دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

من (١) التّقديم والتّأخير والإثبات والحذف وغير ذلك ومقتضى الحال (٢) في التّحقيق هو الكلام الكلّي المتكيّف بكيفيّة مخصوصة على ما أشير إليه في المفتاح وصرّح به في شرحه لا نفس الكيفيّات من التّقديم والتّأخير والتّعريف والتّنكير على ما هو ظاهر عبارة المفتاح (٣) وغيره ،

______________________________________________________

اللّفظ من هذه الحيثيّة» المذكورة بل من حيث وضوح الدّلالة وخفائها ، ومن جهة كون اللّفظ حقيقة أو مجازا أو كناية ، فلا يكون البحث من علم المعاني.

(١) «من» بيان للأمور والضّمير في «له» عائد إلى اللّفظ ، فمعنى العبارة : إنّ المراد بأحوال اللّفظ هي الأمور العارضة للّفظ كالتّقديم والتّأخير والإثبات والحذف وغير ذلك ، وليس المراد بها الأمور الدّاعية التي أضيف إليها المقتضي في قولهم : مقتضى الحال كإنكار المخاطب مثلا ، فالإنكار حال يقتضي التّأكيد إلّا أنّه ليس من أحوال اللّفظ بل من أحوال المخاطب.

(٢) قوله : «ومقتضى الحال» جواب عن سؤال مقدّر أنّه إذا كانت أحوال اللّفظ هي التّقديم والتّأخير والتّعريف والتّنكير وغير ذلك ، لزم اتّحاد ما هو سبّب المطابقة والمطابق وهو باطل ، وأمّا لزوم الاتّحاد المذكور ، فلأنّ الأحوال المذكورة هي بعينها مقتضى الحال فكيف يصحّ قوله : (إنّها أحوال بها يطابق اللّفظ لمقتضى الحال) مع أنّ مقتضى الحال عين تلك الأحوال ، فلا يصحّ قول المصنّف أعني «أحوال اللّفظ العربي الّتي بها يطابق اللّفظ مقتضى الحال» لكون هذا الكلام مستلزما لاتّحاد سبّب المطابقة مع المطابق وهو باطل.

والجواب : إنّ أرباب الفنّ قد تسامحوا في إطلاق مقتضى الحال على نفس الأحوال المذكورة ، وهذا الإطلاق إنّما هو من باب إطلاق اسم المسبّب على السّبب قصدا للمبالغة ، بمعنى أنّ الأحوال بلغت في سببيّتها لتحقّق مقتضى الحال على حدّ يصحّ أن تسمّى بمقتضى الحال ، وإلّا فمقتضى الحال في التّحقيق هو كلام مؤكّد أو كلام يذكر فيه المسند إليه أو يحذف وهكذا ، وهذا ما أشار إليه بقوله : «ومقتضى الحال في التّحقيق هو الكلام الكلّي المتكيّف بكيفيّة مخصوصة» كالتّأكيد والتّجريد والتّعريف والتّنكير ونحوها من الأحوال «لا نفس الكيفيّات ...» أي ليس مقتضى الحال في الحقيقة نفس الكيفيّات كي يلزم الاتّحاد المذكور.

(٣) أي ظاهر عبارة المفتاح وغيره أنّ مقتضى الحال نفس الكيفيّات.

١٨١

وإلّا (١) لما صحّ القول بأنّها أحوال بها يطابق اللّفظ مقتضى الحال ، لأنّها عين مقتضى الحال وقد حقّقنا ذلك في الشّرح (٢) وأحوال الإسناد أيضا (٣) من أحوال اللّفظ باعتبار أنّ التّأكيد وتركه مثلا ، من الاعتبارات الرّاجعة إلى نفس الجملة وتخصيص اللّفظ (٤) بالعربيّ مجرّد اصطلاح لأنّ الصّناعة إنّما وضعت لذلك (٥) [وينحصر] المقصود من علم المعاني (٦) [في ثمانية أبواب]

______________________________________________________

(١) أي وإن لم يكن المراد بمقتضى الحال هو الكلام المتكيّف بكيفيّة مخصوصة لما صحّ القول بأنّها أحوال بها يطابق اللّفظ مقتضى الحال ، لأنّ تلك الأحوال عين مقتضى الحال ، فيلزم ما ذكرناه من اتّحاد ما هو سبّب المطابقة والمطابق.

(٢) أي قد أجاب الشّارح عن الإشكال المذكور في المطوّل ، فراجع.

(٣) جواب لما قيل من أنّ الإسناد ليس من الألفاظ فتعريف علم المعاني لا يشمل بحث الإسناد لأنّ أحوال الإسناد الخبري كالتّأكيد والتّجريد والحقيقة والمجاز العقليّين ليست من أحوال اللّفظ العربيّ ، فالتّعريف غير جامع.

والجواب : إنّ أحوال الإسناد وإن لم تكن أحوال اللّفظ من دون واسطة إلّا أنّها أحوال اللّفظ معها أي أنّها تعرض الجملة بواسطة جزئها أعني الإسناد ، لأنّ الجملة مركّبة من المسند إليه والمسند والإسناد فإذا لا مجال للإشكال ، لأنّ المراد بأحوال اللّفظ مطلق ما يكون عارضا على اللّفظ ولو مع الواسطة.

(٤) قوله : «وتخصيص اللّفظ بالعربيّ» جواب عن الاعتراض على المصنّف. وحاصل الاعتراض : إنّ علم المعاني لا يختصّ باللّفظ العربي فالتّقييد بالعربي فاسد.

وحاصل الجواب : إنّ تخصيص اللّفظ بالعربيّ مجرّد اصطلاح ولا يكون القيد احترازيّا كي تخرج به أحوال اللّفظ الغير العربيّ.

(٥) أي لمعرفة أحوال اللّفظ العربيّ ، لأنّ المقصود الأقصى منها معرفة إعجاز القرآن ، ثمّ كون الصّناعة مؤسّسة لذلك ، لا ينافي جريانها في كلّ لغة فلا يكون التّقييد للاحتراز.

(٦) وقد زاد الشّارح «المقصود منه» وهو بدل من الضّمير في «ينحصر» العائد إلى علم المعاني ، والغرض من هذا التّكلّف ـ مع أنّه خلاف ظاهر المصنّف ـ هو دفع ما يرد على حصر المصنّف علم المعاني في ثمانية أبواب ، من أنّ علم المعاني لا ينحصر في ثمانية

١٨٢

انحصار الكلّ في الأجزاء (١) لا الكلّي في الجزئيّات (٢) وإلّا (٣) لصدق علم المعاني على كلّ باب من الأبواب المذكورة وليس كذلك [أحوال الإسناد الخبري] و [أحوال المسند إليه] و [أحوال المسند] و [أحوال متعلّقات الفعل] و [القصر] و [الإنشاء] و [الفصل] و [الوصل] و [الإيجاز] و [الإطناب] و [المساواة] وإنّما انحصر فيها (٤)

______________________________________________________

أبواب بل يذكر فيه التّعريف وبيان الانحصار والتّنبيه الآتي فحينئذ لا وجه لقوله :

«وينحصر في ثمانية أبواب».

وحاصل الدّفع : إنّ الحصر المذكور إنّما هو باعتبار ما هو المقصود من علم المعاني لا باعتبار جميع ما يذكر فيه والأمور الثّلاثة وإن كانت مذكورة فيه إلّا أنّها ليست مقصودة بنفسها.

