دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

عن معارضته (١) [وما يقرب منه] عطف على قوله : وهو ، والضّمير في ـ منه ـ عائد إلى أعلى يعني أنّ الأعلى مع ما يقرب منه كلاهما حدّ الإعجاز (٢) ، هذا (٣) هو الموافق لما في المفتاح ، وزعم بعضهم أنّه (٤) عطف على حدّ الإعجاز والضّمير في ـ منه ـ عائد إليه (٥) ، يعني أنّ الطّرف الأعلى هو حدّ الإعجاز وما يقرب من حدّ الإعجاز (٦).

وفيه نظر ، لأنّ القريب من حدّ الإعجاز لا يكون من الطّرف الأعلى الّذي هو حدّ

______________________________________________________

يمكن لغير الله أن يأتي بكلام هو في الطّرف الأعلى من البلاغة ، لأنّ معرفة عدد الأحوال وكيفيّتها ورعاية مقتضيات الأحوال بحسب المقامات أمر لا تعلّق له بعلم البلاغة ولا يستفاد منه.

(١) أي الكلام.

(٢) غاية الأمر أنّ الأوّل : حدّ لا يمكن للبشر أن يعارضوه كالبلاغة القرآنيّة.

والثّاني : حدّ لا يمكنهم أن يتجاوزوه كالبلاغة في كلام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمعنى حينئذ أنّ الطّرف الأعلى مع ما يقرب منه في البلاغة حدّ الإعجاز.

(٣) أي كون الطّرف الأعلى وما يقرب منه حدّ الإعجاز «هو الموافق لما في المفتاح».

وحاصل ما في المفتاح : أنّ البلاغة تتزايد إلى أن تبلغ حدّ الإعجاز ، وهو الطّرف الأعلى ، وما يقرب منه ، أي الطّرف الأعلى فإنّ الطّرف الأعلى وما يقرب منه كلاهما حدّ الإعجاز لا هو وحده ، وبعبارة أخرى «هذا» أي الإعراب المقتضي أن يكون كلاهما حدّ الإعجاز لا هو وحده.

(٤) أي ما يقرب منه.

(٥) أي إلى حدّ الإعجاز.

(٦) وظاهره أنّ للطّرف الأعلى فردان ، أحدهما : هو حدّ الإعجاز ، وثانيهما ما يقرب من حدّ الإعجاز.

وهذا الظّاهر فاسد لأنّ ما يقرب منه ليس من الطّرف الأعلى حقيقيّا كان أو نوعيّا ، بل إنّما يكون من المراتب العليّة إذ ما يقرب من مرتبة الإعجاز ليس داخلا فيها ، حتّى يقال : إنّه من الطّرف الأعلى ، وهذا ما تأتي الإشارة إليه في قوله «وأوضحنا ذلك في الشّرح» والمراد من الشّرح هو كتاب المطوّل.

١٦١

الإعجاز وقد أوضحنا ذلك (١) في الشّرح [وأسفل (٢) وهو ما إذا غيّر] الكلام [عنه (٣) إلى ما دونه] أي إلى مرتبة أخرى هي أدنى منه (٤) وأنزل [التحق] الكلام وإن كان صحيح الإعراب (٥)

______________________________________________________

(١) أي النّظر ، وقد عرفت النّظر والإشكال فلا حاجة إلى ما ذكره ثانيا ، وفي الوشاح ما هذا لفظه : التّحليل الصّحيح للعبارة هكذا : لبلاغة الكلام طرفان : أعلى وما يقرب من الأعلى طرف ، وأسفل طرف آخر ، ويكون حدّ الإعجاز هو الأعلى بنفسه ، وأعلى طبقات الفصاحة والبلاغة في كلام أعاظم البلغاء من البشر ممّا يقرب من الطّرف الأعلى نزولا بمقام البشر ، ومهما عظموا في أقوالهم عن مقام الله سبحانه ، لا أنّ الأعلى مع ما يقرب منه جميعا من حدّ الإعجاز ، لأنّه لا معنى لأن يقال للكلام هو معجز ، ولكنّه ليس من الطّرف الأعلى بل ممّا يقرب منه ، إلّا أن يقال : إنّ الإعجاز ممّا يقبل الشّدّة والضّعف فيكون الطّرف الأعلى معجزا وما يقرب من الطّرف الأعلى معجزا أيضا. وعليه فلا يجوز أن يقال لكلام المخلوق ومهما بلغ في ارتفاعه هو من أعلى طبقات البلاغة ، كما يتداول هذا القول من كثير في كثير ، لأنّ حريم الإعجاز يجب أن يكون مصونا عن تطرّق البشر ، انتهى.

(٢) عطف على قوله : «أعلى» فمعنى العبارة أنّ للبلاغة طرفان أعلى وأسفل.

(٣) أي عن الأسفل.

(٤) أي من الأسفل.

(٥) كان الأولى أن يقول : وإن كان فصيحا ، وذلك لأنّ ما ذكره يوهم أنّ الكلام إذا كان فصيحا لا يلتحق بأصوات الحيوانات عند البلغاء ، وإن لم يكن مطابقا لمقتضى الحال ، وليس الأمر كذلك ، فإنّ ما لا يكون واجدا للمطابقة ساقط عن درجة الاعتبار عندهم وإن كان واجدا للفصاحة ، فحينئذ كان الأحسن أن يقول : وإن كان فصيحا ، إذ يعلم منه ما ذكره بطريق أولى ، لأنّه إذا التحق بأصوات الحيوانات عند عدم كونه مطابقا لمقتضى الحال مع فصاحته ، فمع عدم كونه صحيح الإعراب المستلزم لعدم الفصاحة بطريق أولى. وبعبارة أخرى أنّه إذا التحق بأصوات الحيوانات عند عدم كونه مطابقا لمقتضى الحال مع فصاحته ، فمع عدم فصاحته يلتحق بها بطريق أولى وإن كان صحيح الإعراب عند البلغاء.

١٦٢

[عند البلغاء بأصوات الحيوانات (١)] الّتي تصدر عن محالّها (٢) بحسب ما يتّفق (٣) من غير اعتبار (٤) اللّطائف والخواصّ الزّائدة على أصل المراد [وبينهما] أي بين الطّرفين (٥) [مراتب كثيرة] متفاوتة بعضها أعلى من بعض (٦) بحسب (٧) تفاوت المقامات

______________________________________________________

(١) يمكن أن يقال : إنّ ما ذكره من التّعريف للأسفل غير مانع ، لأنّه يشمل للطّرف الأعلى والوسط أيضا ، لأنّ ما يكون دون الأسفل وأنزل منه يكون دون الأعلى والوسط أيضا بقياس المساواة ، فعليه يصدق على كلّ واحد منهما أنّه مرتبة من البلاغة إذا غيّر الكلام عنه إلى ما دونه يلتحق بأصوات الحيوانات. فالتّعريف المذكور غير مانع ، مع أنّ التّعريف يجب أن يكون مانعا كما يجب أن يكون جامعا. ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ المراد بقوله : «ما دونه» ما يكون تحته ملاصقا له ومتّصلا به ، كما في القاموس ، فلا يشمل الأعلى والوسط ، لأنّ الكلام إذا غيّر إلى ما يتّصل بهما لا يخرج عن دائرة البلاغة حتّى يلتحق بأصوات الحيوانات عند البلغاء.

(٢) أي الحيوانات غير الإنسان لأنّها محالّ الأصوات الغير المعتمدة على مخارج الحروف.

