دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

[وهو] أي مقتضى الحال [مختلف (١)

______________________________________________________

مؤكّد أو كلام يذكر فيه المسند إليه أو يحذف ، وهكذا ، وكيف كان فمقتضى الحال هو الكلام الكلّي المكيّف بالكيفيّة الخاصّة ، وطبعا يكون الكلام المطابق لمقتضى الحال جزئيّا من جزئيّات ما تقتضيه الحال. فالمتحصّل من الجميع هو نفي توهّم الاتّحاد بين المطابق والمطابق.

(١) هذا الكلام تمهيد لضبط مقتضيات الأحوال وتحقيقها على وجه الإجمال الموجب لتشويق المتعلّمين إلى الوقوف عليها تفصيلا.

وحاصل ما ذكره : أنّ مقتضيات الأحوال ـ بالفتح ـ مختلفة وقد يعبّر عنها بالمقامات ، فالحال والمقام وإن كانا مختلفين بالاعتبار كما يأتي في قول الشّارح إلّا أنّهما متّحدان ذاتا.

ففي الكلام المذكور فوائد :

الأولى : أنّه تمهيد لما سيجيء من أنّ للبلاغة طرفين ، أي الأعلى والأسفل ، وبينهما مراتب كثيرة ووجه كونه تمهيدا ظاهر ، إذ كون مقتضى الحال مختلفا باعتبار اختلاف المقامات يستلزم تعدّد مراتب البلاغة وكونها ذا طرفين أحدهما أعلى والآخر أسفل.

الثّانية : إنّه تشويق للمتعلّمين إلى تفصيل مقتضيات الأحوال ومعرفتها فردا فردا ، وذلك لأنّ في الكلام المذكور إشارة إجماليّة إلى مقتضيات الأحوال ، حيث إنّه متكفّل لبيان اختلافها باختلاف المقامات كان إشارة إلى تعدّدها إجمالا فيوجب التّشويق المذكور ، فإنّ الإنسان مجبول على أنّه إذا التفت إلى شيء إجمالا يحصل له الشّوق إلى معرفته تفصيلا.

الثّالثة : إنّ فيه دفع توهّم ، وذلك لأنّه ربّما يتوهّم ـ من قوله : «بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال» ـ إنّ المضمون الواحد الّذي يدلّ عليه الكلام مقتضى حاله واحد.

فدفع هذا التّوهّم بقوله : «وهو مختلف» لأنّ مقامات الكلام متفاوتة ، وحاصل الدّفع : إنّ المضمون الواحد بما أنّ مقامات الكلام الدّالّ عليه متفاوتة ومقتضيات أحواله كثيرة مثلا ثبوت القدرة لله تعالى ، قد يكون مقتضى مقامه التّجريد عن التّأكيد ، وقد يكون مقتضى مقامه التّأكيد الاستحساني ، وقد يكون مقتضى مقامه التّأكيد الوجوبي ، فإنّه قد يلقى إلى خاليّ الذّهن ، وقد يلقى إلى المنكر الّذي لا يصرّ على إنكاره ، وقد يلقى إلى المنكر المصرّ على إنكاره.

١٤١

فإنّ (١) مقامات الكلام متفاوتة (٢)] ، لأنّ الاعتبار (٣) اللّائق بهذا المقام يغاير الاعتبار اللّائق بذاك (٤) ، وهذا (٥) عين تفاوت مقتضيات الأحوال

______________________________________________________

فمقتضى المقام في الأوّل هو التّجريد عن التّأكيد ، وفي الثّاني التّأكيد الاستحساني ، وفي الثّالث التّأكيد الوجوبي.

(١) علّة لقوله «مختلف» فحاصل الكلام في المقام أنّ مقتضى الحال مختلف وذلك «فإنّ مقامات الكلام» أي الأمور المقتضية لاعتبار خصوصيّة ما في الكلام كالإنكار وخلوّ الذّهن والبلادة والذّكاء ونحوها «متفاوتة» بحسب الاقتضاء ، ثمّ اختلاف المقتضي ـ بالكسر ـ يستلزم اختلاف المقتضى ـ بالفتح ـ.

(٢) أي مختلفة ، وإذا اختلفت المقامات لزم اختلاف مقتضيات الأحوال ، لأنّ اختلاف الأسباب في الاقتضاء يوجب اختلاف المسبّبات.

(٣) تعليل لبيان عليّة تفاوت المقامات لاختلاف مقتضى الحال ، ثمّ المراد بالاعتبار هو الأمر المعتبر اللّائق بالمقام ، كالتّأكيد اللّائق بمقام الإنكار يكون مغايرا للأمر المعتبر اللّائق بمقام آخر ، كتجريد الكلام عن التّأكيد في مقام خلوّ الذّهن ، كما أشار إليه الشّارح بقوله «لأنّ الاعتبار اللائق بهذا المقام يغاير الاعتبار اللّائق بذاك»

(٤) أي مقتضى المقام في مورد كالتّأكيد في مورد الإنكار يغاير مقتضى المقام في مورد آخر كتجريد الكلام عن التّأكيد في مورد خلوّ الذّهن عن الإنكار ، وفسّرنا الاعتبار بمقتضى المقام ، لأنّ المراد به هو الأمر المعتبر اللّائق بمقام ، وهو نفس مقتضى المقام.

لا يقال : إنّ ما ذكرته من أنّ المراد من الاعتبار الأمر المعتبر ، وهو نفس مقتضى المقام مستلزم لتعليل الشّيء بنفسه ، أي تعليل اختلاف مقتضيات المقامات عند تفاوتها بنفسه ، فإنّ مغايرة المقتضى اللّائق بهذا المقام للمقتضي اللّائق بمقام آخر عين اختلاف مقتضيات المقامات عند تفاوتها.

لأنّا نقول : إنّ الاعتبار اللّائق بالمقام وإن كان نفس مقتضى المقام بحسب المصداق ، إلّا أنّه غيره بحسب المفهوم ، وهذا المقدار يكفي في المغايرة.