لا يقال : إنّ حصر ما هو المقصود في ثمانية أبواب دون علم المعاني مخالف لظاهر كلام المصنّف فقد يحتاج إلى قرينة.

فإنّه يقال : إنّ القرينة على حصر المقصود ما ذكره المصنّف في الإيضاح الّذي هو كالشّرح لهذا الكتاب حيث قال فيه : «ثمّ المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب».

(١) كانحصار العشرة في أجزائها ، وانحصار البيت في الجدران والباب والسّقف.

(٢) كانحصار الحيوان في الإنسان والفرس والحمار وسائر أنواعه ، وكانحصار الإنسان في زيد وعمرو وبكر وسائر أفراده.

والفرق بينهما الكلّ لا يصدق على أجزائه ، ف لا يقال : (واحد عشرة) بخلاف الكلّي حيث يصحّ إطلاقه على جزئيّاته ، فيقال : زيد إنسان ، الإنسان حيوان ، وهنا وجوه أخر للفرق بينهما تركناها رعاية للاختصار.

(٣) أي وإن لم يكن انحصار علم المعاني في ثمانية أبواب من قبيل انحصار الكلّ في أجزائه ، بل كان من قبيل انحصار الكلّي في جزئيّاته «لصدق علم المعاني على كلّ باب» فيقال باب الإسناد الخبري علم المعاني «وليس الأمر كذلك» أي لا يصحّ إطلاق علم المعاني على باب من الأبواب الثّمانية ، فيكون الحصر من قبيل حصر الكلّ في أجزائه لا من قبيل حصر الكلّي في جزئيّاته.

(٤) أي إنّما انحصر علم المعاني في الأبواب الثّمانية المذكورة ، وقد زاد الشّارح «إنّما

١٨٣

[لأنّ الكلام إمّا خبر أو إنشاء (١)] لأنّه (٢) لا محالة يشتمل على نسبة تامّة بين الطّرفين (٣) قائمة (٤) بنفس المتكلّم وهو (٥) تعلّق أحد الشّيئين بالآخر بحيث يصحّ السّكوت عليه سواء كان إيجابا أو سلبا أو غيرهما كما في الإنشائيّات (٦)

______________________________________________________

انحصر فيها» كي يكون إشارة إلى أنّ قول المصنّف «لأنّ الكلام ...» علّة لحصر علم المعاني في الأبواب الثّمانية.

(١) هذا الكلام شروع منه في بيان الانحصار في ثمانية أبواب.

(٢) أي الكلام «يشتمل على نسبة تامّة» اشتمال الدّالّ على مدلوله أو اشتمال الكلّ على الجزء ، لأنّ النّسبة الّتي يدلّ عليها الكلام جزء من الكلام حيث إنّه مركّب من موضوع ومحمول ونسبة وخرجت النّسبة النّاقصة كالتّقييديّة ، كقولنا : غلام زيد ، والتّوصيفيّة ، كقولنا : رجل عالم ، بقوله : «على نسبة تامّة».

(٣) أي الموضوع والمحمول.

(٤) إشارة إلى أقسام النّسبة ، فنقول : إنّ النّسبة من حيث هي النّسبة وإن كانت شيئا فاردا ، وهو ارتباط أحد الطّرفين بالآخر ، إلّا أنّها تنقسم إلى أربعة أقسام بملاحظة الاعتبارات والحيثيّات ، فإنّ ارتباط أحد الطّرفين بالآخرين من حيث إنّه مفهوم من الكلام يسمّى نسبة كلاميّة ، وباعتبار حضوره في ذهن المتكلّم وتصوّره له يسمّى نسبة ذهنيّة تصوّريّة ، ومن حيث كونه موردا لإذعانه واعتقاده يسمّى نسبة تصديقيّة ، وباعتبار تحقّقه في الخارج وحصوله في نفس الأمر مع قطع النّظر عن إدراك الذّهن وإذعانه يسمّى نسبة خارجيّة ، مثلا ارتباط القيام بزيد في قولك : (زيد قائم) يسمّى نسبة كلاميّة باعتبار أنّه مفهوم منه ، ونسبة ذهنيّة باعتبار أنّه حاضر في ذهن المتكلّم ، ونسبة تصديقيّة باعتبار تعلّق الإذعان به ، ونسبة خارجيّة باعتبار أنّه متحقّق في الخارج كما في شرح المرحوم الشّيخ موسى البامياني مع تصرّف ما.

ثمّ قول الشّارح «قائمة بنفس المتكلّم» لا يخلو عن مسامحة ، لأنّ القائمة بنفس المتكلّم هي النّسبة الذهنيّة لا الكلاميّة ، ومحلّ البحث إنّما هو النّسبة الكلاميّة.

(٥) تذكير الضّمير إنّما باعتبار الخبر ، ومعنى العبارة النّسبة الكلاميّة تعلّق المسند إليه بالمسند.

(٦) حيث لا تتّصف بالإيجاب والسّلب ، لأنّهما من أوصاف الحكم ولا حكم في الإنشاء ،

١٨٤

وتفسيرها (١) بإيقاع المحكوم به على المحكوم عليه أو سلبه عنه خطأ في هذا المقام لأنّه (٢) لا يشمل النّسبة في الكلام الإنشائي فلا يصحّ التّقسيم (٣) ، فالكلام (٤) [إن كان لنسبته خارج (٥)] في أحد الأزمنة الثّلاثة أي يكون بين الطّرفين في الخارج نسبة ثبوتيّة أو سلبيّة (٦)

______________________________________________________

بل إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود ، ثمّ المراد من قوله : «سواء كان إيجابا أو سلبا» هو متعلّقهما ، والأوّل : كزيد قائم ، والثّاني : كزيد ليس بقائم ، أو ذا إيجاب أو سلب بتقدير المضاف.

(١) أي تفسير النّسبة بإيقاع المحكوم به على المحكوم عليه في القضيّة الموجبة أو سلب المحكوم به عن المحكوم عليه في القضيّة السّالبة خطأ في هذا المقام ، أي مقام تقسيم الكلام إلى الخبر والإنشاء ، لأنّ التّفسير المزبور لا يشمل النّسبة الإنشائيّة لأنّها إيجاديّة بمعنى أنّها غير موجودة قبل الكلام ، بل إنّها تحصل بمجرّد اللّفظ كطلب الضّرب ، وليس فيها الحكم بثبوت المسند للمسند إليه.

والحاصل : إنّ التّقسيم في المقام إنّما هو باعتبار النّسبة ، فلا بدّ أن توجد في الإنشاء كما توجد في الخبر والنّسبة على التّفسير المزبور لا توجد في الإنشاء ، فلا يصحّ التّقسيم.

(٢) أي التّفسير المذكور لا يشمل النّسبة الإنشائيّة ، لأنّ الإيجاب والسّلب لا يطلقان على النّسبة الإنشائيّة.

(٣) لعدم كونه جامعا ، والمعتبر في صحّة التّقسيم أن يكون جامعا أي بأن يكون المقسم شاملا لجميع الأقسام ، والتّقسيم الصّحيح ما أشار إليه بقوله : «إن كان لنسبته خارج».

(٤) أي مطلق الكلام سواء كان خبرا أو إنشاء.

(٥) معنى العبارة : إن كان للنّسبة المفهومة من الكلام الّتي تسمّى بالنّسبة الكلاميّة «خارج» أي نسبة خارجيّة حاصلة بين الطّرفين في الواقع مع قطع النّظر عن انفهامها من الكلام.