(٣) متعلّق بقوله «تصدر» وكلمة «ما» إمّا موصولة وإمّا مصدريّة. فيكون المعنى على الأوّل تصدر الأصوات عن محالّها بحسب الأمور الّتي تتّفق مع تلك الأصوات من دون أن تقتضي هذه الأمور لها. وعلى الثّاني بحسب اتّفاق الأصوات وحصولها بلا علّة مقتضية لها.

(٤) قوله : «من غير اعتبار» متعلّق بقوله «تصدر» وبيان للصّدور بحسب الاتّفاق ، المراد ب «اللّطائف» مقتضيات الأحوال كالتّأكيد والتجريد والحذف والإضمار وغيرها. و «الخواصّ» عطف تفسيريّ ل «اللّطائف». وحاصل المعنى : إنّ الكلام إذا غيّر عن الأسفل إلى ما دونه التحق بأصوات الحيوانات الّتي تصدر عن أصحابها بحسب الاتّفاق ، أي بدون اعتبار اللّطائف والخواصّ الزّائدة على أصل المراد.

(٥) أي الأعلى والأسفل.

(٦) أي بعض المراتب أعلى من بعض ، فيكون قوله : «بعضها أعلى من بعض» بيانا للتّفاوت.

(٧) متعلّق بقوله «متفاوتة» فالمعنى أنّ المراتب الكثيرة متفاوتة بحسب تفاوت المقامات كمّا وكيفا.

١٦٣

ورعاية الاعتبارات (١) والبعد (٢) من أسباب الإخلال بالفصاحة (٣) [وتتبعها] أي بلاغة الكلام [وجوه أخر (٤)] سوى المطابقة والفصاحة

______________________________________________________

والأوّل : بأن تكون مقامات وأحوال كلام بالنّسبة إلى شخص أكثر من مقامات وأحوال كلام آخر ، بالإضافة إلى شخص آخر ، كما إذا فرضنا لشخص وجود عشرة أحوال ، ولآخر تسعة أحوال.

والثّاني : بأن يقتضي بعض المقامات تأكيدا واحدا وبعضها أكثر ، كما إذا فرضنا لشخص وجود إنكار ضعيف ، ولآخر إنكار شديد.

(١) قوله : «ورعاية الاعتبارات» عطف على «المقامات» ، وهذا العطف إنّما هو من قبيل المقتضى ـ بالفتح ـ على المقتضي ـ بالكسر ـ ، ويكون للتّنبيه على أنّ مجرّد تفاوت المقامات لا يوجب تفاوت درجات البلاغة ، بل إنّما يوجب ذلك مع رعاية الاعتبارات كثرة وقلّة ، بمعنى أنّ رعاية الخصوصيّتين في كلام يوجب كون بلاغته أعلى من بلاغة كلام روعيت فيه خصوصيّة واحدة ، ورعاية ثلاث خصوصيّات في كلام يوجب كون بلاغته أعلى من كلام روعيت فيه خصوصيّتان ، وهكذا.

(٢) عطف على «المقامات».

(٣) حاصل الكلام : إنّ تفاوت الكلامين في البلاغة ، كما هو بواسطة تفاوت المقامات مع رعاية الاعتبارات ، كذلك يكون بواسطة تفاوت البعد عن أسباب الإخلال بالفصاحة ، كما لو كان هناك كلام مطابق لمقتضى الحال ، وكان خاليا عن الثّقل بالكلّيّة كقولك : أنا أثنيه عند قصد التّخصيص لكون الحال يقتضيه ، وكان هناك كلام آخر كذلك ، إلّا أنّه مشتمل على شيء يسير من الثّقل كقولك : أنا أمدحه عند التّخصيص لكون الحال يقتضي ذلك ، فالكلام الأوّل أعلى درجة من ناحية البلاغة من الكلام الثّاني لكون الأوّل بعيدا من أسباب الإخلال بالفصاحة لعدم اشتماله على شيء من قبيل الثّقل بخلاف الثّاني حيث يكون مشتملا على شيء من الثّقل النّاشئ عن قرب المخرج بين الحاء والهاء ، وإن لم يكن على نحو يوجب الإخلال بالفصاحة.

(٤) وهي المحسّنات البديعيّة. وللعلّامة المرحوم الشّيخ موسى البامياني رحمه‌الله كلام لا يخلو عن فائدة ، حيث قال ـ ما هذا لفظه ـ : قد يقال : إنّ توصيف الوجوه بالأخريّة لا فائدة فيه ، لأنّه معلوم من قوله : «وتتبعها» ، ضرورة أنّ التّابع غير المتبوع ، ومعلوم أنّ

١٦٤

[تورث الكلام حسنا (١)] وفي قوله : تتبعها إشارة إلى أنّ تحسين هذه الوجوه للكلام عرضيّ خارج عن حدّ البلاغة (٢) ، وإلى أنّ هذه الوجوه إنّما تعدّ محسّنة بعد رعاية

______________________________________________________

ما يكون مغايرا للمتبوع أي البلاغة في المقام مغاير للفصاحة والمطابقة لا محالة ، لأنّهما عينها ، والفرق إنّما هو بالإجمال والتّفصيل ، هذا مع أنّ فيه إيهام أنّ الفصاحة والمطابقة أيضا تتبعان البلاغة ، فإنّ المتبادر منه أنّ وجوها سوى المطابقة والفصاحة تتبعها كما أنّهما تتبعانها ، ومعلوم أنّ البلاغة عينهما لا أنّها مستتبعة لهما.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنّ البلاغة كما أنّها متقوّمة بهما ، كذلك متقوّمة برعاية الخصوصيّات ، لأنّ مجرّد كون الكلام فصيحا ومطابقا لمقتضى الحال لا يوجب كونه بليغا ، بل لا بدّ في كونه بليغا من أن يراعي المتكلّم الخصوصيّة الّتي يقتضيها الحال ويلاحظها ، ويأتي بها عن ملاحظة وقصد كونها ممّا يقتضيها الحال ، كما يدلّ على ذلك ما ذكره الشّارح عند تفسير قول المصنّف : «والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال» من قوله : «المراد بالحال : الأمر الدّاعي إلى التّكلّم على وجه خاصّ إلى أن يعتبر مع الكلام الّذي يؤدّى به أصل المعنى خصوصيّة ما ، وهو مقتضى الحال» فإنّ قوله : «أن يعتبر» ينادي بأعلى صوته بأنّ مجرّد اشتمال الكلام على الخصوصيّة لا يكفي في تحقّق البلاغة ، بل لا بدّ من كون الخصوصيّة متقمّصة بقميص اللّحاظ والاعتبار ، فعندئذ لا غائلة في توصيف الوجوه بالأخريّة ، وذلك لأنّ الفصاحة والمطابقة ليستا عين البلاغة بل تكونان جزأين لها حيث إنّها متقوّمة عليهما ورعاية الخصوصيّات ، فهما أيضا من التّوابع ، حيث إنّ الجزء من توابع الكلّ ، فالتّوصيف لا يكون مستغنى عنه ، إذ غاية ما يستفاد من «تتبعها» كون الوجوه مغايرة للبلاغة ، ولا يستفاد أنّها مغايرة لهما ، فإنّ هذه الاستفادة متوقّفة على حديث العينيّة وقد عرفت فساده ، فإفادة مغايرتها لهما حقّ طلق للتّقييد بالأخريّة ، انتهى.

ثمّ قوله : «وتتبعها وجوه أخر» إشارة إلى الاحتياج إلى علم البديع.

(١) أي تزيده حسنا فيكون قوله : «حسنا» منصوبا على التّمييز عن النّسبة الإيقاعيّة.

