دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

بقوله : ابتداء ، عن الإحضار بشرط التّقدّم كما في المضمر الغائب والمعرّف بلام العهد ، فإنّه يشترط تقدّم ذكره والموصول فإنّه يشترط تقدّم العلم بالصّلة وفيه (١) نظر لأنّ جميع طرق التّعريف كذلك حتّى العلم (٢) ، فإنّه مشروط بتقدّم العلم بالوضع [نحو (٣) :

______________________________________________________

والمعرّف بلام العهد ، والموصول حيث إنّ هذه الثّلاثة لا تحضر المسند إليه بعينه في ذهن السّامع ابتداء ، بل تحضره بواسطة تقدّم الذّكر والعلم بالصّلة ، إذ يعتبر تقدّم ذكر مرجع الضّمير تحقيقا كما في قولك : جاءني وهو شاعر ، أو تقديرا كقوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(١) ، وكذا في لام العهد كقولك : جاءني رجل فقال الرّجل ، ويحضر المسند إليه في الموصول بواسطة العلم بالصّلة ، فإنّ كلمة الّذي في قولك : جاءني الّذي قام أبوه ، يحضر المسند إليه في ذهن المخاطب بواسطة علمه بمضمون (قام أبوه).

(١) أي فيما قيل نظر وإشكال لأنّ ما ذكره من أنّ «ابتداء» للاحتراز عن إحضار المسند إليه بالأمور الثّلاثة لا يصحّ إلّا أن نقول : بأنّ المراد بشرط تقدّم ذكره في الضّمير ولام العهد والعلم بالصّلة في الموصول هو ما عدا العلم بالوضع ، بأن يكون معنى قوله : «ابتداء» أي لا يتوقّف إحضار المسند إليه في ذهن السّامع بعد العلم بالوضع على شيء آخر ، فلا بدّ عندئذ من تقييد الإحضار ببعد العلم بالوضع ، وهو خلاف الظّاهر مضافا إلى أنّ هذا بعينه معنى قوله : «باسم مختصّ به» لأنّ معنى إحضار المسند إليه في ذهن السّامع بنفس لفظه هو إحضاره في ذهنه باسم مختصّ به. والحاصل : إنّ جميع طرق التّعريف مشروط بتقدّم العلم ، فهذا الشّرط لا يختصّ بالعلميّة.

(٢) أي العلم بالمسند إليه وثبوت الحكم عليه مشروط بتقدّم العلم بالوضع ، فلو كان مراد المصنّف من قوله : «ابتداء» عدم توقّف إحضار المسند إليه على شيء أصلا لخرج العلم به أيضا مع أنّه المقصود.

(٣) مثال لإيراد المسند إليه علما ، لأنّ الله علم أورد لإحضاره في ذهن السّامع ابتداء مع جميع مشخّصاته بآثار صفاته باسم خاصّ به ، ووجه كونه علما أنّه وضع من أوّل الأمر للذّات المستجمع لجميع الصّفات كما عليه أئمّة الدّين.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦٣.

٣٠١

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)] فالله أصله (٢) الإله حذفت الهمزة (٣) وعوّضت عنها (٤) حرف التّعريف ثمّ جعل (٥) علما للذّات الواجب (٦) الوجود الخالق للعالم ، وزعم بعضهم أنّه (٧)

______________________________________________________

(١) الضّمير (هُوَ) إمّا عائد إلى ربّك المذكور في كلام القريش ، حيث قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد صف لنا ربّك الّذي تدعونا إليه ، فنزلت هذه السّورة ، فعليه لفظ الجلالة خبر أوّل له ، و (أَحَدٌ) خبر ثان له ، أو أنّه بدل عن لفظ الجلالة بناء على ما التزم به نجم الأئمّة الرّضي رحمه‌الله من جواز إبدال النّكرة الغير الموصوفة من المعرفة إذا استفيد منها ما لا يستفاد من المبدل منه حيث إنّ قوله : (أَحَدٌ) يدلّ على انتفاء التّركيب ، أو اتّصافه سبحانه بصفة لا يشاركه أحد فيها ، كالوجوب واستحقاق العبادة له وخلق العالم ، وغير ذلك ، وأمّا ضمير شأن مبتدأ ، ولفظ الجلالة مبتدأ ثان ، و (أَحَدٌ) خبره ، والجملة خبر ل (هُوَ).

(٢) أي أصله القريب وإلّا فالأصل الأصيل إله منكرا ، ثمّ هذا من الشّارح إشارة إلى عدم ارتضائه ما ذكره سيبويه من أن يكون أصله لاه من لاه يليه بمعنى ستر واحتجب ، ووجه عدم الارتضاء ما ذكره في شرح الكشّاف من أنّ كثرة دوران الإله في كلام العرب واستعماله في المعبود ، وإطلاقه على الله تعالى يرجّح جانب الاشتقاق منه.

(٣) أي الهمزة الثّانية الأصليّة تخفيفا.

(٤) أي عن الهمزة ومعنى قوله : «وعوّضت عنها حرف التّعريف» أي قصد جعل حرف التّعريف عوضا منها ، فلا يرد أنّ ذلك يستلزم اجتماع العوض والمعوّض قبل الحذف ، وهو باطل ، فيقال : لأنّ العوضيّة قصدت بعد الحذف لا قبله حتّى يلزم الجمع بين العوض والمعوّض.

(٥) أي جعل (الله) بعد حذف الهمزة علما ، أي ثمّ أدغم ، ثمّ فخّم وعظّم ، ثمّ جعل علما ، ففي الكلام حذف ، كما في المفصّل في شرح المطوّل.

(٦) عنوان الواجب الوجود ليس داخلا في مسمّى لفظ الجلالة وإلّا لزم أن يكون كلّيّا ، بل إنّما هو بيان الذّات المسمّاة ومشير إليها حيث إنّها لا يمكن أن يدرك كنهها كما في المفصّل في شرح المطوّل.

(٧) أي (الله) اسم جنس ، أعني اسم لمفهوم الواجب لذاته والزّاعم هو الخلخالي.

٣٠٢

اسم لمفهوم الواجب لذاته (١) أو المستحقّ للعبوديّة له (٢) ، وكلّ منهما (٣) كلّي انحصر في فرد (٤) ، فلا يكون علما (٥) لأنّ مفهوم العلم جزئيّ (٦) ، وفيه (٧) نظر ، لأنّا لا نسلّم أنّه اسم لهذا المفهوم الكلّي ، كيف! وقد اجتمعوا على أنّ قولنا : لا إله إلّا الله كلمة التّوحيد ، ولو كان الله اسما لمفهوم كلّي لما أفادت التّوحيد ، لأنّ الكلّي من حيث إنّه كلّي

______________________________________________________

(١) أي الّذي لا يحتاج في وجوده إلى غيره ، ثمّ إضافة المفهوم إلى الواجب بيانيّة ، فالمعنى أنّ الله اسم لمفهوم هو الواجب لذاته.

(٢) أي الّذي مستحقّ للعبوديّة ، فالضّمير راجع إلى الألف واللّام في المستحقّ ، لأنّ الألف واللّام بمعنى الّذي.

(٣) أي الواجب لذاته والمستحقّ للعبودية.

(٤) أي فرد واحد كالشّمس والقمر مثلا.

(٥) أي فلا يكون لفظ الجلالة علما.

