّا لاستحضار صورة رؤية الكافرين موقوفين على النّار (٢) ، لأنّ المضارع ممّا يدلّ على الحال الحاضر الّذي من شأنه أن يشاهد ، كأنّه (٣) يستحضر بلفظ المضارع تلك الصّورة ليشاهدها (٤) السّامعون (٥) ولا يفعل ذلك إلّا في أمر يهتمّ بمشاهدته لغرابته أو فظاعته أو نحو ذلك (٦) [كما في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً)(١) (٧)]

______________________________________________________

لأنّا نقول : إنّ المصحّح لذلك هو الاستحضار ، لأنّ ما يجيء على خلاف الأصل لا بدّ فيه من نكتة ، والاستحضار في المقام نكتة ، كيف لو لم يكن الاستحضار مصحّحا لما أمكن التّصحيح بتنزيل الحالة المستقبلة منزلة الحالة الماضية ، إذ يهدم أساسر هذا التّنزيل بعد الإقدام على التّنزيل الثّاني ، أعني تنزيل الماضي التّأويلي منزلة الأمر الحالي للاستحضار ، فما ذكره الشّارح في محلّه ولا ينافي ما ذكره الرّضي رحمه‌الله من أنّه لم يثبت في كلامهم حكاية الحالة المستقبلة كما ثبتت حكاية الحالة الماضية ، وذلك لأنّ الاستحضار أثر التّنزيل والحكاية ولا يمكن انفكاكه عنهما ، ودعوى أنّ الاستحضار إنّما هو فيما لم يقع لا دليل عليها.

(١) أي تنزيل المضارع منزلة الماضي.

(٢) أي قائلين يا ليتنا نردّ ولا نكذب بآيات ربّنا.

(٣) أي الله تعالى.

(٤) أي الصّورة ، وحاصل الكلام إنّ المضارع في هذه الأمثلة على حقيقته لأنّ مضمونها إنّما يتحقّق في المستقبل ، لكن نزّل منزلة الماضي سعيا في قضاء حقّ ما دخلت لو وإذ وربّ وإنّما نزّل منزلته لكونه محقّق الوقوع ، أو يجعل كأنّه كان ماضيا ، ثمّ عبّر عنه بالمضارع استحضارا لصورته العجيبة تفخيما لشأنها ، وهو حكاية الحال الماضيّة.

(٥) أي السّامعون للفظ المضارع.

(٦) أي كالتّعجب ثمّ المراد بالغرابة النّدرة ، في مقابل الشّهرة.

(٧) والآية هكذا : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ). أي كما فعلنا هذا بالأرض الجدبة من إحيائها بالزّرع والنّبات ، ننشر الخلائق بعد موتهم ونحشرهم للجزاء من الثّواب والعقاب.

__________________

(١) سورة فاطر : ١٠.

١٨١

بلفظ (١) المضارع بعد قوله تعالى : (الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) [استحضارا لتلك الصّورة البديعة الدالّة على القدرة الباهرة (٢)] يعني إثارة صورة السّحاب (٣) مسخّرا بين السّماء والأرض على الكيفيّات المخصوصة والانقلابات المتفاوتة (٤). [وأما تنكيره] أي تنكير المسند [فلإرادة (٥) عدم الحصر

______________________________________________________

والشاهد فيه : قوله تعالى : (فَتُثِيرُ) حيث إنّ مقتضى الظّاهر كان التّعبير بالماضي ، أعني أثارت ، لأنّه قد عبّر عن الإرسال بالماضي قبله حيث قال : (أَرْسَلَ الرِّياحَ ،) وعن السّوق به بعده حيث قال : (فَسُقْناهُ) والمناسب أن يقال : أثارت لكن عدل عنه إلى المضارع استحضارا لصورة الإثارة البديعة.

(١) أي قال : تثير ، في موضع أثارت قصدا لإحضار تلك الصّورة لدلالة المضارع على الحضور في الجملة ، وإنّما قصد ذلك ، لأنّ النّفس تتسارع إلى إحضار الأمر العجيب وتسرّ به وتتوصل به بما أمكن.

(٢) أي الغالبة على كلّ قدرة.

(٣) أي صورة إثارة الله السّحاب بالرّياح ، فإسناد الإثارة إلى الرّياح في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ) مجاز عقليّ ، ومن قبيل الإسناد إلى السّبب.

(٤) عطف تفسير للكيفيّات المخصوصة من كونه متّصل الأجزاء ، أو منقطعها متراكما أو غير متراكم بطيئا أو سريعا غليظا أو رقيقا ملونا بلون البياض ، أو الحمرة أو السّواد متحرّكا إلى اليمين أو اليسار ، أو الشّمال أو الجنوب ، أو الفوق أو التّحت ، وبالجملة إنّ الصّورة البديعة السّحابيّة هي بروز قطع السّحاب من حواشي الأفق حتّى تملئ دائرة السّماء بسير وتجمع واتّصال بعض ببعض على كيفيّة مخصوصة.

(٥) أي فلإرادة المتكلّم إفادة السّامع عدم حصر المسند في المسند إليه ، وعدم العهد والتّعيين في المسند حيث يقتضي المقام ذلك.

لم يقل : أما تنكيره فلعدم إرادة الحصر والعهد ، لأنّ عدم الإرادة ليس مقتضيا لشيء ، وإنّما المقتضي والمؤثّر هو الإرادة سواء كانت متعلّقة بالوجود أو بالعدم.

لا يقال : إنّ تعليل تنكير المسند بإرادة عدم الحصر والعهد عليل ، لأنّ إرادة عدم الحصر والعهد يمكن مع التّعريف ، لأنّه قد يكون لغير الحصر والعهد ، كقولك : أنت البطل المحاميّ ،

١٨٢

والعهد (١)] الدّال عليهما التّعريف (٢) [كقولك : زيد كاتب وعمرو شاعر (٣) ، أو للتّفخيم (٤) نحو : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)] بناء على أنّه (٥)

______________________________________________________

فهذه النّكتة لا تختصّ بالتّنكير.

لأنّا نقول : إنّ ذلك لا يضرّ ، لأنّه لا يجب في النّكتة الانعكاس ، فإنّ الاطّراد والانعكاس غير لازم فيما عدا التّعريفات ، فعدم انعكاس النّكتة المذكورة في كلامه لا ضير فيه ، ويجوزان تجعل سببا للتّنكير ، وإن أمكن حصولها بغيره أيضا.

(١) أي إرادة عدم عهد المسند ، وذلك بأن يكون المراد بالمسند وصفا غير معهود.

قيل : عدم الحصر يقتضي عدم العهد ، لأنّ المعهود معيّن شخصيّ ومن حمل المعيّن الشّخصيّ على شيء يلزم الحصر ، فذكره بعد عدم الحصر لغو.

(٢) أي تعريف المسند بدخول اللّام ، غاية الأمر إنّ العهد مستفاد من تعريف المسند بلام العهد ، أو الإضافة العهديّة ، والحصر مستفاد من تعريفه بلام الجنس على ما سيجيء من أنّ تعريف المسند بأل الجنسيّة يفيد حصره في المسند إليه.

(٣) أي فإنّ المراد مجرد الإخبار بالكتابة والشّعر ، لا حصرهما في زيد وعمرو ، ولا إفادة أنّهما معهودين ، ثمّ المراد بالكاتب من يلقي الكلام نثرا بقرينة أنّه ذكر في مقابل الشّاعر ، والمراد بالشّاعر من يلقي الكلام نظما.

(٤) أي للتّعظيم أي لدلالة تنكير المسند على أنّه بلغ من الفخامة والعظمة مرتبة لا يمكن إدراك كنهه وحقيقته ، ويكون متقمّصا بقميص الإبهام والنّكارة.

