دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

[بسم الله الرّحمن الرّحيم (١)]

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في البسملة من جهات : الأولى : بيان سبب ذكرها في أوّل الكتاب.

الثّانية : بيان إعرابها.

الثّالثة : بيان ما هو الحقّ في اشتقّاق أو جمود ما فيها من الكلمات.

ملخّص الكلام في الأولى : إنّ السّبب لذكرها في أوّل الكتاب أمور :

الأوّل : هو الاقتداء بالذّكر الحكيم والقرآن الكريم.

الثّاني : العمل بقول النّبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث روي عنه «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم فهو أبتر».

الثّالث : الاتّباع للعلّماء السّابقين حيث كانوا يفتتحون كتبهم بالبسملة من باب التّيمّن والتّبرّك باسم الله تعالى.

إن قلت إنّ حديث الابتداء مروي في كل من التّسميّة والتّحميد ، وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» فكيف يمكن التّوفيق بين الحديثين؟

قلت : يمكن الجمع بينهما بأحد الأوجه التّالية :

الأوّل : أن يكون المراد منهما مطلق ذكر الله تعالى ، فيتحقّق بكل منهما.

الثّاني : أن يكون الابتداء في حديث التّسميّة محمولا على الابتداء الحقيقي بأن يكون ذكر البسملة سابقا وغير مسبوق بشيء ، وفي حديث التّحميد محمولا على الابتداء الإضافي بأن يكون ذكر التّحميد سابقا على المقصود فقط. فلا ينافي أن يكون مسبوقا بالتّسميّة.

الثّالث : أن يكون الابتداء فيهما محمولا على الإضافي أو العرفي.

الرّابع : أن يكون الابتداء في أحدهما باللّسان وفي الآخر بالكتابة.

محصّل الكلام في الثّانية : إنّ الباء من حروف الجرّ فتؤثّر في مدخولها ـ وهو اسم ـ أثّر الجرّ وكسرت لتكون حركتها على طبق عملها. ثمّ المراد بها إمّا الاستعانة وإمّا المصاحبة.

قال الشّيخ موسى البامياني رحمه‌الله ، ما هذا لفظه :

قد رجّحت الثّانية على الأولى بأنّها تدلّ على التّعظيم من دون أن تكون متضمّنة لما يكون منبئا عن سوء الأدب بخلاف الأولى فإنّها متضمّنة لجعل اسم الله سبحانه آلة للنّيل إلى المقصود ، وهو مشعر بنحو من إساءة الأدب بالإضافة إلى ساحة عزه تعالى.

٢١

أقول : الظّاهر إنّ الأمر بالعكس ، أي جعلها للاستعانة أولى من جعلها للمصاحبة ، فإنّ الاستعانة صريحة في التّعظيم والتّبرّك باسم الله سبحانه ، بخلاف المصاحبة فإنّها وإن كانت مشعرة بالتّعظيم لكن لم تكن في الدّلالة عليه بمثابة الاستعانة.

والقول بأنّها منبئة عن إساءة الأدب لا يصغى إليه ، ضرورة أنّ التّبرّك باسم الله سبحانه وجعله سببا للنّيل إلى المقصود ليس فيه شائبة من إساءة الأدب ، بل فيه إظهار عقيدة وخلوص في ساحة عزّه سبحانه. هذا مع أنّ استعمالها في الاستعانة كقولك كتبت بالقلم وقطعت المسافة بالعصا أكثر من استعمالها في المصاحبة ، فعند الدّوران إنّ الحمل على ما هو الغالب أولى ، انتهى.

ثمّ إضافة الاسم إلى الله بيانيّة إن أريد من الاسم مطلق الذّات ومن لفظ الله خصوص ذاته تعالى لكون الخاصّ مبيّنا للعام.

وقيل : إنّها لاميّة في هذا الفرض. والإضافة لاميّة قطعا إن أريد بالاسم لفظ دالّ على معنى مستقلّ بالمفهوميّة ، وبالله ذاته تعالى لأنّ الإضافة حينئذ إنّما هي من إضافة مباين إلى مباين لمناسبة. ومن الضّروري أنّ إضافة المباين إلى المباين لاميّة.

إن قلت : لو قيل بالله بدل «بسم الله» لم يبق موضوع للخلاف في إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة.

قلت : إنّ الإتيان بالاسم بين الباء ولفظ الجلالة إنّما هو لحصول الفرق والميز بين اليمين والّتيمّن ، لأنّ الباء تدخل على لفظ الجلالة في الأوّل فيقال بالله ما فعلت كذا ، وعلى لفظ الاسم في الثّاني. والله موصوف وكل من الرّحمن والرّحيم صفة له.

قيل : إنّ الرّحيم صفة للرحمن والرّحمن بدل لله. وما تتعلّق به الباء إمّا فعل أو اسم ، والاسم إمّا مصدر أو اسم فاعل وعلى التّقادير الثّلاث إمّا عام أو خاصّ ، والمراد بالأوّل ما لا يختصّ استعماله بمورد خاصّ كالابتداء وما يشتقّ منه ، فإنّه صالح أن يستعمل في الشّروع في فعل أيّ شيء كان كالقراءة والتّأليف والأكل والشّرب وغير ذلك ، وبالثّاني ما يختص بمورد خاصّ كالتّأليف وما يشتقّ منه فإنّه لا يصحّ استعماله في الإتيان بالأكل والشّرب ونحوهما ، وإنّما يستعمل في جمع شيئين أو أشياء وتنسيقها ، وعلى التّقادير السّتة إمّا مقدّم

٢٢

وإمّا مؤخّر فمجموع الصّور الحاصلة من ضرب الاثنين في السّتة هو الاثنى عشر كما في المفصّل للأستاذ المرحوم الشّيخ موسى البامياني.

وينبغي أن يرسم جدول متكفّل بأمثلة تلك الصّور.

ثمّ تقدير الفعل أولى من الاسم وكونه من أفعال الخاصّ أولى من كونه من أفعال العامّ وكونه مؤخّرا أولى من كونه مقدّما.

والوجه لترجيح تقدير الفعل على الاسم : أنّ الفعل أصل في العمل دون الاسم فإنّ الاسم إنّما يعمل للشّبه به ، فإذا دار الأمر بين تقدير أحدهما فالأولى هو الالتزام بتقدير الفعل لكونه أقوى في العمل لمكان أصالته فيه ويدلّ على أولويّة الخاصّ أنّ تقديره مما يقتضيه المقام ـ مثلا ـ كون الإنسان في مقام التّأليف يقتضي أن يقدّر «أؤلّف».

وأمّا أولويّة كونه مؤخّرا فيمكن الاستدلال عليها بأمور :

منها : إنّ تأخير المتعلّق مما يقتضيه الاهتمام باسم الله تعالى فإنّ أسماءه تعالى كذاته سبحانه مورد للاهتمام والتّعظيم. وهذا يقتضي تقديمها على غيرها.

ومنها : إنّ تأخير المتعلّق يفيد الحصر بمقتضى ما هو المعروف من أنّ «تأخير ما حقّه التّقديم أو تقديم ما حقّه التّأخير يفيد الحصر والاختصاص». ومن المعلوم أنّ اختصاص الابتداء باسمه تعالى أمر مطلوب في المقام.

