دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

[ويسمّى الضّرب الأوّل (١) ابتدائيّا والثّاني (٢) طلبيّا والثّالث (٣) إنكاريّا و] يسمّى (٤) [إخراج الكلام عليها] أي على الوجوه المذكورة وهي الخلوّ عن التّأكيد في الأوّل (٥) والتّقوية بمؤكّد استحسانا في الثّاني (٦) ووجوب التّأكيد بحسب الإنكار في الثّالث (٧) [إخراجا (٨) على مقتضى الظّاهر] وهو (٩) أخصّ مطلقا من مقتضى الحال. لأنّ معناه (١٠)

______________________________________________________

إنطاكيّة (اثْنَيْنِ) وهما شمعون ويحيى (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي فقوّيناهما برسول ثالث وهو حبيب النّجّار أو بولش ، كما في المفصّل في شرح المطوّل ـ إلى أن قال رحمه‌الله : ـ يمكن الجواب عن ذلك بوجه آخر ، وهو أنّ المراد بقوله : «إذ كذّبوا» مجموع الثّلاثة من حيث المجموع ، ولا شكّ أنّ الاثنين من الثّلاثة إذ كذّبا يصدق على مجموعها أنّه قد كذّب ، فإنّ المركّب من المكذّب وغير المكذّب مكذّب ، ثمّ إنّ هذا الإشكال إنّما يرد على تقدير أن يكون قوله : «في المرّة الأولى» متعلّقا ب «كذّبوا» كما هو الظّاهر ، وأمّا إذا قلنا : بأنّه متعلّق ب (قال) أو ب (حكاية) ، فلا يرد ذلك أصلا ، إذ يصبح المعنى عندئذ

(١) أي استغناء الكلام عن التّأكيد «ابتدائيّا» أي ضربا ابتدائيّا لعدم كونه مسبوقا بطلب أو إنكار.

(٢) أي اشتمال الكلام على التّأكيد الاستحساني «طلبيّا» أي ضربا طلبيّا لكونه مسبوقا بالطّلب أو لكون المخاطب طالبا له.

(٣) أي الاشتمال على التّأكيد الوجوبي «إنكاريّا» أي ضربا إنكاريّا لكونه مسبوقا بالإنكار.

(٤) أي يسمّى تطبيق الكلام على الوجوه المذكورة بمعنى إتيانه مشتملا على تلك الوجوه ، وهي الخلوّ عن التّأكيد في الأوّل ، والتّقوية بمؤكّد استحسانا في الثّاني ووجوب التّأكيد بحسب الإنكار في الثّالث.

(٥) أي في خاليّ الذّهن.

(٦) أي في المتردّد.

(٧) أي في المنكر.

(٨) أي إخراجا جاريا على مقتضى الظّاهر حيث لم يكن فيه عدول عن ظاهر الحال.

(٩) أي مقتضى الظّاهر.

(١٠) أي معنى مقتضى الظّاهر مقتضى ظاهر الحال ، أي الحال الظّاهر ، فالحال له فردان :

٢٢١

مقتضى ظاهر الحال ، فكلّ مقتضى الظّاهر مقتضى الحال من غير عكس ، كما في صورة إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظّاهر (١) فإنّه (٢) يكون على مقتضى الحال ولا يكون على مقتضى الظّاهر (٣) [وكثيرا (٤) ما يخرج] الكلام [على خلافه] أي على خلاف مقتضى الظّاهر ، [فيجعل غير السّائل كالسّائل إذا قدّم إليه (٥)] أي إلى غير

______________________________________________________

ظاهر وخفيّ : الأوّل : ما كان ثابتا في نفس الأمر ، ولم يكن تنزيليّا. والثّاني : ما كان تنزيليّا وثابتا عند المتكلّم دون نفس الأمر.

وبعبارة أخرى ، الأوّل : ما كان أمرا محقّقا. والثّاني : ما يكون أمرا يعتبره المتكلّم بتنزيل شيء منزلة غيره. والأوّل يسمّى ظاهر الحال ، والتّطبيق عليه إخراج الكلام على مقتضى ظاهر الحال. والثّاني : خلاف ظاهر الحال ، والتّطبيق عليه إخراجه على خلاف مقتضاه.

فقد ظهر من هذا البيان أنّ ظاهر الحال أخصّ مطلقا من مطلق الحال ، ضرورة أنّ الفرد المندرج تحت الكلّي أخصّ منه ، هذا ما أشار إليه بقوله : «فكلّ مقتضى الظّاهر مقتضى الحال من غير عكس» أي العكس اللّغوي ، يعنى ليس كل مقتضى الحال مقتضى الظّاهر ، أمّا العكس المنطقي ـ أعني بعض مقتضى الحال مقتضى الظّاهر ـ فموجود.

(١) كما إذا جعلت المنكر لقيام زيد كغير المنكر ، وقلت : زيد قائم ، من غير تأكيد ، فيكون هذا على وفق مقتضى الحال لأنّه لا يقتضي التّأكيد ، وليس على وفق مقتضى الظّاهر ، لأنّه يقتضي التّأكيد لوجوب التّأكيد مع المنكر.

(٢) بيان للعلّة.

(٣) لما عرفت من أنّ مقتضى الحال أعمّ من مقتضى الظّاهر ، ومن الضّروري أنّ وجود الأعمّ لا يستلزم وجود الأخصّ ، كما أنّ انتفاء الأخصّ لا يستلزم انتفاء الأعمّ.

(٤) نصب على الظّرفيّة ، أي وقتا كثيرا ، أو على المصدريّة ، أي إخراجا كثيرا ، و «ما» زائدة لتأكيد معنى متلوّها كثيرة كان أو قليلة.

والمعنى أنّ إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظّاهر ، وإن كان كثيرا في نفسه ، إلّا أنّ إخراجه على مقتضى الظّاهر أكثر من إخراجه على خلاف مقتضى الظّاهر.

(٥) وقد اعترض في المقام بما حاصله : من عبارة المصنّف لا تخلو عن اضطراب ، وذلك لأنّ قوله : «فيجعل» لمكان الفاء التّفريعيّة ناطق بأنّ الجعل بعد الإخراج ، مع أنّ الأمر بالعكس ، فإنّ المتكلّم ينزّل أوّلا غير السّائل كالسّائل في النّفس ثمّ يخرج الكلام مؤكّدا

٢٢٢

السّائل [ما يلوح] أي يشير [له] أي لغير السّائل [بالخبر (١) فيستشرف] غير السّائل [له] أي للخبر يعني ينظر إليه يقال : استشرف فلان الشّيء إذا رفع رأسه لينظر إليه وبسط كفّه فوق حاجبه كالمستظلّ من الشّمس [استشراف الطّالب المتردّد نحو : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)(١)] أي ولا تدعني (٢) يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب (٣) عنهم بشفاعتك ، فهذا (٤) كلام يلوح بالخبر (٥)

______________________________________________________

بتأكيد استحسانيّ.

الجواب : إنّ قوله : «كثيرا ما يخرج» بمعنى كثيرا ما ، يقصد التّخريج ، ولا ريب في أنّ قصد التّخريج مقدّم على الجعل والتّنزيل والمؤخّر إنّما هو نفس التّخريج ، ثمّ الظّرف أعني «إذا قدّم» متعلّق بقوله : «فيجعل» ، فمعنى العبارة : أنّ جعل غير السّائل بمنزلة السّائل مقيّد بتقديم الملوّح. فيرد عليه حينئذ بأنّه لا يصحّ هذا التّقييد ، لأنّه قد ينزّل منزلته لأغراض آخر كالاهتمام بشأن الخبر ، لكونه مستبعدا والتّنبيه على غفلة السّامع.

