دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

خصّ استعماله في الأشراف (١) وأولي الخطر (٢)

______________________________________________________

فإن قيل : إنّ آل مكبّر ولا بدّ لكلّ مكبّر من مصغّر ، فحيث إنّه لم يسمع أويل حتّى نلتزم بأنّ أصله كان أول ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ تصغيره أهيل.

فإنّه يقال : بأنّه قد سمع أويل أيضا حيث حكى الكسائي أنّه سمع أعرابيا فصيحا يقول آل وأويل وأهل وأهيل فالمتحصّل من الجميع أنّه لم يقم لنا دليل نطمئنّ به على كون آل في الأصل أهل ، ومجرّد قول اللّغويين لا يصلح أن يكون دليلا ما لم يوثّق بكونه مستندا إلى دليل صحيح.

(١) أي خصّ استعمال آل «في الأشراف» جمع الشّريف.

(٢) تفسير للأشراف لأنّ الخطر كما في المختار هو القدر والمنزلة والشّرف كذلك ، ثمّ الشّرافة يمكن أن يكون دينيّا أو دنيويّا ، كما يقال آل محمد وآل فرعون ، ثمّ بناء على كون آل أصله أهل قد طرأ عليه تخصيصان بحسب الاستعمال :

الأوّل : أنّه لا يضاف إلى غير العقلاء ، فلا يقال آل دمشق وآل الإسلام ، بل يقال : أهل دمشق وأهل الإسلام.

الثّاني : أنّه لا يضاف إلى كلّ عاقل ، بل يضاف إلى عاقل له شرف وخطر دينيّا كان أو دنيويّا على نحو منع الخلو ، ف لا يقال : آل الجزّار وآل الكنّاس بل يقال آل موسى وآل فرعون.

وقيل : إنّ السّبب في هذين التّخصيصين أنّهم لمّا ارتكبوا في آل التّغيير اللّفظي بإبدال الهاء همزة ألفا ارتكبوا التّخصيص الأوّل قصدا للملاءمة بين اللّفظ والمعنى في أن يطرأ التّغيير على كلّ منهما ثمّ لمّا رأوا أنّ الهاء لمّا كانت حرفا ثقيلا بكونها من أقصى الحلق قد تطرّقت إلى الكلمة بسبب قلبها إلى الألف الّذي هو حرف خفيف خفّة قويّة ارتكبوا التّخصيص الثّاني جبرا لهذا النّقص.

لا يقال : إنّ الآل كان مختصّا بأولي الشّرف والخطر فينافيه التّصغير على أهيل أو أويل لدلالة التّصغير على التّحقير.

فإنّه يقال : إنّ التّحقير باعتبار لا ينافي الشّرف باعتبار آخر فيصحّ أن يقال أهيل فرعون قصدا للتّحقير باعتبار كونهم محرومين من النّعم الأخرويّة مع كونهم من أولي الشّرف والمنزلة باعتبار سيطرتهم الدّنيويّة.

٤١

[الأطهار (١)] جمع طاهر كصاحب وأصحاب ، [وصحابته الأخيار (٢)] جمع خيّر بالتّشديد (٣)

______________________________________________________

(١) جمع طاهر صفة لآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لا يقال : إنّ ما ذكره الشّارح هنا من أنّ الأطهار جمع طاهر ينافي ما ذكره في شرح الكشّاف من أنّه جمع طهر ، وما نقل عن الجوهري من أنّ جمع فاعل على أفعال لم يثبت.

فإنّه يقال : إن المستفاد من القاموس وغيره أنّ مفرد الأطهار ثلاثة ، وهي طاهر وطهر وطهور فإذا لا منافاة بين ما ذكره الشّارح هنا ، وبين ما ذكر في شرح الكشّاف لتعدّد المفرد واقعا وعدم ما يفيد الحصر في كلامه هنا ، وفي شرح الكشّاف ، وأمّا ما ذكره الجوهري فلا يصغى إليه ، لأنّه قد ثبت جمع فاعل على أفعال كشاهد على أشهاد وصاحب على أصحاب ، والالتزام بأنّ أصحاب جمع صحب مخفّف صاحب كنمر وأنمار أو جمع صحب بالسّكون اسم جمع كنهر وأنهار تكلّف ولا ملزم لنا على الالتزام به.

(٢) الصّحابة في الأصل كان مصدرا بمعنى الصّحب ثمّ أطلق على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشاع استعماله فيهم حتّى صار بمنزلة العلم لهم فهو أخصّ من الأصحاب لإطلاقه على غير أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ولكون الصّحابة كالعلم بالغلبة صحّ النّسبة إليه كالصّحابي «الأخيار» فيه تلميح إلى قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(١) كما أنّ في الأطهار تلميح إلى قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢). فمن ذلك وصف الآل بالأطهار ، والصّحابة بالأخيار ، ثمّ إنّ النّسبة بين الصّحابة والآل عموم من وجه لصدقهما معا على أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وصدق الأوّل دون الثّاني على سلمان وغيره من المؤمنين الّذين أدركوا صحبة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدق الثّاني دون الأوّل على سائر الأئمة المعصومين عليهم‌السلام.

(٣) لعلّ أراد الشّارح أنّ الأخيار صفة مشبّهة مفردها هنا خيّر بالتّشديد لا بالتّخفيف. وقد اعترض عليه في المقام بأنّ خيّرا إذا كان صفة مشبّهة يجمع على أخيار سواء كان مشدّدا أو مخفّفا ، ومن ذلك ذكر صاحب الكشّاف في قوله تعالى : (لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ)(٣)

__________________

(١) سورة آل عمران : ١١٠.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٣) سورة ص : ٤٧.

٤٢

[أمّا بعد (١)]

______________________________________________________

الأخيار جمع خير مخفف خيّر ، فإذا لا وجه لقوله : «بالتّشديد».

وأجيب عن ذلك بوجوه :

الأوّل : أنّ مراده بالتّشديد مطلق التّشديد الشّامل للتّشديد في الحال والتّشديد في الأصل فلا يكون مخرجا للخير بالتّخفيف فعلا إن كان مشدّدا بالأصل. إلّا أنّ هذا المعنى خلاف الظّاهر فالمتبادر من قوله : «جمع خير بالتّشديد» ما يكون مشدّدا فعلا.

الثّاني : أنّ قوله «بالتّشديد» احتراز عن خير الّذي هو أفعل التّفضيل أصله أخير حذفت همزته تخفيفا ، لأنّه يثنّى ولا يجمع لا عن خير الّذي هو صفة مشبّهة مخفف خيّر.

وفيه أنّه قد قرّر في محله أنّ أفعل التّفضيل إنّما يمتنع أن يثنّى أو يجمع إذا كان مجرّدا من الألف واللّام والإضافة أو كان مضافا إلى نكرة ، وأما مع الاقتران بأل كما في المقام فالمطابقة واجبة ، فإذا كان موصوفه مثنّى أو مجموعا فلا بدّ أن يثنّى أو يجمع كما أنّه إذا كان مضافا إلى معرفة يجوز المطابقة وعدمها فعليه لا وجه للاحتراز عن الخير الّذي هو أفعل التّفضيل ، لصحّة أن يجمع على الأخيار أيضا.

