دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين.

أمّا بعد فلمّا أقبل أهل العلم والفضل على كتابي «دروس في الرّسائل» أردت أن أكتب شرحا ل «مختصر المعاني» الّذي ألّفه سعد الدّين التّفتازاني تحت عنوان «دروس في البلاغة» متجنّبا فيه عن التّطويل المملّ والاختصار المخلّ فألّفت شرحا يوضّح ما فيه من المعضلات والمشكلات.

وأسأل الله أن يجعله نافعا للمحصّلين وذخرا لنا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. وأستعين به كي يوفّقني في خدمة الدّين المبين ، فإنّه خير مسؤول وخير معين.

محمدي بن محمد حسين البامياني

دمشق في ١٥ ربيع الأوّل سنة ١٤١٣ هجريّة

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم (١) نحمدك (٢)

______________________________________________________

(١) من عادة كلّ مسلم أن يبدأ بالبسملة كتبا فيما إذا أراد أن يكتب رسالة أو كتابا ، ويبدأ بها تلفّظا فيما إذا أراد فعلا من الأفعال لأنّها شعار إسلاميّ ودينيّ ، فيجب لكلّ مؤمن أن يتّخذها شعارا في مقابل كلّ مشرك وملحد ، هذا ملخّص الوجه في ذكر البسملة ، وانتظر تفصيل الكلام في كلّ جزء من أجزاء هذه الجملة الشّريفة في خطبة الماتن.

(٢) إنّ الحمد هو الثّناء باللّسان على قصد التّعظيم سواء تعلق بالنّعمة أو بغيرها ، والمراد بالثّناء وهو الذّكر بخير ضدّ النّشاء وهو الذّكر بشرّ ثمّ الثّناء اسم مصدر من أثنيت بمعنى ذكرت بخير ، لا من ثنّيت بمعنى كررت وذلك لتحقّق الحمد عند الوصف بالجميل من دون حاجة إلى التّكرار. واختار التّعبير بالحمد على التّعبير بالشّكر والمدح ، أي لم يقل أشكرك أو أمدحك لوجوه :

الأوّل : للاقتداء بالقرآن العظيم وفيه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)).

الثّاني : للعمل بحديث «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم».

الثّالث : للتّنبيه على أنّه تعالى فاعل مختار كما عليه المسلمون الأخيار.

ثمّ الوجه الأوّل والثّاني وإن كانا مشتركين بين ترك التّعبير بالشّكر والمدح إلّا أنّ الوجه الثّالث يختصّ بالمدح فإنّه يشمل الثّناء باللّسان على الجميل الغير الاختياري. وهذا لا يصحّ على ما هو الحقّ من أنّ الله تعالى فاعل مختار. واختار الجملة الفعليّة المضارعيّة على الاسميّة والماضويّة ، لإفادتها تجدّد مضمونها على سبيل الدّوام والاستمرار والجملة الاسميّة لا تدلّ إلّا على الدّوام فقط ، والماضويّة لا تدلّ إلّا على الحدوث فقط. ومن البديهي أنّ اختيار ما يدلّ على الأمرين معا أولى مما لا يدلّ إلّا على أحدهما. فما اختاره الشّارح هنا من الجملة المضارعيّة أولى ممّا يأتي في كلام الماتن من الجملة الاسميّة حيث قال : الحمد لله.

وفي اختياره صيغة المتكلّم مع الغير حيث قال : «نحمدك» مع أن المقام هو مقام المتكلّم وحده إشارة إلى جلالة مقام الحمد ، وأنه من الجلالة إلى حدّ لا تفي قوّة شخص واحد في أدائه. وعدل عن الاسم الظّاهر بكاف الخطاب ، أي قال : «نحمدك» ولم يقل : نحمد الله ، وذلك لأنّ في الخطاب إشارة إلى قوّة إقبال الحامد على جنابه تعالى ، حتّى حمده على

٧

يا من (١) شرح (٢) صدورنا (٣) لتلخيص البيان (٤)

______________________________________________________

وجه المشافهة.

ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب كما في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) واختار تأخير المفعول ـ أي قال : «نحمدك» ولم يقل :

إيّاك نحمد ليدلّ على الاختصاص ـ لأصالته وللاستغناء عن التّقديم الدّالّ على الاختصاص لشهرة أمره في حقّه تعالى ، وشدّة وضوحه عن البيان.

(١) أتى بكلمة «يا» الموضوعة لنداء البعيد مع أنّه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد تعظيما وتبعيدا للحضرة المقدّسة عن الحامد لاتّصافه بالكدرات البشريّة من الذّنوب والآثام.

لا يقال : هذا ينافي ما سلف في نكتة الخطاب.

فإنّه يقال : إنّ الحضور الحسّي لا ينافي البعد الرّتبيّ.

وفي التّعبير عن الله تعالى في مقام النّداء بلفظ «من» إشارة إلى إطلاق المبهمات عليه تعالى نحو (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ)(١) ونحو : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٢) فمنع صاحب المتوسّط إطلاقها عليه تعالى ممنوع ، ثمّ الإبهام يرتفع بالصّلة لاختصاصها بالله تعالى.

(٢) إنّ الشّرح : في اللّغة وإن كان بمعنى الكشف والتّوسيع ، فقوله : «شرح» أي كشف ووسّع إلّا أنّ المراد به هنا التّهيئة لقبول العلوم والمعارف.