(٦) كقولك : زيد قائم ، وزيد ليس بقائم ، ثمّ قوله : «في أحد الأزمنة الثّلاثة» إشارة إلى أنّ المعتبر ثبوت النّسبة الخارجيّة في الماضي أو الحال أو الاستقبال على حسب اعتبار النّسبة الكلاميّة ، فإن كانت ماضويّة اعتبر ثبوت النّسبة الخارجيّة في الماضي ، وإن كانت حاليّة اعتبر ثبوتها في الحال ، وإن كانت استقباليّة اعتبر ثبوتها في الاستقبال.

١٨٥

[تطابقه (١)] أي تطابق تلك النّسبة ذلك الخارج بأن يكونا ثبوتيّين (٢) أو سلبيّين (٣) [أو لا تطابقه (٤)] بأن تكون النّسبة المفهومة من الكلام ثبوتيّة والتي بينهما (٥) في الخارج والواقع سلبيّة أو بالعكس [فخبر] أي فالكلام خبر (٦) [وإلّا] أي وإن لم يكن لنسيته خارج كذلك (٧) [فإنشاء (٨)].

______________________________________________________

(١) تمهيد للمباحث المذكورة في التّنبيه الآتي ، فلا يكون لبيان الفرق بين الخبر والإنشاء ، إذ يكفي في الفرق بينهما ما قيل من أنّ الإنشاء لا خارج له.

(٢) كقولنا : محمّد خاتم النبيّين.

(٣) كقولنا : إنّ الله لا يظلم أحدا ، فقد تطابقت النّسبة المفهومة من الكلام للنّسبة الخارجيّة في المثالين المذكورين ، ثمّ مطابقة النّسبة الكلاميّة للنّسبة الخارجيّة مستلزمة لمطابقة النّسبة الخارجيّة للكلاميّة ، غاية الأمر النّسبة الكلاميّة تجعل مطابقه ـ بالكسر ـ والخارجيّة ـ بالفتح ـ السّبب لذلك إنّ الخارجيّة هي الأصل فالأولى أن يجعل الأصل مطابقا ـ بالفتح ـ والفرع مطابقا ـ بالكسر ـ.

(٤) أي لا تطابق النّسبة الكلاميّة النّسبة الخارجيّة بأن يكون أحدهما ثبوتيّا والآخر سلبيّا.

(٥) أي بين المحكوم والمحكوم عليه مثل : (زيد قائم) للّذي قعد ، و (زيد ليس بقائم) للّذي كان قائما.

(٦) التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ قوله : «فخبر» خبر لمبتدأ محذوف ، أي فالكلام خبر من حيث احتماله للصّدق والكذب ، ثمّ تقدير المبتدأ لازم ، لأنّ قوله : «فخبر» جواب للشّرط في قوله : «إن كان لنسبته خارج ...» وجواب الشّرط لا يقع إلّا جملة.

(٧) أي تطابقه أو لا تطابقه.

(٨) أي فالكلام إنشاء ، فالإنشاء خبر للمبتدأ المحذوف ، فحاصل الفرق بين الإنشاء والخبر هو عدم الخارج في الإنشاء وتحقّقه في الخبر ، وهذا الفرق مبنيّ على أن يرجع النّفي إلى القيد الأوّل ، أعني الخارج لا القيد الثّاني ، أعني المطابقة وعدمها ، ولازم رجوع النّفي إلى الثّاني أنّ للإنشاء خارج ، ولكن لم يتّصف بصفة المطابقة أو عدمها ، إلّا أنّ هذا الاحتمال باطل قطعا ، إذ لازم فرض خارج للإنشاء اتّصافه بالمطابقة أو عدمها لاستحالة ارتفاع النّقيضين ، ثمّ اتّصافه بالمطابقة وعدمها مستلزم لأن يتّصف الإنشاء بالصّدق والكذب وهو باطل.

١٨٦

وتحقيق ذلك (١) إنّ الكلام إمّا أن تكون نسبته بحيث تحصل من اللّفظ ويكون اللّفظ موجدا لها (٢) من غير قصد إلى كونه (٣) دالّا على نسبة حاصلة في الواقع بين الشّيئين وهو الإنشاء أو تكون نسبته بحيث يقصد أنّ لها نسبة خارجيّة تطابقه أو لا تطابقه وهو الخبر ، لأنّ النّسبة (٤) المفهومة من الكلام الحاصلة في الذّهن (٥)

______________________________________________________

ومثله في البطلان احتمال رجوع النّفي إلى النّسبة ، إذ لازم ذلك أن لا تكون للإنشاء نسبة أصلا ، وليس الأمر كذلك لوجود النّسبة الكلاميّة والذّهنيّة فيه بالاتّفاق ، فإنّ المفهوم من قولك : (اضرب) إثبات الضّرب على ذمّة المخاطب بداعي البعث. فيتعيّن حينئذ أن يرجع النّفي إلى القيدين دون المقيّد أعني النّسبة ودون القيد الأوّل أو الثّاني. فمعنى العبارة : وإن لم يكن هناك خارج ولم تكن المطابقة أو عدمها فالكلام إنشاء. نعم ، يرجع النّفي إلى القيد الأوّل عند من يرى أنّ الإنشاء ممّا ليس له خارج ، كما هو ظاهر المصنّف.

(١) أي الفرق بين الخبر والإنشاء ، وحاصل التّحقيق : إنّ للإنشاء أيضا نسبة خارجيّ تطابقه أو لا تطابقه ، والفرق بينهما هو قصد المطابقة واللّا مطابقة في الخبر وعدم قصد ذلك في الإنشاء ، ففي قول الشّارح «وتحقيق ذلك» إشارة إلى ردّ ما يقتضيه ظاهر كلام المصنّف من أنّ الخبر له خارج والإنشاء ممّا لا خارج له ، فيكون هذا الفرق الّذي يظهر من المصنّف على خلاف التّحقيق.

(٢) إنّ عطف قوله : «ويكون اللّفظ موجدا ...» على قوله : «تحصل من اللّفظ» عطف تفسيريّ إن كان قوله : «تحصل» بمعنى توجد ، وليس تفسيريّا إن كان بمعنى تفهم.

(٣) أي من غير قصد المتكلّم إلى كون الكلام «دالّا على نسبة حاصلة في الواقع بين الشّيئين وهو الإنشاء» فقوله : «من غير قصد ...» لا ينافي أنّ الإنشاء له نسبة خارجيّة ، لأنّ نفي القصد المذكور لا يستلزم نفي حصول تلك النّسبة إلّا أن يكون عدم القصد لأجل عدم الخارج من باب السّالبة بانتفاء الموضوع ، ولازم ذلك عدم وجود النّسبة الخارجيّة في الإنشاء.

(٤) علّة للنّسبة الخارجيّة الخبريّة في الكلام الخبريّ.