ولا ريب أنّ إفادة مثل هذه العظمة خارجة عن نطاق المعرفة ، فالمراد من التّفخيم هو التّفخيم على وجه مخصوص ، فلا يرد ما قيل : من أنّ التّفخيم يمكن حصوله بالتّعريف بأن يجعل المعهود هو الفرد المعظّم على أنّ حصول التّفخيم مع التّعريف لا يضرّ ، لأنّ النّكتة لا يجب انعكاسها

(٥) أي (هُدىً).

١٨٣

خبر مبتدأ محذوف (١) أو خبر (٢) (ذلِكَ الْكِتابُ) [أو للتّحقير (٣)] نحو : ما زيد شيئا (٤).

[وأمّا تخصيصه] أي المسند [بالإضافة] نحو : زيد غلام (٥) رجل [أو الوصف] نحو : زيد رجل (٦) عالم [فلكون الفائدة أتمّ].

______________________________________________________

(١) أي هو هدى ، أي هداية فخيمة عظيمة لهم.

وإنّما قال : «على أنّه خبر مبتدأ محذوف» ، لأنّه يحتمل أن يكون منصوبا على الحاليّة ، وأن يكون مرفوعا مبتدأ ، وفيه خبر مقدّما عليه لتنكيره وخبر (لا رَيْبَ فِيهِ) محذوف ، والتّقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وكيف كان فالتّمثيل بالآية لتنكير المسند للتّفخيم ، بناء على أن يكون (هُدىً) خبرا ، وأمّا إن أعرب حالا من الكتاب فهو خارج عن باب المسند الذّي كلامنا فيه ، وإن كان التّنكير فيه للتّفخيم والتّعظيم أيضا.

(٢) أي خبر ثان ل (ذلِكَ الْكِتابُ ،) وخبره الأوّل قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ ،) ويكون (الْكِتابُ) نعتا لذلك ، فالتّنكير في (هُدىً) حينئذ للدّلالة على فخامة هداية الكتاب وكمالها ، وقد أكّد ذلك التّفخيم بكونه مصدرا مخبرا به عن (الْكِتابُ ،) حيث إنّه يفيد أنّ (الْكِتابُ) لمكان كماله في الهداية أصبح نفس الهداية.

(٣) أي فلإظهار حقارة المسند ، وانحطاط شأنه.

(٤) أي ليس شيئا يعتنى به ليعرف ، وكان الأولى أن يمثّل بنحو الحاصل لي من هذا المال شيء ، أي حقير ، لأنّ التّحقير في المثال المذكور لم يستفد من التّنكير ، بل إنّما استفيد من نفي الشّيئيّة ، إذ المعنى إنّ زيدا ملحق بالمعدومات ، فليس شيئا حقيرا ، فضلا عن أن يكون شيئا عظيما.

(٥) أي في التّمثيل المذكور إشارة إلى أنّ التّخصيص إنّما يجري في إضافة النّكرة إلى النّكرة ، لا في إضافة النّكرة إلى المعرفة ، ثمّ هذا أولى من تمثيل السّكاكي بزيد ضارب غلامه ، لأنّ الإضافة في هذا التّمثيل لفظيّة فتفيد التّخفيف دون التّخصيص.

(٦) كان الأولى أن يمثل بنحو : زيد شاعر متهوّر ، لأنّ الوصف في نحو : زيد رجل عالم ، محصل لأصل الفائدة ، فلا مجال لجعله سببا لأتمّيّة الفائدة ، اللهم إلّا أن يقال : إنّ التّمثيل به مبنيّ على أنّه قد يكون كلاما مع من يتوهّم أنّ زيدا لم يبلغ أوان الرّجوليّة ، وأنّه صبي بعد ، أو مع من يتوهّم أنّه اسم امرأة ، والحاصل إنّ إتيان المسند مخصّصا بالإضافة ، أو الوصف إنّما

١٨٤

لما مرّ (١) من أنّ زيادة الخصوص توجب أتمّيّة الفائدة (٢) واعلم (٣) أنّ جعل معمولات المسند كالحال ونحوه من المقيّدات ، وجعل الإضافة والوصف من المخصّصات إنّما هو مجرد اصطلاح (٤).

______________________________________________________

هو لإتمام الفائدة.

وليعلم أنّ المراد من التّخصيص ههنا ما هو المراد عند النّحاة ، أعني تقليل الاشتراك الحاصل في النّكرات ، فإنّ غلام في المثال الأوّل ، ورجل في المثال الثّاني كان بحسب الوضع محتملا لكلّ فرد من أفراد الغلمان والرّجال ، فلمّا أضفت في الأوّل ، أتيت بالوصف في الثّاني قلّلت ذلك الاشتراك والاحتمال ، وخصّصت الغلام والرّجل ببعض من الأفراد أعني غلام رجل ، ورجل عالم.

(١) أي في أوّل بحث تعريف المسند إليه ، ثمّ من في قوله : «من أنّ زيادة ...» بيان لما في قوله : «لما مرّ».

(٢) وذلك لأنّ احتمال تحقّق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أتمّ وأقوى وأكمل ، وكلّما ازداد المسند إليه والمسند تخصّصا ازداد الحكم بعدا.

(٣) قوله : «واعلم أنّ جعل ...» جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره : إنّ المصنّف لم قال فيما تقدّم في الإتيان مع المسند ببعض معمولاته ، كالحال والمفعول به والتّمييز ، قال : «وأمّا تقييده بالمفعول ونحوه» ، وقال : في الإتيان مع المسند بالمضاف إليه والوصف ، وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف ، مع أنّ مقتضى تسمية مجموع المضاف والمضاف إليه ، ومجموع الموصوف والصّفة مركّبا تقييديّا أن يجعل الوصف والإضافة من المقيّدات كالمفعول ونحوه.

وحاصل الجواب إنّ هذا اصطلاح محض خال عن المناسبة ، ومجرّد عن داع وغرض ، ولو اصطلح على العكس بأن جعل معمولات الفعل من المخصّصات ، والإضافة والوصف من المقيّدات لكان صحيحا.

(٤) أي اصطلاح مجرّد من المناسبة ، ولا ضير في أن يصطلح على شيء من دون ملاحظة مناسبة أصلا ، إذ كما يصحّ أن يعين بعض الألفاظ بإزاء بعض المعاني من دون أن يراعى هناك مناسبة في اللّغات ، كذلك يصحّ أن يصطلح على شيء من دون ملاحظة مناسبة ، وإن كان الغالب فيه رعاية المناسبات وملاحظة المرجّحات ، وإن شئت فقل : إنّه لا فرق بين التّخصيص

١٨٥

وقيل : (١) لأنّ التّخصيص عبارة عن نقض الشّيوع (٢) ولا شيوع للفعل ، لأنّه إنّما يدلّ على مجرّد المفهوم (٣) والحال (٤) تقيّده ، والوصف (٥) يجيء في الاسم الّذي فيه الشّيوع فيخصّصه.

______________________________________________________

والتّقييد لبا فكما أنّ التّخصيص مقلّل للأفراد ، كذلك التّقييد ، إذ التّخصيص معناه تضييق دائرة العموم ، وتقليل أفراد العامّ ، والتّقييد معناه تضييق دائرة الإطلاق ، ومنع سيلانه في الأفراد كالرّقبة والرّقبة المؤمنة.

(١) ومراده إنّ ما ارتكبه المصنّف ليس مجرّد اصطلاح ، بل اصطلاح مبنيّ على المناسبة والدّاعي والمقتضي.