والجواب عن ذلك : بأنّ هذا التّقييد بالنّظر لما هو شائع الاستعمال لا للحصر.

(١) أي بجنس الخبر.

(٢) فعل مضارع من الدّعاء ، والتّفسير إشارة إلى أنّ المراد بالنّهي عن الخطاب في شأنهم هو النّهي عن الدّعاء والشّفاعة لهم من قبيل إطلاق العامّ وإرادة الخاصّ.

(٣) عطف تفسيريّ على قوله : «شأن».

(٤) أي قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) يشعر إشعارا بحسب العرف في أنّ الخبر الآتي من جنس العذاب ، فكان المخاطب به وهو نوح عليه‌السلام متردّدا في نوع العذاب ، هل هو الإغراق أم غيره؟.

(٥) أي بجنسه ، وهو كونهم محكوما عليهم بالعذاب كما يشعر به كلام الشّارح لا بخصوص الخبر ، وهو كونهم محكوما عليهم بالإغراق ، إذ ليس في قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) إشعار بخصوص ذلك.

نعم ، يشعر به مع ضميمة قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ،) ولكنّ المصنّف والشّارح هنا لم ينظرا إلى ذلك أصلا ، فيكون جنس الخبر ملوّحا ، لأنّ التّلويح هو الإشارة الخفيّة ،

__________________

(١) سورة هود : ٣٩.

٢٢٣

تلويحا ما (١) ، ويشعر بأنّه قد حقّ عليهم (٢) العذاب ، فصار المقام مقام أن يتردّد المخاطب (٣) في أنّهم (٤) هل صاروا محكوما عليهم بالإغراق أم لا؟ فقيل : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) مؤكّدا (٥) أي محكوما عليهم بالإغراق (٦) ، [و] يجعل [غير المنكر (٧)

______________________________________________________

والإشارة إلى جنسه بقوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي) ظاهرة.

(١) أي تلويحا إشارة إلى جنس الخبر ، كما عرفت.

(٢) أي يشعر بأنّ شأن قد ثبت على قوم نوح العذاب.

(٣) أي نوح ، فإنّه كان متردّدا بالنّظر إلى الملوّح ، لا أنّه صار متردّدا بالفعل حتّى يرد أنّه على هذا ليس قوله تعالى ، على خلاف مقتضى الظّاهر.

وبعبارة أخرى إنّ المخاطب يتردّد في مقتضى الحال وإن لم يتردّد في مقتضى الظّاهر فبسبب كون المقام مقام أن يتردّد المخاطب وجد في هذا المثال مقتضى الحال ، وبسبب كون المخاطب غير متردّد في مقتضى الظّاهر لم يوجد في هذا المثال مقتضى الظّاهر.

(٤) الظّرف متعلّق بالتّردّد ، أي يتردّد في أنّ قومه هل صاروا مقدّرا عليهم الغرق أم لا؟ بل صاروا مقدّرا عليهم غير الغرق من أنواع العذاب كالخسف والحرق ونحوهما.

(٥) أي مؤكّدا ب «إنّ» حيث قيل : (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فهذا الكلام أخرج على خلاف مقتضى الظّاهر ، لأنّ مقتضاه أن لا يؤكّد ب «إنّ» لأنّ المخاطب غير سائل عن غرقهم ، ولا طالب له.

(٦) التّفسير إشارة إلى أنّهم محكوم عليهم بالإغراق ، لا أنّهم مغرقون بالفعل ، لأنّ إغراقهم لم يكن حاصلا وقت خطاب نوح ، ونهيه عن الدّعاء والشّفاعة لهم.

(٧) يراد به أعمّ من خاليّ الذّهن والعالم بالحكم والسّائل المتردّد فيه ، لأنّ ظهور شيء من أمارات الإنكار لا يختصّ بأحد منهم ، بل مشترك بين الجميع ، ثمّ إنّ فائدة التّنزيل في خصوص تنزيل السّائل منزلة المنكر وجوب زيادة التّأكيد ، فلا يرد عليه ما يمكن أن يقال : من أنّه لا أثر لتنزيل السّائل منزلة المنكر ، حيث إنّ مقتضى الظّاهر هو التّأكيد في كلّ منهما.

٢٢٤

كالمنكر إذا لاح] أي ظهر [عليه] أي على غير المنكر [شيء من أمارات الإنكار نحو : جاء شقيق] اسم رجل [عارضا رمحه] أي واضعا على العرض (١) فهو لا ينكر (٢) أنّ في بني عمّه رماحا ، لكن مجيئه واضعا الرّمح على العرض من غير التفات وتهيّؤ أمارة (٣) أنّه يعتقد أن لا رمح فيهم (٤) ، بل كلّهم عزل (٥) لا سلاح معهم فنزّل (٦) منزلة المنكر وخوطب خطاب التفات (٧) بقوله : [إنّ بني عمّك فيهم رماح] مؤكّدا (٨) بإنّ (٩) وفي البيت (١٠)

______________________________________________________

(١) أي جعله وهو راكب على فخذيه ، بحيث كان عرض الرّمح إلى جهة الأعداء ، ولا ريب في أنّ وضع الرّمح على هذه الهيئة أمارة على إنكار وجود السّلاح مع الأعداء ، بخلاف وضع الرّمح على طوله بحيث يكون سنانه نحو الأعداء ، فإنّه علامة على التّصدّي للمحاربة النّاشئ من الاعتقاد والاعتراف بوجود السّلاح معهم.

(٢) أي بل هو عالم بذلك.

(٣) قوله : «أمارة» خبر «لكنّ».

(٤) أي في بني عمّه ، فكان شقيق معتقدا بأنّه لا رمح فيهم ، لأنّ الجائي للحرب لا يكون خاليّ الذّهن عن تصوّر السّلاح للعدوّ المستلزم عادة لعدم وضع الرّمح عارضا على الفخذ.

(٥) جمع أعزل ، وهو العاري عن السّلاح. وقوله : «لا سلاح ...» تفسير لل «عزل».

(٦) أي نزّل شقيق «منزلة المنكر».

(٧) أي من الغيبة إلى الخطاب.

(٨) حال من «خطاب» في قوله : «خوطب خطاب التفات».

(٩) ولم يقل : واسميّة الجملة ، لعدم كون المقام مقتضيا لدلالة الجملة الاسميّة على التّأكيد ، وحيث إنّ الإنكار تنزيليّ لا واقع له فضلا عن كونه شديدا ، والجملة الاسميّة لا تدلّ على التّأكيد ، إلّا في مقام شدّة الإنكار ونحوها.

(١٠) خبر مقدّم و «تهكّم واستهزاء» مبتدأ مؤخّر. ومعنى العبارة : أنّ في البيت سخرية واستهزاء على شقيق ، فالبيت على ما أشار إليه المرزوقي يدلّ على جبنه ، وقيل إنّ البيت يدلّ على شجاعته. والمعنى : جاء شقيق مفتخرا بتعريض الرّمح واثقا بقوّته ، والقائل هو الشّيخ عبد القاهر.