(٣) الصّدور :

جمع صدر ، وهو وعاء القلب والقلب محلّ للرّوح فتوسيع الصّدر يقتضي تهيّؤ ما فيه من القلب الحالّ فيه الرّوح للعلوم. فالمتهيّئ للعلوم والقابل لها هو النّفس بمعنى الرّوح الحالّ في القلب الحالّ في الصّدر ففيه مجاز بمرتبتين من إطلاق المحلّ على الحالّ فيهما.

والمعنى :

يا من هيّأ أرواحنا القائمة بقلوبنا الّتي محلّها منّا الصّدور.

(٤) التّلخيص : بمعنى التّنقيح والتّذهيب «والبيان» مصدر بان بمعنى المنطق الفصيح ، والفصيح : هو المعرب عمّا في الضّمير.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١.

(٢) سورة النّحل : ١٧.

٨

في إيضاح المعاني (١) ونوّر قلوبنا (٢) بلوامع التّبيان (٣) من مطالع (٤) المثاني (٥) ، ونصلّي (٦) على نبيّك محمّد المؤيّد (٧)

______________________________________________________

(١) متعلّق بقوله : «البيان» و «في» بمعنى اللّام. والمعنى حينئذ يا من علّمتنا كيفية تلخيص البيان لإيضاح المعاني ، ثمّ المعاني جمع المعنى وهو ما يقصد باللّفظ. ولا يخفى ما في ذكر البيان والمعاني من براعة الاستهلال حيث يكون ذكرهما إشارة إلى خصوص علميّ المعاني والبيان.

(٢) قدّم شرح الصّدور على تنوير القلوب ، لأنّ الصّدر وعاء للقلب وشرح الوعاء مقدّم على دخول النّور في القلب الحالّ في الصّدر.

(٣) اللّوامع : جمع لامعة ، وهي الذّات المضيئة. والتّبيان مصدر بيّن على الشّذوذ إذ مقتضى القياس هو فتح التّاء ولم يجئ بالكسر إلّا تبيان وتلقاء. وإضافة اللّوامع إلى التّبيان إمّا من قبيل إضافة المشبّه به إلى المشبّه فالمعنى نوّر قلوبنا بالتّبيان الّذي هو كالأنجم اللّوامع. أو من إضافة الموصوف إلى الصّفة ، فالمعنى نوّر قلوبنا باللّوامع المبيّنة فيكون التّبيان مصدرا بمعنى اسم المفعول.

ثمّ الفرق بين البيان والتّبيان إنّ البيان هو الإظهار بغير حجة ، والتّبيان هو الإظهار بالحجّة والكشف فهو أبلغ من البيان لأنّ كثرة المباني تدلّ على زيادة المعاني.

(٤) جمع مطلع وهو اسم لمحلّ طلوع الكوكب والمراد به هنا ألفاظ القرآن شبّهت بمحلّ طلوع الكواكب بجامع أن كلّا منها محلّا لطلوع ما يهتدى به.

(٥) جمع المثنى بمعنى التّكرار والمراد به هنا جميع القرآن لتكرار ما فيه من القصص والأحكام. فإضافة المطالع إلى المثاني من إضافة الجزء إلى الكلّ عند من يقول بأنّ القرآن عبارة عن اللّفظ والمعنى جميعا.

(٦) من عادة المؤلّفين أنّهم يذكرون الصّلاة على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الحمد للمعبود الخالق المنعم وقبل الشّروع في المقصود لكونهم أشرف النّاس عند الله تعالى فيتّخذونهم واسطة بينهم وبين الله عزوجل.

(٧) صفة ل «محمّد» و «محمد» بدل أو عطف بيان من «نبيّك» ولا يجوز أن يكون وصفا له ، لأنّه علم والعلم يوصف ولا يوصف به.

٩

دلائل إعجازه (١) بأسرار البلاغة وعلى آله وأصحابه المحرزين (٢) قصبات السّبق في مضمار الفصاحة والبراعة.

(وبعد) فيقول الفقير (٣) إلى الله الغنيّ (٤)

______________________________________________________

(١) دلائل جمع دليل كوصائد جمع وصيد ، والدّليل ما يعرف به الشّيء فدلائل إعجازه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يعرف به عجز المعارضين عن إتيان مثله ، فالمراد من إعجاز النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو معجزاته وأعظمها القرآن الباقي على صفحات الدّهر ، فالقرآن هو المعجزة الخالدة لما فيه من أسرار البلاغة ولطائفها ، ومعنى تأييد القرآن بأسرار البلاغة أن البلغاء لما نظروا بدقّة النّظر إلى القرآن ووجدوا فيه أسرار البلاغة الّتي لم توجد في كلامهم ، فاضطرّوا إلى الاعتراف بأنّه كلام الله وهو خارج عن طوق البشر ، وهذا معنى كون القرآن معجزة خالدة.

(٢) «المحرزين» جمع المحرز من الإحراز بمعنى الحوز صفة للآل والأصحاب فالمعنى على «آله وأصحابه» الحائزين «قصبات السّبق» ، والقصبات جمع قصبة وهي سهم صغير تغرسه الفرسان في آخر الميدان ليأخذه من سبق إليه أوّلا.