ومنها : إنّ هذا موجب للتوافق بين الاسم والمسمّى حيث إنّ المسمّى مقدّم على جميع الموجودات فإذا قدّم اسمه في الكتابة أو التّلفّظ يحصل التّوافق بين الاسم والمسمّى.

٢٣

ولا شكّ في حسنه ، بالنّسبة إلى التّخالف.

بقي الكلام في الجهة الثّالثة فنقول : إنّه قد اختلف البصريّون والكوفيون فيما اشتقّ منه لفظ اسم فذهب البصريّون إلى أنّه مشتقّ من سمو بكسر السّين أو فتحها وسكون الميم بمعنى العلوّ والارتفاع ، وذلك لعلوّه وارتفاعه على كلّ من الفعل والحرف لوقوعه مسندا ومسندا إليه دونهما وحذفت الواو من آخره ، ونقلت حركتها إلى الميم وسكون الميم إلى السّين ، ثمّ اجتلبت في أوله همزه الوصل لتكون عوضا عن الواو ولئلّا يلزم الابتداء بالسّاكن.

واستدلّ على ما ذهب إليه البصريّون بقاعدة أنّ الجمع والتّصغير يردّان الأشياء إلى أصولها وقد جمع الاسم على الأسماء وصغّر على سميّ فلو كان من مادة الوسم بمعنى العلامة كما ذهب إليه الكوفيّون لجمع على الأوسام وصغّر على وسيم.

وذهب الكوفيّون إلى أنّه مشتقّ من وسم بمعنى العلامة فحذفت الواو وعوّضت عنها همزة الوصل لتعذّر الابتداء بالسّاكن.

والحقّ ما ذهب إليه البصريون بدليل الجمع والتّصغير. ولفظ الله مشتقّ من ليه مصدر لاه يليه ، وقيل إنّه جامد ومن يريد التّفصيل فليراجع «المفصّل في شرح المطوّل».

وبقي الكلام في لفظي الرّحمن والرّحيم ، وقد وقع الاختلاف في أنّهما صيغتان مبالغتان أو صفتان مشتبّهتان واستدلّ على الأوّل بما ورد في بعض الأدعية (يا رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما) حيث إنّهما في هذه الجملة قد أضيفا إلى المفعول والصّفة المشبّهة لازمة دائما فلا بدّ أن تؤخذ من اللّازم.

وفيه : أنّ الإضافة في الجملة المذكورة ليست من الإضافة إلى المفعول بل هي من قبيل الإضافة إلى الزّمان المشتركة بين اللّازم والمتعدّي فلا تختصّ بالمتعدّي.

والحقّ إنّهما صفتان مشبّهتان مشتقّتان من اللّازم وهو رحم أما الرّحمن فواضح إذ لم يعهد في كلام العرب مجيء فعلان للمبالغة وقد جاء بهذا الوزن الصّفة المشبّهة كثيرا كندمان وعطشان ونحوهما ، وأما الرّحيم فلأنّ صيغة المبالغة على وزن فعيل وإن استعملت في كلام العرب كما في ألفية ابن مالك :

٢٤

[الحمد (١)] هو الثّناء (٢) باللّسان على قصد التّعظيم

______________________________________________________

فعّال أو مفعال أو فعيل

في كثرة عن فاعل بديل

إلّا أنّهم قد ذكروا أنّ صيغة المبالغة محوّلة عن اسم الفاعل المتعدّي ولم يعهد منهم استعمال الرّحيم متعدّيا ولو في مورد واحد بل يعدّ استعماله كذلك من الأغلاط الواضحة. ثمّ ما ذكرناه ـ من أنّهما صفتان مشبّهتان ـ إنّما هو من حيث المبدأ ، وأمّا من حيث المنتهى فلا بدّ من الفرق بينهما. وملخّص الفرق أنّ كلمة الرّحيم وإن كانت باقية على الوصفيّة بمعنى أنّها صفة مشبّهة من حيث المبدأ والمنتهى. إلّا أنّ كلمة الرّحمن قد نقلت من الوصفيّة إلى الاسميّة فهي من الأعلام بالغلبة لله تعالى من حيث المنتهى. ومن هنا يظهر وجه تقديم كلمة الرّحمن على كلمة الرّحيم حيث يكون الرّحيم صفة للرّحمن ، وتقديم الموصوف على الصّفة لا يحتاج إلى البيان. وقيل : إنّ تقديم الرّحمن على الرّحيم مراعاة للسّجع ثمّ جرّهما على القول ببقائهما على الوصفيّة واضح فإنّهما مجرورتان على أنّهما صفتان لله تعالى. أمّا على القول بنقل الرّحمن عن الوصفيّة إلى الاسميّة فجرّ الرّحمن لكونه بدلا أو عطف بيان للفظة الله والرّحيم صفة للرّحمن.

(١) افتتح كتابه بحمد الله بعد الافتتاح باسمه تعالى اقتداء بالكلام المجيد وهربا عما جاء في السّنة لتاركهما بالوعيد.

(٢) المشهور بينهم أنّ الثّناء هو الذّكر بخير ضد النّثاء وهو الذّكر بشرّ كما أنّه اسم مصدر من أثنيت لا من ثنّيت بمعنى كرّرت.

وهنا قولان آخران :

الأوّل : إنّ الثّناء موضوع للذّكر مطلقا.

الثّاني : إنّه عبارة عن الإتيان بما يشعر بالتّعظيم مطلقا.

وما يظهر من كلامه هو القول الأوّل حيث قيّد الثّناء بقوله : «على قصد التّعظيم» ثمّ فائدة القيد باللّسان على القول الأخير ظاهرة حيث يخرج به الثّناء بغير اللّسان كالثّناء بالجنان والأركان.

وأمّا على القولين الأوّلين فذكر اللّسان إنّما لدفع توهّم المجاز وذلك أنّ الثّناء عليهما

٢٥

سواء (١) تعلّق بالنّعمة أو بغيرها والشّكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما (٢) سواء كان باللّسان أو بالجنان (٣) أو بالأركان (٤)

______________________________________________________

وإن كان متضمّنا للقيد باللّسان لمكان أنّ الذّكر لا يتحقّق إلّا باللّسان ، إلّا أنّه قد استعمل مجازا فيما لم يصدر من لسان لرعاية المشاكلة. فعليه قولهم : باللّسان دفع لتوهّم إرادة المجاز وهذا المقدار من الفائدة يكفي في إخراجه عن اللّغويّة.

وكيف كان فيمكن أن يقال إنّ تعريف الحمد بالثّناء باللّسان غير جامع لأنّه لا يشمل حمد الله تعالى لأنّه ليس باللّسان. إلّا أن يقال بأنّ المراد من الحمد هو حمد المخلوقين فقط.

(١) اسم مصدر بمعنى الاستواء مبتدأ. و «تعلّق» وما بعده في موضع رفع خبر. مثال تعلّق الحمد بالنّعمة كقوله تعالى : حكاية عن إبراهيم الخليل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(١) ومثال تعلّق الحمد بغير النّعمة نحو (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)(٢).