(٢) أي خارج عن تعريف البلاغة ، فيكون ما يوجب التّحسين أعني «الوجوه» غير مأخوذ في تعريف البلاغة. وقوله : «خارج» تفسير لقوله : «عرضيّ» وهو خبر أنّ.

١٦٥

المطابقة والفصاحة (١) وجعلها (٢) تابعة لبلاغة الكلام دون المتكلّم ، لأنّها ليست ممّا يجعل المتكلّم متّصفا بصفة [و] البلاغة [في المتكلّم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ (٣)]

______________________________________________________

(١) لأنّ هذه الوجوه تابعة للبلاغة ، ومن المعلوم أنّ المتبوع والأصل مقدّم على التّابع والفرع ، ثمّ البلاغة تتوقّف على رعاية المطابقة والفصاحة ، وهما مقدّمان عليها ، فالوجوه التّابعة للبلاغة متأخّرة عن رعاية المطابقة والفصاحة فلا تكون محسّنة إلّا بعد رعايتهما.

وحاصل الكلام في المقام أنّ قوله : «تتبعها» كما أنّه إشارة إلى خروج تحسين الكلام بالوجوه عن تعريف البلاغة ، كذلك إشارة إلى تأخّر تحسين الكلام بها عن رعاية المطابقة والفصاحة.

(٢) قوله : «وجعلها» أي تلك الوجوه جواب لسؤال مقدّر ، والتّقدير لماذا خصّص الوجوه بالكلام وجعل تابعة له بقوله : «تورث الكلام حسنا».

وحاصل الجواب : أنّ جعلها تابعة لبلاغة الكلام دون المتكلّم لأنّها تجعل الكلام متّصفا بصفة التّجنيس والتّطبيق والتّرصيع ، فيقال في عرفهم هذا الكلام مجنّس ومطبّق ومرصّع ، ولا يقال عندهم ـ بعد إيراد المتكلّم الكلام المجنّس أو المطبّق أو المرصّع ـ : أنّه مجنّس ومطبّق ومرصّع. نعم ، إنّ المتكلّم يوصف بكونه مجنّسا ومطبّقا ومرصّعا لغة.

وبالجملة إنّه لمّا كانت تلك الوجوه مناسبة لبلاغة الكلام جعلت تابعة لها وإن كان تحسين الكلام مستلزما لتحسين المتكلّم ، ثمّ توضيح الكلام في معنى الأمور المذكورة يأتي في علم البديع ، فانتظر أو راجع إليه.

(٣) حاصل الكلام في المقام أنّ البلاغة في المتكلّم عبارة عن ملكة يتمكّن بتلك الملكة على تأليف كلام بليغ أيّ كلام بليغ كان. لأنّ النّكرة وإن كانت في سياق الإثبات إلّا أنّها موصوفة ، فتفيد العموم. وقد يقال : إنّ النّكرة في سياق الإثبات وإن كانت مفيدة للعموم إلّا أنّ العموم ليس استغراقيّا ، بل هو بدليّ ، فحينئذ يصدق التّعريف على من له ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ في نوع خاصّ من المعاني كالمدح دون آخر كالذّمّ مثلا ، مع أنّه لا يقال له بليغ عندهم ، فإنّهم قد صرّحوا بأنّ البليغ من له ملكة يقتدر بها على كلام بليغ في كلّ معنى يتعلّق به قصده ، فالتّعريف لا يكون مانعا لصدقه على من يقتدر بكلام بليغ في مورد خاصّ دون سائر الموارد ، مع أنّه لا يسمّى بليغا عندهم.

١٦٦

[فعلم] ممّا تقدّم (١) [أنّ كلّ بليغ] كلاما كان أو متكلّما على سبيل استعمال المشترك في معنييه (٢) أو على تأويل كلّ ما يطلق عليه لفظ البليغ (٣) [فصيح] لأنّ الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة مطلقا (٤)

______________________________________________________

وقد ظهر الجواب عنه بما ذكرناه من أنّها تفيد العموم الاستغراقي إذا كانت موصوفة كما في قولك : أكرم رجلا عالما ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث تكون النّكرة ـ أعني الكلام ـ موصوفة بوصف البلاغة فتفيد العموم الشّمولي بالقياس إلى جميع مصاديق الوصف ، فلا وجه لتوهّم عدم الشّمول.

فالمعنى حينئذ والبلاغة في المتكلّم : ملكة يقتدر بها على تأليف أيّ كلام بليغ يتعلّق به قصده ، ثمّ المراد بالعموم هو الاستغراق العرفي ، فلا يرد عليه ما قيل : من أنّ من جملة الكلام البليغ هو القرآن ، مع أنّ المتكلّم لا يقدر على الإتيان بمثله ، فلا يصدق التّعريف على من لا يتمكّن أن يأتي بمثل القرآن ، فلا يكون التّعريف جامعا لاختصاصه بالله تعالى وأنبيائه.

ولكنّ الإنصاف أن يقال : إنّ البلاغة في المتكلّم مقيّدة بقيد الاقتدار فيخرج القرآن بالقيد المذكور ، لعدم اقتدار المتكلّم بالإتيان بمثل القرآن.

(١) أي ممّا تقدّم من تعريف البلاغة والفصاحة ، فيكون قوله : «فعلم» تفريعا على ما تقدّم من تعريف أقسام الفصاحة والبلاغة ، ويكون المقصود منه هنا هو بيان النّسبة بين البليغ والفصيح بعد تعريفهما ، وبيان مرجع البلاغة ، وبيان الحاجة إلى الفنون الثّلاثة ، وانحصار الفنون في الثّلاثة.

(٢) أي يصحّ إطلاق البليغ على الكلام والمتكلّم معا في استعمال واحد ، بناء على القول بجواز استعمال اللّفظ المشترك في معنييه ، فإنّ البليغ موضوع للكلام والمتكلّم بوضعين مختلفين فيكون البليغ مشتركا بين الكلام والمتكلّم.

(٣) يعني أو على تأويل البليغ بما يطلق عليه لفظ البليغ عند من لا يجوّز استعمال المشترك في معنييه بأن يكون أمرا كلّيّا تحته فردان ، فيكون البليغ من قبيل المشترك المعنوي الّذي يسمّى بالمتواطئ ، ثمّ إضافة تأويل إلى كلّ بيانيّة.

(٤) أي بلاغة كلام أو بلاغة متكلّم ، غاية الأمر إنّ الفصاحة مأخوذة في بلاغة الكلام

١٦٧

[ولا عكس] بالمعنى اللّغوي أي ليس كلّ فصيح بليغا (١) لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال (٢) وكذا يجوز أن يكون (٣) لأحد ملكة يقتدر بها على التّعبير عن المقصود بلفظ فصيح من غير مطابقة لمقتضى الحال (٤) [و] علم أيضا (٥) [أنّ البلاغة] في الكلام [مرجعها] أي ما يجب أن يحصل (٦) حتّى يمكن حصولها (٧) كما يقال : مرجع الجود إلى الغنى (٨)

______________________________________________________

على وجه الصّراحة ، وفي بلاغة المتكلّم بواسطة بلاغة الكلام ، لأنّ بلاغة المتكلّم لا تتحقّق إلّا ببلاغة كلامه المستلزمة للفصاحة.

(١) أي التّفسير إشارة إلى أنّ المراد بالعكس العكس اللّغوي لا الاصطلاحي المنطقي ، والفرق بينهما أنّ عكس الموجبة الكلّيّة موجبة كلّيّة عند اللّغوي وموجبة جزئيّة عند المنطقي ، وهي صادقة في المقام ، لأنّ بعض الفصيح بليغ ، فلا معنى لقوله : «ولا عكس» إذا كان المراد بالعكس العكس المنطقي لصدقه في المقام.