وإضافة القصبات إلى السّبق من إضافة الدّالّ إلى المدلول فالمعنى القصبات الدّالّة على السّبق «في مضمار» أي ميدان «الفصاحة والبراعة». وإحراز الآل والأصحاب قصبات السّبق في مضمار الفصاحة والبراعة كناية عن سبقهم وتفوّقهم على غيرهم في ميدان الفصاحة. ففي الكلام استعارة تمثيليّة حيث شبّهت هيئة الآل والأصحاب في حوزهم أعلى المراتب الفصاحة والبراعة عند المحاورة بهيئة الفرسان في إحرازهم قصب السّبق في ميدان الخيل عند المسابقة وتركنا ذكر أقسام الاستعارة والممكن فرض بعضها في المقام تجنّبا عن التّطويل.

(٣) «فقير» على وزن فعيل بمعنى المفتقر فهو مما لا يستوي فيه المذكّر والمؤنّث لأنّ استواءهما في فعيل بمعنى مفعول ، كقتيل مثلا.

(٤) بالجر صفة لله ، وبالرّفع صفة للفقير ، والمعنى المفتقر إلى الله الغنيّ عمّا سواه تعالى والأوّل أولى لوجهين :

الأوّل : لأنّه المتبادر.

الثّاني : لعدم الفصل بين الموصوف والصّفة حينئذ.

١٠

مسعود (١) بن عمر المدعوّ بسعد (٢) التّفتازاني (٣) هداه (٤) الله سواء الطّريق (٥) وأذاقه حلاوة التّحقيق (٦)

______________________________________________________

(١) بدل أو عطف بيان من العبد المفتقر ، كما في بعض النّسخ.

(٢) «المدعوّ بسعد» أي المسمّى بسعد ، وكان أصله سعد الدّين ، حذف المضاف إليه للاختصار. وكما أنّ التّسمية تعدّى بالباء كما تعدّى بنفسها ، كذلك الدّعاء الّذي بمعناها يتعدى تارة بالباء كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)(١) أي سمّوه بها. وأخرى بنفسها كما في قوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٢) أي أيّ اسم تسمّوا فله الأسماء الحسنى.

(٣) نسبة إلى التّفتازان قرية من توابع خراسان وكان شافعيّ المذهب كما قال السّيوطي في تاريخ العلماء.

(٤) من الهداية ، قيل هي الدّلالة الموصلة ، وقيل هي إراءة الطّريق الموصل إلى المطلوب ، والأوّل يستلزم الوصول إلى المطلوب دون الثّاني.

والحقّ إنّ لفظ الهداية مشترك بين المعنيين بالاشتراك المعنوي ومعناه مطلق الدّلالة ؛ ثمّ تعدّى الهداية بنفسها إلى المفعول الثّاني قرينة معينة للدلالة الموصلة ، وتعدّيها بإلى أو باللّام قرينة معينة لإراءة الطّريق ، ولما اختار المصنّف «هداه الله سواء الطّريق» على إلى سواء الطّريق أو لسواء الطّريق ، كي يكون قرينة على إرادة الدّلالة الموصلة. فتدبّر.

(٥) هو الطّريق المستوي من باب ذكر اللّازم وإرادة الملزوم أو من إضافة الصّفة إلى الموصوف بأن يكون سواء بمعنى سويّ أي مستقيم فكان الأصل الطّريق السّويّ أي المستقيم.

(٦) في التّعبير بالإذاقة إشارة إلى أنّ التّحقيق أمر صعب المرام لا ينال جميعه إنّما يصل الإنسان إلى طرف منه ، كما يصل الذّائق إلى طرف ممّا يذوقه ، لأنّ التّحقيق عبارة عن ذكر الشّيء على الوجه الحقّ ، أو إثبات المسألة بدليل ، وحينئذ تكون إضافة الحلاوة إليه تخييلا للمكنية ، كما في أظفار المنيّة وذكر الإذاقة ترشيح لها.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٨٠.

(٢) سورة الإسراء : ١١٠.

١١

وقد شرحت (١) فيما مضى تلخيص المفتاح وأغنيته (٢) بالإصباح عن المصباح (٣) وأودعته (٤) غرائب نكت (٥) سمحت (٦) بها الأنظار ووشحته (٧) بلطائف فقر (٨)

______________________________________________________

(١) شرحت فعل ماضي استفيد منه أنه شرح تلخيص المفتاح في الماضي فلا وجه لقوله : «فيما مضى» إلّا أن يقال : إنّ قوله : «فيما مضى» تأكيد لقوله : «شرحت» لدفع توهّم التّجوّز ، لأنّ الماضي قد يستعمل للمستقبل مجازا وإشعارا للبعد ويؤيّد هذا التّوجيه التّعبير ب «ثمّ» في قوله : «ثمّ رأيت».

(٢) أغنيته من باب الإفعال بمعنى صيّرته ، فالمعنى صيّرت «تلخيص المفتاح» (١) غنيّا.

(٣) أي بالمطوّل عن سائر الشّروح. و «الإصباح» وإن كان بمعنى الدّخول في وقت الصّباح إلّا أنّ المراد به هنا لازمه وهو الصّبح ثمّ استعير لشرح الشّارح أعني : المطوّل. و «المصباح» بمعنى السّراج استعير للبواقي من الشّروح.

