دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

ومقدّمة الكتاب (١) لطائفة من كلامه (٢) قدّمت أمام المقصود لارتباط له بها (٣) والانتفاع بها فيه (٤) وهي ههنا (٥) لبيان معنيي الفصاحة والبلاغة وانحصار (٦) علم البلاغة في علميّ المعاني والبيان

______________________________________________________

عليه ، فإنّ مجرّد تصوّر شيء من دون الإذعان بأنّ هذا موضوع هذا العلم وتصوّر غاية ما من دون الإذعان بأنّها فائدة مترتّبة على هذا العلم لا يوجبان جواز الشروع فيه.

أمّا وجه توقّف الشّروع على الأمور المذكورة ، فلأنّه لو لم يتصوّر أوّلا ذلك العلم للزم طلب ما هو المجهول وهو محال لامتناع توجّه النّفس نحو المجهول المطلق. وكذلك لو لم يعلم غاية العلم والغرض منه لكان طلب ذلك العلم عبثا ، فإنّ الشّروع فيه فعل اختياري فلا بدّ أوّلا من العلم بفائدة ذلك الفعل وإلّا لامتنع الشّروع فيه من ذي عقل وحكمة لكونه عبثا.

وأمّا توقّف الشّروع على معرفة الموضوع ، فلأنّ تمايز العلوم إنّما هو بتمايز الموضوعات فلو لم يعرف الشّارع في العلم والطّالب له أنّ موضوعه ما ذا؟ وأيّ شيء هو؟ لم يتميّز العلم المطلوب عنده عن غيره فكيف يطلب؟!

نعم يكفي في الشّروع العلم بتلك الأمور إجمالا لئلّا يلزم الدّور.

(١) عطف على مقدّمة العلم.

(٢) أي من كلام المصنّف ، فيكون منها طائفة من الألفاظ قدّمت أمام المقصود فقد ورد في مجمع البحرين الطّائفة من الشيء : القطعة منه ، وهذا المعنى مناسب للمقام ، فيكون معنى العبارة حينئذ : يقال مقدّمة الكتاب لقطعة من كلامه «قدّمت أمام المقصود» أي جعلت أمامه.

(٣) أي لارتباط للمقصود بالطّائفة.

(٤) أي الانتفاع بالطّائفة في المقصود. وعطف الانتفاع على الارتباط من قبيل عطف المسبّب على السّبب لكون الارتباط مسبّبا للانتفاع.

(٥) أي المقدّمة في كتاب التّلخيص.

(٦) عطف على معنى الفصاحة ، فالمعنى أنّ المقدّمة في التّلخيص لبيان معنى الفصاحة والبلاغة ولبيان انحصار علم البلاغة أي العلم المتعلّق بالبلاغة.

٨١

وما يلائم ذلك (١) ولا يخفى وجه ارتباط المقاصد بذلك (٢) والفرق بين مقدّمة العلم ومقدّمة (٣) ممّا يخفى على كثير من النّاس.

______________________________________________________

(١) كعلم البديع ، وبيان النّسبة بين الفصاحة والبلاغة وغير ذلك.

(٢) أي ارتباط الفنون الثّلاثة بما هو المذكور في المقدّمة.

(٣) وقد عرفت الفرق بينهما وأنّ مقدّمة الكتاب عبارة عن طائفة من الألفاظ ، ومقدّمة العلم عبارة عن معان يتوقّف عليها الشّروع فيه ، فالنّسبة بينهما هي المباينة الكلّيّة لأنّ المغايرة بين الألفاظ والمعاني ، كنار على منار ، فلا شيء من مقدّمة الكتاب بمقدّمة العلم ، ولا شيء من مقدّمة العلم بمقدّمة الكتاب. ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين معنى مقدّمة الكتاب ولفظ مقدّمة العلم أيضا هي التّباين.

نعم ، إنّ النسبة بين مقدّمة العلم ومعنى مقدّمة الكتاب هي العموم من وجه ، فإنّ مقدّمة العلم خاصّة من ناحية كونها منحصرة فيما يتوقّف عليه الشّروع ، وعامّة من ناحية عدم اعتبار التقدّم فيها على ما ذكره الشّارح ، حيث قال : «يقال مقدّمة العلم يتوقّف عليه الشّروع في مسائله» ولم يقل لطائفة من المعاني تتقدّم على المقصود ، لتوقّفه عليها.

ومعنى مقدّمة الكتاب بالعكس ، فإنّه خاصّ من جهة اعتبار التقدّم فيه وعامّ من جهة عدم كونه منحصرا فيما يتوقّف عليه الشّروع ، بل يعتبر فيه مجرّد كونه مرتبطا بالمقصود وموجبا للبصيرة فيه فيتصادقان معا في الحدّ والغاية إذا ذكرا أمام المقصود ، وتصدق مقدّمة العلم عليهما دون مقدّمة الكتاب إذا ذكرا في الوسط أو الآخر ، ويصدق معنى مقدّمة الكتاب دون مقدّمة العلم فيما يذكر قبل المقصود ، لكونه موجبا لزيادة البصيرة ، وإن لم يتوقّف عليه الشّروع كتعريف الفصاحة والبلاغة وغيره ممّا ذكر في مقدّمة هذا الكتاب ، والنّسبة بين لفظ مقدّمة العلم ونفس مقدّمة الكتاب أيضا هي العموم من وجه بعين البيان المذكور ، غاية الأمر الملحوظ في الفرض الأوّل كان جانب المعنى من مقدّمة الكتاب بالقياس إلى نفس مقدّمة العلم ، وفيه الملحوظ جانب نفس مقدّمة الكتاب بالنّسبة إلى لفظ مقدّمة العلم ، فيتصادقان في الألفاظ الدّالّة على الحدّ والغاية إذا كانت مذكورة في أوّل الكتاب ، وتصدق الأولى دون الثّانية على ألفاظ تدلّ على معان لها ربط بالمقصود من دون أن يكون متوقّفا عليها ، وتصدق الثّانية دون

٨٢

[الفصاحة] وهي في الأصل (١) تنبئ عن الإبانة والظهور (٢) [يوصف بها المفرد]

______________________________________________________

الأولى على ألفاظ تدلّ عليها إذا كانت مذكورة في وسط الكتاب أو آخره ، وفي المقام كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(١) أي في اللّغة.

(٢) قوله : «والظّهور» عطف تفسيريّ على الإبانة فهما بمعنى واحد.

توضيح كلام الشّارح في معنى الفصاحة حيث قال : «هي في الأصل تنبئ عن الإبانة والظّهور» ولم يقل هي في الأصل الإبانة والظّهور. لأنّه لمّا كان الواقع ـ في كتب اللّغة ذكر معان متعدّدة مختلفة مفهوما ومتّحدة مآلا للفصاحة وكلّها تدلّ على معنى الظّهور والإبانة دلالة التزاميّة ولم يظهر للشّارح الامتياز بين ما هو من المعاني الحقيقيّة ، وما هو من المعاني المجازيّة ، لما وقع في ذلك من الاختلاف والاشتباه ـ أتى في بيانها بما يجمع معانيها الحقيقيّة والمجازيّة وهو الإنباء عن الظّهور والإبانة.

