دروس في البلاغة - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥

حيث لم يقل : إن يردن ، فإن قيل : تعليق النّهي (١) عن الإكراه بإرادتهنّ التّحصّن يشعر بجواز الإكراه عند انتفائها ، على ما هو مقتضى التّعليق بالشّرط ، أجيب (٢) بأنّ القائلين

______________________________________________________

جار الله كان لعبد الله بن أبي ست جوار يكرههنّ على البغاء ، وضرب عليهنّ ضرائب ، فشكت اثنتان منهنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية المذكورة.

وحاصل المعنى : لا تكرهوا إماءكم وجواريكم على الزّنا إن أردن تحصّنا ، أي عفّة ، وكانت الجاهليّة تكره الإماء على الزّنا ، فجاء الإسلام بتحريم ذلك.

والشّاهد : في قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) حيث استعملت إن مع لفظ الماضي لإبراز غير الحاصل في معرض الحاصل من جهة إظهار الرّغبة إلى إرادتهنّ التّحصّن ، أي من جهة إظهار كمال رضائه سبحانه بها.

(١) أي لا تكرهوا ، وحاصل الإشكال إنّ تعليق قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا) بإرادتهنّ التّحصّن يقتضي بمفهوم المخالفة جواز إكراههنّ على الزّنا ، إذا لم يردن التّحصّن والعفّة ، مع أنّ الإكراه على الزّنا لا يجوز مطلقا قطعا ، فما معنى التّعليق في الآية الشّريفة؟!

والحاصل : إنّ تعليق النّهي عن الإكراه بإرادتهنّ التّحصّن يدلّ بالمفهوم المخالف على جواز الإكراه عند انتفاء تلك الإرادة على ما هو مقتضى التّعليق بالشّرط ، فكيف يجوز الحكم بالجواز مع كونه مخالفا لما هو من الضّروريات ، أعني حرمة الإكراه على البغاء؟!.

(٢) بوجوه : الأوّل : أنّ من يقول بأنّ الجملة الشّرطيّة تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، إنّما يلتزم به إذا لم يكن للتّعليق بالشّرط فائدة أخرى ، أي غير الانتفاء عند الانتفاء مستدلّا بأنّه لو لم تكن عندئذ دالّة على مفهوم المخالفة للزم أن يكون التّعليق بالشّرط لغوا ، والفائدة للتّعليق بالشّرط في المقام موجودة ، وهي المبالغة في نهي الموالي عن الإكراه ، لما في ذلك من الإشعار بأنّ الإماء مع خسّتهنّ وشدّة ميلهنّ إلى الزّنا إن أردن التّحصّن والعفّة ، فهم أي الموالي أحقّ بإرادته مع كمال عقلهم بالإضافة إلى عقلهنّ ، ولا ريب أنّ هذا يوجب تأكّد طلب العفّة والتّحصّن منهم ، فيصير النّهي المتعلّق بالإكراه على الزّنا آكد وقويّا ومبالغا فيه ، فمع وجود هذه الفائدة لا مجال للالتزام بالمفهوم في الآية.

١٤١

بأنّ التّقييد بالشّرط يدلّ على نفي الحكم عند انتفائه ، إنّما يقولون به إذا لم يظهر للشّرط فائدة أخرى (١) ، ويجوز أن تكون فائدته (٢) في الآية المبالغة في النّهي عن الإكراه ، يعني (٣) أنّهن إذا أردن العفّة فالمولى أحقّ بإرادتها ، وأيضا (٤) دلالة الشّرط على انتفاء الحكم إنّما هو بحسب الظّاهر ، والإجماع القاطع على حرمة الإكراه مطلقا ، قد عارضه (٥) ، والظّاهر يدفع بالقاطع.

______________________________________________________

(١) أي سوى مفهوم المخالفة.

(٢) أي فائدة الشّرط ، وهي المبالغة في النّهي عن الإكراه كما عرفت.

(٣) بيان وتوضيح ، لكون فائدة ذكر الشّرط في الآية ، هي المبالغة في النّهي عن الإكراه.

(٤) هذا هو الوجه الثّاني ، وحاصله أنّا وإن سلّمنا دلالة الجملة الشّرطيّة على المفهوم إلّا أنّ الإجماع القاطع على حرمة الإكراه مطلقا يكون معارضا ، وحيث إنّه قطعيّ يقدّم عليها لأنّ دلالتها عليه بالظّهور ، ولا ريب أنّ الدّليل القطعيّ يقدّم على الظّاهر الظّنّي عند التّعارض.

(٥) أي فقد عارض الإجماع مفهوم الشّرط فضمير الفاعل في قوله : «عارضه» يعود إلى الإجماع ، وضمير المفعول عائد إلى مفهوم الشّرط.

الوجه الثّالث : إنّ القضيّة الشّرطيّة قد تكون لبيان تحقّق الموضوع ، كما في قولك : إن رزقت ولدا فاختنه ، وإذا ركب الأمير فخذ ركابه ، فلا مفهوم لها حينئذ لأنّ المفهوم هي القضيّة السّالبة بانتفاء المحمول ، والشّرطيّة التّي لبيان الموضوع هي تنقلب إلى السّالبة بانتفاء الموضوع مع انتفاء الشّرط.

والقضيّة في المقام من هذا القبيل أعني لبيان تحقّق الموضوع ، إذ الإكراه إنّما هو عند إرادتهنّ التّحصّن ، ولا يأتي الإكراه عند انتفاء إرادتهنّ التّحصّن ، لأنّهنّ إذا أردن عدم التّحصّن كان أمرهنّ بالزّنا موافقا لغرضهنّ ، والطّالب للشّيء لا يتصوّر إكراهه عليه ، لأنّ الإكراه إنّما للممتنع ، فإذا لا يمكن أن يكون التّعليق بالشّرط ناطقا بانتفاء حرمة الإكراه ، وتبديله بجوازه عند انتفاء الإرادة ، إذ عندئذ ينتفي الإكراه أيضا ، فلا مجال للزوم جواز الإكراه عند انتفاء حرمته ، وهنا وجوه أخر تركناها رعاية للاختصار.

١٤٢

[قال السّكّاكي : أو للتّعريض] أي إبراز غير الحاصل في معرض الحاصل إمّا لما ذكر (١) وإمّا للتّعريض (٢) بأن ينسب (٣) الفعل إلى واحد ، والمراد غيره [نحو] قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(١) (٤)] فالمخاطب (٥)

______________________________________________________

(١) أي الأمور الأربعة ، أعني قوّة الأسباب ، وكون ما هو للوقوع كالواقع ، والتّفاؤل ، وإظهار الرّغبة.

(٢) هذا إشارة إلى أنّ قول السّكّاكي «أو للتّعريض» عطف على «قوّة الأسباب» المذكورة في كلامه فيكون علّة للإبراز.

(٣) بيان لمعنى التّعريض ، قال الزّمخشري : التّعريض ، أن تذكر شيئا تدلّ به على شيء لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلّم عليك ، فكأنّه أمال الكلام إلى عرض يدلّ على المقصود.