(٢) أي العموم.

(٣) أي الماهية المطلقة ، وهو الحدث ، والمطلق لا يكون فيه التّخصيص ، وإنّما يكون فيه التّقييد بالمعمولات. وبعبارة واضحة إنّ الفعل إنّما يدلّ على الماهية المطلقة ، أي طبيعيّ الحدث من دون الإشارة إلى أفراده على نحو العموم ، أو الخصوص ، والاسم الّذي يذكر له وصف ، أو يضاف إلى شيء يدلّ على العموم ، أي شمول أفراد مدلوله ، واستغراقها لو لا الإضافة والتّوصيف ، ولا ريب أنّ المطلق يقابله المقيّد ، والعامّ يقابله الخاصّ ، فالمناسب للفعل أن يسمّى معموله مقيّدا ، والمناسب للاسم أن يسمّى ما يذكر بعده من المضاف إليه ، والنّعت مخصّصا.

فمعنى دلالة الفعل على مجرّد المفهوم ، أي بلا اعتبار الأفراد والأنواع ، فيكون مطلقا كضرب ، حيث إنّه يدلّ على مجرّد الضّرب.

(٤) أي إنّ الفعل وإن كان يدلّ على مجرّد المفهوم ، ولكنّ الحال ونحوها من سائر المعمولات» تقيّده» ، ولهذا جعلت من المقيّدات دون المخصّصات.

(٥) أي وأمّا الوصف والإضافة فهو يجيء في الاسم فيه العموم والاشتراك بين كثيرين» فيخصّصه» ويقلّل اشتراكه ، فظهر المرجّح والمناسبة في المقامين ، وليس ما ارتكبه المصنّف مجرّد اصطلاح خال عن المناسبة.

١٨٦

وفيه نظر (١) [وأمّا تركه] أي ترك تخصيص المسند بالإضافة أو الوصف [فظاهر ممّا سبق (٢)] في ترك تقييد المسند لمانع من تربية الفائدة ، [وأما تعريفه (٣) فلإفادة السّامع حكما على أمر معلوم له (٤) بإحدى طرق التّعريف] يعني أنّه يجب عند تعريف المسند تعريف

______________________________________________________

(١) أي فيما قيل في بيان المرجّح والمناسبة نظر وإشكال ، حاصله : إنّ هذا القائل إن أراد بالشّيوع العموم الاستغراقي ، فهو منتف في النّكرة الواقعة في كلام موجب ، فيلزم أن لا يكون وصفها مخصّصا ، وليس الأمر كذلك ، فإنّهم لم يفرّقوا في تسميّة الوصف بالمخصّص ، بين ما يكون وصفا للنّكرة الواقعة في السّالبة ، وما يكون وصفا للنّكرة الواقعة في الموجبة.

وإن أراد به العموم البدلي فهو موجود في الفعل أيضا ، فلازم ذلك أن يسمّى ما يذكر معه من معمولاته أيضا مخصّصا ، فإذا لا بدّ من الالتزام بأنّ ما ارتكبه المصنّف مجرّد اصطلاح خال عن ملاحظة المناسبة.

وأجيب عن ذلك باختيار الشّق الأوّل ، أعني العموم الشّمولي ، وإنّ الاسم لمّا كان يوجد فيه العموم الشّمولي ، كما في النّكرة الواقعة في سياق النّفي ناسبه التّخصيص الّذي هو نقض الشّيوع ، أي العموم الشّمولي ، بخلاف الفعل ، فإنّه لمّا لم يوجد فيه باعتبار ذاته عموم ، وإنّما يدلّ على معنى مطلق ناسب فيه التّقييد.

(٢) أي وأمّا تركه فتعليله وسببه ظاهر من الكلام الّذي سبق في بيان السّبب في ترك تقييد المسند بالحال ، أو المفعول ، أو نحو ذلك ، وهو وجود مانع من تربية الفائدة ، أي تكثيرها كالجهل بما يتخصّص به من وصف ، أو إضافة مثلا تقول : هذا غلام ، ولا تقول : هذا غلام فلأنّ ، لعدم العلم بمن ينسب إليه ، وكقصد الإخفاء عن السّامعين ، وإرادة أن لا يطّلعوا على زمان الفعل ، أو مكانه ، أو مفعوله ، لئلّا يهان أو يكرم بتلك النّسبة ، ومن الموانع خوف انقضاء الفرصة.

(٣) أي تعريف المسند» فلإفادة» المتكلّم» السّامع حكما على أمر» ، أي على شيء وهو المسند إليه.

(٤) أي للسّامع» بإحدى طرق التّعريف» ، والظّرف متعلّق بمعلوم ، والمراد بطرق التّعريف هي الطّرق السّتة : العلميّة ، الإضمار ، الإشارة ، التّعريف بالإضافة ، التّعريف باللّام ، الموصوليّة.

ومعنى العبارة : وأمّا الإتيان بالمسند معرّفا فلإفادة المتكلّم السّامع حكما على مسند إليه

١٨٧

المسند إليه ، إذ (١) ليس في كلامهم مسند إليه نكرة ، ومسند معرفة في الجملة الخبريّة (٢) [بآخر مثله] أي حكما على أمر معلوم بأمر آخر مثله ، في كونه معلوما للسّامع بإحدى طرق التّعريف ، سواء اتّحد (٣) الطّريقان نحو : الرّاكب هو المنطلق ، أو اختلفا ، نحو : زيد هو المنطلق [أو لازم (٤) حكم] عطف على حكما [كذلك] أي على أمر معلوم

______________________________________________________

معلوم للسّامع بإحدى طرق التّعريف السّتة.

(١) علّة ليجب في قوله : «يجب ...» ، ثمّ الوجوب مأخوذ من اقتصار المصنّف على هذه النّكتة ، أعني الإفادة المذكورة ، ومن المعلوم أنّ الاقتصار في مقام البيان يقتضي الحصر.

(٢) أتى بهذا القيد للاحتراز عن الجملة الإنشائيّة ، نحو : من أبوك؟ وكم درهما مالك؟ ومثلهما جملة الصّفة في نحو : مررت برجل أفضل منه أبوه ، فإنّ سيبويه يجوّز الإخبار بالمعرفة عن النّكرة المتضمّنة للاستفهام أو أفعل التّفضيل في جملة هي صفة ، وغيره يجعل النّكرة وأفعل التّفضيل خبرين مقدّمين ، وكان على الشّارح أن يقيّد الجملة الخبريّة بالمستقلّة بالإفادة ، ليخرج نحو : مررت برجل أفضل منه أبوه ، فإنّ أفضل منه أبوه وإن كانت جملة خبريّة إلّا أنّها ليست مستقلّة بالإفادة ، لعدم كونها مقصودة بالذّات ، هذا كلّه بناء على مقالة سيبويه ، وأمّا بناء على ما ذهب إليه الرّضي ، وجلّ من المحقّقين فلا حاجة إلى التّقييد.

(٣) هذا إشارة إلى أنّ مراد المصنّف من المماثلة هي المماثلة في مطلق التّعريف لا في نوع خاصّ منه ، حيث إنّ طريق التّعريف في كلّ من المسند إليه والمسند واحد في المثال الأوّل ، وهو التّعريف باللّام ، ومختلف في المثال الثّاني حيث يكون التّعريف في المسند إليه العلميّة ، وفي المسند اللّام. ثمّ قوله : «بآخر ...» إشارة إلى اعتبار المغايرة بين المسند إليه والمسند ، إمّا بحسب المفهوم كما في الحمل الشّائع الصّناعي ، وإمّا بحسب الإجمال والتّفصيل كما في الحمل الذّاتي الأوّلي.