واختار لفظ الإصباح عن لفظ الصّبح رعاية لموازنة لفظ المصباح. فالمعنى صيّرت المتن غنيّا بالمطوّل الشّبيه بالإصباح عن غيره من الشّروح الشّبيهة بالمصباح.

(٤) أي وضعت في الشّرح.

(٥) «غرائب» جمع غربة بمعنى اللّطيفة و «نكت» جمع نكتة المراد بها هنا المعاني النّفيسة ، وشبّه شرحه بأمين تودع عنده النّفائس على طريق الاستعارة المكنيّة.

(٦) «سمحت» من السّماحة بمعنى الجود «الأنظار» جمع النّظر بمعنى الفكر فالمعنى وضعت في شرحي على تلخيص المفتاح المعاني اللّطيفة الّتي جادت بها أفكاري فشبّه أنظاره بقوم متّصفين بالجود على طريق الاستعارة المكنية وإسناد السّماحة إليها تخييل.

(٧) أي زيّنت الشّرح.

(٨) «لطائف» جمع لطيفة «فقر» جمع فقرة وهي حلي يصاغ على شكل فقرة الظّهر ، ثمّ المراد «بلطائف فقر» هنا لطائف الكلام ونكته فهذه السّجعة تضمّنت مدح الشّرح باشتماله على العبارات الرّائقة ، والجمل الفائقة ، كما أن السّجعة الأولى أي «أودعته ...» تضمّنت مدحه باشتماله على المعاني اللّطيفة.

__________________

(١) للعلامة محمد بن عبد الرّحمن القزويني الخطيب بجامع دمشق.

١٢

سبكتها يد الأفكار (١) ثمّ رأيت (٢) الجمع الكثير من الفضلاء (٣) ، والجمّ الغفير من الأذكياء (٤) يسألوني (٥) صرف الهمّة نحو اختصاره والاقتصار (٦) على بيان معانيه (٧) وكشف أستاره (٨)

______________________________________________________

(١) أي صاغتها وصنعتها «يد الأفكار» وفي هذا الكلام استعارة بالكناية وتخييل وترشيح إذ في تشبيه الفكر في النّفس بالصّائغ استعارة بالكناية ، وإثبات اليد استعارة تخييليّة وذكر السّبك ترشيح ، لأنّ اليد من لوازم المشبّه به والسّبك من ملائماته.

(٢) عطف على قوله : «شرحت» وأتى بكلمة «ثمّ» ، الّتي للتّرتيب مع التّراخي بين الفعلين ، كي تدل على ما بين الشّرح الأوّل والثّاني من تفاوت الرّتب ، لأنّ الأوّل في الغاية القصوى ، وغيره لا يصل إلى مرتبته. و «رأيت» من الرّؤية إمّا علميّة أو بصريّة وجملة «يسألوني» الآتية في محلّ النّصب مفعول ثان على الأوّل وحاليّة على الثّاني ، والمعنى حينئذ ثمّ رأيت الجمع الكثير من الفضلاء والجمع العظيم من الأذكياء حال كونهم سائلين منّي.

(٣) «الفضلاء» جمع الفضيل مثل الكرماء جمع الكريم ، و «الجمّ» من الجموم بمعنى الكثير. و «الغفير» من الغفر بمعنى السّاتر ، والمعنى : والجمع الكثير السّاتر لكثرته وجه الأرض حال كونهم من الأذكياء.

(٤) جمع الذّكي بمعنى كامل العقل أو سريع الفهم والأذكياء أعمّ من الفضلاء بناء على أنّ المراد بالفضلاء من اتّصف بكثرة العلم.

(٥) «يسألوني» من السّؤال بمعنى الطّلب المتعدّي بنفسه إلى مفعولين والمعنى طلبوا منّي صرف الإرادة جانب اختصار الشّرح. وضمير «اختصاره» يرجع إلى الشّرح. والمراد به هو المطوّل.

(٦) عطف على «اختصاره» ، وبيان لما هو المراد من الاختصار المسؤول بأنّ المراد به ليس معناه الحقيقي أي قليل اللّفظ وكثير المعنى بل المراد به الاقتصار أي قليل اللّفظ والمعنى ، فمعنى الاختصار هو بيان معاني المتن ببعض الشّرح على وجه يفهم المراد منه وحذف ما زاد.

(٧) أي الشّرح فالضّمير راجع إلى الشّرح المذكور ضمنا.

(٨) أي توضيح معانيه الخفيّة بإزالة الأستار عنها.

١٣

لما شاهدوا (١) من أنّ المحصّلين قد تقاصرت هممهم عن استطلاع طوالع أنواره (٢) وتقاعدت (٣) عزائمهم عن استكشاف خبيّات أسراره وأنّ المنتحلين (٤) قد قلّبوا (٥) أحداق الأخذ والانتهاب ومدّوا أعناق (٦) المسخ على ذلك الكتاب

______________________________________________________

(١) «لما» بالتّخفيف متعلّق بقوله : «يسألوني» فهو حينئذ تعليل ل «يسألوني» وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف ، وبالتّشديد ظرف ل «يسألوني» والمعنى : يسألوني لأجل ما علموه علما كالمشاهدة أو لمّا عاينوا.

(٢) أي أنّهم لمّا شاهدوا من أنّ المشتغلين بتحصيل الشّرح (المطوّل) قصرت هممهم قصورا تامّا عن الاطّلاع على معانيه المشبّهة بالأنوار الطّالعة فإضافة الطّوالع إلى الأنوار من إضافة الصّفة إلى الموصوف والضّمير المتّصل في «أنواره» يرجع إلى الشّرح.

