دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

جمع شتيت (١) كمريض ومرضى (٢) [يلابس (٣) الفاعل والمفعول به والمصدر والزّمان والمكان والسّبب] لم يتعرّض للمفعول معه والحال ونحوهما (٤) لأنّ الفعل لا يسند إليها (٥)

______________________________________________________

(١) أي «شتّى» جمع شتيت ، فليس بمفرد حتّى يقال : إنّ الصّفة أعني «شتّى» لا تكون موافقة للموصوف أعني ملابسات.

(٢) ونحوه كقتيل وقتلى ، وجريح جرحى.

(٣) استيناف ، لتفصيل الملابس استينافا بيانيّا ، فكأنّه قيل : ما تلك الملابسات؟ وقيل في الجواب : «يلابس الفاعل ...» والوجه في كون الفاعل من ملابسات الفعل ، أنّه يصدر أو يقوم به. وجه كون المفعول به كذلك لوقوع الفعل عليه. والسّرّ في كون المصدر من ملابسات الفعل أنّه جزء معناه. والسّرّ في كون الزّمان والمكان كذلك إنّ الفعل يدلّ عليهما التزاما حيث إنّه لا بدّ من زمان ومحلّ يقع فيهما والمراد منهما هو المفعول فيه. والوجه في كون السّبب من ملابسات الفعل أنّه هو الحامل والباعث عليه. وذكر المرحوم الشّيخ موسى البامياني رحمه‌الله هنا ما لا يخلو ذكره عن فائدة ، وقال ما هذا لفظه : ثمّ إنّه قد يقال : إنّ الشّارح قد عدّ من جملة معنى الفعل المصدر والصفة المشبّهة واسم التّفضيل والظّرف وعدّ من جملة الملابسات المصدر والمفعول به ، ولازم ذلك جواز ملابسة المصدر للمصدر وجواز ملابسة الصّفة المشبّهة واسم التّفضيل والظّرف للمفعول به ، وكلّ منهما باطل للزوم ملابسة الشّيء لنفسه في الأوّل ، ونصب الصّفة المشبّهة واسم التّفضيل والظّرف المفعول به في الثّاني ، وقد قرّر في محلّه أنّها لا تنصب مفعولا.

وأجيب عن ذلك : إنّ الكلام على نحو التّوزيع لا على نحو الاشتراك ، أي ليس معنى ملابسة الفعل أو معناه للأمور المذكورة أنّ كلّا منهما يلابس كلّها ، بل موكول إلى القارئ العالم بالقواعد ، فقوله : «المصدر» معناه أي في غير المصدر ، وقوله : «المفعول به» معناه أي في غير الصّفة المشبّهة والظّرف واسم التّفضيل ، على أنّه لا يلزم من ملابسة المصدر للمصدر ملابسة الشّيء لنفسه دائما لجواز أن يكونا متغايرين كما في قولك : أعجبني قتل الضّرب ، انتهى.

(٤) أي كالتّمييز والمستثنى والمفعول له.

(٥) أي الأمور المذكورة لا حقيقة ولا مجازا ، بخلاف المفعول به والمصدر والزّمان

٢٤١

[فإسناده إلى الفاعل أو المفعول به إذا كان مبنيّا له] أي للفاعل أو المفعول به يعني أنّ إسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيّا للفاعل أو إلى المفعول به إذا كان مبنيّا للمفعول به [حقيقة كما مرّ] من الأمثلة [و] إسناده [إلى غيرهما] أي غير الفاعل أو المفعول به يعني

______________________________________________________

والمكان حيث إنّ الفعل يسند إليها مجازا كما عرفت.

فإن قلت : هذه الأمور يسند إليها الفعل أيضا ، فيصحّ أن يقال في (جاء الأمير والجيش) جاء الجيش في الحال جاء الرّاكب.

قلت : المراد إنّ هذه الأمور لا يصحّ إسناد الفعل إليها مع بقائها على معانيها المقصودة منها ، كالمصاحبة في المفعول معه ، وبيان الهيئة في الحال ورفع الإبهام في التّمييز ، فإنّ هذه المعاني لا تفهم فيما إذا رفع الاسم وأسند إليه الفعل.

ومن هذا البيان ظهر الفرق بين المفعول به ، وهذه الأمور. وحاصل الفرق : إنّ المفعول به ليس إلّا ما وقع عليه فعل الفاعل ، ولا يعتبر في مفهومه شيء أزيد من ذلك ، وهذا المعنى لا يتغيّر عند وقوعه نائبا عن الفاعل وإنّما يتغيّر نصبه وهو ليس داخلا في مفهومه ، فمن ذلك لا بأس بنيابته عنه ، بخلاف تلك الأمور. فإنّ المعتبر في حقيقة المفعول معه بأن يذكر بعد الواو الّتي هي للمصاحبة ، وفي التّمييز أن يكون رافعا للإبهام الكائن في الذّات أو النّسبة ، وفي الحال أن يكون مبيّنا لهيئة فاعل أو مفعول ، وتلك الخصوصيّات تزول عند وقوعها نائبة عن الفاعل ، فمع بقائها على حالها لا يمكن تحقّق النّيابة فيها. والّذي يدلّنا على ما ذكرناه من أنّ المعتبر في حقيقة هذه الخصوصيّات المذكورة هي التّعاريف الّتي ذكرها النّحاة ، قال ابن مالك في تعريف المفعول معه :

ينصب تالي الواو مفعولا معه

في نحو يسري والطّريق مسرعة

وفي تعريف الحال :

الحال وصف فضلة تنصب

مفهم في حال كفردا اذهب

وفي تعريف التّمييز :

اسم بمعنى من مبيّن نكرة

ينصب تمييزا بما قد فسّره

وفي تعريف المفعول له :

٢٤٢

غير الفاعل في المبنيّ للفاعل وغير المفعول به في المبنيّ للمفعول به [للملابسة] يعني لأجل أنّ ذلك الغير يشابه ما هو له في ملابسة الفعل [مجاز (١) كقولهم : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) فيما بني للفاعل وأسند إلى المفعول به (٢) إذ العيشة مرضيّة [وسيل مفعم] في عكسه أعني

______________________________________________________

ينصب مفعولا له المصدر إن

أبان تعليلا كجد شكرا ودن

فإنّ هذه التّعاريف تنادي بأعلى صوتها على أنّ الكينونة بعد واو المصاحبة معتبرة في حقيقة المفعول معه والمبيّنة للهيئة داخلة في مفهوم الحال ، والرّافعيّة للإبهام معتبرة في التّمييز والدّلالة على العلّيّة داخلة في حقيقة المفعول له ، ومعلوم أنّ هذه الخصوصيّات تزول عند النّيابة ، فلا يمكن أن تقع نائبة مع بقائها على حالها.

