دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

وقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وارد (١)

______________________________________________________

تستعمل عندهم في مجرّد تعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشّرط ، من دون تقييده بالقطع بالانتفاء.

ثانيتهما : إنّ العلّة الغائيّة لوضع لو واستعمالها في المعنى المذكور عند الأدباء إفادة المتكلّم للمخاطب أنّ علّة انتفاء الجزاء في الخارج هو انتفاء الشّرط ، فكلّ من الانتفاءين معلوم عنده ، وإنّما المجهول سبب انتفاء الجزاء وعلّته ، فالمتكلّم يلقى الكلام إليه لغرض تفهيم أنّ أحد الانتفاءين ، أعني انتفاء الشّرط سبب للانتفاء الثّاني أعني انتفاء الجزاء.

وعند المناطقة تكون العلّة الغائيّة أحد أمرين : إمّا الاستدلال على انتفاء الأوّل بانتفاء الثّاني ، كما إذا كان رفع المقدّم محلّ النّزاع بين المتكلّم والمخاطب.

وإمّا الاستدلال على ثبوت الثّاني بثبوت الأوّل ، فيما إذا كان محلّ النّزاع بينهما وضع التّالي وثبوت الجزاء ، فالحاصل من الفرق المذكور أنّ العلقة الوضعيّة عند أهل العربيّة هي السّببيّة في الخارج ، وعند المناطقة الاستدلال ، ثمّ ابن الحاجب ومتابعوه لمّا لم يهتدوا إلى مراد أهل العربيّة ، وتخيّلوا أنّ العلقة الوضعيّة عندهم أيضا الاستدلال.

فاعترضوا عليهم بأنّ الاستدلال بانتفاء الشّرط لتحصيل العلم بانتفاء الجزاء لا يصحّ ، بل الأمر بالعكس ، ولو اهتدوا بمرادهم لما اعترضوا عليهم. ثمّ استعمال أهل العربيّة واللّغة أكثر في القرآن الحديث ، وأشعار العرب ، واستعمال المناطقة أكثر في كلام المؤلّفين.

(١) أي من الورود بمعنى المجيء والإتيان ، لا من الإيراد بمعنى الاعتراض ، أي إنّ هذه الآية آتية وجاريّة على قاعدة المنطقيّين.

فمعنى العبارة أنّ قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ) جار على قاعدة المنطقيّين وأرباب المعقول في استعمال لو ، لأنّ المقصود به تعليم الخلق الاستدلال على الوحدانيّة بأن يستدلّوا بالتّصديق بانتفاء الفساد على التّصديق بانتفاء التّعدّد ، وليس المقصود بيان أنّ انتفاء الفساد في الخارج علّة لانتفاء التعدّد فهي في الآية الكريمة لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل.

لا يقال :

إنّ الآية الشّريفة واردة على قاعدة المناطقة ، ومقتضى أوضاعهم ، ومن المعلوم أنّه لا وجه الحمل الآية على اصطلاح المنطقيّين المخالف لوضع اللّغة النّازل بها القرآن ، لأنّه مستلزم

١٦١

على هذه القاعدة لكنّ الاستعمال على قاعدة اللّغة هو الشّائع المستفيض ، وتحقيق هذا البحث على ما ذكرنا من أسرار هذا الفنّ ، وفي هذا المقام مباحث أخرى شريفة أوردناها (١) في الشّرح ، وإذا كان لو (٢) للشّرط في الماضي [فيلزم عدم الثّبوت

______________________________________________________

لأن تكون الآية غير واردة على وفق اللّغة العربيّة ، وقد قال الله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١).

لأنّا نقول :

إنّ القاعدة المنطقيّة عربيّة أيضا جرى عليها أهل الميزان ، ولكنّها قليلة الاستعمال عند أهل العربيّة بالنّسبة إلى القاعدة الأخرى ، فإنّ العرب قد يقصدون الاستدلال على الأمور العرفيّة ، كما يقال : هل زيد في البلد ، فتقول : لا ، إذ لو كان فيها لحضر مجلسنا ، فتستدلّ بعدم الحضور على عدم كونه في البلد ، ويسمّي علماء البيان مثله بالطّريقة البرهانيّة.

ويمكن أن يقال بأنّه لا مجال لهذا الاعتراض أصلا ، وذلك لأنّ قول الشّارح «وأمّا المنطقيّون ...» ليس ظاهرا في أنّ المعنى الثّاني ليس من المعاني اللّغويّة ، وإنّما هو بحسب الأوضاع الاصطلاحيّة لأرباب المعقول ، بل مراده منه أنّ أرباب المعقول اصطلحوا على المعنى المذكور ، ويكون عندهم من المعاني الحقيقيّة ، وإن كان من المعاني العربيّة المجازيّة ، فهو مجاز لغوي وحقيقة عرفيّة ، فإذا لا يرد أنّ قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما) وارد على قاعدة المناطقة ، فلا يكون عربيّا ، لأنّه وارد على اللّغة العربيّة المجازيّة ، كما أنّه وارد على قاعدة المناطقة ، ولا ريب أنّ المجازات العربيّة عربيّة ، وإن كانت حقائق اصطلاحيّة.

ثمّ مراده بالبحث في قوله : «وتحقيق هذا البحث» هو بحث لو ، وليس المراد به الاعتراض.

(١) أي المباحث الشّريفة «في الشّرح» ، أي المطوّل فمن أرادها يراجع إليه.

(٢) أي إذا كان لفظ لو «للشّرط في الماضي» ، أي غالبا كما يستفاد من الكلام الآتي ، وأشار الشّارح بتقدير قوله : «وإذا كان لو للشّرط في الماضي» إلى أنّ الفاء في قول المصنّف ، «فيلزم» فاء الفصيحة والشّرط مقدّر.

والمعنى أنّه قد عرفت أنّ لو لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشّرط فرضا ، في الماضي مع القطع بانتفاء الشّرط «فيلزم عدم الثّبوت والمضيّ في جملتيها» أي في شرطها

__________________

(١) سورة يوسف : ٢.

١٦٢

والمضيّ في جملتيها] إذ (١) الثّبوت ينافي (٢) التّعليق والاستقبال ينافي المضيّ ، فلا يعدل في جملتيها (٣) عن الفعليّة الماضويّة إلّا لنكتة ،

______________________________________________________

وجزائها ، ثمّ المراد من عدم الثّبوت يمكن أن يكون عدم الحصول في الخارج ، أو عدم الاستمرار ، والمقصود به نفي اسميّة كلّ من الجملة الشّرطيّة والجزائيّة ، أو يكون المراد به الانتفاء ، كما قيل فيكون المعنى على الأخير أنّ لو لمكان أنّها للانتفاء يلزم أن يكون كلّ من جملتيها منتفيا ، وغير متحقّق في الخارج.

(١) قوله : «إذ الثّبوت» راجع إلى قوله : «للشّرط» ، لأنّ الشّرط هو التّعليق.