(٦) أي المراد بالجزئيّ هو الجزئيّ الحقيقيّ حتّى ينافي الكلّيّة ، وإلّا فالجزئيّ الإضافيّ لا ينافي الكلّيّة.

(٧) أي في زعم البعض نظر وإشكال من جهتين على ما في المطوّل :

الجهة الأولى : إنّ الالتزام بكون لفظ (الله) اسم جنس مستلزم لخرق الإجماع فإنّ كلمة (لا إله إلّا الله) تفيد التّوحيد وتدلّ عليه بالاتّفاق من غير أن يتوقّف على اعتبار عهد وملاحظة أنّ مدلوله في فرد واحد خارجا ، والقول بكونه اسم جنس ينافي هذا الاتّفاق حيث إنّها حينئذ لا تفيد التّوحيد إلّا بملاحظة العهد وانحصار مدلوله في فرد واحد خارجا وهذا باطل لكونه خرقا للإجماع ، فكونه اسم جنس باطل ، لأنّ بطلان اللّازم يكشف عن بطلان الملزوم. هذا ما أشار إليه بقوله : «كيف وقد اجتمعوا ...» حيث يكون الاستفهام إنكاريّا.

الجهة الثّانية : إنّ الالتزام بكونه اسم جنس مستلزم لأحد أمرين :

أحدهما : استثناء الشّيء عن نفسه.

ثانيهما : الكذب ، وذلك لأنّ المراد بالإله في قولنا : (لا إله إلّا الله) ، إمّا مطلق المعبود يلزم المحذور الثّاني ، وإمّا المعبود بالحق فيلزم المحذور الأوّل ، وكلاهما باطل فلا بدّ من الالتزام بكونه علما.

٣٠٣

يحتمل الكثرة. [أو تعظيم (١) أو إهانة] كما في الألقاب الصّالحة لذلك (٢) مثل : ركب عليّ وهرب معاوية (٣) ، [أو كناية] عن معنى يصلح العلم له (٤) نحو : أبو لهب فعل كذا كناية عن كونه جهنّميّا (٥) بالنّظر إلى الوضع الأوّل (٦).

______________________________________________________

(١) عطف على «إحضاره» ، فمعنى العبارة : تعريف المسند إليه بإيراده علما لتعظيم المسند إليه أو إهانته ، لم يقل : أو تعظيمه أو إهانته لأنّه قد يقصد بإيراده علما تعظيم غير المسند إليه أو إهانته نحو : أبو الفضل صديقك ، وأبو جهل رفيقك ، فإنّ المقصود في الأوّل تعظيم ما أضيف إليه المسند أعني المخاطب ، وفي الثّاني إهانته.

(٢) أي التّعظيم أو الإهانة.

(٣) التّعظيم في المسند إليه في الأوّل مأخوذ من لفظ عليّ لأخذه من العلوّ ، والإهانة في الثّاني من لفظ معاوية ، لكونه مأخوذا من العواء وهو صياح الكلب أو الذّئب ، أو لأنّه في الأصل موضع العذرة أي الرّوث ، وفي كليهما معنى الإهانة ، وليسا مأخوذين من الرّكوب والهروب.

والحاصل : إنّ لفظ عليّ يشعر بالمدح ، ولفظ معاوية يشعر بالذّمّ سواء اعتبرناهما اسمين أو لقبين ، فلا حاجة إلى اعتبارهما لقبين ، والتّمثيل بهما على الاعتبار الثّاني.

(٤) أي المعنى باعتبار معناه اللّغوي «نحو : أبو لهب فعل كذا».

(٥) أي الانتقال من اللّازم إلى الملزوم ، أو من الملزوم إلى اللّازم على اختلاف الرّأيين.

(٦) أي بالنّظر إلى معناه المجازيّ بحسب الوضع الأوّل الّذي هو الإضافيّ لا الحقيقيّ الّذي هو أبو النّار والنّار بنته لعدم صحّة قصده من هذا المركّب الإضافيّ.

وقيل : إنّ المراد بقوله : «بالنّظر إلى الوضع الأوّل» أي لا الثّاني أعني الوضع العلميّ ، وكيف كان إنّه عبّر عن المسند إليه بأبي لهب لينتقل منه إلى كونه جهنّميّا باعتبار معناه الأصليّ ، فإنّ المعنى الأصليّ الّذي يقصد البليغ الإشارة إليه بهذا العلم من تتولّد منه النّار ، وتولد النّار منه باعتبار كونه وقود النّار ، والنّار الّتي وقودها النّاس نار جهنّم.

وقيل : إنّ معنى أبي لهب ملابس النّار ملابسة ملازمة وهو ملزوم الجهنّميّ لأنّ اللهب الحقيقيّ لهب نار جهنّم كما في المفصّل حيث قال رحمه‌الله إنّ أبا لهب معناه اللّغوي

٣٠٤

أعني الإضافيّ (١) لأنّ معناه (٢) ملازم النّار وملابسها ويلزمه (٣) أنّه جهنّميّ (٤) فيكون انتقالا (٥) من الملزوم إلى اللّازم باعتبار الوضع الأوّل ، وهذا القدر كاف في الكناية (٦)

______________________________________________________

ملازم اللهب وملابسه ، واللهب الحقيقيّ شعلة نار جهنّم ، فمن هذه الجهة يصلح أن يجعل كناية عن الجهنّمي ، بأنّ يستعمل في معناه العلميّ لينتقل الذّهن منه بواسطة المعنى اللّغويّ إلى الجهنّميّ الّذي هو المراد الجدّي والمعنى الكنائي بخلاف اسم الإشارة والموصول والضّمير والمعرّف باللّام والاسم المضاف ، فإنّها لا تكون صالحة لأنّ تجعل كناية عن الجهنّمي لأنّها لا تدلّ إلّا على نفس الذّات الّتي لا ملازمة بينها وبين الجهنّمي عرفا حتّى يأتي تصوير الكناية.

(١) إشارة إلى دفع توهّم من أنّ المراد بالوضع الأوّل الوضع العلميّ في قولهم : ما وضع أوّلا هو العلم ، وما وضع ثانيا إن أشعر بمدح أو ذمّ فلقب ، وإن صدر بأب أو أمّ فكنية. وحاصل الدّفع : إنّ المراد بالوضع الأوّل هو الوضع الأوّل للمركّب الإضافيّ قبل جعله علما.

(٢) أي معنى لفظ أبي لهب بالنّظر إلى الوضع الأوّل قبل جعله علما ، والمراد معناه المجازيّ ، فإنّ ملازم النّار وملابسها بحسب الوضع الأوّل معنى مجازيّ له ، لأنّ المعنى الحقيقيّ أنّه أبّ للنّار لم يكن مقصودا بهذا التّركيب أصلا ، فالحاصل إنّ هذه كناية مبنيّة على مجاز.

(٣) أي الشّخص أنّه جهنّمي ، وحاصل الكلام أنّ أبا لهب معناه الأصليّ ملابسة اللهب ملابسة ملازمة كما أنّ معنى أبي الخير وأبي الشّرّ لمن يلابس هذين الأمرين ، وكون الشّخص جهنّميّا ملزوم لكونه ملابسا للهب الحقيقيّ فأطلق أبو لهب على الشّخص المسمّى ، ولو حظ معه معناه الأصليّ أعني الملابسة لينتقل منه إلى ملزومه وهو كونه جهنّميّا.