٢٢٥

على ما أشار إليه الإمام المرزوقي تهكّم واستهزاء ، كأنّه يرميه (١) بأنّ فيه من الضّعف والجبن بحيث لو علم أنّ فيهم رماحا لما التفت لفت (٢) الكفاح (٣) ، ولم تقو (٤) يده على حمل الرّماح على (٥) طريقة قوله : فقلت (٦) لمحرز لمّا التقينا (٧) تنكّب (٨) ولا يقطّرك الزّحام (٩) يرميه (١٠) بأنّه لم يباشر الشّدائد

______________________________________________________

(١) أي كأنّ الشّاعر يطعن ويعيب شقيقا وينسبه بأنّ فيه من الضّعف والجبن على درجة لو علم أنّ في بني عمّه رماحا لما التفت لفت الكفاح ، أي لما انصرف إلى جانب المحاربة والمقاتلة. وحاصل معنى العبارة : إنّ في البيت تهكّما من الشّاعر شقيق واستهزاء به ، وذلك لأنّ مثل هذه العبارة أعني قوله : «إنّ بني عمّك ...» إنّما تقال لمن يستهزأ به لكونه لا قدرة له على الحرب ، بل عند سماعه به يخاف ولا يقدر على حمل الرّماح ، ولا غيرها من آلات الحرب لجبنه وضعفه.

(٢) قوله : «لفت» بمعنى الجانب.

(٣) بمعنى المحاربة والمقاتلة والمعارضة للحرب.

(٤) أي لم تقدر على حمل الرّماح.

(٥) الظّرف إمّا متعلّق بقوله : «تهكّم واستهزاء» أو متعلّق بمحذوف صفة للتّهكّم ، أي في البيت تهكّم آت على طريقة التهكّم في قوله ، أي قول أبي ثمامة البراء بن عازب الأنصاري.

(٦) أي قال الإمام المرزوقي «لمحرز» وهو اسم رجل من بني ضبة أو خبة ـ في بعض النسخ ـ.

(٧) أي وقت المحاربة.

(٨) أي تبعّد عن الطّريق لا يسقطك القتال ، أو بمعنى تجنّب مفعوله محذوف وهو القتال أو المقاتلين.

(٩) بجزم «يقطّرك» ، لأنّه وقع في جواب الأمر ، والتّقطير هو الإلقاء على الأرض على البطن أو على أحد الجانبين ، والمراد منه في المقام الإلقاء على الأرض مطلقا ، و «الزّحام» مصدر بمعنى المزاحمة ، والمراد منه في المقام مزاحمة الجيش بخيلها عند القتال. فمعنى العبارة : فقلت لمحرز لما التقيناه في الحرب تنكّب القتال أو المقاتلين ، أي اعدل عن طريقهم «لا يقطّرك الزّحام» أي لا يلقك على جانبيك ، أو على قفاك لضعف بنائك أي بنيتك.

(١٠) أي ينسبه إلى عدم مباشرة الشّدائد.

٢٢٦

ولم يدفع (١) إلى مضايق المجامع (٢) كأنّه يخاف عليه أن يداس (٣) بالقوائم كما يخاف على الصّبيان والنّساء لقلّة غنائه (٤) وضعف بنائه (٥) [و] يجعل [المنكر كغير المنكر إذا كان معه] أي مع المنكر [ما إن تأمّله (٦)] أي شيء من الدّلائل والشّواهد (٧) إن تأمّل المنكر ذلك الشّيء (٨) [ارتدع] عن إنكاره (٩). ومعنى كونه معه (١٠) أن يكون معلوما له (١١) ومشاهدا عنده (١٢)

______________________________________________________

(١) أي لم يدخل.

(٢) جمع مجمع ، بمعنى محلّ الاجتماع ، فمعنى العبارة : أي لم يدخل إلى المواضع الضّيّقة الّتي يجتمع فيها النّاس ، كمواضع الحروب.

(٣) هذه النّسخة أولى من نسخة (يدسّ) من الدّسّ ، بمعنى الإخفاء تحت التّراب ، ف «يداس» مأخوذ من الدّوس ، بمعنى جعل الشّيء تحت الأقدام لأنّ المناسب في المقام هو المعنى الثّاني لا الأوّل.

(٤) أي نفعه ، لأنّ الغناء ـ بالفتح والمدّ ـ بمعنى النّفع.

(٥) أي بنيته وجسمه وبدنه.

(٦) أي تأمّل فيه ، لأنّ التّأمّل : النّظر في الشّيء ، ثمّ المنكر وإن كان صادقا على كلّ من (خاليّ الذّهن والعالم بالحكم والمتردّد فيه) إلّا أنّ المراد به هنا غير العالم بالحكم ، إذ لا معنى لتنزيل المنكر منزلة العالم في إلقاء الخبر إليه فيما إذا كان عالما بالحكم.

(٧) هذا التّفسير إشارة إلى أنّ المراد بالدّلائل ما يشمل القرآن وليس المراد بها خصوص الأدلّة الاصطلاحيّة ، ثمّ الشّواهد عطف تفسيريّ على الدّلائل.

(٨) أي تفكّر إذا كان عقليّا.

(٩) أي رجع عن إنكاره وانتقل إلى مرتبة التردّد أو خاليّ الذّهن.

(١٠) أي كون الدّليل مع المنكر.

(١١) أي متصوّرا له ، وهذا بالنّظر إلى الأدلّة العقليّة ككون القرآن مشتملا على الحقائق الكونيّة ، والقوانين الاجتماعيّة الّتي لا يوجد فيها نقص ولا قصور.

(١٢) أي بالحسّ ، فيكون هذا بالنّظر إلى الأدلّة المحسوسة ، كالمعجزات الّتي صدرت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسمع ومرأى النّاس من شقّه القمر ، وتسبيح الحصاة في يده المباركة.

لا يقال : إنّه إذا كان معنى كونه مع المنكر أن يكون معلوما له أو محسوسا عنده لما كان

٢٢٧

كما تقول (١) لمنكر الإسلام : الإسلام حقّ من غير تأكيد (٢) لأنّ مع ذلك المنكر دلائل دالّة على حقيّة الإسلام (٣). وقيل : معنى كونه (٤) معه (٥) أن يكون معه موجودا في نفس الأمر (٦) ،

______________________________________________________

مجالا لقوله : «إن تأمّله» لأنّ التّأمّل عبارة عن النّظر في الأمر ، فلا مجال له إذا كان الدّليل معلوما للإنسان إذ العلم بالدّليل علم بالمدلول لا محالة ، لأنّ الدّليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، فحينئذ لا يتوقّف الارتداع على التّأمّل.

فإنّه يقال : بأنّ المراد بالدّليل ليس الدّليل المنطقيّ وهو ما يلزم من العلم به العلم بالمدلول حتّى يرد ما ذكره ، بل المراد به الدّليل الأصوليّ ، وهو ما يمكن التّوصّل بصحيح النّظر فيه إلى مطلوب خبريّ ، ولا ريب أنّ مجرّد العلم بالدّليل بهذا المعنى لا يستلزم العلم بالمدلول ، بل يحتاج إلى التّأمّل وصحيح النّظر فيه.

(١) أي كقولك ، أي كالتّنزيل الّذي في قولك ـ لمنكر الإسلام ـ الإسلام حقّ ، فتكون «ما» مصدريّة ، وفي الكلام حذف ، لأنّ المقصود التّمثيل التّنزيل المذكور في المتن.

