دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

يعني بعضهم يقول بالمعاد ، وبعضهم لا يقول به [وإمّا لتعجيل المسرّة (١) أو المساءة للتّفاؤل] علّة لتعجيل المسرّة (٢) [أو التّطيّر] علّة لتعجيل المساءة [نحو : سعد في دارك (٣)]

______________________________________________________

الجسماني ، كما في بعض الشّروح ، وبعضهم داعيا للخلائق إلى الهداية كالمتكلّمين ، لأنّهم يقولون بالمعاد الجسماني.

فإن قلت : فكيف تكون البريّة في حيرة مع أنّ البعض قائل بالبعث جزما والبعض منكر له كذلك.

قلت : إنّ الحيرة في كيفيّته لا في أصله كما أشار إلى ذلك بقوله : إنّ أبدان الأموات كيف تحيى من الرّفات أعني الحطام ، وهو ما يكسر من اليبس على أنّ الاختلاف الصّادر من المجموع من حيث هو مجموع أثر الحيرة ، وإن كان كلّ من الفريقين جازما في مذهبه.

ويمكن أن يقال : إنّ حيرة البريّة بمعنى الاضطراب والاختلاف من باب ذكر الملزوم وإرادة اللّازم ، لأنّ الحيرة في الشّيء يلزمها الاختلاف.

وقيل : إنّ المراد باستحداث الحيوان خلقه من الجماد ، فلا يرتبط بمسألة المعاد أصلا.

وقيل : إنّه آدم حيث خلقه الله تعالى من التّراب وهو جماد ، وقيل : ناقة صالح عليه‌السلام ، وقيل : عصا موسى عليه‌السلام ، وقيل هو طائر في بلا الهند يسمّى فقنس يضرب به المثل في البياض ، له منقار طويل يعيش ألف سنة ، ثمّ يلهمه الله تعالى بأنّه يموت ، فيجمع الحطب حواليه ، فيضرب بجناحيه على الحطب حتّى يخرج منه النّار ، فيشتعل منها الحطب ، ويحترق هو ، فيخلق الله من رماده بعد مدّة.

(١) «المسرّة» من السّرور ، أي تقديم المسند إليه إنّما هو لتعجيل مسرّة السّامع وفرحه ، أو لتعجيل المساءة أي الحزن والهمّ والغمّ.

(٢) لأنّ التّفاؤل يستعمل في الخير كما أنّ «التّطيّر» يستعمل في الشّرّ ، فيكون علّة لتعجيل المساءة ، ثمّ المراد بالعلّة هنا السّبب والمنشأ ، وتوضيح ذلك إنّ اللّفظ الّذي افتتح به الكلام إذا كان دالا على ما تميل إليه النّفس أو تنفر عنه تفاءل منه السّامع ، أو تطيّر أي تبادر إلى فهمه حصول الخير أو الشّرّ ، فينشأ من ذلك ، أي من التّفاؤل أو التّطيّر من اللّفظ المفتتح به تعجيل المسرّة أو المساءة.

(٣) مثال للتّفاؤل ، وسعد هنا علم واسم رجل وإلّا لم يجز الابتداء به لأنّه نكرة بلا

٣٨١

لتعجيل المسرّة [والسّفّاح (١) في دار صديقك] لتعجيل المساءة [وإمّا لإيهام (٢) أنّه] أي المسند إليه [لا يزول عن الخاطر] لكونه مطلوبا [أو (٣) أنّه يستلذّ به (٤)] لكونه محبوبا [وإمّا لنحو ذلك] كإظهار تعظيمه (٥) أو تحقيره أو ما أشبه ذلك (٦). [قال عبد القاهر : وقد يقدّم (٧)] المسند إليه [ليفيد] التّقديم [تخصيصه بالخبر الفعليّ (٨)]

______________________________________________________

مسوّغ ، وقدّم على المسند لكون ذكره أهمّ لتعجيل المسرّة.

(١) مثال للتّطيّر ، والسّفّاح لقب عبد الله بن محمّد أوّل خليفة من بني عبّاس ، لقّب بذلك ، لأنّه كان كثير القتل ، يقال : سفحت دمه ، أي سفكته ، أي قتلته ، فالمراد به في المثال إمّا الخليفة المذكور ، أو من كان مثله في هذه الصّفة واللّقب.

(٢) أي يقدّم المسند إليه لكون ذكره أهمّ ، إمّا لأجل أن يوقع المتكلّم في وهم السّامع أنّه لا يزول عن الخاطر ، أي القلب حتّى أنّ الذّهن إذا التفت إلى المخبر عنه لا يجري على اللّسان إلّا ذكر المسند إليه ، لأنّ ما لا يزول عن الخاطر يجري على اللّسان أوّلا ، ومثال ذلك نحو : الله إلهنا ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّنا. ثمّ المصنّف أتى بلفظ الإيهام لأنّ المراد عدم الزّوال أصلا ، ولا شكّ أنّ هذا أمر وهمي لأنّه ليس ممّا لا يزول أصلا ، بل يزول عن الخاطر في بعض الأحيان.

فالحاصل : إنّ المتكلّم يقدّم المسند إليه لأجل أن يوقع في وهم السّامع أنّه لا يزول عن الخاطر بحيث إنّه إذا أراد أن يتكلّم يسبق لسانه إلى هذا المسند إليه.

(٣) أي أو لإيهام أنّ المتكلّم مستلذّ بالمسند إليه ، فلذا ذكره مقدّما ، لأنّ من أحبّ شيئا أكثر ذكره ، ومن استلذّ شيئا قدّم ذكره.

(٤) أي بالمسند إليه لذّة حسّيّة ، فلذا زاد الإيهام.

(٥) أي تعظيم المسند إليه أو تحقيره ، ومثال الأوّل نحو : رجل فاضل عندي ، ومثال الثّاني نحو : رجل جاهل في الدّار.

(٦) كالاحتراز عن أن يحصل في قلب السّامع غير المسند إليه ، أو لكونه ضمير الشّأن ومتضمّنا لمعنى الاستفهام.

(٧) هذا مقابل للاهتمام لا أنّه من جملة نكاته.

(٨) أي تخصيص المسند إليه بنفي الخبر الفعلي على حذف المضاف ، لأنّ المقصور.

٣٨٢

أي لقصر الخبر الفعليّ عليه [إن ولي] المسند إليه [حرف النّفي (١)] أي وقع بعدها بلا فصل (٢) [نحو : ما أنا قلت هذا ، أي لم أقله مع أنّه مقول لغيري (٣)] فالتّقديم يفيد نفي الفعل عن المتكلّم وثبوته لغيره على الوجه الّذي نفى عنه (٤) من العموم أو الخصوص

______________________________________________________

على المسند إليه المتقدّم في المثال الّذي ذكره نفى القول ، كما في أنا ما قلت ، لكن هذا الكلام من المصنّف فرية على عبد القاهر ، كما تأتي الإشارة إليه من الشّارح في أثناء البحث.

ثمّ تقييد الخبر بالفعليّ ممّا يفهم من ضمن كلام الشّيخ عبد القاهر وإن لم يصرّح به وصاحب المفتاح مخالف للشّيخ ، لأنّه قائل بالحصر فيما إذا كان الخبر من المشتقّات نحو : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)(١) والمراد بالخبر الفعلي ما يكون فعلا صريحا أو اسما في معناه كاسم الفاعل مثلا ، ولهذا قال بالخبر الفعلي ، ولم يقل بالفعل ، فالمخالفة بين كلام الشّيخ وكلام صاحب المفتاح عندئذ بالعموم المطلق.