(٥) أي تغاير الاعتبارين بسبب تغاير المقامين «عين تفاوت مقتضيات الأحوال» ، وفيه إشارة إلى دفع توهّم عدم المطابقة بين الدّليل والمدّعى حيث إنّ المدّعى هو اختلاف

١٤٢

لأنّ التّغاير (١) بين الحال والمقام إنّما هو بحسب الاعتبار (٢) وهو (٣) أنّه يتوهّم في الحال كونه زمانا لورود الكلام فيه ، وفي المقام كونه محلّا له (٤) وفي هذا الكلام (٥) إشارة إجماليّة (٦) إلى ضبط مقتضيات الأحوال (٧)

______________________________________________________

مقتضى الحال أعني قوله : «مقتضى الحال مختلف» ، والدّليل ـ أعني قوله : «فإنّ مقامات الكلام متفاوتة» ـ إنّما يدلّ على اختلاف مقتضيات المقامات لا على اختلاف مقتضيات الأحوال ، والمدّعى هو الثّاني.

وحاصل الدّفع : إنّ مقتضيات المقامات مع مقتضيات الأحوال أمر واحد بناء على أنّ الحال والمقام أمر واحد ، والفرق بينهما إنّما هو بالاعتبار ، يعني أنّ إنكار المخاطب مثلا يعبّر عنه بالحال إن اعتبر كونه زمان ورود الكلام ، ويعبّر عنه بالمقام إن اعتبر كونه مكان ورود الكلام ، وقس عليه جميع المقامات والأحوال.

(١) علّة لقوله : «هذا عين تفاوت مقتضيات الأحوال».

(٢) أي بحسب اعتبار المعتبر ، وأمّا بحسب الذّات فهما أمر واحد.

(٣) أي الاعتبار.

(٤) وحاصل الكلام في الفرق الاعتباري بين الحال والمقام : إنّ الأمر الدّاعي لإيراد الكلام إذا توهّم كونه زمانا لذلك الكلام يسمّى حالّا ، لأنّ أحد الأزمنة الثّلاثة يسمّى حالّا ، وإذا توهّم فيه كونه محلّا له يسمّى مقاما ، وإنّما عبّر الشّارح بالتّوهّم ، لأنّ الأمر الدّاعي ليس في الحقيقة زمانا ولا مكانا ، وإنّما ذلك أمر توهّمي.

(٥) والمراد من «الكلام» المشار إليه هو قول المصنّف الآتي : أعني «فمقام كلّ من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر يباين مقام خلافه».

(٦) أمّا وجه كون الكلام الآتي إشارة فواضح ، فإنّ صريحه تفصيل تفاوت المقامات ، وأمّا وجه كونها إجماليّة ، فلأنّه لم يبيّن محالّ تلك المقتضيات ومتعلّقاتها وأقسامها تفصيلا ، بل اكتفى بذكرها إجمالا ، مثلا ذكر التّنكير ، ولم يبيّن أنّ محلّه هو المسند إليه أو المسند.

(٧) يتعلّق بإشارة إجماليّة ، وقد أشار إلى ضبط مقتضيات الأحوال على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما يخصّ أجزاء الجملة ، وقد أشار إليه بقوله : «فمقام كلّ من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر يباين مقام خلافه».

١٤٣

وتحقيق (١) لمقتضى الحال [فمقام كلّ من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر يباين مقام خلافه] أي مقام خلاف كلّ منها (٢) ، يعني أنّ المقام الّذي يناسبه تنكير المسند إليه (٣) أو المسند (٤) يباين المقام الّذي يناسبه التّعريف (٥) ، ومقام إطلاق الحكم (٦) أو التّعلّق (٧)

______________________________________________________

القسم الثّاني : ما يخصّ الجملتين فصاعدا وقد أشار إليه بقوله : «ومقام الفصل يباين مقام الوصل» حيث إنّ مقام الفصل أعني : ترك عطف الجملة على الجملة ، ومقام الوصل أعني عطف الجملة على مثلها يختصّ بالجملة.

القسم الثّالث : ما لا يخصّ شيئا منهما ، بل يعمّهما وقد أشار إليه بقوله : «ومقام الإيجاز يباين مقام خلافه» ، فإنّ الإيجاز أي قلّة اللّفظ وكثرة المعنى وخلافه أي الإطناب وهو قلّة المعنى وكثرة اللّفظ كما يأتي في محلّه ، لا يختصّ بالجملة ولا بالمفرد.

(١) عطف على قوله : «إشارة إجماليّة».

(٢) أي خلاف كلّ من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر على نحو التّوزيع والعموم الأفرادي لا العموم المجموعي فليس مستلزما لكون المقام مباينا لجميع ما عداه بأن لا يكون المقام المناسب للتّنكير مثلا مناسبا لشيء ممّا عداه مع أنّ مقام التّنكير ربّما يناسب مقام التّقديم.

ثمّ المراد بالمباينة ليس ما هو المعروف عند المنطقيّين ، بل المراد هو عدم المناسبة بمعنى أنّ مقام التّنكير لا يناسب مقام التّعريف مثلا.

(٣) كما في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(١) أو كقولك : رجل في الدّار قائم.

(٤) كقولك : هذا رجل.

(٥) أي تعريف المسند إليه كقولك : زيد قائم ، أو المسند كقولك : زيد القائم.

(٦) أي النّسبة بين المسند إليه والمسند بأن يكون الحكم بمعنى الإسناد الكائن بين المسندين خاليا عن التّقييد كقولك : زيد قائم.

(٧) أي تعلّق المسند بملابسه ، سواء كان ذلك مسندا إليه كقولك : زيد قائم ، أو مفعولا به كقولك : ضربت زيدا ، فالتّعلّق مغاير للحكم. فالمعنى : أنّ المقام الّذي يناسبه

__________________

(١) سورة القصص : ٢٠.

١٤٤

أو المسند إليه (١) أو المسند (٢) أو متعلّقه (٣) يباين مقام تقييده (٤) بمؤكّد أو أداة قصر (٥) أو تابع (٦) أو شرط (٧) أو مفعول (٨) أو ما يشبه ذلك (٩)

______________________________________________________

إطلاق التعلّق أي تعلّق المسند بمعموله.