وحاصل الكلام في المقام : إنّ التّعريض إمالة الكلام إلى جانب يشير هذا الجانب إلى ما هو المقصود لاكتناف الكلام ، بما يدلّ على أنّ الجانب الأوّل غير مقصود بل المراد بالإرادة الجدّيّة هو الجانب الثّاني.

ففي قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) أميل الكلام إلى جانب ، وهو حبط عمل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير صدور الشّرك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يشير إلى أنّ المقصود بيان حبط عمل من صدر منه الشّرك ، وتوبيخهم على ذلك لاكتناف الكلام بما يدلّ على أنّ الجانب الأوّل غير مقصود ، بل إنّما المقصود هو الجانب الثّاني وذلك لاستحالة صدور الشّرك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) وبعده قوله تعالى : (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ،) قال ابن عبّاس : هذا أدب من الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهديد لغيره ، لأنّ الله تعالى قد عصمه من الشّرك.

والشاهد فيه : قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) حيث استعملت فيه كلمة إن مع لفظ الماضي تعريضا على من صدر منه الشّرك ، كما في الشّرح.

(٥) الحصر هنا على تقدير حصوله إضافيّ ، أي ليس المخاطب أمّته ، إذ غيره من الأنبياء مخاطب أيضا ، بدليل قوله تعالى : (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ).

إن إذا كان الخطاب إلى كلّ واحد من الأنبياء ، فلماذا أفرد الضّمير؟

__________________

(١) سورة الزّمر : ٦٥.

١٤٣

هو النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم إشراكه (١) مقطوع به (٢) ، لكن جيء بلفظ (٣) الماضي إبرازا للإشراك الغير الحاصل في معرض الحاصل (٤) على سبيل الفرض والتّقدير ، تعريضا (٥)

______________________________________________________

أفرد ضمير الخطاب ، للإشارة إلى أنّ الحكم المذكور قد خوطب به كلّ واحد واحد منهم على حدة ، لا أنّه توجّه إليهم مرّة واحدة ، أي قيل : لكلّ واحد واحد منهم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) لا أنّه قيل للجميع مرّة واحدة : لئن أشركتم ليحبطنّ أعمالكم.

(١) أي المخاطب ، وهو النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) أي في جميع الأزمنة ، لأنّ الأنبياء معصومون عن الشّرك قبل البعثة وبعدها.

(٣) أتى بكلمة لفظ الماضي للإشارة إلى أنّ المعنى على الاستقبال ، كما هو مفروض الكلام.

(٤) أي إبرازا للإشراك الّذي هو غير حاصل من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحد من الأزمنة في معرض الحاصل. و «على» في قوله : «على سبيل الفرض ...» متعلّق بالحاصل الثّاني ، أي الإشراك الّذي فرض وقوعه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الماضي.

(٥) مفعول له لقوله : «إبرازا» وجه التّعريض أنّ الفعل إذا رتّب عليه وعيد في حال نسبته فرضا وتقديرا إلى ذي شرف ، وهو لم يحصل منه ، يفهم منه المخاطبون على حسب سليقتهم العرفيّة أنّ الوعيد واقع على من صدر منه ذلك الفعل.

ولهذا التّعريض فائدتان : إحداهما : توبيخ الكفار بأنّ أعمالهم كأعمال الحيوانات العجّم لا ثمرة فيها ، لأنّ إشراك أشرف الخلق إذا كان يحبط ويبطل عمله ، فإشراك غيره يكون محبطا بطريق أولى.

وثانيتهما : إذلال المشركين وتحقيرهم بأنّهم غير لائقين بالخطاب لكونهم في حكم البهائم ، فهم وإن كانوا متّصفين بالإشراك ، لكن لخسّتهم ونقص عقولهم ، لا يستحقّون الخطاب ، فلا بدّ من نسبة الإشراك إلى غيرهم ، على سبيل الفرض والتّقدير ، وجعله مخاطبا ظاهرا.

لا يقال : إنّ الفائدة الأولى لا مجال لها ، لأنّ المشركين لا يعتقدون بنوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يظنّون ، ويستفدون حبط أعمالهم بالشّرك على نحو الأوّلويّة المذكور.

لأنّا نقول : إنّ الفائدة الأولى فائدة بالإضافة إلينا ، لا بالإضافة إليهم على أنّهم يستفيدون أنّ الآية مسوقة لتوبيخهم ، وإن كانوا غير معتقدين بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه يجدي فيه علمهم

١٤٤

بمن صدر عنهم الإشراك بأنّه قد حبطت أعمالهم ، كما إذا شتمك أحد ، فتقول : والله إن شتمني الأمير لأضربنّه (١) ، ولا يخفى (٢)

______________________________________________________

بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعي كونه نبيّا ، وأشرف الخلق.

(١) أي تعريضا بأنّ من شتمك يستحقّ العقوبة ، وأنّك تضربه ، وإن كان أميرا ، فتميل الكلام إلى جانب ، أي ضربك الأمير على تقدير صدور الشّتم منه ، لينتقل إلى الذّهن بالقرينة منه إلى ما هو المقصود ، وهو ضربك المخاطب الّذي صدر منه الشّتم.

(٢) هذا الكلام ردّ لاعتراض الخلخالي على السّكّاكي ، فلابدّ أوّلا من بيان الاعتراض ، وثانيا ردّ ذلك.

وحاصل الاعتراض : إنّ التّعريض عامّ لمن صدر منهم الإشراك في الماضي وغيرهم ، ممّن يصدر منهم الإشراك في الاستقبال ، وهذا التّعريض يحصل بإسناد الفعل أي الإشراك إلى من يمتنع صدوره منه سواء كان بصيغة الماضي أو المضارع ، أعني لئن تشرك ، فعليه لا وجه لما ذكره السّكّاكي من أنّ العدول من المستقبل إلى الماضي قد يكون للتّعريض ، كما في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) الآية.

وحاصل ردّ الشّارح على الخلخالي : أنّ ما ذكره أوّلا : من أنّ التّعريض عامّ لمن صدر منهم الإشراك وغيره لا أساس له ، لأنّ المقصود من التّعريض التّوبيخ والتّبكيت ، ولا ريب أنّ من لم يصدر منه الإشراك بعد لا يستحقّ الذّمّ والتّوبيخ ، وإن كان بحيث سيصدر منه الإشراك.

وما ذكره ثانيا : من أنّ التّعريض يحصل بلفظ المضارع إذا أسند إلى من يمتنع صدور الإشراك منه ، أيضا لا أساس له ، لأنّ كلمة إن مع لفظ المضارع تكون جائية على وفق الأصل ، وما يكون كذلك لا يحتاج إلى نكتة ، وإنّما المحتاج إليها الأمور الخارجة عن أصلها ، كما لو استعملت كلمة إن مع لفظ الماضي.