ثمّ المراد بالإنباء الدّلالة أعمّ من أن تكون بطريق المطابقة أو التضمّن أو الالتزام. فإن كانت الفصاحة موضوعة للظّهور والإبانة كان إنباؤها عنهما مطابقة ، أو لهما ولغيرهما كان تضمّنا ، أو لشيء يلزمه الظّهور والإبانة كخلوص اللّغة وانطلاق اللّسان كان التزاما ، فهذا هو الوجه لقول الشّارح حيث قال : «وهي في الأصل تنبئ عن الإبانة والظّهور» دون أن يقول هي الإبانة والظّهور.

ثمّ بيان معاني الفصاحة في اللّغة وقد أطلقت فيها على معان كثيرة :

منها : نزع الرّغوة من اللّبن أي قلع ما يعلوه منه.

ومنها : ذهاب اللّباء من اللّبن أي ما يتكوّن عند الولادة في الثّدي من اللّبن وانفصاله منه ، قال في الأساس : إنّ هذين المعنيين حقيقيان.

ومنها : معان ذكرها صاحب الأساس والتزم بكونها من المعاني المجازيّة ، حيث قال : ومن المجاز : سرينا حتّى أفصح الصّبح ، أي بدا ضوؤه ، وهذا يوم مفصح ، أي لا غيم فيه ، وجاء فصح النّصارى ، أي عيدهم ، وأفصح الأعجمي ، أي تكلّم بالعربيّة ، وفصح الأعجميّ ، أي انطلق لسانه وخلصت لغته عن اللّكنة ، وأفصح الصّبي في منطقه ، أي فهم ما يقول في أوّل ما يتكلّم.

٨٣

مثل كلمة فصيحة (١) ، [والكلام (٢)] مثل كلام فصيح وقصيدة فصيحة (٣)

______________________________________________________

هذه جملة من معاني الفصاحة في اللّغة ، ولا ريب أنّ هذه المعاني ليست نفس الإبانة والظهور ولكن كلّها ترجع إلى الظّهور ، فدلالة الفصاحة عليه إنّما هي بالالتزام ، ولذا قال :

«تنبئ عن الإبانة والظّهور» ، وقد ظهر ممّا ذكرناه ما هو السّرّ في قول الشّارح : «تنبئ عن الإبانة والظّهور» دون أن يقول هي الإبانة والظّهور.

(١) يحتمل أن يكون المراد بالكلمة ما يصدق عليه هذا العنوان كقائم في زيد قائم ، فيكون حاصل المعنى يقال لجزء من الكلام كقائم ـ مثلا ـ هذه كلمة فصيحة ، ويحتمل ضعيفا أن يكون المراد بها نفس لفظها ، فإنّها من الألفاظ الفصيحة ، لخلوصها من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللّغوي ، لكنّ الظّاهر هو الأوّل بقرينة قوله «مثل كلام فصيح وقصيدة فصيحة» لأنّه قد أريد بهما مصداقهما لا أنفسهما لعدم صحّة المعنى حينئذ.

(٢) عطف على «المفرد» أي يوصف بالفصاحة المفرد مثل كلمة فصيحة ويوصف بها الكلام مثل كلام فصيح في النّثر وقصيدة فصيحة في النّظم.

(٣) إنّ إتيان الشّارح بالمثالين للكلام إشارة إلى أنّه لا فرق في الكلام بين المنثور والمنظوم فيكون دفعا لما ربّما يتوهّم من لفظ الكلام بأنّه منصرف إلى المنثور.

ثمّ المراد بالقصيدة هي الأبيات الّتي تبلغ عشرة أشطار وما فوقها ، وقيل : ما يتجاوز سبعة أشطار ، وما دون ذلك لا تسمّى قصيدة بل تسمّى قطعة ، والقصيدة مأخوذة من القصد ، لأنّ الشّاعر يقصد تجويدها وتهذيبها ، وقيل : مأخوذة من اقتصدت الكلام أي اقتطعته.

ثمّ الكلام في اللّغة : ما يتكلّم به الإنسان قليلا كان أو كثيرا ، وفي اصطلاح النّحاة ما يتضمّن كلمتين ، كي يكون مفيدا. وظاهر كلام المصنّف من الكلام هو المعنى الاصطلاحي ، فيكون مركّبا تامّا ، فيخرج المركّب النّاقص ، كرجل عالم ، وغلام زيد.

ومن هنا يظهر ما يرد على المصنّف ، ويقال : إنّ عبارة المصنّف قاصرة لأنّها لم تكن متكفّلة لبيان المركّب النّاقص لعدم كونه داخلا في الكلام ولا في المفرد ، فلازم ذلك أن لا توصف المركّبات النّاقصة بالفصاحة مع أنّهم يقولون مركّب فصيح لقولنا : غلام زيد.

٨٤

وقيل المراد بالكلام : ما ليس بكلمة (١) ليعمّ المركّب الإسنادي وغيره فإنّه (٢) قد يكون بيت من القصيدة غير مشتمل على إسناد يصحّ السّكوت عليه مع أنّه يتّصف بالفصاحة (٣).

وفيه نظر (٤) : لأنّه إنّما يصحّ ذلك (٥) لو أطلقوا على مثل هذا المركّب أنّه كلام فصيح ، ولم ينقل عنهم ذلك (٦) ، واتّصافه (٧) بالفصاحة يجوز أن يكون باعتبار فصاحة المفردات على أنّ الحقّ أنّه داخل في المفرد (٨) ،

______________________________________________________

(١) الأولى أن يقال فيه : ما ليس بمفرد ، هذا جواب عن الإيراد المذكور على المصنّف ، والقائل هو الخلخالي والزّوزني وحاصل توجيههما من جانب المصنّف : أنّ مراد المصنّف من الكلام ما ليس بمفرد بقرينة مقابلته بالمفرد فيشمل المركّب التّامّ والنّاقص ، فالمركّبات النّاقصة داخلة في كلام المصنّف ، كما أشار إليه بقوله : «ليعمّ المركّب الإسنادي» أي المركّب التّام «وغيره» أعني المركّب النّاقص.

(٢) بيان لشمول الكلام المركّب النّاقص و (كان) في قوله «قد يكون» تامّة ، فمعنى العبارة قد يوجد بيت من القصيدة غير مشتمل على إسناد يصحّ السكوت عليه فيكون المركّب مركّبا ناقصا.

(٣) أي بيت يتّصف بالفصاحة فيقال : بيت فصيح ، فلا بدّ أن يكون مراد المصنّف بالكلام المركّب مطلقا ليشمل المركّب التّامّ والنّاقص معا.

(٤) أي في إدخال المركّب النّاقص في الكلام نظر.

(٥) أي دخول المركّب النّاقص في الكلام.

(٦) أي لو أطلق العرب ـ على المركّب النّاقص ـ أنّه كلام فصيح ولم ينقل عنهم إطلاق الكلام الفصيح على المركّب النّاقص.

(٧) أي اتّصاف البيت بالفصاحة في قولهم : بيت فصيح ، ليس من حيث إنّه كلام ، بل «يجوز أن يكون باعتبار فصاحة المفردات» فيكون وصفه بها من قبيل وصف الشّيء بحال متعلّقه.