(١) أي مقام إطلاق المسند إليه كقولك : جاءني رجل ، حيث يكون المسند إليه خاليا عن التّقييد.

(٢) أي مقام إطلاق المسند وخلوّه عن التّقييد كقولك : عمرو كاتب.

(٣) أي مقام إطلاق متعلّق المسند وخلوّه عن التّقييد كقولك : زيد ضارب رجلا.

(٤) أي مقام إطلاق كلّ واحد ممّا ذكر يباين مقام تقييد كلّ واحد منها على سبيل التّوزيع.

(٥) أي إطلاق الحكم أو التّعلّق يباين مقام تقييد كلّ منهما بمؤكّد كقولك : إنّ زيدا قائم ، وقولك : ما زيد إلّا قائم ، أو إنّما زيد قائم ، هذا مثال تقييد الحكم بالمؤكّد وأداة الحصر ، ومثال تقييد التعلّق بمؤكّد كقولك : لأضربنّ زيدا ، وبأداة قصر كقولك : ما ضرب زيد إلّا عمرا ، أو إنّما ضرب زيد عمرا ، فقوله : «تقييده بمؤكّد أو أداة قصر» راجع إلى إطلاق الحكم والتّعلّق.

(٦) هذا راجع إلى إطلاق المسند إليه والمسند ومتعلّقه ، أي إطلاق المسند إليه والمسند ومتعلّق المسند يباين تقييد كلّ واحد منها بتابع ، فمثال تقييد المسند إليه بتابع ، كقولك : زيد الطّويل قائم ، ومثال تقييد المسند بتابع كقولك : هذا رجل عالم ، ومثال تقييد متعلّق المسند بتابع كقولك : رأيت رجلا عالما.

(٧) هذا راجع إلى المسند فقط فيكون معنى العبارة أنّ مقام إطلاق المسند يباين مقام تقييده بشرط ، كقولك : إن جاءك زيد فأكرمه ، حيث يكون مضمون الشّرط قيدا للإكرام الّذي هو المسند ، فالمعنى أكرم زيدا على تقدير مجيئه إيّاك.

(٨) هذا راجع إلى المسند والمسند إليه ، فالمعنى إنّ مقام إطلاق كلّ منهما يباين مقام تقييد كلّ واحد منهما بمفعول ، ومثال تقييد المسند بالمفعول قولك : زيد ضارب عمرا ، ومثال تقييد المسند إليه به قولك : أعجبني ضرب زيد عمرا.

(٩) أي ما يشبه المفعول كالحال والتّمييز ، وهذا راجع إلى المسند ومتعلّقه ، فالمعنى

١٤٥

ومقام تقديم المسند إليه (١) أو المسند (٢) أو متعلّقاته (٣) يباين مقام تأخيره (٤) وكذا (٥) مقام ذكره (٦) يباين مقام حذفه (٧) فقوله : خلافه شامل لما ذكرناه (٨) وإنّما فصّل (٩) قوله : [ومقام الفصل يباين مقام الوصل] تنبيها على عظم

______________________________________________________

أنّ مقام إطلاق المسند ومتعلّقه يباين مقام تقييدهما بما يشبه المفعول كالحال والتّمييز ، فمثال تقييد المسند بالحال كقولك : جاءني زيد راكبا ، ومثال تقييده بالتّمييز كقولك : طاب زيد أبا ، ومثال تقييد متعلّق المسند بالحال كقولك : رأيت ضرب زيد هندا راكبة ، ومثال تقييده بالتّمييز كقولك : أحسنت زيدا شجاعة.

(١) كقولك : زيد قائم.

(٢) كقولك : قام زيد.

(٣) أي مقام تقديم متعلّقات المسند كقولك : زيدا ضربت.

(٤) أي تأخير كلّ من المسند إليه والمسند ومتعلّقاته كقولك : (قائم زيد) في الأوّل ، (زيد قائم) في الثّاني ، (ضربت زيدا) في الثّالث.

(٥) إنّما فصل بكلمة «كذا» حيث قال الشّارح : «وكذا» ولم يقل : (ومقام ذكره ...) لئلّا يتوهّم ابتداء أنّ «مقام ذكره» معطوف على «مقام تأخيره» فيكون المعنى إنّ مقام تقديم كلّ منها يباين مقام تأخيره ، ويباين أيضا مقام ذكره مع أنّ مقام التّقديم يباين مقام التّأخير لا مقام الذّكر.

(٦) أي مقام ذكر كلّ واحد من المسند إليه والمسند ومتعلّقاته كالأمثلة المتقدّمة.

(٧) أي مقام حذف كلّ واحد منها كقولك : مريض ، في جواب من قال : (كيف حالك) وزيد لمن اعتقد بقيام عمرو ، وضربت لمن اعتقد بأنّك قد أكرمت زيدا ، فالمحذوف في المثال الأوّل هو المسند إليه ، وفي المثال الثّاني هو المسند وفي المثال الثّالث هو متعلّق المسند.

(٨) المراد ب «ما ذكرناه» هو التّعريف المباين للتّنكير ، والتّقييد المباين للإطلاق ، والتّأخير المباين للتّقديم ، والحذف المباين للذّكر ، وقد عرفت تفصيل ذلك مع الأمثلة.

(٩) أي فصّل المصنّف «قوله : ومقام الفصل ...» دفع لسؤال مقدّر ، وتقريب السّؤال : لما ذا لم يذكر المصنّف الفصل مع الأربعة السّابقة؟ ولم يقل : (فمقام كلّ من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر والفصل يباين مقام خلافه) كي يكون أخصر.

١٤٦

شأن هذا الباب (١) ، وإنّما لم يقل مقام خلافه (٢) لأنّه أخصر وأظهر (٣) ، لأنّ خلاف الفصل (٤) إنّما هو الوصل وللتّنبيه على عظم الشّأن (٥) فصّل قوله : [ومقام الإيجاز يباين مقام خلافه (٦)] أي الإطناب والمساواة (٧) [وكذا خطاب الذّكي مع خطاب الغبيّ (٨)]

______________________________________________________

(١) هذا الكلام بيان لوجه الفصل وحاصله : أنّه فصّل باب الفصل والوصل ممّا سبق لعظم شأنه حتّى حصر بعضهم البلاغة على معرفة الفصل والوصل ، ولكونه من الأحوال المختصّة بأكثر من جملة.