الثّالث : أنّ قوله بالتّشديد احتراز عن خير مخفّف خيّر ولا ضير فيه ، لأنّ خيرا بالتّخفيف شائع استعماله فيمن هو كامل من ناحية الكمال والصّفات الظّاهريّة البدنيّة ، وخيّر بالتّشديد شائع استعماله فيمن هو كامل من ناحية التّدين وتزيّنه بالصّفات الكماليّة الأخلاقيّة ، ولا ريب أنّ المناسب في المقام توصيف الصّحابة بما يدلّ عليه خيّر بالتّشديد.

(١) كلمة أمّا هنا لفصل ما بعدها عمّا قبلها مع التّأكيد ، والوجه في إفادتها التّأكيد أنّك إذا أردت الإخبار بقيام زيد تقول : زيد قائم ، وإذا أردت تأكيد ذلك ، وأنّه قائم لا محالة تقول : أمّا زيد فقائم ومعنى ذلك مهما يكن من شيء في الدّنيا فزيد قائم ، فقد علّقت قيام زيد على وجود شيء في الدّنيا ، وذلك محقّق لأنّ الدّنيا ما دامت باقية يقع فيها شيء فما علّق عليه قيام زيد محقّق ، وبمقتضى المعلّق على المحقّق محقّق يكون قيام زيد محقّقا.

٤٣

هو (١) من الظّروف الزّمانيّة المبنيّة (٢) المنقطعة عن الإضافة (٣) أي بعد الحمد والصّلاة (٤) والعامل فيه (٥) إمّا لنيابتها عن الفعل (٦) والأصل (٧) مهما (٨) يكن من شيء بعد الحمد والصّلاة

______________________________________________________

(١) أي بعد.

(٢) أي على الضّمّ لشبهها بأحرف الجواب كنعم في الاستغناء بها عمّا بعدها لا للافتقار لأنّه إنّما يوجب البناء إذا كان إلى جملة وبني على الحركة للتّخلّص من التقاء السّاكنين ، وكانت ضمّة جبرا لما فاته من الإعراب بإعطائه أقوى الحركات.

(٣) أي لفظا لا معنى بدليل قوله «المبنيّة» والمنقطعة عن الإضافة لفظا ومعنى معربة وليست بمبنيّة كما قرّر في محلّه.

(٤) أي كان في الأصل : أما بعد الحمد والصّلاة ، فكان الظّرف مضافا إلى الحمد والصّلاة.

(٥) أي العامّل في محلّ الظّرف أعني بعد حال البناء كما هنا وفي لفظه حال الإعراب نصبا على الظّرفيّة كقولنا : أما بعد الحمد والصّلاة.

(٦) أي العامّل في الظّرف هو كلمة «أمّا» إلّا أنّ عملها ليس من ذاتها بل لنيابتها عن الفعل ، وهو (يكن) الّذي هو فعل الشّرط وقيل العامّل فيه هو فعل الشّرط المحذوف.

(٧) أي أصل التّركيب وما حقّ التّركيب أن يكون عليه.

(٨) أي ينبغي أن يقع الكلام حول أمّا ومهما من جهات :

الأولى : في تعيين ما هو أصل «أمّا» وقد وقع الاختلاف بينهم فذهب بعضهم إلى أنّ «أمّا» كان أصله مهما ، فنقل كلّ من الحرفين الأوّلين من مكانه ووضع في مكان الآخر ، ثمّ أبدلت الهاء بالهمزة فأدغمت الميم في الميم فصار أمّا ، إلّا أنّ هذا القول ممّا قام الدّليل على عدم صحّته ، فإنّ مهما اسم ولم يعهد في لغة العرب أن يجعل الاسم بالتّصريف حرفا أو فعلا ، وذهب الكوفيّون إلى أنّ قولنا : أمّا زيد فقائم كان في الأصل : إن يكن شيء فزيد قائم ، فحذف الشّرط وزيدت ما عوضا عنه وأدغمت النّون في الميم لقرب مخرجيهما وفتحت الهمزة تخفيفا وجعلت الفاء متوسّطة فصار أمّا زيد فقائم مثلا.

وذهب غير واحد منهم إلى أنّها كلمة برأسها في عرض مهما وإن ، أي ليس أصله

٤٤

مهما ولا إن ، بل كلمة مستقلة فيها معنى الشّرط والتّفصيل حلّت محلّ مهما بمعنى إن ، فقولنا : أمّا زيد فقائم ، كان في الأصل : مهما يكن من شيء فزيد قائم ، فحذفت كلمة مهما مع الشّرط تخفيفا وناب عنها أمّا فجعلت الفاء متوسّطة لأنّ حقّ فاء السّببيّة أن تقع في وسط الكلام ، وظاهر كلام الشّارح هو هذا القول. وأضر بنا عن المناقشة في هذه الأقوال تجنّبا عن التّطويل المملّ.

الثّانية : قد وقع النّزاع بينهم في أنّ مهما اسم أو حرف ، واستدلّ من ذهب إلى أنّها حرف بقول زهير :

ومهما يكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على النّاس تعلم

بتقريب أنّه قد أعرب خليقة اسما ل (يكن) وجعل من زائدة ، فيتعيّن خلوّ الفعل عن ضمير يرجع إلى مهما الّتي هي موقع مبتدأ على تقدير كونها اسما وإذا ثبت أنّها لا موضع لها من الإعراب تعيّن كونها حرفا.

واختار الجمهور كونها اسما بدليل قوله تعالى : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ)(١) فإنّ الهاء في (بِهِ) عائدة إليها ، ومن المعلوم أنّ الضّمير لا يعود إلّا إلى الاسم.

والحقّ مع الجمهور ، وأمّا الاستدلال بقول زهير فغير صحيح لأنّ اسم يكن ضمير مستتر يرجع إلى مهما ومن خليقة تفسير له.

الثّالثة : أنّه قد وقع الخلاف في إعراب (مهما يكن من شيء فزيد قائم) فذهب أكثرهم إلى أنّ مهما مبتدأ ، ومعناه ما لا يعقل غير الزّمان مع تضمين معنى الشّرط ، وخبره فعل الشّرط وحده أو الجواب وحده أو مجموعهما ، ويكن تامّة بمعنى يوجد وفاعله ضمير راجع إلى مهما ومن شيء بيان لمهما ، وفائدته زيادة البيان والتّعميم ولا يصحّ أن تجعل من زائدة وشيء فاعلا ل (يكن) ، لأنّ المبتدأ ، حينئذ يبقى بلا عائد.

وذهب بعضهم إلى أنّه خبر ل (يكن) على أنّها ناقصة ، وشيء اسمها ، ومن زائدة.

والحقّ هو القول الأوّل لعدم ملزم لنا على جعل من زائدة.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٣٢.

٤٥

ومهما ههنا (١) مبتدأ ،

______________________________________________________

الرّابعة : أنّ المستفاد من كلام الشّارح حيث قال : أصله مهما يكن من شيء بعد الحمد والصّلاة إنّ الظّرف من متعلّقات الشّرط المحذوف.

ولكن التّحقيق أنّه من متعلّقات الجزاء ، وذلك لما عرفت من أنّ مثل قولنا : أمّا زيد فقائم مسوق لغرض التّأكيد والتّقرير والمناسب ، لذلك جعله من متعلّقات الجزاء لإفادة الكلام حينئذ تعليق الجزاء على أمر متحقّق جدا وهو وجود الشيء في الدّنيا ، وقد عرفت أنّ المعلّق على المحقّق محقّق لا محالة.