كما أنّ قوله : «والاستقبال» راجع إلى قوله : «في الماضي» ، فقوله : «إذ الثّبوت ...» إشارة إلى أنّ التّفريع في المتن على طريق اللّفّ والنّشر المترتّب ، حيث يكون قوله : «فيلزم عدم الثّبوت في جملتيها» مفرّعا على قوله : «ولو للشّرط» أي للتّعليق ، وقوله : «ويلزم المضيّ في جملتيها» مفرعا على قوله : «في الماضي».

(٢) أي ثبوت الشّرط والجزاء في الخارج ينافي تعليق حصول الثّاني على حصول الأوّل فرضا في الماضي ، فإنّ تعليق ثبوت الثّابت محال ، لأنّ ما هو متحقّق في الخارج فعلا ، لا معنى لتعليق حصوله الفعلي على أمر آخر الّذي لم يوجد بعد ، ولا معنى أيضا لفرض حصوله ، فإنّ ما هو متحقّق غير قابل ، لأن يفرض تحقّقه ، فلابدّ من عدم الثّبوت حتّى يتحقّق التّعليق ، إمّا في الماضي كما في لو ، وإمّا في الاستقبال كما في إن وإذا.

(٣) أي في شرطها وجزائها «عن الفعليّة الماضويّة» لفظا ومعنى ، إلى المضارعيّة لفظا ، وإن كان المعنى ماضيا ، أي لا يجوز العدول في جملتي لو عن الفعليّة الماضويّة إلى المضارعيّة إلّا لنكتة ، مثل ما سيذكر من قصد استمرار الفعل في الماضي ، أو تنزيل المضارع منزلة الماضي ، أو استحضار الصّورة ، وقد يأتي بيان النّكتة وأنواعها في المتن الآتي فانتظر.

١٦٣

ومذهب المبرد أنّها (١) تستعمل في المستقبل استعمال إن للوصل (٢)

______________________________________________________

(١) أي لو تستعمل لو في المستقبل لمجرّد الوصل والرّبط ، كما تستعمل إن الشّرطيّة في غير المستقبل لمجرد الوصل والرّبط ، فكما لا قصد إلى الشّرط والتّعليق هنا ، فكذلك لا قصد إلى ذلك ههنا ، لكن استعمال لو لمجرّد الوصل والرّبط ، دون الشّرط ، والتّعليق قليل ، وهو مع قلّته ثابت «نحو قوله عليه‌السلام : اطلبوا العلم ولو بالصّين» أي ولو كان طلبكم بالصّين ، ونحو : تناكحوا تناسلوا «فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة ، ولو بالسّقط» أي ولو كان مباهاتي بالسّقط ، وهو الولد الّذي يسقط من رحم الأمّ ، وليس له روح ، فالشّرط في هذين المثالين مستقبل ، أمّا في الأوّل فلأنّه في حيّز الأمر ، وهو لا يتعلّق بالموجود في الماضي أو الحال ، لأنّه مستلزم لطلب الحاصل وهو محال.

وأما في الثّاني فلأنّ المباهاة تكون يوم القيامة ، لا في الحال.

(٢) هذا في بعض النّسخ وفي بعض النّسخ بإسقاط قوله : «للوصل» فمعنى العبارة حينئذ : ومذهب المبرد أنّ لو تستعمل في المستقبل استعمال إن الشّرطيّة ، أي تستعمل مجازا في تعليق حصول مضمون الجزاء على حصول مضمون الشّرط في الاستقبال ، من دون الجزم بوقوع الشّرط وعدم وقوعه ، والنّكتة في هذا الاستعمال قصد استبعاد حصول مضمون الشّرط وادّعاء كونه بمنزلة المحال.

لا يقال : إنّ الكلام حينئذ في لو التّي للشّرط ، فلا يصحّ التّمثيل بالمثالين المذكورين ، إذ لا جواب لها في هذين المثالين ، وإنّما هي للوصل والرّبط ، كما عرفت.

لأنّا نقول : إنّ التّمثيل بالمثالين على القول بأنّ لو هذه جوابها مقدّر ، والأصل ولو يكون العلم بالصّين فاطلبوه ، ولو تكون المباهاة بالسّقط ، فإنّي أباهي به ، فالشّرط في هذين المثالين مستقبل ، بدليل أنّه في حيّز اطلبوا في المثال الأوّل ، وما يتوجّه إليه الأمر مستقبل ، والمباهاة في المثال الثّاني إنّما هي يوم القيامة الّذي هو مستقبل ، وهذا الاحتمال الثّاني أولى أن يكون مراد المبرّد.

نعم يظهر من المغني أنّ مراده هو الاحتمال الأوّل ، أي استعمال لو للوصل والرّبط ، حيث قال في المغني ، والأوضح مذهبه إلى أنّ ذكر ردّ ابن الحاجب على المبرّد بآيات وأبيات ، وصريحها إثبات الجواب لها.

١٦٤

وهو مع قلّته ثابت ، نحو قوله عليه‌السلام : اطلبوا العلم ولو بالصّين ، وفإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسّقط [فدخولها على المضارع (١) في نحو : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [(١)] ، أي لوقعتم في جهد (٣)

______________________________________________________

وكيف كان فعلم ممّا تقدم أنّ للو أربعة استعمالات :

الأوّل : أن تكون للتّرتيب الخارجي.

الثّاني : كونها للاستدلال.

الثّالث : أن تكون وصليّة للرّبط في الجملة الحاليّة.

الرّابع : أن تكون بمعنى إن للشّرط في المستقبل.

فكلمة لو في قوله : «ولو بالسّقط» قد استعملت في تعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشّرط في الاستقبال من القطع بانتفائه.

لا يقال : إنّ لو هذه لم تستعمل استعمال إن لكون الشّرط قطعيّا في المقام ، بل استعملت استعمال إذا ، فإذا لا يصحّ التّمثيل به لقوله ، ومذهب المبرّد أنّها تستعمل في الاستقبال استعمال إن.

لأنّا نقول : إنّ الشّرط وإن كان قطعيّا إلّا أنّه جعل منزلة المشكوك لاستبعاده ، أي مباهاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسّقط ، ومن ذلك أتى بلو للإشعار بكونه مستبعدا ، بحيث يليق أن يدعى كونه محالا.

(١) أي قوله : «فدخولها» تفريع على قوله : «فيلزم المضيّ في جملتيها» ، أي إذا كان المضيّ لازما في جملتيها ، فدخولها على المضارع لقصد استمرار الفعل.

(٢) قوله : (لَعَنِتُّمْ) من العنت ، بمعنى الهلاك ، وأصله المشقّة والصّعوبة ، فالعنت : الوقوع في أمر شاقّ كما في المجمع.

(٣) الجهد بفتح الجيم بمعنى المشقّة والطّاقة ، والمراد هنا الأوّل وأمّا بالضّمّ فهو بمعنى الطّاقة ليس إلّا ، ثمّ الواو بمعنى أو ، إذ لا يجوز إرادة معنيين من لفظ واحد ، أي إرادة المشقّة والهلاك من لفظ جهد.

ومعنى الآية : اعلموا أنّ فيكم رسول الله فاتقوا الله أن تكذبوه ، أو تقولوا باطلا عنده ، فإنّ الله يخبره بذلك فتفضحوا ، ولو يطيعكم وفعل ما تريدونه في كثير من الأمر لوقعتم في

__________________

(١) سورة الحجرات : ٧.