قيل : إنّ المراد بالخبر الفعلي هو الخبر الّذي أوّله فعل ، وفاعله ضمير المبتدأ لتصريحه بأنّ الصّفة المشبّهة في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) ليست خبرا فعليّا.

(١) أي وإن ولي المسند إليه المقدّم حرف النّفي ، فهو يفيد التّخصيص قطعا ، فيكون قوله : «وإن ولي حرف النّفي» شرطا محذوف الجزاء.

(٢) أي ليس قيدا هنا وإنّما أتى به لأنّه معتبر في حقيقة الولي اصطلاحا وإن لم يعتبر في حقيقته لغة لصدق الوليّ لغة مع الفاصل ، فلا يضرّ الفصل ببعض المعمولات مثلا نحو : ما زيدا أنا ضربت ، وما في الدّار أنا جلست ، ممّا يفيد التّخصيص ، ولهذا لم يجعل الشّارح صور الفصل المذكورة من جملة الصّور الدّاخلة تحت قوله الآتي.

(٣) أراد بالغير إنسانا وقع النّزاع بين المتكلّم والمخاطب في أنّ القول من المتكلّم أو من ذلك الغير ، فالمخاطب ينسب الفعل إلى المتكلّم من غير تعرّض لغيره ، فيقول المتكلّم ذلك لنفي ما زعم المخاطب.

(٤) أي عن المسند إليه المقدّم إن عامّا فعامّ ، وإن خاصّا فخاصّ ، نحو : ما أنا قلت شيئا ، أو ما أنا قلت هذا ، أي إذا نفى عن المتكلّم جميع الأفعال يثبت لغيره جميعها وإن

__________________

(١) سورة هود : ٩١.

٣٨٣

ولا يلزم (١) ثبوته لجميع من سواك لأنّ التخصيص (٢) ههنا إنّما هو بالنّسبة إلى من توهّم المخاطب اشتراكك معه في القول (٣) ، أو انفرادك (٤) به دونه [ولهذا] أي لأنّ التّقديم يفيد التّخصيص ، ونفي الحكم عن المذكور (٥) مع ثبوته للغير [لم يصحّ ما أنا قلت] هذا [ولا غيري] لأنّ مفهوم ما أنا قلت ثبوت قائليّة هذا القول لغير المتكلّم ومنطوق لا غيري نفيها عنه (٦) وهما (٧) متناقضان. [ولا ما أنا رأيت أحدا (٨)]

______________________________________________________

نفى عنه بعض الأفعال يثبت لغيره ذلك تحقيقا لمعنى العموم والخصوص.

(١) جواب عن سؤال مقدّر : وهو أنّه لما قيل : إنّ التّقديم يفيد تخصيص المسند إليه بالخبر المنفي ، فينبغي أن يثبت الفعل لجميع من سوى المتكلّم.

وحاصل الجواب : إنّه لا يلزم ثبوت الفعل المنفي عن المتكلّم لجميع من سواه ، وذلك لأنّ التّخصيص ههنا إنّما هو بالنّسبة إلى من توهّم المخاطب اشتراكك معه في القول أو انفرادك به دونه لا بالنّسبة إلى جميع من في العالم ، فيكون القصر في الأوّل قصر إفراد ، وفي الثّاني قصر قلب ، فانتظر التّفصيل في باب القصر.

(٢) أي التّخصيص المستفاد من المثال المذكور إنّما هو بالنّسبة إلى من توهّم المخاطب ...

فالقصر إضافيّ لا بالنّسبة إلى جميع النّاس حتّى يكون القصر حقيقيّا فيرد الاعتراض المذكور.

(٣) فيكون قصر إفراد.

(٤) فيكون قصر قلب وإن أريد بالتّوهّم التّردّد فيكون قصر تعيين.

(٥) أي المسند إليه المذكور ، وهو المتكلّم في المثال ، وعطف قوله : «ونفي الحكم» على «التّخصيص» عطف تفسيريّ.

(٦) أي نفي القائليّة عن الغير على نحو عموم النّفي ، لأنّ الغير نكرة في سياق النّفي ولا يكتسب التّعريف لتوغّله في الإبهام فيفيد عموم النّفي.

(٧) أي المفهوم والمنطوق متناقضان ، إذ مفاد المفهوم ثبوت قائل ، ومفاد المنطوق نفيه ، وثبوت القائليّة لغير المتكلّم ونفيها عنه في آن واحد متناقضان.

(٨) أي لا يصحّ هذا المثال أيضا بناء على ما يتبادر وهو الاستغراق الحقيقيّ ، وإن حمل على العرفيّ يصحّ ، لكنّه غير متبادر لوقوعه في حيّز النّفي.

٣٨٤

لأنّه (١) يقتضي أن يكون إنسان غير المتكلّم قد رأى كلّ أحد من الإنسان ، لأنّه قد نفي عن المتكلّم الرّؤية على وجه العموم في المفعول (٢) فيجب أن يثبت لغيره على وجه العموم في المفعول ليتحقّق تخصيص المتكلّم بهذا النّفي [ولا ما أنا ضربت إلّا زيدا (٣)] لأنّه يقتضي أن يكون إنسان غيرك قد ضرب كلّ أحد سوى زيد ، لأنّ المستثنى منه مقدّر عامّ ، وكلّ ما نفيته عن المذكور على وجه الحصر ، يجب ثبوته لغيره تحقيقا لمعنى الحصر إن عاما فعامّ ، وإن خاصّا فخاصّ (٤) ، وفي هذا المقام مباحث نفيسة وشحنا بها في الشّرح (٥) [وإلّا (٦)] أي وإن لم يل المسند إليه حرف النّفي ، بأن لا يكون في الكلام

______________________________________________________

(١) أي هذا الكلام على تقدير الصّحّة «يقتضي أن يكون إنسان غير المتكلّم قد رأى كلّ أحد من النّاس» وكلّ إنسان موجود على وجه الكرّة الأرضيّة ، وهو مستحيل عادة.

(٢) أي أعني أحدا ، فمعنى «ما أنا رأيت أحدا» ما رأيت كلّ أحد ، ولازم ذلك أن يكون هناك شخص رأى كلّ أحد ، وهو مستحيل عادة ، كما ذكرنا ، وهنا كلام طويل تركناه خوفا من التّطويل المملّ ، ومن يريد ذلك فعليه بالمطوّل.

(٣) أي لا يصحّ «ما أنا ضربت إلّا زيدا» لأنّ هذا التّركيب أعني تقديم المسند إليه على الفعل دون حرف النّفي يفيد بمنطوقه أنّ نفي الضّرب لكلّ أحد غير زيد مقصور على المتكلّم ، ويفيد بمفهومه أن يكون إنسانا غيره ضرب كلّ أحد ، لأنّ المستثنى منه في الاستثناء المفرّغ مقدّر عامّ يدخل فيه المستثنى ، فالتّقدير : ما أنا ضربت كلّ أحد إلّا زيدا.

والحاصل : إنّ مفاد مفهوم هذا الكلام أن يكون إنسان غير المتكلّم قد ضرب كلّ أحد غير زيد ، وهو باطل لتعذّره.

(٤) نحو : ما أنا قرأت إلّا الفاتحة ، فيصحّ الكلام ، لأنّ مفاده أنّ إنسانا غيره قرأ كلّ سورة إلّا الفاتحة ، ومثال العامّ مذكور في المتن.

(٥) أي زيّنّا بتلك المباحث النّفيسة في المطوّل ، فراجع.