الخامسة : أنهم اختلفوا في كلمة مهما من حيث البساطة والتّركيب : فقال بعضهم هي كلمة بسيطة على وزن فعلى زيدت عليها الألف. وقال الخليل هي ما ألحقت ما أخرى زائدة ، كما تلحق بسائر كلمات الشّرط نحو إذ ما وحيثما ثمّ استكره تتابع المثلين فأبدل ألف ما الأولى هاء لتجانسهما في الهمس أو لتحسين اللّفظ. وقال الزّجاج : هي مركبة من مه بمعنى كفّ وما الشّرطيّة.

وأصح هذه الأقوال هو قول الخليل لكونه مؤيّدا بقياسها على أخواتها. ولا دليل على القول الأوّل والثّالث. ثمّ معنى مهما هو الزّمان مع تضّمن الشّرط نحو مهما تفعل أفعل ، فتكون مفعولا لفعل الشّرط قدمت عليه لصدارتها أو مبتدأ خبره فعل الشّرط وحده ، أو الجواب وحده ، أو مجموعهما. فيما إذا لم يفتقر فعل الشّرط إلى المفعول.

(١) أي في هذا الأصل والتّقدير وإنّما قيّد ابتدائيّة مهما بقوله : «ههنا» لأنّها قد تكون في غير هذا التّقدير والمكان مفعولا ، كقولك مهما تعط من شيء أقبل.

ثمّ قد اختلف في خبر هذا المبتدأ ونحوه على ثلاثة مذاهب.

الأوّل : أنّه الشّرط وحده والجزاء قيد فيه.

والثّاني : أنّه الجزاء وحده والشّرط قيد فيه.

والثّالث : أنّه مجموع الشّرط والجزاء.

٤٦

والاسميّة لازمة للمبتدأ (١) ويكن شرط (٢) والفاء لازمة له (٣) غالبا (٤) فحين (٥) تضمّنت أمّا معنى الابتداء والشّرط لزمتها الفاء (٦) ، ولصوق الاسم إقامة لللّازم (٧) مقام الملزوم (٨) وإبقاء لأثره في الجملة (٩)

______________________________________________________

(١) أي الاسميّة لا تنفكّ عن المبتدأ ولازمة للمبتدأ مطلقا لا لهذا المبتدأ فحسب ، ولهذا أظهره ولم يقل : والاسميّة لازمة له مع أن المقام مقام الضّمير.

(٢) أي لفظ «يكن» فعل شرط وكان هنا تامّة بمعنى يوجد ، فاعلها ضمير يعود على مهما ، ومن شيء بيان لمهما في موضع الحال ، وهذا البيان لإفادة تأكيد العموم الكائن في مهما.

(٣) أي الفاء لازمة لجوابه.

(٤) أي في أغلب أحوال الجواب ، لأنّ الجزاء قد يكون بفاء وقد يكون بلا فاء.

(٥) أي المبتدأ وفعل الشّرط ودلّت عليهما لوقوعها موضعهما.

(٦) أي لزمتها الفاء حينما قامت مقام فعل الشّرط وهو يكن ولزمها لصوق الاسم حينما قامت مقام المبتدأ وهو مهما. ففي كلام الشّارح لفّ ونشر مشوّش لا مرتّب. بأن يكون المثال الأوّل للأوّل والثّاني للثّاني.

(٧) وهو الفاء في فعل الشّرط ، والاسميّة في المبتدأ.

(٨) وهو المبتدأ وفعل الشّرط.

(٩) راجع إلى كلّ من الإقامة والإبقاء ، ومعنى العبارة لزمت الفاء ولصوق الاسم وإقامة اللّازم مقام الملزوم في الجملة وإبقاء لأثره في الجملة ، أمّا لزوم الفاء إبقاء لأثر الشّرط ولصوق الاسم إبقاء لأثر المبتدأ في الجملة فواضح ، فإنّ للشّرط علامات وآثار منها الجزاء ومنها الفاء فلزوم الفاء إبقاء لها في الجملة ، وكذلك للمبتدأ علامات وآثار كثيرة من الاسميّة والخبر والحمل بينهما ، فلصوق الاسم إبقاء لها في الجملة.

وأمّا إقامة اللّازم مقام الملزوم في الجملة ، فلأنّ الفاء وإن قامت مقام الشّرط وهو ما قبل الجزاء إلّا أنّها ليست في مقامه حقيقة ، لأنّ مقامه حقيقة هو ما قبل الظّرف لأنّه معموله فالمقام الحقيقي هو محلّ أمّا.

وكذا لصوق الاسم لم يقم في مقام المبتدأ ، لأنّ مقامه حقيقة هو موضع أمّا لأنّها نابت

٤٧

[فلمّا] هو ظرف (١) بمعنى إذ (٢) يستعمل استعمال الشّرط (٣) يليه فعل ماض لفظا أو معنى (٤) [كان علم البلاغة] هو المعاني والبيان (٥) [و] علم [توابعها (٦)] هو البديع

______________________________________________________

عنه ووقعت في موضعه لكن لمّا كانت الفاء قريبة من أمّا فكأنّها حلّت في موضع ملزومها فهي حالّة محلّه في الجملة لا في التّحقيق. وكذا لمّا كان الاسم ملاصقا لأمّا ، فكأنّ الاسميّة حلّت محلّ ملزومها فهي حالّة محلّه في الجملة لا في التّحقيق.

(١) أي لمّا ظرف إذا وقع بعده جملتان تصلحان للشّرط والجزاء وإلّا كانت حرف نفي كلم ، نحو ندم زيد ولمّا ينفعه النّدم ، أو تكون بمعنى إلّا ، نحو قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي إلّا عليها حافظ.

(٢) قوله : «فلّما هو ظرف بمعنى إذ» أحسن من قوله : في المطوّل حيث قال : (لمّا ظرف بمعنى إذا) بل لا يصحّ جعل لمّا بمعنى إذا لأنّ إذا للاستقبال وإذ للمضيّ ، ولمّا متّحد مع إذ معنى ، إذ كلّ منهما للمضيّ ويستعمل استعمال الشّرط من حيث إفادتها التّعليق في الماضي.

(٣) كما في قولك لمّا قمت قمت.

(٤) كما في قولك لمّا لم تقم لم أقم. ولمّا اسم بمعنى إذ ، وليس حرف شرط كما توهّمه بعض من قول سيبويه حيث قال : لمّا لوقوع أمر لوقوع غيره.

فتوهّم بعضهم من هذا القول أنّ لمّا حرف شرط مثل لو ، إلّا أنّ لو لانتفاء الثّاني لانتفاء الأوّل ، ولمّا لثبوت الثّاني لثبوت الأوّل.

وقد ظهر بطلان هذا التوهّم ممّا ذكرناه من أنّ لمّا اسم بمعنى إذ يستعمل استعمال الشّرط ، والوجه في ذلك أنّه إذا اتّحد معنى لفظ مع معنى اسم كان هو أيضا اسما ، وقد عرفت أنّ لمّا متّحد مع إذ معنى فيكون مثله في الاسميّة ، ولا يتّحد مع لو معنى ، لأنّه للامتناع وذلك للثّبوت ، فلا يكون حرف شرط مثله.