(٢) أي يلقى الكلام إلى اليهوديّ والنّصرانيّ وغيرهما ممّن ينكر الإسلام مجرّدا عن المؤكّدات على خلاف مقتضى الظّاهر تنزيلا له منزلة الخاليّ الذّهن الغير المنكر لما معه من الدّلائل والعلامات الدّالّة على حقّيّة الإسلام ، ممّا لو تأمّله المنكر لرجع عن إنكاره ، واعترف بصحّته.

(٣) أي الدّلائل الدّالّة على حقّيّة الإسلام ، هي العلامات الدّالّة على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجودة في التّوراة والإنجيل وإعجاز القرآن المتضمّن للآيات الكونيّة الدّالّة على وحدانيّة الصّانع ، وأنّه خلق السّماوات والأرض والنّجوم والقمر وغيرها من الموجودات.

(٤) هذا وجه ثان في بيان معنى «معه» حاصله : إنّ كون الدّلائل مع المنكر ليس معناه كونها معلومة له ، كما مرّ ، بل معناه أن تكون الدّلائل موجودة في نفس الأمر فقط.

(٥) أي مع ذلك المخاطب المنكر المنزّل منزلة غير المنكر.

(٦) أي الخارج ، وحاصل المعنى : أنّه يكفي في تنزيل المخاطب المنكر منزلة غير المنكر أن يكون معه ما يدلّ على حقيّة الإسلام في الواقع فقط بدون علم ذلك المنكر به.

٢٢٨

وفيه نظر (١) ، لأنّ مجرّد وجوده لا يكفي في الارتداع ما لم يكن حاصلا عنده (٢).

وقيل (٣) : معنى ما إن تأمّله شيء من العقل. وفيه نظر ، لأنّ المناسب حينئذ (٤) أن يقال : ما إن تأمّل به ، لأنّه لا يتأمّل العقل ، بل يتأمّل به. [نحو :](لا رَيْبَ فِيهِ) [(٥)] ظاهر هذا الكلام أنّه مثال لجعل منكر الحكم كغيره (٦) ، وترك التّأكيد (٧) لذلك ،

______________________________________________________

(١) أي فيما قيل نظر وإشكال ، حاصله : إنّ مجرّد وجود ما يدلّ على حقيّة الإسلام في نفس الأمر من دون العلم به لا يكفي في الارتداع.

(٢) وذلك لإمكان أن يكون ذلك موجودا في نفس الأمر ولكنّه لا يكون معلوما له ولا مشاهدا ، فلا يمكنه التّأمّل فيه لعدم حصوله بوجه حتّى يحصل الارتداع.

(٣) هذا وجه ثان في معنى لفظة «ما» في قوله : «ما إن تأمّله» يعني ليس المراد من «ما» الموصولة الدّلائل كما سبق ، بل المراد منها هو العقل ، فمعنى العبارة حينئذ : إذا كان مع المنكر عقل لو تأمّل به لارتدع عن الإنكار فتكون الباء للسّببيّة.

(٤) أي حين تفسير «ما» الموصولة بالعقل لا بالأدلّة ، أن يقول المصنّف «ما إن تأمّل به» ، وفي قوله : «لأنّ المناسب» إشارة إلى صحّة هذا الاحتمال ، وال «قيل» بالحمل على الحذف والإيصال ، فكان الأصل : ما إن تأمّل به ، فحذفت الباء وأوصل الضّمير بالفعل ، أو يقال : إنّ مراده بالعقل الأدلّة العقليّة ، فلا يرد عليه ما في المفصّل في شرح المطوّل ، من أنّه مستلزم للحذف والإيصال من دون ضرورة ألجأنا إليها.

(٥) أي لا شكّ في الكتاب.

(٦) أي ظاهر الكلام ـ أعني (لا رَيْبَ فِيهِ) هو التّمثيل لا التّنظير وذلك لوجهين :

الأوّل : إنّ المتبادر من ذكره بعد القاعدة ـ أعني جعل المنكر كغير المنكر ـ أنّه تمثيل لها.

الثّاني : إنّ المتبادر من ذكر لفظ «نحو» هو التّمثيل إذ لو كان للتّنظير لقال : نظير (لا رَيْبَ فِيهِ).

(٧) قوله : «وترك» بالجرّ عطف على «جعل» ، فمعنى العبارة : ظاهر هذا الكلام أنّه مثا لجعل منكر الحكم كغيره ، ولترك التّأكيد «لذلك» أي لذلك الجعل.

لا يقال : بأنّه لا نسلّم أنّ (لا رَيْبَ فِيهِ) خال عن التّأكيد ، بل إنّه مؤكّد بلا الّتي لنفي

٢٢٩

وبيانه (١) : أنّ معنى (لا رَيْبَ فِيهِ) ليس القرآن بمظنّة للرّيب ، ولا ينبغي أن يرتاب فيه ، وهذا الحكم ممّا ينكره كثير من المخاطبين ، لكن نزّل إنكارهم منزلة عدمه لما معهم من الدّلائل الدّالّة على أنّه ليس ممّا ينبغي أن يرتاب فيه والأحسن أن يقال : إنّه (٢)

______________________________________________________

الجنس ، فإنّها للتّأكيد ، وكذلك باسميّة الجملة ، كما صرّحوا بذلك.

فإنّه يقال : بأنّ لا النّافية لتأكيد المحكوم عليه ، لأنّها تفيد استغراق النّفي الرّاجع إلى المحكوم عليه بمعنى أنّه لا يخرج شيء من أفراده ، ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في تأكيد الحكم ، وهي لا تفيد ذلك ، وأمّا اسميّة الجملة فليست للتّأكيد مطلقا ، بل إذا اعتبرت مؤكّدا.

(١) أي بيان كونه مثالا لجعل المنكر كغير المنكر ، وفيه إشارة إلى دفع إيراد يرد ههنا.

وحاصل الإيراد : إنّ هذا الحكم أعني نفي الرّيب بالكلّيّة ، ممّا لا يصلح أن يحكم به وذلك لكثرة المرتابين فضلا عن أن يؤكّد. وحاصل الدّفع : إنّ المراد من نفي الرّيب ليس أنّ أحدا لا يرتاب فيه ، بل المراد أنّ القرآن ليس بمظنّة للريب ، ولا ينبغي أن يرتاب فيه ، وهذا مطابق للواقع ، وينكره كثير من المخاطبين ، فكان مقتضى الظّاهر أن يؤكّد لكن نزّل إنكارهم منزلة عدمه ، لما معهم من الدّلائل الّتي لو تأمّلوها ارتدعوا عن الإنكار ، فلذلك ألقي الكلام مجرّدا ، فيكون مثالا لإتيان الكلام على خلاف مقتضى الظّاهر.

(٢) أي (لا رَيْبَ فِيهِ) نظير لجعل المنكر كغير المنكر ، وليس مثالا له. وحاصل الفرق بينهما ، هناك فرقان : الأوّل : إنّ المنفيّ في الأوّل ليس نفي الرّيب ، بل كون القرآن محلّا للرّيب ومظنّة له خطابا لمنكري ذلك ، وأنّ المنفيّ في الثّاني هو نفس الرّيب على سبيل الاستغراق من غير مخاطبة به.

الثّاني : إنّ المثال يجب أن يكون جزء من أفراد الكلّي ، ولا يجب ذلك في التّنظير.

وكونه نظيرا أحسن من كونه مثالا لوجهين : الأوّل : إنّ جعله مثالا يحتاج إلى التّأويل بخلاف التّنظير ، حيث إنّه لا يحتاج إلى التّأويل.

