دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

ما يدلّ عليه قوله تعالى : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) في الافتراء والإخبار حال الجنّة على سبيل منع الخلوّ (١) (ولا شك أن المراد بالثاني) أي الإخبار

______________________________________________________

(١) متعلّق بقوله : «حصروا» كما أنّ قوله : «في الافتراء» متعلّق به أيضا ، ثمّ المراد بمنع الخلوّ هو المعنى الأعمّ الصّادق لمنع الجمع أيضا.

وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان أقسام القضيّة المنفصلة : وهي إمّا حقيقيّة وإمّا مانعة الجمع وإمّا مانعة الخلوّ.

والأولى : هي الّتي يحكم فيها بالتّنافي بين جزأيها صدقا وكذبا ، كقولنا : العدد إمّا زوج أو فرد.

والثّانية : وهي مانعة الجمع على قسمين :

الأولى : مانعة الجمع بالمعنى الأخصّ : وهي الّتي يحكم فيها بالتّنافي بين جزأيها صدقا فقط ، كقولنا : هذا الشّيء إمّا أن يكون حجرا أو شجرا ، فإنّ الحجريّة والشّجريّة وإن لم تكونا قابلتين للاجتماع إلّا أنّهما قابلتان للارتفاع.

والثّانية : مانعة الجمع بالمعنى الأعمّ : وهي الّتي يحكم فيها بالتّنافي بين جزأيها في الصّدق سواء حكم بتنافيهما في الكذب أو لم يحكم فيه ، فهذا القسم يشمل المنفصلة الحقيقيّة أيضا.

والثّالثة : وهي مانعة الخلوّ ، وهي أيضا على قسمين :

الأولى : مانعة الخلوّ بالمعنى الأخصّ : ما يحكم فيه بالتّنافي بين جزأيها كذبا فقط ، كقولنا : إمّا أن يكون زيد في البحر وإمّا أن لا يغرق ، فإنّ كون زيد في البحر وعدم غرقه قابلين للاجتماع ، كما إذا كان زيدا جالسا في السّفينة ولكنّهما غير قابلين للارتفاع لعدم إمكان غرقه مع عدم كونه في البحر.

والثّانية : مانعة الخلوّ بالمعنى الأعمّ : هي الّتي يحكم فيها بتنافي جزأيها كذبا سواء حكم بتنافيهما صدقا أم لا ، فيشمل هذا القسم أيضا المنفصلة الحقيقيّة ، ومن هذا البيان اتّضح لك ما ذكرناه من أنّ المراد بمنع الخلوّ هو المعنى الأعمّ الصّادق على منع الجمع أيضا.

٢٠١

حال الجنّة (١) لا قوله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) على ما سبق إلى بعض الأوهام (٢) [غير الكذب لأنّه (٣) قسيمه] أي لأنّ الثّاني قسيم الكذب إذ المعنى (٤) أكذب أم أخبر حال الجنّة ، وقسيم الشّيء يجب أن يكون غيره (٥) [وغير الصّدق لأنّهم لم يعتقدوه] أي لأنّ الكفّار لم يعتقدوا صدقه (٦) فلا يريدون في هذا المقام (٧) الصّدق الّذي هو بمراحل عن اعتقادهم (٨) ولو قال : لأنّهم اعتقدوا عدم صدقه لكان أظهر (٩) ، فمرادهم بكونه خبرا

______________________________________________________

(١) أي مراد الكفّار بالثّاني ، أي الإخبار حال الجنّة ، وهذا التّفسير من الشّارح إشارة إلى جواب عن سؤال مقدّر تقديره أنّ المذكور في الآية أعني قوله تعالى : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) لا يصحّ توصيفه بالصّدق ولا بالكذب ، لأنّه استفهام ، فيكون إنشاء والإنشاء لا يتّصف بالكذب والصّدق ، فلا معنى لقوله : «إنّ المراد بالثّاني غير الكذب لأنّه قسيمه وغير الصّدق لأنّهم لم يعتقدوه» لأنّ نفي شيء عن شيء متفرّع على صحّة ثبوته له ، وعدم ثبوت الصّدق والكذب لقوله تعالى : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) لكونه إنشاء ، أظهر من الشّمس.

والجواب : إنّ المراد بقوله : «بالثّاني» هو الإخبار حال الجنّة لا نفس (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) كي يقال إنّه إنشاء ، والإنشاء لا يتّصف بالصدق والكذب ، فمعنى قوله تعالى : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أم أخبر حالة كونه به جنّة ، ومن الواضح أنّ ما أخبر به حال الجنّة خبر يصحّ أن يتّصف بالصّدق أو الكذب فيصحّ نفيهما عنه ، كي تتحقّق الواسطة ، أي الخبر الّذي ليس بصدق ولا كذب.

(٢) المتوهّم هو الزّوزني حيث سبق إلى وهمه أنّ المراد «بالثّاني» هو قوله : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).

(٣) أي لأنّ الثّاني قسيم الكذب ، أي مقابله وهو ضدّه.

(٤) أي إذ معنى قوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أكذب أم أخبر حال الجنّة.

(٥) أي غير ذلك الشّيء ، فلا يكون الإخبار حال الجنّة كذبا بمقتضى كونه قسيما للكذب.

(٦) أي صدق خبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٧) أي في مقام تكذيبهم للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنكارهم عليه.

(٨) أي بعيد عن اعتقادهم بمراحل كثيرة ، فلا يكون مرادهم.

(٩) أي لو قال المصنّف : لأنّهم اعتقدوا عدم صدقه بدل قوله : «لأنّهم لم يعتقدوه» لكان

٢٠٢

حال الجنّة (١) غير الصّدق وغير الكذب ، وهم عقلاء (٢) من أهل اللّسان عارفون باللّغة فيجب أن يكون من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب حتّى يكون هذا منه (٣) بزعمهم (٤).

وعلى هذا (٥) لا يتوجّه ما قيل (٦) : إنّه (٧) لا يلزم من عدم اعتقادهم

______________________________________________________

أظهر. وجه الأظهريّة : إنّهم إذا اعتقدوا عدم صدق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيعتقدون الكذب جزما وحينئذ لا يجوز أن يريدوا الصّدق دفعا للتّناقض ، أمّا إذا لم يعتقدوا الصّدق ، فيجوز أن لا يعتقدوا الكذب الّذي هو نقيضه بأن يكونوا متردّدين في الصّدق.

(١) قوله : «فمرادهم» جزاء للشّرط المقدّر ، أي إذا كان المراد بالثّاني غير الكذب وغير الصّدق ، فمرادهم بكون قوله تعالى : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) خبرا حال الجنّة غير الصّدق وغير الكذب ، وهو المطلوب ، وبالجملة أنّه لو قال المصنّف : (لأنّهم اعتقدوا عدم صدقه) لكان صريحا في نفي الصّدق عن قوله : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ).

(٢) قوله : «وهم عقلاء» جواب عن سؤال مقدّر ، وتقديره : أنّه يلزم على التّوجيه المذكور ثبوت الواسطة ، على زعم الكفّار وهم كفّار لا يجوز الاعتماد عليهم أصلا ، فلا وجه للالتزام بالواسطة لأنّها ثابتة على زعم الكفّار ولا اعتبار بقطعهم فضلا عن زعمهم.