(٢) قوله : «لكونه منعما» دفع لتوهّم أن يكون التّعظيم لحسن المنعم لا لإنعامه بأن تكون له فضائل كثيرة غير الإنعام. ومعنى الشّكر باللّسان بأن يذكر ألفاظا دالّة على اتّصاف المنعم بصفات الكمال.

(٣) قوله : «بالجنان» بمعنى الاعتقاد ، فالشّكر عبارة عن المحبّة بالقلب.

(٤) بأن يكرّر ويأتي بأفعال دالّة على كون المنعم مستحقّا للإطاعة.

إن قلت : لماذا عرّف الشّكر وبيّن النّسبة بينه وبين الحمد مع أنّه غير مذكور في الكتاب إذ الموجود فيه «الحمد لله على ما أنعم»؟

قلت : لأنّ الشّكر لمّا كان قريبا من الحمد لدرجة ربّما يتخيّل أنّهما أمر واحد فعرّفه وبيّن النّسبة بينه وبين الحمد دفعا لهذا التّخيّل.

نعم ، كان على الشّارح أن يعرّف المدح أيضا لأنّه قريب من الحمد فتوهّم كونهما أمرا واحدا ولعلّ عدم تعرّضه له كان من جهة التزامه بما أفاده صاحب الكشّاف وغيره من اتّحاده مع الحمد.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٩.

(٢) سورة الإسراء : ١١١.

٢٦

فمورد الحمد (١) لا يكون إلّا اللّسان ومتعلّقه يكون النّعمة وغيرها ومتعلّق الشّكر لا يكون إلّا النّعمة ومورده يكون اللّسان وغيره فالحمد أعمّ من الشّكر باعتبار المتعلّق وأخصّ باعتبار المورد ،

______________________________________________________

(١) بيان للنّسبة بين الحمد والشّكر وكلمة «فاء» واقعة في جواب شرط مقدر ، والتّقدير : إذا عرفت تعريف كلّ من الحمد والشّكر وأردت معرفة مورد كلّ منهما ومتعلّقه «فمورد الحمد ...». ثمّ المراد من المورد ما ورد منه الحمد لا ما يرد عليه لأنّ اللّسان ما ورد منه الحمد وصدر منه ليس ما يرد عليه.

والكلام في تفصيل ما هو المراد من تلك العناوين الثّلاثة لغة واصطلاحا وبيان النّسبة بينها وإن كان خارجا عمّا هو المقصود من رعاية الاختصار إلّا أنّ البحث عنها إجمالا لا يخلو من فائدة فنكتفي بما في المفصّل في شرح المطوّل حيث قال رحمه‌الله : إنّ كلمات اللّغويّين في هذا المقام مقلقلة جدا ـ إلى أن قال : ـ بعد ذكر كلماتهم ، ما هذا لفظه : فإذا لا يمكن الاطمئنان على شيء منها ، والّذي يطمأنّ به في المقام أن يقال : الحمد هو الثّناء باللّسان الذّي عقل على الجميل بقصد التّعظيم والتّبجيل ، سواء كان اختياريّا ، كالأفعال الاختياريّة والملكات المنتهيّة إلى الاختيار ، أو كان غير اختياري كالغرائز المودعة في كمون البشر من دون دخل لقدرته عليها والصّفات الذّاتيّة الكائنة لله تعالى فإنّها عينه على ما هو الحقّ لا مخلوقة له ومترتّبة على اختياره وإعمال قدرته ، والذّي يدلّنا على ذلك التّبادر العرفي ، فإنّ المتبادر من الحمد هذا المعنى عرفا وبضميمة أصالة عدم النّقل نثبت أنّه كان كذلك لغة ، والمراد بالشّكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بإنعامه سواء كان ذكرا باللّسان أو اعتقادا ومحبّة بالجنان أو عملا وخدمة بالأركان بعين ما ذكرناه في الحمد ، فإنّ المتبادر منه عرفا ذلك وبضميمة أصالة عدم النّقل نثبت أنّه كان كذلك لغة.

والمراد بالمدح : هو الثّناء باللّسان الذّي عقل أو غيره على الجميل اضطراريا أو غيره ، والدّليل عليه أيضا هو التّبادر العرفي ، فإنّ المتبادر منه عرفا هو هذا المعنى ، وبضميمة أصالة عدم النّقل نثبت أنّه كان كذلك لغة.

فالنّسبة بين الشّكر اللّغوي وكلّ من المدح والحمد اللّغويّين عموم من وجه ، لتصادق الجميع في الثّناء باللّسان في مقابل الإحسان ، وصدق الشّكر دونهما في العمل بالأركان

٢٧

في مقابل الإحسان ، وبالعكس في الثّناء باللّسان في مقابل الصّفات الذّاتيّة لله سبحانه ، والنّسبة بين المدح والحمد عموم مطلق حيث إن الثّاني مقيّد بكونه لذي عقل ، والأوّل لم يقيّد بذلك فكلّ حمد مدح ولا عكس كما في قولك : هذا اللّؤلؤ حسن جيّد برّاق ، فإنّه مدح وليس بحمد انتهى هذا تمام الكلام فيها لغة.

وبقي الكلام فيما هو المراد منها اصطلاحا. وقد ذكر غير واحد منهم :

أنّ الحمد اصطلاحا : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بإنعامه سواء كان ذكرا باللّسان أو عملا وخدمة بالأركان أو اعتقادا أو محبّة بالجنان.

وأنّ الشّكر اصطلاحا : صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله ، كصرف البصر في النّظر إلى مصنوعاته ، والسّمع في استماع ما ينبئ عن مرضاته وهكذا.

ولم يذكروا لخصوص المدح معنى اصطلاحيّا مغايرا لمعناه اللّغوي ، فالنّسبة بين الشّكر اللّغوي والشّكر الاصطلاحي ـ من حيث الحمل ـ عموم مطلق ، إذ كلّ صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بإنعامه ولا عكس ـ أي ليس كلّ فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بإنعامه صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله ـ كما إذا وضع أحد يده فوق رأسه تعظيما لله على إنعامه له ولدا صالحا ، فإنّه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بإنعامه ، وليس صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله ، وكذلك من حيث التّحقّق والوجود في صقع الخارج لظهور أنّه كما تحقّق في الخارج صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله بتحقّق فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بإنعامه وذلك لتحقّق الكلّي بتحقّق فرده المعيّن ولا عكس إذ يمكن أن يتحقّق الكلّي في ضمن فرده الآخر غير هذا الفرد.

والنّسبة بين الحمد الاصطلاحي والحمد اللّغوي عموم من وجه بعين ما تقدّم من النّسبة بين الحمد والشّكر اللّغويّين ، لأنّ الحمد الاصطلاحي عندهم هو عين الشّكر اللّغوي وقد عرفت أنّ النّسبة بين الشّكر اللّغوي والحمد اللّغوي هي عموم من وجه.