الثّاني : قول المصنّف فيما بعد ، حيث قال : «وهكذا اعتبارات النّفي» فإنّه مشعر بأنّ ما تقدّم متمحّض في الإثبات ، وكان من أمثلة اعتبارات الإثبات فقط ، فحينئذ لو كان (لا رَيْبَ فِيهِ) مثالا لكان من أمثلة النّفي ، وكان الأنسب تأخيره عن قوله : «وهكذا اعتبارات النّفي».

٢٣٠

نظير لتنزيل (١) وجود الشّيء منزلة عدمه ، بناء (٢) على وجود ما يزيله ، فإنّه (٣) نزّل ريب المرتابين منزلة عدمه تعويلا (٤) على وجود ما يزيله حتّى صحّ نفي الرّيب على سبيل الاستغراق (٥) كما نزّل الإنكار منزلة عدمه لذلك (٦) حتّى يصحّ ترك التّأكيد. [وهكذا (٧)] أي مثل اعتبارات الإثبات (٨) [اعتبارات النّفي] من التّجريد عن المؤكّدات في الابتدائي وتقويته بمؤكّد استحسانا في الطّلبي ووجوب التّأكيد بحسب الإنكار في الإنكاري ، تقول لخاليّ الذّهن : ما زيد قائما ، أو ليس زيد قائما ، وللطّالب : ما زيد بقائم (٩) ، وللمنكر : والله ما زيد بقائم (١٠) ، وعلى هذا القياس.

______________________________________________________

(١) أي لأجل تنزيل وجود الشّيء أعني الرّيب حيث قيل : (رَيْبَ) منزلة عدمه.

(٢) بيان علّة التّنزيل.

(٣) أي الشّأن.

(٤) أي اعتمادا على ما معهم من الدّلائل الظّاهرة والبراهين القاطعة الّتي تزيل ارتيابهم لو تأمّلوها.

(٥) أي المفهوم من وقوع النّكرة في سياق النّفي.

(٦) أي للتّعويل والاعتماد على ما معهم ممّا يزيل إنكارهم لو تأمّلوه.

(٧) لمّا كانت الأمثلة المذكورة للاعتبارات السّابقة من قبيل الإثبات سوى قوله : (رَيْبَ فِيهِ) أشار بقوله : «وهكذا اعتبارات النّفي» إلى التّعميم دفعا لتوهّم التّخصيص.

(٨) أي المماثلة في الإخراج على خلاف مقتضى الظّاهر ، وعلى مقتضى الظّاهر واكتفى الشّارح بأمثلة الثّاني بقوله : «من التّجريد» إلى قوله : «وعلى هذا القياس» أي أنّ التّأكيد كما يعتبر في الإثبات امتناعا واستحسانا ووجوبا بقدر الحاجة كذلك يعتبر في النّفي أيضا ، وأمثلة إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظّاهر ظاهرة لا حاجة إلى ذكرها.

(٩) أي مؤكّدا بالباء الزّائدة.

(١٠) أي مؤكّدا بالباء الزّائدة والقسم ، أعني : والله.

٢٣١

الإسناد الحقيقيّ والمجازيّ

[ثمّ (١) الإسناد] مطلقا سواء (٢) كان إنشائيّا أو إخباريّا [منه حقيقة عقليّة (٣)] لم يقل إمّا حقيقة وإمّا مجاز ،

______________________________________________________

(١) كلمة «ثمّ» هنا للاستئناف النّحويّ ، لا الاستئناف البيانيّ ، فلا بدّ من جعل هذه الجملة منقطعة عمّا قبلها. والفرق بينهما : إنّ المراد بالاستئناف النّحويّ : هو مطلق الانقطاع عن الجملة السّابقة ، والمراد بالاستئناف البيانيّ : هو خصوص الانقطاع على نحو أن يكون جوابا لسؤال ناش من الأولى ، وهذا لا يستقيم في المقام لعدم كون الأولى منشأ لسؤال.

قال : «ثمّ الإسناد» ولم يقل : (ثمّ هو) بالإضمار لتقدّم ذكر الإسناد لئلّا يتوهّم أنّه مخصوص بالإسناد الخبريّ ، لأنّه هو المتقدّم ، والمراد هنا مطلق الإسناد سواء كان إخبارا أو إنشاء.

(٢) بيان للإطلاق.

(٣) وظاهر كلام المصنّف ـ حيث قال : «ثمّ الإسناد منه حقيقة عقليّة» ومنه مجاز عقليّ ـ أنّ المسّمي بالحقيقة العقليّة والمجاز العقليّ هو الإسناد لا الكلام على ما ذكره صاحب المفتاح ، وهو الظّاهر من مواضع من دلائل الإعجاز.

نعم ، تصحّ تسمية الكلام بهما بواسطة الإسناد ، فالحقّ ما اختاره المصنّف. ثمّ كلّ من حقيقة والمجاز على نحوين : عقليّ ولغوي.

والفرق بينهما يمكن بوجهين :

الأوّل : إنّ الحقيقة العقليّة إنّما هي في الإسناد حيث إنّ إسناد الفعل إلى ما هو له حقيقة عقليّة ، وإلى غير ما هو له مجاز عقليّ ، والحقيقية اللغويّة إنّما هي في المفردات أعني طرفيّ الإسناد حيث إنّ استعمال اللّفظ فيما وضع له حقيقة لغويّة ، وفي غير ما وضع له مجاز لغويّ.

الثّاني : إنّ الحاكم في الأوّل هو العقل ، فالإسناد حقيقة عقليّة باعتبار أنّه ثابت في محلّه ، ومجاز عقليّ باعتبار أنّه متجاوز إيّاه ، والحاكم بذلك هو العقل دون الوضع ، وفي الثّاني حيث إنّ اللّفظ مستعملا في معناه أو متجاوزا عنه إنّما يدرك بوضع اللّغة ، فتسمّى الحقيقة لغويّة والمجاز لغويّا ، فأنبت الرّبيع البقل من الموحّد مجاز عقليّ ، ومن الدّهري حقيقة عقليّة ، لتفاوت عمل عقلهما ، مع اتّحاد الوضع اللّغوي عندهما.

٢٣٢

لأنّ بعض الإسناد عنده (١) ليس بحقيقة ولا مجاز ، كقولنا : الحيوان جسم ، والإنسان حيوان ، وجعل الحقيقة (٢) والمجاز صفتي الإسناد دون الكلام ، لأنّ اتّصاف الكلام بهما إنّما هو باعتبار الإسناد وأوردهما (٣) في علم المعاني لأنّهما من أحوال اللّفظ

______________________________________________________

(١) أي عند المصنّف ، كما إذا لم يكن المسند فعلا أو ما بمعناه «كقولنا : الحيوان جسم».

وحاصل الكلام : إنّ المصنّف ملتزم بوجود الواسطة ، ولذا لم يقل : إمّا حقيقة وإمّا مجاز ، لأنّ هذه العبارة تفيد الحصر والمصنّف لا يقول به ، إذ كلمة «إمّا» في مقام التّقسيم يكون أمرها مردّدا بين أن تكون للانفصال الحقيقيّ أو لمانع الخلوّ. والوجه فيه أنّ الغرض في مقام التّقسيم هو ضبط الأقسام فتفيد الحصر.