(٥) فيه إشارة إلى اتّحاد النّسبة الكلاميّة والذّهنيّة ذاتا واختلافهما بحسب الاعتبار بمعنى أنّ النّسبة من حيث إنّها مدلول الكلام يقال لها كلاميّة ، ومن حيث حصولها في الذّهن

١٨٧

لا بدّ وأن تكون بين هذين الشّيئين ، ومع قطع النّظر عن الذّهن لا بدّ أن يكون بين هذين الشّيئين (١) في الواقع نسبة ثبوتيّة بأن يكون هذا ذلك (٢) أو سلبيّة بأن لا يكون هذا ذاك (٣) ، ألا ترى (٤) إنّك إذا قلت : زيد قائم ، فإنّ نسبة القيام مثلا حاصلة لزيد قطعا سواء قلنا : إنّ النّسبة من الأمور الخارجيّة (٥) أو ليست منها (٦) ، وهذا (٧) معنى وجود النّسبة الخارجيّة [والخبر لا بدّ له من مسند إليه ومسند وإسناد ، والمسند قد يكون له متعلّقات إذا كان فعلا أو ما في معناه] كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول وما أشبه ذلك (٨) ولا وجه لتخصيص هذا الكلام بالخبر (٩).

______________________________________________________

يقال : ذهنيّة.

(١) أي المسند إليه والمسند.

(٢) كقولك : زيد قائم ، أعني القائم هو زيد.

(٣) كقولك : زيد ليس بقائم ، أعني القائم ليس بزيد.

(٤) استدلال على النّسبة الخارجيّة ، فحاصل معنى العبارة أنّه إذا قلت : زيد قائم ، لكانت نسبة القيام حاصلة لزيد مع قطع النّظر عن حصولها في الذّهن فليس القطع بمعنى الجزم.

نعم ، حصول النّسبة لزيد يتوقّف على أن يكون الكلام صادقا ، وقيل : إنّ في كلام الشّارح حذف ، وأصل الكلام : فإنّ نسبة القيام مثلا حاصلة لزيد قطعا أو ليست بحاصلة له قطعا ، فيكون القطع حينئذ بمعنى الجزم.

(٥) كما يقول به الحكماء حيث يقولون : إنّ النّسبة من الأمور الخارجيّة.

(٦) أي من الأمور الخارجيّة كما يقول به المتكلّمون ، فإنّهم يقولون : إنّ الأعراض النّسبيّة من الأمور الاعتباريّة ، لا تحقّق لها في الأعيان. نعم ، لها تحقّق في الأذهان.

(٧) أي ثبوت القيام لزيد في المثال المذكور «معنى وجود النّسبة الخارجيّة».

(٨) أي كالصّفة المشبّهة واسم التّفضيل والزّمان والمكان والآلة.

(٩) أي لا وجه لتخصيص ـ ما ذكر من المسند إليه والمسند والإسناد ومتعلّقات المسند ـ بالخبر لأنّ الإنشاء أيضا لا بدّ له من مسند إليه ومسند وقد يكون لمسنده متعلّقات كقولك : اضرب زيدا يوم الجمعة في الدّار ضربا شديدا ، إلّا أن يقال : إنّ الخبر لمّا كان أصلا

١٨٨

[وكلّ من الإسناد والتّعلّق إمّا بقصر أو بغير قصر ، وكلّ جملة قرنت بأخرى إمّا معطوفة عليها أو غير معطوفة ، والكلام البليغ إمّا زائد على أصل المراد لفائدة (١)] واحترز به (٢) عن التّطويل على أنّه لا حاجة إليه بعد تقييد الكلام بالبليغ (٣) [أو غير زائد (٤)] هذا كلّه ظاهر (٥) لكن لا طائل تحته (٦) ، لأنّ جميع ما ذكره من القصر والفصل والوصل والإيجاز ومقابليه (٧) إنّما هي من أحوال الجملة أو المسند إليه أو المسند مثل التّأكيد (٨) والتّقديم والتّأخير وغير ذلك ،

______________________________________________________

للإنشاء وكانت المزايا والخواصّ المعتبرة في علم البلاغة أكثر وجودا في الخبر خصّص الخبر بالأمور المذكورة.

(١) حاصل انحصار ما هو المقصود من علم المعاني في ثمانية أبواب ، إنّ الكلام إن لم يكن لنسبته خارج فإنشاء ، وهو الباب السّادس من علم المعاني ، والإسناد الخبري هو الباب الأوّل ، وأحوال المسند إليه هو الباب الثّاني ، وأحوال المسند هو الباب الثّالث ، وأحوال متعلّقات الفعل هي الباب الرّابع ، والقصر هو الباب الخامس ، الفصل والوصل هو الباب السّابع ، الإيجاز والإطناب والمساواة هو الباب الثّامن.

(٢) أي بقوله : «لفائدة» عن التّطويل بل عن الحشو أيضا ، لأنّ كلّا منهما زائد على أصل المراد بلا فائدة ، والفرق بينهما إنّ الزّائد في الأوّل معيّن ، وفي الثّاني غير معيّن.

(٣) لأنّ ما لا فائدة فيه لا يكون بليغا لعدم كونه مطابقا لمقتضى الحال ، والحاصل : أنّه لا حاجة إلى قوله : «لفائدة» بعد تقييد الكلام بالبليغ.

(٤) قوله : «أو غير زائد» عطف على قوله : «زائد» يعني الكلام البليغ إمّا زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عن أصل المراد بأن كان مساويا لأصل المراد ، أو كان ناقصا عنه ، فيجعل باب مستقلّ باسم باب الإيجاز والإطناب والمساواة.

(٥) أي ما تقدّم في كلام المصنّف من تقسيمه الكلام إلى الإنشاء والخبر أوّلا ، ثمّ بيانه إنّ الخبر لا بدّ له من مسند إليه ومسند وإسناد ... كلّه ظاهر حيث يعرف بالاستقراء.

(٦) أي لا نفع تحت ما ذكره المصنّف.

(٧) أي الإطناب والمساواة.

(٨) حيث يكون التّأكيد من أحوال الجملة كما أنّ التّقديم والتّأخير وغير ذلك كالتّعريف والتّنكير يكون من أحوال الطّرفين.

١٨٩

فالواجب (١) في هذا المقام بيان سبب إفرادها (٢) وجعلها (٣) أبوابا برأسها وقد لخّصنا ذلك (٤) في الشّرح.

صدق الخبر وكذبه

[تنبيه] على تفسير الصّدق والكذب الّذي قد سبق إشارة ما إليه (٥) في قوله : تطابقه أو لا تطابقه ، اختلف (٦) القائلون بانحصار الخبر في الصّدق والكذب

______________________________________________________

(١) أي على المصنّف.

(٢) أي الأحوال المذكورة عن غيرها.

(٣) أي جعل الأحوال المذكورة أبوابا برأسها.

(٤) أي لخّصنا بيان سبب إفراد الأحوال المذكورة في المطوّل.

قال الشّارح في المطوّل ـ في بيان السّبب لإفراد هذه الأبواب الثّمانية ـ : اللّفظ إمّا مفرد أو جملة ، فأحوال الجملة هي الباب الأوّل ، والمفرد إمّا عمدة أو فضلة ، والعمدة إمّا مسند إليه أو مسند ، فجعل هذه الأحوال الثّلاثة أبوابا ثلاثة تمييزا بين الفضلة والعمدة المسند إليه أو المسند ، ثمّ لمّا كان من هذه الأحوال ما له مزيد غموض وكثرة أبحاث وتعدّد طرق ، وهو القصر أفرد بابا خامسا ، وكذا من أحوال الجملة ما له مزيد شرف ولهم به زيادة اهتمام وهو الفصل والوصل ، فجعل بابا سادسا ، وإلّا فهو من أحوال الجملة ولذا لم يقل أحوال القصر وأحوال الفصل والوصل ، ولمّا كان من الأحوال ما لا يختصّ مفردا ولا جملة ، بل يجري فيهما وكان له شيوع وتفاريع كثيرة جعل بابا سابعا ، وهذه كلّها يشترك فيها الخبر والإنشاء ولمّا كان ههنا أبحاث راجعة إلى الإنشاء خاصّة جعل الإنشاء بابا ثامنا ، فانحصر في ثمانية أبواب ، انتهى ما في المطوّل.