(١) توضيح المجاز : إنّ الرّضا صفة الرّاضي ، فحقيقة الكلام : رضي الرّجل عيشة ، فأسند الفعل إلى المفعول به من غير أن يبنى له ، فحصل رضيت العيشة ، وهو معنى كونه مجازا ثمّ سبك من الفعل المبنيّ للفاعل اسم فاعل ، فقيل عيشة راضية ، فقد جعل المفعول به فاعلا. وبعبارة أخرى إنّ أصله رضي المؤمن عيشة ، ثمّ أقيمت عيشة مقام المؤمن ، لمشابهة بينهما في تعلّق الفعل ، فصار رضيت عيشته ، وهو فعل مبنيّ للفاعل ، فاشتقّ اسم الفاعل منه وأسند إلى ضمير المفعول ، وهو عيشة بعد تقديمه وجعله مبتدأ ، ثمّ حذف المضاف إليه ، فأصبح عيشة راضية. وقال بعضهم الآخر : إنّ الأصل في هذا التّركيب عيشة رضيها صاحبها ، فالرّضا كان في الأصل مسندا إلى الفاعل الحقيقيّ ، وهو الصّاحب ثمّ حذف الفاعل وأسند الرّضا إلى ضمير العيشة ، وقيل : عيشة رضيت ، لما بين الصّاحب والعيشة من المشابهة في تعلّق الرّضا بكلّ وإن اختلفت جهة التّعلّق ، فإنّ تعلّقه بالصّاحب من حيث الحصول منه ، وبالعيشة من حيث وقوعه عليها ، فصار ضمير العيشة فاعلا نحويّا لا حقيقيّا ، ثمّ اشتقّ من رضيت راضية ، ففيه معنى الفعل وأسند إلى المفعول الحقيقيّ فصار عيشة راضية. ونسب إلى الخليل أنّه لا مجاز في هذا التّركيب ، بل الرّاضية بمعنى ذات رضى ، فتكون بمعنى مرضيّة ، فهو نظير لابن وتامر ، وهو مشكل بدخول التّاء ، لأنّ هذا البناء يستوي فيه المذكّر والمؤنّث إلّا أن تحمل على المبالغة.

ثمّ إنّ محلّ الشّاهد هو إسناد الرّاضية إلى الضّمير المستتر الرّاجع إلى العيشة لا إسناده إلى العيشة ، لأنّه إسناد إلى المبتدأ ، والإسناد إليه ليس بحقيقة ولا مجاز عند المصنّف.

(٢) أي أسند قوله : «راضية» إلى ضمير ال «عيشة» المفعول به.

٢٤٣

فيما بني للمفعول (١) وأسند إلى الفاعل (٢) لأنّ السّيل هو الّذي يفعم أي يملأ من أفعمت الإناء أي ملأته [وشعر شاعر] في المصدر (٣) والأولى التّمثيل بنحو جدّ جدّه (٤) لأنّ الشّعر ههنا بمعنى المفعول (٥)

______________________________________________________

(١) أي فيما بني للمفعول النّحوي.

(٢) أي أسند إلى الفاعل الحقيقيّ وهو السّيل ، يعني ضميره ، وتوجيه المجاز فيه أنّ الإفعام صفة السّيل فكان أصله أفعم السّيل الوادي ، بمعنى ملأه ، ثمّ بني أفعم للمفعول ، أي أفعم السّيل على صيغة المجهول ، وهو معنى كونه مجازا ، لأنّ السّيل هو مفعم الوادي بالأحجار وغيرها ، والوادي هو المفعم فكون السّيل مفعما مجاز ، ثمّ اشتقّ منه اسم المفعول وأسند إلى الضّمير للفاعل الحقيقيّ بعد تقديمه وجعله مبتدأ ، فصار «سيل مفعم» مع أنّ السّيل هو المفعم لا المفعم ، والمفعم هو الوادي ، ولكن لمشابهته بالوادي في تعلّق الفعل بكلّ أسند إلى ضميره اسم المفعول قصدا للمبالغة.

لا يقال : إنّ سيلا نكرة ، والمعروف عند النّحاة عدم جواز وقوع النّكرة مبتدأ.

فإنّه يقال : إنّه يجوز الابتداء بالنّكرة إذا قصد بها العموم والمقام من هذا القبيل.

(٣) أي فيما بني للفاعل ، وأسند إلى المصدر الضّمير الرّاجع إلى المصدر الّذي هو مبتدأ ، ثمّ المبتدأ وهو «شعر» وإن كان نكرة إلّا أنّه ممّا أريد منه العموم فيجوز الابتداء بها.

(٤) أي اجتهد اجتهاده أو جدّ اجتهاده ، ثمّ وجه إسناد الاجتهاد إلى الجدّ لكثرة اجتهاده فكأنّه اعتبر جدّا وكان أصل «جدّ جدّه» جدّ الرّجل في جدّه ، فحذف الفاعل ، وأسند الفعل المبنيّ له إلى المصدر مبالغة ، فصار «جدّ جدّه» وأصبح مجازا ، لأنّ الجادّ هو صاحب الجدّ ومن قام به الجدّ لا نفس الجدّ. ثمّ وجه أولويّة هذا المثال المذكور إنّ الشّعر وإن كان في الأصل مصدرا يطلق على نظم الكلمات لكن غلب استعماله في الكلام الموزون نحو : قلت الشّعر ، فيكون بمعنى المفعول به فلا يكون مثالا آخر ، بل داخلا فيما قبله فيكون تكرارا.

(٥) أي بحسب ما هو المتبادر منه عرفا وإن جاز أن يكون بمعنى التّأليف وهو المعنى المصدريّ ، ولهذا لم يقل الصّواب ، بل قال : أولى ، فعلى هذا الفرض أعني كون الشّعر بمعنى المفعول ، يكون قوله : «شعر شاعر» من قبيل (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) في أنّ ما بني للفاعل النّحوي قد أسند إلى المفعول الحقيقيّ.

٢٤٤

[ونهاره صائم] في الزّمان (١) [ونهر جار] في المكان (٢) ، لأنّ الشّخص صائم في النّهار ، والماء جار في النّهر ، [وبنى الأمير المدينة] في السّبب (٣) ، وينبغي أن يعلم أنّ المجاز العقليّ (٤) يجري في النّسبة الغير الإسناديّة أيضا (٥) ، من الإضافيّة والإيقاعيّة (٦) نحو :

______________________________________________________

(١) حيث أسند «صائم» إلى ضمير النّهار ، وهو (زمان). وتوجيه المجاز إنّ حقيقة هذا التّركيب وأصله وإن كان (صام المرء نهاره) أي في نهاره ، ثمّ حذف الفاعل وأسند الفعل المبنيّ له إلى الزّمان فصار صام نهاره ، وهذا معنى كونه مجازا ثمّ اشتقّ من الفعل اسم الفاعل ، وأخبر به عن النّهار ، فقيل «نهاره صائم» ففي صائم ضمير يرجع إلى نهاره هو فاعل الصّوم أسند إليه الصّوم إسنادا مجازيّا ، لأنّ الصّائم هو الشّخص لا النّهار ، وبالجملة إنّ ما بني للفاعل النّحوي قد أسند إلى الزّمان الحقيقيّ لمشابهته بالفاعل الحقيقيّ أي الشّخص في تعلّق الفعل بكلّ منهما وإن اختلفت جهة التّعلّق ، فإنّ تعلّقه بالشّخص على جهة القيام والصّدور وبالنّهار على جهة الوقوع فيه.

(٢) أي أسند ما بني للفاعل النّحوي إلى المكان الحقيقيّ لمشابهته له بتعلّق الفعل بكلّ منهما كما عرفت وهذا الإسناد ليس إلّا إسنادا مجازيّا ، لأنّ الجاري هو الماء في النّهر لا النّهر.