وحاصل الجواب : يجوز الاعتماد عليهم في أمثال المقام ممّا يرجع فيه إلى اللّغة لأنّهم عقلاء من أهل اللّسان عارفون باللّغة.

نعم ، لا يعتمد عليهم في الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة فضلا عن الاعتقاديّة.

(٣) أي حتّى يكون إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحشر والنّشر ، ممّا ليس بصادق ولا كاذب.

(٤) أي بزعم الكفّار ، وإن كان صادقا في الواقع ونفس الأمر.

(٥) أي على الّذي بيّنّاه في شرح قوله : «لأنّهم لم يعتقدوه» إلى أن قلنا «فمرادهم بكونه خبرا حال الجنّة غير الصّدق وغير الكذب».

(٦) القائل هو الخلخالي حيث قال : إنّ قول المصنّف «لأنّهم لم يعتقدوه» لا يصلح علّة لقوله : «وغير الصّدق» لأنّه لا يلزم من عدم اعتقاد الصّدق عدم الصّدق في الواقع.

وحاصل الجواب : إنّ قوله : «لم يعتقدوه» ليس علّة لعدم الصّدق ، بل هو علّة لعدم إرادة الصّدق ، لأنّ التّقدير (والمراد غير الصّدق لأنّهم لم يعتقدوه).

(٧) أي الشّأن.

٢٠٣

الصّدق عدم الصّدق (١) لأنّه (٢) لم يجعله (٣) دليلا على عدم الصّدق ، بل على عدم إرادة الصّدق (٤) ، فليتأمّل (٥). [وردّ] هذا الاستدلال (٦) [بأنّ المعنى] أي معنى (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [أم لم يفترّ ، فعبّر عنه] أي عدم الافتراء [بالجنّة لأنّ المجنون لا افتراء له] لأنّه (٧) الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثّاني (٨) ليس قسيما للكذب بل لما هو أخصّ منه ، أعني الافتراء ، فيكون هذا حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه أعني الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد.

______________________________________________________

(١) قوله : «عدم الصّدق» فاعل «لا يلزم».

(٢) أي المصنّف.

(٣) أي عدم اعتقاد الصّدق المفهوم من قوله : «لم يعتقدوه».

(٤) وحاصل الكلام في عدم توجّه ما قيل : إنّ المصنّف لم يجعل قوله : «لأنّهم لم يعتقدوه» دليلا على عدم الصّدق كي يتوجّه عليه ما قيل : من أنّه لا يلزم من عدم اعتقاد الصّدق عدم الصّدق في الواقع. بل جعله دليلا على عدم إرادة الصّدق ، فيكون التّعليل في محلّه.

(٥) لعلّه إشارة إلى أنّ عدم الاعتقاد لا يستلزم عدم الإرادة ، لأنّ عدم الاعتقاد لا ينافي الإرادة ، إذ الشّاكّ المتردّد ليس عنده اعتقاد ، وعنده إرادة للأمر المشكوك فيه المتردّد بينه وبين غيره ، فلا يصلح جعل عدم اعتقاد الصّدق دليلا لعدم الإرادة ، إلّا أن يقال : إنّ عدم الاعتقاد وإن كان لا يستلزم عدم الإرادة ذاتا إلّا أنّه يستلزمه بقرينة المقام ، كما تقدّم في قوله : «هو بمراحل ...» لأنّ هذا القول علّة لقوله : «فلا يريدون ...».

(٦) أي استدلال الجاحظ على مذهبه بالآية المذكورة.

وحاصل الرّدّ : إنّا نختار أنّ المراد ب «الثّاني» هو الكذب ، غاية الأمر الكذب على قسمين : الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ، ثمّ الكذب عن عمد يسمّى بالافتراء ، فيكون مفاد الآية حصر الخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه أعني الكذب عن عمد وهو الافتراء المفهوم من قوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) والكذب لا عن عمد المفهوم من قوله تعالى : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) بمعنى أم لم يفتر ، أي كان الكذب لا عن عمد.

(٧) أي الافتراء.

(٨) أي الإخبار حال الجنّة «ليس قسيما للكذب ، بل لما هو أخصّ منه» أي الكذب وهو الافتراء.

٢٠٤

الباب الأول أحوال الإسناد الخبريّ (١)

وهو (٢) ضمّ كلمة (٣) أو ما يجري مجراها (٤)

______________________________________________________

ثمّ التّعبير عن عدم الافتراء بالجنّة إنّما هو من باب المجاز المرسل حيث أطلق اسم الملزوم ، وأريد به اللّازم ، لأنّ من لوازم الإخبار حال الجنّة عدم الافتراء والكذب عن عمد ، والعلاقة الخاصّة في المقام هي السّببيّة والمسبّبيّة ، لأنّ الإخبار حال الجنّة سبب للكذب عن غير عمد.

والمتحصّل من الجميع : إنّ مراد الكفّار من حصر خبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحشر والنّشر في قسميّ الكذب ، أعني الكذب عن عمد ، والكذب لا عن عمد. ومعه لا تثبت الواسطة ، فلا يصحّ الاستدلال بالآية المذكورة على الواسطة.

(١) أي الباب الأوّل في أحوال الإسناد الخبريّ ، ويمكن تقدير مضاف في جانب المبتدأ المحذوف ، أو الخبر المذكور ، فعلى الأوّل يكون التّقدير (معاني الباب الأوّل : أحوال الإسناد الخبريّ) وعلى الثّاني يكون التّقدير (الباب الأوّل : ألفاظ الإسناد الخبريّ) فلا يرد حينئذ أنّ الأحوال عبارة عن الأمور العارضة للإسناد من التّأكيد والتّجريد ، وكونه حقيقة عقليّة أو مجازا عقليّا ، فلا يصحّ حملها على الباب الأوّل ، لأنّها من الاعتبارات العقليّة ، لأنّ معنى العبارة حينئذ (معاني الباب الأوّل : أحوال الإسناد الخبريّ ، أو الباب الأوّل ألفاظ في بيان أحوال الإسناد الخبريّ).

(٢) أي الإسناد.

(٣) أي المراد بالضمّ : الانضمام من باب إطلاق المصدر وإرادة حاصله ، والأثر النّاشئ منه ، والوجه في ذلك : أنّ الضمّ بمعناه المصدريّ صفة للمتكلّم لا للّفظ ، مع أنّ المقصود في المعاني هو البحث عن الأحوال العارضة للّفظ وإن كان عروضها بواسطة ، ثمّ المراد بالكلمة المسند.

(٤) أي مجرى الكلمة ، ثمّ المراد بما يجري مجرى الكلمة ، هي المركّبات النّاقصة كالمركّبات التوصيفيّة نحو : رجل عالم ، في قولك : هذا رجل عالم ، والإضافيّة : كغلام زيد ، في قولك : هذا غلام زيد.

٢٠٥

إلى الأخرى (١) بحيث (٢) يفيد الحكم «المخاطب ـ خ» بأنّ مفهوم (٣) إحداهما

______________________________________________________

(١) أي المراد ب «الأخرى» المسند إليه.