(٢) أي لم يقل المصنّف : (ومقام الفصل يباين مقام خلافه) بل قال : «ومقام الفصل يباين مقام الوصل»

(٣) أي لأنّ قوله : «الوصل» مكان خلافه أخصر وأظهر ، أمّا كونه أخصر من خلافه ، فلأنّ كلّ منهما وإن كان مشتملا على خمسة أحرف ابتداء إلّا أنّ ألف الوصل تحذف في الوصل ، فهو أربعة أحرف فقط ، هذا بخلاف «خلافه» حيث لا يتغيّر أصلا فهو خمسة أحرف دائما. وقيل في وجه كون الوصل أخصر : لكونه كلمة واحدة ولفظ خلافه كلمتان.

وأمّا كونه أظهر فواضح لا يحتاج إلى البيان ، وقد أشار إلى وجهه بقوله : «لأنّ خلاف الفصل إنّما هو الوصل».

(٤) علّة للأظهريّة فقط.

(٥) أي للتّنبيه على عظم شأن مبحث الإيجاز والإطناب بعد مبحث الفصل والوصل فصّله أيضا حيث قال : «ومقام الإيجاز ...» ولم يقل : (والإيجاز يباين مقام خلافه) ولعلّ الوجه لعظم شأن الإيجاز أنّه ليس خاصّا بأحوال أجزاء الجملة ولا بالجمل.

(٦) وإنّما قال هنا «خلافه» ولم يقل : (مقام الإطناب والمساواة) لأنّه أخصر. ثمّ مقام الإيجاز هو المقام الّذي يناسب إقلال اللّفظ واختصاره.

والإطناب : هو تعبير المراد بلفظ زائد على ما يدلّ على أصل المراد ولكن كان ذلك لفائدة. والمساواة : هو التّعبير عن المراد بلفظ غير زائد ولا ناقص.

(٧) فسّر خلاف الإيجاز بالإطناب والمساواة تنبيها على انحصاره فيهما.

(٨) قد فصّل ب «كذا» ـ حيث قال : «وكذا خطاب الذّكي مع خطاب الغبيّ» ولم

١٤٧

فإنّ مقام الأوّل (١) يباين مقام الثّاني (٢) ، فإنّ الذّكي (٣) يناسبه من الاعتبارات اللّطيفة

______________________________________________________

يقل : (ومقام خطاب الذّكي يباين مقام خطاب الغبيّ) ـ اختصارا ، لأنّ «كذا» ولفظ «مع» أخصر من ذكر لفظ المقام مرّتين ولفظ «يباين» مرّة واحدة ، والمعنى : ومثل مقام الإيجاز ومقام خلافه في التّباين مقام خطاب الذّكي مع مقام خطاب الغبيّ ، فالمقصود من هذا الكلام هو تشبيه المقامين بالمقامين في التّباين ، وعلى هذا فلفظ مقام مقدّر في كلام المصنّف ، وقد أشار إليه الشّارح بقوله : «فإنّ مقام الأوّل يباين مقام الثّاني».

وتفصيل الكلام في هذا المقام أنّ اسم الإشارة أعني كلمة (ذا) في قوله : «وكذا» يحتمل أن يكون راجعا إلى «مقام» مضاف إلى الإيجاز وخلافه ، فيكون المعنى : مثل مقام الإيجاز وخلافه في التّباين مقام خطاب الذّكي مع خطاب الغبيّ فيجب تقدير لفظ «مقام» في كلام المصنّف كما عرفت. ويحتمل أن يكون راجعا إلى «مقام» مضاف إلى الأمور المذكورة كلّها ، فيكون المعنى : مثل ما ذكر من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر بالنّسبة إلى مقام خلافه ، ومقام الفصل بالإضافة إلى مقام الوصل ، ومقام الإيجاز بالنّسبة إلى مقام خلافه في التّباين مقام خطاب الذّكي مع مقام خطاب الغبيّ ، فالمقصود من هذا الكلام حينئذ هو تشبيه مقام خطاب الذّكي مع خطاب الغبيّ بالمقامات المتقدّمة في التّباين فيجب أيضا تقدير لفظ مقام في كلام المصنّف ، كما أشار إليه الشّارح بقوله : «فإنّ مقام الأوّل يباين مقام الثّاني». ويحتمل أنّ يكون راجعا إلى نفس الأمور المذكورة الّتي لها تلك المقامات ، من التّنكير والإطلاق والتّقديم والذّكر والفصل والإيجاز وخلافها ، فيكون المستفاد من قوله : «وكذا ...» تشبيه ما يخاطب به الذّكي ، وما يخاطب به الغبيّ بالأمور المتقدّمة وخلافها في التّباين ، فالمعنى مثل ما ذكر من الأمور المتقدّمة وخلافها ما يخاطب به الذّكيّ مع ما يخاطب به الغبيّ في التّباين ، وعلى جميع التّقادير إضافة الخطاب إلى الذّكي والغبيّ من إضافة المصدر إلى المفعول ، والمراد من الخطاب ما خوطب به.

(١) أي مقام خطاب الذّكيّ.

(٢) أي مقام خطاب الغبيّ ، وذكر المقام إشارة إلى تقدير مضاف.

(٣) تعليل للتّباين بين مقام خطاب الذّكي ، وحاصل الكلام في المقام أنّ الذّكاء سرعة الفطنة ، والغباوة عدم الفطنة كما في القاموس.