(٣) أي أسند ما بني للفاعل النّحوي إلى السّبب الآمر لمشابهته له في تعلّق الفعل بكلّ منهما ، فإنّ الأمير سبب وليس هو الفاعل الحقيقيّ.

(٤) وكذا الحقيقة العقليّة تجري في النّسبة الغير الإسناديّة.

(٥) أي كما يجري في النّسبة الإسناديّة ، فهذا الكلام من الشّارح اعتراض على المصنّف.

وحاصل الاعتراض : إنّ تعريف المصنّف للمجاز العقليّ غير جامع حيث لا يشمل للنّسب الإضافيّة والإيقاعيّة ، مع أنّ المجاز العقليّ يجري فيهما أيضا ، وإذا جرى فيهما المجاز العقليّ جرت الحقيقة العقليّة أيضا ، فلا وجه لاختصاص الحقيقة والمجاز بالنّسبة الإسناديّة كما يوهمه كلام المصنّف.

(٦) النّسبة الإيقاعيّة : هي نسبة الفعل إلى المفعول ، فإنّ الفعل المتعدّي واقع على المفعول أي متعلّق به ثمّ المراد بالنّسبة الإضافيّة ههنا إضافة المصدر إلى غير ما حقّه أن يضاف إليه والمجاز في النّسبة الإيقاعيّة عبارة عن إيقاع الفعل المتعدّي على غير ما حقّه أن يوقع عليه.

٢٤٥

أعجبني إنبات الرّبيع البقل وجري الأنهار (١) ، قال الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما)(١) (٢) (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣) ونحو : نوّمت اللّيل وأجريت النّهر (٤) ، قال الله تعالى : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)(٢) (٥)

______________________________________________________

(١) النّسبة في هذين المثالين إضافيّة ، غاية الأمر إنّ المضاف إليه في المثال الأوّل زمان وفي الثّاني مكان ، فإضافة الإنبات إلى الرّبيع في المثال الأوّل وإضافة الجري إلى الأنهار في المثال الثّاني ، هي إضافة الشّيء إلى غير ما هو حقّه أن يضاف إليه فتكون مجازا.

(٢) أي بين الزّوجين ، حيث تكون إضافة الشّقاق إلى (بَيْنِهِما) إضافة الشّيء إلى غير ما حقّه أن يضاف إليه ، لأنّ الشّقاق والخلاف ليس من الأوصاف القائمة على (بين الزّوجين) بل من العوارض الطّارئة على نفسهما فتكون إضافته إلى البين مجازا لكونها من إضافة الشّيء إلى غير ما هو له.

(٣) إضافة المكر إلى اللّيل والنّهار مجاز بناء على الإضافة بمعنى اللّام ولو جعلت الإضافة بمعنى في ، فلا يكون مجازا بل حقيقة. وذلك إنّ المعنى على تقدير الأوّل إنّ المكر للّيل والنّهار مع أنّه ليس من الأمور القائمة باللّيل والنّهار ، بل قائم بالماكر في اللّيل والنّهار ، فتكون إضافته إليهما مجازا لكونها من إضافة الشّيء إلى غير ما هو له ، هذا في النّسبة الإضافيّة حيث تكون الأمثلة المذكورة من أمثلة النّسبة الإضافيّة.

(٤) هذان المثالان من أمثلة النّسبة الإيقاعيّة ، ولذا أضاف كلمة «نحو» وقال : «نحو : نوّمت اللّيل وأجريت النّهر» كان الأوّل في الأصل نوّمت زيدا في اللّيل ، والثّاني أجريت الماء في النّهر ، فإيقاع الفعل المتعدّي على اللّيل في الأوّل ، وعلى النّهر في الثّاني إيقاع على غير ما هو له ، فيكون مجازا.

(٥) تقريب كون النّسبة الإيقاعيّة مجازا : إنّ نسبة الإطاعة إلى أمر المسرفين وفعلهم نسبة إلى غير ما هو له ، لأنّ المطاع في الحقيقة هو نفس المسرفين ، لا أمرهم فتكون النّسبة الإيقاعيّة فيه مجازا. والمتحصّل من الجميع أنّه ينقض تعريف المجاز في كلام المصنّف ـ أعني إسناد الفعل إلى غير ما هو له ـ بهذه الأمثلة لكونها مجازا مع عدم صدق التّعريف عليها فيكون باطلا.

__________________

(١) سورة النّساء : ٣٩.

(٢) سورة الشّعراء : ١٥١.

٢٤٦

والتّعريف المذكور إنّما هو للإسنادي (١) اللهمّ إلّا أن يراد بالإسناد مطلق النّسبة (٢) وههنا مباحث نفيسة وشحنا بها في الشّرح (٣) [وقولنا] في التّعريف (٤) [بتأوّل يخرج ما مرّ من

______________________________________________________

(١) أي التّعريف المذكور مختصّ بالنّسبة الإسناديّة لا يشمل الإضافيّة والإيقاعيّة ، فلا يكون جامعا.

(٢) أي يراد بالإسناد مطلق النّسبة سواء كانت تامّة كالنّسبة الإسناديّة أو ناقصة كالنّسبة الإضافيّة كانت بين الطّرفين أو بين المسند والمفعول كالنّسبة الإيقاعيّة ، غاية الأمر ذكر المقيّد وإرادة المطلق يكون مجازا مرسلا كإطلاق المرسن على الأنف ، فإنّ الإسناد هو النّسبة التّامّة بين المسند والمسند إليه فاستعمل في مطلق النّسبة ، إلّا أنّ خذا الجواب لا يخلو عن الضّعف كما يشعر به قوله : «اللهمّ» إذ لو سلّم ما ذكره الشّارح ينافي تمثيل المصنّف ، لأنّه لم يأت بمثال إلّا من الإسنادي.

(٣) «وشحنا» من التّوشيح بمعنى التّزيين ، فمعنى العبارة : وههنا مباحث شريفة زيّنّا بها في المطوّل.

(٤) لا يقال : ههنا سوء ترتيب ، وهو أنّه أخّر فائدة قيود الحدّ عن قوله : «وله ملابسات شتّى».

فإنّه يقال : ليس الأمر كذلك ، إذ قوله : «وله ملابسات شتّى» تبيين للحدّ وتحقيق لمعناه ، فينبغي أن لا يتخلّل بينه وبين الحدّ كلام آخر ، فلو لم يؤخّر ذكر فائدة قيود الحدّ لحصل سوء التّرتيب. وبعبارة أخرى : إنّ توهّم وجوب تقديم هذا الكلام ـ أعني قولنا بتأوّل ... ـ على قوله : «وله ملابسات شتّى» من جهة كونه مسوقا لغرض بيان فائدة القيود المذكورة في التّعريف فاللّازم أن لا يحصل الفصل بينهما بقوله : «وله ملابسات شتّى» مدفوع بأنّ قوله : «وله ملابسات شتّى» أشدّ ارتباطا بالحدّ من هذا الكلام ، وذلك لأنّه مسوق للتّنبيه ، وتحقيق معناه فكأنّه جزء له ، فلو يؤخّر ذكر فائدة القيود عنه لحصل سوء التّرتيب ، فليس في كلام المصنّف سوء التّرتيب بل ترتيبه أحسن باعتبار كون قوله السّابق (تحقيقا للتّعريف وتفصيلا لما يصدق هو عليه وهذا الكلام منه بيان لفائدة قيود التّعريف.