فإن قلت : إنّ المصنّف حيث إنّه لم يقل الأخرى أو ما يجري مجراها ، يكون ملتزما بأنّ المسند إليه دائما لا يكون إلّا كلمة مفردة ، وهو غير صحيح ، لأنّه ينتقض بمثل : (لا حول ولا قوّة إلّا بالله كنز من كنوز الجنّة) وقوله تعالى : (أولم يكفيه أنا أنزلناه) حيث إنّ المبتدأ في الأوّل ، والفاعل في الثّاني يكون ممّا يجرى مجرى الكلمة المفردة.

قلت : يمكن الجواب عن ذلك بوجوه :

الأوّل : أنّه لم يتعرّض لذلك بأن يقول : أو ما يجرى مجراها ، لقلّة وقوعه في المسند إليه.

والثّاني : أنّه محذوف من الثّاني لدلالة الأوّل.

والثّالث : إنّ المراد بالكلمة في قوله : «ضمّ كلمة» ليس خصوص الكلمة المسندة بل المراد بها المعنى العامّ الشّامل للمسند والمسند إليه ، وكذلك المراد بما يجرى مجراها والأخرى ، فحينئذ لا حاجة إلى الالتزام بالحذف ، أو الالتزام بأنّه لم يتعرّضه لقلّته في المسند إليه.

وكيف كان فكلّ من المسند والمسند إليه قسمان : كلمة وما يجرى مجراها فالأقسام أربعة : الأوّل : أن يكون كلّ منهما كلمة مفردة كما في قولك : زيد قائم.

والثّاني : أن يكون كلّ منهما جاريا مجرى كلمة واحدة كما في قولك : لا إله إلّا الله ينجو صاحبه من النّار.

والثّالث : أن يكون المسند إليه جاريا مجرى الكلمة الواحدة ، والمسند كلمة مفردة حقيقيّة ، كما في قولك : لا إله إلّا الله ذكر.

والرّابع : أن يكون الأمر بالعكس ، كما في قولك : زيد قام أبوه.

(٢) الباء للملابسة ، والضّمير المستتر في قوله : «يفيد» عائد إلى الضّمّ.

(٣) حاصل المعنى : أنّ الإسناد عبارة عن انضمام كلمة إلى أخرى انضماما متلبّسا بحالة وهي أن يفيد ذلك الانضمام المخاطب أنّ مفهوم المحكوم به ثابت لمفهوم المحكوم عليه كقولك : زيد قائم ، أو منفيّ عنه كقولك : زيد ليس بقائم.

٢٠٦

ثابت لمفهوم الأخرى أو منفيّ عنه وإنّما قدّم (١) بحث الخبر لعظم شأنه (٢) وكثرة مباحثه (٣) ، ثمّ قدّم (٤) أحوال الإسناد على أحوال المسند إليه والمسند مع تأخّر النّسبة عن الطّرفين ، لأنّ البحث (٥) في علم المعاني إنّما هو عن أحوال اللّفظ الموصوف بكونه مسندا إليه أو مسندا ، وهذا الوصف إنّما يتحقّق بعد تحقّق الإسناد ، والمتقدّم على النّسبة إنّما هو ذات الطّرفين ولا بحث لنا عنها [ولا شكّ (٦) أنّ قصد المخبر] أي من يكون (٧) بصدد الإخبار والإعلام ،

______________________________________________________

(١) أي قدّم المصنّف بحث الخبر المذكور في هذا الباب ، والأبواب الأربعة بعده على الإنشاء.

(٢) أي الخبر شرعا ، فإنّ الاعتقاديّات كلّها أخباريّة ، وكذلك أكثر المحاورات أخباريّة.

(٣) أي الخبر ، لأنّ المزايا والخواصّ المعتبرة عند البلغاء أكثر وقوعها فيه ، هذا مضافا إلى أنّ الخبر أصل الإنشاء ، لأنّ الإنشاء إنّما يحصل منه باشتقاق ، كالأمر والنّهي أو نقل كعسى ونعم وبعت واشتريت ، والأصل متقدّم على الفرع.

(٤) حاصل الاعتراض : إنّ الإسناد متأخّر عن كلّ من المسند إليه والمسند وجودا فيجب أن يتأخّر البحث عن أحواله عن أحوالهما.

(٥) قوله : «لأنّ البحث» علّة لتقديم أحوال الإسناد على المسند إليه والمسند وجواب عن الاعتراض المذكور ، وملخّص الجواب : إنّ البحث في علم المعاني ليس عن ذات المسند إليه أو المسند ، بل عنهما بعد اتّصافهما بالمسند إليه والمسند ، ولا يعقل الاتّصاف إلّا بعد الإسناد ، فالإسناد متقدّم طبعا ، فينبغي أن يتقدّم وضعا.

والمتحصّل من الجميع : أنّ النّسبة وإن كانت متأخّرة عن ذات الطّرفين إلّا أنّ الطّرفين بوصف كون أحدهما مسندا إليه والآخر مسندا لم يتحقّقا إلّا بعد تحقّق الإسناد ، لأنّه ما لم يسند أحدهما إلى الآخر لم يصير أحدهما مسندا إليه والآخر مسندا.

(٦) أي العبارة بتقدير حرف الجرّ ، وكانت في الأصل (لا شكّ في أنّ قصد المخبر) أي مقصوده بخبره إفادة المخاطب إمّا الحكم أو كونه عالما به.

(٧) أي الأولى إسقاط الإعلام ، لأنّ الإخبار أعمّ من الإعلام والإفهام ، فلا حاجة إلى ذكره بعده ، ثمّ التّفسير المذكور أعني «من يكون ...» إشارة إلى ردّ ما أورده على المصنّف خطيب اليمن ، من أنّه لا وجه لحصر قصد المخبر على الأمرين المذكورين أعني : إفادته

٢٠٧

وإلّا (١) فالجملة الخبريّة كثيرا ما تورد لأغراض أخر غير إفادة الحكم أو لازمه مثل التّحسّر (٢) والتحزّن في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)(١)

______________________________________________________

للمخاطب الحكم ، أو كونه عالما به إذ يرد عليه قول أمّ مريم : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) إذ ليس قصدها إعلام الله سبحانه بفائدته أو لازمها ، لأنّ الله تعالى عالم بأنّها وضعتها أنثى ، وعالم بأنّها تعلم بأنّه سبحانه عالم بأنّها وضعتها أنثى ، فلا وجه لأن يكون المقصود الفائدة أو لازمها ، فحينئذ لا يصحّ الحصر.

والجواب : إنّ المخبر على قسمين :

الأوّل : العرفيّ ، بأن يتلفّظ بالجملة الخبريّة بقصد الحكاية عن الخارج أو أمر آخر.

الثّاني : المخبر بالمعنى اللّغوي ، أي المعلّم ، ثمّ المراد بالمخبر هنا هو المعنى اللّغوي ، أي من كان بصدد الإخبار والإعلام لا من يتلفّظ بالجملة الخبريّة ، ثمّ إخبار من يكون بصدد الإخبار والإعلام ينحصر في القسمين المذكورين.

(١) أي وإن لم يكن المراد بالمخبر من يكون بصدد الإخبار ، بل كان من يتكلّم بالجملة الخبريّة ، كما هو ظاهر كلام المصنّف ، لم يستقمّ الحصر المذكور ، لانتقاضه بقول أمّ مريم في الآية المذكورة.