(٤) أي لزوما عرفيّا لأنّه يكفي عند أهل المعاني ، لأنّهم يكتفون بالملازمة في الجملة وهو أن يكون أحدهما بحيث يصلح للانتقال منه إلى الآخر.

(٥) أي فيكون الانتقال إلى كونه جهنّميّا انتقالا من الملزوم أعني الذّات الملزومة للنّار الحقيقيّة إلى اللّازم أعني كونه جهنّميّا.

(٦) أي الانتقال من المعنى الموضوع له أوّلا إلى لازمه كاف في الكناية وإن لم يكن

٣٠٥

وقيل في هذا المقام : إنّ الكناية (١) كما يقال : جاء حاتم ، ويراد به لازمه أي جواد لا الشّخص المسمّى بحاتم ، ويقال : رأيت أبا لهب ، أي جهنّميّا (٢) ، وفيه (٣) نظر ،

______________________________________________________

المعنى الموضوع له أوّلا المستعمل فيه اللّفظ ولا تتوقّف الكناية على إرادة لازم ما وضع له اللّفظ وهو الذّات المعيّنة.

فيكون هذا الكلام جوابا عمّا يقال : إنّ الكناية يجب فيها أن يكون المراد من اللّفظ لازم معناه ، كما في كثير الرّماد ، فإنّه استعمل في كثرة الرّماد ومرادا منه لازم معناه وهو الكرم والجود. وههنا ليس الأمر كذلك ، لأنّ المعنى الّذي استعمل فيه اللّفظ هو الذّات ، وكونه جهنّميّا ليس من لوازمها بل عن لوازم وصفها ككونها ملابسة للنّار.

وحاصل الجواب : إنّ قولهم يجب في الكناية أن يكون اللّفظ مستعملا في لازم معناه بمعنى إذا كانت الكناية باعتبار المسمّى بهذا الاسم ، وأمّا إذا كانت الكناية باعتبار المعنى الأصليّ كما ههنا فلا يجب فيها أن يكون المراد من اللّفظ لازم معناه المستعمل فيه ، بل يكفي فيها الانتقال من المعنى الأصليّ الموضوع له أوّلا وإن لم يكن اللّفظ مستعملا فيه إلى لازمه.

(١) توضيحه إنّ الكناية ذكر اللّفظ الموضوع لمعنى معيّن وإرادة لازم المعنى من الأوّل ، وليس الانتقال من الملزوم إلى اللّازم ، فإنّ لفظ حاتم موضوع للذّات المعيّنة الموصوفة بالكرم ، ويلزمها كونها جوادا. فإذا قلت : في شأن شخص كريم غير الشّخص المسمّى بحاتم ، جاء حاتم ، وأردت جاء جواد ، فقد استعملت اللّفظ في نفس لازم المعنى ، وهو جواد بدون اعتبار المعنى الأصليّ. وكذا أبو لهب معناه العلميّ الذّات المعيّنة الكافرة ويلزمها أن تكون جهنّميّة. فإذا قلت في شأن كافر غير أبي لهب : جاء أبو لهب ، وأردت جاء جهنّميّ ، فقد استعملت اللّفظ في نفس اللّازم للمعنى العلميّ ، وأمّا على القول الأوّل فالعلم مستعمل في معناه الأصليّ لينتقل منه إلى لازمه فالفرق بينهما واضح ، إذ يكون العلم على الأوّل مستعملا في معناه الأصلي لينتقل منه إلى لازمه ، وعلى الثّاني يكون مستعملا في نفس اللّازم ابتداء.

(٢) أي لا الشّخص المسمّى بأبي لهب.

(٣) أي فيما قيل نظر ، وقد ردّ الشّارح هذا القول بأمور :

٣٠٦

لأنّه حينئذ يكون استعارة لا كناية (١) على ما سيجيء ولو كان المراد ما ذكره لكان قولنا فعل هذا الرّجل كذا مشيرا إلى الكافر ، وقولنا : أبو لهب فعل كذا كناية عن الجهنّمي ولم يقل به أحد وممّا يدلّ على فساد ذلك أنّه مثل صاحب المفتاح وغيره في هذه الكناية بقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ)(١) ولا شكّ أنّ المراد به (٢) الشّخص المسمّى بأبي لهب لا كافر آخر [أو إيهام استلذاذه (٣)]

______________________________________________________

الأمر الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «لأنّه حينئذ» أي إذا كان المراد نفس اللّازم لا المسمّى «يكون استعارة» لأنّه قد استعمل لفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة في الجود وكذا أبو لهب مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة في الكفر.

الأمر الثّاني : ما أشار إليه بقوله : «ولو كان المراد ما ذكره لكان قولنا فعل كذا هذا الرّجل مشيرا إلى الكافر ، وقولنا : أبو لهب فعل كذا كناية عن الجهنّمي ولم يقل به أحد» بل إنّه استعارة كما عرفت.

الأمر الثّالث : ما أشار إليه بقوله : «وممّا يدلّ على فساد ذلك» أي ما قيل.

(١) لأنّ الكناية على مذهب المصنّف هو استعمال اللّفظ في معناه ابتداء لينتقل منه إلى لازمه ، وعلى مذهب السّكّاكي هو استعمال اللّفظ في لازم معناه ابتداء لينتقل منه إلى الملزوم الموضوع له ، وفي كلام هذا القائل قد استعمل اللّفظ ابتداء في اللّازم فلا يكون كناية.

(٢) أي أبو لهب ، فلمّا كان المراد بأبي لهب في الآية المباركة هو الشّخص المسمّى بأبي لهب لا كافر آخر لم يكن كناية عن الجهنّمي مع أنّه مثّلها للكناية ، فيلزم أن لا يطابق المثال بالممثّل له ، وهو باطل ، فليس المراد بأبي لهب كافر آخر ، بل المراد به هو الشّخص المسمّى بأبي لهب ، غاية الأمر أريد منه الجهنّمي كناية من باب ذكر الملزوم وإرادة اللّازم ، كما عرفت تفصيل ذلك.

(٣) أي العلم ، والمعنى أنّ إيراد المسند إليه علما لإيقاع المتكلّم في وهم السّامع وجدانه العلم لذيذا.

لا يقال : إنّه لا وجه لذكر الإيهام ، لأنّ اللّفظ الّذي يدلّ على ما تحبّه النّفس لذيذ عندها تحقيقا لا على سبيل الإيهام.

__________________

(١) سورة المسد : ١.

٣٠٧

أي وجدان العلم لذيذا (١) نحو قوله :

بالله يا ظبيات القاع (٢) قلن لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر

[أو التّبرّك به (٣)] نحو : الله الهادي ، ومحمّد الشّفيع (٤) ، [أو نحو ذلك] كالتّفاؤل (٥) والتّطيّر (٦) والتّسجيل على السّامع (٧) وغيره ممّا يناسب اعتباره في الأعلام (٨) [وبالموصوليّة] أي تعريف المسند إليه بإيراده اسم موصول (٩) [لعدم علم المخاطب بالأحوال (١٠)

______________________________________________________

فإنّه يقال : إنّ المتبادر من الاستلذاذ عرفا الاستلذاذ الحسّي الّذي يحصل بالقوى الخمس الظّاهريّة ، ولا ريب أنّ الاستلذاذ الحسّي في المقام ليس إلّا على سبيل التوهّم ، وإنّما التّحقيقي هو الاستلذاذ الرّوحي والمعنويّ.