ثمّ ما ذكره الشّارح بالإضافة إلى ما ذكره الخلخالي أوّلا وإن كان في محلّه ، فإنّ التّوبيخ إنّما يكون على ما وقع من القبيح ، لا على ما سيقع منه ، إلّا أنّ ما ذكره بالنّسبة إلى ردّ ما ذكره الخلخالي ثانيا ، لا يرجع إلى محصّل صحيح ، وذلك لأنّ استعمال إن مع الفعل المسند إلى من يعلم انتفاؤه منه يكون على خلاف الأصل ، لما عرفت من أنّ الأصل فيه عدم الجزم بالوقوع واللّاوقوع ، فاستعمالها في مقام الجزم بلا وقوع الشّرط يكون على خلاف الأصل ، فلابدّ له

١٤٥

أنّه لا معنى للتّعريض بمن لم يصدر عنهم الإشراك ، وأنّ ذكر المضارع لا يفيد التّعريض لكونه على أصله ، ولما كان في هذا الكلام (١) نوع خفاء وضعف (٢)

______________________________________________________

من نكتة ، وفي المقام التّعريض على من صدر منه الإشراك صالح لأن يكون نكتة له ، ودعوى منع الصّلاحيّة مكابرة واضحة ، فإنّ أهل العرف كما يفهمون التّعريض على من صدر منه الإشراك مثلا عن إسناده بلفظ الماضي إلى من يمتنع صدوره منه ، كذلك يفهمونه عن إسناده بلفظ المضارع إليه ، كما أنّه لا يستفاد التّعريض على كلا التّقديرين بالإضافة إلى من سيصدر منه الإشراك ، وإن يستفاد حبط عمله عند صدوره منه في الاستقبال بفحوى الخطاب ، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ التّوبيخ على ما وقع من القبيح لا على ما سيقع منه.

(١) أي قول السّكّاكي حيث قال : «أو للتّعريض» ، كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) الآية.

(٢) إشارة إلى بيان نكتة نسبة هذا الكلام إلى السّكّاكي دون ما قبله ، مع أنّ الكلّ مذكور في كتابه ، والحاصل أنّه لما كان هذا الكلام مشتملا على الخفاء والضّعف نسبه إلى السّكّاكي.

أما الخفاء فظاهر ، كما يدلّ عليه ذهاب الخلخالي بأنّه تعريض بمن صدر عنه الشّرك ، ولم يفرّق بين التّعريض والتّوعيد ، ولم يلتفت أنّه مستعمل على وفق الأصل ، فلا يحتاج إلى النّكتة ، كما عرفت في ردّ الشّارح عليه.

وأما الضّعف فلأنّ اللّام الموطّئة للقسم توجب كون الشّرط ماضيا على ما قرّر في النّحو ، فلا دخل في كون الشّرط ماضيا في نحو : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) الآية ، للتّعريض ، وما يقال من أنّه لا مانع من الالتزام بكونه مفيدا للتّعريض ، وإن كان الكلام مشتملا على اللّام الموطّئة لعدم التّنافي بين المقتضيات ، لا يرفع الضّعف ، إذ يحتمل أن لا يكون مجيء الشّرط ماضيا ، في نحو : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) للتّعريض ، بل كان من جهة اللّام الموطّئة ، ومعه لا يثبت ما ذكره من أنّ التّعبير بالماضي لإبراز غير الحاصل في معرض الحاصل قد يكون للتّعريض ، كما في قوله تعالى ، إذ مع وجود هذا الاحتمال لا يصحّ الاستدلال به.

١٤٦

نسبه إلى السّكّاكي ، وإلّا (١) فهو قد ذكر جميع ما تقدّم ، ثمّ قال : [ونظيره] ، أي نظير] لئن أشركت [في التّعريض (٢)] لا في استعمال الماضي مقام المضارع في الشّرط للتّعريض قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي وما لكم لا تعبدون الّذي فطركم ، بدليل (٣)

______________________________________________________

(١) أي وإن لم يكن في هذا الكلام الخفاء والضّعف ، «فهو» أي السّكّاكي «قد ذكر جميع ما تقدّم» من الأمور الأربعة ، أعني التّفاؤل ، وإظهار الرّغبة ، وكون ما هو للوقوع كالواقع ، وقوّة الأسباب المتآخذة في حصول الشّرط.

(٢) أي في مجرّد التّعريض بالغير «لا في استعمال الماضي مقام المضارع في الشّرط للتّعريض» إذ لا شرط ولا ماضي ، ولا إبراز غير الحاصل في معرض الحاصل في قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي)(١) بخلاف قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ،) ومن هنا ظهر وجه أنّه لم يقل ونحو : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) وقال : «ونظيره» ، وذلك للفرق بينهما لفظا ، فإنّ أحدهما أي قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) شرط دون الآخر أي قوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ).

وأحدهما إبراز في معرض الحاصل دون الآخر. وأيضا بينهما فرق معنى من جهة أنّ قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) ليس محض تعريض ، بل للمخاطب منه نصيب ، لأنّ هذا الحكم في حقّه متحقّق ، بخلاف (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) فإنّه محض تعريض ، وكيف كان فقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) حكاية ما قاله الرّجل الّذي جاء إلى أهل الأنطاكيّة من أقصاها ، أي أيّ شيء لي إذا لم أعبد خالقي الّذي أنشأني وأنعم علي ، وهداني ، وإليه ترجعون أيها القوم عند البعث ، فيجزيكم بكفركم.

والشاهد فيه : قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) حيث أسند المتكلّم عدم العبادة إلى نفسه ، مع أنّ متلبّس بالعبادة له سبحانه تعريضا بمن لم يكونوا عابدين له تعالى.

(٣) أي ففيه تعريض بالمخاطبين الّذين لا يعبدون الله بدليل (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بصيغة الخطاب ، إذ لو لا الإشارة إلى المخاطبين بهذا الإنكار على وجه التّعريض ، لكان المناسب أن يقول : وإليه أرجع ، فإنّه الموافق للسّياق ، ثمّ تفسير الشّارح أعني «أي وما لكم لا تعبدون الّذي فطركم» ليس بيانا للمعنى الّذي استعمل فيه قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ ،) بل هو بيان لما هو المراد الجدّيّ منه ، فإنّ المراد الاستعمالي إنكار المتكلّم على نفسه عدم العبادة لله تعالى ، لا الإنكار على المخاطبين ، وإنّما هو المراد الجدّيّ له.

__________________

(١) سورة يس : ٢٢.

١٤٧

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إذ لو لا التّعريض لكان المناسب أن يقال : وإليه أرجع على ما هو الموافق للسّياق. [ووجه (١) حسنه] أي حسن هذا التّعريض (٢) [إسماع] المتكلّم [المخاطبين] الّذين هم أعداؤه [الحقّ] ،

______________________________________________________

وقد اعترض على المصنّف بأنّه قد تقدّم منه التّمثيل بهذه الآية ، للالتفات على مذهب السّكّاكي ، وهو عبارة عن التّعبير عن معنى اقتضاه المقام بطريق آخر ، غير ما هو الأصل فيه ، فيكون الالتفات من باب المجاز ، إذ اللّفظ المستعمل في هذا المعنى غير اللّفظ الّذي وضع بإزائه ، فعليه قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) قد استعمل مجازا في «ما لكم لا تعبدون الّذي فطركم» ، فإذا لا يصحّ التّمثيل بالآية في المقام ، لأنّ اللّفظ في مقام التّعريض يكون مستعملا في ما وضع له ، لينتقل منه بالقرينة إلى المراد الجدّيّ ، وعلى الالتفات يكون مجازا ، والحمل على الحقيقة أولى.