(٦) نفي للشّرط السّابق أعني ولي حرف النّفي وعطف على قوله : «وإن ولي حرف النّفي» والمعنى : إن ولي المسند إليه المقدّم حرف النّفي فهو يفيد التّخصيص قطعا سواء كان منكرا أو معرّفا أو مظهرا أو مضمرا ، وإن لم يل المسند إليه حرف النّفي ، بأن لا يكون

٣٨٥

حرف النّفي ، أو يكون حرف النّفي متأخّرا عن المسند إليه (١) [فقد يأتي] التّقديم [للتّخصيص (٢)] ردّا [على من زعم انفراد (٣) غيره] أي غير المسند إليه المذكور [به] أي بالخبر الفعليّ [أو] زعم (٤) [مشاركته] أي مشاركة الغير [فيه] أي في الخبر الفعلي [نحو : أنا سعيت في حاجتك] لمن زعم انفراد الغير بالسّعي فيكون قصر قلب (٥) ، أو زعم مشاركته لك في السّعي فيكون قصر إفراد (٦) [ويؤكّد (٧) على الأوّل] أي على تقدير كونه ردّا على من زعم انفراد الغير [بنحو لا غيريّ] مثل لا زيد ولا عمرو ، ولا من سواي ، لأنّه (٨) الدّالّ صريحا على نفي شبهة أنّ الفعل صدر عن الغير [و] يؤكّد [على

______________________________________________________

في الكلام حرف النّفي نحو : أنا قمت ، ويكون حرف النّفي متأخّرا عن المسند إليه نحو : أنت ما سعيت في حاجتي ، فقد يأتي التّقديم للتّخصيص ، فانتظر تفصيل ذلك.

وقيل : إنّ مجموع الشّرط والجزاء عطف على مجموع قوله : «وقد يقدّم ليفيد تخصيصه بالخبر الفعليّ إن ولي حرف النّفي ... وإلّا ، أي وإن لم يل المسند إليه حرف النّفي ... فقد يأتي للتّخصيص».

(١) نحو : أنا ما قمت ، فقد يفيد التّخصيص ، وقد يفيد التّقوّي.

(٢) أي لقصر الخبر الفعليّ بالمسند إليه.

(٣) فيكون القصر قصر قلب.

(٤) أي يكون لتّقديم للتّخصيص ردّا على من زعم مشاركة الغير للمسند إليه في الخبر الفعليّ فيكون القصر قصر إفراد.

(٥) أي فيكون التّخصيص قصر قلب ، لقلب حكم المخاطب.

(٦) أي فيكون التّخصيص قصر إفراد لقطع الشّركة.

(٧) أي المسند إليه ـ وهو أنا في قوله : «أنا سعيت في حاجتك» ، «على الأوّل» وهو أن يكون التّخصيص المستفاد من التّقديم ردّا على من زعم انفراد الغير ـ يؤكّد المسند إليه بمثل لا غيري ، أي أنا سعيت في حاجتك لا غيري.

(٨) أي نحو : لا غيري يدلّ بالمطابقة على إزالة شبهة اشتراك الغير في الفعل ، والتّأكيد إنّما يحسن بما يدلّ على المقصود بالمطابقة لا بالالتزام.

٣٨٦

الثّاني] أي على تقدير كونه (١) ردّا على من زعم المشاركة [بنحو وحدي (٢)] مثل منفردا أو متوحّدا أو غير مشارك أو غير ذلك ، لأنّه (٣) الدّالّ صريحا على إزالة شبهة اشتراك الغير في الفعل والتّأكيد إنّما يكون لدفع شبهة (٤) خالجت قلب السّامع ، [وقد يأتي لتقوّي الحكم (٥)] وتقريره في ذهن السّامع دون التّخصيص [نحو : هو يعطي الجزيل (٦)] قصدا إلى تحقيق أنّه (٧) يفعل إعطاء الجزيل ،

______________________________________________________

(١) أي التّخصيص والتّقديم.

(٢) لأنّ الغرض من التّأكيد على هذا الفرض هو دفع اشتراك الغير في الفعل ، وما يدلّ صريحا على إزالة شبهة اشتراك الغير في الفعل هو قوله : «وحدي» كما أشار إليه بقوله : «لأنّه الدّالّ صريحا على إزالة شبهة اشتراك الغير في الفعل».

(٣) أي «وحدي» هو الدّالّ صريحا على إزالة الشّبهة بالمطابقة بخلاف لا غيري حيث لا يدلّ على نفي الاشتراك إلّا بالالتزام.

(٤) والشّبهة في الأوّل هي أنّ الفعل صدر عن غيرك ، وفي الثّاني : أنّه صدر منك بمشاركة الغير والدّالّ صريحا ومطابقة على دفع الأوّل نحو : لا غيري ، وعلى الثّاني نحو : وحدي دون العكس.

(٥) وجه التّقوّي : هو أنّ المبتدأ لكونه مبتدأ يستدعى ما يسند إليه فإذا جاء بعده ما يصلح أن يسند إليه صرف المبتدأ إلى نفسه وإذا صرفه إلى نفسه فقد انعقد بينهما حكم ، ثمّ إذا كان متضمّنا لضمير المبتدأ صرف ذلك الضّمير إيّاه أي المسند إلى المبتدأ ثانيا بسبب عوده إليه ، فلا جرم يكسي الحكم قوّة.

(٦) فتقديم المسند إليه أعني «هو» مفيد للتّقوّي ، لأنّ المبتدأ طالب للخبر ، فإذا كان الفعل بعده صرفه إلى نفسه ، فيثبت له ، ثمّ ينصرف ذلك الفعل للضّمير الّذي قد تضمّنه ، وهو عائد إلى المبتدأ ، فصار الكلام بمثابة أن يقال : يعطي زيد الجزيل ، يعطي زيد الجزيل ، «الجزيل» أي الكثير ، أو العظيم والوسيع.

(٧) أي الفلان «يفعل إعطاء الجزيل» لا إلى أنّ غيره لا يفعل ذلك كي يكون للتّخصيص.

٣٨٧

وسيرد عليك (١) تحقيق معنى التّقوّي [وكذا (٢) إذا كان الفعل منفيّا] فقد يأتي التّقديم للتّخصيص ، وقد يأتي للتّقوّي ، فالأوّل (٣) نحو : أنت ما سعيت في حاجتي ، قصدا إلى تخصيصه (٤) بعدم السّعي والثّاني (٥) [نحو : أنت لا تكذب] وهو (٦) لتقوية الحكم المنفي وتقريره [فإنّه (٧) أشدّ لنفي الكذب من لا تكذب] لما فيه من تكرار الإسناد المفقود في لا تكذب (٨) ،

______________________________________________________

(١) أي يأتي في باب المسند عند قوله : «وأمّا كونه جملة فللتّقوّي» تحقيق معنى التّقوّي.

(٢) عطف على مقدّر ، تقديره : وقد يأتي للتّخصيص ، وقد يأتي لتقوية الحكم إذا كان الفعل مثبتا ، وكذا يأتي للتّخصيص وتقوية الحكم إذا كان الفعل منفيّا.

(٣) أي مثال الأوّل ، أي تقديم المسند إليه لقصد التّخصيص.

(٤) أي تخصيص المسند إليه بعدم السّعي ، ثمّ هذا الكلام يقال ، فيما إذا كان المخاطب يعلم أنّ هناك عدم سعي في حاجة المتكلّم ، ويعتقد أنّه يختصّ بغيره ، أو اشتراكا فيه ، فعلى الأوّل قصر قلب ، وعلى الثّاني قصر إفراد ، والمعنى أنت مختصّ بعدم السّعي لا غير وحده ولا معك.