(٤) المراد به لازم فائدة الخبر ، أعني كون المخبر عالما بالحكم ، توضيح ذلك : إنّ السّامع إذا لم يكن مسبوقا بالخبر الّذي أبداه المتكلّم ، فقد أفاد المتكلّم في هذه الصّورة مخاطبه حكما على أمر معلوم له بإحدى طرق التّعريف بأمر آخر مثله في أصل التّعريف ، وإن كان مسبوقا به ، فقد أفاد في هذه الصّورة له لازم الحكم الّذي أجراه على أمر معلوم بآخر مثله ، وهو كونه عالما به كما تقول لمن مدحك أمس في غيبتك : أنت المادح لي أمس ، فتقصد بهذا

١٨٨

بآخر مثله ، وفي هذا (١) تنبيه على أنّ كون المبتدأ والخبر معلومين لا ينافي إفادة الكلام للسّامع فائدة (٢) مجهولة ، لأنّ (٣) العلم بنفس المبتدأ والخبر لا يستلزم العلم بإسناد أحدهما إلى الآخر (٤)

______________________________________________________

إخبارك بأنّك عالم بمدحه لك أمس. وإذا فرضنا المخاطب عالما بالحكم المثبت في الأمثلة المذكورة جاهلا بعلمك كانت الأمثلة المذكورة لإفادة لازم الحكم.

(١) أي قول المصنّف أي» وأما تعريفه ...» تنبيه على عدم التّنافي بين كون المبتدأ والخبر معلومين ، وبين إفادة الكلام للسّامع فائدة مجهولة وهي الحكم أو لازمه ، فهذا الكلام من الشّارح دفع لشبهة التّنافي ، فلابدّ أوّلا من بيان التّنافي ، وثانيا من توضيح الدّفع.

وأمّا بيان التّنافي ، فلأنّه لا فائدة في الحكم على الشّيء بالمعرفة ، لأنّه من قبيل إفادة المعلوم وهي خلاف الفرض ، لأنّ المفروض إفادة الكلام للسّامع فائدة مجهولة.

وأمّا بيان الدّفع ، وتوضيح ذلك فنقول : إنّه كما أنّ الكلام إذا كان مختلف الجزأين بأن يكون المبتدأ معرفة والخبر نكرة ، قد يفيد الحكم ، وقد يفيد لازم الحكم ، كذلك إذا كان معلوم الجزأين فلا مجال لما يتخيّل من أنّه لا فائدة في الحكم على الشّيء بالمعرفة ، لأنّه من قبيل إفادة المعلوم.

(٢) أي أعمّ من أن تكون فائدة الحكم أو لازمه.

(٣) علّة لعدم التّنافي المستفاد من قوله : «لا ينافي».

(٤) أي العلم بالمبتدأ والخبر لا يستلزم العلم بانتساب أحدهما إلى الآخر ، ألا ترى أنّك أنّ الشّخص الفلاني يسمّى بزيد مثلا ، وأنّ لك أخا إلّا أنّك لا تعلم بأنّ زيدا هو أخوك ، وكذا تعلم أنّ الشّخص الفلاني يسمّى بعمرو ، وأنّ في البلد رجلا موصوفا بالانطلاق ، ولكن لا تعلم أنّ الموصوف بذلك الانطلاق هو المسمّى بعمرو ، فإذا ألقي إليك الكلام المعلوم بجزأيه تعلم ذلك.

١٨٩

[نحو : زيد أخوك وعمرو (١) المنطلق] ، حال كون (٢) المنطلق معرّفا [باعتبار تعريف العهد أو الجنس (٣)]

______________________________________________________

(١) أي كلّا من المثالين صالح لأن يكون مفيدا لنفس الحكم ، وأن يكون مفيدا للازمه ، إذ لو كان المخاطب يعرف زيدا باسمه وعينه ، ويعرف أنّه أخوه لكان قولك : زيدا أخوك ، مفيدا له لازم الحكم ، أي كونك عالما بثبوت الأخوّة لزيد ، ولو كان يعرف زيدا باسمه وعينه ولكن لا يعرف أنّ زيدا موصوف بكونه أخا له ، ويحتمل أن يكون المعنون بعنوان الأخوّة المعلوم له غيره ، لكان قولك : زيد أخوك ، مفيدا له نفس الحكم ، وكذلك قولك : عمرو المنطلق ، لو كان المخاطب يعرف عمرا باسمه وعينه ، ويعرف أنّه المنطلق ، لكان قولك : عمرو المنطلق ، مفيدا له لازم الحكم ، وأمّا لو لم يعرف أنّه موصوف بالانطلاق ، ويحتمل أن يكون المعنون بعنوان الانطلاق المعلوم له غيره ، لكان قولك : عمرو المنطلق ، مفيدا له نفس الحكم.

(٢) إشارة إلى أنّ قوله : باعتبار تعريف العهد أو الجنس متعلّق بمحذوف حال من المنطلق.

(٣) أي لا غيرهما من أقسام معنى اللّام ، وإنّما خصّ قوله : «باعتبار العهد أو الجنس» بالمثال الثّاني دون الأوّل ، مع إمكان جريانه في المثال الأوّل ، لأنّ المضاف ينقسم انقسام ذي اللّام ، لأنّ الأصل في الإضافة اعتبار العهد لا غير ، فالاشتراط فيه شبيه بتحصيل الحاصل إذ يكون المعرّف بالإضافة معهودا قبل الإضافة.

ثمّ المراد بالعهد العهد الخارجي الجامع بين الحضوري والعلمي والذّكريّ ، بأن تكون اللّام إشارة إلى شخص معيّن في الخارج ، ثابت له الانطلاق ، وإن لم يكن معلوما للمخاطب بعينه وشخصه ، كما إذا عرف عمرا باسمه وشخصه ، وعرف أنّ شخصا معيّنا ثبت له الانطلاق ، ولا يعلم أنّه هو عمرو ، فتقول له : عمرو المنطلق ، والمراد بالجنس الحقيقة التّي يعرفها المخاطب ، فإذا قيل : عمرو المنطلق ، لمن يعرف عمرا باسمه وشخصه ، ويعرف مفهوم المنطلق ، ولكن لا يعلم هل هذا المفهوم والماهية ثابت لعمرو أو لا؟

كانت اللام مشارا بها إلى الحقيقة التّي يعرفها السّامع والمخاطب ، وكان المعنى الشّخصيّ المعلوم المسمّى بعمرو ثبتت له حقيقة الانطلاق.

والحاصل أنّك تقول : عمرو المنطلق ، باعتبار تعريف العهد لمن يعلم أنّ إنسانا يسمّى

١٩٠

وظاهر لفظ الكتاب (١) أنّ نحو : زيد أخوك ، إنّما يقال لمن يعرف أنّ له أخا والمذكور (٢) في الإيضاح أنّه يقال : لمن يعرف زيدا بنفسه ، سواء كان يعرف أنّ له أخا أم لم يعرف (٣). ووجه التّوفيق (٤) ما ذكره بعض (٥) المحقّقين من النّحاة أنّ أصل وضع تعريف

______________________________________________________

بعمرو ، ويعلم أيضا أنّ شخصا معيّنا ثبت له الانطلاق ، ولكن لا يعلم أنّه عمرو ، وباعتبار تعريف الجنس لمن يعلم ماهية المنطلق من حيث هي ، ولا يعلم هل هي متحقّقة للذّات المسمّاة بعمرو أم لا؟

(١) أي المتن ، وهو كلام المصنّف ، أي حكما على أمر معلوم بآخر مثله» إنّ نحو : زيد أخوك ، إنّما يقال لمن يعرف أنّ له أخا» أي على الإجمال ، أي ويعرف زيدا بعينه ، ولا يعرف أنّ تلك الذّات المسمّاة بزيد هي المتّصفة بالأخوّة ، أي لا يعلم أنّ زيدا هو أخوه.