(٥) أي هو علم المعاني والبيان.

(٦) أي توابع البلاغة وتقدير الشّارح لفظ العلم قبل توابعها إشارة إلى أنّ توابعها مجرور على المضاف إليه السّابق أعني البلاغة ، إنّ المضاف الّذي هو علم مسلّط عليها لأنّ القيد المقدّم على المعطوف عليه يعتبر في المعطوف أيضا.

٤٨

[من أجلّ العلوم قدرا وأدقّها سرّا (١) إذ به (٢)] أي بعلم البلاغة وتوابعها لا بغيره من العلوم (٣) كاللّغة والصّرف والنّحو [تعرف دقائق العربية (٤) وأسرارها (٥)]

______________________________________________________

وقد جعل المصنّف البديع علما مستقلّا مع أنّ الزّمخشري جعله ذيلا لعلمي البلاغة ولم يجعله علما برأسه ، وكونه علما مستقلّا كما جعله المصنّف أولى لأن البديع له موضوع متميّز عن موضوع علم البلاغة وله غاية متميّزة أيضا.

فالبديع أيضا علم يتعلّق بتوابعها وهي الوجوه المحسّنة للكلام البليغ كالجناس والطّباق والتّلميح ونحو ذلك من المحسّنات اللّفظيّة والمعنويّة المتكفّلة لبيانها علم البديع.

(١) أي «لمّا كان علم البلاغة وتوابعها من أجل العلوم قدرا» أي رتبة ومنزلة «وأدقها سرّا» أي نكتة لطيفة وأتى بمن تبعيضيّة للإشارة إلى أنّ علم البلاغة وتوابعها ليس أجلّ جميع العلوم ، بل من الطّائفة الّتي تكون أجلّ العلوم كعلم التّوحيد والتّفسير والفقه والحديث.

ثمّ قوله : «قدرا» تمييز من نسبة الأجلّ إلى العلوم محوّل عن الفاعل ، وتقدير الكلام فلمّا كان أي لمّا كان علم البلاغة وتوابعها من طائفة علوم أجلّ قدرها من العلوم ، وكذا قوله : «سرّا» أي من علوم أدقّ سرّها من العلوم. ولك أن تجعلهما تمييزا محوّلا عن اسم ، كان قدر علم البلاغة وسرّه من أجلّ أقدار العلوم ، ومن أدقّ أسرارها ألّفت مختصرا.

(٢) تعليل لكون علم البلاغة وتوابعها من أجلّ العلوم.

(٣) إشارة إلى أنّ تقديم الظّرف أعني : «به» لإفادة الحصر ، والمراد به الحصر الإضافي لا الحقيقي حتّى يرد أنّ دقائق اللّغة العربيّة تعرف بحسب السّليقة أيضا.

(٤) أي اللّغة العربيّة ، وإنّما ترك ذكر الموصوف ليوقع السّامع في توهّم أمر غير مطابق للواقع ، وهو أنّ دقائق جميع العلوم الأدبيّة تعرف بهذا العلم والدّاعي إلى هذا الإيهام إفادة تفخيم شأنه.

(٥) أي أسرار العربيّة وعطفها على «دقائق» تفسيريّة والمراد بالدّقائق والأسرار هي المعاني الّتي تدلّ عليها التّراكيب باعتبار الخصوصيات الكائنة فيها وهي عبارة عن مقتضيات الأحوال كالتّقديم والذّكر والحذف والتّأخير والتّأكيد وأمثال ذلك ، فعليه يراد بالدّقائق الأحوال كالشّكّ والإنكار وخلوّ الذّهن والبلادة والفطانة ، وبالأسرار الاعتبارات الّتي تقتضيها تلك الأحوال كالتّأكيد الاستحساني والوجوبي والتّجريد والذّكر والحذف وغير ذلك ، ممّا يفصّله علم المعاني.

٤٩

فيكون من أدقّ العلوم سرّا (١) [ويكشف عن وجوه (٢) الإعجاز في نظم القرآن أستارها (٣)] أي به يعرف أنّ القرآن معجز لكونه (٤) في أعلى مراتب البلاغة لاشتماله (٥) على الدّقائق

______________________________________________________

(١) لا يقال : إنّ هذا التّفريع لا وجه له لأنّ دقّة المعلوم مستلزم لدقّة العلم لا لأدقّيّته.

فإنّه يقال : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ على أن يكون التّفريع المذكور على قوله «إذ به تعرف دقائق العربيّة» إلّا أنّ الأمر ليس كذلك بل التّفريع على قوله «إذ به تعرف ...» منضمّا إلى مقدّمة مشهورة ولو ادّعاء وهي أنّ دقائق العربيّة أدقّ دقائق العلوم وهذه المقدّمة حذفت في عبارة المصنّف لشهرتها والتّقدير إذ به تعرف دقائق العربيّة وأسرارها الّتي هي من أدق الدّقائق فيستقيم التّفريع حينئذ.

(٢) قوله : «وجوه» جمع وجه ، وله معنيان قريب وهو العضو المخصوص ، وبعيد وهو الطّريق على الأرض ، والمراد به هنا هو المعنى الثّاني.

والظّرف أعني قوله : في نظم القرآن حال عن وجوه الإعجاز أو من نفس الإعجاز لصحّة إقامة المضاف إليه مقام المضاف. بأن يقال وبه يكشف عن الإعجاز في نظم القرآن أستاره ، وفي مثل ذلك لا مانع من وقوع الحال عن المضاف إليه كما قال ابن مالك :

ولا تجرّ حالا من المضاف له

إلّا إذا اقتضى مضاف عمله

أو كان جزء ماله أضيفا

أو مثل جزئه له فلا تحيفا

ثمّ إنّ المراد بالوجوه : إمّا الخصوصيات الكائنة في ألفاظ القرآن الموجبة لإعجازه بحيث لا يمكن للبشر الإتيان بمثله. وإمّا مراتب الإعجاز الكائنة في آيات القرآن فإنّها مختلفة في البلاغة ، وإن كان كلّها بالغا حدّ الإعجاز.

(٣) قوله : «أستارها» مرفوع لأنّه نائب فاعل لقوله : «يكشف» وهو على صيغة المجهول معطوف على قوله : «يعرف» وليس على صيغة المعلوم بأن يكون مسندا إلى ضمير يعود إلى علم البلاغة إذ عندئذ لا بد من نصب أستارها وهو مناف للسّجع.

(٤) قوله : «لكونه في ...» علّة لكون القرآن معجزا.

(٥) علّة لكون القرآن في أعلى مراتب البلاغة.

٥٠

والأسرار والخواصّ الخارجة عن طوق البشر (١) وهذا (٢) وسيلة إلى تصديق النّبي عليه‌السلام وهو (٣) وسيلة إلى الفوز بجميع السّعادات (٤) فيكون (٥) من أجلّ العلوم

______________________________________________________

(١) المراد بالدّقائق والأسرار والخواصّ الخارجة عن طوق البشر أي عن وسعه وقدرته هي الخصوصيات الّتي تقتضيها الأحوال كالتّأكيد والتّجريد والتّقديم والتّأخير ونحو ذلك ممّا يأتي تفصيله في الكتاب.