٢٤٧

قول الجاهل (١)] أنبت الرّبيع البقل رائيا (٢) الإنبات من الرّبيع فإنّ هذا الإسناد وإن كان إلى غير ما هو له في الواقع لكن لا تأوّل فيه لأنّه (٣) مراده ومعتقده وكذا شفى الطّبيب المريض (٤) ونحو ذلك (٥) فقوله : بتأوّل يخرج ذلك (٦) كما يخرج الأقوال الكاذبة (٧) وهذا (٨) تعريض بالسّكّاكي حيث جعل التّأوّل لإخراج الأقوال الكاذبة فقط (٩)

______________________________________________________

(١) أي الجاهل بالمؤثّر القادر.

(٢) أي معتقدا ذلك ، وهذا بيان لمعنى الجاهل.

(٣) أي لأنّ الإسناد المذكور مراد الجاهل ومعتقده فيكون حقيقة لا مجازا.

(٤) أي كقول الجاهل النّافي للمؤثّر القادر «شفى الطّبيب المريض» حيث إنّ إسناد الشّفاء إلى الطّبيب ليس بتأوّل لأنّه يعتقد أنّ الشّفاء إنّما هو من الطّبيب وإن كان إلى غير ما هو له في الواقع ، لأنّ الشّافي هو الله تعالى.

(٥) أي نحو : شفى الطّبيب المريض ممّا لا يطابق الاعتقاد دون الواقع كما في إسناد الفعل للأسباب العاديّة إذا كان يعتقد تأثيرها نحو : أحرقت النّار الحطب ، وقطع السّكّين الحبل ، فالإسناد في الجميع حقيقة عقليّة لانتفاء التّأويل فيها.

(٦) أي ما ذكر كقول الجاهل : أنبت الرّبيع البقل ونحوه.

(٧) نحو : جاء زيد ، وأنت تعلم أنّه لم يجئ فإنّ إسناد الفعل وإن كان إلى غير ما هو له ، إلّا أنّه لا تأوّل فيه ، فإنّ الكاذب لا ينصب قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له ، كما أشار إليه الشّارح في المطوّل بقوله : فإنّه لا تأوّل فيها.

واعترض عليه بأنّ ظاهر كلام الشّارح يدلّ على أنّ قول الجاهل المذكور ليس من الأقوال الكاذبة ، مع أنّه منها.

وأجيب : بأنّ المراد من «الأقوال الكاذبة» هي الّتي يعتقد المتكلّم كذبها ويقصد ترويجها ، وقول الجاهل ليس منها بهذا الاعتبار لأنّه يعتقد صدقه.

(٨) أي قول المصنّف وهو «قولنا : بتأوّل».

(٩) أي دون قول الجاهل ، مع أنّه يخرج أيضا.

٢٤٨

وللتّنبيه (١) على هذا تعرّض المصنّف في المتن لبيان فائدة هذا القيد (٢) مع أنّه ليس ذلك من دأبه (٣) في هذا الكتاب واقتصر (٤) على بيان إخراجه لنحو قول الجاهل مع أنّه يخرج الأقوال الكاذبة أيضا [ولهذا (٥)] أي لأنّ مثل قول الجاهل خارج عن المجاز لاشتراط التّأوّل فيه [لم يحمل نحو قوله :

أشاب الصّغير (٦) وأفنى الكبي

ر كرّ الغداة ومرّ العشيّ

على المجاز] أي (٧) على أنّ إسناد أشاب وأفنى إلى كرّ الغداة ومرّ العشيّ مجاز

______________________________________________________

(١) علّة تقدّمت على المعلول ، وهو قوله : «تعرّض».

(٢) أي قيد «بتأوّل».

(٣) أي ليس ذكر فائدة القيود من عادة المصنّف في هذا الكتاب وإن كان هذا على خلاف كتاب الإيضاح فيكون قوله في هذا الكتاب احتراز عن الإيضاح.

(٤) هذا اعتراض من الشّارح على المصنّف وحاصله : إنّ المصنّف اقتصر في فائدة القيد المذكور على إخراج قول الجاهل مع أنّه يخرج الأقوال الكاذبة أيضا.

(٥) علّة تقدّمت على معلولها وهو قوله : «لم يحمل نحو ...» أي لخروج قول الجاهل عن المجاز لأجل اعتبار التّأوّل في المجاز «لم يحمل نحو قوله : أشاب الصّغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشيّ على المجاز».

(٦) بمعنى جعله شابّا «أفنى» ماض من الإفناء ، وهو ضدّ الإبقاء ، «كرّ» من الكرّ بمعنى الرّجوع «الغداة» خلاف العشيّ ، «مرّ» من المرّ خلاف الكرّ.

(٧) التّفسير إشارة إلى أنّ العبارة محمولة على حذف المضاف ، أي لم يحمل إسناد «نحو قوله ...».

الإعراب : «أشاب الصّغير» فعل ومفعول «و» حرف عطف «أفنى الكبير» فعل ومفعول عطف على سابقتها «كرّ الغداة» مضاف ومضاف إليه «ومرّ العشيّ» مضاف ومضاف إليه عطف على «كرّ الغداة» وهو فاعل لقوله : «أشاب» أو «أفنى» على اختلاف القولين في باب التّنازع.

والشّاهد فيه : هو إسناد «أشاب وأفنى» إلى «كرّ الغداة ومرّ العشيّ» من دون قرينة صارفة

٢٤٩

[ما] دام [لم يعلم أو] لم [يظنّ أنّ قائله] أي قائل هذا القول [لم يعتقد ظاهره] أي ظاهر الإسناد ، لانتفاء التّأوّل حينئذ (١) لاحتمال (٢) أن يكون هو معتقدا للظّاهر (٣) ، فيكون من قبيل قول الجاهل : أنبت الرّبيع البقل

______________________________________________________

عن إرادة ظاهر الكلام ، فيحمل على الحقيقة لكونه إلى ما هو له عند المتكلّم في الظّاهر وقد زاد الشّارح لفظ «دام» بعد «ما» وقبل «لم يعلم» ولكن ليس مراده تقدير لفظ (دام) وحذفه ، لأنّ حذف الأفعال الناقصة لا يجوز سوى لفظ (كان) بل مراده بيان حاصل المعنى بجعل «ما» مصدريّة نائبة عن ظرف الزّمان المضاف إلى المصدر المؤوّل صلتها به.

فمعنى العبارة : لم يحمل على المجاز مدّة انتفاء العلم أو الظّنّ بأنّه لم يرد ظاهره ، فما المصدريّة الظّرفيّة يصحّ وصلها بالمضارع المنفيّ من دون حاجة إلى زيادة لفظ (دام).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّما زادها ، لأنّ فهم كونها مصدريّة ظرفيّة مع (دام) أقرب منه في غيرها.

(١) أي حين عدم العلم أو الظّنّ بحال المتكلّم ومذهبه. وقوله : «لانتفاء التّأوّل» علّة «لم يحمل» ، فمعنى العبارة : لم يحمل على المجاز ، لانتفاء التّأوّل المشروط في المجاز ، فإن شكّ فالأصل الحقيقة ، فالاحتمالات هي خمسة :

الأوّل والثّاني : علم أو ظنّ أنّ قائله أراد ظاهره ، فيكون حقيقة.

الثّالث والرّابع : علم أو ظنّ أنّه أراد خلاف ظاهره فيكون مجازا.