فلا بدّ أن يكون المراد به معناه اللّغوي وهو غير صادق في المقام ، لأنّ كلّ فصيح ليس ببليغ ، فصحّ حينئذ قوله : «ولا عكس».

(٢) بيان لانفراد فصاحة الكلام عن البلاغة ، بأن يكون الكلام فصيحا ، أي لا يكون فيه ضعف التأليف وتنافر الكلمات ، وكان غير مطابق لمقتضى الحال فيكون فصيحا فلا يكون بليغا.

(٣) بيان لانفراد فصاحة المتكلّم عن البلاغة.

(٤) كما إذا قال المتكلّم : إنّ زيدا قائم ، لمخاطب خاليّ الذّهن أصلا ، أي بأن لا يكون منكرا أصلا ، فالكلام المذكور فصيح ، وليس بليغا لعدم كونه مطابقا لمقتضى الحال ، فإنّ الحال يقتضي عدم التّأكيد ، فيكون المتكلّم بذلك الكلام فصيحا ولا يكون بليغا.

(٥) أي كما علم من تعريف البلاغة والفصاحة أنّ كلّ بليغ فصيح دون العكس ، وعلم أيضا أنّ مرجع البلاغة في الكلام إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.

(٦) أي تفسير المرجع بما يجب أن يحصل إشارة إلى أنّ المرجع اسم مصدر أو مصدر ميميّ بقرينة تعدّيه بإلى ، فيكون ما ذكره الشّارح تفسيرا لنتيجته لا لمفهومه الصّريح.

(٧) أي حصول البلاغة.

(٨) أي يجب أن يحصل الغنى حتّى يحصل الجود ، فإنّ الجود من دون الغنى مستحيل

١٦٨

[إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد (١)] وإلّا (٢) لربّما أدّى المعنى المراد بلفظ فصيح غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغا [وإلى تمييز] الكلام [الفصيح من غيره (٣)] وإلّا (٤) لربّما أورد الكلام المطابق لمقتضى الحال بلفظ غير فصيح فلا يكون أيضا بليغا لوجوب وجود الفصاحة في البلاغة. ويدخل (٥) في تمييز

______________________________________________________

عرفا لو لم يكن مستحيلا عقلا بمقتضى ما هو المعروف من أنّ فاقد الشّيء لا يعطيه ، أي لا يمكن أن يكون معطيا لذلك الشّيء.

والحاصل : إنّ المرجع هنا بمعنى ما يتوقّف عليه البلاغة ولو كان ذلك من باب توقّف المسبّب على السّبب ، كتوقّف الجود على الغنى في قولهم : (مرجع الجود إلى الغنى).

(١) المراد من «المعنى المراد» هي الأغراض الّتي يصاغ لها الكلام.

فالمتحصّل من الجميع : أنّ البلاغة مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، ولا يدخل فيه الاحتراز عن التّعقيد المعنوي حتّى يقال : لا يصحّ حينئذ قوله الآتي أعني «وما يحترز به عن التّعقيد المعنوي علم البيان» لأنّ الخطأ حينئذ إنّما هو في كيفيّة التّأدية ، فالاحتراز عن التّعقيد المعنوي احتراز عن الخطأ في كيفيّة التّأدية لا في نفس التّأدية.

نعم ، الاحتراز عن الخطأ في نفس التّأدية إنّما هو بعلم المعاني ، كما يأتي في قوله : «وما يحترز به عن الأوّل علم المعاني» والمراد من الأوّل هو الخطأ في تأدية المعنى المراد.

(٢) أي وإن لم يكن مرجع البلاغة إلى الاحتراز المذكور بأن انتفى وأدّى الكلام اتّفاقيّا كيفما حصل لجاز أن لا يكون الكلام مطابقا لمقتضى الحال فتنتفي البلاغة فلا يكون بليغا ، وهذا خلف إذ قد فرضناه بليغا.

(٣) حاصل الكلام : إنّ البلاغة مرجعها إلى الاحتراز المذكور وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره إذ لو لم يميّز الفصيح عن غيره لجاز أن يأتي المتكلّم بكلام غير فصيح ، فلا يكون بليغا أيضا ، وذلك لتوقّف البلاغة على الفصاحة.

(٤) أي وإن لم يحصل التّمييز أمكن أن يؤتى بكلام غير فصيح فتنتفي البلاغة أيضا لتوقّفها على الفصاحة ، كما أشار إليه بقوله : «لوجوب وجود الفصاحة في البلاغة» لأنّ البلاغة عبارة عن المطابقة مع الفصاحة ، فتقوّمها على الفصاحة يقتضي أنّ مرجعها إلى التّمييز ، كما أنّ تقوّمها على المطابقة يقتضي أنّ مرجعها إلى الاحتراز.

(٥) جواب عن سؤال مقدّر ، تقديره : إنّ ما ذكره المصنّف ـ بناء على كون المراد من

١٦٩

الكلام الفصيح من غيره تمييز الكلمات الفصيحة من غيرها لتوقّفه عليها [والثّاني (١)] أي تمييز الفصيح من غيره [منه] أي بعضه (٢) [ما يبيّن] أي يوضّح (٣) [في علم متن اللّغة (٤)] كالغرابة (٥) ، وإنّما قال : في علم متن اللّغة (٦) ، أي معرفة أوضاع المفردات

______________________________________________________

التّمييز تمييز الكلام الفصيح من غيره كما يقتضيه ما صنعه الشّارح ، حيث قدّر الكلام ، وجعل الفصيح صفة له ـ غير تامّ إذ ما ذكره المصنّف يقتضي عدم توقّف البلاغة في الكلام على تمييز الكلمات الفصيحة عن غيرها مع أنّها متوقّفة على الكلمات الفصيحة ، كما تتوقّف على الكلام الفصيح.

والجواب : إنّ تمييز الكلمات الفصيحة يدخل في تمييز الكلام الفصيح عن غيره ، لأنّ الكلام الفصيح يتوقّف على الكلمات الفصيحة على ما يستفاد من تعريف الكلام الفصيح ، فلا يمكن تمييز الكلام الفصيح إلّا بعد تمييز فصاحة كلماته.

هذا معنى قوله : «ويدخل في تمييز الكلام الفصيح من غيره تمييز الكلمات الفصيحة من غيرها لتوقّفه عليها» أي لتوقّف تمييز الكلام الفصيح على الكلمات الفصيحة.

(١) أي الثّاني من مرجعيّ البلاغة أعني تمييز الكلام الفصيح عن غيره في مقابل الأوّل ، وهو الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، كما أشار إلى ما ذكرناه بقوله : «أي تمييز الفصيح من غيره».

(٢) أي بعض التّمييز ، والتّفسير إشارة إلى كون (من) في قوله : «منه» للتّبعيض.

(٣) إنّ تفسير «يبيّن» بقوله «يوضّح» إشارة إلى أنّ المراد من قوله : «يبيّن» ليس ما هو ظاهره ، إذ ظاهره هو الاستدلال ، وليس أن يستدلّ في علم اللّغة على أنّ في هذا اللّفظ غرابة ، بل تذكر فيه الألفاظ المأنوسة ، ويوضّح منه أنّ ما عداها غريب ، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

(٤) أي في علم أصل اللّغة ، لأنّ المتن يطلق على الأصل كما هو المراد هنا ، فإضافة «متن» إلى «اللّغة» بيانيّة ، أي المتن هو اللّغة.

نعم ، قد يطلق المتن على الظّهر ، إلّا أنّ هذا المعنى غير مراد في المقام.