(٨) كلمة «على» بمعنى مع ، فمعنى العبارة : مع أنّ الحقّ البيت داخل في المفرد ، أو المركّب النّاقص داخل في المفرد ، لأنّ المفرد :

٨٥

لأنّه يقال على ما يقابل المركّب ، وعلى ما يقابل المثنّى والمجموع ، وعلى ما يقابل الكلام ، ومقابلته بالكلام هاهنا قرينة دالّة على أنّه أريد به المعنى الأخير أعني ما ليس بكلام (١). [و] يوصف بها [المتكلّم] أيضا (٢) يقال : كاتب فصيح وشاعر فصيح (٣). [والبلاغة] وهي تنبئ عن الوصول والانتهاء (٤)

______________________________________________________

تارة : يطلق على ما يقابل المركّب ، فمعناه ما ليس بمركّب. وأخرى : يطلق على ما يقابل المثنّى والمجموع ، فالمراد منه ما ليس بمثنّى ولا بجمع.

وثالثة : يطلق على ما يقابل الكلام ، فمعناه ما ليس بكلام ، والمفرد بهذا المعنى شامل للمركّب الناقص وهو المراد هنا ، بقرينة مقابلته بالكلام.

(١) أي فلا يرد عليه ما قيل من أنّ المفرد المشترك لا يفهم منه معنى معيّن بدون قرينة معيّنة إذ مقابلته بالكلام قرينة معيّنة. فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الخلخالي اختار التّعميم في جانب الكلام بحمله على ما ليس بمفرد بقرينة مقابلته بالمفرد والشّارح اختار التّعميم في جانب المفرد بحمله على ما ليس بكلام بقرينة مقابلته بالكلام ، والتّرجيح مع ما اختاره الشّارح ، إذ إطلاق المفرد على ما يقابله معهود كما عرفت.

(٢) زاد الشّارح مع المتكلّم لفظ «أيضا» دون الكلام حيث قال : يوصف بالفصاحة المتكلّم أيضا ، ولم يقل يوصف بها الكلام أيضا.

ثمّ وجّه ذلك أنّ المفرد والكلام من جنس واحد وهو اللّفظ فهما كالشّيء الواحد ولفظة «أيضا» لا يؤتى بها إلّا بين الشّيئين والمتكلّم ليس من جنس اللّفظ ، فلذا أتى الشّارح بكلمة «أيضا» في جانب المتكلّم دون الكلام وذلك لاختلاف الجنس في المتكلّم واتّحاده في الكلام.

(٣) يقال : الأوّل في النّثر ، والثّاني في النّظم ، أي يقال للنّاثر : كاتب فصيح ، وللنّاظم : شاعر فصيح ، فالمراد من الكاتب هو منشئ النّثر لا من يكتب بالقلم والمراد من الشّاعر أيضا هو منشئ الشّعر.

(٤) أي البلاغة في اللّغة تنبئ عن الوصول والانتهاء لكونها وصولا مخصوصا إلّا أنّ الشّارح لم يقل : وهي في الأصل تنبئ ... اكتفاء بما ذكره في جانب الفصاحة لا لكونها في اللّغة والاصطلاح بمعنى واحد وهو الوصول والانتهاء ، بل هي في الاصطلاح بمعنى

٨٦

[يوصف بها الأخيران فقط (١)] أي الكلام والمتكلّم دون المفرد (٢) إذ لم يسمع كلمة بليغة (٣). والتّعليل بأنّ البلاغة إنّما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال وهي (٤) لا تتحقّق في المفرد وهم (٥)

______________________________________________________

مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ثمّ المناسبة بين المعنيين ظاهرة ، إذ لو أتى المتكلّم بكلام مطابق لمقتضى الحال فقد وصل إلى كنه مراده ، والمراد بها لغة هو الوصول الخاصّ أي وصول الرجل كنه مراده بعبارته. ثمّ إنّه ذكر غير واحد منهم أنّ الإتيان بقوله «تنبئ ...» للإشارة إلى أنّ معنى البلاغة في اللّغة ليس نفس الوصول والانتهاء ، بل أمر ينبئ عن ذلك ويستلزمه ، فإنّها في الأصل الوصول المخصوص وهو وصول الرّجل كنه مراده بعبارته لا الوصول المطلق.

نعم ، يستلزمه كما هو الشّأن في كلّ خاص بالقياس إلى عام مندرج فيه واستشهدوا على ذلك بما نسبوه إلى صاحب القاموس من قوله : بلغ الرّجل بلاغة ، إذا بلغ بعبارته كنه مراده مع إيجاز بلا إخلال أو إطالة بلا إملال.

وقيل : إنّ السرّ في الإتيان بكلمة «تنبئ» هو عدم كون الشّارح جازما بأنّها موضوعة في اللّغة لخصوص الوصول المخصوص أو لمطلق الوصول المشترك بين الوصول المطلق والخاصّ ، فمن ذلك قال : «تنبئ» أي تخبر عن الوصول والانتهاء لوضعه بإزائه ، أو لاستلزام ما وضع بإزائه له.

(١) قوله : «فقطّ» اسم فعل بمعنى انته ، الفاء الواقعة فيه لكونه جواب شرط مقدّر ، والتّقدير إذا وصفت بها الأخيرين فانته عن وصف الكلمة بها.

(٢) أي يقال كلام بليغ ، ورجل بليغ ، دون كلمة بليغة.

(٣) هذا الدّليل أخصّ من المدّعى ، لأنّ الكلمة أخصّ من المفرد لأنّ المفرد يشمل ما يقابل المثنّى والمجموع ، وما يقابل المضاف وما يقابل المركّب كما عرفت ، فلا يلزم من انتفاء سماع كلمة بليغة انتفاء سماع مفرد بليغ لأنّ نفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ إلّا أن يقال إنّ المراد بالكلمة ما ليس بكلام ، فلا إشكال حينئذ.

(٤) أي المطابقة لا تتحقّق في المفرد ، لأنّ المطابقة المذكورة إنّما تحصل بمراعاة الاعتبارات الزائدة على أصل المعنى المراد وهذا لا يتحقّق إلّا في ذي الإسناد المفيد.

(٥) قوله : «وهم» خبر لقوله «والتّعليل بأنّ البلاغة ...».

٨٧

لأنّ ذلك (١) إنّما هو في بلاغة الكلام والمتكلّم ، وإنّما قسّم (٢) كلّا من الفصاحة والبلاغة أوّلا لتعذّر جمع المعاني المختلفة الغير المشتركة في أمر يعمّها في تعريف واحد وهذا (٣) كما قسّم ابن الحاجب المستثنى إلى متّصل ومنقطع ثمّ عرّف كلّا منهما على حدة.

______________________________________________________

(١) أي ما ذكر من التّعليل باعتبار المطابقة لمقتضى الحال لا يتمّ إلّا إذا انحصر معنى البلاغة بما ذكروه مع أنّه يجوز لها معنى آخر يصحّ وجوده في المفرد على تقدير أن يتّصف بها كأن يقال : إنّ معنى بلاغة المفرد وضعه في مرتبة تليق به كما أنّ للفصاحة في المفرد معنى آخر غير معنى فصاحة الكلام والمتكلّم ومع هذا الاحتمال لم يتجّه التّعليل المذكور لأنّ البلاغة في الكلام والمتكلّم أخصّ من مطلق البلاغة ولا يلزم من عدم اتّصاف المفرد بالبلاغة بمعنى الأخص أعنى البلاغة بمعنى المطابقة لمقتضى الحال عدم اتّصافه بمطلق البلاغة ، لأنّ انتفاء الخاصّ لا يستلزم انتفاء العام.