١٦٥

وهلاك [لقصد استمرار الفعل (١) فيما مضى (٢) وقتا فوقتا]. والفعل (٣)

______________________________________________________

عنت ، أي في مشقّة وهلاك.

والشّاهد : في دخول لو على المضارع لقصد الاستمرار.

(١) والمراد به الفعل اللّغوي ، أي الحدث ، والمراد بالاستمرار الاستمرار التّجدّدي. وحاصله إنّ دخول لو على المضارع في الآية على خلاف الأصل لنكتة اقتضاها المقام ، وهي الإشارة إلى أنّ الفعل الّذي دخلت عليه لو يقصد استمراره فيما مضى وقتا فوقتا ، ولفظة لو نفت ذلك الاستمرار.

واستمرار الفعل على وجه التّجدّد إنّما يحصل بالمضارع لا بالماضي ، الّذي شأنه أن تدخل عليه لو ، فالعدول عن الماضي إلى المضارع لهذه النّكتة التّي اقتضاها المقام.

(٢) وأشار بقوله : «فيما مضى» إلى أنّ لو على معناها ، وأنّ المضارع الواقع موقع الماضي أفاد الاستمرار فيما مضى ، فالتّخلف إنّما هو في اللّفظ فقطّ وبقوله : «وقتا فوقتا» أشار إلى أنّ الانتفاء ملاحظ بحسب أوقات الوجود ، فإنّ الإطاعة توجد عادة وقتا فوقتا ، فيلاحظ انتقاؤها كذلك ، فيكون المضارع المنفي كالمثبت في أنّ الاستمرار المستفاد منه تجدّدي لا ثبوتيّ ، والمعنى لو استمر إطاعة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكم ، والعمل برأيكم وقتا بعد وقت ، لاستمرّ عنتكم ساعة بعد ساعة ، لكن لمّا امتنع استمرار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إطاعتكم وقتا فوقتا امتنع بسببه عنتكم ساعة فساعة ، والفعل الماضي وإن دلّ أيضا على التّجدد ولكنّ المضارع يدلّ على الاستمرار دون الماضي ، فإنّه ينقطع عند الاستقبال ، بخلاف المضارع فإنّه لا ينقطع إلى الأبد الآبد ، ففائدة العدول إلى المضارع الدّلالة على الاستمرار التّجدّدي.

(٣) أي الفعل الّذي قصد استمراره في الآية هو الإطاعة ، وحاصل ما ذكره الشّارح إنّ الكلام مشتمل على نفي ، وهو لو وقيد وهو الاستمرار المفاد بالمضارع ، فيجوز أن يعتبر نفي القيد ، وأن يعتبر تقييد النّفي بالاستمرار ، فالمعنى على الأوّل انتفى عنتكم بسبب امتناع الاستمرار على الإطاعة في الكثير ، لأنّ المراد بالنّفي هنا الامتناع ، فيفيد أنّ أصل الإطاعة موجود والمنفي هو استمرارها كما أشار إليه بقوله : «يعني أنّ امتناع عنتكم» وهو الجزاء «بسبب استمراره» ، أي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على إطاعتكم» وهو الشّرط ، «فإنّ المضارع» المثبت «يفيد الاستمرار ، ودخول لو» الامتناعيّة «عليه يفيد امتناع الاستمرار» ، والمعنى على الثّاني ، وهو أن يعتبر تقييد النّفي

١٦٦

هو الإطاعة ، يعني أنّ امتناع عنتكم بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم ، فإنّ المضارع يفيد الاستمرار ، ودخول ـ لو ـ عليه يفيد امتناع الاستمرار ، ويجوز أن يكون الفعل امتناع الإطاعة ، يعني أنّ امتناع عنتكم بسبب استمرار امتناعه عن إطاعتكم ، لأنّه كما أنّ المضارع المثبت يفيد استمرار الثّبوت ، يجوز أن يفيد المنفيّ استمرار النّفي ،

______________________________________________________

بالاستمرار ، انتفى عنتكم بسبب الامتناع المستمرّ على إطاعتكم في الكثير فلا ينافي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطاعهم في القليل.

وبعبارة أخرى فالمعنى على الثّاني امتناع الإطاعة ونفيها على نحو المستمرّ كما أشار إليه بقوله : «ويجوز أن يكون الفعل» المقترن بلو في قوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) هو «امتناع الإطاعة» لا الإطاعة نفسها ، والاستمرار يستفاد من سياق الجملة ، فقوله : (يُطِيعُكُمْ) يعني يستمرّ على إطاعتكم ، وقوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) يستمرّ على امتناع إطاعتكم وعدمها ، فالاستمرار في كلتا جملتي النّفي والإثبات خارج عن تركيب الجملة ، مفهوم من سياقها ، والنّفي والإثبات وارد على الإطاعة ، فالفعل في الإثبات الإطاعة نفسها ، وفي النّفي امتناع الإطاعة وعدمها ، والاستمرار مهيمن على الطّرفين بالتّقريب المذكور. كما في (الوشاح).

وكيف كان فذكر الجواز إشارة إلى رجحان الوجه الأوّل في المراد من الفعل ، ويمكن ترجيح الوجه الأوّل بحسب اللّفظ والمعنى ، أمّا ترجيحه بحسب اللّفظ ، فلأنّ المتفاهم عرفا كون ترتيب أجزاء القضيّة المعقولة مثل ترتيب أجزاء القضيّة اللّفظيّة ، فحيث إنّ لو مقدّم في القضيّة اللّفظيّة على الهيئة المضارعيّة ، أي «لو يعطيعكم» فليكن الامتناع ، وهو معنى لو مقدّما على الاستمرار المستفاد من المضارع في القضيّة المعقولة ، كما في الوجه الأوّل ، أي يعني أنّ امتناع عنتكم بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم ، ثمّ اللّازم تقدّم الاستمرار على الإطاعة ، لأنّ الهيئة في القضيّة اللّفظيّة في صقع اللّحاظ متقدّمة على المادّة ، فليكن الاستمرار المستفاد من الهيئة مقدّما على المعنى المادّي في القضيّة المعقولة.

وأمّا ترجيحه بحسب المعنى ، فلأنّ مفاد الشّرط عليه انتفاء استمرار الإطاعة مع ثبوت أصلها فتترتّب عليه فائدتان :

إحداهما : انتفاء وقوعهم في المشقّة أو الهلاك.

١٦٧

والدّاخل عليه لو (١) يفيد استمرار الامتناع (٢) كما أنّ الجملة (٣)

______________________________________________________

وثانيتهما : استجلاب قلوبهم واستمالتهم ، حيث إنّ استمرار إطاعته لهم وإن كان مستلزما لوقوعهم في المشقّة أو الهلاك من جهة لزوم اختلال الرّياسة والرّسالة ، إلّا أنّ طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم في قليل من الأمر مستلزم لجلب قلوبهم ، وعدم تنفّرهم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا بخلاف الوجه الثّاني حيث إنّ الشّرط حينئذ امتناع إطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ونفيها أصلا ، ومن المعلوم أنّ عدم إطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلا موجب لتنفّرهم منه وعداوتهم له.