١٤٨

والمعاني الدّقيقة الخفيّة ما لا يناسب الغبيّ (١) [ولكلّ كلمة مع صاحبتها (١)] أي مع كلمة أخرى مصاحبة لها [مقام (٣)] ليس لتلك الكلمة مع ما يشارك تلك المصاحبة في أصل المعنى (٤)

______________________________________________________

توضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة وهي : أنّ للإنسان قوّة معدّة لاكتساب الآراء ، ثمّ هذه القوّة المسمّاة بالذّهن إمّا سريعة ، وإمّا بطيئة ، فسرعتها ذكاء ، وبطؤها بلادة ، وصاحب الأوّل ذكيّ ، وصاحب الثّاني بليد ، ثمّ إنّ السّريعة تارّة تكون لها جودة وحسن في تهيّئها لحصول ما يرد عليه من الغير ، وأخرى لا تكون لها ذلك ، فالأولى تسمّى فطانة وصاحبها فطنا ، والثّانية تسمّى غباوة وصاحبها غبيّا.

إذا عرفت هذه المقدّمة ، فالمقابل للغبيّ هو الفطن لا الذّكي إلّا أن يقال : إنّه أراد به الفطن واختاره لمناسبة لفظيّة بين الذّكي والغبيّ وليست هذه المناسبة بين الفطن والغبيّ ، فقد ذكر العام وأراد به الخاص بقرينة المقابلة رعاية للمناسبة اللّفظيّة.

(١) كلمة ما في قوله : «ما لا يناسب» فاعل لقوله «يناسبه» والمقصود واضح لا يحتاج إلى التّوضيح ، لأنّ الذّكي يخاطب بما لا يجوز أن يخاطب الغبيّ به ، فإنّ الذّكاوة حال يقتضي التّكلّم بالمجازات والكنايات والغباوة حال يقتضي التّكلّم بالحقائق فقط.

(٢) لا يقال : إنّه قد فهم من قول المصنّف «فمقام كلّ من التّنكير ...» أنّ لكلّ كلمة مع صاحبتها مقاما ، فهذا الكلام ليس إلّا تكرارا لما سبق ، والتّكرار من دون فائدة لغو ، فما الفائدة في هذا التّكرار؟ فإنّه يقال : إنّ قوله : «لكلّ كلمة مع صاحبتها مقاما» ليس تكرارا لما تقدّم ، لأنّ ما تقدّم منه بيان لما يفيد الخواصّ والمزايا لا بمجرّد الوضع ، وهذا الكلام بيان لما يفيدها بالوضع ، فلفظ «مع» في قوله «مع صاحبتها» متعلّق بمضاف محذوف والتّقدير (لوضع كلّ كلمة مع صاحبتها مقام).

(٣) يعني أنّ لكلّ كلمة كالفعل مثلا مع صاحبتها كإن الشّرطيّة مثلا مقام وهو الشّكّ والتّحيّر في وقوعه ، ليس هذا المقام لتلك الكلمة المصاحبة أعني الفعل مع كلمة أخرى كإذا ، حيث إنّ مقامها الجزم بالوقوع لا الشّكّ ، وإن كانت تشارك إن في أصل المعنى وهو التّعليق.

(٤) أي لا في جميعه ليخرج المترادفين المتشاركين في جميع خصوصيّات المعنى كما

١٤٩

مثلا الفعل الّذي قصد اقترانه بالشّرط (١) ، فله مع إن مقام ليس له مع إذا (٢) ، وكذا لكلّ من أدوات الشّرط مع الماضي مقام ليس له مع المضارع (٣) وعلى هذا القياس (٤) [وارتفاع شأن الكلام (٥) في الحسن والقبول (٦)

______________________________________________________

ومهما ، فإنّ مقام الفعل مع ما ، عين مقامه مع مهما من دون تفاوت إذ كلّ منهما لما لا يعقل من دون ميز ، فيجب أن يكون بين الكلمتين تغاير من حيث المعنى في الجملة ، كما عرفت في إن وإذا ، حيث إنّهما اشتركا في أصل المعنى أعني التّعليق واختلفا في أنّ الأولى للشّكّ والثّانية للتّحقيق ، وكذا الماضي والمضارع فإنّهما اشتركا في الدّلالة على الحدث والزّمان واختلفا في أنّ الأوّل للزّمان الماضي ، والثّاني للحال والاستقبال.

(١) أي بأداة الشّرط كإن وإذا مثلا.

(٢) وقد عرفت أنّ مقام الفعل مع إن هو الشّكّ والتّحيّر ، ومع إذا هو الجزم والتّحقيق.

(٣) وهذا الكلام بيان لمقام الأداة مع الفعل وما تقدّم بيان لمقام الفعل مع الأداة.

والحاصل : إنّ للفعل مع أداة الشّرط كإن مثلا مقاما كما أشار إليه بقوله : «الفعل الّذي قصد اقترانه بالشّرط ...» وللأداة مع الفعل مقام ، كما أشار إليه بقوله : «وكذا لكلّ كلمة من أدوات الشّرط مع الماضي مقام ليس له مع المضارع».

ثمّ إنّ ذكر أدوات الشّرط إنّما هو من باب المثال فإنّ أدوات الاستفهام وغيرها كأدوات الشّرط لها مع الماضي مقام ومع المضارع مقام آخر.

(٤) أي على هذا القياس ما عدا ما ذكر كالمبتدأ مثلا ، فإنّ له مع الخبر المفرد مقاما ليس له مع الخبر إذا كان جملة.

(٥) أي ارتفاع حال الكلام وأمره وقوله : «وارتفاع ...» معطوف على قوله «وهو مختلف» من عطف الجمل ، والغرض منهما بيان تعدّد مراتب البلاغة ، وكون بعضها أعلى من بعض ، ثمّ تعيين الأعلى والأسفل.