(٢) دفع لما يقال : من أنّ المتعارف بين المصنّفين ، بل هو الأصل أن يورد أوّلا تعريفا شاملا لأقسام المعرّف كتعريف الكلمة والكلام ثمّ تقسيمهما إلى أقسام أو قسمين ، والمصنّف ترك هذا الأصل حيث قسّم الفصاحة ضمنا إلى الفصاحة في المفرد والكلام والمتكلّم وقسّم البلاغة كذلك إلى البلاغة في الكلام والمتكلّم ، ثمّ عرّف كلّا من الأقسام في الفصاحة والقسمين في البلاغة.

فدفع هذه الشبهة بقوله «إنّما قسّم ...» أي الوجه في مبادرة المصنّف إلى التّقسيم قبل التّعريف الشّامل للأقسام هو ما أشار الشّارح إليه بقوله «لتعذّر جمع المعاني المختلفة» كأقسام الفصاحة وقسمي البلاغة «الغير المشتركة» أي المعاني المختلفة الّتي ليست بمشتركة «في أمر» أي مفهوم شامل لتعذّر جمع المعاني المختلفة «في تعريف واحد» ترك الأصل وما هو المتعارف.

(٣) أي تقسيم المصنّف أوّلا ثمّ التّعريف ثانيا كتقسيم ابن الحاجب المستثنى إلى متّصل ومنقطع ... وليس ذلك إلّا لعدم أمر عامّ مشترك بينهما. إلّا أن يقال : إنّه يمكن جمع المتّصل والمنقطع في تعريف لاشتراكهما في أمر يعمّهما وهو الذّكر بعد إلّا أو إحدى أخواتها ، فالتّشبيه حينئذ إنّما هو في مجرّد سبق التّقسيمين وتأخّر التّعريف.

٨٨

[فالفصاحة في المفرد] قدّم (١) الفصاحة على البلاغة لتوقّف معرفة البلاغة على معرفة الفصاحة لكونها مأخوذة في تعريفها ثمّ قدّم فصاحة المفرد على فصاحة الكلام والمتكلّم لتوقّفهما (٢) عليها [خلوصه] أي خلوص المفرد من [تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللّغوي] أي المستنبط من استقراء اللّغة (٣)

______________________________________________________

(١) قدّم المصنّف تعريف أقسام الفصاحة على تعريف أقسام البلاغة لتوقّف إدراك البلاغة وتصوّرها من حيث المفهوم على إدراك الفصاحة. ثمّ علّة التوقّف هو ما أشار إليه الشّارح بقوله «لكونها مأخوذة في تعريفها» أي لكون الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة حيث قيل في تعريف البلاغة في الكلام على ما سيأتي ، من أنّ البلاغة في الكلام مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ، وكذلك بلاغة المتكلّم تتوقّف على فصاحة الكلام والمفرد تصوّرا ، لأنّها عبارة عن ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ ، وهو عبارة عن كلام فصيح مطابق لمقتضى الحال ، والكلام الفصيح عبارة عن الكلام الخالص عن ضعف التّأليف والتّعقيد والتّنافر مع فصاحة كلماته ، فعنوان البليغ متضمّن لفصاحة الكلام والمفرد ، ولازم ذلك كون بلاغة المتكلّم متوقّفة تصوّرا على فصاحة الكلام وفصاحة المفرد ، وكذلك بلاغة المتكلّم تتوقّف على فصاحته تحقّقا ، لا يستطيع على تأليف نوع الكلام البليغ إلّا من يقتدر على تأليف نوع الكلام الفصيح.

(٢) أي لتوقّف فصاحة الكلام والمتكلّم على فصاحة المفرد غاية الأمر أنّ توقّف فصاحة الكلام على فصاحة المفرد إنّما هو بلا واسطة ، وأمّا توقّف فصاحة المتكلّم على فصاحة المفرد فبواسطة أخذ فصاحة الكلام في تعريف فصاحة المتكلّم ، وقد عرفت توقّف فصاحة الكلام على فصاحة المفرد ثمّ المتوقّف على المتوقّف على الشّيء متوقّف على ذلك الشّيء ، ففصاحة المتكلّم المتوقّفة على فصاحة الكلام المتوقّفة على فصاحة المفرد متوقّفة على فصاحة المفرد بقياس المساواة.

(٣) قد حصر المصنّف فصاحة المفرد في خلوصه من الأمور الثّلاثة ، ثمّ وجه الحصر أنّ كلّ مفرد له مادّة وهي حروفه ، وصورة هي صيغته ، ودلالة على معناه. فعيبه إمّا في مادّته ، وهو التّنافر أو في صيغته وهو مخالفة القياس ، أو في دلالته على معناه وهو الغرابة ، ويمكن إجراؤه في الكلام أيضا فيقال : إنّ له مادّة هي كلماته ، وصورة هي

٨٩

وتفسير الفصاحة بالخلوص لا يخلو عن تسامح (١) ، لأنّ الفصاحة تحصل عند الخلوص.

______________________________________________________

التّأليف العارض لها ودلالة على معناه التّركيبي. فعيبه إمّا في مادّته وهو تنافر الكلمات ، أو في صورته وهو ضعف التّأليف أو في دلالته على معناه وهو التّعقيد.

حاصل الكلام أنّ الفصاحة في كلّ من المفرد والكلام هو خلوصهما عن المعايب الثّلاثة المذكورة في كلّ منهما.

إنّ في تقييد المصنّف القياس باللّغوي حيث قال : «ومخالفة القياس اللّغوي» ولم يقل مخالفة القياس الصّرفي ، إشارة : أوّلا : إلى أنّ المراد بالقياس هي القاعدة الصّرفيّة كقلب الياء ألفا إذا ما كان قبلها فتحة مثلا.

وثانيا : للاحتراز عن القياس الفقهي الحكم بحرمة نبيذ التّمر قياسا إلى الخمر مثلا.

ولذا فسّره الشّارح بقوله «أي المستنبط» فهذا التّفسير إشارة إلى أنّ المراد بالقياس هو القياس الصّرفي الّذي منشؤه استقراء اللّغة. وبعبارة أخرى أنّه لم يقل الصّرفي بدل «اللّغوي» مع كون المراد بذلك تنبيها على أنّ منشأ هذا القياس الصّرفي استقراء اللّغة.

(١) أي تفسير الفصاحة بالخلوص لا يخلو عن تسامح وذكر للتّسامح وجهان :

الأوّل : أنّ تعريف الفصاحة بالخلوص عن المعايب المذكورة ليس تعريفا حقيقيّا ، لأنّ الفصاحة عبارة عن كون الكلمة جارية على القوانين المستنبطة من استقراء كلام العرب ، وهكذا كون الكلام جاريا على أسلوب العرب والخلوص ليس نفس كون الكلمة جارية على القوانين ولا الكلام جاريا على أسلوب العرب فتعريف الفصاحة بالخلوص عمّا ذكر تعريف بما هو الخارج عن مفهوم الفصاحة ولازمه ، فلا يخلو عن تسامح لو قلنا بجوازه.