(٥) أي تمييز السّالم من الغرابة عن غيره يبيّن في أصل اللّغة.

(٦) أي زاد لفظ «متن» ، ولم يقل علم اللّغة ، لأنّ علم اللّغة عامّ يشمل النّحو والصّرف ،

١٧٠

لأنّ اللّغة أعمّ من ذلك (١) ، يعنى به (٢) : يعرف تمييز السّالم من الغرابة عن غيره ، بمعنى أنّ من تتبّع الكتب المتداولة وأحاط بمعاني المفردات المأنوسة ، علم (٣) أنّ ما عداها ممّا يفتقر إلى تنقير أو تخريج فهو غير سالم من الغرابة (٤) ، وبهذا (٥) تبيّن فساد ما قيل : إنّه ليس في علم متن اللّغة أنّ بعض الألفاظ ممّا يحتاج في معرفته إلى أن يبحث عنه في الكتب المبسوطة في اللّغة

______________________________________________________

وهو غير مقصود في المقام ، لأنّ المقصود من اللّغة هو المعنى الخاصّ ، أي ما تعرف به أوضاع المفردات كما أشار إليه بقوله : «أي معرفة أوضاع المفردات» حيث يكون التّفسير المذكور إشارة إلى أنّ المراد باللّغة هو المعنى بالأخصّ.

(١) أي من المعنى الأخصّ ، لأنّه يطلق على جميع أقسام العلوم العربيّة.

(٢) أي بعلم متن اللّغة ، وبعبارة أخرى يعني بمعرفة أوضاع المفردات ، فيمكن أن يكون جوابا عن سؤال مقدّر ، والتّقدير إنّ ظاهر كلام المصنّف يقتضي أنّ علم متن اللّغة يبيّن فيه أنّ هذا اللّفظ مثل تكأكأتم غريب مع أنّه لم يذكر في اللّغة أصلا.

والجواب : إنّ مراد المصنّف بكون الغرابة تبيّن في متن اللّغة ، إنّ بهذا العلم يعرف السّالم من الغرابة من غيره «بمعنى أنّ من تتبّع الكتب المتداولة» أي المشهورة في اللّغة.

(٣) جواب «من» في قوله «من تتبّع».

(٤) أي ما يفتقر إلى تنقير أي إلى التّتبّع والبحث مثل تكأكأتم أو ما يفتقر إلى تخريج ، أي إلى أن يخرج له وجه بعيد ك «مسرّجا» في قول ابن العجاج ، فهو غير سالم عن الغرابة.

والحاصل إنّ من تتبّع الكتب المتداولة كالصّحاح والقاموس ونحوهما ، وأحاط بمعاني المفردات المأنوسة يعلم أنّ ما عداها ممّا يفتقر إلى بحث وتفتيش لعدم وجوده في المكتب المشهورة ، أو ما يفتقر إلى تخريج ، غريب ، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

(٥) أي بما ذكره الشّارح بقوله : «بمعنى أنّ من تتبّع الكتب المتداولة ... تبيّن فساد ما قيل» اعتراضا على المصنّف من أنّه ليس في علم اللّغة من البيان المذكور أثر أصلا ، إذ ما يبيّن فيه هو معاني الألفاظ المفردة ، وأمّا كون بعض الألفاظ يحتاج إلى تفتيش أو تخريج ، فلم يقع ذلك في كتاب من كتب اللّغات.

وجه فساد ما قيل : إنّ المتتبّع في كتب اللّغات بعد ما عرف وأحاط بمعاني المفردات المأنوسة يعلم أنّ ما عداها غير سالم من الغرابة ، إذ الأشياء تعرف بأضدادها.

١٧١

[أو] في علم [التّصريف (١)] كمخالفة القياس ، إذ به (٢) يعرف أنّ الأجلل مخالف للقياس دون الأجلّ [أو] في علم [النّحو] كضعف التّأليف (٣) والتّعقيد اللّفظي (٤) [أو يدرك بالحسّ (٥)] كالتّنافر (٦) ، إذ به يعرف أنّ مستشزرا متنافر دون مرتفع ، وكذا تنافر الكلمات [وهو] أي ما يبيّن في العلوم المذكورة أو يدرك بالحسّ فالضّمير (٧) عائد إلى ما ،

______________________________________________________

(١) قوله : «أو في علم التّصريف» عطف على قوله : «علم متن اللّغة» وقس عليه قوله : «أو في علم النّحو» ومعنى كلامه حينئذ «الثّاني منه ما يبيّن في علم متن اللّغة» ومنه ما يبيّن في علم التّصريف ، ومنه ما يبيّن في علم النّحو.

(٢) أي بعلم الصّرف لا بغيره «يعرف أنّ الأجلل» بفكّ الإدغام مخالف للقياس ، لأنّ مقتضى القياس المستنبط بالاستقراء من قوانين اللّغة وهو وجوب الإدغام ، إذ من قواعدهم أنّ المثلين إذا اجتمعا في كلمة واحدة ، وكان الثّاني منهما متحرّكا ، ولم يكن زائدا لغرض ، وجب الإدغام. ثمّ تقديم الظّرف أعني «به» على متعلّقه أعني «يعرف» يفيد الحصر.

(٣) وهو الإضمار قبل الذّكر ، نحو : ضرب غلامه زيدا.

(٤) إنّما يحصل ذلك باجتماع أمور كلّ واحد منها خلاف الأصل ، كتقديم المفعول على الفاعل ، وتقديم المستثنى على المستثنى منه وتقديم الحال على ذي الحال.

وحاصل الكلام : أنّه يبيّن في علم النّحو أنّ الأصل تقديم الفاعل على المفعول ، وتقديم المستثنى منه على المستثنى ، وتقديم ذي الحال على الحال ، والعكس في الجميع على خلاف الأصل ، فالتّعقيد اللّفظي الحاصل بكثرة مخالفة الأصل لا يعرف إلّا بعلم النّحو.

(٥) عطف على قوله «يبيّن» ثمّ المراد بالحسّ هو الذّوق السّليم الّذي هو كالحسّ ، ويحتمل أن يكون المراد به حسّ السّمع. فحاصل كلام المصنّف : إنّ تمييز كلام الفصيح من غيره منه ما يبيّن في العلوم الثّلاث ، ومنه ما يدرك متعلّقه بالحسّ ، إذ ما يدرك بالحسّ هو التّنافر وهو متعلّق للتّمييز والمعرفة.

(٦) أي كتنافر الحروف مثل قوله : «وليس قرب قبر حرب قبر».

(٧) أي الضّمير في قوله : «وهو» عائد إلى «ما» في قوله : «ما يبيّن» ، فيكون معنى كلام المصنّف أنّ ما يبيّن في العلوم المذكورة أو يدرك بالحسّ هو ما عدا التّعقيد المعنوي.

١٧٢

ومن زعم أنّه (١) عائد إلى ما يدرك بالحس فقد سها سهوا ظاهرا (٢). [ما عدا التّعقيد المعنوي] إذ لا يعرف بتلك العلوم ولا بالحسّ تمييز السّالم من التّعقيد المعنوي من غيره ، فعلم (٣) أنّ مرجع البلاغة بعضه مبيّن في العلوم المذكورة وبعضه مدرك بالحسّ ، وبقي الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد والاحتراز عن التّعقيد المعنوي (٤) ، فمسّت (٥) الحاجة إلى وضع علمين مفيدين

______________________________________________________

(١) أي الضمير.