(٦) أي في باب الحسن الذّاتي والقبول من السّامع والبلغاء ، فعطف القبول على الحسن من عطف اللّازم على الملزوم ، حيث إنّ كون الكلام حسنا مستلزم لكونه مقبولا عند المخاطبين والبلغاء. فقوله : «في الحسن» احتراز عن ارتفاع شأن الكلام بغيره كالتّرغيب والتّرهيب ونحوهما. وحاصل الكلام في المقام : أنّ ارتفاع شأن الكلام بمطابقته لمقتضى الحال بأن يكون مشتملا على الأمر المعتبر المناسب لحال المخاطب وانحطاطه

١٥٠

بمطابقته (١) للاعتبار المناسب (٢) وانحطاطه] أي انحطاط شأنه (٣) [بعدمها] أي بعدم مطابقته (٤) للاعتبار المناسب ، والمراد (٥) بالاعتبار المناسب الأمر الّذي اعتبره المتكلّم مناسبا بحسب السّليقة (٦) أو بحسب تتبّع تراكيب البلغاء (٧) ،

______________________________________________________

بعدمها ، إنّما يكون في باب الحسن لا في غير هذا الباب ، كباب التّرغيب والتّرهيب والنّصيحة ، فإنّ ارتفاعه وانحطاطه في هذه الأبواب باعتبار كثرة التّأثير وقلّته ، واشتماله على كثرة النّصائح وقلّتها فكلّما كان الاشتمال أتمّ ، وكان المشتمل عليه أليق بحال المخاطب ، كان الكلام في مراتب الحسن في نفسه أو القبول عند البلغاء أرفع وأعلى ، وكلّما كان أنقص كان أشدّ انحطاطا وأدنى درجة ، وأقلّ حسنا وقبولا. فالقبول عند البلغاء بقدر المطابقة للاعتبار المناسب والانحطاط بقدر عدم المطابقة.

(١) أي بمطابقة الكلام.

(٢) أي المناسب للحال والمقام.

(٣) أي شأن الكلام ، والتّفسير إشارة إلى أنّ الانحطاط مضاف إلى الضّمير الرّاجع إلى شأن الكلام لا إلى نفسه.

(٤) أي الكلام ، والتّفسير يدلّ على أنّ مرجع الضّمير المؤنّث هي المطابقة.

(٥) دفع لسؤال مقدّر. تقريب السّؤال : أنّه لا وجه لتوصيف الاعتبار بالمناسب للحال والمقام ، فإنّ ما هو المناسب للحال إنّما هو متعلّق الاعتبار ـ أي الأمر المعتبر كالتّأكيد والتّجريد والحذف وغيرها من مقتضيات الأحوال ـ لا الاعتبار الّذي هو فعل من أفعال المتكلّم ، مثلا قولك : إنّ زيدا قائم ، مشتمل على التّأكيد ـ وهو الأمر المعتبر ـ لا على اعتبارك وملاحظتك له.

وحاصل الدّفع : إنّ المراد بالاعتبار هو الأمر المعتبر من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول مبالغة وتنبيها على أنّ الأمر المناسب للزوم اعتباره ، صار كنفس الاعتبار.

(٦) هذا فيما إذا كان المتكلّم من العرب العرباء ، فإنّ العرب بحسب سليقته وطبيعته وجبلّته يتكلّم بكلام بليغ.

(٧) هذا فيما إذا كان المتكلّم من غير العرب ، ثمّ المراد بالتّتبّع هو مطلق التّتبّع أي سواء كان بلا واسطة أو معها.

١٥١

يقال : اعتبرت الشّيء إذا نظرت إليه وراعيت حاله (١) وأراد (٢) بالكلام الكلام الفصيح

______________________________________________________

الأوّل : كما إذا يرى المتكلّم التّأكيد مناسبا للإنكار من أجل تتّبعه تراكيب البلغاء ، وتحصيله منها ، إنّ الكلام مع المنكر لا بدّ أن يؤكّد.

والثّاني : كما إذا يرى المتكلّم التّأكيد مناسبا للإنكار من أجل كونه عارفا بالقواعد المدوّنة الّتي سمّيت بعلم المعاني.

(١) هذا الكلام أتى به كالدّليل من اللّغة لما ذكره من أنّ المراد بالاعتبار هو الأمر المعتبر.

وحاصله : إنّ من هو من أهل اللّغة كثيرا ما يقول : اعتبرت الشّيء إذا نظر إليه وراعى حاله ، فالأمر المعتبر عبارة عن الّذي ينظر إليه ويراعى حاله وشأنه ، ومقتضى ذلك كون الاعتبار في المقام بمعنى المعتبر ، لأنّ ما ينظر إليه المتكلّم ويراه مناسبا للمقام ـ فيراعى حاله ـ ليس نفس الاعتبار الّذي هو فعل من أفعاله.

(٢) هذا الكلام من الشّارح دفع لما أورد على كلّ من المقدّمتين في كلام المصنّف.

المقدّمة الأولى : هو قوله : «وارتفاع شأن الكلام ...».

المقدّمة الثّانية : هو قوله : «وانحطاطه بعدمها» فلا بدّ من بيان الإيراد على كلتا المقدّمتين كي يتّضح دفعه.

فنقول : إنّ حاصل الإيراد على الأولى : أنّ ارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول إنّما هو بكمال المطابقة وزيادتها لا بأصل المطابقة ، لأنّ الحاصل بأصل المطابقة إنّما هو أصل الحسن لا ارتفاعه ، وظاهر كلام المصنّف هو حصول الارتفاع بأصل المطابقة دون كمالها وزيادتها وهو غير صحيح.

وملخّص الإيراد على الثّانية : إنّ الانحطاط في الحسن إنّما هو بعدم كمال المطابقة وعدم زيادتها لا بعدمها من أصلها ، كما يظهر من كلامه ، لأنّ الانحطاط في الحسن يقتضي ثبوت أصل الحسن ، وهو إنّما يكون بالمطابقة ، وإذا انتفت المطابقة انتفى الحسن بالكليّة ، فلا يتمّ ما ذكره من أنّ الانحطاط في الحسن بعدم المطابقة ، بل الحقّ أن يقول : إنّ الانحطاط في الحسن بعدم كمال المطابقة وعدم زيادتها.

وحاصل الدّفع : إنّ المراد ـ بالكلام في قوله : «وارتفاع شأن الكلام» ـ هو الكلام

١٥٢

وبالحسن (١) الحسن الذّاتي الدّاخل في البلاغة دون العرضيّ الخارج لحصوله

______________________________________________________

الفصيح لذكره الفصاحة في الكلام في تعريف البلاغة في الكلام ، حيث قال : «البلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» ، فحينئذ يدفع الإيراد عن كلتا المقدّمتين ، لأنّ أصل الحسن ثبت للكلام بالفصاحة وارتفاع ذلك الحسن يكون بالمطابقة ، كما أنّ انحطاطه بعدمها.