(٣) عطف على قوله : «تقاصرت» والمراد بالتّقاعد الكسل. والعزائم جمع العزيمة بمعنى القصد والإرادة. والخبيّات جمع الخبيّة بمعنى الخفيّة. وإضافة الخبيّات إلى الأسرار من إضافة الصّفة إلى الموصوف والضّمير المجرور المتصل في «أسراره» يرجع إلى الشّرح ، والمعنى تكاسلت إرادتهم وقصدهم عن إظهار أسرار الشّرح المخبّأة أي المخفيّة.

(٤) جمع المنتحل عطف على «المحصّلين» بمعنى أخذ كلام الغير ونسبته إلى نفسه تصريحا أو تلويحا. والمعنى أنّ الآخذين بكلام الغير مظهرين أنّه لهم.

(٥) «قلّبوا» بمعنى التّقليب ، والأحداق جمع الحدقة بمعنى سواد العين ، وتقليبهما كناية عن شدّة العناية ، و «الانتهاب» بمعنى الأخذ قهرا وظلما ، فيكون عطفه على الأخذ من قبيل عطف الخاصّ على العام ، وإضافة الأحداق لأدنى ملابسة.

والمعنى أنّهم قلّبوا عين ما أخذوا وانتهبوا من كلامي في المطوّل إلى كلامهم ، يعني مزّجوه بكلامهم ناسبين إلى أنفسهم.

(٦) الأعناق جمع العنق كناية عن كمال الميل و «المسخ» تبديل صورة بصورة أدنى من الصّورة الأولى وإضافة الأعناق إلى المسخ لأدنى ملابسة و «على» بمعنى إلى متعلّقة بقوله : «مدّوا». والمعنى أنّهم لو أخذوا من هذا الكتاب معان وعبّروا عنها بعباراتهم الّتي هي أدنى من عبارات الكتاب لزم مسخ الكتاب من الصّورة الأولى إلى الصّورة الأخرى الأدنى من الأولى.

١٤

وكنت أضرب (١) عن هذا الخطب صفحا وأطوي (٢) دون مرامهم كشحا علما (٣) منّي بأنّ مستحسن الطّبائع بأسرها ، ومقبول الأسماع عن آخرها ، أمر لا تسعه مقدرة البشر ،

______________________________________________________

وقيل إنّ الإتيان بكلمة «على» دون إلى إنّما هو للطيفة وهي أنّ : «على» تستعمل فعلا ماضيا بمعنى ارتفع ففيه إشارة إلى أنّهم حين مدّوا الأعناق ارتفع عنهم فلم يصلوا إليه. فحينئذ قوله : «ومدّوا أعناق المسخ» جملة مستقلّة يصحّ فيها الوقف ثمّ يبتدأ بقوله : «على ذلك الكتاب» أي ارتفع ذلك الكتاب عن مدّ أعناقهم لأجل مسخهم إيّاه فهو تحصين لكتابه حقيقة.

(١) الضّرب بمعنى الإمساك أو الإعراض و «الخطب» بمعنى الأمر العظيم «صفحا» بمعنى إعراضا أو إمساكا وقوله : «وكنت» عطف على قوله : «رأيت» أو حال عن فاعله ، والمعنى حينئذ : رأيت الكثير ... حال كوني أعرض عن هذا الأمر العظيم إعراضا أو حال كوني أمسك نفسي عن هذا الأمر العظيم إمساكا ، فالفعل على الأوّل متعدّ حذف مفعوله ، وعلى الثّاني لازم و «صفحا» مفعول مطلق ، وقيل بأنّه مفعول لأجله على التّقديرين.

(٢) «أطوي» من الطّيّ ضدّ النّشر ، «دون» بمعنى قبل أو قدّام ، والمرام بمعنى المطلوب ، والكشح في اللّغة وإن كان بمعنى الجنب إلّا أنّ المراد به هنا هو الامتناع عن الوصول إلى المطلوب و «كشحا» مفعول لأجله لقوله : «أطوي» وقوله : «وأطوي» عطف على قوله : «أضرب» في جملة «وكنت أضرب» والمعنى حينئذ : وحال كوني أتجنّب عن حصول مرامهم وهو الاختصار قبل وصولهم إلى المطلوب لأجل الامتناع عن الوصول إلى المطلوب.

(٣) «علما» علّة لكلّ من «أضرب» و «أطوي» على التّنازع والمراد ب «مستحسن الطّبائع بأسرها» هو الإتيان بالأمر الّذي يستحسنه ذوو الطّبائع بجميعها. والمعنى : أضرب عن هذا الخطب صفحا وأطوي دون مرامهم كشحا ، علما منّي بأنّ الإتيان بالأمر الّذي يستحسنه ذوو الطّبائع بجميعها وتقبله الأسماع ، «عن آخرها» أي إلى آخرها «أمر لا تسعه مقدرة البشر» أي قدرتهم ، لأن المقدرة بضم الدّال وفتحها مصدر ميمي بمعنى القدرة.