(٥) قوله : «قد سبق إشارة ما» إشارة إلى وجه تسمية هذا البحث بالتّنبيه ، لأنّ التّنبيه إنّما يستعمل فيما سبق بوجه ما. وبعبارة أخرى : إنّ التّنبيه في اللّغة : عبارة عن الإيقاظ ، وفي الاصطلاح : اسم لكلام مفصّل لا حق يفهم معناه من الكلام السّابق إجمالا ، وقد تقدّم إجمال الصّدق والكذب في قول المصنّف «تطابقه أو لا تطابقه» حيث إنّ المطابقة صدق وعدمها كذب فحينئذ يصحّ أن يسمّى هذا البحث بالتّنبيه.

(٦) أي هنا قول بعدم انحصار الخبر في الصّدق والكذب أي لا ينحصر في الصّادق

١٩٠

في (١) تفسيرهما (٢) ، فقيل : [صدق الخبر مطابقته] أي مطابقة حكمه (٣) [للواقع] وهو الخارج (٤) الّذي يكون لنسبة الكلام الخبري [وكذبه] أي كذب الخبر [عدمها] أي عدم مطابقته للواقع (٥) يعني أنّ الشّيئين اللّذين أوقع بينهما نسبة في الخبر لا بدّ أن يكون بينهما نسبة في الواقع أي مع قطع النّظر عمّا في الذّهن وعمّا يدلّ عليه الكلام

______________________________________________________

والكاذب ، بل هنا قسم ثالث ، أعني ما ليس بصادق ولا كاذب.

(١) متعلّق ب «اختلف» أي اختلف القائلون بالانحصار في تفسير الصّدق والكذب.

(٢) أي الصّدق والكذب ، فذهب الجمهور إلى ما أشار إليه المصنّف بقوله : «صدق الخبر مطابقته ...».

(٣) غرض الشّارح من هذا التّفسير هو التّفصّي عن الدّور اللّازم على تعريف الصّدق والكذب. وتقريب الدّور على تقدير إرجاع الضّمير إلى الخبر ، إنّ المعرّف هو صدق الخبر ، والمعرّف هو المطابقة المضافة إلى ضمير الخبر ، فيلزم توقّف صدق الخبر على الخبر ، وهو دور ظاهر ، أمّا لو كان الضّمير عائدا إلى الحكم ، فلا يلزم توقّف صدق الخبر على الخبر ، فحينئذ ينتفي الدّور ، إلّا أن يقال : إنّ المعرّف ليس هو الخبر كي يلزم توقّف الشّيء على نفسه بل هو الصّدق المضاف إلى الخبر فلا يلزم الدّور أصلا.

(٤) أي المراد من الواقع هو الخارج فقوله : «وهو الخارج» إشارة إلى دفع التّنافي بين كلاميّ المصنّف. تقريب التّنافي : إنّ كلامه السّابق ـ حيث قال : «إن كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه فخبر» ـ يدلّ على أنّ الصّدق عبارة عن مطابقة الخبر للخارج وكلامه هنا نصّ في أنّ الصّدق عبارة عن مطابقة الخبر للواقع ، أي نفس الأمر والخارج ليس نفس الأمر ، والتّنافي بين الكلامين لا يخفى على من له أدنى البصيرة.

وحاصل الدّفع : إنّ المراد بالواقع هنا هو الخارج.

(٥) وقيل : إنّ تعريف الكذب بعدم مطابقة الخبر للواقع غير مانع لدخول المبالغة ، كقولك : (جئتك اليوم ألف مرّة) فيه مع أنّها ليست بكذب.

ويمكن الجواب : بأنّ المبالغ إن قصد ظاهر الكلام فهو كذب فيجب دخوله في تعريف الكذب ، وإن قصد معنى مجازيّا كالكثرة في المثال المذكور فصدق ، لمطابقة المعنى المراد للواقع ، فلا يلزم دخولها في تعريف الكذب.

١٩١

فمطابقة تلك النّسبة المفهومة من الكلام للنّسبة الّتي في الخارج بأن تكونا ثبوتيّتين (١) أو سلبيّتين (٢) صدق وعدمها (٣) بأن تكون إحداهما ثبوتيّة والأخرى سلبيّة (٤) كذب (٥) [وقيل (٦)] صدق الخبر [مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان (٧)] ذلك الاعتقاد [خطأ (٨)] غير مطابق للواقع (٩) [و] كذب الخبر [عدمها] أي عدم مطابقته لاعتقاد المخبر (١٠) ولو كان خطأ (١١) فقول القائل : السّماء تحتنا معتقدا ذلك صدق ، وقوله : السّماء فوقنا غير معتقد لذلك كذب (١٢)

______________________________________________________

(١) نحو : زيد قائم.

(٢) نحو : زيد ليس بقائم.

(٣) أي عدم المطابقة للواقع.

(٤) كما إذا قيل : (زيد قائم) ولم يحصل له قيام في الواقع ، أو قيل : (زيد ليس بقائم) وقد حصل له قيام في الواقع ، ففي المثال الأوّل النّسبة الكلاميّة ثبوتيّة والنّسبة الواقعيّة سلبيّة ، وفي المثال الثّاني عكس ذلك.

(٥) خبر لقوله : «وعدمها» أي عدم المطابقة كذب.

(٦) القائل هو النّظّام ، وهو من قدماء المعتزلة.

(٧) كلمة «لو» وصليّة وليست بشرطيّة.

(٨) أي فإذا كان الاعتقاد صوابا ، فالخبر صادق بطريق أولى ، لتحقّق مطابقته للاعتقاد والواقع معا.

(٩) بيان لل «خطأ».

(١٠) أي عدم مطابقة الخبر ، أي النّسبة الكلاميّة للنّسبة المعتقدة للمخبر.

(١١) أي لو كان اعتقاد المخبر خطأ وكان الخبر صوابا ومطابقا ، فيكون هذا الخبر عند النّظام كاذبا لعدم كونه مطابقا لاعتقاد المخبر ولو كان مطابقا للواقع ، لأنّ الملاك في الكذب عنده هو عدم مطابقة الخبر لاعتقاد المخبر.

(١٢) أي على مذهب النظّام من تابعه مع أنّ الأوّل أعني قول القائل : (السّماء تحتنا) كذب قطعا ، والثّاني أي قول القائل : (السّماء فوقنا) صدق قطعا.

١٩٢

والمراد بالاعتقاد (١) الحكم الذّهنيّ الجازم أو الرّاجح ، فيعمّ العلم والظّنّ وهذا (٢) يشكل بخبر الشّاكّ لعدم الاعتقاد فيه (٣) فيلزم الواسطة ولا يتحقّق الانحصار اللهمّ (٤)

______________________________________________________

(١) أي المراد بالاعتقاد هو مطلق الرجحان الشّامل لليقين والجهل المركّب والتّقليد والظّنّ. ولمّا كان الاعتقاد عند الأصوليّين مقابلا للعلم والظّنّ ، فإنّ الاعتقاد عندهم هو الإدراك الجازم لا لدليل ، والعلم هو الإدراك الجازم الحاصل من الدّليل ، والظّنّ هو الإدراك الغير الجازم ، بيّن أنّ المراد به هنا ليس ما هو المصطلح عند الأصوليّين ، بل المراد به هنا هو مطلق الرّجحان.