(٢) وجه كون السّهو ظاهرا ، أنّ معنى العبارة حينئذ : إنّ ما يدرك بالحسّ هو ما عدا التّعقيد المعنوي ، أي التّعقيد المعنوي لا يدرك بالحس ، ويدرك ويعرف بالعلوم المذكورة مع أنّه لا يعرف بالعلوم المذكورة كما لا يدرك بالحسّ ، ويلزم منه أيضا أن يكون التّعقيد اللّفظي وضعف التّأليف ومخالفة القياس ممّا يدرك بالحسّ ، إذ ظاهره أنّ ما عدا التّعقيد المعنوي يدرك بالحسّ ، وليس الأمر كذلك ، إذ ما يدرك بالحسّ هو التّنافر فقط ، فالصّحيح أن يكون الضّمير عائدا إلى «ما» في قوله : «ما يبيّن» ، كي يكون الكلام أنّ ما يبيّن في العلوم المذكورة أو يدرك بالحسّ هو ما عدا التّعقيد المعنوي ، وهو لا يعرف بتلك العلوم ولا يدرك بالحسّ ، كما أشار إليه بقوله : «إذ لا يعرف بتلك العلوم ولا بالحسّ تمييز السّالم من التّعقيد المعنوي عن غيره».

(٣) أي فعلم أنّ القسم الثّاني من مرجع البلاغة وهو تمييز الكلام الفصيح عن غيره ، بعضه مبيّن في العلوم المذكورة مثل علم متن اللّغة والتّصريف والنّحو وبعضه مدرك بالحسّ.

(٤) أي بقي من المرجع المطلق الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، والاحتراز عن التّعقيد المعنوي ، ثمّ الاحتراز هو المرجع الأوّل ، وهو أمران :

الأوّل : الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.

الثّاني : الاحتراز عن التّعقيد المعنوي.

(٥) أي فشدّت الحاجة إلى علم يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، وعلم يحترز به عن التّعقيد المعنوي والأوّل هو علم المعاني ، والثّاني علم البيان.

فالمتحصّل من الجميع أنّ مرجع البلاغة أربعة :

١٧٣

لذلك (١) ، فوضعوا علم المعاني للأوّل (٢) ، وعلم البيان للثّاني (٣) ، وإليه (٤) أشار بقوله : [وما يحترز به عن الأوّل] أي الخطأ في تأدية المعنى المراد [علم المعاني ، وما يحترز به عن التّعقيد المعنوي علم البيان] وسمّوا هذين العلمين علم البلاغة ، لمكان مزيد اختصاص لهما بالبلاغة (٥) وإن كانت البلاغة تتوقّف على غيرهما (٦) من العلوم ثمّ احتاجوا (٧) لمعرفة توابع البلاغة (٨) إلى علم آخر ، فوضعوا لذلك علم البديع ،

______________________________________________________

الأوّل : الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.

الثّاني : الاحتراز عن التّعقيد المعنوي.

الثّالث : تمييز الكلام الفصيح عن غيره بالعلوم المذكورة.

الرّابع : أنّ تمييز التّنافر سواء كان في الحروف أو في الكلمات بالحسّ والذّوق السّليم.

(١) أي للاحتراز.

(٢) أي للاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.

(٣) أي للاحتراز عن التّعقيد المعنوي.

(٤) أي أشار المصنّف إلى الوضع بقوله : «وما يحترز به عن الأوّل» أي الخطأ في تأدية المعنى المراد ، فتفسير الشّارح الأوّل بقوله : «أي الخطأ ...» إشارة إلى أنّ المراد بالأوّل هو أوّل الأمرين الباقيين ، وهما الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، والاحتراز عن التّعقيد المعنوي ، فليس المراد بالأوّل هو الأوّل في مقابل الثّاني وهو مطلق الاحتراز.

(٥) أي سمّى أئمّة البلاغة : المعاني والبيان علم البلاغة ، لثبوت زيادة اختصاص لهذين العلمين بالبلاغة ، ف «مكان» مصدر ميميّ ، بمعنى الثّبوت و «مزيد» مصدر ميميّ بمعنى الزّيادة. فحاصل الكلام في وجه تسمية علميّ المعاني والبيان بعلم البلاغة أنّ لهما مزيد اختصاص بالبلاغة ، بمعنى أنّ البلاغة لا تتحقّق إلّا بهما ، لأنّهما الجزء الأخير للعلّة ، لأنّ البلاغة كما تتوقّف عليهما كذلك تتوقّف على غيرهما من العلوم كاللّغة والصّرف والنّحو.

وقيل في وجه مزيد اختصاص لهما بالبلاغة : إنّ البلاغة تتوقّف عليهما بالذّات وعلى غيرهما بالواسطة.

(٦) أي على غير علم المعاني والبيان وهو علم اللّغة والصّرف والنّحو ، وقد عرفت توقّف البلاغة على هذه العلوم من حيث رجوعها إلى تمييز الكلام الفصيح عن غيره.

(٧) أي أئمّة البلاغة احتاجوا لمعرفة توابع البلاغة إلى علم آخر ، فوضعوا لمعرفة توابع البلاغة علم البديع.

(٨) وهي المحسّنات البديعيّة.

١٧٤

وإليه (١) أشار بقوله : [وما يعرف به وجوه التّحسين علم البديع] ولمّا كان هذا المختصر في علم البلاغة وتوابعها انحصر مقصوده (٢) في ثلاثة فنون (٣) [وكثير] من النّاس [يسمّى الجميع علم البيان ، وبعضهم يسمّي الأوّل علم المعاني و] يسمّى [الأخيرين] يعني البيان والبديع [علم البيان والثّلاثة علم البديع] ولا يخفى وجوه المناسبة والله أعلم.

______________________________________________________

(١) أي إلى الوضع أشار المصنّف بقوله : «وما يعرف به وجوه التّحسين علم البديع».

(٢) أي مقصود مؤلّفه بحذف المضاف ، ويصحّ أن يكون الضّمير عائدا إلى المختصر من دون حذف المضاف بارتكاب الاستعارة بالكناية ، بأن كان الشّارح قد شبّه في نفسه المختصر بمؤلّفه في (إرشاد المحصّلين إلى القواعد) ، ثمّ ترك أركان التّشبيه سوى المشبّه ، وأراد منه معناه اللّغوي ، وأضاف إليه شيئا من لوازم المشبّه به وهو المقصود ، فهذا التّشبيه المضمر في النّفس استعارة بالكناية وإثبات المقصود له استعارة تخييليّة.

(٣) إنّ جواب «لمّا» لكونه واضحا محذوف ، أي لمّا كان هذا المختصر ... اختلف أئمّة البلاغة في التّسمية ، كما ذكره المصنّف ، فكثير منهم يسمّي الجميع علم البيان ، إمّا من باب تسميّة الشّيء بأشرف أقسامه ، وإمّا لمدخليّة الجميع بالبيان ، لأنّ البيان عبارة عن المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضّمير ، ولا شكّ في أنّ العلوم الثّلاثة لها دخل في الكلام الفصيح المعرب عمّا في الضّمير تصحيحا وتحسينا ، ومن هنا يعلم وجه تسمية البيان والبديع بعلم البيان ، إذ تحقّق المناسبة في الكلّ يستلزم تحقّقها في الجزء.

وأمّا وجه تسمية الجميع بعلم البديع ، ـ كما أشار إليه بقوله : «والثّلاثة علم البديع» أي بعضهم يسمّي الثّلاثة علم البديع ـ فلبداعة مباحثها أي حسنها وظرافتها ، لأنّ البديع عبارة عن الشّيء المستحسن الظّريف ، ومباحث هذه العلوم بديعة بهذا المعنى ، وتقدير لفظ بعضهم قبل الثّلاثة واضح.