١٥

وإنّما هو شأن خالق القوى والقدر (١) ، وأنّ (٢) هذا الفنّ قد نضب اليوم ماؤه فصار جدالا بلا أثر ، وذهب رواؤه فعاد خلافا بلا ثمر (٣) حتّى طارت (٤) بقية آثار السّلف أدراج الرّياح وسالت (٥) بأعناق مطايا تلك الأحاديث البطاح

______________________________________________________

(١) «القوى» جمع القوّة و «القدر» جمع القدرة ، وعطف «القدر» على «القوى» من قبيل عطف الخاصّ على العام ، لصدق القوى على قوّة السّمع والبصر وغيرهما من القوى الخمسة الظّاهرة والباطنة وحاصل المعنى ـ من قوله : «علما منّي» إلى هنا على ما في الدّسوقي ـ لعلمي بأنّ الاختصار الّذي طلبوه إذا وقع الإجابة منّي لا يسلم ، ولا يخلو من طعن النّاس فيه ، ولا يخلص من اعتراضهم عليه ، لأنّ الإتيان بالأمر الّذي تستحسنه كلّ الطّباع وتقبله كلّ الأسماع أمر لا تسعه قدرتي بل هو شأن خالق كلّ قوّة وقدرة ، ولذا أعرضت عن إيفاء مطلوبكم لا لبخلي.

(٢) عطف على قوله : «بأنّ مستحسن» و «نضب» بمعنى غار وغاب وغور ماء هذا الفنّ كناية عن ذهاب هذا العلم. والمعنى : ولعلمي بأنّ هذا الفنّ قد ذهب ، فصار هذا الفنّ موردا للجدال ، فلا أثر ولا فائدة في تحمّل التّعب بالتّأليف والاختصار.

(٣) «ذهب رواؤه» أي ذهب منظره الحسن «فعاد خلافا بلا أثر» أي فصار هذا الفنّ محلّ خلاف فلا فائدة فيه.

(٤) قوله : «طارت» من الطّيران بمعنى الذّهاب و «أدراج» جمع درج مثل سبب وأسباب ، بمعنى الطّريق و «أدراج الرّياح» كناية عن اضمحلال بقية آثار السّلف والمعنى حتّى ذهبت بقية آثار السّلف أي فوائدهم في طريق الرّياح ويلزم من ذلك عدم وجودها بالمرّة لأنّ حال الرّيح أن تزيل ما مرّت به في طريقها.

(٥) «سالت» بمعنى سارت وجرت وقوله : «البطاح» فاعل له. و «الأعناق» جمع العنق و «المطايا» جمع المطيّة وهي الإبل ونحوه إلّا أنّ المراد منها هنا علماء هذا الفنّ ، والمراد من «الأحاديث» أسرار هذا الفنّ ثمّ «البطاح» جمع الأبطح على غير قياس والقياس أباطيح. والأبطح هو المحل المتّسع الّذي فيه دقاق الحصى والمراد منه في المقام محلّ العلماء كالمدارس مثلا ، ثمّ إسناد السّيل إلى الأبطح مجازيّ ، لأنّ الفاعل الحقيقي هو العلماء ، عدل إلى المجاز لإرادة أنّ العلماء ذهبوا مع المحلّ ، ثمّ المصنف شبّه العلماء بالمطايا في تحمّل الأثقال.

١٦

وأمّا الأخذ (١) والانتهاب فأمر يرتاح له اللّبيب ، فللأرض من كأس الكرام نصيب (٢) ، وكيف ينهر عن الأنهار السّائلون (٣) ولمثل (٤) هذا فليعمل العاملون ، ثمّ ما زادتهم (٥) مدافعتي (٦)

______________________________________________________

والمعنى وسارت وذهبت المدارس متلبّسة بأعناق العلماء الشّبيهين بالمطايا الحاملين لأسرار هذا الفنّ والغرض من هذا الكلام هو الإخبار بأنّ أسرار هذا الفنّ وعلماءه قد ذهبوا بل ذهبت مواضعهم فاضمحلّ هذا الفنّ.

(١) يمكن أن يكون جوابا لسؤال مقدّر والتّقدير أنّ ما ذكر من عدم الفائدة على التّأليف في هذا الفنّ لأجل كونه محلّ جدال وخلاف ليس صحيحا على الإطلاق ، بل يكفي في تأليف هذا الفنّ واختصاره أخذ الغير من كلام المؤلّف ، فأجاب عن هذا السّؤال بقوله : «وأمّا الأخذ ...» والمعنى يرتاح اللّبيب أي كامل العقل إذا أخذ الغير من كلامه ، لما فيه من الرّفعة والثّواب ولا يرضى بالأخذ من كلام الغير ، فالأخذ وإن كان داعيا إلى التّأليف والاختصار إلّا أنّ الدّاعي الكامل هو ترتّب الفائدة.

(٢) هذا مصراع من البيتين لبعض الشّعراء. والبيتان هما :

شربنا شرابا طيّبا عند طيّب

كذاك شراب الطّيّبين يطيب

شربنا وأهرقنا على الأرض جرعة

وللأرض من كأس الكرام نصيب

فالشّارح قد شبّه نفسه بالكرام والمطوّل بالكأس والمنتحلين بالأرض فقوله : (وللأرض) خبر مقدّم ونصيب مبتدأ مؤخّر.

(٣) أي لا يزجر ولا يطرد ولا يمنع «عن الأنهار السّائلون» أي الطّالبون ، لأنّ كيف استفهام إنكاري بمعنى النّفي وقد شبّه المطوّل بالأنهار ، والمنتحلين بالسّائلين.