لا شكّ في أنّ القرآن معجز وقد اختلفوا في سبب الإعجاز على أقوال :

فذهب المشهور إلى أنّه لاشتماله على الدّقائق والأسرار الّتي هي خارجة عن قدرة البشر ، وقد ذهب إليه المصنّف والشّارح. وذهب القاضي الباقلاني إلى أنّ وجه الإعجاز هو اجتماع الفصاحة مع الأسلوب المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لأحدهما. وذهب بعضهم إلى أنّه لاشتماله على الإخبار عن المغيبات. وذهب جماعة آخرون إلى أنّه لسلامته عن التّناقض والاختلاف.

وكيف كان فلا شكّ في كون القرآن معجزة من ناحية كونه مشتملا على الإخبار عن المغيبات ، وكذلك من ناحية كونه في الطّبقة العلّيا من البلاغة والدّرجة القصوى من الفصاحة على ما يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم.

وأما سلامته عن التّناقض أو مجرّد مخالفته لكلام العرب في الأسلوب فلم يثبت كونهما سببين للإعجاز ، لإمكان أن يكتب الإنسان كتابا لا يكون مشتملا على التّناقض أصلا أو يأتي بكلام على أسلوب سورة قصيرة من القرآن ، كما نسب إلى مسيلمة الكذاب (الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وئيل وخرطوم طويل).

(٢) أي معرفة إعجاز القرآن.

(٣) أي تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٤) أي الدّنيويّة والأخرويّة.

والحاصل إنّ معرفة إعجاز القرآن وسيلة إلى تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع ما جاء به من الأحكام الشّرعيّة اعتقاديّة كانت أو فرعيّة. ثمّ تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيلة إلى الفوز والظّفر بالسّعادات والخيرات الدّنيويّة والأخرويّة.

(٥) أي فيكون هذا العلم من أجلّ العلوم.

٥١

لكون (١) معلومه وغايته من أجلّ المعلومات والغايات

______________________________________________________

(١) علّة لكون هذا العلم أجلّ العلوم لأنّ جلالة العلم إنّما هي بجلالة معلومه وغايته.

ومعلوم هذا العلم هو إعجاز القرآن وغايته تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلّ ما جاء به الّذي هو وسيلة إلى الفوز والظّفر بالسّعادات الدّنيويّة والأخرويّة.

نعم ، اعترض في المقام بما حاصله : من أنّ تعليل الشّارح كون علم البلاغة من أجلّ العلوم بكون معلومه من أجلّ المعلومات فاسد ، سواء أريد بعلم البلاغة القواعد المذكورة فيها كما هو الظّاهر ، أو أريد به الإدراك أو الملكة الّتي يقتدر بها على الإدراكات الجزئيّة واستحضار القواعد الّتي حصل من ممارستها تلك القوة الرّاسخة.

وجه الفساد في الأوّل أنّ المراد من معلوم العلم القواعد الكلّيّة المذكورة في العلم مثل كلّ حكم منكر يجب تأكيده ، وكلّ حكم مشكوك يحسن تأكيده ، وكلّ فاعل مرفوع ، وكلّ خمر حرام ، وهكذا ، والمفروض أنّ المراد بالعلم أيضا ، تلك القواعد فحينئذ يكون قوله : «لكون معلومه من أجلّ المعلومات» تعليلا لشيء بنفسه وهو فاسد.

وأما في الثّاني فلأنّ قوله : «لكون معلومه من أجلّ المعلومات» لا يكون صالحا لأن يجعل علّة لكون علم البلاغة من أجلّ العلوم ، وذلك لأنّ ما ثبت قبل التّفريع ليس إلّا أنّ هذا العلم به يكشف عن وجوه إعجاز القرآن أستارها وبه يعرف أنّ القرآن معجز لكونه في الدّرجة القصوى من البلاغة فيصير ذلك وسيلة إلى تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفوز بالسّعادات الدّنيويّة والأخرويّة ، وكون العلم له هذا الشّأن الرّفيع لا يستدعي أن يكون معلومه ـ أي مسائله وقواعده ـ من أجلّ المعلومات والمسائل على نحو يستدلّ على أشرفيّة العلم الموصوف بالصّفات المذكورة بأشرفيّة هذا المعلوم.

وبعبارة وجيزة : إنّ الجمل السّابقة ناطقة بأشرفيّة نفس العلم لكونه كاشفا عن وجوه الإعجاز أستارها لا على أشرفيته بأشرفيّة معلومه.

ويمكن الجواب بأنّ المراد من العلم هو الأصول والقواعد ومن المعلوم المعلوم منها ، أي ما يعرف من تلك القواعد ويحصل العلم به من أجل ممارستها وهو كون القرآن معجزا ، وليس المراد به المعلوم بمعنى نفس الأصول والقواعد حتّى يلزم تعليل الشّيء بنفسه ، فلا يرد الأشكال الأوّل لمغايرة المعلوم وهو كون القرآن معجزا للعلم وهو نفس الأصول والقواعد.

٥٢

وتشبيه وجوه الإعجاز (١) بالأشياء المحتجبة تحت الأستار استعارة بالكناية (٢) وإثبات الأستار لها استعارة تخييليّة

______________________________________________________

وأما عدم ورود الثّاني فلأنّه قد ظهر قبل التّعليل أن إعجاز القرآن لكونه في أعلى مراتب البلاغة من أشرف المعلومات لكونه وسيلة لتصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموجبا للفوز بالسّعادات الدّنيويّة والأخرويّة ، فيستقيم حينئذ تعليل أشرفيّة علم البلاغة بأشرفيّة معلومه ، فيلزم تعليل أفضليّة الشّيء بما يترتّب عليه ، غاية الأمر هذا الجواب إنّما يتمّ على أن يكون المراد من المعلوم إعجاز القرآن لا القواعد ، وهو كذلك لإتيانه بالمعلوم مفردا حيث قال : «لكون معلومه» فلو كان المراد من المعلوم القواعد لأتى بصيغة الجمع ويقول : لكون معلوماته من أجل المعلومات. ثمّ المراد بالغاية هي الفوز بالسّعادات الدّنيويّة والأخرويّة.

(١) أي وجوه الإعجاز عبارة عن أنواع البلاغة وطرقها الّتي حصل بها الإعجاز وهي خواص التّراكيب كالحذف والذّكر والتّقديم والتّأخير والتّأكيد والتّجريد إلى غير ذلك من مقتضيات الأحوال الّتي برعايتها تحصل مرتبة راقية من البلاغة توجب هذه المرتبة مرتبة من الإعجاز.

(٢) توضيح الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور :

الأوّل : ما هو المراد من الاستعارة بالكناية والاستعارة التّخييليّة؟

الثّاني : ما هو المراد من الإيهام؟

الثّالث : تطبيق الأمور على هذا المقام.

أمّا المراد بالاستعارة بالكناية فللقوم فيها ثلاثة مذاهب.