(٢) إشارة إلى المخالفة والتّناقض بين ما ذكره المصنّف هنا ، وما ذكره في الإيضاح ، مع أنّ الإيضاح كالشّرح لهذا المتن ، وحاصل التّناقض : إنّ ظاهر لفظ الكتاب هنا هو مجيء المعرّف بالإضافة لمعيّن ، فقولك : زيد أخوك ، إنّما يقال لمن يعرف أنّ له أخا ، والمذكور في الإيضاح أنّ نحو : زيد أخوك ، يقال لمن لم يعرف أنّ له أخا ، فظاهر الإيضاح مجيء المعرّف بالإضافة لغير معيّن ، ومن البديهي أنّ التّناقض بين الكلامين أظهر من الشّمس.

(٣) أي هذا هو محلّ النّزاع وموجب للتّناقض.

(٤) أي بين المتن والإيضاح.

(٥) أي الشّيخ الرّضي رحمه‌الله ، وملخّص ما يستفاد من كلام نجم الأئمة المحقّق الرّضي رحمه‌الله أنّ الإضافة موضوعة لمعهود معيّن ، وقد تستعمل لغير معهود معيّن ، وبه يرتفع التّناقض المتخيّل بين المتن والإيضاح ، فإنّ لفظ الكتاب والمتن هنا حيث قال : «وأمّا تعريفه» إلى قوله : «بآخر مثله» ناظر إلى أصل وضع الإضافة ، وما في الإيضاح ناظر إلى خلاف الأصل في الوضع.

١٩١

الإضافة على اعتبار العهد (١) ، وإلّا (٢) لم يبق فرق بين غلام زيد ، وغلام لزيد فلم (٣) يكن أحدهما معرفة والآخر نكرة ، لكن كثيرا ما يقال : جاءني غلام زيد ، من غير إشارة إلى معيّن كالمعرف باللّام (٤) ، وهو (٥) خلاف وضع الإضافة ، فما في (٦) الكتاب ناظر

______________________________________________________

(١) أي العهد الخارجي بأن يكون معنى غلام زيد هو الغلام المعيّن من غلمانه ، ويعرفه المخاطب باعتبار كونه معهودا بينه وبين المتكلّم.

(٢) أي وإن لم يكن أصل وضع تعريف الإضافة على اعتبار العهد لم يتحقّق الفرق بين غلام زيد بالإضافة ، وغلام لزيد بدونها ، فكما أنّ معنى غلام لزيد غير معيّن ، كذلك معنى غلام زيد مع أنّ كون الأوّل نكرة ، والثّاني معرفة ، لا يخفى على أحد ، فلو كان المعنى الأوّل مساويا للمعنى الثّاني لكان الحكم بتعريف الثّاني دون الأوّل تحكّما محضا.

(٣) تفريع على النّفي ، أي وإذا انتفى الفرق بينهما لم يكن أحدهما معرفة والآخر نكرة ، والتّالي باطل فالمقدّم مثله ، لأنّ المراد من الأوّل هو الغلام المعيّن المعهود ، ومن الثّاني هو الغلام الغير المعيّن ، أي غلام ما ، فيكون الأوّل معرفة والثّاني نكرة.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ غلام زيد وإن كان بحسب أصل وضع الإضافة لغلام معهود باعتبار تلك النّسبة المخصوصة ، حتّى لو كان له غلمان ، فلابدّ أن يشار به إلى غلام له مزيد خصوصيّة بزيد ، لكونه أعظم غلمانه ، وأشهرهم بكونه غلاما له ، أو لكونه معهودا بين المتكلّم والمخاطب ، لكن قد يقال : جاءني غلام زيد ، من غير إشارة إلى واحد معيّن ، كما أنّ ذا اللّام في أصل الوضع لواحد معيّن ، ثمّ يستعمل بلا إشارةإلى واحد معيّن ، كما في قوله : «ولقد أمر على اللّئيم يسبّني» فيكون ذلك على خلاف وضعه.

(٤) أي كما أنّ المعرف باللّام موضوع في أصل الوضع للعهد الخارجي ، أي المعيّن ثمّ قد تستعمل في العهد الذّهني الّذي هو في الحقيقة نكرة ، كما مرّ في قوله : (ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني).

(٥) أي مجيء المعرف بالإضافة لغير معيّن خلاف وضع الإضافة ، وبعبارة أخرى القول بعدم كون الإضافة إشارة إلى معيّن خلاف وضع الإضافة.

(٦) أي كون الإضافة للعهد الخارجي ناظر إلى أصل الوضع ، فنحو : زيد أخوك ، إنّما يقال لمن سبقت له معرفة بأنّ له أخا ، فيشار إليه بعهد الإضافة ، فالمراد من أصل الوضع كون المضاف معرفة باعتبار العهد.

١٩٢

إلى أصل الوضع ، وما في الإيضاح إلى خلافه (١) [وعكسهما] أي (٢) ونحو عكس المثالين المذكورين ، وهو أخوك زيد ، والمنطلق عمرو ، والضّابط في التّقديم (٣) أنّه إذا كان للشّيء صفتان من صفات (٤) التّعريف ، وعرف السّامع اتّصافه (٥) بإحداهما

______________________________________________________

(١) أي ناظر إلى خلاف الأصل من التّنكير العارض فنحو : زيد أخوك ، يقال لمن يعرف زيدا ، ولا يعرف أنّ له أخا.

(٢) أي التّفسير ، للإشارة إلى أنّ قوله : عكسهما عطف على ما أضيف إليه ، نحو : زيد أخوك ، وعمرو المنطلق ، فعكسهما هو أخوك زيد ، والمنطلق عمرو.

(٣) أي في تقديم كلّ واحد من المعرفتين ، وهذا الضّابط دفع لما يتوهّم من قول المصنّف «وعكسهما» ، من أنّه إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين فللمتكلّم أن يقدّم أيّهما شاء ، فلا يتميّز المبتدأ من الخبر.

وحاصل الدّفع أنّه يجعل المتقدّم منهما مبتدأ والمتأخر خبرا ، ومن هذا الضّابط يعلم سرّ قول النّحاة إذا كانا معرفتين وجب تقديم المبتدأ منهما.

وقيل : إنّ هذا الضّابط قاصر ، لأنّه لم يبيّن ما إذا عرف المخاطب كلّا من الصّفتين للذّات ، ولم يعرف أنّ الذّات متّحدة فيهما ، كما إذا عرف المخاطب أنّ له أخا ، وعرف زيدا بعينه أنّ زيدا وأخاه متّحدان ، فيريد أن تفيده ذلك الاتّحاد ، فأنت حينئذ بالخيار فاجعل أيّهما شئت مسندا إليه.

(٤) إضافة صفات إلى التّعريف لأدنى ملابسة ، وضمير» أنّه» للشّأن ، ومعنى العبارة : الضّابط في تقديم أحد الاسمين المعرفتين الّذين يصلح كلّ واحد منهما للمبتدئيّة إذا كان للشّيء صفتان معلومتان من صفات التّعريف السّتّ كالعلميّة والإضافة في قولك زيد أخوك ، هو تقديم ما يعرف السّامع اتّصاف الذّاتّ به دون ما لم يعرف اتّصافها به من الصّفة الأخرى ، والتّفصيل في كلام الشّارح.