الثّاني : أنّ الفصاحة من الأمور الوجوديّة ، لأنّ معناها هو الكون المذكور والخلوص من الأمور العدميّة فلا يناسب تعريف الوجودي بالعدمي وليس ذلك إلّا من باب التّسامح ، والسّبب للتّسامح المذكور هو التّسهيل لأنّ معرفة الشّيء من طريق الصّفات والعلائم أسهل من معرفته بالحقيقة والذّات ، وذلك فإنّ معرفة الغرابة تحصل بمطالعة باب من أبواب القاموس أو غيره من كتب اللّغة ، ومعرفة الخلوص عن مخالفة القياس اللّغوي تحصل

٩٠

[فالتّنافر] وصف في الكلمة (١) يوجب ثقلها على اللّسان وعسر النّطق بها (٢) [نحو] المستشزرات في قول امرئ القيس [غدائره] أي ذوائبه (٣) جمع غديرة ، والضّمير عائد إلى الفرع (٤) في البيت السّابق

______________________________________________________

بمطالعة مختصر من كتب الصّرف ، ومعرفة ضعف التّأليف تحصل بالرّجوع إلى مختصر من مختصرات النّحو ، هذا بخلاف معرفة كون اللّفظ جاريا على القوانين فإنّها تحتاج إلى استقراء متعذّر بالنّسبة إلى بعض النّاس ، ومتعسّر بالقياس إلى البعض الآخر.

(١) أي كيفية فيها يوجب ثقلها على اللّسان.

(٢) قوله : «وعسر النّطق» عطف تفسيريّ على ثقلها أو من قبيل عطف المسبّب على السّبب حيث إنّ الثّقل يوجب عسر النّطق ، ثمّ الثّقل بكسر الثّاء وسكون القاف على وزن (علم) بمعنى الشّيء الثّقيل ، ثمّ عطف العسر عليه إشارة إلى أنّ التّنافر لا يخلّ بالفصاحة إلّا إذا كان شديدا بحيث تصير على اللّسان كالحمل الثّقيل.

(٣) الذّوائب جمع ذؤابة بالهمزة بعدها ألف أبدلت الهمزة واوا في الجمع والألف بعد ألف الجمع همزة فصارت ذوائب.

وفسّر الشّارح الغدائر بالذّوائب ، لأنّ الذّوائب أخصّ من الغدائر ، وهي في قول الشّاعر عبارة عن الشّعر المنسدل من الرّأس إلى الظّهر ، وإنّما سمّي ذلك الشّعر غديرة لأنّه غودر وترك حتّى طال ، ثمّ الغدائر جمع غديرة ، وهي قبضة من الشّعر ويقال للشّعر الّذي يقع على وجه المرأة من مقدّم رأسها لأنّها غودرت أي تركت فطالت.

(٤) أي في البيت السّابق وهو :

وفرع يزيّن المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النخلة المتعثكل

غدائره مستشزرات إلى العلى

تضلّ المذاري في مثنّى ومرسل

القنو ، تضلّ : بمعنى تغيب ، المذاري جمع مذري : بمعنى المشط ، المثنّى : هو الشّعر المفتول كالحبل ، والمرسل خلافه أي غير المفتول.

والمراد بالفرع : هو الشّعر مطلقا ، فيصدق على الغدائر وعلى المثنّى والمرسل ، فإضافة الغدائر إلى الضّمير الرّاجع إليه في قوله : «غدائره» من إضافة الجزئي إلى الكلّي ، والمراد

٩١

[مستشزرات (١)] أي مرتفعات أو مرفوعات يقال استشزره ، أي رفعه واستشزر أي ارتفع [الى العلى (٢)] * تضلّ العقاص (٣) في مثنّى ومرسل* تضلّ أي تغيب ، والعقاص جمع عقيصة (٤) وهي الخصلة المجموعة من الشّعر (٥) والمثنّى المفتول ، والمرسل خلاف المثنّى (٦)

______________________________________________________

بالمتن : هو الظّهر ، ويزيّن : بمعنى الزّينة ، والمراد بالأسود والفاحم : هو شدّة سواد الشّعر أي أنّ شعر رأس الممدوح كالفحم في السّواد ، وأثيث ـ بالثّاءين وبينهما الياء ـ : بمعنى الغزير والكثير ، والمراد من قنو النّخلة : هو عنقود النخل فالقنو في النّخلة كالعنقود في العنب ، والمراد من المتعثكل : هو كثرة الأغصان ، وقيل هو ما عليه البسر من عيدان القنو ، تضلّ : بمعنى تغيب ، المذاري جمع مذري : بمعنى المشط ، المثنّى : هو الشّعر المفتول كالحبل ، والمرسل خلافه أي غير المفتول.

(١) قوله : «مستشزرات» يحتمل أن يكون اسم فاعل ويحتمل أن يكون اسم مفعول فعلى الأوّل يقرأ بكسر الزّاء ، وعلى الثّاني بفتحها ، وقد أشار إلى الأوّل بقوله «مرتفعات» وإلى الثّاني بقوله «أو مرفوعات» وإنّما جوّز الشّارح الاحتمالين ، لأنّ فعله يستعمل على وجهين ، فيقال استشزره أي رفعه ، ويقال أيضا استشزر أي ارتفع فالأوّل إشارة إلى استعمال الفعل متعدّيا والثّاني إشارة إلى استعماله لازما.

(٢) جمع العلياء مؤنّث الأعلى أي جهة العلى ، وهي السّماء.

(٣) من هنا يبدأ الشّارح لبيان معنى قول الشّاعر ، فقوله : «تضلّ العقاص» أي تلك الغدائر وقد أتى بالظاهر أعني العقاص مقام الضّمير الراجع إلى الغدائر للإشارة إلى تسمية تلك عقاصا أيضا. فالغدائر والعقاص بمعنى واحد ، فدفع به ما ظنّ بعض الشّرّاح من أنّ العقاص غير الغدائر ، فرتّب عليه أنّ الشّعر كان على أربعة أقسام : غدائر ، عقاص ، مثنّى ، مرسل ، وقد دفع هذا التّوهّم بما يظهر من الشّارح حيث جعل الغدائر والعقاص بمعنى واحد فالشّعر على ثلاثة أقسام.

(٤) في جمع العقاص مع إفراد مثنّى ومرسل لطيفة : وهي الإشارة إلى أنّ العقاص مع كثرتها تغيب في كلّ واحد من الأخيرين أي المثنّى وحده والمرسل وحده ، ففيه دلالة واضحة على كثرة شعر المحبوبة.

(٥) أي كانت عادة نساء العرب في الجاهليّة أن تجمع شيئا من شعر رأسها في وسط الرّأس وتشدّه بخيط وتجعله مثل الرّمّانة ويسمّونه غديرة وذؤابة وعقيصة ثمّ تستره بإرخاء المثنّى والمرسل فوقه إلى الوراء.

(٦) أي فإذا كان المثنّى هو المفتول كالحبل فالمرسل غير المفتول.