والنّسبة بين الحمد الاصطلاحي والشّكر اللّغوي هي التّساوي إن قلنا : بكون المتعلّق في كلّ منهما مطلق الأنعام. وعموم مطلق إن قلنا : بأنّ المتعلّق في الشّكر اللّغوي

٢٨

والشّكر بالعكس (١) ، [لله (٢)] هو اسم للذّات الواجب الوجود المستحقّ لجميع المحامد (٣) والعدول (٤) إلى الجملة الاسميّة للدلالة على الدّوام والثّبات

______________________________________________________

خصوص الأنعام الّذي توجّه إليه نفس الشّاكر ومطلق الأنعام في الحمد الاصطلاحي. والنّسبة بين الحمد اللّغوي والشّكر الاصطلاحي هي التّباين من حيث الحمل ، فإنّ الثّناء باللّسان وحده جزء من صرف العبد جميع ما أنعمه الله فيما خلق لأجله ومن البديهي أنّه لا يصحّ حمل الجزء على الكلّ وبالعكس.

نعم ، النّسبة بينها من حيث التّحقّق هي عموم من وجه ، إذ كلما تحقّق الكلّ في الخارج يتحقّق الجزء فيه دون العكس.

هذا ملخّص الكلام في بيان العناوين الثّلاثة والنّسبة بينها ، فمن أراد التّفصيل فعليه الرّجوع إلى المفصّل في شرح المطوّل للمرحوم الشّيخ موسى البامياني رحمه‌الله.

(١) أي المراد من العكس هو العكس العرفي لا العكس المنطقي وهو المخالفة أي الشّكر أعمّ من الحمد باعتبار المورد وهو اللّسان والجنان والأركان ، وأخصّ منه باعتبار المتعلّق وهو النّعمة فقط.

(٢) أي الذّات لها إطلاقات :

الأوّل : قد تطلق لفظة الذّات على حقيقة الشّيء أي ماهيّته باعتبار وجودها في الخارج.

الثّاني : قد تطلق على هويّته الخارجيّة.

الثّالث : قد تطلق على الجوهر المقابل للعرض.

والمراد بها هنا الثّاني إذ لا يتصوّر له تعالى ماهيّة عدا هويّته. ثمّ المراد بالاسم ما قابل الصّفة لا ما قابل اللّقب والكنية ، ولا ما قابل الفعل والحرف ، والمراد بالواجب الوجود ما تقتضي ذاته الوجود ويمتنع عليه العدم في مقابل ممتنع الوجود وهو ما تقتضي ذاته العدم ويستحيل عليه الوجود وممكن الوجود وهو ما لا تقتضي ذاته الوجود ولا العدم.

(٣) قوله : «المحامد» جمع محمدة بمعنى الحمد.

(٤) قوله : «والعدول ...» دفع لما يتوهّم من أنّ قوله : «الحمد لله» كان في الأصل حمدت الله حمدا ، وكانت الجملة فعليّة ، فلماذا عدل عنها إلى الجملة الاسميّة؟

وحاصل الدّفع أنّ الجملة وإن كانت في الأصل فعليّة فحذف الفعل اكتفاء بدلالة

٢٩

وتقديم الحمد (١) باعتبار أنّه أهمّ نظرا إلى كون المقام مقام الحمد كما ذهب إليه صاحب الكشّاف في تقديم الفعل في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) على ما سيجيء بيانه (٢) وإن كان ذكر الله أهمّ (٣) نظرا إلى ذاته ،

______________________________________________________

مصدره عليه ، فصار الله حمدا بعد ما كان حمدت الله حمدا ، ثمّ أدخلت لام الجرّ على المفعول للتّقوية ، فصار لله حمدا ، ثمّ أدخلت أل على الحمد لإفادة الاستغراق أو تعريف الجنس أو العهد ، فصار لله الحمد. إلّا أنها جعلت اسميّة ، للدّلالة على الثّبات والدّوام ثمّ قدّم الحمد فصار الحمد لله.

(١) جواب عن سؤال مقدّر ، وتقريب السّؤال أنّ الذّات تتقدّم على الوصف حقيقة فيجب أن تتقدّم في الكلام أيضا.

وملخّص الجواب أنّ الذّات وهي لله وإن كان حقّها التّقديم على الوصف حقيقة وهو الحمد إلّا أنّ المقام هو مقام الحمد ، فصار الحمد أهمّ عرضا ولذا قدّم على الذّات لمكان الأهميّة المقاميّة. أو يقال إنّ تقديم الحمد لإفادة الحصر والاختصاص ، فإنّ المعروف بينهم أنّ تقديم ما حقّه التّأخير يفيد الحصر والاختصاص. وقيل إنّ الأصل في الحمد التّقديم لكونه مبتدأ.

(٢) أي سيأتي كلامه في بحث تقديم المفعول.

وحاصل ما ذهب إليه صاحب الكشّاف أنّ الاهتمام بذكر الله باسمه ، وإن كان أمرا ذاتيّا والاهتمام بالقراءة أمرا عرضيّا ، إلّا أنّ تقديم الاهتمام العرضي على الاهتمام الذّاتي إنّما هو لاقتضاء المقام فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله أهمّ في نفسه.

(٣) حاصل كلام الشّارح في المقام أنه إذا دار الأمر بين الأهمّ الذّاتي والأهمّ العرضي الّذي يقتضيه المقام كان الأهمّ العرضي أولى بالرّعاية من الأهمّ الذّاتي.

فإن قلت : إنّ ما ذكر من أنّ كون المقام مقام الحمد يقتضي الاهتمام به يشكل بقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فإنّ اسم الله في هذه الآيات قدّم على الحمد مع أنّ المقام مقامه.

٣٠

[على ما أنعم] أي على إنعامه (١)

______________________________________________________

قلت : إنّ المقام في هذه الآيات ليس مقام الحمد ، لأنّها مسوقة لبيان استحقاقه تعالى للحمد واختصاصه به ، لكونه مستجمعا لجميع صفات الكمال ، فعليه مقتضى المقام في تلك الآيات تقديم الظّرف وتأخير الحمد ليفيد تأكيد الاختصاص المسوق له الكلام.

(١) قوله : «أي على إنعامه» إشارة إلى أنّ «ما» في قوله : «على ما أنعم» مصدريّة لا موصولة ولا موصوفة ، فيقع الكلام تارة فيما يتعلّق به كلمة «على» وأخرى في وجه جعل «ما» مصدريّة دون موصولة أو موصوفة.

فنقول : إنّ كلمة «على» متعلّقة بمحذوف وهو خبر بعد خبر ولا تكون متعلّقة بالحمد ، لأنّه مستلزم للإخبار عن المصدر قبل تمام عمله وهذا ممّا لم يجوّزه المحقّقون. والمعنى حينئذ : الحمد ثابت لله وثابت على إنعامه فالكلام يدلّ على استحقاقه تعالى الحمد على ذاته وصفاته معا. من دون كونه موهما لاختصاص الحمد بصفة الإنعام.

وأما وجه جعل «ما» مصدريّة دون موصولة أو موصوفة ، فلأنّ المصدريّة لا تحتاج إلى عائد فلا تفتقر إلى التّقدير ، أي ما أنعم به ، بخلاف الموصولة أو الموصوفة حيث يجب حينئذ تقدير الضّمير الرّابط.