(٥) أي مثال الثّاني ، أي تقديم المسند إليه لقصد تقوية الحكم «نحو : أنت لا تكذب».

(٦) أي التّقديم في المثال لتقوية الحكم المنفيّ ، كما أنّه في نحو : هو يعطي الجزيل ، لتقوية الحكم المثبت ، لأنّ الحكم أعمّ من أن يكون مثبتا أو منفيّا.

(٧) أي قوله : «أنت لا تكذب» ، «أشدّ لنفي الكذب من لا تكذب» ثمّ أشار الشّارح إلى وجه ذلك بقوله : «لما فيه» أي في نحو : «أنت لا تكذب» ، من تكرار الإسناد المفقود في «لا تكذب» لأنّ الفعل في «أنت لا تكذب» مسند مرّتين ، مرّة إلى المبتدأ ، ومرّة إلى الضّمير المستتر فهو بمثابة أن يقال : لا تكذب ، لا تكذب ، وقد يظهر من بيان علّة التّقوّي أنّ التّخصيص لا يخلو عن التّقوّي ، لأنّه مشتمل على الإسناد مرّتين ، إلّا أنّ التّقوّي في التّخصيص ليس مقصودا بالذّات ، بل حاصل بالتّبع.

(٨) إذ ليس في قوله : «لا تكذب» إلّا إسناد الفعل المنفيّ إلى فاعله المستتر فيه ، ففقد منه ما يحصل به التّأكيد ، وهو تكرير الإسناد.

٣٨٨

واقتصر (١) المصنّف على مثال التّقوّي ليفرع عليه التّفرقة بينه وبين تأكيد المسند إليه ، كما أشار إليه بقوله : [«وكذا من لا تكذب أنت»] يعني أنّه أشدّ لنفي الكذب من لا تكذب أنت مع أنّ فيه (٢) تأكيدا [لأنّه] أي لأنّ لفظ أنت ، أو لأنّ لفظ لا تكذب أنت [لتأكيد المحكوم عليه] بأنّه ضمير المخاطب تحقيقا ، وليس الإسناد إليه على سبيل السّهو أو التّجوّز أو النّسيان (٣) [لا] لتأكيد [الحكم] لعدم تكرار الإسناد (٤) ، وهذا الّذي ذكر من أنّ التّقديم للتّخصيص تارة ، وللتّقوّي أخرى إذا بنى (٥) الفعل على معرّف [وإن بني

______________________________________________________

(١) جواب عن سؤال مقدّر : وهو أنّ المصنّف ذكر مثالين ، أي مثال التّخصيص ، نحو : أنا ما سعيت في حاجتك ، ومثال التّقوّي نحو : هو يعطي الجزيل ، في الفعل المثبت ، واقتصر في الفعل المنفيّ بمثال التّقوّي ، ولم يذكر مثال التّخصيص مع أنّ مقتضى القياس ذكرهما أو تركهما.

وحاصل الجواب : إنّ المصنّف اقتصر في الفعل المنفي على مثال التّقوّي «ليفرّع عليه» أي على مثال التّقوّي «التّفرقة بينه» أي بين التّقوّي في «أنت لا تكذب» ، «وبين تأكيد المسند إليه» والفرق بينهما أنّ نحو : أنت لا تكذب ، أشدّ لنفي الكذب من لا تكذب أنت ، والأوّل للتّقوّي ، والثّاني لتأكيد المسند إليه.

(٢) أي في لا تكذب أنت تأكيدا للمسند إليه ، ولذا ذكره بلفظ كذا. وقد يقال : إنّ التّفريع المذكور يتحقّق مع ذكر مثال للتّخصيص أيضا بأنّ يذكر مثال التّخصيص ، ثمّ مثال التّقوّي ، ثمّ يفرع عليه ذلك إلّا أن يقال : إنّه قصد الاقتصار على أحد المثالين اختصارا ، فلمّا دار الأمر بين أحدهما اقتصر على مثال التّقوّي ليفرّع عليه ، فالمعنى اقتصر المصنّف على مثال التّقوّي ولم يذكرهما جميعا اختصارا «ليفرّع عليه التّفرقة».

(٣) أي إنّ ذكر أنت في «لا تكذب أنت» يدلّ على أنّ نسبة عدم الكذب إلى المخاطب ليست بالسّهو والمجاز ، لا على أنّ الكذب عنه منتف البتّة.

(٤) والفرق بين تأكيد الحكم وتأكيد المحكوم عليه أنّ تأكيد الحكم المفيد للتّقوّي أن يكون الإسناد مكرّرا ، بخلاف تأكيد المحكوم عليه فإنّ الإسناد فيه واحد وفائدته دفع توهّم تجوّز أو غلط أو نسيان.

(٥) إشارة إلى تعيين ما عطف عليه قوله الآتي أعني «وإن بني الفعل على منكّر»

٣٨٩

الفعل على منكّر أفاد] التّقديم [تخصيص الجنس (١) أو الواحد به] أي بالفعل [نحو :

رجل جاءني أي لا امرأة] فيكون تخصيص جنس [أو لا رجلان] فيكون تخصيص واحد وذلك (٢) أنّ اسم الجنس حامل لمعنيين الجنسيّة والعدد المعيّن أعني الواحد إن كان مفردا أو الاثنين إن كان مثنّى والزّائد عليه إن كان جمعا ،

______________________________________________________

سواء كان الفعل مثبتا أو منفيّا ولمّا سبقت أمثلة البناء على المعرّف دون البناء على المنكّر ، اختار في الأوّل كلمة إذا الدّالّة على التّحقيق والثّبوت حيث قال : «إذا بني الفعل على معرّف» وفي الثّاني كلمة «إن» حيث قال «إن بني الفعل على منكّر» ثمّ في لفظ البناء إشارة إلى تقديم المسند إليه ، لأنّ البناء يقتضي تقدّم المبني عليه الّذي هو كالأساس.

(١) المراد بالجنس ما يشمل على ما هو معنى الكلّي الطّبيعي سواء كان جنسا باصطلاح المنطق ، أو نوعا أو غير ذلك كالرّجل والمرأة ، ثمّ الظّاهر إنّ المراد بقوله : «أو الواحد» منع الخلوّ لا الجمع ، فقد يجتمعان نحو : رجل جاءني ، أي لا امرأة ، ولا رجلان ، فنفي الامرأة يفيد تخصيص الجنس ونفي الرّجل الواحد يفيد تخصيص الواحد ، فقوله : رجل جاءني يختلف حسب اختلاف المقامات ، فإنّ المخاطب بهذا الكلام إذا عرف أنّه قد أتاك آت ، ولم يدر جنسه أرجل هو أم امرأة ، أو اعتقد أنّه امرأة ، كان تقديم النّكرة هنا يفيد تخصيص الجنس ، فعلى الأوّل يكون قصر تعيين ، وعلى الثّاني قصر قلب ، وإذا عرف أنّه قد أتاك من هو من جنس الرّجال ، ولم يدر أرجل أم رجلان ، أو اعتقد أنّه رجلان ، كان تقديمها يفيد تخصيص واحد ، فعلى الأوّل قصر تعيين ، وعلى الثّاني قصر إفراد.

(٢) أي بيان ذلك الاختصاص «أنّ اسم الجنس حامل» أي متحمّل لشيئين :

الأوّل : الجنسيّة أعني كلّ فرد فرد من ذلك الجنس.

رجال جاؤوني ، أي لا واحد ولا اثنان فيما إذا كان اعتقاد المخاطب على جميع المحتملات ، ويجري فيه قصر القلب والإفراد حسب الاعتقاد.