وأمّا وجه تسمية الأوّل بالمعاني ، والثّاني بالبيان ، والثّالث بالبديع ، فلأنّ :

الأوّل : علم يبحث فيه عن المعاني الّتي يصاغ لها الكلام كالتّأكيد والتّجريد والذّكر والحذف ونحوها ، ممّا تقتضيه الأحوال ، ولا شكّ في أنّها من المعاني والمداليل العقليّة.

والثّاني : هو ما يعرف به بيان إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدّلالة وخفائها.

والثّالث : هو ما يتعلّق بأمور بديعة وأشياء غريبة كالتّجنيس والتّرصيع وغيرهما ممّا يأتي تفصيله في علم البديع.

١٧٥

الفنّ الأوّل علم المعاني (١)

قدّمه على البيان لكونه منه بمنزلة المفرد من المركّب (٢)

______________________________________________________

(١) «الفنّ» كفلس واحده الفنون ، كفلوس ، وهي الأنواع ، كما في مجمع البحرين. وهنا إشكالان : الأوّل : في ذكر الفنّ معرّفا باللّام ، والثّاني : في حمل علم المعاني عليه.

أمّا تقرير الإشكال الأوّل : فلأنّ الفنّ عبارة عن الألفاظ ، كما تقدّم ما يرشد إليه ، وهو قوله في المقدّمة «رتّب المختصر على مقدّمة وثلاثة فنون» ولا ريب أنّ المختصر اسم للألفاظ المخصوصة الدّالّة على المعاني المخصوصة ، ولم يتقدّم ذكر من الألفاظ المخصوصة ، بل ما تقدّم هو قوله : «وما يحترز به عن الأوّل علم المعاني» والمراد من علم المعاني ليس الألفاظ لعدم كونها سببا للاحتراز ، فلا يصحّ تعريف الفنّ بالعهد الذّكري لعدم تقدّم الألفاظ المخصوصة.

أمّا تقرير الإشكال الثّاني : فلأنّ علم المعاني هنا إمّا عبارة عن الملكة أو عن نفس الأصول والقواعد الّتي هي معان مخصوصة ، وعرفت أنّ الفنّ عبارة عن الألفاظ المخصوصة ، فلا يصحّ حمل علم المعاني على الفنّ لأنّ النّسبة بين ما هو من مقولة الألفاظ ، وما هو من مقولة المعاني ، هي المباينة الكلّيّة ، فلا يصحّ حمل المباين على المباين.

ويمكن الجواب عن الإشكال الأوّل : بأنّه لا يجب في المعهود ذكره سابقا ، بل يكفي فيه العلم به سابقا. والفنّ الأوّل من هذا القبيل ، إذ لمّا تبيّن أنّ ما يحترز به عن الأوّل علم المعاني علم أنّ ما يذكر في بيانه فنّ من الفنون وألفاظ مخصوصة. وبعبارة أخرى أنّه يصحّ التّعريف بالعهد الذّكري فيما إذا ذكر مدخول اللّام ضمنا والفنون الثّلاثة من هذا القبيل.

أمّا الجواب عن الإشكال الثّاني : فيمكن بتقدير بيان ، أي الفنّ الأوّل المراد به الألفاظ المخصوصة في بيان علم المعاني المراد به المعاني المخصوصة ، أو نقول : إنّ المراد بالفنّ الأوّل هي المعاني المخصوصة بقرينة حمل علم المعاني عليه وإطلاق الفنّ على نفس العلم شائع كما يقال : الفنون الأدبيّة مثلا.

(٢) أي قدّم المصنّف علم المعاني على علم البيان ، لكون علم المعاني من علم البيان بمنزلة الجزء من الكلّ ، والجزء مقدّم على الكلّ طبعا ، فقدّمه وضعا ليطابق الوضع الطّبع.

١٧٦

لأنّ (١) رعاية المطابقة لمقتضى الحال وهو (٢) مرجع علم المعاني معتبرة (٣) في علم البيان مع زيادة شيء آخر وهو (٤) إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة [وهو علم (٥)] أي ملكة (٦) يقتدر بها على إدراكات جزئيّة (٧) ،

______________________________________________________

(١) تعليل لكون المعاني من البيان بمنزلة المفرد من المركّب.

(٢) أي رعاية المطابقة مرجع علم المعاني ، فتذكير الضّمير إنّما هو باعتبار الخبر ، أعني قوله : «مرجع علم المعاني».

(٣) قوله : «معتبرة» خبر أنّ في قوله : «لأنّ رعاية ...» ثمّ إنّ الشّارح قال : إنّ علم المعاني بمنزلة المفرد من المركّب ، ولم يقل إنّه جزء منه ، لأنّ علم المعاني عبارة عن ملكة خاصّة ، أو عن أصول وقواعد مخصوصة ، فليس الأوّل جزء للثّاني ، وإنّما يكون منه بمنزلة الجزء من الكلّ ، وذلك لأنّ فائدة علم المعاني وثمرته رعاية مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، كما يظهر من تعريفه بأنّه علم يعرف به أحوال اللّفظ العربيّ الّتي يطابق بها اللّفظ مقتضى الحال ، وفائدة علم البيان : إيراد معنى واحد بتراكيب مختلفة في الوضوح والخفاء ، مع رعاية المطابقة لمقتضى الحال ، فعلم المعاني مرتبط بشيء واحد أعني الرّعاية ، وعلم البيان مرتبط بأمرين أعني الرّعاية والإيراد ، فيكون علم المعاني من علم البيان بمنزلة المفرد من المركّب ، وليس جزء منه.

(٤) أي شيء آخر عبارة عن إيراد المعنى الواحد في تراكيب مختلفة ك (زيد كثير الرّماد ، وزيد مهزول فصيله ، وزيد جبان كلبه) فإنّ المراد من الجميع معنى واحد ، أي زيد جواد.

(٥) أي علم المعاني.

(٦) إنّ تفسير العلم بالملكة إشارة إلى أنّ علم المعاني ليس مجرّد الصّورة الحاصلة من المعلوم في الذّهن ، بل هو ملكة يقتدر بتلك الملكة على إدراكات جزئيّة.

(٧) إن قلت : الإدراك لا يوصف بالجزئيّة والكلّيّة ، والّذي يتّصف بهما إنّما هو المدرك كالإنسان ، وزيد ، وحينئذ فالمناسب أن يقال : يقتدر بها على إدراك الجزئيّات.

ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين :

الأوّل : هو تقدير مضاف في الكلام ، أي ملكة يقتدر بها على إدراكات جزئيّة.

الثّاني : الإدراك يتّصف بالجزئيّة تبعا للمدرك ، إذ جزئيّة المدرك تستلزم جزئيّة الإدراك ، فحينئذ يكون قوله : «إدراكات جزئيّة» صحيحا من دون حاجة إلى تقدير مضاف.

١٧٧

يجوز أن يراد به (١) نفس الأصول والقواعد المعلومة. ولاستعمالهم (٢) المعرفة في الجزئيّات قال : [تعرف به أحوال اللّفظ العربيّ (٣)] أي هو (٤) علم يستنبط منه إدراكات جزئيّة وهي معرفة كلّ فرد فرد من جزئيّات الأحوال المذكورة ، بمعنى أنّ أيّ فرد يوجد منها (٥) أمكننا أن نعرفه بذلك العلم (٦) وقوله : [الّتي بها يطابق] اللّفظ [مقتضى الحال] احتراز (٧)

______________________________________________________

(١) أي بعلم المعاني نفس الأصول والقواعد المعلومة ، فيكون العلم حينئذ بمعنى المعلوم ، أو يقال : إنّ العلم مشترك بين الملكة والقواعد ، فيصحّ إرادة كلّ منهما منه ، ومنع استعمال اللّفظ المشترك في التّعريف إنّما هو فيما إذا لم يصحّ إرادة كلّ من معانيه منه.