الأوّل : ما ذهب إليه المصنّف وهو أنّ الاستعارة بالكناية هي عبارة عن أن يشبه شيء بشيء في النّفس فيسكت عن ذكر أركان التّشبيه سوى المشبّه ويثبت له لازم من لوازم المشبّه به ليدلّ على ذلك التّشبيه المضمر في النّفس فهذا التّشبيه المضمر في النّفس يسمّى استعارة بالكناية أو مكنيّا عنها ، أمّا الكناية فلأنّه لم يصرح به بل أشير إليه بذكر أمر مختص له. أمّا الاستعارة فمجرّد تسمية خالية عن المناسبة ، وإثبات ذلك الأمر المختصّ بالمشبّه به للمشبّه استعارة تخييليّة ، لأنّه قد استعير للمشبّه أمر يخصّ المشبّه به ، وبه يكون قوامه أو كماله في وجه الشّبه ، ليخيّل أنّه من جنس المشبّه به كما في قول الشّاعر :

٥٣

إذ المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

شبّه الشّاعر في نفسه المنيّة بالسّبع في اغتيال النّفوس بالقهر والغلبة فسكت عن ذكر الأركان سوى المنيّة الّتي هي المشبّه ، وأثبت لها الأظفار الّتي لا يكمل ذلك الاغتيال في المشبّه به وهو السّبع إلّا بها ، فتشبيه المنيّة في النّفس بالسّبع استعارة بالكناية ، وإثبات الأظفار لها استعارة تخييليّة.

الثّاني : ما يستفاد من كلام القدماء ، وهو أنّ الاستعارة بالكناية عبارة عن أن يراد من لفظ المشبّه به المشبّه بادّعاء أنّ المشبّه داخل في جنس المشبّه به لكن لا يذكر لفظ المشبّه به ، بل يشار إليه بذكر لازمه ورديفه الثّابت للفظ المشبّه ، فإرادة المشبّه من لفظ المشبّه به المرموز إليه بذكر اللّازم استعارة بالكناية ، أمّا الاستعارة فلأنّه قد استعير لفظ المشبّه به في النّفس للمشبّه ، وأمّا الكناية فلأنّه لم يصرّح به بل إنّما أومي إليه بلازمه ، وإثبات لازم المشبّه به للمشبّه المصرّح به تخييليّة ، فلا اختلاف بين المصنّف والقدماء في الاستعارة التّخييليّة ، بل إنّما الاختلاف بينهما في الاستعارة بالكناية ، حيث إنها عند المصنّف عبارة عن التّشبيه المضمر في النّفس ، قد أشير إليه بذكر لازم المشبّه به ، وعند القدماء عبارة عن إرادة المشبّه من لفظ المشبّه به المرموز قد أشير إليه بما يلزمه ويخصّه.

الثّالث : ما ذهب إليه السّكّاكي ، وهو أنّ الاستعارة بالكناية عبارة عن أن يذكر لفظ المشبّه ويراد به المشبّه به الادّعائي ويجعل إثبات لازم من لوازم المشبّه به الحقيقيّ للمشبّه قرينة عليه ففي قول الشّاعر المتقدّم أريد بالمنيّة السّبع الّذي هو في الحقيقة ليس إلّا الموت لكن ادّعى مبالغة أنّه سبع وليس إلّا ، وجعل إثبات الأظفار للمنيّة قرينة على هذا المعنى ، وأريد بها الصّورة الوهميّة الّتي لا تحقّق لها في الخارج.

توضيح ذلك أنّ الشّاعر لمّا شبّه المنيّة بالسّبع في اغتيال النّفوس وادّعى أنّه سبع وليس إلّا ، أخذ الوهم في تصويرها بصورة السّبع واختراع لوازمه لها من الذّنب والشّعر والأظفار ، فبعد ذلك أطلق على السّبع الادّعائي اسم المنيّة وعلى الصّورة الوهميّة الّتي تصوّرها مثل صورة الأظفار لفظ الأظفار. فما ذهب إليه السّكّاكي مخالف لما ذهب إليه المصنّف والسّلف ، بالقياس إلى كلّ من الاستعارة بالكناية والاستعارة التّخييليّة وذلك لأنّ الاستعارة

٥٤

وذكر الوجوه إيهام (١) أو تشبيه الإعجاز بالصّور الحسنة

______________________________________________________

بالكناية عند المصنّف عبارة عن التّشبيه المضمر في النّفس ، وعند السّكّاكي عبارة عن إطلاق لفظ المشبّه على المشبّه به الادّعائي ، فلفظ المنيّة في المثال مستعار والموت مستعار منه والسّبع الاختراعي مستعار له ، وعند السّلف عبارة عن إرادة المشبّه عن لفظ المشبّه به الّذي أشير إليه بذكر لازمه ، فهو كالنّقيض لما ذكره السّكّاكي ، فإنّ المستعار عندهم لفظ السّبع والمستعار منه الحيوان المفترس والمستعار له الموت الّذي ادّعي كونه سبعا.

ثمّ الاستعارة التّخييليّة عند المصنّف والقوم مجرّد إثبات لازم من لوازم المشبّه به للمشبّه على نحو المجاز في الإثبات مع كونه مستعملا في معناه الحقيقي. وأمّا عند السّكّاكي فلم يبق على معناه الحقيقي ، بل استعمل في الصّورة الوهميّة الّتي اخترعتها النّفس للموت.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل ، ذكرنا ما في (المفصّل في شرح المطوّل) مع طوله لأنّه لا يخلو عن فائدة.

وأمّا المراد بالإيهام ، فهو أن يذكر لفظ له معنيان أحدهما قريب والآخر بعيد ويراد به البعيد. وأما تطبيق الأمور المذكورة على ما نحن فيه ، فلأنّ المصنّف قد شبّه في نفسه وجوه الإعجاز ـ أي الخصوصيات والمزايا الّتي توجب ارتفاع شأن الكلام على حدّ الإعجاز ـ بالأشياء الخارجيّة المحتجبة تحت الأستار بجامع الخفاء ، وعدم الاطّلاع ، فسكت عن ذكر أركان التّشبيه سوى المشبّه ، وهو قوله : وجوه الإعجاز ، وأثبت له أمرا مختصّا بالمشبّه به ، وهو الأستار ، فإنّها من لوازم الأشياء ، المحتجبة تحتها ليكون هذا قرينة على التّشبيه المضمر في النّفس فنفس هذا التّشبيه استعارة بالكناية وإثبات الأستار للوجوه استعارة تخييليّة.

(١) أي التّعبير عن الخصوصيات الّتي توجب الإعجاز بالوجوه إيهام أي تورية ، وهو كما ذكرنا أن يطلق لفظ له معنيان قريب لكثرة استعماله فيه ، وبعيد لقلّة استعماله فيه ، ويراد به المعنى البعيد لقرينة خفيّة بحيث يذهب قبل التّأمل إلى إرادة المعنى القريب.

وتطبيق ذلك في المقام أنّ للوجه معنيين :

الأوّل : الجارحة المخصوصة الشّائع استعماله فيها.

٥٥

استعارة بالكناية (١) وإثبات الوجوه له استعارة تخييليّة وذكر الأستار ترشيح (٢) ، ونظم (٣) القرآن تأليف كلماته

______________________________________________________

والثّاني : الطّريق القليل استعماله فيه. وأريد به في المقام هذا المعنى الثّاني لقرينة خفيّة وهي استحالة أن يكون للإعجاز جارحة مخصوصة.