٩٢

يعنى أنّ ذوائبه مشدودة على الرّأس بخيوط (١) وأنّ شعره (٢) ينقسم إلى عقاص ومثنّى ومرسل والأوّل يغيب في الأخيرين والغرض بيان كثرة الشّعر (٣) والضّابط ههنا (٤) أنّ كلّ ما يعدّه الذّوق الصّحيح ثقيلا متعسّر النطق به فهو متنافر سواء كان (٥)

______________________________________________________

(١) يعني أنّ ذوائب الفرع «مشدودة على الرّأس» أي على وسطه «بخيوط» لا بخيط واحد بقرينة أنّ المقصود في المقام هو المبالغة في كثرة الشعر.

لا يقال : إنّ قول الشّارح «أنّ ذوائبه مشدودة» لا دليل عليه إذ لا يفهم من البيت شدّ الذوائب.

فإنّه يقال : يفهم من «مستشزرات» خصوصا إذا قرئ على صيغة المجهول لأنّ شعر النّاصية لا يبقى مرتفعا في وسط الرّأس ما لم يكن مشدودا بشيء. ويفهم أيضا من العقاص ، لأنّ العقيصة شعر ذو عقاص وهو الخيط الّذي تربط به أطراف الذوائب.

وقوله في تفسير العقيصة «وهي الخصلة المجموعة» دون المجتمعة يشعر بما ذكر لأنّ العقاص على تفسير الشّارح هذا هي الغدائر بعد أن شدّت لا غير.

(٢) أي أنّ شعر الممدوح ينقسم إلى ثلاثة أقسام ـ لا إلى أربعة أقسام كما توهّم بعض الشّارحين ـ وهي العقاص والمثنّى والمرسل ، والأوّل تغيب في الأخيرين لكثرتهما.

بقي الكلام في الإعراب فنقول : إنّ (فرع) موصوف معطوف على قوله : (أسبل) في الأبيات السّابقة (يزيّن المتن) فعل وفاعل ومفعول نعت لفرع. وكذلك (أسود فاحم أثيث كقنو النخلة) نعوت له (المتعثكل) نعت لقنو النخلة (غدائره) مبتدأ (مستتشرزات) اسم فاعل أو اسم مفعول خبر أوّل لغدائره (إلى العلى) متعلّق بمستشزرات (تضلّ العقاص في مثنّى ومرسل) فعل وفاعل ومتعلّق ، والجملة خبر ثان لغدائره والجملة الكبرويّة في موضع حال لفرع.

(٣) أي المقصود من هذا الكلام ليس مجرّد الإخبار بل هو بيان كثرة الشّعر ولو تعريضا أو كناية ولهذا جمع العقاص مع إفراد المثنّى والمرسل تنبيها على أنّ العقاص مع كثرتها كأنّها تغيب في مثنّى واحد ومرسل واحد من جهة كثرة كل واحد منها.

(٤) أي الضّابط المعوّل عليه «ههنا» أي في ضبط تنافر الحروف هو الذّوق.

(٥) أي سواء كان الثّقل من جهة قرب المخارج كما في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي

٩٣

من قرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك ، على ما صرّح به (١) ابن الأثير (١) في المثل السّائر (٢) وزعم بعضهم (٣) أنّ منشأ الثّقل في مستشزرات هو توسّط الشين المعجمة الّتي هي من المهموسة الرّخوة بين التّاء الّتي هي من المهموسة الشّديدة وبين الزّاء المعجمة الّتي هي من المجهورة ولو قال مستشرف لزال ذلك الثّقل (٢)

______________________________________________________

آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ)(٤) وقيل إنّ في (أَلَمْ أَعْهَدْ) ثقلا من جهة قرب المخارج أو كان الثّقل من جهة بعد المخارج كملع بمعنى أسرع حيث فيه ثقل من جهة بعد المخارج «أو غير ذلك» كتوسّط الشّين بين التاء والزاء كما يأتي.

وحاصل الكلام أنّ الضابط في ضبط تنافر الحروف هو الذّوق وهو قوة يدرك بها لطائف الكلام ووجوه تحسينه فكلّ ما عدّه الذّوق السّليم ثقلا متعسّر النّطق كان ثقيلا وما لا يعدّه ثقيلا لا يكون ثقيلا ، إذ ما قيل : من أنّ الضابط المعوّل عليه هو قرب المخارج أو بعدها غير مطّرد ، لأنّا نجد عدم التّنافر مع قرب المخارج كالجيش والشّجو ومع بعدها كعلم مثلا ، فما قيل في وجه ذلك : من أنّه إذا بعدت المخارج فالنّطق بها كالطفرة وإذا قربت فالنّطق بها كالمشي في القيد غير صحيح.

وبالجملة إنّ كل واحد من قرب المخارج وبعدها غير مطّرد فلا يكون ضابطا.

(١) أي الضّابط.

(٢) يتوقّف ما زعمه البعض على مقدّمة : وهي معرفة مخارج الحروف ومعرفة ما لها من الأقسام من حيث الهمس والجهر ونحوهما. فنقول : إنّ الحروف باعتبار أوصافها تنقسم إلى تقاسيم :

منها : تقسيمها إلى المهموسة والمجهورة فالمجهورة تسعة عشر حرفا ، وهي : (ظل قوربض إذ غزا جند مطيع) ، وإنّما سمّيت هذه الحروف مجهورة لأنّ اللّافظ يشبع الاعتماد في مخرجها ، فمن إشباع الاعتماد يحصل ارتفاع الصّوت ، والجهر هو رفع الصّوت فلا يتهيّأ النطق بها إلّا كذلك ويعرف ذلك من التّلفّظ بالقاف مكرّرا بالحركة نحو ققق

__________________

(١) هو الإمام الفاضل الوزير ضياء الدّين أبو الفتح نصر الله بن محمّد بن محمّد.

(٢) اسم كتاب في البلاغة وقيل : في اللّغة.

(٣) وهو الخلخالي.

(٤) سورة يس : ٦٠.

٩٤

بالحركات الثّلاث من دون إشباع أو قاقاقا أو قوقوقو أو قي قي قي بالإشباع.

والمهموسة عشرة أحرف وهي : (ستشخثك حصفه) ، بالهاء ، وإنّما سمّيت هذه الحروف مهموسة لأنّه يتهيّأ لك أن تنطق بها ويسمع صوتك خفيّا ، والهمس هو الإخفاء ، ويعرف ذلك من التّلفّظ بالكاف مكرّرا بالحركة نحو ككك بالحركات الثّلاث من دون إشباع أو مع الإشباع ، نحو كاكاكا أو كوكوكو أو كي كي كي ، ثمّ التّفاوت بين القاف والكاف أظهر من الشّمس.

وقيل : المجهورة يخرج أصواتها من الصّدر والمهموسة يخرج أصواتها من مخارجها في الفم وذلك ممّا يرخى الصّوت ، فيخرج الصّوت من الفم ضعيفا.

ومنها : تقسيمها إلى الشّديدة والرّخوة ـ وهي ضدّ الشّديدة ـ وما بينهما والمراد بالشّديدة ما إذا أسكنته ونطقت به لم يجر الصّوت بل ينحصر في المخرج ، يسمع في آن ثمّ ينقطع ، وحروفها (أجدك قطبت) أي عرفتك عبوسا ، والمراد بالرّخوة ما يجري الصوت عند النّطق بها ولا ينحبس في المخرج ، وحروفها ما عدا الحروف المذكورة وما عدا حروف (لم يروعنا) ، وهذه الحروف أي (لم يروعنا) تسمّى المعتدلة بين الرّخوة والشّديدة. وبوجه آخر إنّما سمّيت متوسّطة لأنّ النّفس لا ينحبس معها انحباس الشّديدة ولم يجر معها جريانه مع الرّخوة.