وبعبارة واضحة : إنّ أصل الحسن إنّما يتحقّق بالفصاحة ، فارتفاعه يحصل بالمطابقة كما أنّ انحطاطه من المرتبة العليا الحاصلة بالمطابقة إلى المرتبة الدّنيا الحاصلة بالفصاحة يحصل بعدم المطابقة.

لا يقال : إنّ هذا الجواب من الشّارح ينافي ما سيأتي من المصنّف من أنّ الكلام الغير المطابق للاعتبار المناسب ملتحق بأصوات الحيوانات فلا حسن فيه أصلا ولو بواسطة الفصاحة.

فإنّه يقال : إنّ الالتحاق بأصوات الحيوانات في كلامه مقيّد ب «عند البلغاء» فلا يلزم من التحاقه بها عندهم التحاقه بها عند غيرهم ممّن يكون واجدا للفصاحة فقط ، فيكون معنى كلامه في المقام ـ على ما فسّره الشّارح ـ إنّ ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن والقبول عند غير البلغاء بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه بعدمها ، وهذا لا ينافي ما سيجيء منه.

(١) هذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ ما ذكره المصنّف ـ من أنّ ارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب لا غير ، حيث إنّ إضافة المصدر تفيد الحصر ـ لا أساس له إذ لا شكّ في أنّ ارتفاع شأن الكلام لا ينحصر في المطابقة ، بل قد يرتفع باشتماله على المحسّنات اللّفظيّة والمعنويّة البديعيّة كالجناس والطباق ونحوهما.

وحاصل الكلام في الجواب : إنّ المراد بالحسن في المقام هو الحسن الذّاتي الّذي هو داخل في البلاغة لا مطلق الحسن فحينئذ لا يبقى مجال لهذا السّؤال ، لأنّ ارتفاع شأن الكلام بالمحسّنات البديعيّة إنّما هو في الحسن العرضي الخارج عن البلاغة لا في الحسن الذّاتي الدّاخل في البلاغة ، ثمّ المراد من كون الحسن داخلا في البلاغة كون موجبه وسببه داخلا في تعريفها ، أعني المطابقة فإنّها سبب للحسن ومأخوذة في تعريف البلاغة في

١٥٣

بالمحسّنات البديعيّة [فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب] للحال والمقام (١) يعني (٢) إذا علم أن ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن الذّاتي إلّا بمطابقته (٣) للاعتبار المناسب على ما تفيده إضافة المصدر (٤) ، ومعلوم (٥) أنّه إنّما يرتفع بالبلاغة الّتي هي عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال.

______________________________________________________

قوله : «البلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته» فيكون معنى كلامه إنّ ارتفاع شأن الكلام منحصر في الحسن الذّاتي. ويمكن تحرير السّؤال والجواب بتعبير آخر ، فتحرير السّؤال : إنّ قوله : «وارتفاع شأن الكلام في الحسن بمطابقته ...» لا يتمّ لأنّ ارتفاع شأنه في الحسن إنّما هو باشتماله على المحسّنات البديعيّة لا بالمطابقة المذكورة.

وحاصل الجواب : إنّ المراد بالحسن هو الحسن الذّاتي الحاصل بالبلاغة ، ولا شكّ أنّ ارتفاعه إنّما هو بالمطابقة المذكورة لا الحسن العرضي الّذي يحصل بالمحسّنات البديعيّة.

(١) الفاء في قوله : «فمقتضى» تفريعيّة ، فكلامه هذا تفريع على قوله : «وارتفاع شأن الكلام ...» والضّمير في قوله : «هو الاعتبار ...» ضمير فصل مفيد للحصر ، فمعنى كلامه أنّ مقتضى الحال هو الاعتبار المناسب لا غير.

(٢) وقد أشار بهذا التّفسير إلى أنّ الفاء تفريعيّة لا تعليليّة ، وذلك لوجهين :

الأوّل : لكثرة الفاء التّفريعيّة.

الثّاني : إنّ المناسب للفاء التّعليليّة أن يقول : فالاعتبار المناسب هو مقتضى الحال والمقام ، بدل قوله : «فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب للحال والمقام».

هذا مع أنّ جعل الفاء للتّعليل ركيك ، وفي الدّسوقي : إنّ التّفسير المذكور إشارة إلى أمرين ، أي إلى كون الفاء تعليليّة ، وإلى تقدير مقدّمة بديهيّة غير معلومة من كلام المصنّف ، وترك ذكرها للعلم بها ، وستأتي الإشارة إليها في كلام الشّارح «ومعلوم أنّه ...».

(٣) أي مطابقة الكلام الفصيح.

(٤) وهو قوله : «ارتفاع ...» فإنّه مفرد مضاف إلى معرفة فيفيد العموم ، والعموم في هذا المقام يستلزم الحصر ، لأنّ المعنى حينئذ هو كلّ ارتفاع فهو بالمطابقة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا يكون ارتفاع بدون المطابقة المذكورة.

(٥) أي معلوم من كلامهم لا من كلام المصنّف ، فهذا الكلام من الشّارح إشارة إلى

١٥٤

فقد علم (١) أنّ المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد وإلّا (٢) لما صدق أنّه لا يرتفع إلّا بالمطابقة للاعتبار المناسب ولا يرتفع إلّا بالمطابقة لمقتضى الحال ، فليتأمّل (٣).

______________________________________________________

أنّ هذه المقدّمة معلومة من كلامهم ، وليست معلومة من كلام المصنّف ، والمعلوم من كلام المصنّف هي المقدّمة الأخرى الّتي ذكرها بقوله : «وارتفاع شأن الكلام ...» وقد علم من هاتين المقدّمتين أنّ المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد.

(١) حاصل الكلام في هذا المقام أنّه قد علم بالقياس الحاصل من المقدّمتين المذكورتين أنّ المراد من الاعتبار المناسب هو مقتضى الحال وبالعكس ، وترتيب القياس من الشّكل الأوّل هكذا : مقتضى الحال ما يرتفع بمطابقته شأن الكلام وكلّ ما يرتفع بمطابقته شأن الكلام فهو اعتبار مناسب للحال ، فينتج : إنّ مقتضى الحال هو الاعتبار المناسب للحال.