(٢) قيل : التحسّر هي النّدامة الطّويلة والتّحزّن أعمّ منه ومن غيره ، والجامع بينهما هو إظهار الضّعف كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) حيث أظهرت حزنها بعدم حصول مقصدها وخيبة رجائها بعد ما لم تضع ما في بطنها ذكرا فيتحرّر لخدمة بيت المقدس ، ويكون من خدمته ، إذ لا يصلح لذلك إلّا الذّكر ، فإنّ اللّفظ مستعمل لغرض آخر مجازا ، لأنّ وضع المركّب الخبريّ إنّما هو للإخبار والإعلام بالحكم أو لازمه ، ولم يكن المقصود في الآية إفادة الحكم أو لازمه ، فإنّ المخاطب سبحانه وتعالى عالم بكلّ منهما ، بل إظهار التحسّر والتحزّن على خيبة رجائها ، لأنّها كانت ترجو أن تلد ذكرا.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٦.

٢٠٨

وما أشبه ذلك (١) [بخبره] متعلّق بقصد [إفادة المخاطب (٢)] خبر إنّ [إمّا الحكم (٣)] مفعول الإفادة [أو كونه] أي كون المخبر [عالما به] أي بالحكم ، والمراد بالحكم هنا (٤) وقوع النّسبة أو لا وقوعها (٥)

______________________________________________________

(١) كقوله تعالى حكاية عن زكريّا (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(١) إظهارا للضّعف والتّواضع عند الله تعالى.

(٢) إنّ إضافة الإفادة إلى المخاطب من قبيل إضافة المصدر إلى مفعوله ، فيكون المعنى إفادة المتكلّم المخاطب إمّا الحكم أو كون المخبر عالما بالحكم.

(٣) كلمة «إمّا» للتّقسيم ، وليست للشّكّ والتّرديد ، ومثال إفادة الحكم كقولك : زيد قائم ، لمن لا يعرف أنّه قائم ، ومثال إفادة كون المخبر عالما بالحكم ، نفس المثال المذكور مع علم المخاطب بقيام زيد.

ثمّ المراد بالعلم هو التّصديق والإذعان لا مجرّد التّصوّر ، لأنّ المخبر لا يقصد إفادة تصوّر النّسبة ، بل يريد إفادة أنّه معتقد بها.

(٤) أي في كلام المصنّف.

(٥) الأوّل في الموجبة ، والثّاني في السّالبة ، ثمّ الفرق بين الوقوع والإيقاع : أنّ الوقوع صفة الكلام يعني وقوع النّسبة في نفس الأمر ، والإيقاع صفة المتكلّم أعني إيقاع المتكلّم النّسبة بلفظ الخبر ، وقد احترز الشّارح بقوله : «وقوع النّسبة» عن الحكم عند أهل المعقول ، فإنّهم يفسّرونه بالإيقاع والانتزاع.

اعلم أنّ الحكم عند أئمّة الأدب يطلق : تارة : على النّسبة الكلاميّة فيقال للكلام ثلاثة أجزاء : المحكوم عليه ، والمحكوم به ، والحكم.

وأخرى : على النّسبة الذّهنيّة ، فيقال : أنت متصوّر لما في ذهنك من الحكم.

وثالثة : على النّسبة التّصديقيّة ، فيقال : أنت مذعن بما في ذهنك من الحكم.

ورابعة : على النّسبة الخارجيّة ، فيقال : أجزاء القضيّة عند البعض أربعة : الموضوع ، والمحمول ، والنّسبة ، والحكم أي الوقوع أو اللّا وقوع.

وخامسة : على إدراك النّسبة وتصوّرها.

__________________

(١) سورة مريم : ٤.

٢٠٩

وكونه مقصودا للمخبر بخبره (١) لا يستلزم تحقّقه في الواقع وهذا (٢) مراد من قال : إنّ الخبر لا يدلّ على ثبوت المعنى أو انتفائه على سبيل القطع وإلّا (٣) فلا يخفى أنّ

______________________________________________________

وسادسة : على الإذعان بها.

وسابعة : على المحكوم به.

ولا ريب في أنّه ليس المراد بالحكم المحكوم به ، ولا النّسبة الذّهنيّة تصديقيّة كانت أو تصوّريّة أو كلاميّة ، وإنّما الكلام في أنّ المراد به الإذعان أو الإدراك أو الوقوع واللّا وقوع ، والشّارح يدّعي أنّه ليس المراد به الإذعان والإدراك أيضا لحكم الوجدان بأنّ المتكلّم لا يقصد بخبره أنّه أدرك الوقوع أو اللّا وقوع أو أذعن بأحدهما ، بل المراد به النّسبة الخارجيّة ، أي الوقوع واللّا وقوع ، لأنّ المتكلّم يقصد بخبره إفادة ثبوت شيء لشيء في الخارج ، ولا يقصد إفادة إدراكنا ثبوت شيء لشيء أو إذعاننا به جزما أو ظنّا ، وهذا ظاهر بالوجدان ، ولا حاجة إلى البرهان كما في المفصّل في شرح المطوّل مع تلخيص منّا.

(١) جواب عن سؤال مقدّر ، تقديره : أن يقال : إنّه إذا كان المراد بالحكم ههنا وقوع النّسبة أو لا وقوعها ، فلا يكون محتملا للصّدق والكذب ، بل محتملا لأحدهما وهو الصّدق إذ قصد المتكلّم بخبره إفادة وقوع النّسبة يستلزم تحقّقه في الواقع.

والجواب : أنّ كون الحكم بمعنى وقوع النّسبة أو لا وقوعها مقصودا للمخبر بخبره ، لا يستلزم تحقّقه في الواقع ، لأنّ دلالة الألفاظ على معانيها وضعيّة ، فيجوز تخلّفها وليست عقليّة ، كدلالة الأثر على المؤثّر ، كي لا يجوز التّخلّف.

وبعبارة واضحة أنّه ليست دلالة الألفاظ على معانيها عقليّة تقتضي استلزام الدّليل للمدلول استلزاما عقليّا يستحيل فيه التّخلّف.

(٢) أي عدم الاستلزام يعني ليس مراد من قال بعدم دلالة الخبر على ثبوت الحكم وانتفائه نفي الدّلالة رأسا ، بل مراده أنّه لا يستلزم تحقّقه وثبوته في الواقع لجواز كون الخبر كذبا.

(٣) أي وإن لم يكن هذا مراده كان كلامه باطلا إذ لا يخفى على أحد أنّ مدلول قولنا : زيد قائم بالوضع ، ومفهومه أنّ القيام ثابت لزيد ، وأمّا عدم ثبوته له في الواقع ، فلأنّ دلالة الخبر على المدلول وضعيّة ، يجوز فيها تخلّف المدلول عن الدّالّ.

٢١٠

مدلول قولنا : زيد قائم ، ومفهومه أنّ القيام ثابت لزيد وعدم ثبوته له احتمال عقليّ (١) لا مدلول ولا مفهوم للّفظ ولا مفهومه (٢) ، فليفهم (٣). [ويسمّى الأوّل (٤)] أي الحكم (٥) الّذي يقصد بالخبر إفادته [فائدة الخبر والثّاني] أي كون المخبر عالما به [لازمها] أي لازم فائدة الخبر (٦) ، لأنّه كلّما أفاد الحكم أفاد أنّه عالم به ، وليس كلّما أفاد أنّه عالم بالحكم أفاد نفس الحكم ، لجواز أن يكون الحكم معلوما قبل الإخبار ، كما في قولنا لمن حفظ التّوراة : قد حفظت التّوراة

______________________________________________________

(١) نشأ من كون دلالة الخبر وضعيّة يجوز فيها التّخلّف.