نعم اللّازم تقدير المضاف حينئذ في كلام المصنّف ، أي لقصد امتناع استمرار الفعل ، كما قيل ، لكن يمكن الاستغناء عنه بدعوى أنّ قوله : «لقصد استمرار الفعل» ناظر إلى مدخول لو فقطّ ، فبعد مجيء الامتناع من ناحيتها يصبح المعنى امتناع استمرار الفعل ، فالفعل أعني الإطاعة منفي على الوجه الثّاني ، دون الوجه الأوّل ، وهنا بحث تركناه رعاية للاختصار.

(١) أي لفظ لو الّذي يجعل المثبت منفيّا والمنفي مثبتا.

(٢) لأنّه يعتبر أوّلا دخول النّفي المستفاد من لو ، ثمّ يعتبر الاستمرار فيتوجّه الاستمرار إلى النّفي والامتناع دون العكس ، كما يعتبر النّفي أوّلا في قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ،) ثمّ العموم فيفيد عموم النّفي لا نفي العموم ، وحاصل الوجه الثّاني ، أعني كون المراد بالفعل امتناع الإطاعة لا نفسها ، إنّ المعاني الأصليّة يتصوّرها البليغ أوّلا في الذّهن. ثمّ يعتبر فيها الخصوصيات والمزايا ، فالنّفي والإثبات مقدّم في الاعتبار على الاستمرار ، فعليه يكون المعنى بحيث يرد الاستمرار المستفاد من المضارع على الامتناع المستفاد من كلمة لو ، أي أنّ امتناع عنتكم بسبب استمرار امتناعه عن طاعتكم ، فتكون استفادة المعاني من الألفاظ على خلاف ترتيبها ، وهذا هو المراد بقوله : «لأنّه كما أنّ المضارع المثبت يفيد استمرار الثّبوت ، يجوز أن يفيد المنفي استمرار النّفي»

(٣) تنظير للفعلين المثبت والمنفي بجملتي الاسميّة ، أي المثبتة والمنفيّة ، والغرض منه دفع الاستبعاد عن الوجه الثّاني ، وتوضيح ذلك أنّه كما أنّ المضارع المثبت يفيد استمرار الثّبوت ، يجوز أن يفيد المضارع المنفي استمرار النّفي كالجملة الاسميّة ، حيث إنّ الجملة الاسميّة المثبتة تفيد تأكيد الثّبوت ودوامه ، والمنفيّة تفيد تأكيد النّفي ودوامه ، لا نفي التّأكيد والدّوام

١٦٨

الاسميّة المثبتة تفيد تأكيد الثّبوت ودوامه (١) ، والمنفيّة (٢) تفيد تأكيد النّفي ودوامه لا نفي التّأكيد والدّوام ، كقوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(١) (٣)

______________________________________________________

(١) أي دوام الثّبوت فيكون دوامه عطفا تفسيريّا للثّبوت ، فالمراد به الثّبات بمعنى الدّوام لا الثّبوت مقابل النّفي ، ثمّ إنّ إفادتها هذا ، إنّما هو إذا كانت مكتنفة بما يناسب ذلك من خصوصيّة المقام ، كمقام المدح أو الذّمّ أو التّرحّم ، أو نحو ذلك فإنّ الجملة الاسميّة المثبتة من حيث هي هي ، لا تدلّ إلّا على مجرّد الثّبوت ، وإنّما تدلّ على تأكيد الثّبوت باعتبار خصوصيّة المقام ، وهكذا المنفيّة.

(٢) أي الجملة الاسميّة المنفيّة «تفيد تأكيد النّفي» أي استمرار الانتفاء ، فدخول النّفي على قولنا : زيد قائم ، يؤكّد عدم القيام لزيد.

لا يقال : إنّه لا مجال لهذا القول ، لأنّ مقتضى القاعدة التّي ذكرها الشّيخ من أنّ النّفي يتوجّه إلى قيد زائد في الكلام ، أن تفيد الجملة الاسميّة المنفيّة نفي الدّوام والتّأكيد ، لا دوام النّفي وتأكيده.

لأنّا نقول : إنّ ذلك فيما إذا اعتبر القيد سابقا على النّفي ، وأمّا إذا اعتبر تقدّم النّفي على القيد ، فإنّما تفيد الجملة الاسميّة المنفيّة حينئذ تأكيد النّفي ، أو يقال : إنّ إفادة تأكيد النّفي استعمال آخر للنّفي.

(٣) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ،) وتوضيح ذلك إنّ الكفار والمنافقين قد ادّعوا حدوث الإيمان ، حيث قالوا آمنّا فردّ الله سبحانه مقالتهم بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فلابدّ أن يكون المراد به تأكيد نفي إيمانهم لا نفي التّأكيد ، إذ مقتضاه ثبوت أصل إيمانهم ، وهذا عين دعواهم ، فلا يكون ردّا لهم ، فمن ذلك صرّح أرباب التّفسير وغيرهم بأنّ قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ردّ لهم على آكد وجه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٨.

١٦٩

ردّا لقولهم : (إِنَّا آمَنَّا) على أبلغ وجه وآكده (١) [كما في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(١) (٢)] حيث لم يقل : (٣)

______________________________________________________

(١) بالمدّ عطف تفسير ل «أبلغ» و «على» متعلّق لقوله : «ردّا» ، يعني أنّهم ادّعوا إحداث الإيمان وثبوته ليروج عنهم ، فردّ عليهم ذلك بأنّهم مستمرّون على عدم الإيمان مع التّأكيد بالباء الزّائدة الدّاخلة في خبر الجملة الاسميّة ، أعني (بمؤمنين) فهي مفيدة لتأكيد النّفي لا نفي التّأكيد ، فالمعنى إيمانهم منفيّ نفيا مؤكّدا.

والمتحصّل ممّا ذكر أنّ الجملة الاسميّة بجزأيها ، كما إذا كانت مثبتة يقصد بها بحسب المقامات استمرار الثّبوت ، كذلك إذا كانت منفيّة يقصد بها بحسبها استمرار النّفي ، ويلزم من استمراره انتفاء الأحداث ، فهناك إثبات الشّيء ببيّنة ، ولو قيل : وما آمنوا ، لم يبلغ هذه المرتبة في الرّدّ.

(٢) (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) الآية ، يعني يفيد «لو يطيعكم» الاستمرار كما يفيد (يَسْتَهْزِئُ) ذلك ، وكما عدل إلى المضارع في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لقصد استمرار الفعل كذلك عدل إلى المضارع في نحو : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) لقصد استمرار الفعل ، والفرق بين الاستمرارين أنّ الاستمرار في الاسميّة في الثّبوت ، والاستمرار في وضع المضارع موضع الماضي في التّجدد وقتا فوقتا.

لكنّ العدول هنا من الماضي إلى المضارع مع دخول لو على المضارع ، وههنا من اسم الفاعل إلى المضارع ، مع عدم دخول لو على المضارع ، ولو لا نكتة قصد استمرار الفعل لما عدل إلى المضارع في شيء منهما أصلا.