فالخبر المطابق لاعتقاد المخبر صادق عند النّظّام سواء كان هذا الاعتقاد يقينا أو تقليدا ـ وهو الحكم الجازم الّذي يقبل التّشكيك ـ أو جهلا مركّبا أو ظنّا.

والخبر الموهوم والمشكوك وما لا يطابق اعتقاد المتكلّم كاذب ، غاية الأمر كذب الأوّلين لعدم الاعتقاد ، وكذب الثّالث لعدم مطابقة الخبر للاعتقاد. إلّا أن يقال بأنّ خبر الشّاك لا يكون كاذبا كما لا يكون صادقا ، فتلزم الواسطة ولا يتحقّق الانحصار ، أي انحصار الخبر في الصّدق والكذب ، وقد أشار إلى الإشكال بقوله : «وهذا يشكل».

(٢) أي تفسير الصّدق والكذب عند النّظّام يشكل بخبر الشّاكّ لعدم الاعتقاد فيه ، فتلزم الواسطة إذ لا

يصدق على خبر الشّاكّ أنّه مطابق للاعتقاد كي يكون صادقا ، أو أنّه غير مطابق له كي يكون كاذبا وذلك لعدم الاعتقاد.

(٣) أي في خبر الشّاكّ.

(٤) وقد جرت العادة باستعمال هذا اللّفظ فيما في ثبوته ضعف ، فكأنّه يستعان في إثباته بالله تعالى ، ووجه الضّعف ههنا أنّه خلاف المتبادر ، وأنّه يوهم وجود الاعتقاد في المشكوك وجريان الكذب في الإنشاءات ، وهما على خلاف الإجماع.

قال المرحوم الشّيخ موسى البامياني رحمه‌الله في كتابه (المفصّل في شرح المطوّل) ما هذا لفظه : ووجه الضّعف في المقام أمران : الأوّل : إنّ الالتزام بأنّ قوله : «وكذب الخبر عدم مطابقته لاعتقاد المخبر» يكون شاملا لفرضين :

الأوّل : أن يكون للمتكلّم اعتقاد ، ولم يكن الخبر مطابقا له على نحو مفاد القضيّة السّالبة بانتفاء المحمول.

١٩٣

إلّا أن يقال : إنّه (١) كاذب لأنّه (٢) إذا انتفى الاعتقاد صدق عدم مطابقة الاعتقاد (٣) والكلام (٤) في أنّ المشكوك خبر أو ليس بخبر مذكور في الشّرح فليطالع ثمّة (٥) [بدليل] قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ

______________________________________________________

والثّاني : أن لا يكون له اعتقاد حتّى يكون الخبر مطابقا على نحو مفاد القضيّة السّالبة بانتفاء الموضوع التزام (١) بخلاف ما هو المتبادر من كلامه ، فإنّه ظاهر في أنّ الكذب عبارة عن عدم مطابقة الخبر للاعتقاد الحاصل للمتكلّم ، ولا يتبادر منه المعنى العامّ الشّامل للفرضين.

الثّاني : أنّه موهم لجريان الكذب في أقسام الإنشاء حيث إنّها يصدق عليها عدم مطابقتها للاعتقاد ، لعدم اعتقاد فيها بالنّسبة الخارجيّة ، ولا ريب أنّ عدّ الإنشاءات من القضايا الكاذبة خلاف الإجماع ، انتهى.

(١) أي خبر الشّاكّ «كاذب» أي داخل في قسم الكذب.

(٢) أي الشّأن ، فيكون الضّمير ضمير الشّأن.

(٣) حاصل الكلام في المقام أنّه إذا انتفى الاعتقاد تحقّق عدم مطابقة الاعتقاد ، لأنّ المطابقة لا يتحقّق إلّا بالمطابق والمطابق معا فإذا لم يكن هناك اعتقاد لم يكن هناك مطابق فلا تتحقّق المطابقة من دون مطابق فيكون كاذبا.

(٤) إشارة إلى دفع توهّم ، وهو أنّ الكلام المشكوك فيه ليس بخبر ليلزم أن يكون صادقا أو كاذبا ، فلا يرد على حصر الخبر في الصّادق والكاذب على ما قال به النّظّام.

وحاصل الدّفع : إنّ البحث والكلام في أنّ المشكوك خبر أو ليس بخبر مذكور في الشّرح أعني المطوّل ، وفيه أنّ المشكوك خبر حيث قال (إذا تلفّظ بالجملة الخبريّة وقال : (زيد في الدّار) مثلا مع الشّكّ فكلامه خبر لا محالة ، فالإيراد على حصر الخبر في الكذب والصّدق في محلّه.

(٥) «ثمّة» اسم إشارة ، بمعنى هناك ، يوقف عليها بالهاء ، فمعنى العبارة : إنّ الكلام في أنّ المشكوك خبر أو ليس بخبر مذكور في المطوّل ، فليطالع هناك.

__________________

(١) قوله : (التزام) خبر لإنّ في قوله (إنّ الالتزام).

١٩٤

إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) (١) فإنّه تعالى جعلهم كاذبين في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) لعدم مطابقته لاعتقادهم وإن كان مطابقا للواقع (٢) [وردّ] هذا الاستدلال (٣) [بأنّ المعنى لكاذبون في الشّهادة] وفي ادّعائهم المواطأة (٤) ،

______________________________________________________

(١) يعني استدلّ النّظّام على ما ذهب إليه من أنّ صدق الخبر مطابقته للاعتقاد وكذبه عدمها بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ). وتقريب الاستدلال : إنّ الله تعالى وصف المنافقين بأنّهم كاذبون في قولهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) لعدم مطابقة قولهم لاعتقادهم حيث إنّهم كانوا معتقدين بعدم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا التّوصيف مبنيّ على ما ذهب إليه النّظّام من أنّ الكذب عبارة عن عدم المطابقة للاعتقاد ، وإن كان مطابقا للواقع ، كما في الآية المباركة حيث إنّ ثبوت الرّسالة للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطابق للواقع.

(٢) أي وإن كان قولهم (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) مطابقا للواقع.

(٣) حاصل ما ذكره المصنّف ردّا لاستدلال النّظّام بالآية المذكورة يرجع إلى أمرين :

تقرير الأوّل : إنّ قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ليس منصبّا على قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كي يقال إنّهم كاذبون لعدم مطابقة قولهم اعتقادهم ، بل إمّا منصبّ على الخبر المستفاد من قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ،) لأنّ الشّهادة عبارة عن الإقرار الّذي يوافق به اللّسان القلب ، فالخبر المستفاد من قولهم : (نَشْهَدُ) هو ادّعاؤهم المواطأة أعني مطابقة القلب واللّسان مع عدم المطابقة في الواقع.

أو على إطلاقهم الشّهادة على قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وتسميّتهم قولهم هذا بالشّهادة بمعنى أنّ قولهم : إنّ قولنا هذا مسمّى الشّهادة كاذب لكونه غير مطابق للواقع لما عرفت من أنّ الشّهادة عبارة عن مطابقة القلب واللّسان.