(٢) قوله : «وجعل الحقيقة» جواب لسؤال مقدّر ، والتّقدير : أنّ المصنّف لماذا عدل عمّا صنعه الشّيخ عبد القاهر والسكّاكي من جعلها الحقيقة والمجاز صفة للكلام.

حيث قال الأوّل في حدّ الحقيقة العقليّة : كلّ جملة وضعتها على أنّ الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه ، وفي حدّ المجاز العقليّ : كلّ جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل بضرب من التّأويل.

وقال : الثّاني : ثمّ الكلام منه حقيقة عقليّة ومنه مجاز عقليّ.

وحاصل الجواب : والوجه في عدول المصنّف أنّ المتّصف بالحقيقة والمجاز العقليّين في الواقع إنّما هو الإسناد ، حيث إنّ الإسناد إلى ما هو له حقيقة وإلى غير ما هو له مجاز ، ويتّصف بهما الكلام باعتبار اشتماله على الإسناد.

(٣) أي أورد المصنّف الحقيقة والمجاز العقليّين في علم المعاني دون علم البيان ، وهذا الكلام من الشّارح جواب لسؤال مقدّر ، تقديره : أن يقال إنّ الحقيقة والمجاز إنّما هما من مباحث علم البيان ، فلماذا أوردهما في علم المعاني؟

وحاصل الجواب : إنّ المصنّف أوردهما في علم المعاني لأنّهما من أحوال اللّفظ فيدخلان في علم المعاني.

لا يقال : إنّه ليس الأمر كذلك ، لأنّ التّأكيد والتّجريد راجعان إلى اللّفظ بخلاف كون الإسناد حقيقة ومجازا ، فإنّه راجع إلى الإسناد ، وهو أمر معنوي ، فالبحث عنه لا يكون

٢٣٣

فيدخلان في علم المعاني ، [وهي] أي الحقيقة العقليّة [إسناد الفعل أو معناه (١)] كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصّفة المشبّهة واسم التّفضيل والظّرف [إلى ما] أيّ شيء [هو] أي الفعل أو معناه (٢) [له] أي لذلك الشّيء كالفاعل فيما بني له (٣) نحو : ضرب زيد عمرا أو المفعول فيما بني له ضرب عمرو ، فإنّ الضّاربيّة لزيد والمضروبيّة لعمرو (٤)

______________________________________________________

من أحوال اللّفظ العربيّ فضلا عن أن يكون من أحوال اللّفظ العربي الّتي بها يطابق اللّفظ مقتضى الظّاهر.

فإنّه يقال : إنّ البحث عنه وإن لم يكن عن أحوال اللّفظ بلا واسطة إلّا أنّه منها بواسطة الإسناد.

(١) احترز بهذا عمّا لا يكون المسند فيه فعلا أو معناه كقولنا : الحيوان جسم ، فإنّه ليس حقيقة ولا مجازا عنده كما عرفت.

(٢) أي مدلول الفعل أو مدلول معناه ، ثمّ إنّ الشّارح لم يقل : أي ما ذكر من الفعل أو معناه ، بناء على ما اشتهر بينهم من أنّ الضّمير المفرد إذا رجع إلى شيئين معطوفين بأو ، لا يحتاج إلى التّأويل إلى ما ذكر في الضّمير المفرد سواء كانت كلمة أو للإبهام أو التّنويع ، كما هنا ، وذلك لأنّه حينئذ لأحد الشّيئين والأحد مفرد ، وإنّما الحاجة إلى التّأويل في المعطوفين بالواو ، ولكن صرّح في المغني بأنّ الآبدي نصّ على أنّ حكم «أو» الّتي للتّنويع حكم الواو في وجوب المطابقة قال : وهو الحقّ ، فعليه كان الأولى للشّارح أن يقول : أي ما ذكر من الفعل أو معناه.

(٣) الكاف استقصائيّة لا تمثيليّة فتفيد الحصر ، فمعنى العبارة حينئذ إنّ الحقيقة العقليّة عند المصنّف خاصّة بالإسناد إلى الفاعل أو المفعول به وكلمة «في» في قوله : «فيما بني له» في الموردين بمعنى مع ، أي كالفاعل مع الفعل الّذي صيغ وأسند إليه «نحو : ضرب زيد عمرا ، أو المفعول به فيما بني له» أي مع الفعل الّذي صيغ له وأجري عليه نحو : (ضرب عمرو) مبنيّا للمفعول.

(٤) أي فيكون إسناد الضّرب إلى زيد في المثال الأوّل على طريقة بنائه ، للفاعل حقيقة وإسناده إلى عمرو في المثال الثّاني على طريقة البناء للمفعول حقيقة لأنّ الضّاربيّة ثابتة لزيد ، والمضروبيّة ثابتة لعمرو.

٢٣٤

[عند المتكلّم] متعلّق بقوله له (١) وبهذا (٢) دخل فيه (٣) ما يطابق الاعتقاد دون الواقع (٤) [في الظّاهر] وهو أيضا متعلّق بقوله : له ، وبهذا (٥) يدخل فيه (٦) ما لا يطابق الاعتقاد (٧) والمعنى (٨) إسناد الفعل أو معناه إلى ما يكون هو له عند المتكلّم فيما يفهم من ظاهر حاله (٩) ، وذلك (١٠) بأن لا ينصب قرينة دالّة على أنّه غير ما هو له في اعتقاده ، ومعنى كونه له (١١)

______________________________________________________

(١) لا يقال : إنّ الظّرف لا يتعلّق بمثله ، بل لا بدّ له أن يكون متعلّقا بفعل أو شبهه.

لأنّا نقول : إنّه لا مانع من تعلّقه بمثله إذا كان مستقرّا ، لاستقرار معنى الفعل فيه عند حذفه ، وقد قرّر في محلّه إنّ الظّرف لا بدّ له من متعلّق هو فعل أو شبهه أو ما فيه معنى الفعل ، كما في المفصّل مع اختصار.

(٢) أي بقيد «عند المتكلّم».

(٣) أي في تعريف حقيقة العقليّة.

(٤) كقول الجاهل : أنبت الرّبيع البقل.

(٥) أي بقيد «في الظّاهر».

(٦) أي في تعريف الحقيقة العقليّة.

(٧) كقول الدّهريّ للمسلم مخفيّا حاله عنه : أنبت الله البقل.

(٨) أي معنى تعريف الحقيقة العقليّة.

(٩) أي ظاهر حال المتكلّم ، أي معنى الحقيقة العقليّة ، هو إسناد الفعل أو معناه إلى الفاعل يكون الفعل أو معناه لذلك الفاعل مثلا عند المتكلّم ، فيما يفهم من ظاهر حاله من دون اطّلاع على ما في اعتقاده.

(١٠) أي الفهم من ظاهر حاله.

(١١) جواب عن سؤال مقدّر ، تقدير السّؤال : إنّ هذا التّعريف غير جامع لخروج مثل :

(مات زيد) و (مرض عمرو) منه ، ضرورة أنّ الموت ليس صادرا عن زيد ، والمرض من عمرو حتّى يصدق أنّ الفعل أو معناه أسند إلى ما هو له مع أنّهما من أمثلة الحقيقة العقليّة بلا ريب. وحاصل الجواب : إنّ معنى كونه أن يكون معناه قائما به ووصفا له لا أن يكون معناه صادرا عنه ومخلوقا له حتّى يرد ما ذكر.