ثمّ المراد باستهزاء الله تعالى بالمنافقين لازمه ، وهو إنزال الهوان والحقارة بهم ، والمعنى : الله يجازي جزاء الاستهزاء.

(٣) فيه إشارة إلى تنظير هذه الآية بالآية السّابقة ، أعني (لَوْ يُطِيعُكُمْ) إنّما هو في مطلق العدول إلى المضارع ، وإن كان العدول هنا عن اسم الفاعل إلى المضارع ، وفيما سبق عن الماضي إلى المضارع ، وإنّما كان الأصل في المعدول عنه هنا اسم الفاعل ، لاقتضاء المقام إيّاه ، لمشاكلة ما وقع منهم ، لأنّهم قالوا : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤ و ١٥.

١٧٠

الله مستهزئ بهم ، قصدا (١) إلى استمرار الاستهزاء وتجدّده (٢) وقتا فوقتا [و] دخولها (٣) على المضارع [في نحو قوله تعالى (٤) : (وَلَوْ تَرى) الخطاب لمحمد عليه (٥) السّلام ، أو لكلّ من (٦) تتأتى منه الرّؤية (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(١) (٧)]

______________________________________________________

(١) فلو لا قصدا لاستمرار الاستهزاء ، لقيل : الله مستهزئ بهم ، بصيغة اسم الفاعل ، ليكون مطابقا لقول المنافقين : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

(٢) أي تجدّد الاستهزاء ، فعطف تجدّده على الاستمرار تفسيريّ ، وفيه إشارة إلى أنّ الاستمرار المستفاد من قوله : «الله مستهزئ» بمعنى الثّبوت والاستمرار المستفاد من (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) بمعنى التّجدّد ، والمطلوب في المقام هو المعنى الثّاني ، أي الاستمرار التّجدّدي ، لأنّ معنى استهزاء الله بهم ، هو إنزال الهوان والحقارة بهم وقتا بعد وقت.

(٣) أي كلمة لو ودخولها مبتدأ وقوله : «لتنزيله منزلة الماضي» خبره.

(٤) ممّا لم يقصد به الاستمرار ، بل النّكتة فيه هي تنزيل المضارع منزلة الماضي.

(٥) أي يا محمّد.

(٦) أي يا من تحصل منه الرّؤية ، بناء على أنّ الخطاب موجّه إلى غير معيّن.

(٧) بعده قوله : (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بيّن الله سبحانه في هذه الآية ما يناله الكفار يوم القيامة من الحسرة وتمنّي الرّجعة ، فقال : ولو ترى يا محمّد ، أو يا من تحصل منه الرّؤية (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي إذ اطّلعوا عليها ، أو إذ أمكثوا عليها ، أو إذ عرفوا مقدار عذابها من قولك : وقفت على ما عند فلأنّ ، تريد فهمته وعرفته ، وهذا وإن كان استقباليّا إلّا أنّه نزّل منزلة الماضي ، لكونه متحقّق الوقوع ، فقالوا : أي فقال الكفّار حين عاينوا العذاب وندموا على ما فعلوا يا ليتنا نردّ إلى الدّنيا ، ولا نكذب بكتب ربّنا ورسله ، وجميع ما جاءنا من عنده ، ونكون من جملة المؤمنين بآيات الله سبحانه.

والشّاهد : في قوله : (وَلَوْ تَرى) حيث أدخلت كلمة لو على المضارع ، لتنزيله منزلة الماضي لصدوره عمّن لا خلاف في كلامه.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٧.

١٧١

أي (١) أروها حتّى (٢) يعاينوها (٣) ، أو اطّلعوا عليها اطّلاعا ، هي تحتهم ، أو (٤) أدخلوها فعرفوا (٥) مقدار عذابها ،

______________________________________________________

(١) تفسير لقوله تعالى : (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ثمّ أروها بالبناء للمفعول ، بمعنى إراءة النّار لهم.

(٢) أي حتّى تعليليّة ، أي مكثوا عند النّار ليشاهدوها بأعينهم ، فيكون تفسير (وُقِفُوا) بأروها تفسير بما هو لازم معناه المستعمل فيه.

(٣) تفسير ثان للوقوف ، إذ كون الوقف بمعنى الاطّلاع ممّا ذكره في القاموس ، وجملة «هي تحتهم» ، حال من ضمير «عليها» فالمعنى اطّلعوا على النّار حال كونها تحتهم.

(٤) تفسير ثالث للوقوف فيكون [على] في (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) بمعنى في ، أي إذ أدخلوا في النّار ، وفي هذا التّفسير مسامحة ، إذ لم يرد الوقوف بمعنى الدّخول ، إلّا أنّ الإدخال بما أنّه من مقدّمات العرفان.

فالمتحصّل أنّ وقوفهم على النّار إمّا أن يفسّر بإراءتها ، أو بالاطّلاع عليها ، أو بالإدخال فيها كما عرفت.

وفي الأطول (إِذْ وُقِفُوا) أي حبسوا ، أو اطّلعوا ، أو أقيموا من وقفته بمعنى أقمته ، أو حبسته أو أطّلعته على ، في القاموس.

(٥) وفي بعض النّسخ «فعرفوا» راجع إلى التّفاسير الثّلاثة المذكورة في كلام الشّارح ، إلّا أنّ ما هو الموجود في الكتاب ، أعني فعرفوا أولى ، وذلك ليكون إشارة إلى أنّ هذا معنى آخر للوقوف على النّار ، كما يعلم من كلام الزّجّاج حيث قال : قوله تعالى : (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) يحتمل ثلاثة أوجه :

الأوّل : أن يكونوا قد وقفوا عندها حتّى يعاينوا فهم موقوفون إلى أن يدخلوها.

الثّاني : أن يكونوا قد وقفوا عليها ، وهي تحتهم ، يعني أنّهم وقفوا للنّار على الصّراط ، وعلى هذين الوجهين وقفوا من وقفت الدّابة.

والثّالث : أنّهم عرفوها من وقفت على كلام فلان ، أي عرفت معناه انتهى.

١٧٢

وجواب (١) لو محذوف ، أي لرأيت (٢) أمرا فظيعا [لتنزيله (٣)] أي المضارع [منزلة الماضي (٤) لصدوره] أي المضارع أو الكلام [عمّن لا خلاف في إخباره] فهذه الحالة (٥) إنّما هي في القيامة ، لكنّها جعلت بمنزلة الماضي المتحقّق ، فاستعمل

______________________________________________________

(١) أي أتى الشّارح بهذا الكلام دفعا لما يقال : إنّ لو للتّمني ، وهي تدخل على المضارع ، وحينئذ فلا يصحّ الاستشهاد بهذه الآية على دخول لو الشّرطيّة على المضارع ، وحاصل الدّفع إنّا لا نسلّم أنّها هنا للتّمني ، بل هي شرطيّة وجوابها محذوف ، أي لرأيت أمرا فظيعا ، أي شنيعا تقصر العبارة عن تصويره.

(٢) قيل الأولى أن يقول : أي لترى أمرا فظيعا ، ليكون الجواب مطابقا للشّرط.