(١) تفسير للاستلذاذ ، وأشار به إلى أنّ السّين والتّاء ليستا للطّلب.

(٢) أرض خالية ومستوية ، والباء في قوله : «بالله» للقسم.

والشّاهد : قوله : «أم ليلى» إذ مقتضى الظّاهر أن يقول : أم هي ، لتقدّم مرجعه ، لكنّه أورد المسند إليه علما لإيهام استلذاذه.

(٣) أي بالعلم عطف على الإيهام.

(٤) حيث يكون ذكر المسند إليه في هذين المثالين للتّبرّك به.

(٥) كقولك : سعيد في دارك.

(٦) أي التّشاؤم كقولك : صفاح في دار عدوّك ، أي الزّاني في دار عدوّك ، والفرق بينهما : إنّ الأوّل يستعمل في الخير ، والثّاني في الشّرّ.

(٧) أي الضّبط على السّامع والاستحكام عليه لئلّا يتأتّى الإنكار كقول القاضي : زيد حكمت عليه.

(٨) كالتّنبيه على غباوة السّامع كما في قولك : زيد فعل كذا ، جوابا لمن قال : هل زيد فعل كذا ، مع أنّ المقام مقام الضّمير ، إلّا أنّ ذكره للتّنبيه على غباوة السّامع ، بأنّه لا يفهم المسند إليه ، لو أوتي به بغير اسم مختصّ به.

(٩) تفسير الشّارح إشارة إلى أنّ «بالموصوليّة» عطف على قوله : «بالإضمار» وأنّ الياء فيه مصدريّة ، وكان الأنسب أن يقدّم عليه ذكر اسم الإشارة لكونه أعرف من الموصول.

(١٠) الأولى أن يقول : بالأمور المختصّة به حتّى يشمل عدم العلم بالاسم أيضا.

٣٠٨

المختصّة به (١) سوى الصّلة (٢) كقولك : الّذي كان معنا أمس رجل عالم (٣)] ولم يتعرّض (٤) المصنّف لما لا يكون للمتكلّم أو لكليهما علم بغير الصّلة نحو : الّذين في بلاد المشرق لا أعرفهم ، أو لا نعرفهم ، لقلّة جدوى مثل هذا الكلام ، [أو استهجان التّصريح بالاسم (٥)

______________________________________________________

(١) أي بالمسند إليه والمراد باختصاصها به عدم عمومها لغالب النّاس لا عدم وجودها في غيره.

(٢) يظهر من كلام الشّارح أنّ هذا الفرض ممّا يقتضي وجوبا إيراد المسند إليه موصولا ، بدعوى أنّه إذا لم يكن المعلوم للمخاطب شيئا من أحوال المسند إليه المختصّة إلّا الصّلة فعندئذ لا يمكن له إيراده بشيء من أنواع التّعريف سوى الموصول. وفيه نظر : لأنّ عدم العلم بأحوال المسند إليه المختصّة سوى الصّلة لا يستلزم سدّ طرق التّعريف ، ضرورة أنّ المخاطب إذا علم بالصّلة أمكن للمتكلّم أن يعبّر بطريق غير الموصوليّة ، كالإضافة نحو : مصاحبنا أمس كذا ، إلّا أن يقال : إنّه لا يشترط في النّكتة أن تختصّ بذلك الطّريق ، ولا أن تكون أولى به ، بل تكفي مناسبة بينهما وحصولها به وإن أمكن حصولها بغيره أيضا.

(٣) أي إذا فرض عدم علم المخاطب بشيء من أحواله سوى كونه مصاحبا له وللمتكلّم بالأمس ، ولم يكن عالما بأنّه عالم أم لا ، صحّ إيراده موصولا.

(٤) جواب عن سؤال مقدّر تقدير السّؤال : إنّ المراتب هنا ثلاثة :

الأولى : أن لا يعلم المخاطب فقط شيئا من أحوال المسند إليه إلّا الصّلة.

الثّانية : أن لا يعلم المتكلّم فقط شيئا من أحوال المسند إليه إلّا الصّلة.

الثّالثة : أن لا يعلما معا كما أشار إليه بقوله : «أو لكليهما» أعني المتكلّم والمخاطب.

والمصنّف تعرّض للأولى فقط دون الثّانية والثّالثة. وحاصل الجواب : أنّه لم يتعرّضهما لقلّة جدوى مثل هذا الكلام ، أي لقلّة الفائدة في هذا الكلام ، وإنّما عبّر بالقلّة ، ولم يقل لعدم الفائدة لأنّه لا يخلو عن فائدة ما ، وهي إفادة المخاطب عدم معرفة الكلام للّذين في بلاد الشّرق ، وعدم المعرفة هو من الأحوال العامّة الّتي من شأنها عدم الخفاء على المخاطب.

(٥) أي استقباح التّصريح بالاسم ، أي العلم بأقسامه ، إمّا لإشعاره بمعنى تقع النّفرة منه لاستقذاره عرفا نحو : الغائط والفساء ناقضان للوضوء ، فيعدل عن ذلك للاستهجان إلى قولك : الّذي يخرج من أحد السّبيلين ناقض للوضوء.

٣٠٩

أو زيادة التّقرير] أي تقرير الغرض المسوق له الكلام (١) ، وقيل : تقرير المسند ، وقيل :

المسند إليه [نحو : (وَراوَدَتْهُ)] أي يوسف على نبيّنا وعليه‌السلام ، والمراودة مفاعلة من راد يرود ، جاء وذهب (٢)

______________________________________________________

(١) هذا التّفسير من الشّارح ردّ على صاحب (عروس الأفراح) حيث التزم بأنّ المراد من زيادة التّقرير ، زيادة تقرير المسند ، وردّ على بعض آخر ، حيث حمل التّقرير على تقرير المسند إليه ، وإنّما حمل الشّارح التّقرير على تقرير الغرض المسوق له الكلام لوجهين :

الأوّل : إنّ الآية مسوقة لتوصيف يوسف على نزاهته وعلوّ شأنه وطهارة ذيله ، والموصول وصلته يقرّر هذا الغرض ويثبته في الأذهان بوضوح على البيان الّذي ذكره الشّارح ، فإذا حمل التّقرير في عبارة المصنّف على تقرير الغرض أظهر من حمله على تقرير المسند إليه أو المسند.

والثّاني : إنّ المصنّف في الإيضاح قد حمل التّقرير على تقرير الغرض ، حيث قال : وإمّا لزيادة التّقرير نحو قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)(١) فإنّه مسوق لتنزيه يوسف عليه‌السلام عن الفحشاء ، فهذا الكلام ينادي بأعلى صوته على أنّه أراد من التّقرير تقرير الغرض ، هذا في الإيضاح ، وحيث إنّ الإيضاح كالشّرح لهذا الكتاب نستكشف أنّ مراده من التّقرير في المقام أيضا تقرير الغرض ، وأنّ ما ذهب إليه صاحب (عروس الأفراح) لا يخلو عن التّفسير بما لا يرضى صاحبه.