وأجيب عن ذلك بوجهين : الأوّل : إنّ المراد بالالتفات هو كون التّعبير عن معنى بطريق غير ما هو الأصل لإفادة ذلك المعنى ولو بالقرائن ، فحينئذ يمكن اجتماع التّعريض والالتفات في كلام واحد ، فيصحّ التّمثيل بالآية لهما.

الثّاني : إنّ قوله تعالى (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ) يمكن أن يكون من باب المجاز ، ويمكن أن يكون من باب الكناية ، فإذا يصحّ التّمثيل به للالتفات على الاحتمال الأوّل ، وللتّعريض على الاحتمال الثّاني ، الظّاهر إنّ الآية من باب الكناية ، واحتمال كونها من باب المجاز موهون جدّا ، فالصّحيح هو الجواب الأوّل.

(١) هذا مرتبط بمحذوف ، أي والتّعريض حسن ، ووجه حسنه كذا.

(٢) الواقع في النّظير أعني قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ ،) وليس المراد وجه حسن التّعريض مطلقا ، إذ لا يجري الوجه الّذي ذكره المصنّف أعني قوله : «لكونه أدخل في إمحاض النّصح ...» في قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) إذ ليس فيه نصح ووعظ ، بل توبيخ وإظهار فضيحة بالإضافة إلى المشركين.

١٤٨

هو المفعول الثّاني لإسماع (١) ، [على وجه لا يزيد] ذلك الوجه (٢) [غضبهم (٣) وهو] أي ذلك الوجه [ترك التّصريح بنسبتهم إلى (٤) الباطل ، ويعين (٥)] عطف على ـ يزيد ـ وليس هذا (٦) في كلام السّكّاكي ، أي على وجه يعين [على قبوله] أي قبول الحقّ [لكونه] أي لكون ذلك الوجه [أدخل في إمحاض (٧) النّصح لهم حيث لا يريد] المتكلّم [الهم (٨) إلا ما

______________________________________________________

(١) أي ومفعوله الأوّل المخاطبين.

(٢) ذكر ذلك الوجه إشارة إلى أنّ الضّمير المستتر في «لا يزيد» راجع إلى الوجه ، لا إلى الإسماع ، إذ لو أرجعناه إليه تبقى الجملة الوصفيّة بلا عائد.

(٣) أي مع أنّ من شأن المخاطب إذا كان عدوا للمتكلّم ازداد غضبه عند سماع الحقّ من المتكلّم ، لا سيّما إذا كان المخاطب من المعاندين ، أمثال أبي جهل ، وأبي لهب ، ونحوهما.

(٤) أي لأنّ المتكلّم يشير إلى كونهم على البطلان ، يعني عدم عبادتهم الله الّذي فطرهم ، أي خلقهم. وبعبارة واضحة إنّ المتكلّم إنّما أنكر على نفسه صراحة ، وفهم منه بالقرينة إرادة الغير.

(٥) أي من العون عطف على قوله : «لا يزيد» أي على النّفي والمنفي معا لا على المنفي فقط.

(٦) أي ليس قوله : «ويعين على قبوله» في كلام السّكّاكي صراحة ، وإن كان من لوازم ونتائج قوله : «لا يزيد غضبهم» لأنّ ما لا يثير الغضب ، ولا يزيده من شأنه الإعانة على قبول الحقّ.

(٧) أي في إخلاص النّصح لهم ، ولا ريب أنّ ما كان كذلك يكون في غاية القبول ، حيث إنّ المخاطب يرى أنّه ليس فيه شيء من التّعصب وإعمال الغرض الرّاجع إلى المتكلّم.

(٨) أي حيث أظهر المتكلّم أنّه لا يريد للمخاطبين إلا ما يريد لنفسه ، فإنّه نسب ترك العبادة إلى نفسه ، فبيّن أنّه على تقدير تركه للعبادة يلزمه من الإنكار ما يلزمهم ، فقد أدخل نفسه معهم في هذا الأمر ، فلا يريد لهم فيه إلّا ما يريد لنفسه. وهذا معنى قوله : «حيث لا يريد المتكلّم لهم إلّا ما يريد لنفسه».

١٤٩

يريد لنفسه ، ولو للشّرط (١)] أي (٢) لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشّرط فرضا (٣)

______________________________________________________

(١) أي أصلها أن تكون للشّرط في المستقبل مرادفا لإن الشّرطيّة إلّا أنّها لا تجزم على المشهور ، فمجيئها لغير الشّرط على خلاف الأصل ، وإنّما قيد المصنّف بأنّ لو للشّرط ، لأنّها قد تأتي لغير الشّرط كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، حيث إنّ لو هذه للدّلالة على أنّ الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلّم ، لا للدّلالة على الشّرط ، أي تعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشّرط في الماضي مع القطع بانتفائه.

(٢) أي الغرض من هذا التّفسير بيان أنّ الظّرف أي قوله : «في الماضي» متعلّق بالشّرط باعتبار تضمّنه حصول مضمون الشّرط.

وبعبارة أخرى : إنّ الظّرف متعلّق بحصول مضمون الشّرط الّذي تضمّنه لفظ الشّرط في كلام المصنّف ، لا بالتّعليق ولا بحصول مضمون الجزاء اللّذين تضمّنهما أيضا لفظ الشّرط في كلامه.

أمّا الأوّل : فلأنّ التّعليق في الحال لا في الماضي.

وأمّا الثّاني : فلأنّ حصول الجزاء غير مقيّد بالماضي ، بل معلّق على حصول الشّرط ، وإن لزم تقييده بالماضي ، لأنّ المعلّق بأمر مقيّد بالماضي يلزم تقييده بالماضي.

ثمّ الباء في قوله : «بحصول ...» بمعنى على ، أي لتعليق حصول مضمون الجزاء على مضمون الشّرط.

المصنّف الآتي مع القطع بانتفاء الشّرط ، وبين كلام الشّارح.

(٣) متعلّق بحصول مضمون الشّرط لا بالتّعليق ، لأنّ التّعليق أمر محقّق وليس أمرا فرضيّا.

ثمّ نصبه إمّا لكونه صفة لمفعول مطلق ، أي حصولا فرضا ، أو كونه حالا لحصول مضمون الشّرط ، أي حال كون حصول مضمون الشّرط بطريق الفرض والتّقدير. أو كونه تمييزا للنّسبة الإضافيّة ، أي حصول مضمون الشّرط من حيث الفرض ، وكيف كان فإنّما قيّد الحصول الثّاني بالفرض ، لئلّا يلزم المنافاة بين قول

١٥٠

[في الماضي (١) مع القطع بانتفاء الشّرط (٢)] فيلزم انتفاء الجزاء كما تقول : لو جئتني لأكرمتك معلّقا الإكرام بالمجيء مع القطع بانتفائه ، فيلزم انتفاء الإكرام ، فهي (٣) لامتناع الثّاني أعني الجزاء ، لامتناع الأوّل أعني الشّرط ، يعني أنّ الجزاء منتف بسبب انتفاء الشّرط ، هذا (٤) هو المشهور بين الجمهور ، واعترض عليه (٥) ابن الحاجب بأنّ الأوّل سبب

______________________________________________________

(١) أي أنّه يفرض أنّه لو قدّر وفرض حصول الشّرط في الماضي لترتّب عليه حصول الجزاء.