فالمتحصّل هو منع رجوع التّكذيب إلى المشهود به هذا ما أشار إليه بقوله : «بأنّ المعنى لكاذبون في الشّهادة» أو «في تسميتها».

(٤) أي مطابقة القلب واللّسان.

__________________

(١) سورة (المنافقون) : ١.

١٩٥

فالتّكذيب راجع إلى الشّهادة (١) باعتبار تضمّنها (٢) خبرا كاذبا غير مطابق للواقع ، وهو أنّ هذه الشّهادة (٣) من صميم القلب وخلوص الاعتقاد بشهادة إنّ واللّام والجملة الاسميّة (٤) [أو] المعنى إنّهم لكاذبون [في تسميتها] أي في تسمية هذا الإخبار شهادة ، لأنّ الشّهادة ما يكون على وفق الاعتقاد فقوله : تسميتها مصدر مضاف إلى المفعول الثّاني ، والأوّل محذوف (٥) [أو] المعنى إنّهم لكاذبون [في المشهود به (٦)] أعني قولهم :] إنّك لرسول الله [، لكن لا في الواقع ، بل [في زعمهم] الفاسد (٧)

______________________________________________________

(١) مع أنّها إنشاء إلّا أنّ التّكذيب راجع إليها باعتبار تضمّنها خبرا.

(٢) أي الشّهادة.

(٣) وهذا الكلام بيان لكون الخبر المستفاد ضمنا من الشّهادة غير مطابق للواقع حيث إنّهم يدّعون أنّ هذه الشّهادة من صميم القلب وخلوص الاعتقاد مع أنّ الأمر ليس كذلك.

(٤) وهو قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ).

(٥) أي في تسمية هذا الإخبار شهادة.

(٦) هذا الكلام إشارة إلى الأمر الثّاني وهو الجواب الثّاني عن الاستدلال بالآية على ما ذهب إليه النّظّام.

وتقريره : إنّا نسلّم أنّ التّكذيب راجع إلى المشهود به ، ولكنّ المعنى أنّ قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كاذب ، لكونه مخالفا للواقع في زعمهم حيث إنّهم كانوا معتقدين بعدم رسالة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أنّه كاذب من جهة أنّه مخالف للواقع وما في نفس الأمر حتّى يقال : إنّ هذا غير صحيح ، لأنّ قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ليس مخالفا للواقع ، بل هو مطابق للواقع.

(٧) حاصل الكلام في المقام أنّ قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كاذب لا من جهة كونه غير مطابق لاعتقادهم ، بل من جهة كونه غير مطابق للواقع بحسب زعمهم واعتقادهم ، حيث إنّهم كانوا يزعمون عدم كون النّبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا من الله سبحانه ، فمعنى قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم : (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) بحسب عدم مطابقة قولهم للواقع بملاحظة ما عندهم من الاعتقاد المخالف ، فيكون غير مطابق للواقع باعتقادهم الفاسد ، فيكون كاذبا في اعتقادهم ، وإن كان صادقا في نفس الأمر.

١٩٦

واعتقادهم الباطل ، لأنّهم يعتقدون أنّه (١) غير مطابق للواقع فيكون كاذبا في اعتقادهم ، وإن كان صادقا في نفس الأمر فكأنّه قيل : إنّهم يزعمون أنّهم كاذبون في هذا الخبر الصّادق وحينئذ لا يكون الكذب إلّا بمعنى عدم المطابقة للواقع فليتأمّل (٢) ، لئلّا يتوهّم أنّ هذا اعتراف بكون الصّدق والكذب راجعين إلى الاعتقاد [والجاحظ] أنكر انحصار الخبر (٣) في الصّدق والكذب وأثبت الواسطة وزعم أنّ

______________________________________________________

(١) أي الخبر وهو (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) غير مطابق للواقع ، غاية الأمر عدم المطابقة للواقع إمّا باعتبار أنّه غير مطابق للواقع في نفس الأمر ، وإمّا باعتبار أنّه غير مطابق في اعتقادهم ، والمقام وإن كان من القسم الثّاني ، إلّا أنّ الكذب على كلا التّقديرين بمعنى عدم المطابقة للواقع ، وليس بمعنى عدم المطابقة للاعتقاد.

(٢) جواب لسؤال مقدّر ، تقدير السّؤال : إنّه يلزم ـ من قوله إنّهم لكاذبون في زعمهم ـ أن يكون الصّدق والكذب راجعين إلى الاعتقاد إذ في «زعمهم» بمعنى في اعتقادهم ، فهذا اعتراف بكون الصّدق والكذب باعتبار مطابقة الاعتقاد وعدمها كما يقول به النّظّام.

والجواب : إنّه فرق بين عدم المطابقة للواقع في اعتقادهم وبين عدم المطابقة لاعتقادهم ، فلا يكون ما ذكره المصنّف اعترافا لما ذهب إليه النّظّام للفرق الواضح بين الكذب لعدم المطابقة للاعتقاد كما ذهب إليه النّظّام ، وبين الكذب لعدم المطابقة للواقع بحسب الاعتقاد كما أجاب به المصنّف.

(٣) قول الشّارح : «أنكر» إشارة إلى أنّ «الجاحظ» مبتدأ وخبره محذوف وليس فاعلا لفعل مقدّر ، إذ لا يحذف رافع الفاعل إلّا في ثلاثة مواضع ، وليس المقام منها :

الأوّل : ما إذا وقع في جواب سؤال حقيقي كقولك : زيد ، في جواب من قال : من نصرك؟ أو تقديريّ كضارع في قوله : ليبك يزيد ضارع.

والثّاني : ما إذا وقع بعد إن الشّرطيّة كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ)(١)

والثّالث : ما إذا وقع بعد إذا الشّرطيّة كقوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)(٢). ثمّ المقام ليس من تلك المواضع فلا بدّ من الالتزام بكون «الجاحظ» مبتدأ و «أنكر» خبره.

__________________

(١) سورة التّوبة : ٦.

(٢) سورة الانشقاق : ١.

١٩٧

صدق الخبر [مطابقته] للواقع [مع الاعتقاد] بأنّه مطابق [و] كذب الخبر [عدمها] أي عدم مطابقته للواقع [معه] أي مع اعتقاد أنّه غير مطابق (١) [وغيرهما (٢)] أي غير هذين القسمين وهو أربعة ، أعني المطابقة مع اعتقاد عدم المطابق (٣) ، أو بدون الاعتقاد أصلا (٤) ، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة (٥) ، أو بدون الاعتقاد أصلا (٦) ، [ليس بصدق ولا كذب] فكلّ من الصّدق والكذب بتفسيره (٧) أخصّ منه (٨)

______________________________________________________

(١) فقد أخذ في تعريف كلّ من الصّدق والكذب قيدان ، ومن المعلوم أنّ المقيّد بالقيدين ينتفي بانتفاء أحدهما فينتفي الصّدق بانتفاء المطابقة للواقع أو الاعتقاد بها ، وينتفي الكذب بانتفاء عدم المطابقة للواقع بأن يكون الخبر مطابقا له أو بانتفاء الاعتقاد بأنّه غير مطابق للواقع بأن كان معتقدا بأنّه مطابق للواقع ، فقوله في تعريف الصّدق «مطابقته للواقع» قيد ، خرج به ما لا يكون مطابقا للواقع ، قوله «مع الاعتقاد» قيد آخر ، خرج به خبر الشّاكّ الّذي لا اعتقاد فيه أصلا ، وكذلك في تعريف الكذب قوله : «عدم المطابقة للواقع» قيد ، خرج به ما لا يكون مطابقا له ، قوله «مع الاعتقاد أنّه غير مطابق» قيد ، خرج به ما لا اعتقاد فيه أصلا ، أو هنا اعتقاد بأنّه مطابق للواقع ، فالصّدق قسم واحد ، والكذب كذلك ، والواسطة أربعة أقسام.