(٢) هذا معناها في الأصل ، قال : من راد ، ولم يقل : من راود إيثارا للأصل الأصيل ، لأنّ أصل (راود) راد ، وزيدت الواو لبيان المفاعلة ، ومعنى (وَراوَدَتْهُ) خادعته مجازا كما أشار إليه بقوله : «فكأنّ المعنى خادعته عن نفسه» والتّعبير بكأنّ المفيدة لعدم الجزم لأنّه لا قدرة له على القطع بأنّ هذا مراد الله تعالى ، فعبّر بعبارة مفيدة للظّنّ ، في المفصّل في شرح المطوّل ما هو لفظه : فكأنّ خبر شرط محذوف والتّقدير إذا كان معنى المراودة المجيء والذّهاب في الأصل ، ولم يكن هذا مرادا حيث إنّ زليخا كانت تخادعه لا أنّها تجيء عنده ، فكأنّ المعنى خادعته عن نفسه ، كلمة عن بمعنى اللّام ، أي لأجل نفسه وذاته لما حوت عليه من الحسن والبهاء ، انتهى.

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٣.

٣١٠

وكأنّ المعنى خادعته عن نفسه ، وفعلت فعل المخادع (١) لصاحبه عن الشّيء الّذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال عليه أن يغلبه ويأخذه منه ، وهي (٢) عبارة عن التّمحّل لمواقعته إيّاها والمسند إليه هو قوله : [(الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)] متعلّق ب (وَراوَدَتْهُ.) فالغرض (٣) المسوق له الكلام نزاهة يوسف عليه‌السلام وطهارة ذيله (٤)

______________________________________________________

(١) في هذا الكلام إشارة إلى أمرين :

الأوّل : إلى عدم تحقّق المخادعة حقيقة إذ لم يحصل لها ما أرادته من المواقعة.

الثّاني : إشارة إلى أنّ المفاعلة ليست على بابها ، لأنّ المخادعة من باب المفاعلة وقوع طلب الزّنا من كلّ منهما ، ويوسف عليه‌السلام معصوم لا يمكن أن يقع منه طلب الزّنا ، فلا بدّ من القول : بأنّ المفاعلة ليست على بابها ، بل المراد بها أصل الفعل وإنّما عبّر بالمفاعلة لقصد المبالغة ، أو يقال : بأنّ المفاعلة وضعت بحكم الاستقراء لإفادة قيام الفاعل مقام إصدار الفعل كما يؤكّد على ذلك قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)(١) فإنّه لا معنى لوقوع المخادعة على الله سبحانه ، بل المعنى إنّهم أقاموا مقام إصدار الخدعة على الله تعالى ، وأرادوا إيقاعها عليه ، ولكن ما وقعت على الله ، بل وقعت على أنفسهم ، فعليه معنى قوله تعالى : (راوَدَتْهُ) أرادت زليخا إيقاع الخدعة على يوسف من أجل نفسه ، فلا يبقى مجال للإشكال.

(٢) أي المخادعة هنا عبارة عن الاحتيال على مجامعة يوسف زليخا ، واللّام في قوله : «لمواقعته» بمعنى على.

(٣) أي إذا علمت ما قلناه لك في معنى المراودة ، فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف عليه‌السلام فيكون هذا بيانا لتقرير الغرض المسوق له الكلام ، وهذا هو الوجه الأوّل من الوجوه الثّلاثة المذكورة في زيادة التّقرير.

(٤) شبّه عدم ارتفاع الذّيل للزّنا بعدم تلوّثه بالنّجاسة على طريق الاستعارة المصرّحة ، ثمّ جعل ذلك كناية عن عدم ملابسة صاحبه للزّنا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٩.

٣١١

والمذكور (١) أدلّ عليه من امرأة العزيز أو زليخا (٢) ، لأنّه (٣) إذا كان في بيتها (٤) ، وتمكّن من نيل المراد عنها ولم يفعل ، كان في غاية النّزاهة (٥) ، وقيل : هو (٦) تقرير للمراودة (٧) لما فيه (٨) من فرط الاختلاط والألفة (٩) ، وقيل : تقرير للمسند إليه (١٠) لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا. والمشهور أنّ الآية مثال لزيادة التّقرير فقط (١١) ، وظنّي أنّها (١٢) مثال لها ،

______________________________________________________

(١) أي الإتيان بالموصول والصّلة أي (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) أدلّ عليه أي الغرض ، وهو نزاهة يوسف عليه‌السلام.

(٢) بفتح الزّاء وكسر اللّام كما في القاموس ، أو بضمّ الزّاء وفتح اللّام كما في البيضاوي.

(٣) أي يوسف.

(٤) أي زليخا ، وفي كون يوسف في بيت زليخا إشعار إلى أنّه مولى وعبد لها ، ثمّ المقصود من المراد هو مرادها لا مراده.

(٥) لأنّ إباءه عليه‌السلام عنها وعدم الانقياد لها يكون غاية النّزاهة عن الفحشاء.

(٦) أي (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها).

(٧) أي المسند بمعنى أنّ المراودة وقعت وثبتت وتقرّرت.

(٨) أي في الكون في بيتها المستفاد من قوله : «لأنّه إذا كان في بيتها».

(٩) أي من شدّة الاختلاط والألفة مع أنّه مملوك لها في زعمها ، وفي الظّاهر وهو في بيتها صارت متمكّنة منه غاية التّمكّن حتّى إذا طلبت منه شيئا لا يمكن له أن يخالفها.

(١٠) أي الّتي صدرت منها المراودة وذلك «لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا» لإمكان تعدّد المسمّاة بها.

(١١) أي المشهور من شرّاح المتن أنّ الآية مثال لزيادة التّقرير فقط.

(١٢) أي الموصوليّة في قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) مثال لزيادة التّقرير ولاستهجان التّصريح بالاسم ، وقد تقدّم بيان كونها مثالا لزيادة التّقرير. وأمّا كونها مثالا لاستهجان التّصريح بالاسم أيضا كما هو المفهوم من المفتاح فلأمور :

الأوّل : إنّ زليخا مركّب من حروف يستقبح السّمع اجتماعها.

٣١٢

ولاستهجان التّصريح بالاسم ، وقد بيّنته في الشّرح (١) [أو التّفخيم] أي التّعظيم والتّهويل (٢) [نحو : (أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما)(١) (٣)] فإنّ في هذا الإبهام من التّفخيم ما لا يخفى (٤) [أو تنبيه المخاطب على الخطأ نحو : إن الذين ترونهم] أي تظنّونهم [إخوانكم يشفي غليل (٥) صدورهم أن تصرعوا] أي تهلكوا أو تصابوا بالحوادث

______________________________________________________

الثّاني : إنّ التّصريح باسم المرأة أمر قبيح لحسّاسيته.

الثّالث : إنّ من به شرف إذا احتيج لنسبة ما صدر عنه ممّا لا يليق يكون التّصريح به مستهجنا مستقبحا.

(١) أي في المطوّل حيث قال فيه : والمفهوم من المفتاح ، إنّها مثال لها ولاستهجان التّصريح بالاسم.

(٢) أي تعظيم المسند إليه ، وتهويله أي تخويف الغير من المسند إليه.

(٣) قال في الكشّاف : (ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار ، ومن جوامع الكلم الّتي يشتمل مع قلّتها على المعنى الكثير ، أي غشي آل فرعون وجنوده (مِنَ الْيَمِ) أي من البحر (ما غَشِيَهُمْ) أي ما لا يدخل تحت العبارة ولا يحيط به إلّا علم الله تعالى.