الثّاني : العدد المعيّن ، ولا يلزم أن يكون العدد المعيّن واحدا ، بل قد يكون واحدا ، وقد يكون اثنين ، وقد يكون فوق ذلك ، كما أشار إليه بقوله : «والزّائد عليه» أي على العدد المعيّن «إن كان جمعا» نحو : رجال جاؤوني لا النّساء فيما إذا كان المخاطب اعتقد أنّ الجائي من جنس المرأة فقط فيكون التّخصيص قصر قلب ، أو هو من جنس الرّجل

٣٩٠

فأصل النّكرة المفردة أن تكون لواحد (١) من الجنس. فقد يقصد به (٢) الجنس فقط ، وقد يقصد به الواحد فقط (٣) ، والّذي (٤) يشعر به كلام الشّيخ في دلائل الإعجاز أنّه لا فرق بين المعرفة والنّكرة في أنّ البناء عليه (٥) قد يكون للتّخصيص ، وقد يكون للتّقوّي [ووافقه] أي عبد القاهر [السّكّاكي على ذلك] أي على أنّ التّقديم يفيد التّخصيص (٦) ولكن خالفه (٧)

______________________________________________________

والمرأة فيكون قصر إفراد. ويجوز أن ينصرف إلى العدد ، فيقال في المفرد : رجل جاءني ، أي لا اثنان ولا جماعة ، وفي المثنّى رجلان جاءاني أي ولا واحد ولا جماعة ، وفي الجمع.

(١) أي فيكون مقابلا للتّثنية والجمع ، ومعنى قوله : «أن تكون لواحد من الجنس» أي تستعمل في واحد ملحوظ فيه الجنس بحيث تكون دالّة على الأمرين الواحد والجنس.

(٢) أي بلفظ النّكرة يقصد به الجنس فقط ، وعلى هذا لا يجوز أن يثنّى ويجمع إذ لا تعدّد في الماهيّة ، ولا يقصد به الواحد للعلم به كما إذا اعتقد المخاطب بنحو : رجل جاءني ، أنّه قد أتاك آت ، ولم يدر جنسه أرجل أو امرأة ، فالمقصود من الرّجل هو الجنس فقط.

(٣) أي يقصد بلفظ النّكرة الواحد من الجنس لا الواحد فقط ، فهذا التّعبير من الشّارح لا يخلو عن تسامح ، بل المراد يقصد به الواحد من الجنس ، ولا يقصد به الجنس للعلم به ، كما إذا عرف أنّه قد أتاك من هو من جنس الرّجال ، ولم يدر أرجل هو أم رجلان ، وقد يقصد به كلاهما كما عرفت.

(٤) هذا اعتراض على المصنّف بأنّه قال : إذا بني على منكّر تعيّن فيه التّخصيص ، ولا يفيد التّقوّي أصلا ، مع أنّ هذا الكلام نقل عن عبد القاهر ، وكلامه في دلائل الإعجاز يشعر بإفادة النّكرة التّقوّي أيضا ، فلا فرق بين المعرفة والنّكرة.

(٥) أي المسند إليه.

(٦) أي ولم يقل : إنّ التّقديم يفيد التّقوّي ، لأنّ محلّ النّزاع بينهما هو التّخصيص ، وأمّا التّقوّي فموجود في جميع صور التّقديم ، فتقديم المسند إليه يفيد التّخصيص عند السّكّاكي ، سواء كان معرفة أو نكرة.

(٧) أي خالف السّكّاكي عبد القاهر في بعض الأمور كما أشار إليه بقوله : «في شرائط ...».

٣٩١

في شرائط (١) وتفاصيل (٢) ، فإنّ مذهب الشّيخ أنّه (٣) إن ولي حرف النّفي فهو (٤) للتّخصيص قطعا ، وإلّا (٥) فقد يكون للتّخصيص ، وقد يكون للتّقوّي مضمرا كان الاسم أو مظهرا معرّفا كان أو منكّرا ، مثبتا كان الفعل أو منفيّا ، ومذهب السّكّاكي أنّه (٦) إن كان نكرة فهو للتّخصيص إن لم يمنع منه مانع ، وإن كان معرفة ،

______________________________________________________

(١) وهي ثلاثة : الأوّل : جواز تأخير المسند إليه على أنّه فاعل في المعنى فقط.

والثّاني : تقدير أنّه كان مؤخّرا في الأصل ، فقدّم لإفادة التّخصيص.

والثّالث : أن لا يمنع من التّخصيص مانع.

فهذه الشّروط لا يقول بها عبد القاهر ، إذ المدار عنده على تقدّم حرف النّفي ، فمتى تقدّم حرف النّفي على المسند إليه كان التّقديم للتّخصيص.

(٢) وهي ترجع إلى ثلاثة ، أي ما يكون التّقديم للتّقوّي فقط ، وما يكون للتّخصيص فقط ، وما يحتملهما ، وقد أشار إليها الشّارح بقوله : «ومذهب السّكّاكي».

(٣) أي المسند إليه إن ولي حرف النّفي فيكون تقديمه للتّخصيص.

(٤) أي التّقديم في مثل : ما أنا قلت «للتّخصيص قطعا».

(٥) أي وإن لم يل المسند إليه المقدّم حرف النّفي سواء كان هناك حرف نفي أم لا ، فقد يكون التّقديم للتّخصيص ، وقد يكون اللتّقوّي ، ومثال الأوّل : نحو : أنا سعيت في حاجتك ، مثال الثّاني : زيد يعطي الجزيل.

فحاصل الفرق بين ما ذهب إليه المصنّف وكلام الشّيخ عبد القاهر إنّما هو فيما إذا لم يل المسند إليه المقدّم حرف النّفي فيفيد التّخصيص أو التّقوّي إن كان معرفة ، أي إذا بني الفعل على معرّف ، وأمّا إذا بني الفعل على منكّر أفاد التّقديم التّخصيص فقط ، هذا بخلاف مذهب الشّيخ عبد القاهر حيث لم يفرّق بين كون المسند إليه المقدّم معرفة أو نكرة وعلى التّقديرين قد يكون التّقديم للتّخصيص ، وقد يكون للتّقوّي ، وأمّا إن ولي المسند إليه المقدّم حرف النّفي فهو للتّخصيص على كلا القولين.

(٦) أي المسند إليه المقدّم «إن كان نكرة فهو» أي التّقديم «للتّخصيص إن لم يمنع منه» أي التّخصيص «مانع» ، وسيأتي ما هو المانع عن التّخصيص فانتظر.

٣٩٢

فإن كان مظهرا فليس (١) إلّا للتّقوّي ، وإن كان مضمرا فقد يكون للتّقوّي ، وقد يكون للتّخصيص من غير تفرقة بين ما يلي حرف النّفي وغيره

______________________________________________________

(١) أي فليس التّقديم إلّا للتّقوّي ، أي إن كان المسند إليه المقدّم ظاهرا فليس التّقديم إلّا للتّقوّي. وحاصل الكلام : إنّ مذهب السّكّاكي مخالف لمذهب الشّيخ عبد القاهر حيث خالف السّكّاكي الشّيخ في الشّرائط والتّفاصيل ، وقد أشار المصنّف إلى مخالفة السّكّاكي الشّيخ عبد القاهر بقوله : «إلّا أنّه قال : التّقديم يفيد الاختصاص إن جاز تقدير كونه في الأصل مؤخّرا على أنّه فاعل معنى فقط».