الخامس : شكّ فيه ، فيكون حقيقة.

(٢) علّة لانتفاء التّأوّل.

(٣) أي لظاهر الإسناد فيكون الإسناد حقيقة عقليّة كقول الجاهل : أنبت الرّبيع البقل.

لا يقال : إنّ انتفاء التّأوّل لا ينحصر في هذا الاحتمال ، بل يمكن مع احتمال عدم اعتقاد الظّاهر ، لأنّه قد لا يعتقد الظّاهر ولا ينصب قرينة.

فإنّه يقال : إنّ المعتبر هو الاعتقاد بحسب ظاهر الحال ، لا نفس الأمر ، فلا أثر لذلك الاحتمال.

نعم ، إنّ احتمال أن يكون الشّاعر معتقدا للظّاهر بعيد جدّا ، لأنّ كون «كرّ الغداة ومرّ العشيّ» موجدا للشّيب معدما للكبير ممّا لم يقل به أحد من المحقّين والمبطلين.

٢٥٠

[كما استدلّ (١)] يعني ما لم يعلم ولم يستدلّ (٢) بشيء على أنّه لم يرد ظاهره ، مثل هذا الاستدلال [على أنّ إسناد ميّز] إلى جذب اللّيالي [في قول أبي النّجم ميّز عنه] أي عن الرّأس (٣) [قنزعا عن قنزع]

______________________________________________________

(١) الكاف بمعنى المثل مفعول مطلق مجازيّ ل «لم يستدلّ» المفهوم من قوله : «لم يعلم» لأنّ عدم العلم ملزوم لعدم الاستدلال ، فيكون التّقدير : لم يعلم ولم يستدلّ مثل الاستدلال على أنّ إسناد ميّز ... مجاز ، ف «ما» في قوله : «كما استدلّ» مصدريّة.

(٢) ذكروا في وجه إتيان الشّارح بهذه العناية والتّفسير أمرين :

الأوّل : ما نسب إلى ياسين من أنّه أتى بهذه العناية للإشارة إلى أنّ تشبيه قوله : «ما لم يعلم» أو يظنّ أنّ قائله لم يرد ظاهره بالاستدلال الكائن في شعر أبي نجم إنّما هو باعتبار ما يستلزمه عدم العلم أو الظّنّ بأنّ قائله لم يرد ظاهره وهو عدم الاستدلال بأنّه لم يرد ظاهره ، فإنّه هو المناسب للمشبّه به والملائم له ، ومع قطع النّظر عن ذلك لا ملاءمة بين انتفاء العلم والظّنّ به ، والاستدلال الكائن في شعر أبي نجم.

الثّاني : ما ذكره عبد الحكيم من أنّ الشّارح أتى بهذه العناية إشارة إلى أنّ في كلام المصنّف حذف المشبّه ، والأصل ما لم يعلم أو يظنّ أنّ قائله لم يعتقد ظاهره ، ولم يستدلّ بشيء على ذلك استدلالا «كما استدلّ ...».

قال الشّيخ موسى البامياني رحمه‌الله في المقام ما هذا لفظه : أقول : الظّاهر صحّة التّشبيه من دون الالتزام بالحذف أو اعتبار اللّازم ، وذلك لأنّ كلا من انتفاء العلم والظّنّ بأنّه لم يرد ظاهره والاستدلال موجب للحمل على التّجوّز ، فبين الانتفاء المذكور والاستدلال شبه ، ووجه الشّبه : هو الحمل على التّجوّز موجود ، فيصحّ التّشبيه من دون الحاجة إلى التّكلّف ، فالمعنى لم يحمل على المجاز ما لم يحصل العلم المصحّح للتّجوّز ، كما حصل في قول أبي نجم ، الاستدلال المصحّح للتّجوّز ، وعليه فقوله : «كما استدلّ» متعلّق بانتفاء العلم ، انتهى مورد الحاجة.

(٣) أي عن الرّأس المتقدّم في قوله :

قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

ليّ ذنبا كلّه لم أصنع

٢٥١

هو الشّعر المجتمع في نواحي الرّأس (١) [جذب اللّيالي (٢)] أي مضيّها واختلافها (٣) [ابطئي واسرعي] هو حال من اللّيالي على تقدير القول (٤) ، أي مقولا فيها (٥) ، ويجوز أن يكون الأمر بمعنى الخبر (٦) [مجاز] خبر أنّ ، أي استدلّ على أنّ إسناد ميّز إلى جذب اللّيالي مجاز [بقوله] متعلّق باستدلّ أي بقول أبي النّجم [عقيبه] أي عقيب قوله : ميّز عنه قنزعا عن قنزع [أفناه] أي (٧) أبا النّجم أو شعر رأسه (٨) ،

______________________________________________________

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع

ميّز عنه قنزعا عن فنزع

وأمّ الخيار اسم امرأة.

(١) أي في أطرافه ، وتكون عن الثّانية بمعنى بعد ، كما في قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ)(١) أي بعد طبق.

(٢) فاعل «ميّز» بمعنى أزال بدليل «عنه» و «قنزعا» مفعول به له.

(٣) أي تعاقبها ، لأنّ بعضها يخلف بعضا ، والمعنى أنّ هذه الحبيبة أعني أمّ الخيار أصبحت مدّعية عليّ ذنوبا لم أرتكب شيئا منها ، لرؤيتها رأسي كرأس الأصلع لكبري وأزال أو فصل اختلاف اللّيالي الشّعر الّذي يقع حوالي الرّأس وجوانبه ، ثمّ قال : أفنى شعر رأسي قول الله وأمره بالطّلوع والغروب.

(٤) بناء على ما هو المشهور من أنّ الجملة الإنشائيّة لا تصلح لأن تقع حالا إلّا بتقدير القول ، أي مقولا من النّاس في حقّها حين اليسر والرّفاهية والسّرور والفرح «ابطئي» وحين العسر والضّيق والحزن «اسرعي».

(٥) أي في حقّ اللّيالي.

(٦) فالمعنى حينئذ حال كونها تبطئين أو تسرعين ، أو أبطأت أو أسرعت كما في بعض الشّروح ، فكانا حالين بلا تقدير ، وإنّما عبّر بصيغة الأمر للدّلالة على أنّ اللّيالي في سرعتها وبطئها مأمورات بأمره تعالى ومسخّرات بكلمة (كن فيكون).

(٧) أي جعل أبا النّجم فانيا.

(٨) التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ الضّمير إمّا عائد إلى أبي النّجم المعبّر عنه بضمير التّكلّم في قوله : «عليّ ذنبا» فيكون فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة ، وعلى هذا فلا بدّ

__________________

(١) سورة الانشقاق : ١٩.

٢٥٢

[قيل الله (١)] أي أمر الله (٢) وإرادته [للشّمس اطلعي] فإنّه (٣) يدلّ على اعتقاده أنّه (٤) فعل الله وأنّه المبدئ والمعيد والمنشئ والمفني ، فيكون الإسناد إلى جذب اللّيالي بتأوّل بناء على أنّه زمان (٥) أو سبب (٦) [وأقسامه (٧)] أي أقسام المجاز العقليّ

______________________________________________________

من تقدير مضاف ، أي أفنى شباب أبي النجم ، أو المراد بالإفناء جعله مشرفا على الفناء ، حتّى لا يرد أنّه حال النّطق لم يكن فانيا ، وإمّا عائد إلى شعر الرّأس المفهوم من الكلام السّابق وحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف أو جعل الإفناء بمعنى الإشراف على الفناء ، أو يمكن أن يكون شعر رأسه فانيا حال النّطق كلّا أو بعضا.