إلّا أن يقال : إنّه قدّر الماضي على طبق صاحب الكشاف ، رعاية لما هو مقتضى الظّاهر في لو ، وموافقة لقوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) حيث يكون الجواب ، أعني (لَعَنِتُّمْ) فعلا ماضيا.

(٣) علّة لدخول لو على المضارع ، أي إنّما نزل المضارع من حيث اللّفظ والمعنى منزلة الماضي ، حتّى دخلت عليه لو التّي هي مختصّة بما هو ماض لفظا ومدلولا ، لصدور هذا المضارع عمّن لا خلاف في إخباره ، فلفظ المضارع الصّادر عنه كلفظ الماضي في الدّلالة على التّحقّق في الجملة ، فالمعنى الاستقبالي الّذي أخبر عنه بمنزلة المعنى الماضي في التّحقّق في الجملة.

(٤) علّة للتّنزيل ، أي وإنّما نزّل ذلك المعنى الاستقبالي منزلة الماضي لصدور الإخبار عن ذلك المعنى الاستقبالي بالفعل المضارع عمّن لا خلاف في إخباره ، وهو الله الّذي يعلم غيب السّماوات والأرض ، ولا يعزب عنه جلّ جلاله شيء.

(٥) أي رؤيتهم واقفين على النّار ، فاسم الإشارة إشارة إلى مضمون الآية ، ثمّ هذا إشارة إلى الاعتراض بأنّ هذه الحالة ، أي حالة وقوفهم على النّار مستقبلة ، استعمل فكيف فيها لو وإذ المختصّان بالأمور الماضيّة.

وقوله : «ولكنّها جعلت ...» إشارة إلى الجواب ، وحاصله : إنّ هذه الحالة وإن كانت مستقبلة ، لكنّها جعلت بمنزلة الماضي المتحقّق الوقوع لتيقّن وقوعها.

١٧٣

فيها (١) لو وإذ المختصّان (٢) بالماضي ، لكن عدل عن لفظ الماضي (٣) ولم يقل : ولو رأيت ، إشارة (٤) إلى أنّه (٥) كلام من لا خلاف في إخباره ، والمستقبل عنده بمنزلة الماضي في تحقّق الوقوع (٦) فهذا الأمر (٧) مستقبل في التّحقيق ، ماض بحسب التّأويل (٨)

______________________________________________________

وبعبارة واضحة إنّ هذه الحالة بما أنّ المولى الحكيم أخبر عنها أصبحت محقّقة كالأمور الماضية ، فاستعمل فيها ما يختصّ بالماضي مثل لو وإذ.

(١) أي في تلك الحالة كلمة لو وإذ بعد تنزيلها بمنزلة الماضي.

(٢) قوله : «المختصّان» صفة لو وإذ.

(٣) أي قوله : «عدل عن لفظ الماضي ...» تنبيه على نكتة أخرى ، وهي أنّ اللّفظ المستقبل الصّادر عمّن لا خلاف في إخباره بمنزلة الماضي المعلوم تحقّق معناه ، ويمكن أن يقال : لمّا كانت تلك الأمور ماضية تأويلا مستقبلة تحقيقا ، فروعي الجانبان معا ، فأتى بلو مراعاة لجانب التّأويل ، وصيغة المضارع مراعاة لجانب التّحقيق ، وقيل : إنّ في الكلام حذف وأصله ، وإن كان المناسب للتّنزيل المذكور وللو لفظ الماضي «لكن عدل ...».

(٤) علّة للعدول من لفظ الماضي إلى المضارع.

(٥) أي قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى ،) والضّمير في «إخباره» و «عنده» عائد إلى «من» ، وهو الله.

(٦) فلفظ المضارع الصّادر عنه بمنزلة لفظ الماضي ، ويستوي عنده التّعبير بالماضي والمضارع ، فالتّعبير بأيّهما كالتّعبير بالآخر.

(٧) أي وقوف الكفّار على النّار «مستقبل في التّحقيق» ، لأنّه في يوم القيامة.

(٨) أي التّنزيل ، وكذلك لفظ (تَرى) مستقبل بحسب الواقع والتّحقيق ، وماض بحسب التّنزيل «كأنّه» أي الشّأن «قيل : قد انقضى هذا الأمر» أي وقوفهم على النّار ، والضّمير في «رأيته» عائد إلى الأمر.

لا يقال : إنّ المنافرة بين لو و (تَرى) تكون من حيث اللّفظ والمعنى ، وبينها وبين (وُقِفُوا) من حيث المعنى فقطّ ، وكذلك بين إذ و (وُقِفُوا) فتنزيل المضارع ، أعني (تَرى) منزلة الماضي لا يكفي في رفع إشكال المنافرة.

لأنّا نقول : إنا نلتزم بالتّنزيلين :

الأوّل : تنزيل (وُقِفُوا) معنى منزلة الماضي ، فنقول : إنّ حالة وقوفهم على النّار وإن كانت

١٧٤

كأنّه قيل : قد انقضى الأمر لكنّك ما رأيته ، ولو رأيته لرأيت أمرا فظيعا [كما] عدل (١)

______________________________________________________

استقباليّة إلّا أنّها لمكان كونها متيقّنة الوقوع ، حيث أخبر بها من لا خلاف في إخباره ، جعلت بمنزلة الماضي المتحقّق الوقوع.

الثّاني : تنزيل المضارع أي (تَرى) منزلة الماضي لفظا في الدّلالة على التّحقّق في الجملة ، وكذلك معنى في كونه متحقّق الوقوع في الجملة ، وملاك كلّ من التّنزيلين هو كون الخبر ممّن لا خلاف في إخباره.

(١) قد عرفت أنّه استعمل المضارع مع لو ، لتنزيله منزلة الماضي ، لصدوره عمّن لا خلاف في إخباره كما استعمل المضارع بمعنى الماضي للتّنزيل والصّدور المذكورين في قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)(١) ، المعنى ربّما يتمنّى الكفّار يوم القيامة حين يرون الهوان والعذاب كونهم على الإسلام في الدّنيا حين كان العمل يرفع والتّوبة تنفع.

وروي مرفوعا عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (إذا اجتمع أهل النّار ، ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين! قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم ، وقد سرتم معنا في النّار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب ، فأخذنا بها ، فيسمع الله عزوجل ما قالوا ، فأمر من كان في النّار من أهل الإسلام ، فأخرجوا منها ، فحينئذ يقول الكفّار : يا ليتنا كنّا مسلمين.

والشّاهد : في (رُبَما) حيث أدخلت ربّ المكفوفة بما على المضارع لتنزيله لفظا ومعنى بمنزلة الماضي ، لصدوره عمّن لا خلاف في إخباره.

والباعث على هذا التّنزيل ما ذكره أبو علي ، ومن تبعه من البصريّين من أنّ ربّ المكفوفة بما لا تدخل إلّا على الماضي ، وحيث إنّ إظهار الكفّار ودادتهم للإسلام أمر استقباليّ ، لكونه في القيامة فلابدّ من ارتكاب التّنزيل بملاك أنّه ممّا أخبر به من لا خلاف في إخباره.