بيان صور الوفاق والخلاف بين الشّيخين كما في الدّسوقي ، حيث قال : إنّ صور موافقة الشّيخين ثلاثة : الأولى : ما رجل قال هذا ، فإنّه يفيد التّخصيص جزما عند الشّيخ عبد القاهر لتقدّم حرف النّفي ، وعند السّكّاكي لتنكير المسند إليه.

وثانيتها وثالثتها : أنا ما قلت هذا ، أو أنا قلت هذا ، فإنّه محتمل للتّخصيص والتّقوّي عندهما لوقوع المسند إليه ضميرا ، أو لم يسبق بنفي.

وصور اختلافهما السّتّة الباقية ، إحداها : الضّمير الواقع بعد النّفي نحو : ما أنا قلت هذا ، فالتّقديم متعيّن للتّخصيص عند الشّيخ لتقدّم النّفي ، ومحتمل عند السّكّاكي لكون المسند إليه ضميرا.

وثانيتها : الاسم الظّاهر المعرّفة الواقع بعد النّفي نحو : ما زيد قال هذا ، فهو متعيّن للتّخصيص عند الشّيخ ، ومتعيّن للتّقوّي عند السّكّاكي.

وثالثتها : النّكرة الواقعة قبل النّفي ، نحو : رجل ما قال هذا ، فهو متعيّن للتّخصيص عند السّكّاكي ومحتمل عند الشّيخ.

رابعتها : الاسم الظّاهر الواقع قبل النّفي ، نحو : زيد ما قال هذا ، فهو محتمل عند الشّيخ ومتعيّن للتّقوّي عند السّكّاكي.

وخامستها : النّكرة الواقعة في الإثبات ، نحو : رجل قال هذا ، فهو متعيّن للتّخصيص عند السّكّاكي ، ومحتمل عند الشّيخ.

وسادستها : المعرفة المظهرة الواقعة في الإثبات نحو : زيد قال هذا ، فهو متعيّن للتّقوّي عند السّكّاكي ، ومحتمل عند الشّيخ.

٣٩٣

وإلى هذا (١) أشار بقوله : [إلّا أنّه] أي السّكّاكي [قال : التّقديم (٢) يفيد الاختصاص إن جاز تقدير كونه] أي المسند إليه [في الأصل مؤخّرا على أنّه فاعل معنى فقط] لا لفظا [نحو : أنا قمت] فإنّه يجوز أن يقدّر أنّ أصله قمت أنا ، فيكون أنا فاعلا معنى تأكيدا لفظا [وقدّر] عطف على جاز يعني أنّ إفادة التّخصيص مشروط بشرطين : أحدهما جواز التّقدير (٣)

______________________________________________________

وعلم من هذا أنّه ليس عند الشّيخ قسم يتعيّن فيه التّقوّي ، بل حاصل مذهبه التّفصيل إلى ما يجب فيه التّخصيص ، وإلى ما يجوز فيه التّقوّي والتّخصيص ، وشرطه في الأوّل تقديم النّفي فقط.

وحاصل مذهب السّكّاكي التّفصيل إلى ما يجب فيه التّخصيص ، وإلى ما يجب فيه التّقوّي ، وإلى ما يجوز فيه الأمران ، وشرط في الأوّل جواز تأخير المسند إليه على أنّه فاعل في المعنى فقط مقدّر التّقديم عن تأخير مع كون النّكرة خالية عن المانع الّذي يمنع من التّخصيص.

(١) أي إلى مخالفة السّكّاكي للشّيخ عبد القاهر أشار المصنّف بقوله : «إلّا أنّه» ، وبيان ما أفاده السّكّاكي في المقام على الإجمال ، وأشار إليه المصنّف فقد أشار إلى أنّ المسند إليه إن كان مضمرا قد يكون تقديمه للتّخصيص بقوله : «إن جاز تقدير كونه ..» وأشار إلى أنّ المسند إليه إذا كان نكرة كان تقديمه للتّخصيص إن لم يمنع مانع منه بقوله : «واستثنى المنكر» وأشار إلى أنّ المسند إليه المعرّف إذا كان اسما ظاهرا فتقديمه ليس إلّا للتّقوّي بقوله : «بخلاف المعرفة» وأشار إلى أنّه إذا كان مضمرا فقد يكون للتّقوّي بقوله : «وإلّا فلا يفيد إلّا التّقوّي».

(٢) أي قال السّكّاكي إنّ تقديم المسند إليه «يفيد الاختصاص» بشرطين ، أشار المصنّف إلى الشّرط الأوّل بقوله : «إن جاز» عند علماء العربيّة وفي اصطلاحهم وعلى قواعدهم «تقدير كونه» أي المسند إليه المقدّم «في الأصل مؤخّرا» بناء «على أنّه فاعل معنى فقط» لا لفظا ، أي لا في الاصطلاح «نحو : أنا قمت» فإنّه يصحّ أن يكون أصله قمت أنا ، فيكون أنا فاعلا في المعنى ، وإنّما كان فاعلا في المعنى لأنّ المؤكّد عين المؤكّد محلا ، فيكون عينه معنى ، لكنه ليس فاعلا اصطلاحا ، بل إنّه تأكيد للفاعل لفظا واصطلاحا ، إلّا أنّه قدّم وجعل مبتدأ. هذا هو الشّرط الأوّل ، وقد أشار إلى الشّرط الثّاني بقوله : «وقدّر».

(٣) أي تقدير الفاعليّة.

٣٩٤

والآخر أن يعتبر ذلك ، أي يقدّر أنّه (١) كان في الأصل مؤخّرا [وإلّا] أي وإن لم يوجد الشّرطان (٢) [فلا يفيد] التّقديم (٣) [إلّا تقوّي الحكم] سواء (٤) [جاز] تقدير التّأخير [كما مرّ (٥)] في نحو : أنا قمت [ولم يقدّر أو لم يجز] تقدير التّأخير أصلا (٦) [نحو : زيد قام (٧)] فإنّه لا يجوز أن يقدّر (٨) أنّ أصله قام زيد ،

______________________________________________________

(١) أي المسند إليه كان في الأصل مؤخرا حقيقة على أنّه فاعل معنى ، فلا يكفي مجرّد إمكان جواز التّأخير ، بل إنّه كان مؤخّرا ، ثمّ قدّم لأجل إفادة التّخصيص.

وبالجملة إنّ التّقديم عند السّكّاكي يفيد التّخصيص بشرطين :

الأوّل : إمكانيّة فرض التأخير.

والثّاني : وقوع ذلك الفرض حتّى ينطبق على الاسم المقدّم ما هو المشهور عندهم من أنّ تقديم ما حقّه التّأخير يفيد الحصر والاختصاص.

(٢) سواء انتفاؤهما بانتفاء أحدهما أو بانتفاء كلّ واحد منهما.

(٣) أي لا يفيد تقديم المسند إليه «إلّا تقوّي الحكم».

(٤) إشارة إلى كفاية انتفاء أحد الشّرطين ، أي سواء كان انتفاء الشّرطين بانتفاء نفس التّقدير ، أو بانتفاء جواز التّقدير أو بانتفائهما معا.

(٥) في نحو : أنا قمت ، ولم يقدّر ، أو لم يجز أصلا نحو : زيد قام ، فإنّه لا يجوز أن يقدّر أنّ أصله قام زيد ، فقدّم زيد لما سيأتي عند قوله : «بخلاف المعرّف».

(٦) انتفاء جواز التّقدير يستلزم انتفاء التّقدير ، لأنّه لو لم يجز التّقدير لا يقدّر ، ومعنى قوله : «أصلا» أي لا على أنّه فاعل معنى فقط ، ولا على أنّه فاعل لفظا أيضا.