(٢) ولا شكّ أنّك إذا سمعت خرج زيد ، تفهم منه أنّه خرج ، وأمّا عدم الخروج فاحتمال عقليّ مرجوح لا أنّه مدلول اللّفظ أو مفهومه.

(٣) لعلّه إشارة إلى ما ذهب إليه بعض المحقّقين من أنّ جميع الأخبار من حيث اللّفظ لا يدلّ إلّا على الصّدق ، وأمّا الكذب فليس بمدلوله بل هو نقيضه ، وقولهم ـ إنّ الخبر ما يحتمل فيه الكذب ـ لا يريدون به أنّ الكذب هو مدلول لفظ الخبر كالصّدق بل المراد أنّه يحتمل من حيث أنّه لا يمتنع عقلا أن لا يكون مدلول اللّفظ ثابتا في الواقع.

(٤) أي الحكم من حيث إنّه ممّا يستفيده المخاطب من الخبر يسمّى فائدة الخبر ، لا من حيث إنّه ممّا يفيده المتكلّم المخاطب ، كما تشعر به عبارة الشّارح ، لأنّ الفائدة لغة : ما استفدته من علم ، أو مال ، فاللّائق بوجه تسميّة الحكم فائدة الخبر كونه مستفادا لا كونه مفادا ، ثمّ التّعبير بلفظ التّسمية إشارة إلى أنّه اصطلاح لأهل الفنّ ، ولا مشاحّة في الاصطلاح ، فلا يرد عليه أنّ فائدة الشّيء ما يترتّب عليه ، والمترتّب على الخبر علم المخاطب بالحكم لا نفس الحكم.

(٥) أي تفسير الأوّل ـ بالحكم الّذي يقصد بالخبر إفادته ـ إشارة إلى أمرين :

الأوّل : إنّ المراد بالأوّل هو نفس الحكم لا إفادته.

الثّاني : أنّ وجه تسميتهم الحكم بالفائدة كونه شيئا يقصد بالخبر إفادته فيصدق عليه الأخذ ، لأنّ الفائدة في اللّغة ما يكون قابلا للإعطاء والأخذ.

(٦) هذا اللّازم لازم أعمّ ، فالنّسبة بين فائدة الخبر ولازمها هي عموم مطلقا ، ولازم الفائدة أعمّ ، ومادّة الاجتماع ما أشار إليه الشّارح بقوله : «لأنّه كلّما أفاد الحكم أفاد أنّه

٢١١

وتسمية مثل هذا الحكم (١) فائدة الخبر بناء (٢) على أنّه من شأنه أن يقصد بالخبر ويستفاد منه ، والمراد (٣) بكونه عالما بالحكم حصول صورة الحكم في ذهنه ، وههنا أبحاث شريفة سمحنا بها (٤) في الشّرح [وقد ينزّل (٥)] المخاطب [العالم بهما] أي

______________________________________________________

عالم به» أي الشّأن كلّ خبر أفاد المخاطب الحكم ، أفاد أنّه أي المخبر عالم به ، أي بذلك الحكم ، لأنّ المخبر لا يخبر ما لم يعلمه ، ومادّة الافتراق من جانب لازم فائدة الخبر ما إذا كان الحكم معلوما عند المخاطب قبل الإخبار كقولك ـ لمن عنده زيد ، ولم يعلم أنّك تعلم ذلك ـ : زيد عندك ، وقد أشار الشّارح إلى مادّة الافتراق بقوله : «لجواز أن يكون الحكم معلوما قبل الإخبار».

(١) أي الحكم بحفظ التّوراة وما يماثله ، وهو كلّ حكم يكون معلوما عند المخاطب قبل الإخبار.

(٢) جواب عن سؤال مقدّر ، تقديره : أنّ حفظ التّوراة معلوم للمخاطب لم يستفد من الخبر ولم يقصد به فكيف يسمّى فائدة؟ وحاصل الجواب : أنّه ليس المراد بالفائدة ما يستفاد من الخبر بالفعل ، بل ما من شأنه أن يستفاد منه ، وهذا المقدار يكفي في مقام التّسميّة.

(٣) جواب عن المنع الوارد على الملازمة في قوله : «كلّما أفاد الحكم أفاد أنّه عالم به».

تقريب المنع : أنّا لا نسلّم أنّه كلّما أفاد الحكم أفاد أنّه عالم به لجواز أن يكون المخبر أخبر بشيء عالما بخلافه ، أو شاكّا فيه أو متوهّما له.

وحاصل الجواب : إنّ هذا المنع مبنيّ على أن يكون المراد بالعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، وليس كذلك ، بل المراد بالعلم هو حصول صورة هذا الحكم في ذهن المخبر ، والعلم بهذا المعنى ضروريّ في كلّ مخبر عاقل تصدّى للإخبار.

(٤) أي جدنا بتلك الأبحاث الشّريفة في المطوّل ، فراجع.

(٥) تخريج للكلام على خلاف مقتضى الظّاهر ، فكان الأولى أن يذكره فيما يأتي في الكلام على التّخريج على خلاف مقتضى الظّاهر المشار إليه بقوله : «وكثيرا ما يخرج الكلام على خلافه» لأنّ الكلام هنا إنّما هو في إخراج الكلام على مقتضى الظّاهر.

إلّا أن يقال : إنّ المصنّف ذكره هنا جوابا عن سؤال وارد على الكلام السّابق.

وحاصل السّؤال : أنّه لو كان قصد المخبر منحصرا في الأمرين المذكورين لما صحّ

٢١٢

بفائدة الخبر ولازمه [منزلة الجاهل (١)] فيلقى إليه (٢) الخبر وإن كان عالما بالفائدتين (٣) [لعدم (٤) جريه على موجب العلم] فإنّ (٥) من لا يجري على مقتضى علمه هو والجاهل سواء (٦) ، كما يقال للعالم التّارك للصّلاة : الصّلاة واجبة (٧) وتنزيل العالم بالشّيء منزلة الجاهل به (٨)

______________________________________________________

إلقاء الخبر إلى العالم بهما أي بالحكم ولازمه.

وملخّص الجواب : أنّه إنّما صحّ إلقاء الخبر إلى العالم بهما بعد تنزيله منزلة الجاهل.

(١) أي الجاهل بفائدة الخبر أو لازمها.

(٢) أي المخاطب العالم المنزّل منزلة الجاهل.

(٣) أي بفائدة الخبر ولازمها ، فيكون التّنزيل بالنّسبة إلى كلّ من العلمين.

(٤) متعلّق بقوله : «ينزّل» والضّمير في «جريه» عائد إلى العالم ، فمعنى كلام المصنّف أنّه قد ينزّل المخاطب العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل لعدم مشي ذلك العالم على مقتضى العلم.

(٥) علّة لتنزيل العالم منزلة الجاهل ، فيكون عدم جري المخاطب على مقتضى علمه بمضمون الخبر سببا لتنزيله منزلة الجاهل بمضمون الخبر.