(١) عطف على قوله «وتشبيه وجوه ...».

قال العلّامة المرحوم الشّيخ موسى الباميانى رحمه‌الله في المقام ما هذا لفظه : لمّا كان في قول المصنّف «به يكشف عن وجوه الإعجاز في نظم القرآن أستارها» اعتباران :

الأوّل : أن يعتبر تشبيه وجوه الإعجاز بالأشياء المحتجبة تحت الأستار بجامع الخفاء.

والثّاني : أن يعتبر تشبيه نفس الإعجاز بالصّور الحسنة بجامع ميل النّفس وتشوّقها إلى كلّ واحد منهما.

بيّن الشّارح كلّا من هذين الاعتبارين وتقدّم الكلام في الاعتبار الأوّل ، بقي الكلام في الثّاني حاصله : أنّ المصنّف قد شبّه في نفسه الإعجاز بالصّور الحسنة بجامع ميل النّفس ، فسكت عن ذكر أركان التّشبيه سوى المشبّه ، وهو الإعجاز وأثبت له لازما من لوازم الصّور الحسنة ، وهو الوجوه ، فهذا التّشبيه النّفسي استعارة بالكناية وهاتيك الإضافة أعني إضافة الوجوه إلى الإعجاز استعارة تخييليّة انتهى كلامه مع تصرّف ما.

(٢) لكونها ملائمة للمشبّه به وهو الصّور الحسنة لأنّ التّرشيح في اللّغة وإن كان بمعنى التّزيين إلّا أنّه في الاصطلاح أن تقترن الاستعارة مصرّحة كانت أو بالكناية بما يلائم المشبه به وذكر الأستار من هذا القبيل ، حيث رشّح وزيّن المصنّف هذا التّشبيه بذكر ما يلائم المشبّه به وهو الأستار ، وفي المقام كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(٣) يراد به بيان نكتة اختيار التّعبير بالنّظم على التّعبير باللّفظ وهي التّنبيه على منشأ الإعجاز لأنّ إعجاز القرآن إنّما يحصل بأن يكون تأليف كلماته مترتّبة المعاني متناسقة الدّلالات على حسب ما يقتضيه العقل ، فإنّ الإعجاز إنّما هو باعتبار كمال البلاغة ، كمال البلاغة إنّما هو باعتبار النّظم لا بمجرد اللّفظ هذا مجمل الكلام في المقام.

وأمّا تفصيل ذلك فنقول : إنّ النّظم في اللّغة ، وإن كان بمعنى جمع اللّؤلؤ في السّلك ، إلّا أنّ ما ذكره الشّارح معنى اصطلاحيّ له والمناسبة بين المعنيين ظاهرة ، فان الكلمات المترتّبة أشبه شيء باللآلئ المنظّمة في السّلك.

٥٦

مترتّبة المعاني (١) متناسقة الدّلالات على حسب ما يقتضيه العقل لا تواليها في النّطق وضمّ بعضها إلى بعض كيفما اتّفق (٢)

______________________________________________________

(١) حال من الكلمات ، فمعنى العبارة حينئذ أنّ نظم القرآن عبارة عن جمع كلماته حال كون تلك الكلمات مترتّبة المعاني على حسب ما يقتضيه العقل بأن يكون كلّ واحد من المعاني الّتي تدلّ تلك الألفاظ عليها واقعا في محلّ يليق به بحسب مقتضى العقل. كالتّأكيد والتّجريد والتّقديم والتّأخير والحذف والذّكر بحسب ما تقتضيه الأحوال ، وترتيبها عبارة عن وضع كلّ منها في محلّه المطلوب فيه.

والمراد من الدّلالات في قوله : «متناسقة الدّلالات» هي الدّلالات الاصطلاحيّة من المطابقيّة والتّضمّنيّة والالتزاميّة.

والمراد بتناسقها تناسبها وتماثلها لمقتضى الحال بمعنى أنّ الدّلالة المطابقيّة يؤتى بها فيما إذا كانت الحال تقتضيها ، وكذلك التّضمّنيّة والالتزاميّة فحينئذ قوله : «متناسقة الدّلالات» لا يكون تكرارا لقوله : «مترتّبة المعاني» لوضوح الفرق بينهما.

(٢) قوله : «وضمّ بعضها ...» عطف تفسيري لقوله : «لا تواليها» أي الكلمات في النّطق. ومعنى العبارة حينئذ أنّ نظم القرآن لا يطلق على جمع كلماته كيفما اتّفق أي كان بين معانيها ترتيب يقتضيه العقل أم لم يكن ، وكانت دلالتها مناسبة لمقتضى الحال على حسب ما يقتضيه العقل أم لم تكن.

ثمّ في التّعبير بالنّظم استعارة يحتمل أن تكون مكنيّة ، ويحتمل أن تكون مصرّحة.

تقريب الأوّل : بأن كان المصنّف قد شبّه القرآن في نفسه بمجموع من الدّرر المنظّمة في السّلك بجامع ميل النّفس وتشوّقها إليها وكونهما مترتّبي الأجزاء ترتيبا خاصّا. فسكت عن ذكر أركان التّشبيه إلا المشبّه وهو القرآن وأثبت له لازما من لوازم الدّرر وهو النّظم فهذا التّشبيه المضمر في النّفس استعارة بالكناية وذاك الإثبات استعارة تخييليّة.

وتقريب الثّاني : أي الاستعارة المصرّحة ، بأن كان المصنّف قد شبّه في نفسه ترتيب كلمات القرآن بترتيب الدّرر في السّلك فترك أركان التّشبيه بأجمعها سوى لفظ المشبّه به ، وهو النّظم وأراد منه المشبّه أعني ترتيب كلمات القرآن. والفرق بينهما بعد اشتراكهما في ابتناء كلّ منهما على التّشبيه المضمر في النّفس من وجوه :

٥٧

[وكان القسم الثّالث (١) من مفتاح العلوم الّذي صنّفه الفاضل العلّامة أبو يعقوب يوسف

______________________________________________________

الأوّل : أنّ المذكور في الاستعارة بالكناية لفظ المشبّه والمتروك لفظ المشبّه به والمذكور في الاستعارة بالكناية لفظ المشبّه به والمتروك لفظ المشبّه.

الثّاني : أنّ المراد من المذكور في الأولى نفس المعنى الحقيقي لا المشبّه به ، وفي الثّانية المراد به معناه المجازي أي المشبّه.

الثّالث : أنّ الأولى مستلزمة للاستعارة التّخييليّة دون الثّانية.

(١) عطف على قوله : «كان علم البلاغة» فالواو عاطفة لا للحال لأنّ الأصل فيها العطف فمع إمكان حملها عليه لا مجال لحملها على معنى آخر مخالف لأصلها.

ثمّ كلمة «من» في قوله : «من مفتاح العلوم ...» للتّبيين المشوب بالتّبعيض وليست للتّبيين المحض لأن القسم الثّالث ليس عين مفتاح العلوم كما هو مقتضى كون من للتّبيين المحض ، بل إنّما هو بعضه فإنّه جعل كتابه على ثلاثة أقسام :

الأوّل : في النّحو والصّرف والاشتقاق.

والثّاني : في العروض والقوافي والمنطق.

والثّالث : في المعاني والبيان والبديع.