(٧) أي ممّا كان المسند إليه فيه معرفة من غير الضّمائر ، فلا يجوز تقدير التّأخير فيه بأن يقال : كان أصله قام زيد ، فقدّم ، لأنّ زيدا حينئذ فاعل لفظا ومعنى ، ولا يصحّ تقديمه على الفعل كما عرف في النّحو.

(٨) لأنّه إذا كان المسند إليه اسما ظاهرا ، كما في المثال المذكور لم يجز تأخيره بأن يكون فاعلا في المعنى فقط ، لأنّه إذا أخّر كان فاعلا في المعنى واللّفظ ، فلا يجوز تقديمه على الفعل ، إذ لا يجوز تقديم الفاعل الحقيقيّ على الفعل.

٣٩٥

فقدّم لما سنذكره (١) ، ولمّا كان مقتضى هذا الكلام (٢) أن لا يكون نحو : رجل جاءني مفيدا للتّخصيص (٣) ، لأنّه إذا أخّر فهو فاعل لفظا لا معنى (٤) ، استثناه (٥) السّكّاكي وأخرجه (٦) من هذا الحكم بأن جعله (٧) في الأصل مؤخّرا على أنّه فاعل معنى لا لفظا بأن يكون بدلا من الضّمير الّذي هو فاعل لفظا لا معنى (٨) وهذا (٩) معنى قوله : [واستثنى] السّكّاكي [المنكر (١٠)

______________________________________________________

(١) عند شرح قوله : «بخلاف المعرّف» من أنّه إذا أخّر يكون فاعلا لفظا لا معنى فقط ، فيلزم على تقدير كون أصل زيد قام ، قام زيد ، فلا يجوز تقديم الفاعل اللّفظي.

(٢) أي كلام السّكّاكي وهو قوله : «التّقديم يفيد الاختصاص إن جاز تقدير كونه في الأصل مؤخّرا ...»

(٣) وذلك لانتفاء الشّرط الأوّل ، وهو جواز كونه في الأصل مؤخّرا على أنّه فاعل معنى فقط ، لأنّك إذا قلت : جاءني رجل ، فهو فاعل لفظا مثل قام زيد ، فيجب أن لا يفيد إلّا التّقوّي مثل زيد قام.

(٤) أي لا معنى فقط.

(٥) جواب لمّا.

(٦) أي أخرج السّكّاكي (رجل جاءني) «من هذا الحكم» أي من عدم إفادة التّخصيص ، وهو ما أشار إليه بقوله : «وإلّا أي وإن لم يوجد الشّرطان فلا يفيد إلّا التّقوّي».

وبعبارة أخرى : أخرجه من الحكم بامتناع التّخصيص فيما لم يجز تقدير كونه في الأصل مؤخّرا على أنّه فاعل معنى فقط.

(٧) أي نحو : رجل جاءني.

(٨) أي لا معنى فقط.

(٩) أي ما ذكره الشّارح من قوله : «ولمّا كان مقتضى هذا الكلام ...» ، «معنى قوله» أي قول المصنّف «واستثنى» السّكّاكي.

(١٠) أي استثناه من قوله : «وإن لم يوجد الشّرطان فلا يفيد إلّا التّقوّي» ثمّ إنّ المنكر الّذي استثناه كان المراد منه الخالي عن مسوّغ الابتداء بالنّكرة ، أي الّذي لا يصحّ الحكم عليه حال تنكيره ، لأنّه المحتاج إلى اعتبار التّخصيص ، وأمّا المنكر الّذي فيه المسوّغ ،

٣٩٦

بجعله (١) من باب (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(١) (٢) أي على القول بالإبدال من الضّمير] يعني قدّر بأنّ أصل رجل جاءني ، جاءني رجل ، على أنّ رجل ليس بفاعل ، بل هو بدل من الضّمير في جاءني ، كما ذكر في قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) إنّ الواو فاعل (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل منه وإنّما جعله من هذا الباب [لئلّا ينتفي التّخصيص (٣) إذ لا سبب له]

______________________________________________________

ويصحّ عليه الحكم بدون اعتبار التّقديم والتّأخير ، نحو : بقرة تكلّمت ، فلا حاجة فيه إلى اعتبار التّخصيص بالتّقديم والتّأخير ولا بغيره.

(١) أي جعل السّكّاكي نجو : رجل قام ، أي جعله مثل (الَّذِينَ) في الآية ، فكما أنّ (الَّذِينَ) في الآية بدل من الواو على قول كذلك رجل في نحو : رجل قام كان بدلا عن الضّمير في (قام) حينما كان مؤخّرا ، فقدّم للتّخصيص.

(٢) الشّاهد : في أنّ (الَّذِينَ) بدل عن الفاعل ، وهو واو الجمع في (وَأَسَرُّوا) هذا على قول ، وأمّا على القول بأنّه مبتدأ و (وَأَسَرُّوا) خبر مقدّم ، وكذا القول بجعل (الَّذِينَ) فاعلا عن (وَأَسَرُّوا) والواو في (وَأَسَرُّوا) حرف زيد ليؤذن من أوّل وهلة أنّ الفاعل جمع ، وكذا على القول بجعل (الَّذِينَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الّذين ... ، فلا يكون مثال المنكر في المقام من باب (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ،) وإنّما جعل نحو : رجل جاءني من باب الإبدال عن الضّمير ومن باب (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) على القول بالإبدال «لئلّا ينتفي التّخصيص ...» ، فقوله : «لئلّا ينتفي التّخصيص» علّة لجعل السّكّاكي نحو : رجل جاءني من باب (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية.

(٣) أي لئلّا ينتفي التّخصيص المسوّغ للابتداء بالنّكرة ، فالمراد من التّخصيص إمّا ما يصحّ به وقوع النّكرة مبتدأ أو المراد به الحصر أعني إثبات الحكم للمذكور ونفيه عن غيره ، وهو أنسب بمحلّ الكلام ، لكنّ الأوّل أوفق بما سينقله الشّارح عن السّكّاكي أنّه قال : إنّما ارتكب ذلك الوجه البعيد عند المنكر لفوات شرط الابتداء ، أي بالنّكرة ، ويردّه المصنّف فيما يأتي بأنّ التّخصيص المسوّغ للابتداء بالنّكرة لا ينحصر في جعل المنكّر من الباب المذكور ، بل يحصل بغيره كالتّعظيم والتّحقير والتّقليل والتّكثير.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٣.

٣٩٧

أي للتّخصيص (١) [سواه] أي سوى تقدير كونه (٢) مؤخّرا في الأصل على أنّه (٣) فاعل معنى ولو لا أنّه (٤) مخصّص لما صحّ وقوعه مبتدأ. [بخلاف المعرّف (٥)] فإنّه يجوز وقوعه مبتدأ من غير اعتبار التّخصيص ،

______________________________________________________

(١) أي ولا مسوّغ لكون النّكرة مبتدأ سوى تقدير رجل في نحو : رجل جاءني مؤخّرا في الأصل ثمّ قدّم.

(٢) أي كون رجل مؤخّرا.

(٣) أي رجل في نحو : رجل جاءني.

(٤) أي رجل جاءني «مخصّص لما صحّ وقوعه مبتدأ» فكان السّكّاكي مضطرّا إلى التّخصيص في المنكّر لأجل صحّة الابتداء به ولا يحصل التّخصيص إلّا بجعله من هذا الباب لأنّ بجعله منه يحصل الشّرطان المحصّلان للتّخصيص.