(٢) قوله : «مع القطع بانتفاء الشّرط» حال من الشّرط ، أي حال كونه مصاحبا للقطع بانتفاء مضمون الشّرط ، أي انتفاء مضمونه في الواقع فلا ينافي فرض حصوله ، ثمّ المراد بالشّرط الثّاني الجملة الشّرطيّة المعلّق عليها ، بخلاف الشّرط الأوّل ، فإنّه بمعنى التّعليق ، ومن أجل ذلك أتى بالظّاهر. ولا يرد أنّ المعرفة إذا أعيدت كانت الثّانية عين الأولى ، لأنّه أغلبيّ وليس دائميّا.

(٣) أي لو ، وحاصل مدلول لو على ما ذكره الشّارح هو تعليق الامتناع على الامتناع ، كما ذهب إليه الجمهور ، وقال ابن عصفور : إنّها لمجرد التّعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأوّل ، أو الثّاني ، كما أنّ إن لمجرّد التّعليق في الاستقبال ، والصّحيح قول الجمهور على ما يشهد به موارد استعمالها.

(٤) أي كون لو لامتناع ثبوت الثّاني لامتناع ثبوت الأوّل «هو المشهور ...».

(٥) أي اعترض على ما ذهب إليه الجمهور «ابن الحاجب بأنّ الأوّل» أي الشّرط «سبب ، والثّاني» أي الجزاء «مسبّب». واعتراض ابن الحاجب على الجمهور يتّضح بعد بيان الفرق بين الشّرط والسّبب.

والفرق بينهما إنّ الشّرط عندهم ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم ، والسّبب ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم ، إذا عرفت هذا الفرق ، فنقول : إنّ اعتراض ابن الحاجب مبنيّ على أن يكون الشّرط سببا للجزاء والجزاء مسبّبا له ، ثمّ يمكن أن يكون للشّيء الواحد أسباب متعدّدة كالنّار والشّمس للإشراق ، فإنّهما علّتان مستقلتّان له ، فحينئذ انتفاء السّبب الخاصّ يوجب انتفاء المسبّب ، لجواز أن يكون هناك سبب آخر يوجب وجود المسبّب ، مثلا انتفاء طلوع الشّمس لا يوجب انتفاء الإشراق ، لجواز وجود سبب آخر يقتضي وجوده كالنّار والسّراج والقمر والكهرباء. فينعكس الأمر أي إنّ لو لامتناع

١٥١

لا والثّاني مسبّب ، وانتفاء السّبب لا يدلّ على انتفاء المسبّب ، لجواز أن يكون للشّيء أسباب متعدّدة ، بل الأمر بالعكس (١) لأنّ انتفاء المسبّب يدلّ على انتفاء جميع أسبابه ، فهي لامتناع الأوّل لامتناع الثّاني (٢) ألا ترى أنّ قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١) (٣)

______________________________________________________

الأوّل ، أعني السّبب لامتناع الثّاني ، أعني المسبّب.

(١) أي إذا انتفى المسبّب انتفى السّبب ، يعني انتفاء المسبّب يستلزم انتفاء جميع الأسباب ، فتكون لامتناع الأوّل لامتناع الثّاني ، عكس ما ذهب إليه الجمهور.

نعم إنّهم قد ذكروا أنّه إذا كانت لشيء واحد أسباب متعدّدة كان السّبب في الحقيقة واحدا لا بعينه ، لئلّا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة ، أو توارد العلل على معلول واحد.

(٢) أي من انتفاء المسبّب نستكشف انتفاء جميع علله التامّة ، إن كان له أسباب مختلفة ، وانتفاء علّته التامّة إن كان له سبب واحد.

(٣) هذه الآية دليل على توحيده سبحانه ، والمعنى أنّه لا يجوز أن يكون معه إله سواه ، إذ لو كان فيهما ، أي السّماء والأرض ، آلهة سوى الله لفسدتا ، وما استقامتا ، وفسد من فيهما ، ولم يستقم أمرهم ، وهذا هو دليل التّمانع الّذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التّوحيد.

والشّاهد فيه قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ) حيث استعمل فيه لو ، لتعليق امتناع مضمون الشّرط بامتناع مضمون الجزاء.

تقريره أنّه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين ، والقدم من أخصّ الصّفات ، فالاشتراك فيه يوجب التّماثل ، فيجب أن يكونا عالمين قادرين حيّين ، ومن حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريده الآخر ، من إماتة وإحياء ، أو تحريك وتسكين ، وإفقار وإغناء ، ونحو ذلك ، فإذا فرضنا ذلك ، فلا يخلو إمّا أن يحصل مرادهما ، وذلك محال ، وإمّا أن لا يحصل مرادهما ، وهو باطل ، لكونه خلاف الفرض ، وبعبارة أخرى هذا الاحتمال ينتقض بكونهما قادرين ، وإمّا أن يقع مراد أحدهما دون الآخر ، فيلزم التّرجيح من غير مرجّح ، فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلّا واحدا.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢٢.

١٥٢

إنّما سيق ليستدلّ بامتناع الفساد على امتناع تعدّد الآلهة (١) ، دون العكس (٢) ، واستحسن المتأخّرون رأي ابن الحاجب ، حتّى كادوا أن يجمعوا على أنّها (٣) لامتناع الأوّل لامتناع الثّاني ، إمّا لما ذكره (٤) ، وإمّا لأنّ الأوّل ملزوم (٥) والثّاني لازم ، وانتفاء اللّازم يوجب انتفاء الملزوم من غير عكس (٦) ،

______________________________________________________

(١) حيث إنّ المعلوم هو امتناع الفساد لكونه مشاهدا ، والمجهول هو تعدّد الآلهة ، ولا ريب أنّه يستدلّ بالمعلوم على المجهول لا العكس.

(٢) إذ لا يلزم من انتفاء تعدّد الآلهة انتفاء الفساد ، لجواز أن يفعله الله بسبب آخر ، فانتفاء الأوّل إنّما جاء من انتفاء الثّاني لا العكس كما هو قضيّة كلام الجمهور.

(٣) أي كلمة لو.

(٤) أي لما ذكره ابن الحاجب من الدّليل ، وهو أنّ الأوّل سبب ...

(٥) وهذا التّعليل علّل به الرّضي وجماعة ، وإنّما عدلوا بهذا التّعليل عمّا قال به ابن الحاجب من التّعليل ، أعني قوله : «بأنّ الأوّل سبب ...» ، لأنّ تعليل ابن الحاجب قاصر وليس كلّيّا ، إمّا لجواز أن يكون اللّازم أعمّ ، كما في قولك : لو كانت الشّمس طالعة كان الضّوء موجودا ، فإنّ أسباب الضّوء متعدّدة ، فليست مقصورة على الشّمس.

وإمّا لما قيل : من أنّ الشّرط النّحويّ عندهم أعمّ من أن يكون سببا ، نحو : لو كانت الشّمس طالعة كان النّهار موجودا ، أو شرطا نحو : لو كان لي مال لحججت ، فإنّ وجود المال ليس سببا للحجّ ، بل شرط لكن كلّ من طلوع الشّمس ووجود المال ملزوم لوجود النّهار والحجّ ، وكيف كان فيصدق أنّ امتناع الأوّل ، أي الملزوم ، لامتناع الثّاني ، أي اللّازم ، لأنّ انتفاء اللّازم يستلزم انتفاء الملزوم ، ولو كان اللّازم أعمّ من الملزوم ، فلهذا عدلوا إلى التّعبير باللّازم والملزوم.