(٦) أي كانا مستويين من حيث النّتيجة ، حيث إنّ ما هو المقصود بالذّات من العلم قد انتفى عنهما جميعا ، لأنّ المقصود بالذّات من العلم هو العمل ، فإذا لم يعمل العالم بعلمه فهو والجاهل سواء ، ثمّ الغرض من تنزيل العالم منزلة الجاهل هو التّوبيخ على عدم عمله بمقتضى علمه «كما يقال للعالم التّارك للصّلاة : الصّلاة واجبة» لأنّ مقتضى العلم هو العمل والإتيان بالصّلاة ، فلمّا لم يعمل ، نزّل منزلة الجاهل الخاليّ الذّهن فألقي إليه الخطاب من دون تأكيد.

(٧) قوله : «الصّلاة واجبة» مقول «يقال» ويجوز اعتبار المخاطب العالم متردّدا فيلقى إليه الكلام المؤكّد بالتّأكيد الاستحساني أو اعتباره منكرا ، فيلقى إليه الكلام المؤكّد بالتّأكيد الوجوبي. فالمتحصّل من الجميع أنّ تنزيل العالم على ثلاثة أقسام : بمنزلة الجاهل الخاليّ الذّهن ، الشّاكّ ، المنكر.

(٨) أي سواء كان ذلك الشّيء فائدة الخبر أو لازمها أو غيرهما فهو أعمّ ممّا تقدّم ، ثمّ

٢١٣

لاعتبارات خطابيّة (١) كثير في الكلام ، منه قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١) (٢) بل (٣) تنزيل

______________________________________________________

المراد بالعالم هو غير المخاطب ، وقوله : «وتنزيل العالم بالشّيء» ليس تكرارا لما تقدّم ، بل للتّرقّي ، إذ ليس في المثال المتقدّم إلّا عدم الجري على مقتضى العلم أعني ترك الصّلاة ، وفي الآية شيء فوق عدم جري الكفّار على مقتضى علمهم ، وهو ترك كتاب الله ، واختيار كتاب السّحر على كتاب الله تعالى.

(١) أي مقدّمات ظنّيّة يكتفى فيها بمجرّد الخطاب.

(٢) فإنّ الآية ليست من تنزيل العالم بالفائدتين ، بل من تنزيل العالم مطلقا منزلة الجاهل ، وذلك أنّ الله تعالى نزّل علم أهل الكتاب برداءة الشّراء بمنزلة عدم العلم حيث إنّه تعالى وصفهم :

أوّلا : بالعلم على سبيل التّأكيد القسمي فقال : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي والله لقد علموا.

وثانيا : بنفيه عنهم بقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فدفعا من لزوم التّنافي بين صدر الآية وذيلها ، نلتزم بتنزيل العالم منزلة الجاهل ، لأنّهم لم يعملوا بمقتضى علمهم.

وحاصل الكلام : إنّ الآية ليست من قبيل تنزيل العالم بأحد الفائدتين منزلة الجاهل لأنّهم لم يخاطبوا بالآية ، ولم يقصد إعلامهم بها حتّى يكون خبرا ملقى إليهم وهم يعلمون بمضمونه. ومعنى الآية : والله لقد علم اليهود أنّ من اشترى كتاب السّحر أي اختاره على كتاب الله ما له في الآخرة نصيب من الثّواب أصلا ، والله لبئس ما باعوا به أنفسهم ، أي حظوظها ولذّاتها لو كانوا يعلمون برداءة ذلك الشّراء لامتنعوا منه.

ومحلّ الشّاهد من الآية قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) حيث نزّل علمهم بمنزلة الجهل ، فصاروا بمنزلة الجاهلين لعدم عملهم بمقتضى العلم.

(٣) ترقّ آخر ، وهو تنزيل وجود الشّيء أعمّ من أن يكون علما أو غيره منزلة العدم ، كما في الآية المباركة حيث نزّل وجود الرّمي منزلة عدمه ، وهو ليس بعلم.

والحاصل : إنّ الآية السّابقة نزّل فيها مطلق العلم أي أعمّ من كونه متعلّقا بفائدة الخبر أو غيره منزلة عدمه ، وأمّا في هذه الآية فقد نزّل وجود الشّيء مطلقا علما كان أو. غيره منزلة عدمه.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٢.

٢١٤

وجود الشّيء منزلة عدمه كثير ، منه قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(١) (١) [فينبغي] أي (٢) إذا كان قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب ، ينبغي [أن يقتصر من التّركيب على قدر الحاجة] حذرا (٣) عن اللّغو [فإن كان (٤)] المخاطب

______________________________________________________

(١) روي أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لمّا التقى الجمعان يوم بدر ـ رمى بقبضة من الحصى إلى وجوه المشركين ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينه فانهزموا فنزلت هذه الآية المباركة.

ووجه تنزيل الرّمي الصّادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلة عدمه : أنّ أثر ذلك الرّمي لمّا لم يكن ممّا يترتّب على فعل البشر عادة ، جعل الرّمي الصّادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صورة كأنّه غير صادر عنه حقيقة ، بل صدر عن الله تعالى ، وإثبات الرّمي له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة النّظر إلى أنّه صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صورة ، فلا تناقض في الآية ، لأنّ النّفي باعتبار الحقيقة ، والإثبات باعتبار الصّورة.

فالمتحصّل من الجميع أنّ التّنزيل على ثلاثة أقسام :

الأوّل : تنزيل المخاطب العالم منزلة الجاهل كقولك لتارك الصّلاة : الصّلاة واجبة.

الثّاني : تنزيل العلم منزلة الجهل كقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا).

والثّالث : تنزيل وجود الشّيء منزلة عدمه كقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ).

(٢) أي التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ الفاء في قوله : «فينبغي» للتّفريع ، أي إذا كان المخبر بخبره قاصدا إفادة المخاطب ، فيجب عليه «أن يقتصر من التّركيب على قدر الحاجة» وإلّا كان مخطئا بحسب الصّناعة ، فإنّ الزّيادة في الكلام لغو ، بل ربّما موجب لفوات المقصود ، قوله : «أي إذا كان ...» إشارة إلى أنّ الفاء في قوله : «ينبغي» جواب شرط محذوف.

(٣) علّة لقوله : «أن يقتصر» أي يقتصر المتكلّم على قدر الحاجة حذرا عن اللّغو الكائن في الكلام على تقدير الزّيادة ، ثمّ المراد من «قدر الحاجة» يحتمل أن يكون مقدار حاجة المخبر في إفادة الحكم ولازمه ويحتمل أن يكون مقدار حاجة المخاطب في استفادتهما.

(٤) تفصيل لما أجمله بقوله : «فينبغي أن يقتصر» بالبناء للفاعل أو المفعول.

__________________

(١) سورة الأنفال : ١٧.

٢١٥

[خاليّ الذّهن (١) من الحكم والتّردّد فيه] أي (٢) لا يكون عالما بوقوع النّسبة أو لا وقوعها ولا متردّدا في أنّ النّسبة هل (٣) هي واقعة أم لا؟ وبهذا (٤) تبيّن فساد ما قيل :

______________________________________________________

(١) ظاهر كلامه حيث اقتصر على الحكم أنّ تجريد الكلام عن التّأكيد يختصّ بما إذا كان المخاطب خاليّ الذّهن من الحكم فقط ، وأمّا إذا كان خاليّ الذّهن عن لازمه ، فلا ينبغي التّجريد بل يؤكّد ، إلّا أنّ مقصود المصنّف هو خلوّ الذّهن عن الحكم ولازمه معا ، وإنّما ترك الثّاني للعلم به بالمقايسة ، ثمّ المراد بالحكم الإذعان بالوقوع أو اللّا وقوع ، ومن الضّمير في قوله : «والتردّد فيه» هو نفس الوقوع على نحو الاستخدام ، وهو أن يكون للّفظ معنيان وأريد منه أحدهما ، ومن ضميره الآخر.