ثمّ التّقدير وإن كان ممكنا في المعطوف عليه أعني : أنعم ، فيقال : أنعم به. إلّا أنّه متعذّر في المعطوف أعني : «علّم» لكون «ما لم نعلم» مفعوله إلّا أن يقال : إنّه يكفي في صحّة العطف على الصّلة كون الجملة الأولى ذات ضمير فقط إذا كان بين الجملتين اتّصال وارتباط بحسب المعنى كما صرّح به ابن هشام والرّضي ، ولا شكّ أنّ المقام من هذا القبيل حيث إنّ قوله : «علّم» بمنزلة عطف بيان لقوله : «أنعم به» فيكون بينهما كمال الارتباط والملائمة فلا حاجة إلى تقدير الضّمير في الثّانية ليقال بعدم إمكانه وتعذّره ، فالإنصاف إنّ إثبات التعذّر دونه خرط القتاد.

نعم يمكن أن يقال بأن جعل «ما» موصولة وإن لم يكن فاسدا إلّا أنّه مرجوح ، لأنّ أئمّة الأدب قد اختلفوا في جواز حذف الضّمير المجرور العائد إلى الموصول فمنع جماعة ـ منهم الإمام المرزوقي ـ جواز الحذف مطلقا بدعوى أنّه موجب للالتباس في بعض الموارد ، كما في قولك : جاءني الّذي رغبت عنه ، فإنّه يحتمل عند الحذف أن يكون

٣١

ولم يتعرّض للمنعم به (١) إيهاما (٢) لقصور العبارة عن الإحاطة به ولئلّا يتوهّم اختصاصه بشيء

______________________________________________________

التّقدير رغبت فيه ، فيكون مفاد الكلام تعلّق ميله به مع أنّ مفاده في الواقع تعلّق إعراضه به.

فإن قلت : لماذا لم يقل الحمد للمنعم مع أنّه أخصر من قوله : «الحمد لله على ما أنعم».

قلت : إنّ الحمد للمنعم وإن كان أخصر لفظا إلّا أنّ قوله : «الحمد لله على ما أنعم» أشمل معنى ، لأنّ التّعليق بالذّات في الحقيقة تعليق بجميع الصّفات لأنّ الذّات متّصفة بجميع صفات الكمال.

(١) أي بجميع أنحائه ولم يقل الحمد لله على العلم والشّجاعة والسّخاوة والعدالة وغيرها من النّعم.

(٢) مفعول له لقوله : «لم يتعرّض» بمعنى ترك التعرّض لأحد أمرين :

أحدهما : لأجل إيهام قصور العبارة عن الإحاطة بالمنعم به ، كما نطق به الكتاب العزيز : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(١)

وثانيهما : لئلّا يتوهّم اختصاص المنعم به بشيء دون شيء ، وتوضيح ذلك أنّ ذكر المنعم به لا يخلو عن أحد أمرين :

الأوّل : ذكر الكلّ. والثّاني : ذكر البعض.

أمّا الأوّل ، فغير ممكن أو متعذّر. أمّا الثّاني ، مستلزم لتوهّم اختصاصه بشيء دون شيء آخر. فلذا لم يتعرّض للمنعم به أصلا فقوله : «لئلّا يتوهّم ...» علّة لعدم التعرّض بالقياس إلى البعض فحاصل معنى العبارة أنّه لو تعرّض لبعض المنعم به إجمالا أو تفصيلا دون بعضه الآخر ، لتوهّم اختصاص الحمد ببعض وعدم استحقاقه تعالى الحمد ببعض آخر. فلم يتعرّض لبعض المنعم به تحرزا عن هذا التوهّم.

فإن قلت : إنّ ما ذكره الشّارح من عدم تعرّض المصنّف رحمه‌الله للمنعم به أصلا أي لا كلّا ولا بعضا لا معنى له بل المصنّف قد تعرّض للمنعم به جميعا أو بعضا.

أما الأوّل ، فلأنّه قد تعرّض لجميع المنعم به بقوله : «على ما أنعم» أي على أنعامه

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٤.

٣٢

دون شيء [وعلّم] من عطف الخاصّ على العامّ (١) ، رعاية لبراعة الاستهلال (٢)

______________________________________________________

وقد قرّر في محلّه أنّ المصدر المضاف إلى الفاعل يفيد العموم. ولا شكّ أنّ عموم الأنعام مستلزم لعموم المنعم به فقوله : «على ما أنعم» يدلّ التزاما على عموم المنعم به.

وأما الثّاني : فلأنّ المصنّف قد تعرّض لبعض المنعم به صراحة حيث قال : «وعلّم من البيان ما لم نعلم» فإذا لا معنى لقول الشّارح : «ولم يتعرّض للمنعم به ...».

قلت : يمكن الجواب عن الأوّل : إنّ مراد الشّارح ـ من التعرّض المنفي ـ التعرّض له بلفظ يدلّ عليه بمدلوله المطابقي فلا ينافي التعرّض بمدلوله الالتزامي.

وعن الثّاني : إنّ المراد بالتعرّض المنفي هو التعرّض الابتدائي أي لم يتعرّض ابتداء «لئلّا يتوهّم اختصاصه ...» فلا ينافي التعرّض لبعض المنعم به لأهمّيّته بعد التعرّض للجميع ابتداء ولو على طريقة الالتزام.

(١) أي كون عطف «علّم» على «أنعم» من عطف الخاصّ على العامّ إنّما يتمّ على تقدير جعل كلمة ما مصدريّة حيث يكون «ما أنعم» بمعنى إنعامه ، ثمّ المصدر المضاف عند عدم العهد يفيد العموم ، فتعليمه تعالى إيّانا البيان الّذي لم نكن نعلمه من جملة أنعامه تعالى فيكون المقام من عطف الخاصّ على العامّ. وأما العطف على تقدير كلمة ما موصولة فمن قبيل عطف فعل على فعل من دون تأويل. والفعل لا يدلّ على الشّمول والإحاطة ، وإنّما العموم فيه بدليّ ، فبحسب الاصطلاح لا يطلق على الفعل عنوان العامّ والخاصّ ، بل يطلق عليه عنوان المطلق والمقيّد.

(٢) قوله : «رعاية ...» تعليل لعطف الخاصّ على العامّ فكان الأولى أن يقول : «وعلّم» تخصيص بعد تعميم ، وذكر ذلك الخاصّ رعاية لبراعة الاستهلال.

وتفصيل الكلام في المقام : إنّ البراعة مصدر برع الرّجل ، فيقال : برع الرّجل إذا فاق أقرانه ، والاستهلال أوّل تصويت المولود فإنّه مصدر استهلّ الصّبيّ إذا صاح عند الولادة. ثمّ استعير لأوّل كلّ شيء.

فبراعة الاستهلال بحسب المعنى اللّغوي تفوق الابتداء ، وفي الاصطلاح نقل إلى ما إذا كان الابتداء مناسبا للمقصود ، لأنّه سبب لتفوّق الابتداء والبراعة حاصلة هنا بذكر البيان حيث يكون إشارة إلى أنّ هذا الكتاب في فنّ البيان.