(٦) أي لا يوجب انتفاء الملزوم انتفاء اللّازم فيما إذا كان اللّازم أعمّ ، وكيف كان فما صنعه ابن الحاجب من تخصيص الشّرط النّحوي بالسّبب لا يخلو عن إشكال ، إلّا أن يقال بأنّ ابن الحاجب لم يحصر الشّرط في السّبب ، بل الشّرط النّحوي عنده أعمّ.

نعم ظاهر عبارته وإن كان هو الحصر والاختصاص ، إلّا أنّ هذا الظّاهر ليس مراده ، فإذا لا يرد عليه ما ذكره الرّضي رحمه‌الله ، وإنّما هو مجرّد مناقشة في ظاهر عبارته ، ومثل هذه المناقشة لا تكون من دأب المحقّقين ، هذا تمام الكلام في اعتراض ابن الحاجب والرّضي وغيرهما على المشهور.

١٥٣

لجواز أن يكون اللّازم أعمّ ، وأنا أقول (١)

______________________________________________________

(١) أي في ردّ اعتراض ابن الحاجب والرّضي وغيرهما على المشهور.

وحاصل الرّدّ : إنّ لو على ما يستفاد من استقراء موارد استعمالها لها استعمالان :

أحدهما :

أن تكون للاستدلال العقليّ ، كما في الآية وهو ما إذا كان انتفاء الجزاء معلوما ، وانتفاء الشّرط غير معلوم ، فيؤتى بها للاستدلال على المجهول بالمعلوم ، فهي عندئذ للاستدلال بامتناع الثّاني على امتناع الأوّل.

ثانيهما :

أن تكون للتّرتيب الخارجي ، وإفادة أنّ علّة انتفاء الثّاني انتفاء الأوّل ، كما إذا كان كلّ من انتفاء الطّرفين معلوما ، لكن علّة انتفاء الثّاني كانت مجهولة ، فهي حينئذ لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل ، وتكون القضيّة عندئذ شرطيّة صورة وحمليّة لبّا ، فمعنى قولنا : لو قام زيد لقام عمر ، وأنّ قيام عمرو انتفى في الخارج ، بسبب انتفاء قيام زيد ، ويكون هذا كلاما مع من كان عالما بانتفاء الجزاء ، وهو طالب ، أو كالطّالب لعلّة انتفائه في الخارج ، وأمّا علمه بأصل الانتفاء فقد حصل بدليل آخر ، كإخبار بيّنة ، أو إخبار ثقة ، أو مشاهدة حال ، والاستعمال الأوّل اصطلاح المناطقة ، والاستعمال الثّاني اصطلاح الأدباء ، فابن الحاجب فهم من قول أهل العربيّة «أنّها لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل» ، بأنّها للاستدلال على امتناع الثّاني بامتناع الأوّل ، فأورد عليهم أنّ الأمر بالعكس ، وكذلك الرّضي ومن تبعهما ، ولم يهتدوا إلى أنّ مرادهم أنّها للدّلالة على العلّة في انتفاء الثّاني في الخارج انتفاء الأوّل ، وإلّا لما اعترضوا عليهم ، ولهذا قال الشّارح : إنّ منشأ هذا الاعتراض قلّة التّأمّل ، أي قلّة تأمّل ابن الحاجب ، ومن تبعه في كلام الجمهور ، وعبارتهم الصّادرة منهم ، وهو قولهم «لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل».

١٥٤

منشأ هذا الاعتراض قلّة التّأمّل ، لأنّه ليس معنى قولهم : لو لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل ، أنّه يستدلّ بامتناع الأوّل على امتناع الثّاني ، حتّى يرد عليه (١) أنّ انتفاء السّبب (٢) أو الملزوم (٣) لا يوجب انتفاء المسبّب (٤) أو اللّازم (٥) بل معناه (٦) أنّها (٧)

______________________________________________________

(١) أي على قول الجمهور.

(٢) ناظر إلى مقالة ابن الحاجب.

(٣) ناظر إلى مقالة الرّضي رحمه‌الله.

(٤) وذلك لجواز تعدّد السّبب.

(٥) وذلك لجواز كون اللّازم أعمّ.

(٦) أي معنى قول الجمهور «لو لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل».

(٧) أي كلمة لو «للدّلالة على أنّ انتفاء الثّاني» أي الجزاء «في الخارج إنّما هو» أي الانتفاء «بسبب انتفاء الأوّل» أي الشّرط ، وحاصل المعنى إنّ كلمة لو للدّلالة على أنّ عدم وجود الجزاء في الخارج إنّما هو بسبب عدم وجود الشّرط فيه ، ففي قولنا : لو كانت الشّمس طالعة لكان العالم مضيّئا ، إنّ لو تدلّ على أنّ انتفاء الضّوء في الخارج إنّما هو بسبب انتفاء طلوع الشّمس.

لا يقال : إنّه لا وجه للقول بانتفاء الثّاني في الخارج بسبب انتفاء الأوّل ، إذ قد ذكرتم في تقرير دليل ابن الحاجب أنّ العلم بانتفاء الثّاني لا يحصل بالعلم بانتفاء الأوّل ، لجواز تعدّد الأسباب ، وهذا بعينه يجري في الانتفاء الخارجي فإنّ عموم السّبب وكثرة أفراده ثابت بالإضافة إلى صقع الخارج أيضا ، فينبغي أن لا يحصل انتفاء الثّاني في الخارج بسبب انتفاء الأوّل ، لاحتمال أن يوجد سبب آخر يستدعي وجوده.

لأنّا نقول : إنّ انتفاء الشّرط والجزاء معلوم في موارد استعمال لو ، وإنّما المجهول سبب انتفاء الثّاني في الخارج ، فيؤتى بها للدّلالة على أنّ سببه هو الأوّل ، فإذا لا وجه للقول بأنّ ما ذكرتم في تقرير دليل ابن الحاجب يأتي هنا أيضا لعموم تعدّد الأسباب خارجا أيضا ، فينبغي أن لا يحصل انتفاء الثّاني في الخارج بسبب انتفاء الأوّل ، وذلك لاحتمال وجود سبب آخر ، إذ بعد فرض كون الانتفاء معلوما ، لا مجال لاحتمال عدم الانتفاء لمكان وجود سبب آخر يستدعي وجوده.

١٥٥

للدّلالة على أنّ انتفاء الثّاني في الخارج إنّما هو بسبب انتفاء الأوّل ، فمعنى (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ)(١) (١) إنّ انتفاء الهداية (٢) إنّما هو بسبب انتفاء المشيئة ، يعني أنّها (٣) تستعمل للدّلالة على أنّ علّة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي انتفاء مضمون الشّرط (٤) من غير التفات (٥)

______________________________________________________

(١) وفي ذكر هذه الآية تعريض على ابن الحاجب والرّضي ، بأنّهما لم يهتديا لفهم ما هو المراد من عبارة جمهور أهل العربيّة.