(١) أي قول الله.

(٢) فسّر القول أوّلا بالأمر لمكان قوله : «اطلعي» فإنّه مفعول به ل «قيل» ، وعطف الإرادة على الأمر عطف تفسير.

وعبارة عبد الحكيم في بيان التّفسير المذكور ما هذا نصّه : فسّر ال «قيل» بالأمر لقوله :

«اطلعي» فإنّه مفعول به ل «قيل» إن كان مصدرا ، وبدل أو عطف بيان منه إن كان اسما وكذلك لفظ الأمر يحتمل أن يكون مصدرا وأن يكون اسما بمعنى الصّيغة ، ثمّ بيّن المراد بعطف الإرادة لعدم الأمر حقيقة عند المحقّقين ، وأمّا عند القائلين بخطاب كن بعد الإرادة فالأمر بمعنى الحقيقي لأنّ «اطلعي» بمعنى كوني طالعة ، انتهى. وتمام البيت :

قيل الله للشّمس اطلعي

وإذا واراك أفق فارجعي

أي إذا سترك أفق المغرب فارجعي إلى أفق المشرق واطلعي.

(٣) أي فإنّ قوله : «أفناه قيل الله» يدل على أنّ أبا النّجم يعتقد أنّ الإفناء فعل الله ، كالتّمييز المستفاد من «ميّز».

(٤) أي التّمييز المذكور.

(٥) بجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل ، كأنّه قيل اللّيالي الجاذبة ، فيكون الإسناد مجازا ، من قبيل صام نهاره.

(٦) فيكون المميّز والمفني هو الله تعالى بسبب مرور اللّيالي والأيّام ، فيكون من قبيل بنى الأمير المدينة.

(٧) أي المجاز العقليّ فهذا الكلام من المصنّف إشارة إلى تقسيم المجاز العقليّ باعتبار طرفيه ، وهو أربعة أقسام لأنّ طرفيه إمّا حقيقتان أو مجازان ، أو الأوّل مجاز والثّاني

٢٥٣

باعتبار حقيقة الطّرفين (١) أو مجازيّتهما [أربعة لأنّ طرفيه (٢)] وهما المسند إليه والمسند [إمّا حقيقتان] لغويّتان [نحو : أنبت الرّبيع البقل (٣) أو مجازان] لغويّان [نحو : أحيى الأرض شباب الزّمان (٤)] فإنّ المراد (٥) بإحياء الأرض تهييج القوى (٦) النّامية فيها ، وإحداث نضارتها بأنواع النّبات والإحياء في الحقيقة (٧) إعطاء الحياة ، وهي صفة تقتضي الحسّ والحركة

______________________________________________________

حقيقة ، أو بالعكس ، ويأتي تفصيل ذلك في كلامه فانتظر ، ولكن لا اختصاص للمجاز العقليّ بهذه الأقسام ، بل الحقيقة العقليّة أيضا تنقسم إلى هذه الأقسام وأمثلتها هي الأمثلة الّتي ذكرت للمجاز العقليّ ولكن يختلف الحال بالنّظر إلى المتكلّم ، فإذا كان موحّدا تصبح تلك الأمثلة للمجاز العقليّ ، وإن كان جاهلا تصبح أمثلة للحقيقة العقليّة ، ولعلّ الوجه لترك المصنّف بيان أقسام الحقيقة العقليّة هو ظهورها بالمقايسة.

(١) وهما المسند إليه والمسند.

(٢) أي المجاز العقليّ.

(٣) فإنّ المسند هو «أنبت» والمسند إليه هو «الرّبيع» حقيقتان وصفتان مستعملتان في مكانهما الوضعيّ ولا مجاز فيهما ، وإنّما المجاز بمجرّد الإسناد إذا صدر الكلام المذكور عن المؤمن.

(٤) فإنّ كلّ من الطّرفين مستعمل في غير ما وضع له لأنّ «أحيى» مجاز عن (أنبت) و «شباب الزّمان» مجاز عن الرّبيع.

(٥) أي مراد المتكلّم «بإحياء الأرض تهييج القوى النّامية».

(٦) أي تهييج الله «القوى النّامية» ، والصّواب : المنمّية ، لأنّ الأرض فيها قوى تكون منمّية لغيرها من النّباتات.

(٧) أي في اللّغة ، وحاصل المعنى : إنّ المراد بالإحياء تزيين الأرض بالأشجار والأنهار ونموّ النّباتات والأثمار ، وهو مجاز لغويّ ، لأنّ الحياة حقيقة في القوّة الحاسّة أو ما يقتضيها ، وبها سمّي الحيوان حيوانا ، فأطلق لفظ الحياة على القوّة النّامية مجازا باعتبار كونها من مقدّمات الحياة ، وكذا إنّ المراد ب «شباب الزّمان» هو الرّبيع ، وإطلاق الشّباب على الرّبيع مجاز لغويّ ، والإسناد مجاز عقليّ.

٢٥٤

والحركة الإراديّة (١) ، وكذا المراد (٢) بشباب الزّمان زمان ازدياد قواها النّامية (٣) وهو في الحقيقة عبارة عن كون الحيوان في زمان تكون حرارته الغريزيّة مشبوبة أي قويّة مشتعلة [أو مختلفان] بأن يكون أحد الطّرفين حقيقة والآخر مجازا [نحو : أنبت البقل شباب الزّمان] فيما المسند (٤) حقيقة والمسند إليه (٥) مجازا [وأحيى الأرض الرّبيع] في عكسه (٦) ، ووجه الانحصار في الأربعة على ما ذهب إليه المصنّف ظاهر ، لأنّه (٧)

______________________________________________________

(١) أي الاختياريّة.

(٢) وحاصل معنى العبارة أنّ الشّباب الّذي هو المسند إليه معناه الأصليّ كون الحيوان في زمن ازدياد قوّته ، وإنّما سمّي هذا المعنى شبابا ، لأنّ الحرارة الغريزيّة حينئذ تكون مشبوبة أي مشتعلة من شبّ النّار ، أي أوقدها ، وقد استعير لكون الزّمان في ابتداء حرارته الملابسة له وفي ازدياد قواه ، ووجه الشّبه : كون كلّ من الابتداءين مستحسنا لما يترتّب عليه من نشأة الإخراج ، والمحاسن عكس الهرم الّذي يكون في آخر زمان الحيوان وآخر زمان الأزهار لخمول تلك المحاسن واضمحلالها.

(٣) أي قوى الأرض النّامية ، أي الّتي شأنها النّموّ.

(٤) أي «أنبت» حقيقة ، حيث إنّ الإنبات قد استعمل فيما وضع له لغة.

(٥) أي شباب الزّمان حيث إنّه استعمل في غير ما هو له لغة ، لأنّه وضع لكون الحيوان في زمان تكون حرارته الغريزيّة مشبوبة ، واستعمل في ازدياد قوى الزّمان المنمّية بلا علاقة المشابهة أو معها.