(٥) أي عرف السّامع اتّصاف الشّيء بإحدى الصّفتين دون الصّفة الأخرى ، والحاصل : إنّ السّامع على كلّ تقدير يعرف أنّ له أخا ، ويعرف الاسم ويعرف الذّاتّ بعينها لكن تارة يعلم اتّصاف تلك الذّاتّ بذلك الاسم ، ويجعل اتّصافها بالأخوّة ، وتارة بالعكس ، فعلى الأوّل يجب تقديم الاسم وجعله مبتدأ ، وعلى الثّاني بالعكس ، فعلى الأوّل يجب أن يقال : زيد أخوك ، وعلى الثّاني يجب أن يقال : أخوك زيد.

١٩٣

دون الأخرى ، فأيّهما (١) كان بحيث يعرف السّامع اتّصاف الذّات به ، وهو (٢) كالطّالب بحسب زعمك أن تحكم عليه (٣) بالآخر يجب أن تقدّم اللّفظ الدّال عليه (٤) ، وتجعله (٥) مبتدأ ، وأيّهما (٦) كان بحيث يجهل اتّصاف الذّاتّ به ، وهو كالطّالب بحسب زعمك أن تحكم بثبوته (٧) للذّات أو انتفائه عنه يجب أن تؤخّر اللّفظ الدّال عليه وتجعله خبرا ،

______________________________________________________

(١) أي الصّفتين اللّتين لذات واحدة ، أي شرطيّة جوابها ، قوله : «يجب أن تقدّم اللّفظ الدّالّ عليه ...» وكان الأولى أن يقول الشّارح : فأيّهما مراعاة لصفتين ، إلّا أن يقال : إنّ الضّمير في قوله : «فأيّهما» يعود إلى الوصفين ، أي فأيّ الوصفين.

(٢) أي حال كون السّامع» كالطّالب بحسب زعمك» أي ظنّك وفهمك ، وإن لم يكن كذلك في الواقع.

(٣) أي السّامع كالطّالب أن تحكم أنت على الذّاتّ الّذي يعرف السّامع اتّصافه بأحد الوصفين» بالآخر» أي الوصف الّذي لا يعرف اتّصافه به.

(٤) أي على الوصف الّذي يعرف السّامع اتّصاف الذّات به.

(٥) أي أنت تجعل الوصف الّذي يعرف السّامع اتّصاف الذّات به ... مبتدأ.

(٦) أي الوضعين» كان بحيث» ، أي كان بحالة يجهل السّامع اتّصاف الذّاتّ به ، وقد روعي في الإتيان بكلمة «حيث» مجرورة بالباء في الموردين ، قول من يقول بتصرّفها ، فتكون من هذه الجهة غير خارجة عن أصلها. نعم تكون جائية على خلاف أصلها ، من جهة أنّ المراد بها الحالة لا المكان الّذي وضعت بإزائه لغة ، ولا ضير في ذلك من جهة وجود العلاقة بينهما حيث إنّ الحالة تشابه المكان من جهة الإحاطة ، فيكون استعمالها فيها من قبيل المجاز بالاستعارة.

(٧) أي بثبوت الوصف الّذي يجهل السّامع اتّصاف الذّات به ، أو تحكم بانتفاء ذلك الوصف المجهول عن الذّاتّ ، فحينئذ يجب عليك أن تؤخّر اللّفظ الدّالّ على الوصف المجهول عند السّامع ، وتجعل ذلك اللّفظ خبرا.

١٩٤

فإذا عرف السّامع زيدا بعينه واسمه ، ولا يعرف (١) اتّصافه بأنّه أخوه ، وأردت أن تعرّفه ذلك ، زيد أخوك ، وإذا عرف أخا له ، ولا يعرفه على التّعيين ، وأردت أن تعيّنه عنده ، أخوك زيد ، ولا يصحّ (٢) زيد أخوك.

______________________________________________________

(١) أي ولا يعرف السّامع اتّصاف زيد بأنّه أخوه ، وأردت أن تعرّف السّامع» ذلك» أي اتّصاف زيد بأنّه أخوه ، زيد أخوك ، وإذا انعكس الأمر انعكس المثال ، يعني إذا عرف السّامع أنّ له أخا ، ولا يعرفه على وجه التّعيين ، وأنت تريد أن تعيّنه عنده بالعلميّة ، فتقول : أخوك زيد ، والفاء في قوله : «فإذا عرف السّامع» للتّفصيل ، أي تفصيل الضّابط المنطبق على ما في المتن والإيضاح ، فمعنى قوله : «ولا يعرف اتّصافه بأنّه أخوه» ، أي سواء عرف أنّ له أخا كما في المتن ، أو لم يعرفه كما في الإيضاح.

(٢) أي بالنّظر للبلاغة ، لأنّ المستحسن في نظر البلغاء لا يجوز مخالفته إلّا لنكتة ، فهو واجب بلاغة وإن لم يكن واجبا عقلا ، فلا يرد ما يقال إنّه لا وجه للحكم بعدم الصّحة لحصول المقصود به أيضا ، وهو كون المتّصف بزيد ، والأخوّة ذاتا واحدا ، غاية الأمر الأولى أن يقال عندئذ : أخوك زيد ، وأمّا وجوبه ، وعدم صحّة زيد أخوك ، فلا وجه له أصلا.

ثمّ إنّ المتحصل من كلام الشّارح على التّقريب المذكور أنّ السّامع على كلّ تقدير يعلم أنّ له أخا ، ويعرف الاسم ويعرف الذّات بعينها ، لكن يعلم اتّصاف تلك الذّات بذلك الاسم ، ويجهل اتّصافها بالأخوّة ، وتارة بالعكس ، فعلى الأوّل يجب أن يقال له : زيد أخوك ، وعلى الثّاني يجب أن يقال له : أخوك زيد ، وهذا الكلام منه متين جدا بنفسه ، وممّا لا غبار عليه إلّا أنّه ليس ضابطا جامعا متكفّلا لجميع صور كون المبتدأ والخبر معرفتين ، وإنّما هو متكفّل لخصوص صورة كون أحدهما معلوما للسّامع بالتّفصيل ، والآخر معلوما له بالإجمال ، ولا يكون متكفّلا لبيان حكم ما إذا كانا معلومين بالتّفصيل ، أو بالإجمال أو كانا غير معلومين له رأسا ، إذ لا يمتنع أن يقال : زيد أخوك لمن لا يعرف أنّ له أخا أصلا ، وكذلك لا يعرف أنّ في الوجود من يسمّى بزيد ، فإنّه من هذا الكلام يستفيد أنّ في الوجود من يسمّى بزيد وهو أخوه ، ومع هذه الفائدة لا وجه للحكم بالامتناع ، أو كان أحدهما معلوما بالتّفصيل والآخر مجهولا رأسا أو كان أحدهما معلوما بالإجمال والآخر مجهولا رأسا.

١٩٥

ويظهر ذلك (١) في نحو قولنا : رأيت أسودا غابها الرّماح ، ولا يصحّ رماحها الغاب (٢).

______________________________________________________

فالضّابط الصّحيح أن يقال : إنّ الشّيء إذا كان له صفتان من صفات التّعريف ، فإن كانتا معلومتين للسّامع تفصيلا ، فإن كان اللّفظ الدّال على إحداهما أعرف من اللّفظ الدّال على الأخرى يجب تقديم ما هو أعرف على غيره ، وإن كانا متساويين من جهة التّعريف فللمتكلّم حينئذ الخيار ، وكذلك الحال فيما إذا كانتا معلومتين إجمالا أو مجهولتين رأسا ، وإن كانت إحداهما معلومة تفصيلا أو إجمالا والأخرى مجهولة رأسا ، فيجعل اللّفظ الدّالّ على الأولى مقدّما والدّالّ على الثّانية مؤخّرا ، وكذلك إن كانت إحداهما معلومة تفصيلا ، والأخرى معلوما إجمالا. وهذا هو الضّابط الصّحيح المتكفّل لبيان حكم جميع الأقسام.