٢٣٥

إنّ معناه (١) قائم به (٢) ووصف له (٣) ، وحقّه أن يسند إليه سواء كان مخلوقا لله تعالى أو لغيره (٤) ، وسواء كان صادرا عنه (٥) باختياره كضرب أو لا ، كمات ومرض (٦) وأقسام الحقيقة العقليّة على ما يشمله التّعريف أربعة : الأوّل : ما يطابق الواقع والاعتقاد جميعا [كقول المؤمن : أنبت الله البقل (٧) ، و] الثّاني : ما يطابق الاعتقاد فقط نحو : [قول الجاهل (٨) : أنبت الرّبيع البقل]. والثّالث : ما يطابق الواقع فقط كقول المعتزليّ لمن

______________________________________________________

(١) أي الفعل أو معناه.

(٢) أي بالفاعل أو نائبه.

(٣) أي وصف للفاعل أو نائبه ، ثمّ عطف قوله : «ووصف» على قوله : «قائم به» إشارة إلى أنّ المراد بالقيام أعمّ من الحقيقيّ كما في الأوصاف الموجودة والاعتباري كما في الأوصاف الانتزاعيّة كالزّوجيّة والحريّة والرّقّيّة والمالكيّة والمملوكيّة.

(٤) أي لغير الله ، وإنّما قيّد لغير الله تعالى ، ليدخل في التّعريف قول المعتزلة لأنّ الأفعال عندهم ليست مخلوقة لله تعالى كما يقول به الأشاعرة.

(٥) أي عن الفاعل.

(٦) الظّاهر إنّ مات ومرض تمثيل لما هو صادر عن غير الله بلا اختيار ، مع أنّهما من الله بلا خلاف ، فالصّحيح أن يمثّل بنحو تحرّك المرتعش ، إلّا أن يقال : إنّ قوله : «أو لا» يصدق على صورتين : الأولى : أن يصدر عنه بغير اختيار كحركة المرتعش.

والثّانية : أن لا يصدر عنه أصلا كالمرض والموت.

(٧) إذا لم يكن مخفيّا حاله من المخاطب ، وإذا كان مخفيّا حاله منه يحمل على المجاز لعدم صدق تعريف الحقيقة العقليّة عليه حينئذ ، إذ لم يكن الإسناد إلى ما هو له عند المتكلّم في الظّاهر ، بل يكون إلى غير ما هو له عند المتكلّم بحسب ظاهر حاله من الإخفاء وإظهار الخلاف.

(٨) المراد بالجاهل هو الكافر بقرينة ذكره مقابلا للمؤمن ، ثمّ المراد بالرّبيع هو المطر ، سمّي به لكثرته فيه ، ثمّ قول الجاهل حقيقة عقليّة إذا لم يكن مخفيّا حاله من المخاطب ، وإلّا فيحمل على المجاز.

٢٣٦

لا يعرف حاله وهو يخفيها منه خلق الله الأفعال كلّها ، وهذا المثال متروك في المتن (١) [و] الرّابع ما لا يطابق الواقع ولا الاعتقاد [نحو قولك : جاء زيد وأنت] أي والحال أنّك خاصّة (٢) [تعلم أنّه لم يجئ] دون المخاطب (٣) ، إذ لو علمه (٤) المخاطب أيضا (٥) لما تعيّن كونه حقيقة ، لجواز أن يكون المتكلّم قد جعل علم السّامع (٦) بأنّه لم يجئ قرينة على أنّه لم يرد ظاهره ، فلا يكون الإسناد إلى ما هو له عند المتكلّم في الظّاهر (٧).

______________________________________________________

(١) أي غير مذكور لقلّة وجوده فلا يتوهّم من عدم ذكره أنّ الحقيقة العقليّة منحصرة في الأقسام الثّلاثة لكون المقام مقام البيان فإنّ المصنّف صرّح في الإيضاح بأنّ الحقيقة العقليّة أربعة أضرب ، ثمّ أورد الأمثلة الأربعة ، ثمّ المثال الثّالث مطابق للواقع عند الأشاعرة فقط ، وتركنا البحث حول كيفيّة الأفعال رعاية للاختصار ، ومن يريد التّفصيل فعليه بكتاب المفصّل في شرح المطوّل للمرحوم الشّيخ موسى البامياني.

(٢) أي هذا إشارة إلى أنّ تقديم المسند إليه للحصر والقصر كقولك : أنا سعيت في حاجتك.

(٣) أي الإسناد المذكور من الحقيقة العقليّة وإن لم يطابق واحدا منهما ، لأنّه إسناد إلى ما هو له عند المتكلّم بحسب ظاهر حاله ، ولا ينافي ذلك كونه كذبا فإنّ المناط فيه صدق التّعريف ، وقد رأيت صدقه عليه.

(٤) أي عدم المجيء.

(٥) أي كما علمه المتكلّم ، وحاصل الكلام : أنّه إذا قال المتكلّم : جاء زيد ، وهو يعلم بعدم مجيء زيد دون المخاطب ، كان حقيقة عقليّة لصدق تعريفها عليه ، وأمّا لو علمه المخاطب أيضا ، فلا يتعيّن كونه حقيقة عقليّة وذلك لاحتمال أن لا يريد المتكلّم ظاهر الكلام المذكور كي يكون حقيقة عقليّة ، بل أراد خلاف الظّاهر لقيام قرينة على ذلك وهي علم المخاطب بعدم المجيء.

(٦) أي المراد من السّامع هو المخاطب.

(٧) فلا يكون حقيقة عقليّة ، بل مجازا ، إلّا أن يقال : إنّ مجرّد علم المخاطب بأنّه لم يجئ لا يكون صالحا لأن يكون قرينة على أنّ الإسناد لا يكون إلى ما هو له ، بل لا بدّ من علمه بأنّ المتكلّم يعتقد أنّه لم يجئ حتّى يحمل كلامه على أنّه غير قاصد تفهيم

٢٣٧

[ومنه] أي ومن الإسناد [مجاز عقليّ (١)] ويسمّى مجازا حكميّا (٢) ، ومجازا في الإثبات (٣) ، وإسنادا مجازيّا (٤) [وهو إسناده] أي إسناد الفعل أو معناه [إلى ملابس له (٥)] أي للفعل أو معناه [غير ما هو له] أي غير الملابس الّذي ذلك الفعل أو معناه (٦) مبنيّ له

______________________________________________________

ظاهره ، ففي فرض علم المخاطب بأنّه لم يجئ من دون علمه بأنّ المتكلّم عالم بعدم المجيء يحمل الإسناد في المثال المذكور على الحقيقة.

(١) لإسناده إلى العقل دون الواضع ، والوجه في ذلك أنّ التّجوّز إنّما هو في أمر معقول مدرك بالعقل أعني الإسناد بخلاف المجاز اللّغوي ، فإنّه في أمر نقليّ مثل أنّ هذا اللّفظ وضع لهذا المعنى ثمّ «مجاز» مصدر ميميّ أصله مجوز من جاز المكان إذا تعدّى ، نقلت حركة الواو للسّاكن قبلها ، فقلبت ألفا لتحرّكها بحسب الأصل ، وانفتاح ما قبلها فعلا ، وسمّي الإسناد مجازا ، لأنّه قد جاوز مكانه الأصلي ، وهو ما هو له إلى غيره وهو غير ما هو له ، وسمّي مجازا عقليّا لما عرفت من أنّ التّجوّز إنّما هو في الأمر العقليّ كالإسناد.