٣٣

وبعبارة أخرى إنّ الدّيباجة في المقام لكونها مشتملة على لفظ البيان تشير إلى أنّ مقصود المصنّف في هذا الكتاب هو البحث عن مسائل فنّ البيان الّذي قد عرّفوه بأنّه علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدّلالة عليه. وكيف كان فالبراعة في المقام حاصلة بذكر البيان.

إن قلت : إنّ براعة الاستهلال تحصل بمجرّد ذكر البيان على أيّ نحو كان ، فلا معنى لتعليل عطف الخاصّ على العامّ برعايتها.

قلت : إنّ أكابر العلماء وإن مالوا في التّفصّي عن السّؤال المذكور إلى اليمين والشّمال ، إلّا أنّ الصّحيح في المقام أن يقال إنّ كلّا من البراعة والتّنبيه علّة لعطف الخاصّ على العامّ ، فما ذكر في السّؤال من أنّ براعة الاستهلال تحصل بمجرّد الذّكر فلا وجه لجعلها علّة للعطف لا أساس له.

وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة : إنّ المفعول له على قسمين : حصوليّ ، وتحصيليّ :

الأوّل : ما لوجوده الخارجي دخل في صدور الفعل عن الفاعل كما في قولهم : قعدت عن الحرب جبنا ، فإنّ وجود الخوف في الخارج قد أوجب صدور القعود عن الفاعل.

والثّاني : ما لوجوده الذّهني دخل في إيجاد الفعل وصدوره عن الفاعل لا لوجوده الخارجي كما في قولهم : ضربته تأديبا ، فإنّ التّأديب مقدّم على الضّرب في التصوّر ووجوده الذّهني ومؤخّر عنه في الوجود الخارجي ، فالقسم الثّاني يكون بوجوده التصوّري حاملا وباعثا للفاعل نحو الفعل ثمّ الباعث على الفعل قد يكون أكثر من أمر واحد فيكون المفعول له أكثر من أمر واحد.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ المفعول له في المقام من قبيل القسم الثّاني : فالمصنّف قبل أن يكتب هاتين الجملتين المعطوفتين قد تعلّق قصده بأن يراعي في أول كتابه براعة الاستهلال ويشير إلى جلالة نعمة البيان فرأى أنّ ما يوصله إلى هذا الغرض إنّما هو جعل تعليم البيان مرتبطا على الأنعام بالواو ، لأنّ مجرّد ذكر البيان وإن كان موجبا للبراعة إلّا أنّه لا يوجب الإشارة إلى جلالة نعمة البيان ، فأقدم على هذا الجعل لغرض الوصول إلى كلا الأمرين أعني : البراعة والإشارة إلى الجلالة ، وهما لا تحصلان بمجرّد ذكر البيان بل إنّما تحصلان بالعطف فيصحّ جعلهما علّة للعطف فإذا صحّ ما ذكره الشّارح.

٣٤

وتنبيها (١) على فضيلة نعمة البيان [من البيان] بيان لقوله [ما لم نعلم] قدّم رعاية للسّجع (٢)

______________________________________________________

(١) أي يكفي في فضيلة نعمة البيان أنّ الإنسان لا يمكن له الوصول إلى معظم منويّاته ومقاصده إلّا بالبيان ، لأنّه عبارة عن الكلام المعرب عمّا في القلب.

ثمّ إنّ الوجه في هذا التّنبيه أنّ المتفاهم عرفا من ذكر الخاصّ بعد العامّ بطريق العطف أنّ الخاصّ بلغ في الشّرافة والكمال مرتبة كأنّه أصبح خارجا من العامّ ، لأنّ العطف يقتضي مغايرة طرفيه وعدم اندراج المعطوف في المعطوف عليه ، ففي المقام حيث لم تكن المغايرة الحقيقيّة موجودة بينهما فلا بدّ من الالتزام بالمغايرة الادّعائيّة الاعتباريّة.

(٢) أي كان مقتضى التّرتيب الطّبيعي «ما لم نعلم من البيان» وتقديم البيان أعني قوله : «من البيان» على المبيّن اعني قوله : «ما لم نعلم» إنّما هو لرعاية السّجع وهو في اللّغة هدير الحمام ونحوه ، وفي الاصطلاح تواطؤ الفاصلتين من النّثر على حرف واحد في الأخير.

ثمّ قول الشّارح حيث جعل من البيان بيانا لمجموع «ما لم نعلم» لا يخلو عن تسامح ، لأنّ قول المصنّف من البيان بيان لكلمة ما فيما لم نعلم وليس بيانا لمجموع الموصول والصّلة أعني «ما لم نعلم» ثمّ الوجه في التّسامح المذكور أنّه لمّا كان الموصول والصّلة في غاية الارتباط والاتّصال عدّا كشيء واحد فنسب إلى المجموع ما هو ناظر إلى الأوّل فقط.

فإن قلت : إنّه لا حاجة لذكر قوله : «ما لم نعلم» للاستغناء عنه بقوله : «علّم» لأنّ التّعليم لا يتعلّق إلّا بغير المعلوم ، فغير المعلوم لازم للتّعليم وبذكر الملزوم يعلم اللّازم.

قلت : إنّه قد أجيب عنه أوّلا : بأنّ غير المعلوم على قسمين : منه ما هو صعب المأخذ لا ينال بقوّتنا واجتهادنا لو خلّينا أنفسنا لعلّوه عن كسب قوّتنا. ومنه ما هو سهل المأخذ بحيث ينال بقوّتنا واجتهادنا بحسب العرف ثمّ اللّازم للتّعليم هو القسم الثّاني دون القسم الأوّل ، والمراد هنا من كلام المصنّف هو الأوّل ، وهو ليس لازما للتّعليم كي يكون ذكره مستغنيا عن ذكره. فمعنى قوله : «ما لم نعلم» أي ما لم نعلم بقوى أنفسنا واجتهادنا فلو حذف قوله : «ما لم نعلم» لتوهّم أنّ ذلك العلم أمر سهل المأخذ ينال بالاجتهاد والقوى البشريّة ، وحينئذ فالتّصريح بقوله : «ما لم نعلم» يدفع ذلك التوهّم.

وثانيا : إنّ التّصريح بقوله : «ما لم نعلم «إنّما هو لدفع توهّم أن المراد بالتّعليم في

٣٥

قوله : «علّم» تذكير ما نسي تجوّزا. لا تعليم ما لم نعلم ، كي يقال إنّ ذكر التّعليم يستغني عن ذكر ما لم نعلم. وكلا الجوابين لا يرجع إلى محصّل صحيح ، أما الأوّل فلوجوه :

الأوّل : أنّه وإن لم يكن شكّ في أنّ غير المعلوم على قسمين منه ما هو صعب المأخذ كالأمور النّظريّة المحتاجة إلى الاستدلال والبرهان ومنه ما هو سهل المأخذ كالفلاحة والتّجارة وغيرهما إلّا أنّا لا نسلّم أنّ اللّازم للتّعليم هو القسم الثّاني دون الأوّل ، لأنّ الذّهن ينتقل من علم إلى تعليم طبيعي «ما لم نعلم» لا إلى القسم الثّاني فقط إذ لم يثبت من العرف ملازمة بين التّعليم وخصوص القسم الثّاني من غير المعلوم فدعوى أن اللّازم لقوله : «علّم» هو القسم الثّاني دون الأوّل لا يساعدها عقل ولا نقل.