والمتحصّل من الجميع أنّ الحروف بالنّسبة إلى المهموسة والمجهورة تنقسم إلى قسمين ، وبالنّسبة إلى الشّدّة والرّخاوة إلى ثلاثة : شديدة ورخوة ومتوسّطة بينهما.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ توهّم بعضهم بأنّ منشأ الثّقل في «مستشزرات» هو توسّط الشّين المعجمة الّتي هي من المهموسة أي من (ستشخثك حصفه) الرّخوة أي ما عدا (أجدك قطبت) وما عدا (لم يروعنا) بين التّاء الّتي هي من المهموسة الشّديدة الّتي هي حروف (أجدك قطبت) والزّاء المعجمة الّتي هي من المجهورة أي من حروف (ظل قوربض إذ غزا جند مطيع).

ثمّ النّسبة بين المجهورة والمهموسة هي التّباين حيث إنّ الأولى متقمّصة بقميص علوّ الصّوت والثّانية بانخفاض الصّوت ، فلا يمكن اجتماعهما في حرف واحد ، وكذا النّسبة

٩٥

وفيه نظر ، لأنّ الرّاء المهملة أيضا من المجهورة (١) ، وقيل (١) : إنّ قرب المخارج سبب للثّقل المخلّ بالفصاحة (٢)

______________________________________________________

بين الشّديدة والرّخوة وبين كلّ منهما والمتوسّطة.

نعم ، النّسبة بين المجهورة والشّديدة هي العموم من وجه ، فإنّ الأولى أخصّ من جهة كونها مقيّدة بالجهر وأعمّ من جهة كونها مطلقا بالنّسبة إلى الرّخوة والشّدّة ، والثّانية أخصّ من جهة كونها مقيّدة بالشّدّة وأعمّ من جهة كونها مطلقة بالقياس إلى الجهر والهمس.

وكذا النّسبة بين المجهورة والرّخوة ، فإنّ الأولى أخصّ من جهة كونها مقيّدة بالجهر وأعمّ من جهة كونها مطلقة بالقياس إلى الرّخوة والشّدّة ، والثّانية أخصّ من جهة كونها مقيّدة بالرّخاوة ، وأعمّ من جهة كونها مطلقة بالقياس إلى الجهر والهمس.

والنّسبة بين المجهورة والمتوسّطة أيضا عموم من وجه ، فإنّ الأولى أخصّ من جهة كونها مقيّدة بالجهر وأعمّ من جهة كونها مطلقة بالقياس إلى الشّدة والرّخوة والتوسّط ، والثّانية أخصّ من جهة كونها مقيّدة بالتّوسّط ، وأعمّ من جهة كونها مطلقة بالقياس إلى الجهر والهمس.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ ما زعمه البعض حيث قال : «لو قال مستشرف لزال ذلك الثّقل» لا يرجع إلى محصّل صحيح.

(١) أي كما أنّ الزّاء المعجمة من المجهورة فلا يرتفع الثّقل بمستشرفات بدل مستشزرات ، لأنّ العلّة مشتركة بينهما ، فيجب أن يكون مستشرف أيضا متنافرا.

نعم ، الفرق بين الزّاء المعجمة والرّاء المهملة ، أنّ الأولى من الرّخوة ، والثّانية من المتوسّطة ، فمنشأ الثّقل في مستشزر هو الوصف الموجب للثّقل يدرك بالذّوق السّليم والفهم المستقيم وقد حصل ذلك الوصف من اجتماع هذه الحروف المخصوصة على التّرتيب المخصوص.

(٢) وقد عرفت وجه ذلك بأنّه إذا قربت مخارج الحروف كان النّطق بها كالمشي في القيد ، ولا شكّ أنّ حروف مستشزرات متقاربة المخارج فتنافرها إنّما هو من جهة قرب المخارج.

__________________

(١) القائل هو الزّوزني.

٩٦

وإنّ في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ)(١) ثقلا قريبا من المتناهي فيخلّ بفصاحة الكلمة (١) لكنّ (٢) الكلام الطّويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة كما لا يخرج الكلام الطّويل (٣) المشتمل على كلمة غير عربيّة عن أن يكون عربيّا ، وفيه نظر (٤) ، لأنّ فصاحة الكلمات مأخوذة في تعريف فصاحة الكلام من غير

______________________________________________________

(١) أي السّبب للثّقل هو قرب المخارج لأنّ الهمزة والعين يخرجان من الحلق ، غاية الأمر إنّ الهمزة والهاء يخرجان من أقصاه والعين من وسطه.

(٢) دفعّ لما يتوهّم من أنّه على هذا القول يلزم أن تكون سورة يس الواقع فيها هذا اللّفظ غير فصيحة مع أنّه باطل فالقول بأنّ الضّابط المعوّل عليه في تنافر الحروف هو قرب المخارج باطل.

حاصل الدّفع إنّ الكلام المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة ، كما لا يخرج الكلام المشتمل على كلمة غير عربيّة عن كونه عربيّا كالقرآن فإنّه عربي ، قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٢) مع أنّه قد اشتمل على كلمات غير عربيّة كالقسطاس فإنّها كلمة روميّة اسم للميزان ، والمشكاة فإنّها كلمة هنديّة اسم للقنديل ، والسجّيل فإنّها كلمة فارسيّة اسم لسنگ وگيل. فكما أنّ القرآن مع اشتماله على تلك الكلمات الغير العربيّة لم يخرج عن كونه عربيّا كما تشهد له الآية كذلك لا تخرج سورة فيها (أَلَمْ أَعْهَدْ) عن الفصاحة.

(٣) المراد من «الكلام الطّويل» هو القرآن أو السّورة.

(٤) أي فيما ذكره الزّوزني من أنّ قرب المخارج موجب للثّقل المخلّ بالفصاحة وما ذكره من أنّ الكلام المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة نظر وإشكال من وجوه :

الأوّل : ما تقدّم من الشّارح حيث قال : إنّ سبب الثقل في مستشزرات هو نفس اجتماع الحروف المخصوصة على التّرتيب المخصوص من دون دخل لقرب المخارج وبعدها.

الثّاني : أنّ ما ذكره من أنّ الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن

__________________

(١) سورة يس : ٦٠.

(٢) سورة يوسف : ٢.

٩٧

تفرقة بين طويل وقصير ، على أنّ هذا القائل فسّر الكلام بما ليس بكلمة (١) ،

______________________________________________________

الفصاحة لا يرجع إلى محصّل صحيح ، وذلك لاشتراطهم في فصاحة الكلام مطلقا فصاحة كلماته من دون فرق بين الكلام الطّويل والقصير ، فما ذهب إليه من التّفرقة بين الطويل والقصير تحكّم من عند نفسه.