فالآيتان تشتركان في العدول والتّنزيل بناء على أنّهما كلام من لا خلاف في إخباره ، والمستقبل عنده بمنزلة الماضي في تحقّق الوقوع ، وتفترقان في أنّ الدّاخل على المضارع في كلّ منهما غير الدّاخل عليه في الأخرى ، واستعمال كلّ واحد من الدّاخلين ههنا قرينة على العدول والتّنزيل ، لكونه واقعا في غير محلّه لأنّ محلّه حقيقة هو الماضي حقيقة.

نعم لا يخفى أنّ توضيح التّنزيل فيما هو بصدده بهذه الآية مع ما فيها من الخلاف المبيّن

__________________

(١) سورة الحجر : ٣.

١٧٥

عن الماضي إلى المضارع [في (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا). لتنزيله (١) منزلة الماضي لصدوره عمّن لا خلاف في إخباره ، وإنّما كان الأصل ههنا هو الماضي ، لأنّه قد التزم ابن السّرّاج وأبو علي في الإيضاح (٢)

______________________________________________________

بعضه فيما بعد ، توضيح بما هو أخفى ، ولو قال : ومثله (رُبَما يَوَدُّ) لكان أولى كما في الأطول.

(١) أي المضارع «منزلة الماضي» المناسب لربّ المكفوفة بما عن عمل الجرّ ، وحاصل الكلام في هذا المقام إنّ ما كافة لربّ عن عمل الجرّ ، فيجوز دخولها على المضارع ، وحقّها أن تدخل على الماضي لما في علم النّحو من أنّ من خصائص ربّ أن يكون فعلها ماضيا ، لأنّك إذا ربّ رجل كريم لقيته ، كنت مخبرا بقلّة من لقيته في الزّمان الماضي ، فأمّا المستقبل فلا يعلمه إلّا الله تعالى ولا يمكنك الإخبار عنه بالقلّة.

(٢) قيل : قد جوّز أبو علي في غير الإيضاح ، ومن تبعه ، وقوع الاستقبال بعدها ، وكيف كان فتشبيه المصنّف قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) بقول : تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) مبنيّ على هذا المذهب ، وأمّا الجمهور فقد جوّزوا دخولها على المضارع والجملة الاسميّة أيضا ، واختاره ابن هشام حيث قال في المغني : «ومن دخولها على الفعل المستقبل (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) وقيل : هو مؤوّل بالماضي على حدّ قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ،) وفيه تكلّف لاقتضائه أنّ الفعل المستقبل عبّر به عن ماض متجوّز به عن مستقبل ، انتهى مور الحاجة من كلام ابن هشام في المغني.

وهذا هو الصّحيح لعدم تماميّة ما استدلّ به على امتناع دخولها على غير الماضي من أنّها للتّقليل ، وهو إنّما يظهر في الماضي ، لأنّه إنّما يتصوّر فيما عرف حدّه ، وما يكون كذلك إنّما هو الواقع في الماضي ، وما سيقع مجهول ، فلا يمكن أن يوصف بالقلّة والكثرة ، وجه عدم تماميّة ذلك أنّ العلم بالمستقبل أمر ممكن ، كما في الآية حيث إنّ المتكلّم هو الله الّذي يعلم غيب السّماوات والأرض ، فكونها للتّقليل لا يستلزم امتناع دخولها على المستقبل فإنّ الواقع في المستقبل إذا كان معلوما يعرف حدّه كان كالواقع في الماضي.

١٧٦

أنّ الفعل الواقع بعد ربّ المكفوفة (١) بما يجب أن يكون ماضيا لأنّها (٢) للتّقليل في الماضي ومعنى (٣) التّقليل ههنا أنّه تدهشهم (٤) أهوال القيامة

______________________________________________________

(١) أي المكفوفة عن عمل الجرّ ، بسبب ما الكافّة عن العمل.

(٢) أي ربّ المكفوفة موضوعة «للتّقليل في الماضي» على أحد الرّائيين ، أي قول أبي علي في الإيضاح ، حيث التزم فيه بلزوم وقوع الماضي بعدها ، لأنّ الانقطاع يناسب التّقليل.

(٣) أي قوله : «ومعنى التّقليل ههنا» أي في الآية ، جواب عن سؤال مقدّر تقديره : أنّه لا شكّ في كثرة ودادتهم للإسلام وإظهارهم لها بقولهم : ليتنا كنّا مسلمين ، وبعبارة أخرى كيف تكون ربّ ههنا للتّقليل ، والحال إنّ الكفار يودّون كثيرا كونهم مسلمين؟!

وحاصل الجواب :

إنّه لا ريب في عظم ودادتهم للإسلام ، وكثرة مراتبها إلّا أنّ إظهارها بقولهم : ليتنا كنّا مسلمين وتمنّيهم له ليس بكثير ، إذ مقتضى الجري الطّبيعي ، وإن كان كثرته أيضا ، إلّا أنّ هنا ما يمنع ذلك ، وهو عدم التفاتهم إلى مزيّة الإسلام لعظم العذاب وشدّته في كثير من الأوقات ، وإنّما يلتفتون إليها في قليل من الأوقات يحصل لهم فيه إفاقة ما ، فعليه لا مانع من حمل على التّقليل في الآية.

وقد يجاب أيضا بأنّ ودادتهم وإن كانت كثيرة لكنّها بمنزلة القليل لعدم نفعها.

(٤) أي الكفّار أعني تحيّرهم وتسكرهم» أهوال القيامة» ، أو تذهب عقولهم الأمور المفزعة.

١٧٧

فيبهتون (١) فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنّوا ذلك (٢) وقيل : هي مستعارة (٣) للتّكثير أو للتّحقيق ومفعول (يَوَدُّ) محذوف (٤) لدلالة (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) عليه (٥)

______________________________________________________

(١) من البهت بمعنى الدّهشة والتّحيّر ، أي فيتحيّرون ، أو الأخذ بغتة ، فعلم أنّ قلّة التّمنّي لذلك باعتبار قلّة الزّمان الّذي يقع فيه ، فلا ينافي كثرته في نفسه.

(٢) أي كونهم مسلمين.

(٣) أي مستعارة من معناها الأصلي ، وهو التّقليل لمعنى آخر ، وهو إمّا الكثرة أو التّحقيق ، فتكون ودادتهم مسلمين كثيرة أو محقّقة أو كانت المستعارة بمعنى المنقولة ، فالمعنى وقيل : هي منقولة من التّقليل إلى التّكثير أو التّحقيق ، والمراد مطلق المجاز لا الاستعارة الاصطلاحيّة ، فالعلاقة في استعمالها في التّكثير هي الضّدّيّة ، وفي التّحقيق اللّازميّة ، فإنّ التّقليل في الماضي يلزمه التّحقيق ، وقد عرفت أنّ ربّ عند بعضهم حقيقة في التّكثير ، وعليه تختصّ أيضا بالماضي عند ابن السّرّاج وأبي علي ، فإنّ التّكثير كالتّقليل إنّما يكون فيما عرف حدّه.

وباعتبار أنّ الكفّار حال إفاقتهم دائما يودّون كونهم مسلمين فالتّكثير نظرا للتّمنّي في نفسه ، والتّقليل نظرا إلى أنّ أكثر أحوالهم الغيبوبة والدّهشة.