(٢) أي في الخارج أعني انتفاء الهداية في الخارج إنّما هو بسبب انتفاء المشيئة في الخارج ، وذلك لأنّ مشيئة الله غالبة وجودا وعدما ، وليس معناه عندهم أنّ سبب العلم بانتفاء الهداية هو العلم بانتفاء المشيئة ، كما تخيّله ابن الحاجب والرّضى وأتباعهما.

(٣) أي كلمة لو.

(٤) أي فالانتفاءان معلومان ، وإنّما المجهول علّة انتفاء الثّاني ، فيؤتى بلو لإفادة أنّها انتفاء الأوّل.

(٥) أي من غير التفات الجمهور في قولهم : «لو لامتناع الثّاني لامتناع الأوّل» ، «إلى أنّ علّة العلم بانتفاء الجزاء ما هي» أو من غير التفات المتكلّم عند ما يقول : لو قام زيد لقام عمرو ، مثلا ، إلى أنّ علّة العلم بانتفاء الجزاء ما هي ، حيث إنّ المفروض أنّ كلمة لو تستعمل لإفادة أنّ علّة الانتفاء ما هي ، حيث إنّ المفروض أنّ كلمة لو تستعمل لإفادة أنّ علّة الانتفاء ما هي ، بعد فرض كون انتفاء الطّرفين معلوما للمخاطب ، وكذا علّة العلم به ، والاحتمال الأوّل أعني من غير التفات الجمهور أولى وأوفق بالمقصود ، إذ لو التفت إلى أنّ علّة العلم بانتفاء الجزاء ما هي ، لكان استدلالا ، فيرد عليه ما اعترضه ابن الحاجب ومتابعوه من أنّ انتفاء السّبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبّب أو اللّازم ، وأمّا إذا لم يلتفت إلى ذلك فلا يرد شيء ممّا ذكروه.

وبالجملة قد زعم ابن الحاجب حيث فهم أنّ مرادهم أنّ انتفاء الأوّل علّة للعلم بانتفاء الثّاني ، ودليل عليه ، فاعترض عليهم بما مرّ.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٩.

١٥٦

إلى أنّ علّة العلم بانتفاء الجزاء ماهي ، ألا ترى (١) أنّ قولهم : لو لا لامتناع الثّاني لوجود الأوّل نحو : لو لا علي لهلك عمر ، معناه أنّ وجود علي سبب لعدم هلاك عمر ، لا أنّ وجوده دليل على أنّ عمر لم يهلك ، ولهذا (٢) صحّ مثل قولنا : لو جئتني لأكرمتك لكنّك لم تجئ ، أعني عدم الإكرام بسبب عدم المجيء. قال الحماسي (٣) :

______________________________________________________

(١) هذا تنظير أتى به توضيحا للمقام ، أي هذا الكلام وإن كان من غير ما نحن فيه ، إلّا أنّه أتى به توضيحا لما نحن فيه ، يعني أنّ قول المعربين لو لا لامتناع الثّاني لوجود الأوّل ، أي للدّلالة على أنّ علّة امتناع الثّاني في الخارج وجود الأوّل ، فينبغي أن يكون حكم لو حكم لولا.

والسّرّ في كون لو لا لامتناع الثّاني لوجود الأوّل أنّ لو للنّفي ، فلمّا زيدت عليها لا النّافية تصبح نافية للنّفي ، ونفي النّفي إثبات ، فتكون لامتناع الثّاني لوجود الأوّل ، كما فيما إذا كان الشّرط نفيا والجزاء إثباتا نحو قول عمر في مواطن كثيرة «لولا علي لهلك عمر ، معناه أنّ وجود علي عليه‌السلام سبب» وعلّة «لعدم هلاك عمر ، لا أنّ وجوده دليل على أنّ عمر لم يهلك» ، وذلك لجواز وقوع هلاك عمر ، مع وجود علي عليه‌السلام كما هو كذلك واقعا ، ولأنّ عدم هلاك عمر معلوم للمخاطب المتلقّي هذا الكلام من عمر ، كما أنّ وجود علي عليه‌السلام أيضا كذلك.

والبديهة تحكم بأنّه لا يستدلّ بمعلوم على معلوم ، إذ المعلوم لا يستدلّ عليه ، لأنّه تحصيل الحاصل وهو محال.

(٢) أي لكون معنى لو الدّلالة على أنّ انتفاء الثّاني في الخارج إنّما هو بسبب انتفاء الأوّل لا الاستدلال بامتناع الأوّل على امتناع الثّاني ، كما فهم ابن الحاجب «صحّ مثل قولنا ...» إذ لو كانت للاستدلال لما صحّ ذلك القول ، لما فيه من استثناء نقيض المقدّم ، وهو لا ينتج شيئا كما نصّ عليه علماء المنطق ، لجواز أن يكون اللّازم أعمّ ، فتعيّن أن يكون ذلك الاستثناء إشارة إلى أنّ علّة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج انتفاء مضمون الشّرط.

(٣) الحماسيّ نسبة إلى الحماسة ، وهي في الأصل الشّجاعة ، سمّي بها كتاب أبي تمّام الّذي جمع فيه أشعار البلغاء المتعلّقة بالشّجاعة ، فالبيت الحماسيّ منسوب إلى الحماسة ، والمراد بها هنا الكتاب المشهور المنسوب إلى أبي تمّام الطّائي ، جمع فيه أشعار البلغاء الّذين يستشهد بكلامهم ، فإذا قيل : هذا البيت حماسي ، يراد أنّه مذكور في ذلك الكتاب ، وإذا قيل : «قال

١٥٧

ولو طار ذو حافر قبلها (١)

لطارت ولكنّه لم يطر

يعني أنّ عدم طيران تلك الفرس بسبب أنّه لم يطر ذو حافر قبلها ، وقال أبو العلاء المعري : (٢)

[ولو دامت الدّول ات كانوا كغيرهم

رعايا ، ولكن ما لهنّ دوام (٣)]

______________________________________________________

الحماسي» فالمراد به أحد الشعراء المذكورين في ذلك الكتاب.

(١) أي فرس ، والشّاعر يصف فرسا سريعة العدو ، ويقول : لو طار حيوان ذو حافر ، أي ذو ظفر قبل هذا الفرس لطارت هي البتّة ، ولكنّ امتناع طيرانها لأجل أنّه لم يطر ذو حافر قبلها ، والغرض بيان السّبب في عدم طيرانها ، وهو عدم طيران ذي حافر قبلها مع العلم بعدم طيرانها.

والشّاهد : في قوله : «لو طار ...» حيث تكون كلمة لو للدّلالة على أنّ انتفاء الثّاني في الخارج ، إنّما هو بسبب انتفاء الأوّل لا للاستدلال ، إذ لو كانت للاستدلال لما صحّ ذلك القول لما فيه من استثناء نقيض المقدّم ، حيث قال : لم يطر ، ولم يقل : لم تطر ، وهو لا ينتج شيئا عند علماء المنطق.

والحاصل إنّ كلمة لو فيه قد استعملت لإفادة أنّ انتفاء الجزاء ، أي طيران الفرس في الخارج سببه وعلّته انتفاء طيران ذي حافر قبله ، لا للاستدلال على أنّ انتفاء الثّاني بانتفاء الأوّل ، لكونه معلوما للمخاطب ، فلا وجه للاستدلال عليه.