وبعبارة واضحة أنّ فصاحة الكلمات قد أخذت في تعريف فصاحة الكلام كما سيأتي من المصنّف حيث قال في تعريف فصاحة الكلام : «الفصاحة في الكلام خلوصه من ضعف التّأليف وتنافر الكلمات والتّعقيد مع فصاحتها» أي الكلمات ، ولازم ذلك أنّ انتفاء فصاحة الكلمة موجب لانتفاء فصاحة الكلام لكونها جزء ركنيّا لها ، لمكان كونها مأخوذة في تعريفها.

لا يقال : إنّ ما أخذ في تعريف فصاحة الكلام إنّما هو فصاحة جميع الكلمات ، ولازم ذلك عدم انتفاء فصاحته بانتفاء فصاحة كلمة واحدة لعدم كونها مأخوذة في تعريفها.

لأنّا نقول : إنّ فصاحة كلمة واحدة جزء من فصاحة جميع كلمات الكلام ، وفصاحة جميع كلمات الكلام جزء لفصاحة الكلام ، ففصاحة كلمة واحدة أيضا جزء لفصاحة الكلام ، فإنّ جزء جزء شيء جزء لذلك الشّيء ، فانتفاء فصاحة كلمة واحدة موجب لانتفاء فصاحة الكلام ، لأنّ انتفاء الجزء يوجب انتفاء الكلّ.

(١) قوله : «على أنّ ...» إشارة إلى الوجه الثّالث ، وكلمة «على» بمعنى مع ، أي مع أنّ هذا القائل فسّر الكلام فيما سبق أي في تقسيم الفصاحة «بما ليس بكلمة» فيشمل المركّب النّاقص كقولنا غلام زيد ، لأنّه ليس بكلمة ، وحينئذ يجب أن يكون كلّ كلمة لمطلق المركّب فصيحة ، لأنّ مطلق المركّب كلام عند هذا القائل وقد اعتبر في فصاحة الكلام فصاحة كلماته ، فإذا اشتمل المركّب ـ ناقصا كان أو تامّا ـ على كلمة غير فصيحة فهو غير فصيح ويكون الفساد في أمرين ، وأمّا على تفسير الشّارح فالمركّب النّاقص داخل في المفرد فلا يعتبر فيه أن تكون كلماته فصيحة ، فالفساد حينئذ يختصّ بالمركّب التّامّ لاعتبار فصاحة الكلمات في تعريف فصاحته. هذا ملخّص الكلام في الوجه الثّالث من وجوه الإشكال على ما ذكره الزّوزني.

٩٨

والقياس على الكلام العربيّ ظاهر الفساد (١) ، ولو سلّم (٢) عدم خروج السّورة عن الفصاحة فمجرّد اشتمال القرآن على كلام غير فصيح بل على كلمة غير فصيحة ممّا يقود إلى نسبة الجهل أو العجز إلى الله تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا (٣). [والغرابة] كون الكلمة وحشيّة غير ظاهرة المعنى (٤) ، ولا مأنوسة الاستعمال (٥)

______________________________________________________

(١) هذا الكلام إشارة إلى الوجه الرّابع ، وحاصل الكلام فيه : أنّ قياس الكلام الفصيح بالكلام العربيّ قياس مع الفارق ، لأنّ فصاحة الكلمات شرط في فصاحة الكلام ، وعربيّتها ليست شرطا في الكلام العربيّ ، فكون الكلمة غير عربيّة لا يضرّ في الكلام العربيّ ، فمعنى الآية (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي عربيّ النّظم والأسلوب لا عربيّ الكلمات والمفردات.

(٢) أي لو سلّم المدّعى ، وهو عدم خروج السّورة عن الفصاحة مع اشتمالها على كلام غير فصيح أو كلمة غير فصيحة ، يلزم محذور آخر وهو نسبة الجهل أو العجز إلى الله تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، لأنّ عدم الإتيان بكلام فصيح إمّا لعدم علمه تعالى بأنّه غير فصيح أو لعدم علمه بأنّ الفصيح أولى ، فيلزم الجهل ، وإمّا لعدم قدرته على إبدال غير الفصيح بالفصيح ، فيلزم العجز.

(٣) أي تنزّه عن الجهل أو العجز تنزّها كبيرا. وكان على الشّارح أن يذكر السّفه عاطفا على العجز تتميما لجميع المحتملات ، لاحتمال أن يكون اشتماله على غير الفصيح لغرض غير عقلائي ، وإن كان عالما بأنّه غير فصيح ، وأنّ الفصيح أولى منه ، وإرجاع السّفه إلى الجهل لا يخلو عن تكلّف.

(٤) تفسير للوحشيّة والمراد بعدم ظهور معناها أن لا ينتقل الذّهن منها إلى معناها الموضوع له بسهولة.

(٥) عطف على قوله : «غير ظاهرة المعنى» وأعاد النفي المستفاد من كلمة غير في المعطوف عليه كقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) للإشارة إلى أنّ كلّ واحد ظاهر المعنى عند أبناء المحاورة لمكان عدم كونه مشهور الاستعمال عندهم ، وإلّا فلا وجه منها على حياله مخلّ بالفصاحة لا بالمجموع من حيث المجموع حتّى يكون المضرّ اجتماعهما لا كلّ واحد منهما بانفراده ، وعطف قوله : «ولا مأنوسة الاستعمال» على قوله : «غير ظاهرة المعنى» من قبيل عطف السّبب على المسبّب لأنّ عدم كون اللّفظ لعدم كونه

٩٩

[نحو] مسرّج (١) في قول العجّاج :

* ومقلة وحاجبا مزجّجا* أي مدقّقا مطوّلا (٢) [وفاحما] أي شعرا أسود كالفحم (٣) [ومرسنا] أي أنفا (٤) [مسرّجا] أي [كالسّيف السّريجي في الدّقّة والاستواء (٥)] وسريج اسم قين (٦) تنسب

______________________________________________________

ظاهر المعنى.

وقيل :

إنّه من عطف أحد المتلازمين على الآخر وفائدته المقصودة نصب العلامتين على غرابة الكلمة.

لا يقال : إنّ كون الكلمة غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال لا يكون مضرّا بفصاحتها ، وإلّا لزم أن يكون أكثر الكلمات المذكورة في قصائد الجاهليّين غير فصيح ، لعدم ظهور معناها عند الأجيال اللّاحقة ، وعدم كونها مأنوسة الاستعمال عندهم ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

لأنّا نقول : إنّ المراد من كون الكلمة غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال كونها كذلك بالقياس إلى الأعراب الّذين لم تختلط لغتهم باللّغات المستوردة لا بالقياس إلى المولّدين ، ولا ريب أنّ الكلمات المذكورة في أشعار الجاهليّين لا تكون كذلك عند الأعراب الخلّص كسكّان البوادي مثلا وإنّما هي كذلك عند المولّدين.

(١) أي نحو غرابة المسرّج في قول ابن العجّاج ، والعجّاج لقب.

(٢) تفسير لقوله «مزجّجا» أي كان حاجبه رقيقا مطوّلا مع تقوّس.

(٣) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ فاحما نعت لمقدّر وهو الشّعر.

(٤) أي المرسن وإن كان بمعنى موضع الرّسن من أنف البعير إلّا أنّ المراد به هنا هو الأنف ولو مجازا.

(٥) كما فسّره ابن دريد.

(٦) أي سريج اسم قين يعني حدّاد تنسب إليه السّيوف ويقال : السّيوف السّريجيّة.

١٠٠