قيل : قوله : «مستعارة للتّكثير» أي مستعارة بالنّسبة إلى أصل الوضع ، وإن شاع استعمالها في التّكثير حتّى التحق بالحقيقة.

وكيف كان فالمراد بالاستعارة هنا مطلق النّقل والتّجوّز ، لا المصطلح عليها والعلاقة الضّدّيّة ، لأنّ التّكثير ضدّ التّقليل.

(٤) فالتّقدير ربّما يودّ الّذين كفروا الإسلام ، أو كونهم مسلمين ، ولا فرق في ذلك بين الوجوه السّابقة من كون ربّ للتّقليل ، أو التّكثير ، أو التّحقيق ، ولا يصحّ أن يكون المفعول (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) كما قد يتوهّم وذلك لأحد وجهين :

الأوّل : لأنّ الكفار لم يودّوا ذلك.

الثّاني : لأنّ لو التّي للتّمنّي للإنشاء ، ولا يعمل ما قبل الإنشاء فيما بعده.

(٥) أي على حذف المفعول.

١٧٨

ولو للتّمنّي (١) حكاية (٢) لودادتهم وأمّا على رأي من جعل لو التّي للتّمنّي حرفا مصدريّة (٣) ، فمفعول (يَوَدُّ) هو قوله : (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٤).

______________________________________________________

(١) أي لا للشّرط ، وذلك لعدم ذكر جواب لها.

(٢) أي بناء على أنّ جملة (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) محكيّة بالقول المقدّر ، وهو حال لفاعل كفروا ، والمعنى ربّما يودّ الّذين كفروا ، حال كونهم قائلين لو كانوا مسلمين ، أي لو كنّا مسلمين ، والتّعبير بالغيبة لمطابقة (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) والأمران جائزان ، فلا يرد حينئذ ما يقال من أنّ الظّاهر أن يقال : لو كنّا مسلمين ، لأنّ هذه هي الودادة التّي تصدر عنهم حتّى تكون الحكاية مطابقة للمحكى ، إذ معنى الحكاية إيراد اللّفظ على سبيل استبقاء صورة الأولى.

ويمكن أن يكون قوله : «حكاية لودادتهم» جوابا عن سؤال مقدّر ، والتّقدير إنّ الالتزام بكون لو للتّمنّي لا مجال له ، إذ التّمنّي مستحيل من الله سبحانه.

وحاصل الجواب : إنّ قوله تعالى حكاية عن تمنّي الكفّار ، لا أنّه مسوق لغرض إبراز تمنّيه سبحانه ، ولا ريب أنّ حكاية التّمنّي ليست مستحيلة منه تعالى.

وكيف كان فحذف المفعول مبنيّ على أنّ لو للتّمنّي وجملة (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) محكيّة بالقول المقدّر ، كما عرفت. ويمكن أن تكون لو للشّرط والجواب محذوف أي لنجوا من العذاب ، فالمعنى حينئذ لو كانوا مسلمين لنجوا من العذاب ، وحينئذ لا حكاية أصلا.

(٣) أي وأمّا على رأي من جعل لو التّي جعلها غيره للتّمنّي حرفا مصدريّة فلا يرد ما قيل :

من أنّه إذا كانت لو حرفا مصدريّة ، لا تكون للتّمنّي.

(٤) أي بعد التّأويل بالمصدر ، فالمعنى يود الّذين كفروا كونهم مسلمين ، وحينئذ لا حاجة إلى حذف المفعول.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه هو الاحتمالات في لو ـ ثلاثة :

الأوّل : أن تكون للتّمنّي.

والثّاني : أن تكون حرفا مصدريّة.

والثّالث : أن تكون للشّرط محذوف الجزاء ، وإنّما لم يذكره الشّارح لكونه بعيدا ، ومحتاجا إلى التّقدير.

١٧٩

[أو لاستحضار (١) الصّورة] عطف (٢) على قوله : لتنزيله.

______________________________________________________

(١) أي لإحضار المتكلّم المخاطب الصّورة ، فالسّين والتّاء ليستا للطّلب ، بل زائدتان للتّأكيد ، ويجوز أن تكونا للطّلب كأنّ المتكلّم يطلب من نفسه الإحضار.

وكيف كان فإنّما عبّر عن مدخول لو الّذي يجب أن يكون ماضيا بفعل مضارع ، لأجل تجسيم صورة موقف الكفّار يوم القيامة بإحضار الصّورة المذكورة في أذهان المخاطبين حتّى ينظروا إلى الموقف المزبور نظرا شهوديا ، لأنّ المضارع ممّا يصلح للدّلالة على الحال الحاضر الّذي من شأنه العرض والتّجسيم.

(٢) إنّ ما ذكره الشّارح من أنّ قوله : «لاستحضار الصّورة» عطف على قوله : «لتنزيله» لا يرجع إلى محصّل صحيح ، لأنّه مستلزم لعطف الخاصّ على العامّ ، حيث إنّ التّنزيل المذكور سابقا مطلق لم يلحظ فيه الاستحضار أو عدمه ، والاستحضار عبارة عن التّنزيل الملحوظ معه الاستحضار أو عدمه ، ومثل هذا العطف مختصّ بالواو ، ولا يجوز بأو ، للزوم جعل قسم الشّيء قسيما له ، إلّا أن يقال : إنّه عطف مغاير نظرا إلى أنّ المعطوف عليه من تنزيل الماضي حقيقة والمعطوف من تنزيل الماضي تقديرا.

والتّحقيق أن يقال : إنّ المضارع الّذي يدلّ على الأمر الاستقبالي لا تدخل عليه لو إلّا بتنزيله منزلة الماضي كما تقدم مفصّلا ، وأمّا بتنزيله منزلة الأمر الحالي ابتداء كما في استحضار الصّورة ، وبين التّنزيلين مباينة كلّيّة.

توضيح ذلك أنّ دخول لو على المضارع في الآية المذكورة إمّا لتنزيله منزلة الماضي كما تقدّم في المعطوف عليه ، وإمّا لتنزيله منزلة الأمر الحالي ابتداء ، كما في المعطوف ، بمعنى أنّ مقتضى الظّاهر وإن كان تنزيل الحالة المستقبلة منزلة الحالة الماضية ، ثمّ التّعبير عنها بلفظ الماضي ، لمكان أنّ كلمة لو مختصّة بالماضي ، لكن لم يؤت بما تقتضيه لو ، وعدل عنه إلى الإتيان بالمضارع استحضارا لتلك الحالة المستقبلة ، وجعلها بمنزلة الحالة الحاضرة.

ودعوى تنزيل الأمر الاستقبالي منزلة الأمر الماضوي ثمّ تنزيل الماضي التّأويلي منزلة الأمر الحالي بعيدة جدا ، بل تكلّف بارد لا يرتضيه الطّبع.

لا يقال : لابدّ من الالتزام بالتّنزيلين لتصحيح دخول لو على المضارع ، إذ لو لم ينزّل الأمر الاستقبالي منزلة الماضي لما صحّ دخول لو على (تَرى).

١٨٠