ثمّ إنّ هذا فيما إذا لم يقتض أمر تقديم ما يدلّ على أحدهما ، وإلّا فالمتعيّن تقديمه ، كما إذا سأل السّامع عن تعيين ما هو معلوم له بالإجمال ، فعندئذ يقدّم اللّفظ الدّالّ عليه ، ويجعل مبتدأ وإن كان مدلوله معلوما بالإجمال ، ومدلول الآخر معلوما بالتّفصيل.

(١) أي ما ذكرناه في الضّابط ، من أنّ ما يعلم اتّصاف الذّاتّ به يقدّم اللّفظ الدّالّ عليه ، ويؤخّر لفظ ما يجهل اتّصاف الذّاتّ به ، وجه الظّهور أنّ المعلوم للأسود عند السّامع هو الغاب ، لأنّه مبيتها دون الرّماح ، لأنّ السّامع إذا سمع أسود يلتفت إلى الغاب ، حيث إنّ إضافة الأسد إلى الغابة معروفة يقال : أسد الغابة ، فذكره يلوّح إليها ، ولكن لا يلتفت السّامع إلى أنّ للأسود رماحا ، فالغابة في المثال المذكور تكون معلومة له بالإجمال ، والرّماح مجهولة رأسا ، ولازم ذلك بمقتضى الضّابط المتقدّم أن تجعل غابها مبتدأ ، والرّماح خبرا ، والمراد بالأسود هنا المعنى المجازي وهو الشّجعان ، ففيه استعارة مصرّحة وغابها الرّماح قرينته.

(٢) لأنّ ثبوت الرّماح لها مجهول رأسا ، وذلك لعدم العلم بالرّماح للأسود ، وعدم سبق ما يلوح إليها ، فلا وجه لجعل الرّماح مبتدأ بل هو فاسد حسب ما تقتضيه البلاغة ، وذلك لأنّ الغاب معروفة أنّها للأسود ، لأنّ الغاب كما في المصباح جمع الغابة ، وهي الأجمة من القصب والأسود غالبا تسكن فيها.

١٩٦

[والثّاني] يعني اعتبار تعريف الجنس (١) [قد يفيد قصر الجنس (٢) على شيء (٣) تحقيقا (٤) نحو : زيد الأمير] إذا (٥) لم يكن أمير سواه ،

______________________________________________________

(١) وهذا التّفسير يفيد أنّ الأوّل وهو اعتبار تعريف العهد لا يفيد الحصر ، لأنّ الحصر إنّما يتصوّر فيما يكون فيه عموم كالجنس ، فينحصر في بعض الأفراد ، وأمّا المعهود الخارجي فلا عموم فيه ، فلا حصر ، ولكن هذا في قصر الأفراد ، وأمّا قصر القلب فيتأتّى في المعهود أيضا ، فيقال لمن اعتقد أنّ ذلك المنطلق المعهود هو عمرو : المنطلق زيد ، أي لا عمرو ، وكيف كان فاعتبار تعريف الجنس ، أي المحلّى بلام الجنس سواء كان في المسند نحو : زيد المنطلق ، أو المسند إليه نحو : المنطلق زيد» قد يفيد قصر الجنس على شيء تحقيقا نحو : زيد الأمير»

(٢) أي الجنس الّذي هو مدلول الخبر في زيد الأمير ، أو الجنس الّذي هو مدلول المبتدأ ، كما في قولك الأمير زيد.

(٣) أي على مسند إليه كالمثال الأوّل ، أو مسند كالمثال الثّاني. وفي كلام المصنّف إشارة إلى أنّ المعرّف بلام العهد لا يفيد الحصر ، وقد عرفت وجه ذلك.

(٤) أي قصرا محقّقا لعدم وجود معنى الجنس في غير ذلك المقصور عليه في الواقع ، أو اعتقاد المتكلّم فيكون قوله : تحقيقا بمعنى محقّقا إشارة إلى أنّ تحقيقا بمعنى محقّقا نعت لموصوف مقدّر ، وهو مفعول مطلق لقصر في قوله : «قد يفيد قصر الجنس» والتّقدير قد يفيد قصر الجنس قصرا محقّقا نحو : زيد الأمير ، أو مبالغة ، وذلك لأنّ القصر إمّا حقيقيّ ، وإمّا إضافيّ ، والأوّل إمّا تحقيقيّ ، وأمّا مبالغيّ ، والمراد بالإضافيّ قصر شيء على شيء بالإضافة إلى بعض ماعداه ، وهذا ينقسم إلى قصر القلب ، وقصر الإفراد وقصر التّعيين ، والمراد بالتّحقيقي قصر شيء على شيء بالإضافة إلى جميع ما عداه واقعا ، أو بحسب اعتقاد المتكلّم ظنا أو جهلا أو يقينا ، والمراد بالمبالغيّ قصر شيء على شيء بالإضافة إلى جميع ما عداه ادّعاء ومبالغة.

(٥) هذا الكلام من الشّارح بيان لكون القصر حقيقيّا في مقابل القصر المبالغيّ لا الإضافيّ ، وحاصله إنّ قصر الأمير على زيد حقيقيّ إذا لم يكن أمير سوى زيد ، إذ لو وجد أمير غيره لما كان القصر حقيقيّا تحقيقيّا ، بل إنّما يكون حقيقيا ادّعائيا ، كما في المثال الآتي ، ثمّ إنّ المراد من الأمير إن كان جنسا عرفيّا أو استغراقا كذلك بأن يكون المراد به مفهوم أمير البلد ، أو كلّ

١٩٧

[أو مبالغة (١) لكماله (٢) فيه] ، أي لكمال ذلك الشّيء في ذلك الجنس أو بالعكس (٣) [نحو : عمرو (٤) الشّجاع]

______________________________________________________

من هو أمير فيه فلا ريب في صحّة جعل القصر حقيقيّا تحقيقيّا لكونه مطابقا للواقع فضلا عن الاعتقاد ، وإن كان جنسا لغويا أو استغراقا حقيقيّا فتكون صحّة جعل القصر حقيقيّا تحقيقيّا مبنيّا على كونه ناظرا إلى مرحلة الإمكان العادي ، فإنّه ليس من البعيد عادة أن يسلّط أحد على جميع أنحاء الأرض وأصبح أميرا على من في الأرض ، كما اتّفق ذلك لسليمان عليه‌السلام.

(١) أي قصرا غير محقّق ، بل كان على سبيل المبالغة لوجود المعنى في غير المقصور عليه ، فلا يكون مطابقا للواقع أو للاعتقاد كالقصر الحقيقي.

(٢) قوله : «لكماله فيه» جواب عمّا يقال : كيف يصحّ قصر الجنس على فرد من أفراده مبالغة مع وجوده في غيره؟

وحاصل الجواب : إنّ ملاك الصّحّة في القصر على سبيل المبالغة هو كمال الجنس في ذلك الشّيء ، فيدّعى أنّ وجوده فيه على نحو من الكمال يليق أن يجعل ما هو موجود في غيره بمنزلة العدم ، فيصحّ قصر الجنس فيه.