(٢) أي غير القسمين وهما الصّدق والكذب ليس بصدق ولا كذب فهو واسطة.

(٣) هذا هو القسم الأوّل من الأقسام الأربع ، مثاله : كقول الكافر : الإسلام حقّ.

(٤) كقول المجنون : العالم حادث ، هذا هو القسم الثّاني.

(٥) هذا هو القسم الثّالث ، مثاله كقول بعض الفلاسفة : العالم قديم.

(٦) أي عدم المطابقة مع عدم الاعتقاد أصلا ، كقول المجنون : العالم قديم ، هذا هو القسم الرّابع ، فهذه الأقسام واسطة بين الصّدق والكذب بمعنى أنّها ليست بصدق ولا كذب.

(٧) أي بتفسير الجاحظ.

(٨) أي من كلّ من الصّدق والكذب بالتّفسيرين السّابقين ، أعني تفسير الجمهور وتفسير النّظّام.

١٩٨

بالتّفسيرين السّابقين لأنّه (١) اعتبر في الصّدق مطابقة الواقع والاعتقاد جميعا ، وفي الكذب عدم مطابقتهما جميعا بناء (٢) على أنّ اعتقاد المطابقة يستلزم مطابقة الاعتقاد ضرورة توافق الواقع والاعتقاد حينئذ (٣) ، وكذا اعتقاد عدم المطابقة يستلزم عدم مطابقة

______________________________________________________

(١) أي لأنّ الجاحظ «اعتبر في الصّدق مطابقة الواقع والاعتقاد جميعا ، وفي الكذب عدم مطابقتهما جميعا» ولازم ذلك هو كون كلّ من الصّدق والكذب بتفسيره أخصّ منهما في تفسير الجمهور والنظّام لأنّ زيادة التّقييد توجب زيادة الخصوصيّة.

(٢) جواب سؤال مقدّر ، تقريب السّؤال : إنّ ما تقدّم من الشّارح ـ من أنّ كلّ من الصّدق والكذب بتفسيره أخصّ منه بالتّفسيرين السّابقين ـ وإن كان صحيحا بالنّسبة إلى تفسير الجمهور حيث يكون كلّ منهما بتفسير الجاحظ أخصّ منهما بتفسيرهم إلّا أنّه غير صحيح بالإضافة إلى تفسير النّظّام ، لأنّ النّسبة بين تفسير الجاحظ وتفسير النّظّام هي التّباين الكلّي ، وليست عموما مطلقا. لأنّ الصّدق في تفسير الجاحظ اعتقاد المطابقة ، وفي تفسير النّظّام مطابقة الاعتقاد ، وبينهما تغاير ، وكذا في الكذب ، لأنّه في تفسير الجاحظ عدم اعتقاد المطابقة ، وفي تفسير النّظّام عدم مطابقة الاعتقاد ، وتغايرهما أوضح من الشّمس.

فإذا كان التّغاير بين الشّيئين لم يكن بينهما عموم وخصوص مطلقا.

وحاصل الجواب : إنّ كلّ من الصّدق والكذب على تفسير النّظّام أعمّ من كلّ منهما على تفسير الجاحظ ، وذلك بناء على أنّ اعتقاد المطابقة يستلزم مطابقة الاعتقاد ، لأنّ الخاصّ يستلزم العام ، فيقال : كلّ إنسان حيوان.

(٣) أي حين اعتقاد مطابقة الخبر للواقع والحال ، إنّ الخبر مطابق للواقع كما هو مذهب الجاحظ ، فقوله : «ضرورة توافق ...» علّة لاستلزام اعتقاد المطابقة لمطابقة الاعتقاد ، دون العكس أي مطابقة الاعتقاد ، كما هو مناط الصّدق عند النّظّام لا يستلزم اعتقاد المطابقة للواقع ، إذ ربّما يكون الخبر مطابقا للاعتقاد ، ولا يكون مطابقا للواقع ، وبالجملة إنّ مناط الصّدق عند الجاحظ : هو مطابقة الخبر للواقع مع الاعتقاد بأنّه مطابق له ، فحينئذ إذا كان الخبر مطابقا للواقع واعتقد المخبر مطابقته له فقد توافق الواقع والاعتقاد ، فمطابق أحدهما مطابق للآخر ، وقس عليه اعتقاد عدم المطابقة حيث يستلزم عدم مطابقة الاعتقاد ، أي اعتقاد عدم مطابقة الخبر للواقع وإن لم يكن الخبر مطابقا له ، يستلزم عدم مطابقة

١٩٩

الاعتقاد وقد اقتصر (١) في التّفسيرين السّابقين على أحدهما (٢) [بدليل (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)(١)] (٣) لأنّ الكفّار (٤) حصروا إخبار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحشر (٥) والنّشر (٦)

______________________________________________________

الاعتقاد ، وذلك لتوافق الواقع والاعتقاد حينئذ ، وعدم المطابقة لأحد المتوافقين يستلزم عدم مطابقة الآخر.

(١) قوله : «وقد اقتصر» إمّا عطف على «اعتبر» أو حال عن مفعوله.

(٢) أي على اعتبار مطابقة الواقع عند الجمهور أو الاعتقاد عند النّظام.

(٣) أي استدلّ الجاحظ بدليل قوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ، أَفْتَرى) كان أصله (أافترى) وكانت الهمزة الأولى استفهاميّة والثّانيّة للوصل ، فحذفت الثّانيّة للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام ، ولم يعكس الأمر ، لأنّ الأولى علامة ، والعلامة لا تتغيّر.

(٤) علّة لكون قوله تعالى دليلا على ما ادّعاه الجاحظ من ثبوت الواسطة ، وتقريب الاستدلال بالآية على الواسطة : إنّ الكفّار حصروا إخبار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحشر والنّشر في الافتراء والإخبار حال الجنّة على سبيل منع الخلوّ ، فيكون الإخبار حال الجنّة مغايرا للكذب لا محالة ، لأنّه قسيمه وهو غير الصّدق أيضا ، لأنّ الكفّار لا يعتقدون أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق ، بل اعتقدوا عدم صدقه ، فحينئذ يكون الإخبار حال الجنّة واسطة بين الصّدق والكذب ، وهو ما قال به الجاحظ.

(٥) الحشر : هو سوق الخلق للحساب يوم القيامة.

(٦) هو الإحياء بعد الموت ، وتقييد إخبار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحشر والنّشر إنّما هو لبيان الواقع لا لتوقّف الاستدلال عليه ، حيث إنّهم لمّا استبعدوا الحشر والنّشر حصروا إخبار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهما على الافتراء والإخبار حال الجنّة ، والدّليل على ذلك قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ٧ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ)(٢) فإنّ هذه الآية الكريمة ناطقة على أنّهم لمّا استبعدوا إخبار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحشر والنّشر حصروا إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهما على الأمرين المذكورين.

__________________

(١) سورة السّبأ : ٨.

(٢) سورة السّبأ : ٨.

٢٠٠