(٤) متعلّق بقوله : «فليعمل» ثمّ قوله : «فليعمل» اقتباس من القرآن الحكيم والمشار إليه في قوله : «ولمثل هذا» هو النّيل إلى الثّواب. والمعنى ولمثل النّيل إلى الثّواب يعمل العاملون ، لا للحظوظ النّفسانية وفيه إشارة إلى أنّ اختصار المطوّل إنّما هو للثّواب الأخروي.

(٥) أي هؤلاء الجمع الكثير.

(٦) المقصود من «مدافعتي» هو الدّفاع عن إجابة الجمع الكثير والشّغف بمعنى العشق والحبّ الشّديد ، والغرام بمعنى شدّة الحرص ، والظّمأ بمعنى العطش والهواجر جمع الهاجرة وهي نصف النّهار عند اشتداد الحرّ والأوام بمعنى شدّة العطش وحرارته.

١٧

إلّا شغفا وغراما وظمأ في هواجر الطّلب وأواما فانتصبت (١) لشرح الكتاب على وفق مقترحهم ثانيا ، ولعنان العناية نحو اختصار الأوّل ثانيا (٢). مع جمود القريحة (٣) بصرّ البليّات ، وخمود الفطنة بصرصر النّكبات وترامى البلدان (٤) بي والأقطار

______________________________________________________

والمعنى ما زادتهم إجابتي عن طلبهم إلّا الحبّ والحرص والعطش فكما تكون شدّة الحرّ عند الهواجر ، كذلك تكون الشّدة في الطّلب عند مدافعتي عن طلبهم.

(١) أي قمت وشرعت لشرح التّلخيص على وفق مطلوبهم «ثانيا» أي انتصابا ثانيا. أو شرحا ثانيا.

وعلى التّقديرين يكون قوله : «ثانيا» صفة للموصوف المقدّر ويحتمل أن يكون ظرفا فالمعنى حينئذ. انتصبت لشرح ذلك الكتاب في زمن ثان.

(٢) قوله : «ولعنان العناية» عطف على قوله : «لشرح» واللّام بمعنى الباء والعنان هو زمام الدّابة ولجامها «والعناية» بمعنى الهمّة والإرادة و «نحو» بمعنى الجهة والجانب متعلّق ب «العناية» و «ثانيا» الثّاني أيضا متعلّق بالعناية كما أنّ «ثانيا» الأوّل متعلّق بالانتصاب أو الشّرح والحاصل أنّ «ثانيا» الثّاني ثاني الإرادة «وثانيا» الأوّل ثاني الشّروع في الشّرح مباشرة والمعنى شرعت لشرح التّلخيص على وفق مطلوبهم ثانيا واعتصمت بعنان الهمّة والإرادة ثانيا ، أي قمت وشرعت في الشّرح ثانيا مباشرة بعد ما أردته ثانيا. لأنّ إرادة الشّرح مقدم على الشّروع فيه مباشرة.

(٣) المراد بالقريحة هنا هي الطّبيعة والعقل وجمودها عبارة عن عدم انبساطها في الدّرك. والصّر بالكسر عبارة عن البرد الشّديد الّذي يضرّ بالنّباتات والحرث. و «البليّات» جمع البليّة بمعنى مطلق الآفة «وخمود الفطنة» كناية عن قلّة الحذاقة والفهم و «صرصر» بمعنى ريح شديدة الصّوت و «النّكبات» بمعنى المصائب وحوادث الدّهر ، والمعنى شرعت لشرح التّلخيص ثانيا مع عدم انبساط العقل في الدّرك بسبب البليّات الّتي هي كالصّرصر ، ومع قلّة الفهم بسبب المصائب وحوادث الدّهر الشّبيهة بالرّيح الشّديدة العاصفة.

(٤) «البلدان» جمع البلد ، والمعنى مع رمي كلّ بلد بي إلى آخر والآخر إلى الآخر وهو كناية عن عدم استقراره في محلّ واحد وتلبّسه بالأسفار ، والأقطار جمع القطر بمعنى النّاحية والجانب ، والمقصود به هنا مجموعة بلاد كثيرة.

١٨

ونبوّ الأوطان (١) عنّي والأوطار حتّى طفقت أجوب كلّ أغبر قاتم الأرجاء وأحرّر كلّ سطر منه في شطر من الغبراء (٢)

يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال

عذيب يوما ويوما بالخيلصاء (٣)

ولمّا وفّقت بعون الله تعالى ، للإتمام (٤) وقوّضت (٥) عنه خيام الاختتام بعد ما كشفت عن وجوه خرائده (٦) اللّثام ، ووضعت كنوز فرائده على طرف الثّمام (٧) سعد الزّمان وساعد الإقبال

______________________________________________________

(١) «الأوطان» جمع الوطن و «الأوطار» جمع الوطر بمعنى الحاجة «طفقت» بمعنى صرت «أجوب» بمعنى أقطع «أغبر» بمعنى مكان ذي غبرة «قاتم» بمعنى مظلم «الأرجاء» جمع الرّجاء بمعنى النّاحية. والمعنى مع بعد الأوطان والحاجات بسبب سفري المانع من الوصول إليهما. حتّى صرت أقطع كلّ مكان ذي غبرة وغبار مظلم النّواحي بتلك الغبرة.