وحاصل الكلام :

إنّ آل فرعون رأوا من البحر شيئا عجيبا ، وهو تدميرهم عن آخرهم والقضاء على ملكهم.

(٤) أي ما لا يخفى على من له ذوق سليم إذ فيه دلالة على أنّ (ما غَشِيَهُمْ) بلغ من الفخامة والعظمة بحيث يضيق عنه نطاق البيان ولا يعلم كنهه أحد حتّى يعبّر عنه ، أي تهلكوا بالموت ، وحاصل الكلام في قول عبدة بن الطيّب : إنّ قوله : «ترونهم» من الإراءة الّتي تتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل ، فإذا بني للمفعول كما هو في البيت المذكور جرى مجرى الظّنّ ، وانتصب إخوانكم على أنّه المفعول الثّاني.

(٥) وقوله : «غليل» بمعنى الحقد والضغن كما في الصّحاح ، وفي القاموس : الغليل هو العطش أو شدّته أو حرارة الجوف «أن تصرعوا» أي الصّرع فاعل يشفي وهو الإلقاء على الأرض وهنا كناية عن الهلاك أو الإصابة بالحوادث.

__________________

(١) سورة طه : ٧٨.

٣١٣

ففيه (١) من التّنبيه على خطئهم على هذا الظّنّ (٢) ما ليس في قولك : إنّ القوم الفلاني [أو الإيماء] أي الإشارة [إلى وجه بناء الخبر] أي إلى طريقه (٣) تقول : عملت هذا العمل على وجه عملك وعلى جهته أي على طرزه (٤) وطريقته (٥). يعني تأتي (٦) بالموصول والصّلة للإشارة إلى أنّ بناء الخبر عليه من أيّ وجه ، وأيّ طريق من الثّواب والعقاب والمدح والذّمّ وغير ذلك (٧) ، [نحو : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي)

______________________________________________________

(١) أي في الموصول من حيث الصّلة أو في الموصول والصّلة لأنّهما كالشّيء الواحد ، وإلّا فالتّنبيه من الصّلة لا من الموصول ، أي ففي الموصول من حيث الصّلة «من التّنبيه» حيث حكم عليهم بأنّه تحقّق فيهم ما هو مناف للأخوّة ، فيعلم أنّها منتفية ، فيكون ظنّهم للأخوّة خطأ ، بل هم أعداؤهم.

(٢) أي ظنّ الأخوّة ، وحاصل الكلام : إنّ في إثبات المسند إليه بالموصول تنبيه على الخطأ وليس كذلك لو قال الشّاعر : إنّ القوم الفلاني ترونهم ... ، إذ ليس هناك قوم معيّنون يتأتّى التّعبير عنهم بالقوم الفلاني ، فيكون الإتيان بالموصول تنبيها على خطأ ظنّ الأخوّة بالنّاس أيّا كانوا ، وفي أيّ وقت كانوا.

(٣) أي نوعه وصنفه ، إذ المراد من الطّريق هو النّوع والصّنف ، ثمّ إضافة «بناء» إلى «الخبر» من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف ، أي إلى وجه الخبر المبنيّ على المسند إليه ، فيكون الخبر متأخّرا ، لأنّ الإيماء المذكور لا يتحقّق يدون تأخير الخبر ، فاندفع ما قيل : إنّه يلزم على تفسير الشّارح الوجه بالطّريق أن يكون قول المصنّف بناء مستدركا.

(٤) قال في مختار اللّغة الطّرز : الشّكل ، يقال : هذا طرز هذا ، أي شكله.

(٥) عطف تفسير على «طرزه».

(٦) أشار به إلى أنّ في كلام المصنّف نوع مسامحة إذ مقتضاه أنّ الإيماء حاصل بالموصول فقط ، مع أنّه إنّما حصل بالموصول مع الصّلة ، ولذا قال الشّارح : «يعني تأتي» أي أنت «تأتي بالموصول والصّلة للإشارة إلى أنّ بناء الخبر عليه» أي الموصول «من أيّ وجه وأيّ طريق» عطف تفسير على وجه ، والمراد بهما الجنس أو النّوع.

(٧) كالتّرحّم والهجو والتّشويق.

٣١٤

فإنّ فيه (١) إيماء إلى أنّ الخبر المبني عليه أمر من جنس العقاب والإذلال وهو قوله تعالى : (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(١)] ومن الخطأ في هذا المقام تفسير الوجه في قوله إلى وجه بناء الخبر ، بالعلّة والسّبب (٢) ، وقد استوفينا ذلك (٣) في الشّرح (٤) [ثمّ إنّه] أي الإيماء إلى وجه بناء الخبر لا مجرّد جعل المسند إليه موصولا (٥) كما سبق إلى بعض الأوهام (٢)

______________________________________________________

(١) أي في ذكر الموصول مع الصّلة إيماء وإشارة إلى أنّ الخبر المبني على الموصول مع الصّلة هو قوله تعالى : (سَيَدْخُلُونَ) أمر من جنس العقاب ، لأنّ الدّاخرين من الدّخور ، بمعنى الصّغار والذّلّ ، أعني سيدخلون جهنّم صاغرين ذليلين ، هذا بخلاف ما إذا ذكرت أسماء المستكبرين بأنّ يقال : إنّ فرعون وهامان وقارون مثلا سيدخلون جهنّم داخرين إذ حينئذ ليس في الكلام ذلك الإيماء.

(٢) حاصل الكلام في هذا المقام : أنّ الخلخالي فسّر الوجه بالعلّة حيث قال : إنّ الاستكبار في الآية المباركة علّة شرعيّة لدخول جهنّم ، ويقول الشّارح : إنّ المراد بالوجه هو طريق الخبر ونوعه وتفسيره بالعلّة خطأ.

وجه الخطأ : إنّ الإشارة لا تصحّ في جميع الأمثلة ، وبعبارة أخرى تفسيره بالعلّة فاسد لانتقاضه بقوله : «إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا بيتا» إذ ليس سمك السّماء علّة لبناء بيتهم ، وبقوله : «إنّ الّذين ترونهم ...» فإنّ ظنّهم إخوانهم ليس علّة لشفاء غليل صدورهم.

(٣) أي وجه الخطأ ، يعني بيّنّا على وجه يكون وافيا وكافيا.

(٤) أي المطوّل.

(٥) التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ مرجع الضّمير في قوله : «إنّه» هو الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وليس المسند إليه لأنّ رجوع الضّمير إلى المسند إليه غير مناسب ، وذلك لأنّه :

أوّلا : إنّ المرجع عندئذ بعيد.

وثانيا : لأنّه إذا لم يكن متفرّعا على الإيماء لكان المناسب أن يذكر قبل الإيماء أو بعد الإيماء بلا تغيير في الأسلوب ، فالمعنى إنّ الإيماء إلى وجه بناء الخبر ربّما جعل ذريعة

__________________

(١) سورة المؤمن أو غافر : ٦٠.

(٢) الواهم هو الخلخالي.

٣١٥

[ربّما جعل (١) ذريعة] أي وسيلة [إلى التّعريض بالتّعظيم لشأنه] أي لشأن الخبر [نحو : إنّ الّذي (٢) سمك] أي رفع [السّماء بنى لنا (٣) بيتا (٤) أراد (٥) به الكعبة ، أو بيت الشّرف والمجد [دعائمه (٦) أعزّ وأطول]

______________________________________________________

إلى التّعريض ... لا أنّ مجرّد جعل المسند إليه موصولا «ربّما جعل ذريعة» لأنّه لو كان كذلك لقال : أو جعله ذريعة على نسق ما قبله.