(٦) أي في عكس المثال السّابق ، وهو كون المسند مجازا والمسند إليه حقيقة ، حيث إنّ المراد ب «أحيى الأرض» هو تهييج قواها وإحداث نضارتها ، وهو في الأصل بمعنى أوجد الحياة ، فقد استعمل في غير ما وضع له بعلاقة المشابهة ، وأمّا الرّبيع فقد أريد به معناه ، أي الفصل المخصوص من الفصول السّنويّة.

(٧) استدلال على ظهور الحصر في الأربعة على مذهب المصنّف ، فإنّ المصنّف اشترط أن يكون المسند فعلا أو معناه ، بخلاف السّكّاكي حيث لم يشترط في المسند ذلك ، فيكون المسند شاملا للمفرد والجملة ، والجملة لا توصف بالحقيقة والمجاز ، إذ قيل في تعريفهما : إنّ الكلمة المستعملة في المعنى الحقيقيّ حقيقة وفي غيره مجاز.

٢٥٥

اشترط في المسند أن يكون فعلا أو في معناه ، فيكون مفردا وكلّ مفرد مستعمل (١) ، إمّا حقيقة أو مجاز [وهو] أي المجاز العقليّ [في القرآن كثير (٢)] أي كثير في نفسه لا بالإضافة إلى مقابله حتّى تكون الحقيقة العقليّة قليلة (٣) ، وتقديم في القرآن على كثير لمجرّد الاهتمام (٤) ، كقوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ)(١) أي آيات الله تعالى (زادَتْهُمْ إِيماناً) (٥) أسند الزّيادة وهي فعل الله تعالى إلى الآيات لكونها (٦) سببا (يُذَبِّحُ

______________________________________________________

(١) قيّد بذلك ، لأنّ اللّفظ قبل الاستعمال لا يسمّى حقيقة ولا مجازا ، فإنّهم قد عرّفوا الحقيقة باللّفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز باللّفظ المستعمل في غيره ، فالاستعمال مأخوذ في كلّ منهما ، فكلّ مفرد مستعمل إمّا حقيقة أو مجاز.

(٢) هذا ردّ على من زعم أنّ المجاز العقليّ كاللّغويّ لا يمكن أن يقع في القرآن لإيهام المجاز الكذب ، والقرآن منزّه منه.

وحاصل الرّدّ : إنّ المجاز العقليّ واقع في القرآن كثيرا ، فبعد الوقوع لا وجه لإنكار الإمكان ، وأمّا دعوى الإيهام المذكور فلا أساس لها ، إذ مع القرينة ليس من الإيهام عين ولا أثر.

(٣) أي بالإضافة إلى المجاز العقليّ.

(٤) أي لمجرّد الاهتمام المجرّد عن التّخصيص ، فلا يفيد التّخصيص حتّى يلزم اختصاص كثرته بالقرآن دون السّنّة ، وكلام العرب مع أنّه كثير في القرآن وغيره أو الاهتمام لكونه محلّ النّزاع وأنّ هذا الكلام ردّ على من زعم عدم وجود المجاز العقليّ في القرآن كما عرفت.

(٥) أي زادت الآيات المؤمنين إيمانا.

(٦) أي لكون الآيات سببا لازدياد إيمان المؤمنين ، فيكون إسناد الضّمير الرّاجع إلى الآيات مجازا عقليّا ، فلا مجال حينئذ لإنكار وقوع المجاز العقليّ في القرآن ، إذ أقوى الدّليل على الإمكان هو الوقوع.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣.

٢٥٦

أَبْناءَهُمْ)(١) نسب التّذبيح الّذي فعل الجيش إلى فرعون لأنّه سبب آمر (١) (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما)(٢) نسب نزع اللّباس عن آدم وحواء وهو فعل الله تعالى حقيقة إلى إبليس لأنّ سببه (٢) الأكل من الشّجرة وسبب الأكل وسوسته ومقاسمته (٣) إيّاهما أنّه لهما لمن النّاصحين (٤) (يوما) نصب على أنّه مفعول به (٥) ل (تتقون) (٦) أي كيف

______________________________________________________

(١) حاصل الكلام في تقريب المجاز العقليّ إنّ إسناد التّذبيح إلى فرعون مجاز باعتبار أنّه سبب آمر وإلّا فإنّ التّذبيح في الحقيقة كان فعل جيشه. نعم ، يرد على الاستدلال بهذه الآية بأنّه يجوز أن يكون قوله : (يُذَبِّحُ) مجازا عن الأمر بالذّبح فحينئذ لا تكون ممّا نحن فيه ، وهذا الاحتمال يكفي في ردّ الاستدلال ، فلا مجال لأن يقال : إنّ احتمال ذلك غير مضرّ ، لأنّ المثال يكفي فيه مجرّد احتمال كونه من مصاديق الممثّل ، لأنّ المقصود في المقام ليس مجرّد التّمثيل ، بل الاستدلال والاحتمال المذكور مضرّ به.

(٢) أي النّزع ، وحاصل الكلام إنّ إسناد النّزع إلى إبليس باعتبار كون وسوسته سبب السّبب مجاز عقليّ ، لأنّ النّزع هو فعل الله تعالى حقيقة ، ثمّ إنّه قد ذكر المصنّف ثلاث آيات للإسناد إلى السّبب ، لأنّ السّبب في الأولى كان بلا واسطة وعاديّا ، وفي الثّانية بلا واسطة وآمريّا ، وفي الثّالثة مع واسطة.

(٣) المراد من مقاسمة إبليس معاهدته لآدم وحواء بأنّه لهما من النّاصحين.

(٤) قوله : «من النّاصحين» جواب للمقاسمة ، وبيان لها ، كما في المفصّل.

(٥) بتقدير مضاف ، أي عذاب يوم ، فليس نصبه على الظّرفيّة ، لأنّ الاتّقاء من اليوم نفسه لا فيه حتّى يكون مفعولا فيه.

(٦) اعلم أنّ أصل (تتقون) توتقون من الوقاية ، وهي فرط العناية متعدّ إلى مفعولين ، والأوّل محذوف ، والثّاني يوما على حذف المضاف أي عذاب يوم ، حذف للاستغناء عنه ، والمعنى كيف تصون أنفسكم عذاب يوم يجعل الولدان شيبا.

__________________

(١) سورة القصص : ٣.

(٢) سورة الأعراف : ٣٦.

٢٥٧

تتقون يوم القيامة إن بقيتم على الكفر يوما (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(١) نسب الفعل إلى الزّمان وهو فعل الله تعالى حقيقة ، وهذا (١) كناية عن شدّته وكثرة الهموم والأحزان (٢) فيه ، لأنّ الشّيب ممّا يتسارع عند تفاقم الشّدائد والمحن أو عن طوله ، وأنّ الأطفال يبلغون فيه أوان الشّيخوخة [(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها)(٢) (٣)] أي ما فيها من الدّفائن والخزائن نسب الإخراج إلى مكانه (٤) وهو فعل الله تعالى حقيقة [وهو غير مختصّ بالخبر (٥)] عطف على قوله : كثير (٦) أي وهو غير مختصّ بالخبر

______________________________________________________

(١) أي قوله تعالى : (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) كناية عن شدّته وكثرة الهموم ...