الثّاني : أنّ ما تقدّم من أنه لو حذف «ما لم نعلم» لتوهّم أن ذلك العلم أمر سهل المأخذ ينال بالاجتهاد والقوى البشريّة وحينئذ فالتّصريح بقوله : «ما لم نعلم» لدفع ذلك التوهّم ، ممّا لا وجه له وذلك فإنّ نسبة عنوان «ما لم نعلم» إلى كلّ من القسمين المتقدّمين على حدّ سواء فكيف يمكن الالتزام بأنّ التّصريح به لدفع أنّ ذلك العلم أمر سهل المأخذ.

الثّالث : أنّ ذكر لفظة البيان وحدها كاف لدفع التوهّم لأنّه ممّا لا ينال إلّا بالقوّة والاجتهاد عرفا ، فلو قال : علمنا البيان ، لكفى في دفع هذا التوهّم من دون حاجة إلى التّصريح ب «ما لم نعلم» فتحصّل ممّا ذكر أنّ الجواب الأوّل لا أساس له.

ومن هنا يظهر ضعف الجواب الثّاني ، وجه الضّعف أنّ احتمال كون المراد بالتّعليم تذكير ما نسي تجوّزا إنّما يرتفع بذكر لفظ لم يكن فيه احتمال هذا التّجوّز أصلا. وقوله : «ما لم نعلم» ليس كذلك ، لاحتمال التّجوزّ فيه ، إذ كما يحتمل أن يكون «علّم» بمعنى ذكر كذلك يحتمل أن يكون ما لم نعلم بمعنى ما لم نتذكّر فمع وجود احتمال التّجوّز في كل منهما على حدّ سواء ، كيف يمكن الالتزام بأنّ التّصريح ب «ما لم نعلم» لدفع توهّم التّجوّز؟!!

فالصّحيح أن يعلّل التّصريح ب «ما لم نعلم» برعاية السّجع ، إذ لو تركه وقال : وعلّمنا البيان ، لفات السّجع ، وحصل منه انقطاع نظم الكلام على نحو لم يرتضيه الطّبع. فكما أنّ تقديم «من البيان» على «ما لم نعلم» لرعاية السّجع ، كذلك ذكر «ما لم نعلم» بعد قوله : «علّم» لرعاية السّجع.

٣٦

والبيان هو المنطق (١) الفصيح المعرب عمّا في الضّمير [والصّلاة (٢) على سيّدنا (٣) محمّد (٤)

______________________________________________________

(١) المنطق قصد به الكلام المنطوق به بدليل وصفه بالفصيح وقد أورد على إتيانه بالفصيح بأنّه إمّا أن يكون بمعنى المظهر أو بمعنى الخالص من اللّكنة وكلا المعنيين لا يناسب المقام.

أمّا عدم مناسبة الأوّل : فلكون الفصيح مغنيا عن ذكر المعرب حيث إنّه أيضا بمعنى المظهر.

وأمّا الثّاني فلأجل أنّ المراد بالبيان هنا ما يتميّز به الإنسان عن غيره ، وبه يبرز ما في ضميره كان خالصا من اللّكنة أم لا ، وليس المراد من البيان الكلام الخالي من اللّكنة ومن الأسباب المخلّة بالفصاحة والبلاغة.

ولعلّه أراد معنى الأوّل أي الفصيح بمعنى المظهر وجعل المعرب تفسيرا له حيث إنّه يحتاج إلى التّفسير لكونه من الألفاظ المشتركة الملازمة للإجمال طبعا.

(٢) أي الصّلاة من الله تعالى على رسوله زيادة تشريف وترفيع ، ومن الخلق طلب ذلك ، ثمّ هذه الجملة وإن كانت خبريّة لفظا إلا أنّها إنشائيّة معنى لأنّ المقصود بها الدّعاء وطلب الرّحمة على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا الإعلام أي إفادة المخاطب نفس الحكم أو لازمه وهو كون المخبر عالما به ، إذ لا يجهل أحد من المسلمين بنفس الحكم أو لازمه. فليس للمصنّف أن يقصد بهذا الكلام إفادة مضمونه ، لعدم جهل أحد به ، ولا لازمه لعدم توهّم أحد أنّ المصنّف جاهل به. ثمّ عطفها على جملة التّحميد من قبيل عطف الإنشائيّة على الإنشائيّة بناء على كونها أيضا إنشائية. أو يكون عطفها عليها من قبيل عطف الإنشائيّة على الخبريّة ، إن قلنا بكونها خبريّة ، وقلنا بجواز عطف الإنشائيّة على الخبريّة.

(٣) أي سيّد البشر أو العقلاء أو الخلق. وفي المفصّل ما هذا لفظه : هو من ساد في قومه ، وكان كاملا فيهم ، أو الّذي يلجأ إليه في المهمّات والثّاني من حيث المصداق أعمّ من الأوّل لصدقه على الله سبحانه دونه ، والمراد به هنا المعنى الثّاني ، أي ملتجؤنا في المهمّات ودفع الملمّات.

(٤) وهو اسمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالّ على كثرة محامده.

٣٧

خير من نطق بالصّواب (١) وأفضل (٢) من أوتي الحكمة] هي علم الشّرائع (٣)

______________________________________________________

(١) الصّواب ضد الخطأ ، وقد شاع استعمالهما في الأعمال والأفعال ، واستعمال الحقّ والباطل في الأقوال ، لكنّ المراد به في المقام ، هو القول المطابق للواقع لمكان قوله : «نطق» ثمّ المصنّف إنّما ذكر هذا الوصف دون سائر أوصافه الحسنة لوجهين :

الأوّل : أن يحصل التّناسب بين الجملتين المعطوفتين ، فإنّه قد ذكر في جملة التّحميد نعمة البيان فالمناسب أن يذكر في الجملة المعطوفة النّطق. الثّاني : أنّ فيه تلميحا وإشارة إلى قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ٣ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١). ولذلك اختار النّطق على التّكلّم لئلّا يحتاج إلى التّخصيص فإنّ التّكلّم شامل لله تعالى لصحّة إطلاق المتكلّم عليه ، فإذا صحّة خير من تكلّم بالصّواب محتاج إلى ارتكاب التّخصيص ، والالتزام بأنّ المراد غيره تعالى ، هذا مع أنّ التّكلّم ليس مؤميا إلى قوله تعالى.

(٢) إنّ عطف قوله : «وأفضل من ...» على «خير من نطق ...» من قبيل عطف الخاصّ على العامّ ، لأنّ «من نطق بالصّواب» يشمل من يقول : زيد قائم ، إذا كان مطابقا للواقع ، مع أنّه ليس من الحكمة المفسّرة بعلم الشّرائع.