فإن قلت : لماذا لم تجعل هذه الأغراض مقصودة من إيراد المسند إليه موصولا ، فلا حاجة حينئذ إلى جعلها تابعة للإيماء متفرّعة عليه.

قلت : إنّه لمّا كانت هذه الأغراض أمورا مهمّة جعل الإيماء توطئة لها ، وإثبات الأمر المهمّ بعد التّوطئة والتّمهيد له أولى من إثباته ابتداء ، فيكون تفريعها عليه أمرا مناسبا مستحسنا لا ضروريّا.

(١) أي جعل الإيماء وسيلة إلى التّعريض بالتّعظيم لشأن الخبر ، والتّعريض عبارة عن دلالة الكلام على معنى ليس له في الكلام ذكر ، نحو : ما أقبح البخل ، يريد أنّه بخيل ، فيكون المقصود من الإيماء التّعريض بالتّعظيم مثلا ، ونفس الإيماء غير مقصود بالذّات ، يعني كلّما وجد جعله ذريعة وجد الإيماء ، من غير عكس بالمعنى اللّغوي ، فالإيماء أوسع مجالا ، لأنّه قد يكون ذريعة وقد لا يكون.

فالفرق بين هذا البحث والمبحث السّابق : أنّ إيراد المسند إليه موصولا كان للإشارة إلى جنس الخبر ونوعه في المبحث السّابق ، وكذلك في هذا المبحث إلّا أن تلك الإشارة في هذا المبحث قد تكون ذريعة للتّعريض بتعظيم شأنه أو شأن غيره أو ذريعة للتّعريض بالإهانة لشأن الخبر أو تحقّق الخبر.

(٢) أي الله تعالى ، لأنّه رفع السّماء.

(٣) أي لأجلنا.

(٤) تنكير البيت إنّما هو للتّعظيم.

(٥) أي أراد الفرزدق بقوله : «بيتا» الكعبة ، أو بيت الشّرف ، إضافة البيت إلى الشّرف بيانيّة ، أو المراد ب «بيت الشّرف» نسبه ، وب «دعائمه» الرّجال الّذين فيه.

(٦) أي البيت صفة بيت جمع دعامة ، وهي عمود البيت ، وحاصل الكلام : إنّ المراد

٣١٦

من دعائم كلّ بيت (١) ، ففي قوله (٢) : إنّ الّذي سمك السّماء ، إيماء إلى أنّ الخبر المبنيّ عليه (٣) أمر من جنس الرّفعة والبناء عند من له ذوق سليم ثمّ فيه (٤) تعريض بتعظيم بناء بيته لكونه (٥) فعل من رفع السّماء الّتي لا بناء أعظم منها وأرفع (٦)

______________________________________________________

بالبيت في قول الفرزدق : «بيتا» هو الكعبة على قول القطب ، وبيت المقدس على قول ، وبيت الشّرف والمجد على قول الزّوزني ، والظّاهر إنّ المراد به هو بيت الشّرف والمجد ، وذلك لأنّ المستفاد من القصيدة الّتي هذا البيت فيها أنّ الفرزدق كان في مقام الافتخار على جرير ، بأنّ آباءه أماجد وأشراف حيث إنّهم من قريش بخلاف آباء جرير ، فإنّهم كانوا من أراذل بني تميم ، فعليه نفس القصيدة آبية عن حمل البيت على الكعبة ، فالمتعيّن حمله على بيت الشّرف والمجد ، على أنّه لا وجه لافتخار الفرزدق على جرير بالكعبة فإنّها مشتركة بين جميع المسلمين ، وكان جرير مسلما ، وكذلك سائر بني تميم ، ثمّ المراد ب «دعائمه» الرّجال الّذين كانوا في القريش بناء على كون المراد بالبيت بيت الشّرف وعواميد الكعبة المعظّمة بناء على أنّها المراد به.

(١) حذف المفضّل عليه ، إذ لم يرد الشّاعر أن يثبت لهم بيوتا عزيزة طويلة ، وهذا أعزّ منها احتقارا لهم ، لأنّهم لم يسبق منهم دعوى ذلك.

(٢) أي الفرزدق.

(٣) أي الموصول ، وحاصل الكلام : إنّ في قوله : «إنّ الّذي سمك السّماء» إيماء إلى أنّ الخبر المبنيّ عليه شيء من جنس الرّفعة والبناء بخلاف ما إذا قيل : إنّ الله تعالى سمك السّماء.

(٤) أي في ذلك الإيماء بواسطة الصّلة «تعريض» أي إشارة خفيّة «بتعظيم بيته» أي الفرزدق.

(٥) أي بناء بيته «فعل من رفع السّماء الّتي لا بناء أعظم منها وأرفع منها».

(٦) في مرأى العين ، فلا يرد أنّ العرش أعظم منها.

لا يقال : إنّما الموجود في قول الشّاعر : التّعريض بتعظيم البيت ، وهو مفعول ، لا بتعظيم البناء الّذي هو الخبر.

٣١٧

[أو] ذريعة إلى تعظيم [شأن غيره] أي غير الخبر [نحو : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)(١) ففيه (١) إيماء إلى أنّ الخبر المبني عليه ممّا ينبئ عن الخيبة والخسران وتعظيم لشأن شعيب (٢) عليه‌السلام ، وربّما يجعل (٣) ذريعة إلى الإهانة لشأن الخبر ، نحو : إنّ الّذي لا يحسن معرفة الفقه قد صنّف فيه ، أو لشأن غيره (٤). نحو : إنّ الّذي يتبع الشّيطان فهو خاسر (٥) ، [وقد يجعل (٦) ذريعة إلى تحقيق الخبر] أي جعله محقّقا ثابتا نحو :

إنّ الّتي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

______________________________________________________

فإنّه يقال : إنّ تعظيم البيت بواسطة تعلّق بناء من بنى السّماء به لا بسبب آخر ، فعليه لا بدّ من الالتزام بأنّ في إيراد المسند إليه موصولا في قول الفرزدق إيماء إلى تعظيم الخبر.

(١) أي الموصول مع الصّلة «إيماء إلى أنّ الخبر» وهو (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) «ممّا ينبئ ...» أي يشعر بالخيبة والخسران لأنّ شعيبا عليه‌السلام نبيّ فتكذيبه يوجب الخيبة والخسران ، ثمّ الخسران عطف تفسير على الخيبة ، ويشعر بعظمة شعيب.

(٢) أي حيث أوجب تكذيبه الخسران في الدّارين ، فكان عظيما إذ لو لم يكن عظيما لما أوجب تكذيبه الخسران ، وكان المناسب أن يقول : وفي هذا الإيماء تعظيم لشأن شعيب ، وهو ليس بخبر بل مفعول به ، فيكون الموصول مع الصّلة ذريعة إلى تعظيم شأن غير الخبر.

(٣) أي يجعل الإيماء المذكور وسيلة إلى الإهانة لشأن الخبر حيث يكون الموصول مع الصّلة ذريعة إلى إهانة التّصنيف المستفاد من عدم معرفة المصنّف لعلم الفقه.