(٢) أمّا تسميته بالمجاز الحكميّ فلتعلّقه بالحكم بمعنى الإدراك والإذعان ، فإنّ المجاز مورد ومتعلّق للإدراك ، أو لكون المجاز منسوبا إلى حكم العقل أو إلى النّسبة بأن يراد بالحكم مطلق النّسبة.

(٣) المراد بالإثبات هو الانتساب والاتّصاف ، سواء كان على جهة الإيجاب أو النّفي ، فيشمل الإيجاب والسّلب ، إذ في كلّ منهما انتساب واتّصاف ، فلا يرد عليه ما يتوهّم من أنّ المجاز العقليّ كما يكون في الإثبات ، كذلك يكون في النّفي ، فلا وجه لهذه التّسمية.

وملخّص الجواب : إنّ المراد من الإثبات ليس الإيجاب المقابل للنّفي بل المراد به مطلق الاتّصاف ، ويمكن أن يكون به معناه الظّاهر أي الإيجاب ، وكان التّقييد به لمكان أشرفيّته وأصالته فإنّ المجاز في النّفي فرع المجاز في الإثبات.

(٤) أي إسنادا منسوبا إلى المجاز لكونه مسندا إلى غير ما هو له.

(٥) أي إلى شيء بينه وبين الفعل أو معناه ملابسة وارتباط لعدم صحّة إسنادهما إلى ما ليس بينهما وبينه ملابسة أصلا.

(٦) بالجرّ صفة للملابس ، وتفسير الموصول بالملابس حيث قال : أي غير الملابس ، إشارة إلى أنّ المراد من «ما» الموصولة هو الملابس.

٢٣٨

يعني غير الفاعل في المبنيّ للفاعل وغير المفعول به في المبنيّ للمفعول به (١) سواء كان ذلك الغير (٢) غيرا في الواقع أو عند المتكلّم في الظّاهر (٣) وبهذا (٤) سقط ما قيل : إنّه إن أراد غير ما هو له عند المتكلّم في الظّاهر فلا حاجة إلى قوله : بتأوّل ، وهو (٥) ظاهر ، وإن أراد به غير ما هو له في الواقع ، خرج عنه (٦) مثل قول الجاهل : أنبت الله البقل مجازا باعتبار الإسناد إلى السّبب (٧) [بتأوّل (٨)] متعلّق بإسناده (٩)

______________________________________________________

(١) وحاصل الكلام إنّما يكون الفعل أو معناه مسندا إلى غير ما هو له إذا بني ذلك الفعل أو معناه للفاعل وأسند إلى غيره أو بني للمفعول وأسند إلى غيره.

(٢) أي غير الفاعل أو نائبه.

(٣) وهذا التّعميم إشارة إلى أنّ الأقسام الأربعة الّتي مرّت في الحقيقة تأتي هنا في المجاز لشمول التّعريف لها ، أعني ما يطابق الواقع والاعتقاد معا ، وما يطابق الواقع فقط ، وما يطابق الاعتقاد فقط ، وما لم يطابق واحدا منهما فتدبّر.

(٤) أي التّعميم في غير ما هو له حيث أريد منه المعنى الأعمّ أعني الغير في الواقع والغير عند المتكلّم صار قوله : «بتأوّل» محتاجا إليه ، أي بالنّسبة لبعض الأفراد وهو الغير في الواقع.

(٥) أي عدم الحاجة ظاهر ، وجه ذلك أنّ المتكلّم لا يسند إلى غير ما هو له في الظّاهر إلّا إذا كان هناك قرينة تدلّ على ذلك.

(٦) أي عن تعريف المجاز العقليّ ، لأنّ الإسناد فيه إلى ما هو له بحسب الواقع فإذا خرج لا يكون التّعريف جامعا.

(٧) وهو الله تعالى على زعمه ، لأنّه يعتقد أنّ الفاعل الحقيقي هو الرّبيع ، وأنّ الله سبب.

(٨) يعني بنصب قرينة دالّة على عدم إرادة الفاعل الحقيقي ، وكون وضع غيره في موضعه على طريق التّجوّز.

(٩) فالباء ظرف لغو إمّا للمصاحبة ، وإمّا للسّببيّة ، فالمعنى أنّ المجاز العقلي عبارة عن إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له إسنادا مصاحبا للتّأوّل أو إسنادا بسبب التّأوّل ، ويمكن أن يكون الظّرف متعلّقا بمحذوف وهو صفة مصدر محذوف أي إسنادا ملتبسا بتأوّل.

٢٣٩

ومعنى التأوّل تطلّب (١) ما يؤول إليه (٢) من الحقيقة أو الموضع الّذي يؤول إليه من العقل (٣) ، وحاصله (٤) أن تنصب قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له [وله] أي للفعل وهذا إشارة إلى تفصيل وتحقيق للتّعريفين (٥) [ملابسات شتّى] أي مختلفة (٦) ،

______________________________________________________

(١) أي طلب المخاطب حقيقة يرجع ويؤول إليها الإسناد والمراد به هنا أن يكون الإسناد إلى غير ما هو له في الحقيقة مع طلب إسناده إلى ما هو له في الحقيقة وذلك بأن ينصب المتكلّم قرينة دالّة على عدم إرادة الفاعل الحقيقي ووضع غيره في موضعه.

(٢) «من» في قوله : «من الحقيقة» بيانيّة أي طلب الحقيقة الّتي يرجع إليها الإسناد فيما إذا كان له حقيقة.

(٣) قوله : «أو الموضع ...» عطف على «الحقيقة» فالمعنى أي طلب ما يؤول إليه ذلك الإسناد من جهة العقل فيما إذا لم يكن له حقيقة كما في (أقدمني بلدك حقّ لي عليك) فإنّه لا حقيقة لهذا المجاز لعدم الفاعل للإقدام لأنّه موهوم لكن له محلّ من جهة العقل وهو القدوم للحقّ ، فهذا الكلام إشارة إلى أنّ المجاز لا يستلزم الحقيقة عند الشّيخ عبد القاهر ، وسيجيء هذا الكلام في قول المصنّف.

(٤) أي حاصل معنى التّأوّل نصب قرينة صارفة عن الإسناد إلى ما هو له وهو الفاعل الحقيقي ، لا بمعنى أنّ الحقيقة موجودة وصرفت القرينة عنها ، بل بمعنى أنّ ظاهر الكلام مع قطع النّظر عن القرينة يفيد أنّ الإسناد في اللّفظ ثابت لما هو له ، وإذ نظر إلى القرينة يفيد أنّه غير ما هو له.

(٥) أي قول المصنّف حيث قال : له ملابسات شتّى إشارة إلى تعيين وتحقيق لتعريف الحقيقة العقليّة والمجاز العقليّ ، وإنّما اقتصر على الفعل ـ حيث قال : أي الفعل ، مع أنّ الأمثلة الآتية لا تختصّ بالفعل ، بل بعضها للفعل نحو : بنى الأمير المدينة ، وبعضها لمعناه نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ـ لأنّه الأصل ولوضوح الأمر حيث إنّه عطف عليه معناه سابقا.

(٦) هذا التّفسير تفسير باللّازم ، لأنّ معنى الشتت هو التّفرّق ، والاختلاف لازم للتّفرّق ، وكان الأنسب في التّفسير مختلفات بدل مختلفة ، لأنّ تفسير الجمع بالجمع أولى من تفسيره بالمفرد.

٢٤٠