(٢) إشارة إلى معنى خلوّ ذهن المخاطب من الحكم ، وهو أن لا يكون الحكم حاصلا في ذهنه ، وحصوله فيه إنّما هو الإذعان به فيكون المعنى خاليا عن الإذعان ، ثمّ الخلوّ عن الإذعان لا يستلزم الخلوّ عن التّردّد ، لأنّ الإذعان والتردّد متنافيان ، فالخلوّ عن أحدهما لا يستلزم الخلوّ عن الآخر. فظهر فساد ما سبق إلى بعض الأوهام ، ويكون مبنى هذا الوهم عدم التّنبّه لمعنى الخلوّ عن الحكم ، وسيأتي في كلام الشّارح ، فانتظر.

(٣) قد قرّر في علم النّحو : أنّه يمتنع أن يؤتى بهل بمعادل ، لأنّها موضوعة لطلب التّصديق ، والإتيان بالمعادل خروجها عن طلب التّصديق إلى طلب التّصوّر ، فهذا التّركيب من الشّارح إمّا مبنيّ على ما ذهب إليه ابن مالك من أنّ (هل) قد تقع موضع همزة ، فيؤتى لها بمعادل مثلها مستدلّا بقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هل تزوّجت بكرا أم ثيّبا) أو مبنيّ على جعل (أم) هنا منقطعة بمعنى بل ، فيكون المعنى «ولا متردّدا في أنّ النّسبة هل هي واقعة أم لا» بل أليست واقعة ، فحينئذ لا يكون لها معادل ، بل الكلام في الحقيقة مشتمل على انتقال من استفهام إلى استفهام آخر ، فالمتردّد كأنّه يظنّ أوّلا أنّ النّسبة واقعة فيستفهم عنها ، ثمّ يدركه ظنّ آخر بأنّها لم تقع ، فيستفهم من عدمها ، كما في المفصّل للمرحوم الشّيخ موسى البامياني مع اختصار منّا.

(٤) أي بهذا المعنى الّذي ذكره الشّارح للحكم «تبيّن فساد ما قيل : إنّ الخلوّ عن الحكم يستلزم الخلوّ عن التّردّد فيه فلا حاجة إلى ذكر التّردّد. ووجه الفساد : أنّ خلوّ الذّهن عن الحكم بمعنى الإذعان لا يستلزم خلوّه عن التّردّد ، لأنّهما متنافيان.

٢١٦

إنّ الخلوّ عن الحكم يستلزم الخلوّ عن التّردّد فيه فلا حاجة إلى ذكره (١) بل التّحقيق أنّ الحكم (٢) والتّردّد فيه متنافيان [أستغني (٣)] على لفظ المبنيّ للمفعول (٤) [عن مؤكّدات الحكم (٥)] لتمكّن الحكم في الذّهن (٦) حيث وجده خاليا ، [وإن كان] المخاطب [متردّدا فيه (٧)] أي في الحكم [طالبا له (٨)] بأن حضر في ذهنه طرفا الحكم (٩) وتحيّر في أنّ الحكم بينهما وقوع النّسبة أو لا وقوعها [حسن تقويته] أي تقوية الحكم

______________________________________________________

(١) أي التّردّد.

(٢) أي الحكم بمعنى التّصديق والإذعان والتّردّد أمران متنافيان ، وقد عرفت أنّ الخلوّ عن أحد المتنافيين لا يستلزم الخلوّ عن الآخر ، ثمّ التّنافي بين الحكم بمعنى الجزم بوقوع النّسبة أو لا وقوعها والتّردّد أظهر من الشّمس ، لأنّ التّردّد هو عدم الجزم.

(٣) جواب الشّرط في قوله : «فإن كان خاليّ الذّهن ...» أي فإن كان المخاطب خاليّ الذّهن عن الحكم ، حصل الاستغناء عن مؤكّدات الحكم.

(٤) الالتزام بأنّ قوله : «استغني» مبنيّ للمفعول ، لأحد أمرين : الأوّل : أنّه الرّواية. الثّاني : أنّه مناسب لما سيجيء من قوله : «حسن تقويته بمؤكّد» حيث لم يتعرّض فيه للمتكلّم ولا للمخاطب.

(٥) تقييد المؤكّدات بالحكم احتراز عن مؤكّدات الطّرفين كالتّأكيد اللّفظي أو المعنويّ ، فإنّها جائزة مع الخلوّ ، فيقال لخاليّ الذّهن : زيد زيد قائم ، أو يقال : زيد نفسه قائم.

والسّرّ في ذلك أنّ مقتضى خلوّ الذّهن عن الحكم قبوله له من دون تأكيد فلا حاجة إليه ، هذا بخلاف تأكيد الطّرفين حيث إنّه لا يرتبط بخلوّ الذّهن عن الحكم ، بل إنّما هو لدفع توهّم السّهو والنّسيان والمجاز.

(٦) تعليل لقوله : «أستغني عن مؤكّدات الحكم» لاستقرار الحكم في ذهن المخاطب حيث وجده ، أي المخاطب خاليا عن التّردّد والإنكار ، ف «حيث» في قوله «حيث وجده خاليا» تعليليّة.

(٧) بمعنى الوقوع أو اللّا وقوع.

(٨) أي للحكم.

(٩) قوله : «طرفا الحكم» هما المسند والمسند إليه.

٢١٧

[بمؤكّد] ليزيل ذلك المؤكّد تردّده (١) ، ويتمكّن فيه الحكم ، لكنّ المذكور في دلائل الإعجاز أنّه إنّما يحسن (٢) التّأكيد إذا كان للمخاطب ظنّ في خلاف حكمك [وإن كان] أي المخاطب [منكرا] للحكم (٣) [وجب توكيده] أي توكيد الحكم [بحسب الإنكار] أي بقدره قوّة وضعفا (٤) ، يعني (٥) يجب زيادة التّأكيد بحسب ازدياد الإنكار

______________________________________________________

(١) أي تردّد المخاطب ، ويتمكّن الحكم ويستقرّ في ذهن المخاطب.

وملخّص الكلام : أنّ المخاطب إذا كان متردّدا في الحكم وطالبا له حسن تقوية الحكم بمؤكّد واحد ، فلو زاد أو لم يؤكّد لم يستحسن.

(٢) أي فإن كان للمخاطب شكّ أو وهم لم يحسن التّأكيد ، فيكون ما في دلائل الإعجاز منافيا لما ذكره المصنّف من حسن التّأكيد مع تردّد المخاطب ، إلّا أن يقال بالفرق بين حسن التّأكيد في التّردّد وبين حسن التّأكيد في الظّنّ. وملخّص الفرق أنّ حسن التّأكيد في التّردّد عبارة عن الجواز ، وفي الظّنّ عبارة عن الوجوب ، وهذا الفرق وإن كان ممّا يندفع به التّنافي المذكور إلّا أنّه لا يناسب الحصر في قوله : «إنّما يحسن التّأكيد إذا كان» لأنّ ظاهر الحصر هو نفي الحسن في غير مورد الظّنّ رأسا ، فلا يجوز التّأكيد للمتردّد.