(٢) علّة لقوله : «قال : تعرف به أحوال اللّفظ العربيّ» وبيان للفرق بين المعرفة والعلم.

وحاصل الفرق : أنّهم اصطلحوا أن يستعمل المعرفة لإدراك الجزئيّات والبسائط والعلم لإدراك الكلّيّات والمركّبات ، ثمّ الأحوال المذكورة هي العوارض الجزئيّة على الألفاظ ، فالمناسب أن تستعمل المعرفة دون العلم ، ولهذا قال : «تعرف به أحوال اللّفظ العربيّ» ولم يقل : تعلم به أحوال اللّفظ العربيّ.

والحاصل : إنّ استعمالهم المعرفة في الجزئيّات والعلم في الكلّيّات مجرّد اصطلاح منهم ولا مناقشة في الاصطلاح.

(٣) من التعريف والتّنكير والتّقديم والتّأخير والذّكر والحذف وغيرها.

(٤) أي علم المعاني «علم يستنبط منه» أي يستخرج منه ، ثمّ لفظ (من) للتّعدية إن كان المراد من العلم الأصول والقواعد ، وللسّببيّة إن كان المراد به الملكة ، أي يستخرج بسبب هذه الملكة إدراكات جزئيّة.

(٥) أي من الأحوال.

(٦) أي بتلك الملكة إن كان المراد بعلم المعاني الملكة ، أو الأصول والقواعد إن كان المراد به الأصول والقواعد.

(٧) قوله : «احتراز» خبر ل «قوله» أي تعرف بعلم المعاني أحوال اللّفظ العربيّ الّتي بها يطابق اللّفظ مقتضى الحال كالتّأكيد والتّجريد والتّعريف والتّقديم وغيرها من الأحوال الّتي بها يطابق الكلام مقتضى الحال.

١٧٨

عن الأحوال الّتي ليست بهذه الصّفة (١) مثل الإعلال والإدغام والرّفع والنّصب وما أشبه ذلك (٢). ممّا لا بدّ منه في تأدية أصل المعنى (٣) وكذا المحسّنات البديعيّة (٤) من التّجنيس (٥)

______________________________________________________

(١) أي بالصّفة الّتي يطابق اللّفظ بها مقتضى الحال.

(٢) كالتّثنية والجمع والتّصغير والنّسبة ، فهذه الأحوال وإن كانت ممّا لا بدّ منه في تأدية أصل المعنى إلّا أنّها ليست من الأحوال الّتي يطابق اللّفظ بها لمقتضى الحال ، فيكون تعريف علم المعاني بما ذكره المصنّف جامعا ومانعا ، أمّا كونه جامعا فواضح لا يحتاج إلى البيان ، وأمّا كونه مانعا فلخروج سائر العلوم بإضافة الأحوال إلى اللّفظ العربيّ في قوله : «تعرف به أحوال اللّفظ العربيّ» فيخرج علم الحكمة ، لأنّه علم تعرف به أحوال الموجودات لا الألفاظ فضلا عن أحوال اللّفظ العربيّ ، وكذا يخرج علم المنطق لأنّه علم تعرف به أحوال المعقولات الثّانويّة فلا يرتبط بالألفاظ أصلا ، ويخرج علم الفقه لأنّه علم تعرف به أحوال أفعال المكلّفين ، وعلم الطّبّ لأنّه علم تعرف به أحوال بدن الإنسان ، وعلم الأصول لأنّه علم تعرف به أحوال الأدلّة الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة والإجماع وغيرها.

ثمّ يخرج النّحو والصّرف واللّغة بتوصيف الأحوال بقوله : «الّتي بها يطابق اللّفظ مقتضى الحال» لأنّ هذه العلوم وإن كانت ممّا تعرف به أحوال اللّفظ العربيّ ، ولكن لا تعرف بها الأحوال الّتي بها يطابق اللّفظ مقتضى الحال.

(٣) فالإدغام والإعلال والرّفع والنّصب وإن كانت من أحوال اللّفظ العربيّ إلّا أنّها ليست من الأحوال الّتي بها يطابق اللّفظ لمقتضى الحال.

(٤) حيث إنّها تخرج عن مسائل علم المعاني ما لم يقتضيها الحال وإلّا فتكون داخلة فيها.

(٥) التّجنيس عبارة عن توافق كلمتين في اللّفظ دون المعنى كقوله :

قال محمّد هو ابن مالك

أحمد ربّي الله خير مالك

فالمالك في آخر الشطر الأوّل من البيت موافق للمالك في الشطر الثّاني من البيت في اللّفظ دون المعنى.

١٧٩

والتّرصيع (١) ونحوهما (٢) ممّا (٣) يكون بعد رعاية المطابقة ، والمراد (٤) أنّه علم تعرف به هذه الأحوال من حيث إنّها يطابق بها اللّفظ لمقتضى الحال لظهور أنّ ليس علم المعاني عبارة عن تصوّر معاني التّعريف والتّنكير والتّقديم والتّأخير والإثبات والحذف وغير ذلك (٥) ، وبهذا (٦) يخرج عن التّعريف علم البيان إذ ليس البحث فيه عن أحوال اللّفظ من هذه الحيثيّة ، والمراد بأحوال اللّفظ الأمور العارضة له

______________________________________________________

(١) التّرصيع : قسم من السّجع ، وقد عرّفوه بتوافق الفاصلتين من النّثر على حرف واحد كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ١٣ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(١) ثمّ للتّرصيع أقسام تركناها رعاية للاختصار المطلوب.

(٢) أي كالاقتباس والتّضمين ، كما يأتي التّفصيل في علم البديع.

(٣) بيان ل «نحوهما».

(٤) جواب لسؤال مقدّر ، وتقديره : إنّ المتبادر من قول المصنّف في تعريف علم المعاني حيث قال : «تعرف به أحوال اللّفظ العربي» هو أنّ المراد من المعرفة أعمّ من التّصوّر والتّصديق فحينئذ تصوّر أحوال اللّفظ كالتّعريف والتّنكير والتّجريد والتّقديم والتّأخير وغيرها ، كعلم البيان يدخل في علم المعاني ، لأنّ علم البيان : علم يعرف به الحقيقة عن المجاز والكناية ، وهي أحوال اللّفظ وقد يطابق بها مقتضى الحال ، مع أنّ تصوّر الأمور المذكورة كعلم البيان ليس من علم المعاني.

وحاصل الجواب : إنّ المراد بعلم المعاني معرفة هذه الأحوال ، ولكن لا مطلقا بل من حيث إنّها يطابق بها اللّفظ لمقتضى الحال.

(٥) من الأحوال الّتي بها يطابق اللّفظ لمقتضى الحال.

(٦) أي باعتبار قيد الحيثيّة يخرج علم البيان عن تعريف علم المعاني فيندفع ما نسب إلى صدر الشّريعة في بعض تصانيفه من أنّ علم البيان داخل في هذا التّعريف ، لأنّ مطابقة مقتضى الحال أعمّ من أن يكون في خواصّ التّركيب أو في الدّلالة ، والثّاني مستفاد من علم البيان لا من علم المعاني ، لأنّ لبحث عن الدّلالة في علم البيان ليس من حيث مطابقة اللّفظ لمقتضى الحال ، كما أشار إليه الشّارح بقوله : «إذ ليس البحث فيه عن أحوال

__________________

(١) سورة نوح : ١٣.

١٨٠