فالقسم الثّالث بعض من مفتاح العلوم لا عينه. ثمّ إنّ الظّرف إمّا حال من القسم الثّالث بناء على ما هو الصّحيح من جواز الإتيان بالحال من المبتدأ ، وإمّا صفة له ، ثمّ إنّه سمّى كتابه بمفتاح العلوم لكونه مفتاحا للعلّوم التّسعة الّتي اشتمل عليها من الصّرف والنّحو والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقوافي والعروض والمنطق.

وفيه استعارة بالكناية حيث شبّه السّكّاكي في نفسه مسائل العلوم التّسعة وقواعدها بالأموال النّفيسة المخزونة في بيت مقفّل بابه بجامع المجهوليّة والمستوريّة مع ميل النّفس إليهما فسكت عن ذكر أركان التّشبيه سوى لفظ المشبّه وأراد به المشبّه به الادّعائي أي مسائل العلوم التّسعة بعد جعلها متقمّصة بقميص الأموال المخزونة وادّعاء أنّها داخلة في جنسها وأثبت للفظ المشبّه لازما من لوازم الأموال المخزونة في بيت مقفّل وهو المفتاح ليكون قرينة على الاستعارة.

ثمّ السّكّاكي نسبة إلى جده حيث كان سكّاكا للذّهب والفضة.

٥٨

السّكّاكي] تغمّده الله (١) بغفرانه [أعظم ما صنّف فيه (٢)] أي في علم البلاغة وتوابعها [من الكتب المشهورة] بيان لما صنّف [نفعا] تمييز (٣) من أعظم [لكونه] أي القسم الثّالث [أحسنها] أي أحسن الكتب المشهورة [ترتيبا (٤)] هو وضع كلّ شيء في مرتبته (٥)

______________________________________________________

(١) عبّر عن جعله مغفورا بتغمّده بالغفران كي يكون إشارة إلى تشبيهه بالسّيف القاطع بجامع الحدّة فإنّه كان ذا قريحة طيّارة وفكرة حادّة وذلك لأنّ الغمد هو غلاف السّيف ، يقال : أغمدت السّيف أي جعلته في غلافه.

وحاصل المعنى ستر الله ذنوب الفاضل العلّامة الّذي في جودة قريحته كالسّيف القاطع وحفظه عن المكروهات كما يحفظ السّيف بالغمد.

(٢) لفظ «ما» في قوله «ما صنّف» ليس موصولا حرفيّا لأنّ هذا القسم الثّالث ليس أعظم التّصانيف بل إنّما هو من أعظم المصنّفات والكتب ، فهي إمّا نكرة موصوفة بمعنى شيء أو موصوف اسمي عبارة عن الكتب لا عن كتاب ، بدليل أنّ المصنّف قد بيّنه بقوله : «من الكتب المشهورة».

(٣) أي تمييز عن نسبة أعظم إلى ما صنّف محوّل عن الفاعل أي أعظم نفعه ما صنّف فيه.

(٤) «ترتيبا» منصوب على التّمييز فيكون تمييز من نسبة أحسن إلى الضّمير المستتر فيه الرّاجع إلى القسم الثّالث ومحوّلا عن الفاعل ، فالتّقدير لكونه أحسن ترتيبه من ترتيبها.

(٥) أي التّرتيب عبارة عن وضع كلّ شيء في مرتبته.

ولا يقال : إنّ التّفسير المذكور للتّرتيب ممّا لا أساس له بل هو مستحيل وذلك لأن الضّمير في مرتبته إمّا راجع إلى المضاف أعنى كلّ ، وإمّا راجع إلى المضاف إليه أي شيء وكلّ من الفرضين غير صحيح.

أمّا الأوّل : فلأنّه مستلزم لأن يكون التّرتيب عبارة عن وضع كلّ شيء في مرتبة كلّ شيء ولازم ذلك أن يكون الشّيء موضوعا في مرتبة نفسه ومرتبة غيره وهو مستحيل.

وأمّا الثّاني : فلأنّه مستلزم لأن يكون التّرتيب عبارة عن وضع الأشياء في موضع شيء واحد وهو كسابقه من الاستحالة.

٥٩

[و] لكونه [أتمّها تحريرا (١)] هو تهذيب الكلام (٢)

______________________________________________________

فإنّه يقال : إنّه يمكن الجواب عن كلا الشّقين فإنّا نختار الشّق الأوّل ونقول : إنّ ما ذكر من لزوم الاستحالة ممنوع ، إذ يكون قوله : «وضع كلّ شيء في مرتبته» عندئذ من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وهي تقتضي التّوزيع بحسب الآحاد ، فيكون هذا الكلام بمنزلة أن يقال : التّرتيب وضع كلّ فرد من اللّفظ في مرتبة لائقة به وليس هذا تأويلا بعيدا ليحتاج إلى شاهد ، بل هو الظّاهر منه بحسب المتفاهم العرفي هذا أوّلا.

وثانيا إنّا نختار الشّق الثّاني ، وهو كون الضّمير راجعا إلى المضاف إليه ونقول : إنّ العموم المستفاد من كلّ يلحظ بعد إرجاع ضمير مرتبته إلى الشيء ، فيكون حاصل المعنى حينئذ التّرتيب وضع الشيء في مرتبته أي شيء فلا يرد عليه ما ذكر من المحذور إلّا أنّ الأوّل أقرب من الثّاني لكونه موافقا لما يفهمه العرف من مثل هذا التّركيب.

(١) أي ولكون القسم الثّالث أتمّ الكتب المشهورة تحريرا أي تهذيبا عن الحشو والزّوائد وسائر المعايب.

لا يقال : إنّ مقتضى أفعل التّفضيل كون الكتب المشهورة موصوفة بتمام التّحرير والقسم الثّالث بزيادة التّمام وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به لوجهين :

الأوّل : إنّه ينافي وقوع الحشو والتّطويل ونحوهما في الكتب المشهورة ولازم ذلك التّنافي بين قوله «أتمّها تحريرا» ـ حيث يكون مفاده أنّ الكتب المشهورة تامّة خالية عن المعايب إلّا أنّ القسم الثّالث أتمّها تحريرا وأكثرها تهذيبا وبين ما سيأتي من توصيفه القسم الثّالث بكونه غير مصون من الحشو والتّعقيد والتّطويل.

الثّاني : إنّ تمام الشيء عبارة عن نهايته فلا يقبل الزّيادة لأنّها واحدة وما لا يقبل الزّيادة لا يصاغ منه التّفضيل فلا يصحّ توصيف القسم الثّالث بكونه أتمّ تحريرا من الكتب المشهورة.

فإنّه يقال : إنّ المراد من الأتمّ الأقرب إلى التّمام مجازا فمعنى العبارة حينئذ إنّ الكتب المشهورة قريبة إلى التّمام والقسم الثّالث أقربها إليه وهذا المعنى لا ينافي وقوع الحشو والتّطويل والتّعقيد في القسم الثّالث فضلا عن الكتب المشهورة.

(٢) أي إنّ التحرير في المقام بمعنى تهذيب الكلام وتنقيحه من المعايب لا بمعنى ما يقابل التّقرير أي بيان المعنى بالكتابة مقابلا للتّقرير وهو بيان المعنى بالعبارة.

٦٠