(٢) أي أقوم واكتب كلّ سطر من المختصر في قطعة من الأرض ذات الغبار.

(٣) حزوى والعقيق والعذيب والخليصاء مواضع بالحجاز ، ويريد الشّارح من ذكر هذا الشّعر تشبيه حاله بحال هذا الشّاعر في التّعب وأنّه ألّف هذا الشّرح في حال متعبة.

(٤) أي إتمام المختصر. وفيه إشارة إلى أنّ الدّيباجة كانت متأخّرة عن تأليف المختصر.

(٥) «قوّضت» بالقاف ثمّ الواو المشدّدة من التّقويض وهو نقض البناء من غير هدم ، والمراد به هنا الإزالة مجازا. الخيام جمع الخيمة و «الاختتام» ضد الافتتاح ومعنى نقض الخيام بالاختتام إزالتها بعد اختتام الكتاب حيث أنّ الكتاب قبل الإتمام لاحتجابه عن نظر الأنام كان كمن ضرب عليه الخيمة ، وإظهاره على النّاس بعد الإتمام كان كنقض الخيمة وإزالتها ورفعها.

(٦) «خرائد» جمع خريدة وهي الحسناء من النّساء ، والمراد بها هنا المطالب الدّقيقة «اللّثام» ككتاب ما يجعل على الفم من النّقاب ، و «فرائد» جمع فريدة وهي الدّرّة الكبيرة الثمّينة أي ذات الثمّن الكثير الّتي تحفظ في ظرف ولا تخلط بغيرها من اللآلئ لشرفها ، والمراد بها هنا المسائل الدّقيقة ، فشبّه المسائل الدّقيقة بالفرائد واستعار الفرائد لها.

(٧) متعلّق بقوله : «وضعت» والمراد بطرفه حدّه الأعلى و «الثّمام» بضم الثّاء وفتحها نبت ضعيف يتناول باليد لقربه من الأرض فيكون كناية عن أداء المعاني بألفاظ يفهم منها المعنى بلا مشقّة.

١٩

ودنا المنى ، وأجابت الآمال ، وتبسّم في وجه رجائي المطالب ، بأن توجّهت تلقاء مدين المآرب حضرة من أنام الأنام في ظل الأمان ، وأفاض عليهم سجال العدل والإحسان ، ورد بسياسته القرار إلى الأجفان ، وسدّ بهيبته دون يأجوج الفتنة طرق العدوان ، وأعاد رميم الفضائل والكمالات منشورا ، ووقع بأقلام الخطيّات على صحائف لنصرة الإسلام منشورا. وهو السّلطان الأعظم ، مالك رقاب الأمم ، ملاذ سلاطين العرب والعجم ، ملجأ صناديد ملوك العالم ، ظلّ الله على بريّته ، وخليفته في خليقته ، حافظ البلاد ، ناصر العباد ، ما حي ظلم الظّلم والعناد ، رافع منار الشّريعة النّبويّة ، ناصب رايات العلوم الدّينيّة ، خافض جناح الرّحمة لأهل الحقّ واليقين ، مادّ سرادق الأمن بالنّصر العزيز والفتح المبين كهف الأنام ملاذ الخلائق قاطبة ظلّ الإله جلال الحقّ والدّين ، أبو المظفّر السّلطان محمود جاني بك خان ، خلّد الله سرادق عظمته وجلاله ، وأدام رواء نعيم الآمال من سجال أفضاله ، فحاولت بهذا الكتاب التّشبّث بأذيال الإقبال والاستظلال بظلال الرّأفة والإفضال ، فجعلته خدمة لسّدته الّتي هي ملتثم شفاه الأقيال ، ومعول رجاء الآمال ، ومثوى العظمة والجلال ، لا زالت محطّ رجال الأفاضل ، وملاذ أرباب الفضائل ، وعون الإسلام وغوث الأنام بالنّبي وآله عليه وعليهم السلام.

فجاء (١) بحمد الله كما يروق (٢) النّواظر (٣) ، ويجلو صداء الأذهان (٤) ، ويرهف (٥) البصائر ويضيء ألباب أرباب البيان ، ومن الله التّوفيق والهداية ، وعليه التّوكّل في البداية والنّهاية ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

______________________________________________________

(١) عطف على قوله : «فانتصبت لشرح» فجاء هذا الشّرح ملتبّسا بحمد الله وعونه.

(٢) قوله : «يروق» بمعنى يعجب يقال : راقني الشّيء أي أعجبني.

(٣) قوله : «النّواظر» جمع النّاظرة بمعنى عين.

(٤) قوله «ويجلو صدأ الأذهان» أي يزيل وسخ الأذهان وغباوتها.

(٥) قوله : «يرهف البصائر» من الإرهاف بالفاء بمعنى التّحديد فإرهاف السّيف عبارة عن تحديده وترقيقه و «البصائر» جمع البصيرة وهي قوّة في القلب يحصل بها التّمييز التّام ، وهي في القلب بمنزلة البصر في الرّأس فمعنى «يرهف البصائر» أي يقوّيها. والألباب جمع اللّبّ بمعنى العقل ، فالمعنى ينوّر عقول أرباب البيان بإزالة ظلمة الجهل عنهما.

هذا تمام الكلام في شرح ديباجة الشّارح.

٢٠