وقد يقال : إنّ المراد بالتّخصيص المسوّغ للابتداء بالنّكرة تقليل الأفراد والشّيوع لا بمعنى إثبات الحكم للمذكور ونفيه عن غيره الّذي كلامنا فيه.

(٥) نحو : زيد قام مثلا «فإنّه» أي المعرّف «يجوز وقوعه مبتدأ من غير اعتبار التّخصيص» بمعنى تقليل الأفراد والشّيوع ، إذ لا شيوع في المعرّف حتّى يخصّص ، بل هو معيّن معلوم ، فلا يجوز أن يقال : كان أصل زيد قام ، قام زيد على أنّه فاعل قام ضمير مستتر فيه ، وزيد بدل فقدّم إذ لا ضرورة تقتضي ذلك.

وحاصل الكلام في الفرق بين المنكّر والمعرّف أنّ الكلام في المنكّر يردّد بين وجهين بعيدين ، أحدهما : أن يجعل المنكّر مبتدأ من غير تقديم وتأخير ، والآخر أن يحمل أصل الكلام على نحو : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فيجوز الحمل على الوجه الأوّل لإفادة التّحقيق وإثبات الحكم ، وعلى الوجه الثّاني لإفادة التّخصيص ، لكنّ الوجه الأوّل أبعد ، لأنّ كون المبتدأ نكرة مستبعد جدّا بخلاف الوجه الثّاني ، لأنّ كون الاسم الظّاهر بدلا من الضّمير المستتر وإن كان قليلا إلّا أنّه غير مستبعد بخلاف المعرّف ، فإنّ تردّد الكلام فيه بين أمر بعيد وأمر شائع ، والأولى حمل الكلام على الوجه الشّائع وهو جعل المعرّف مبتدأ من دون فرض التّقديم والتّأخير فيه.

٣٩٨

فلزم ارتكاب هذا الوجه البعيد (١) في المنكّر دون المعرّف.

فإن قيل (٢) : فيلزمه إبراز الضّمير في مثل جاءاني رجلان ، وجاؤوني رجال ، والاستعمال بخلافه.

______________________________________________________

(١) وهو جعله من باب (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بأن يجعل الضّمير فاعل الفعل ، ثمّ إبدال الظّاهر منه.

(٢) حاصل السّؤال أنّه على القول بالإبدال «فيلزمه» أي السّكّاكي «إبراز الضّمير» أي يلزم من جعل أصل رجل جاءني ، جاءني رجل ، على أنّ رجل ليس بفاعل ، بل هو بدل من الضّمير ، ووجوب إبراز الضّمير واطّراده في مثل جاءاني رجلان ، وجاؤوني رجال ، على أنّ رجلان ورجال يدلّان من الضّميرين البارزين قياسا على المفرد مع أنّ الاستعمال «بخلافه» أي بخلاف إبراز الضّمير.

وحاصل الجواب :

منع الملازمة بين كون رجل في نحو : جاءني رجل مؤخّرا في الأصل على أنّه بدل من الضّمير المستتر وبين كون رجل في نحو : جاءني رجل بدلا أيضا من الضّمير المستتر في جاءني ، وملخّصه أنّه ليس المراد أنّ المرفوع في قولك : جاءني رجل ، بدل لا فاعل حتّى يلزمه وجوب الإبراز في جاءاني رجلان ، وجاؤوني رجال ، وجعل رجلان ورجال بدلين ، بل مراده أنّه يقدّر في قولك : رجل جاءني أنّ الأصل جاءني رجل ، على أنّ رجل بدل لا فاعل ، ولا يلزم من تقدير ذلك في رجل جاءني ، القول بالبدليّة بالفعل في جاءني رجل الّذي أخّر فيه المنكّر لفظا ومعنى حتّى يلزم القول بالبدليّة بالفعل ووجوب الإبراز في جاءاني رجلان ، وجاؤوني رجال أيضا ، فالّذي قاله السّكّاكي : أنّه في صورة تقديم المنكّر يقدّر المنكّر مؤخّرا في الأصل وأنّه فاعل معنى فقط بدل لفظا ، ففي مثل رجل جاءني ، يقدّر الأصل جاءني رجل ، على أنّ رجل بدل لا فاعل ، وفي رجلان جاءاني ، جاءاني رجلان ، وكذلك في رجال جاؤوني ، جاؤوني رجال ، على أنّ رجال بدل لا فاعل ، كلّ ذلك على سبيل التّقدير والاعتبار ولا يلزم من ذلك القول بالبدليّة بالفعل فيما أخّر فيه المنكّر لفظا ومعنى.

٣٩٩

قلنا : ليس مراده أنّ المرفوع في قولنا : جاءني رجل بدل لا فاعل ، فإنّه ممّا لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل ، بل المراد أنّ المرفوع في مثل قولنا : رجل جاءني أن يقدّر أنّ الأصل جاءني رجل ، على أنّ رجلا بدل لا فاعل ففي مثل رجال جاؤوني يقدّر أنّ الأصل جاؤوني رجال فليتأمّل (١). [ثمّ (٢) قال] السّكّاكي [وشرطه (٣)] أي وشرط كون المنكّر من هذا الباب (٤) واعتبار التّقديم والتّأخير فيه [إذا لم يمنع من التّخصيص مانع (٥) كقولك : رجل جاءني (٦) ، على ما مرّ] أنّ معناه (٧) رجل جاءني لا امرأة أو لا رجلان (٨) [دون قولهم شرّ أهرّ ذا ناب (٩)]

______________________________________________________

(١) لعلّه إشارة إلى أنّ تقدير كون المسند إليه في الأصل مؤخّرا على أنّه فاعل معنى مجرّد اعتبار بل مجرّد فرض ، ومن البديهي أنّ فرض المحال ليس بمحال ، فبمجرّد تقدير الوقوع لا يستلزم الوقوع كي يكون ذلك خلاف الاستعمال.

(٢) كلمة «ثمّ» العاطفة هنا وفي جميع ما سيأتي إنّما هي لمجرّد التّرتيب في الذّكر والتّدرّج في مدارج الارتقاء ، وذكر ما هو الأولى ، ثمّ الأولى دون اعتبار التّراخي والبعد بين تلك المدارج ، ولا أنّ الثّاني بعد الأوّل في الزّمان ، لأنّ قول السّكّاكي : إذا لم يمنع مانع ، متّصل ببيان التّخصيص والاستثناء.

(٣) بيان للشّرط الثّالث ، فحاصل كلام السّكّاكي إلى هنا أنّ تقديم المسند إليه المنكّر يفيد التّخصيص بثلاثة شروط ، وقد تقدّم الكلام في الشّرط الأوّل والثّاني ، والشّرط الثّالث أن لا يمنع من التّخصيص مانع.

(٤) أي من باب (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).

(٥) هذا توطئة لبيان انتفاء التّخصيص فيقولهم : شرّ أهرّ ذا ناب ، وذلك لوجود مانع فيه.

(٦) مثال لما لا مانع فيه من التّخصيص كما مرّ ، فهو مثال المنفيّ.

(٧) أي معنى رجل جاءني ، رجل جاءني لا امرأة ، فيكون لتخصيص الجنس ، ويكون قصر قلب.

(٨) أو معناه رجل جاءني لا رجلان فيكون لتخصيص الواحد ويكون قصر إفراد.

(٩) الهرير صوت الكلب عند تأذّيه وعجزه عن دفع ما يؤذيه ، أي شرّ جعل الكلب ذا النّاب مهرّا أي مصوّتا ومفزعا.

٤٠٠