وقد فسّرت الحكمة بأشياء : منها : ما ذكره الشّارح. ومنها : النّبوة. ومنها : العدل والقضاء. ومنها : العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه وانقسمت إلى علميّة وعمليّة وهي إلى تزكيّة وتحليّة. ومنها : إصابة الحقّ بالعلم والعمل.

فالحكمة من الله معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان معرفته وفعل الخيرات ، ثمّ المتبادر من لفظ الحكمة عند الإطلاق هو العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه ، وأما سائر المعاني فلا تستفاد إلّا بالقرينة الخارجيّة.

(٣) المراد بالعلم ـ بقرينة حمله على «هي» ـ الأصول والقواعد الشّرعيّة لا الإدراك أو الملكة ، لأنّه بهذين المعنيين لا يكون قابلا للحمل على القوانين الّتي هي المرادة بكلمة «هي» فإضافته إلى الشّرائع بيانيّة ، وهي جمع الشّريعة الّتي هي عبارة عن طريقة مخصوصة متكفّلة لسعادة البشر في الدّنيا والآخرة وواصلة إليهم من قبل الله تعالى بواسطة أنبيائه عليهم‌السلام.

__________________

(١) سورة النّجم : ٣.

٣٨

وكلّ كلام وافق الحقّ (١) ، وترك فاعل الإيتاء (٢) لأنّ هذا الفعل لا يصلح إلّا لله سبحانه [وفصل الخطاب (٣)] أي الخطاب المفصول البيّن (٤)

______________________________________________________

(١) إنّ عطف قوله : «وكلّ كلام ...» على ما قبله من قبيل عطف العامّ على الخاصّ لأنّ قولك : الواحد نصف الاثنين ، كلام وافق الحقّ وليس بشريعة.

(٢) حيث قال : «أوتي الحكمة» ولم يقل : أتى الله الحكمة ، لتعيّنه ، كما أشار إليه بقوله : «لأنّ هذا الفعل لا يصلح إلّا لله سبحانه». فقوله : «وترك فاعل الإيتاء» جواب عن سؤال مقدّر حاصله : أنّه كان على المصنّف التّصريح بالفاعل وإيراد الفعل مبنيّا للفاعل.

وملخّص الجواب : إنّ في عدم التّصريح بالفاعل ، وإيراد الفعل مبنيّا للمفعول فائدة مهمّة ، وهي الإشارة إلى أنّ هذا الفعل لا يصلح إلّا أن يصدر عن الله تعالى.

(٣) يحتمل عطف قوله :» فصل الخطاب «على» أوتي الحكمة «بناء على أنّ» فصل «فعل ماض بوزن ضرب و» الخطاب» مفعوله ، فيكون جملة فعليّة ، ويحتمل العطف على «الحكمة» فيكون عطف مفرد على مفرد ، بناء على أنّ «فصل» مصدر كما هو ظاهر كلام الشّارح. حيث فسّر «فصل الخطاب» بالخطاب المفصول أو الخطاب الفاصل ، فجعل المصدر بمعنى اسم المفعول أو اسم الفاعل ، ومقتضى التّفسير المذكور أن تكون إضافة ال «فصل» إلى «الخطاب» المراد به الكلام المخاطب به من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وهي بيانيّة.

وذكر بعضهم أنّ الأرجح أن يجعل «الفصل» باقيا على مصدريّته ، ويعتبر التّجوّز في إضافته إلى «الخطاب» على حدّ جرد قطيفة ، وإخلاق ثياب ، بأن يفرض أنّ أصله كان خطاب فصل نحو رجل عدل ثمّ قدم الفصل وأضيف إلى الخطاب ليفيد المبالغة في الخطاب بأنّه واجد لمرتبة راقيّة من الفصل بين الحقّ والباطل ، والتّمييز بين الصّواب والخطأ على نحو ينبغي أن يقال فيه نفس الفصل والتّمييز ولا ريب في أنّ تلك المبالغة أدخل في الغرض المسوق له الكلام ، وهو الإشارة إلى المعجزة ، لأنّ قوله : «فصل الخطاب» في المقام مسوق للإشارة إلى المعجزة ، وكيف كان فعطف «فصل الخطاب» على «الحكمة» عطف مفرد على مفرد.

(٤) تفسير للمفصول.

٣٩

الّذي يتبيّنه (١) من يخاطب به ولا يلتبس (٢) عليه أو الخطاب الفاصل (٣) بين الحقّ والباطل [وعلى آله (٤)] أصله أهل (٥) بدليل أهيل (٦)

______________________________________________________

(١) أي يجده بيّنا.

(٢) قوله «ولا يلتبس» تفسير لقوله «يتبيّنه» ، ومعنى العبارة أنّ «فصل الخطاب» يراد به كلام مفصول يتبيّن لمخاطبه على نحو لا يجد صعوبة في فهمه من ناحية ما يخلّ ببلاغة الكلام ، بأن يعرف المخاطب به مواضع الحذف والإضمار والتّقديم والتّأخير والفصل والوصل وغيره من الأمور الموجبة لبلاغة الكلام. وبالجملة إنّ المستفاد من قوله : «وأفضل من أوتي فصل الخطاب» إنّ الله سبحانه قد أعطى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام البيّن الواضح ، ومن ذلك يكون مبشّرا إلى كون القرآن معجزة لا من حيث كونه كلاما بيّنا وواضحا ، فإنّ وضوح الدّلالة من حيث هو هو ، ليس ملاكا للإعجاز ، بل من حيث كونه واجدا لمرتبة راقية من البلاغة لا يمكن للبشر رعايتها ودالّا على الأسرار الكونيّة والحقائق الغيبيّة الّتي لا يمكن للبشر أن يصل إليها.

(٣) إشارة إلى كون المصدر أعني الفصل بمعنى اسم الفاعل.

(٤) أي آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) أي كان أصل آل أهل ، فأبدلت الهاء همزة توصّلا إلى الألف لا لإبقائها ، فلا يرد أنّ الهاء أخفّ من الهمزة فلماذا أبدلت بها؟ والجواب أبدلت بها توصّلا إلى الألف فأبدلت همزة ثمّ أبدلت الهمزة ألفا وإنّما لم تقلب الهاء ألفا ابتداء لأنّ قلبها ألفا لم يجىء في موضع آخر حتّى يقاس عليه ، وأمّا قلبها همزة فمحقّق ، مثل ماء حيث كان أصله ماه بدليل مياه ، وأما قلب الهمزة ألفا فشائع ، ثمّ الأهل من حيث المعنى اسم لخاصّة الشّيء الّذي ينسب إليه كأهل الرّجل لامرأته وعياله وأهل الإسلام لمن يتّخذه دينا وأهل القرآن لمن يقرأه ويقوم بحقوقه.

(٦) فإنّ التّصغير كالجمع يردّ الأشياء إلى أصولها فتصغير آل بأهيل دليل على أنّ أصله كان أهل ، إلّا أن يقال : إنّ الاستدلال على كون آل أصله أهل بأهيل غير تامّ. وذلك لاحتمال أن يكون أهيل تصغيرا لخصوص أهل والمعروف بينهم أنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

٤٠