(٢) قوله : «الأحزان» عطف تفسيريّ للهموم ، والمراد من تفاقم الشّدائد تراكمها وتكاثرها ، فالكناية حينئذ مطابقة لما ذهب إليه السّكّاكي حيث ذكر اسم اللّازم وهو صيرورة الولدان شيبا بسرعة ، وأريد به الملزوم وهو الشّدّة وكثرة الهموم «أو عن طوله» أي اليوم والكناية حينئذ أيضا مطابقة لما اختاره السّكّاكي حيث إنّه أطلق اسم اللّازم وهو الصيرورة المذكورة ، وأريد به اللّازم أي طوله.

(٣) الأثقال جمع ثقل ، وهو متاع البيت.

(٤) أي الأرض ولا يخفى ما في المقام من العناية والمسامحة وذلك فإنّ الإخراج من المعاني لا مكان له ، وإنّما المحتاج إلى المكان متعلّقه وهو الشّيء المخرج ، ففي الحقيقة الفعل أسند إلى مفعوله بالواسطة ، فإنّ الأصل أخرج الله من الأرض أثقالها ، لكن عدّ مكان متعلّقه مكان نفسه بالعناية فإنّه بمنزلة مكان نفسه لوقوعه فيه فإسناد الإخراج إلى المكان ولو بالعناية مع أنّه فعل الله تعالى حقيقة إسناد إلى غير ما هو له ، فيكون مجازا عقليّا.

(٥) أي المجاز العقليّ ، الباء الدّاخلة على المقصور عليه ، والأكثر دخولها على المقصور بعد الاختصاص ، فالصّواب أن يقول : وهو غير مختصّ به الخبر.

(٦) مع قطع النّظر عن تقييده بقوله : «في القرآن» فلا يتوهّم أنّ معناه أنّه غير مختصّ بالخبر في القرآن فقط.

__________________

(١) سورة المزّمّل : ١٧.

(٢) سورة الزّلزلة : ٣.

٢٥٨

وإنّما قال ذلك (١) لأنّ تسميته (٢) بالمجاز في الإثبات (٣) وإيراده (٤) في أحوال الإسناد الخبريّ يوهم اختصاصه (٥) بالخبر [بل يجري في الإنشاء نحو : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً)(١) (٦) لأنّ البناء فعل العملة وهامان سبب آمر ، وكذا قولك : ليبنت الرّبيع ما شاء (٧) ، وليصم نهارك (٨) ، وليجدّ جدّك (٩) ، وما أشبه ذلك ممّا (١٠) أسند الأمر أو النّهي إلى ما ليس المطلوب فيه صدور الفعل أو التّرك عنه ، وكذا (١١) قولك : ليت النّهر جار ،

______________________________________________________

(١) أي قوله : «غير مختصّ بالخبر».

(٢) أي المجاز العقليّ.

(٣) أي في الإخبار ، لأنّ الإنشاء غير ثابت.

(٤) أي المجاز العقليّ.

(٥) أي المجاز العقليّ مع أنّه لا يختصّ بالخبر ، بل يجري في الإنشاء.

(٦) تمام الآية : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ،) ومحلّ الشّاهد في (ابْنِ) حيث أسند إلى هامان ، لأنّه سبب آمر ، وإلّا فالبناء فعل العملة في الحقيقة ، ثمّ إنّ كونه مجازا عقليّا ليس بمتعيّن ، لاحتمال أن يكون قوله : (ابْنِ) بمعنى آمرك بالبناء فيكون مجازا لغويّا ، ومعنى الصّرح هو القصر ، فمعنى العبارة : يا هامان ابن لي قصرا عاليا.

(٧) فإنّ الإنبات فعل الله تعالى ، والرّبيع زمان له.

(٨) الأصل فيه : ولتصم أنت في نهارك.

(٩) والأصل فيه : ولتجدّ جدّا ، أي ولتجتهد اجتهادا ، فلمّا كان المصدر مشابها للفاعل الحقيقي وهو الشّخص في تعلّق وجود الفعل بكلّ منهما لصدوره من الفاعل وكون المصدر جزء معناه صحّ إقامة المصدر مقام الفاعل في إسناد الفعل إليه.

(١٠) بيان ل «ما» وحاصل الكلام أنّه إذا أسند الأمر أو النّهي إلى ما ليس المطلوب صدور الفعل أو التّرك عنه كان مجازا عقليّا.

(١١) وجه الفصل بلفظ «وكذا» أنّ قوله : «ليت النّهر جار» وهكذا قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) ليسا بأمر ولا نهي ، بل قسم من الإنشاء ، وكان أصل «ليت النّهر

__________________

(١) سورة المؤمن : ٣٦.

٢٥٩

وقوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ)(١) [ولا بدّ له (١)] أي للمجاز العقليّ [من قرينة (٢)] صارفة عن إرادة ظاهره (٣) ، لأنّ المتبادر (٤) إلى الفهم عند انتفاء القرينة هو الحقيقة [لفظيّة (٥) كما مرّ] في قول أبي النّجم من قوله : أفناه قيل الله (٦).

______________________________________________________

جار» ليت الماء جار في النّهر ، لأنّه الّذي يتمنّى جريه لا النهر لكن أسند الجري المتمنّى إلى النّهر مجازا لملابسته للماء بالمحليّة ، وأصل (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) كان أيأمرك ربّك بسبب صلاتك ، أي بسبب تلبّسك بها وملابستك إيّاها ، والمجاز في إسناد «جار» وإسناد (تأمر) إلى ضمير الصّلاة.

(١) إنّما تعرّض لوجوب اقتران المجاز العقليّ بالقرينة مع أنّه مستفاد من قوله : «بتأوّل» توطئة لتقسيمها إلى لفظيّة ومعنويّة ، فقوله : «ولا بدّ ...» بمنزلة البيان لقوله : «بتأوّل» فكان ينبغي عليه أن يقدّم هذا الحكم على التّقسيم المذكور وبيان وقوعه في القرآن ، وعدم اختصاصه. وبعبارة أخرى كان المناسب أن يذكر هذا الحكم متّصلا بما يتعلّق به ، ولا يفصل بينهما ببيان الأقسام وما بعده من الأحكام.

(٢) قوله : «قرينة» فعيلة بمعنى مفعولة ، أي مقرونة أو بمعنى فاعلة أي مقارنة.

(٣) أي يكفي في وجود القرينة مجرّد اكتناف الكلام بما يصرفه عن ظاهره ، ولا يشترط أن تكون معيّنة لما هو الحقيقة ، ولذا وقع الخلاف في أنّه هل يلزم أن يكون له حقيقة أم لا؟

(٤) علّة لقوله : «لا بدّ» أي علّة لوجوب اقتران المجاز بالقرينة المستفادة من قوله : «لا بدّ».

(٥) أي من قرينة لفظيّة ، أي منسوبة إلى اللّفظ.

(٦) حيث إنّ قوله : «أفناه قيل الله» إنّما يصرف ما قبله عن ظاهره لدلالته على أنّه كان موحّدا ، فمقابلة قوله : «وصدوره عن الموحّد» له يقتضي أن يقيّد الصّدور عن الموحّد بما إذا لم يعلم من لفظ (يقارنه بالكلام).

فلا يرد عليه ما قيل : من أنّ قوله : «أفناه ...» حينئذ مندرج في قوله : «وصدوره عن الموحّد» فليس قسما برأسه ، لأنّ المراد بصدوره عن الموحّد صدوره عنه مقيّدا بما إذا لم يكن

__________________

(١) سورة هود : ٨٧.

٢٦٠