(٣) أي لكمال ذلك الجنس في ذلك الشّيء ، لأنّ الكمال أمر نسبيّ ، فلك أن تعتبره في كلّ من المقصور والمقصور عليه ، أعني الجنس والشّيء ، فإذا كان الجنس كاملا في ذلك الشّيء المقصور عليه كالشّجاعة في عمرو مثلا ، فيعدّ وجوده في غيره كالعدم ، فيصحّ قصر الجنس عليه ، وذلك لقصور الجنس في غير ذلك الشّيء عن رتبة الكمال ، وكذلك إذا كان ذلك الشّيء كاملا في ذلك الجنس فيعدّ وجود غيره كالعدم ، والمعنى على كلا الاعتبارين واحد ، وهو حصر الجنس في بعض أفراده على سبيل المبالغة ، ثمّ الغرض من التّفسير أعني» أي لكمال ذلك الشّيء في ذلك الجنس أو العكس» هو الإشارة إلى صحّة جعل الضّمير الأوّل للأوّل ، والثّاني للثّاني ، والعكس أي جعل الضّمير الأوّل للثّاني ، أعني الجنس ، والثّاني للأوّل ، أعني الشّيء على عكس البيان الأوّل.

(٤) هذا مثال لإرجاع الضّمير على العكس أي لكمال الشّجاعة في عمرو ، فيكون كاملا في الشّجاعة.

١٩٨

أي (١) الكامل في الشّجاعة كأنّه لا اعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال ، وكذا (٢) إذا جعل المعرّف بلام الجنس مبتدأ نحو : الأمير زيد ، والشّجاع عمرو ، ولا تفاوت بينهما (٣) وبين ما تقدّم في إفادة قصر الإمارة على زيد ، والشّجاعة على عمرو ، والحاصل إنّ المعرّف بلام الجنس إن جعل مبتدأ فهو مقصور على الخبر سواء كان (٤)

______________________________________________________

(١) التّفسير إشارة إلى ما هو مراد المتكلّم من المثال بالإرادة الجدّيّة المطابقة لاعتقاده لا إلى ما هو المراد الاستعماليّ من إفادة قصر جنس الشّجاع على عمرو ، وإنّما أشار إليه» كأنّه» ، أي الشّأن «لا اعتداد بشجاعة غيره» ، أي عمرو» لقصورها» أي شجاعة غيره» عن رتبة الكمال» ، وحاصل الكلام في هذا المقام إنّ الشّجاعة ليست منحصرة في عمرو في الواقع ، إلّا أنّك تدعّي قصر الشّجاعة عليه على سبيل المبالغة تنزيلا لشجاعة غيره منزلة المعدوم.

(٢) أي مثل جعل المعرّف بلام الجنس مسندا في إفادة القصر تحقيقا أو مبالغة ما» إذا جعل المعرف بلام الجنس مبتدأ ، نحو : الأمير زيد والشّجاع عمرو».

(٣) أي بين هذين المثالين وبين المثالين المذكورين ، أعني زيد الأمير وعمرو الشّجاع ، وملخّص الكلام في المقام أنّه لا تفاوت بين المثالين المذكورين ، وبين هذين المثالين في إفادة القصر ، غاية الأمر القصر فيما تقدّم كان يسمّى بقصر المسند في المسند إليه ، وفي هذين المثالين يسمّى بقصر المسند إليه في المسند ، ثمّ إنّ نفي التّفاوت مبنيّ على مذهب الشّارح ، حيث يقول : إنّ الجزئيّ الحقيقيّ يكون محمولا من غير تأويل ، وأمّا على ما ذهب إليه السّيد من أنّه لا يقع محمولا ، وأنّ قولنا : المنطلق زيد مؤوّل بقولنا المنطلق المسمّى بزيد ، فلابدّ من الالتزام بوجود التّفاوت ، إذ المقصور عليه في نحو : زيد الأمير ، الذّات المشخّصة المعبّر عنه بلفظ زيد ، وفي نحو : الأمير زيد ، المفهوم الكلّي ، أعني مفهوم المسمّى بزيد ، والتّفاوت بينهما أظهر من الشّمس ، لأنّ مفهوم زيد الأمير غير مفهوم الأميز زيد ، أي الأمير المسمّى بزيد ، إذ موضوع الأوّل جزئي حقيقيّ ، ولا تأويل فيه ، وموضوع الثّاني ومحموله كلاهما كلّي.

(٤) هذا التّعميم أخذه الشّارح من قول المصنّف» قصر الجنس على شيء» ، فإنّه يعمّ للمعرفة والنّكرة ، ثمّ المراد من المعرفة ليس معرّفا بلام الجنس ، بل أعمّ من أن يكون الخبر معرّفا بلام الجنس ، نحو : الكرم التّقوى ، أي لا غير هذا ، الأمير الشّجاع ، أي لا الجبان ، أو كان معرّفا

١٩٩

الخبر معرفة أو نكرة ، وإن جعل خبرا فهو مقصور على المبتدأ (١) والجنس قد يبقى على إطلاقه (٢) كما مرّ (٣) ، وقد يقيّد (٤) بوصف أو حال أو ظرف أو مفعول ، أو نحو ذلك (٥) نحو : هو الرّجل الكريم (٦) ، وهو السّائر راكبا ، وهو الأمير في البلد (٧) وهو الواهب ألف قنطار (٨) ،

______________________________________________________

بغيرها ، نحو : الأمير هذا ، أي لا غير هذا ، أو نحو : الأمير زيد ، أي لا غير زيد ، أو نحو : الأمير غلام زيد ، أي لا غير غلام زيد ، أو كان الخبر نكرة ، نحو : الإمام من قريش.

ففي جميع هذه الأمثلة يفيد الكلام أنّ المبتدأ مقصور على الخبر حقيقة أو ادّعاء ، وبالجملة فهذا التّعميم الّذي جعله الشّارح نتيجة للبحث استفاده من كلام المصنّف قصر الجنس على شيء ، سواء كان ذلك الشّيء معرفة أو نكرة.

(١) أي يجب أن يكون المبتدأ معرفة ، إذ لا يجوز الابتداء بما هو نكرة ، مع فرض الخبر معرفة ، ولهذا لم يقل : سواء كان المبتدأ معرفة أو نكرة.

(٢) أي لا يكون مقيّدا بوصف ونحوه.

(٣) أي في الأمثلة المذكورة نحو : زيد الأمير ، وعكسه ، وعمرو الشّجاع ، وعكسه.

(٤) أي قد يقيّد الجنس بوصف فيكون حصره باعتبار ذلك القيد ، ففي قولك : زيد الرّجل الكريم ، حيث يكون الجنس مقيدا بوصف أنّ المحصور في زيد هو الرّجوليّة الموصوفة بالكرم ، فلا توجد في غيره بخلاف مطلق الرّجوليّة ، ن فإنّها لم تقصر عليه ، فيصحّ أن توجد في غيره.

(٥) أي كالمفعول به والمفعول له والمفعول معه.

(٦) مثال للتّقييد بالوصف» وهو السّائر راكبا» مثال للجنس المقيّد بالحال.

(٧) مثال للمقيّد بالظّرف.

(٨) مثال للمقيّد بالمفعول» القنطار» وزن أربعين أوقيّة من ذهب ، أو ألف ومائتا دينار ، أو ألف ومائتا أوقيّة ، وقيل : سبعون ألف دينار ، وقيل : ثمانون ألف درهم ، وقيل : مائة رطل من ذهب أو فضّة ، وقيل : ألف دينار ، وقيل : ملء جلد الثّور ذهبا أو فضّة ، وقيل : المال الكثير ، (أقرب الموارد).

وكيف كان فقد قصر تحقيقا أو مبالغة جنس الواهب المقيّد بكون الموهوب ألف قنطار

٢٠٠