(٣) أي وقوع النّسبة أو لا وقوعها بأن يكون حاكما على الخلاف.

(٤) أي بأن يكون التّأكيد بقدر رسوخ الإنكار في اعتقاد المخاطب ، فقد يجب التّأكيدان للإنكار الواحد لقوّته مثلا ، والثّلاث للإنكارين لقوّتهما مثلا ، وهكذا ، وهذا هو معنى قوله : «أي بقدرة قوّة وضعفا» أي لا عددا.

(٥) هذا التّفسير إشارة إلى تقدير مضاف في المتن وهو الزّيادة كي تكون الباء في قوله : «بحسب» متعلّقا بها لا بقوله : «وجب» ، لأنّ الوجوب لا يتفاوت بتفاوت الإنكار ولا يتعدّد ، لأنّه عبارة عن اللّزوم ، وهو شيء واحد ، بل المتفاوت بتفاوت الإنكار إنّما هو الزّيادة ، والقرينة عليها لفظ الحسب الّذي هو بمعنى المقدار.

فإن قلت : إنّ الالتزام بكون الباء متعلّقة بالمحذوف أعني الزّيادة يقتضي عدم وجوب أصل التّأكيد.

قلت : إنّ وجوب أصله يستفاد من الكلام على نحو الأولويّة إذ لو كانت زيادة التّأكيد واجبة لكان أصله واجبا بطريق أولى.

٢١٨

إزالة له. [كما (١) قال الله تعالى ـ حكاية عن رسل (٢) عيسى عليه‌السلام : إذ كذبوا (٣) في المرّة الأولى ـ : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ)(١)] مؤكّدا بإنّ واسميّة الجملة (٤) [وفي] المرّة [الثّانيّة](رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)(٢)] مؤكّدا بالقسم (٥) وإنّ (٦) واللّام (٧) واسميّة الجملة لمبالغة المخاطبين (٨) في الإنكار حيث (٩) قالوا : (ما أَنْتُمْ (١٠) إِلَّا بَشَرٌ

______________________________________________________

(١) فإنّ قوله تعالى مثال للقسم الثّالث وهو وجوب التّأكيد ، ثمّ لفظ (ما) في قوله : «كما» يحتمل أن يكون موصولا اسميّا ، فالعائد إليه حينئذ محذوف ، والمعنى كالتّأكيد الّذي قال الله تعالى ، ويحتمل أن يكون موصولا حرفيّا ، فلا بدّ من التّقدير أي كالتّأكيد في قوله تعالى.

(٢) هم : بولش ويحيى وشمعون.

(٣) إمّا متعلّق بمفعول محذوف ، أي حكاية عن الرّسل قولهم إذ كذبوا ، وإمّا بمحذوف ، أي حكاية عن قول الرّسل إذ كذّبوا ، وإمّا بخبر محذوف ، والتّقدير هذا المحكيّ صادر إذ كذّبوا.

(٤) إنّما قال : «واسميّة الجملة» ولم يقل : (الجملة الاسميّة) للإشارة إلى أنّ الجملة الاسميّة إنّما تكون مؤكّدة إذا كانت معدولة من الفعليّة إلى الاسميّة ، ولا يفيد هذا المعنى إلّا بقولنا : «اسميّة الجملة» أي صيرورة الجملة اسميّة بعد ما كانت فعليّة.

(٥) وهو قوله تعالى : (رَبُّنا) فإنّه كشهد الله جار مجرى القسم ، كما في الكشّاف.

(٦) أي قوله تعالى : (إِنَّا إِلَيْكُمْ).

(٧) في قوله تعالى : مرسلون.

(٨) أي أهل إنطاكية ، (٩) علّة للمبالغة في الإنكار.

(١٠) الإنكار في هذه الآية من أربعة أوجه : الأوّل : من قوله تعالى : (ما أَنْتُمْ) أي ما أنتم رسل فيدلّ على الإنكار بطريق المطابقة.

والثّاني : من قوله تعالى : (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) حيث يدلّ على إنكار الرّسالة بطريق الالتزام ،

__________________

(١) سورة يس : ١٣.

(٢) سورة يس : ١٦.

٢١٩

مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) وقوله إذ كذّبوا (١) ، مبنيّ على أنّ تكذيب الاثنين تكذيب للثّلاثة وإلّا (٢) فالمكذّب أوّلا اثنان

______________________________________________________

لأنّ اعتقادهم معروف على أنّ الرّسل لا يكون بشرا ، فإثبات البشريّة يستلزم نفي الرّسالة على زعمهم الفاسد.

والثّالث : من قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) حيث يدلّ على إنكار الرّسالة بالالتزام أيضا ، لأنّهم نفوا إنزال جميع الأشياء حيث إنّ النّكرة في سياق النّفي يفيد العموم فيلزم انتفاء إنزال الرّسالة أيضا ، فإنّ نفي العام يستلزم نفي الخاصّ.

الرّابع : من قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) حيث يدلّ على إنكار الرّسالة بالمطابقة ، ولهذا أكّد كلام رسل عيسى عليه‌السلام بأربع مؤكّدات وهي (رَبُّنا) وإنّ واللّام واسميّة الجملة ، كما عرفت.

ومن هنا يندفع ما قيل في المقام من قولهم : مشتمل على ثلاث إنكارات فكيف أكّد الحكم الملقى إليهم بأربع تأكيدات ، فلا حاجة إلى ما تقدّم من أنّ المراد من كلام المصنّف كون التّأكيد بقدر الإنكار قوّة وضعفا ، ولا اعتبار بالعدد ، فعليه الإنكارات الثّلاث الكائنة في قولهم : في الشّدّة بمكان يناسبها أربع تأكيدات.

(١) أي قول المصنّف أعني إذ كذّبوا أي الرّسل الثّلاث مبنيّ على أنّ تكذيب الاثنين في المرّة الأولى تكذيب الثّلاثة ، إذ من كذّب واحدا من الرّسل فكأنّما كذّب الجميع.

ففي الحقيقة إنّ قوله : «إذ كذّبوا» جواب عن سؤال مقدّر ، تقريره : أنّ ما ذكره المصنّف من قوله : «إذ كذّبوا» بصيغة الجمع لا أساس له إذ المكذّب في المرّة الأولى اثنان منهم ، كما يستفاد من قوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ).

والجواب : إنّ تكذيب الرّسل الثّلاث مبنيّ على أنّ تكذيب الاثنين منهم تكذيب للجميع.

كما قال الله سبحانه في المرّة الأولى ، أو قال الله سبحانه حكاية في المرّة الأولى عن قول الرّسل إذ كذّبوا كذا ، ومعلوم أنّ هذا المعنى لا دلالة له على أنّ الثّلاثة كذّبوا في المرّة الأولى ، انتهى.

(٢) أي وإن لم يؤوّل الكلام بما ذكر من أنّ تكذيب الاثنين تكذيب الثّلاثة فلا وجه له ، لأنّ المكذّب في المرّة الأولى هما اثنان بدليل قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) أي إلى أهل

٢٢٠