(٢) على وزن المصلّيّ ، قرية بين حلب وشام ، والغرض من قول أبي العلاء المعرّي هو الاستشهاد القطعي على أنّ لو للدّلالة على أنّ انتفاء الأوّل علّة لانتفاء الثّاني في الخارج ، كما يقول به الجمهور ، لا أنّها للاستدلال بانتفاء الأوّل على انتفاء الثّاني ، كما فهمه ابن الحاجب ومتابعوه.

(٣) المعنى : «الدّولات» بضمّ الدّال المهملة جمع دولة ، بمعنى الملك ، «رعايا» كسجايا جمع رعيّة خلاف السّلطان ، والضّمير في «لهنّ» راجع إلى «الدّولات» ، والمراد من «الدّولات» أهلها ، يعني الملوك الماضية ، فمعنى البيت : ولو دامت الدّولات للملوك الماضية واستمرّت

١٥٨

وأمّا المنطقيّون (١) فقد جعلوا إن ولو أداة للّزوم (٢) ، وإنّما يستعملونها (٣) في القياسات (٤)

______________________________________________________

دولتهم إلى هذا الزمان لكانوا رعايا للممدوح بهذا الشّعر ، لاستحقاقه الإمارة عليهم ، لما فيه من الفضائل ، فنفي دوام الدّولات الماضية سبب لعدم كونهم رعايا كغيرهم للممدوح ، لأنّهم لا يعيشون معه إلّا رعايا ، ومعلوم أنّ بانقراضهم انتفى كونهم رعايا له في الخارج.

والشاهد فيه : أنّ كلمة لو فيه قد استعملت لإفادة أن انتفاء كونهم رعايا للممدوح في الخارج بسبب انتفاء دوام الدّولات في الخارج ، بقرينة أنّه استثني نقيض المقدّم فيه ، فليس الغرض الاستدلال ، إذ لو كان الغرض الاستدلال ، بأن كانت كلمة لو مستعملة لإفادة أنّ انتفاء دوام الدّولات سبب للعلم بانتفاء كونهم رعايا ، لما صحّ استثناء نقيض المقدّم ، إذ رفع المقدّم لا ينتج رفع التّالي ، كما قرّر في المنطق ، فعلم أنّ غرض الشّاعر من الاستثناء ليس الإنتاج ، بمعنى ترتيب الأمر المعلوم لتحصيل الأمر المجهول ، أي الاستدلال بامتناع الأوّل على امتناع الثّاني ، بل تكون كلمة لو بمعنى إفادة انتفاء الثّاني في الخارج بسبب انتفاء الأوّل ، إذ ليس هنا معنى آخر كان صالحا لأن يراد هذا تمام الكلام في معنى لو ، حسب قاعدة أهل العربيّة واللّغة ، وأما قاعدة أرباب المعقول ، أعني المنطقيّين فقد أشار إليها بقوله : «وأمّا المنطقيّون ...».

(١) هذا مقابل لمحذوف ، أي هذا الّذي ذكرناه من أنّ كلمة لو للدّلالة على أنّ انتفاء الثّاني في الخارج بسبب انتفاء الأوّل ، قاعدة أهل اللّغة ، وأمّا المنطقيّون فقد جعلوها أداة اللّزوم دالّة على لزوم الجزاء للشّرط ، أي ليستفاد من نفي التّالي نفي المقدّم ، ومن وضع المقدّم وضع التّالي ، وقد جعلوا استعمال أداة الشّرط في التّعليق واللّزوم ، لهذا الغرض اصطلاحا ، وأخذوه مذهبا.

(٢) أي أداة وآلة للدّلالة على لزوم التّالي للمقدّم.

(٣) أي أداة اللّزوم ، سواء كانت إن أو لو أو غيرهما ، كإذا وكلّما.

(٤) القياسات جمع القياس ، وهو قول مؤلّف من أقوال ، متى سلّمت لزم عنها قول آخر ، ثمّ قوله : «القياسات» إشارة إلى أنّ المراد بالعلم هو العلم التّصديقيّ لا التّصوريّ.

١٥٩

لحصول العلم (١) بالنّتائج فهي عندهم (٢) للدّلالة على أنّ العلم بانتفاء الثّاني علّة للعلم بانتفاء الأوّل (٣) ضرورة (٤) انتفاء الملزوم بانتفاء اللّازم من غير التفات إلى أنّ علّة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي (٥)

______________________________________________________

(١) لاكتساب العلم.

(٢) أي فكلمة لو عند المنطقيّين موضوعة «للدّلالة» ، فقوله : «للدّلالة» متعلّق بمقدّر.

(٣) أي رفع التّالي ينتج رفع المقدّم ، أي فيما إذا أستثني نقيض التّالي نحو : كلّما كانت الشّمس طالعة فالنّهار موجود ، لكنّ النّهار ليس بموجود فالشّمس ليست بطالعة ، فهي هنا للدّلالة على أنّ العلم بانتفاء الثّاني علّة للعلم بانتفاء الأوّل.

لا يقال : إنّ كلام الشّارح يقتضي أنّ أداة اللّزوم إنّما تستعمل عند المنطقيّين للدّلالة على أنّ العلم بانتفاء الثّاني علّة للعلم بانتفاء الأوّل ، مع أنّها قد تستعمل عندهم للدّلالة على أنّ العلم بوجود الأوّل علّة للعلم بوجود الثّاني ، كما إذا استثني عين المقدّم نحو : كلّما كانت الشّمس طالعة فالنّهار موجود ، لكنّ الشّمس طالعة فالنّهار موجود.

لأنّا نقول : إنّ ما ذكره الشّارح مبنيّ على الأغلب ، أو على سبيل التّمثيل ، أو صورة الانتفاء هي محلّ الاشتباه.

(٤) مفعول له «للدّلالة» ، بمعنى اليقين ، أي لأجل يقين انتفاء الملزوم ، أي الشّرط بانتفاء اللّازم أي الجزاء.

(٥) أي كما التفت إلى ذلك علماء اللّغة مثلا كلمة لو في قولهم : لو كان العالم قديما لم يكن متغيّرا ، لكنّه متغير ، فليس بقديم ، استعملت لتعليق حصول مضمون الجزاء ، أي عدم كون العالم متغيّرا بحصول مضمون الشّرط ، أي كون العالم قديما ، لأجل الاستدلال بالعلم بانتفاء عدم التّغيّر على العلم بانتفاء كونه قديما ، من دون التفات ونظر إلى أنّ سبب انتفاء عدم التّغيّر في الخارج ما هو؟

فائدة في الفرق بين الاصطلاحين والمذهبين ، أي مذهب المنطقيّين ومذهب أهل العربيّة.

الفرق بين المذهبين من ناحيتين : إحداهما : اعتبار القطع بانتفاء الشّرط في مفهوم لو عند أهل العربيّة ، حيث إنّهم يقولون : إنّها لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشّرط مع القطع بانتفائه ، دون المنطقيّين فإنّهم جعلوها مثل سائر أدوات الشّرط أداة اللّزوم ، فهي

١٦٠