(٤) أي غير الخبر.

(٥) حيث يكون الموصول مع الصّلة إشارة إلى أنّ الخبر المبنيّ عليه من جنس الخيبة والخسران ، وتلك الإشارة وسيلة إلى إهانة الشّيطان الّذي هو مفعول به ل «يتّبع» إذ من كان اتّباعه موجبا للخيبة والخسران كان مهانا ومحقّرا.

(٦) أي قد يجعل الإيماء المذكور وسيلة «إلى تحقّق الخبر» أي تقريره وتثبيته ، وبعبارة أخرى : جعل الخبر مقرّرا وثابتا في ذهن السّامع حتّى كان الإيماء المذكور برهانا ودليلا

__________________

(١) سورة الأعراف : ٩١.

٣١٨

فإنّ في ضرب البيت بكوفة الجند والمهاجرة إليها إيماء إلى أنّ طريق بناء الخبر ممّا ينبئ عن زوال المحبّة وانقطاع المودّة ، ثمّ أنّه يحقّق زوال المودّة ، ويقرّره حتّى كأنّه برهان عليه ، وهذا (١) معنى تحقيق الخبر وهو مفقود في مثل : إنّ الّذي سمك السّماء ، إذ ليس في رفع الله تعالى السّماء تحقيق وتثبيت لبنائه لهم بيتا ، فظهر الفرق بين الإيماء وتحقيق الخبر [وبالإشارة (٢)] أي تعريف المسند إليه بإيراده اسم الإشارة [لتمييزه] أي المسند إليه [أكمل تمييز (٣)]

______________________________________________________

عليه ، وذلك فيما إذا كانت الصّلة تصلح دليلا لوجود الخبر وحصوله نحو قوله :

إنّ الّتي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

تحقيق الكلام في مفردات البيت المذكور : «ضربت» بمعنى أقامت ، «مهاجرة» اسم فاعل باب مفاعلة من الهجرة ، بمعنى الخروج من أرض إلى أخرى «كوفة الجند» مركّب إضافي ، اسم بلدة مشهورة ، سمّيت بذلك لإقامة جند كسرى فيها ، «الجند» كقفل ، هو الجيش «غالت» بمعنى هلكت «الودّ» بمعنى الحبّ «غول» بمعنى المهلك ، وهو نوع من الجنّ. ومحلّ الشّاهد : قوله : «الّتي ضربت» حيث أوتي بالمسند إليه موصولا كي يكون مشيرا إلى أنّ الخبر المبني عليه أمر من جنس زوال المحبّة وانقطاع المودّة ، وتعريضا بتحقيقه وتثبيته في ذهن المخاطب بحيث لا يبقى معه شكّ فيه ، وذلك لأنّ ضربها البيت في كوفة الجند مهاجرة من الوطن الأصليّ معلول عادة عن زوال المحبّة وانقطاع المودّة ، ولا ريب أنّ الذّهن إذا التفت إلى المعلول ينتقل منه إلى علّته انتقالا قطعيّا ، وهذا معنى تحقيق الخبر ، وضمير «عليه» عائد إلى زوال المحبّة.

(١) كأنّه جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّه لا فرق بين الإيماء وتحقيق الخبر ، بل هما سواء ، وحاصل الجواب : إنّ معنى تحقيق الخبر أنّ صلة الموصول برهان على وجود الخبر بخلاف الإيماء حيث إنّ مجرّد الإيماء لا يكون محقّقا للخبر ما لم يكن الموصول المومى باعتبار صلته برهانا إنّيّا أو لمّيّا عليه ، فكلّ موصول يكون محقّقا للخبر مومى له ، ولا عكس ، فبينهما عموم وخصوص مطلق.

(٢) عطف على قوله : «وبالعلميّة».

(٣) إضافة «أكمل» إلى ال «تمييز» من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف ، فالمعنى التّمييز الأكمل ، هو أن يكون التّمييز بالقلب والعين معا ، ولا يحصل ذلك إلّا باسم الإشارة ، لأنّ الإشارة بمنزلة وضع اليد عليه.

٣١٩

لغرض من الأغراض (١) [نحو : هذا أبو الصّقر فردا (٢)] نصب على المدح أو على الحال [في محاسنه] من نسل شيبان بين الضّالّ والسّلم ، وهما شجرتان بالبادية ، يعني يقيمون

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ كلام المصنّف يقتضي أن يكون اسم الإشارة أعرف المعارف ، وهو خلاف ما عليه الجمهور من أعرف المعارف ، هي المضمرات ، ثمّ الأعلام.

قلت : إنّ كونه مفيدا لتمييز المسند إليه أكمل تمييز لا يستلزم كونه أعرف المعارف ، وذلك فإنّ ضمير المتكلّم أعرف منه من دون شكّ ، وكذلك ضمير الخطاب ، لأنّ الحضور فيه داخل في المستعمل فيه دون اسم الإشارة فإنّه لازم له فيه ، وكذلك العلم لكونه موضوعا لشخص معيّن ، فمدلوله متعيّن بحسب الوضع دون اسم الإشارة ، فإنّ مدلوله يتعيّن في مرحلة الاستعمال دون مرحلة الوضع ، لكون الموضوع له فيه كلّيّا على رأي القدماء ، وهو مختار المصنّف والشّارح ، وفي المقام بحث طويل تركناه رعاية للاختصار.

(١) مثل المبالغة في المدح أو الذّمّ ، أو التّنبيه على غباوة السّامع وغيرها.

(٢) قوله : «الصّقر» كفلس ، كنية ممدوح الشّاعر ، وهو ابن الرّومي «المحاسن» كمجالس ، جمع حسن على غير القياس ، وهو ضدّ القبح «النّسل» بمعنى الولد «شيبان» كسكران ، أبو قبيلة «الضّالّ» جمع الضّالّة و «السّلم» جمع سلمة وهما شجرتان بالبادية ، الأولى : شجرة السّدر البرّي ، والثّانية : شجرة ذات شوك.

وغرض ابن الرّومي مدح أبي الصّقر ، لكونه من القوم الّذين يقيمون بالبادية ، حيث إنّ العرب كانوا يفتخرون بالإقامة بالبادية ، ويعتقدون أنّ فقد العزّ في الحضر ، وهو كذلك في الجملة ، لأنّ من كان في الحضر تناله غالبا يد أراذل النّاس ، أو يقال : إنّ عزّهم بفصاحتهم ، وكمال فصاحتهم في إقامتهم بالبادية ، إذ لو تركوها وأقاموا في الحضر ، وقع الاختلاط بينهم وبين أهل الحضر الّذين فيهم أعاجم ، فيختلط كلامهم بكلامهم ، فيكون مخلا بفصاحتهم ، فيكون عزّهم مفقودا.

ثمّ قوله : «فردا» نصب على المدح ، فلفظة «على» للتّعليل ، أي نصب لأجل المدح.

فالتّقدير : أمدح فردا ، أو نصب على الحال من الخبر أعني أبو الصّقر.

لا يقال : إنّ الحال لا تأتي من الخبر كما لا تأتي من المبتدأ عند المشهور.

فإنّه يقال : سوّغ ذلك كون الخبر هنا مفعولا في المعنى لمعنى اسم الإشارة ، أو هاء التّنبيه لتضمّن كلّ منهما معنى الفعل.

٣٢٠