فقد علم أنّهما واحد ، فهما مترادفان أو متساويان. فيصدق الحصران إذا قيل : إنّه لا يرتفع شأن الكلام إلّا بالمطابقة للاعتبار المناسب ولا يرتفع إلّا بالمطابقة لمقتضى الحال.

(٢) أي ولو لم يكن المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال معنى واحدا ، وبعبارة أخرى : إن لم يكن بينهما اتّحاد بأن كان تباين كلّي أو تباين جزئيّ أو عموم مطلق ، لما صدق الحصران السّابقان ، بل بطل الحصران المذكوران.

(٣) لعلّه إشارة إلى المناقشة في الملازمة بين المقدّم والتّالي في القياس الاستثنائي المستفاد من قوله : «وإلّا لما صدق أنّه ...». وتقريب المناقشة على تقدير أن يكون المراد بقوله : «واحد» الاتّحاد في المفهوم يمكن بوجهين :

الأوّل : أنّه يصدق الحصران مع عدم اتّحادهما ، كما لو كان بينهما عموم وخصوص مطلق ، فإنّ الحصر في الخاصّ كحصر الكاتب في الإنسان لا ينافي الحصر في العام كحصره في الحيوان ، لأنّ الحصر في العام لا يستلزم ثبوت الحكم ، أي حكم الخاصّ لجميع أفراد العام ، بل غاية ما يفيد أنّ هذا الحكم لا يخرج عن هذا العام ، ومن البديهي إنّ عدم خروج الحكم عن العام لا يقتضي عموم الحكم لجميع الأفراد. فالملازمة ـ بين المقدّم أعني : إن لم يكن بينهما اتّحاد ، والثّاني أعني : لما صدق الحصران ـ غير ثابتة لصدق الحصرين مع عدم الاتّحاد.

١٥٥

[فالبلاغة (١)] صفة [راجعة إلى اللّفظ] يعني أنّه (٢) يقال كلام بليغ لكن لا من حيث إنّه لفظ وصوت (٣)

______________________________________________________

الثّاني : إنّ المطلوب هو بيان اتّحاد مقتضى الحال مع الاعتبار المناسب ، وما ذكر في الدّليل لا يفيد الاتّحاد في المفهوم يقينا ، بل يحتمل أن يكونا متساويين في الصدّق فقط لا المتّحدين في المفهوم مع أنّ المطلوب هو الاتّحاد في المفهوم. هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التّأمّل ، وأمّا كلام المحشّين والشّارحين في هذا المقام فلا يخلو عن اضطراب.

وقيل في المقام ما هذا لفظه : وجه التّأمّل ، إنّه لو لم يكن الاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد لبطل أحد الحصرين أو كلاهما. وفيه نظر : أمّا بطلان أحد الحصرين : فإذا كان بين مقتضى الحال والاعتبار المناسب عموم وخصوص مطلق ، وأمّا بطلان كليهما : إذا كان بينهما مباينة أو عموم من وجه. وجه النّظر إنّ الحصر على أحدهما لا يوجب أن يتناول الحكم لكلّ واحد من الأفراد حتّى يكون الحصر على الخاصّ منافيا لذلك. انتهى.

(١) قوله : «فالبلاغة» إمّا تفريع على تعريف البلاغة ، لأنّ المطابقة صفة الكلام المطابق لمقتضى الحال فيصحّ التّفريع المذكور ، أي «فالبلاغة صفة راجعة إلى اللّفظ» أو تفريع على قوله : «وارتفاع شأن الكلام ...» أو جواب إذا المقدّرة ، والتّقدير إذا علمت ما تقدّم لك من التّعريف فاعلم أنّ البلاغة راجعة إلى اللّفظ ، لأنّ المطابقة المذكورة في تعريفها صفة المطابق وهو الكلام الّذي هو عبارة عن اللّفظ لكن لا مطلقا ، بل باعتبار إفادته المعنى ، كما في كلام المصنّف. وقيل : إنّ المصنّف قصد ـ بقوله «فالبلاغة صفة ...» ـ دفع التّنافي بين كلامي عبد القاهر حيث جعل البلاغة صفة للّفظ تارة ، وقال مرّة أخرى : إنّ البلاغة ترجع إلى المعنى لا إلى اللّفظ ، والتّنافي بين الكلامين أظهر من الشّمس.

وحاصل الدّفع : إنّ المراد من كلامه أنّ البلاغة ترجع إلى المعنى لا إلى اللّفظ ، هو أنّها ليست صفة للفظ باعتبار ذاته ، بل باعتبار إفادته المعنى الثّاني الزّائد على أصل المراد لا باعتبار اللّفظ فقط ، فلا تنافي بين كلاميه.

(٢) أي اللّفظ كلام بليغ.

(٣) عطف صوت على لفظ إنّما هو من قبيل عطف العامّ على الخاصّ ، ومعنى هذا الكلام أنّ البلاغة صفة راجعة إلى اللّفظ بمعنى أنّ ذلك اللّفظ كلام بليغ لكن لا من حيث

١٥٦

بل [باعتبار (١) إفادته المعنى] أي الغرض المصوّغ له الكلام [بالتّركيب (٢)] متعلّق بإفادته (٣) وذلك (٤) لأنّ البلاغة (٥) كما مرّ (٦) عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح

______________________________________________________

إفادته المعنى الأوّل الّذي هو مجرّد النّسبة بين الطّرفين على أيّ وجه كان ، بل باعتبار إفادته المعنى الزّائد المصوّغ له الكلام.

(١) متعلّق بقوله : «راجعة» ، فمعنى كلام المصنّف أنّ البلاغة صفة راجعة إلى اللّفظ باعتبار كون ذلك اللّفظ مفيدا للمعنى المقصود الزّائد على أصل المعنى ، وهو الخصوصيّات الّتي يقتضيها المقام ، كردّ الإنكار والتّخطئة والتّعظيم والتّحقير والتّنكير والتّقليل وغير ذلك ، ممّا يأتي تفصيله في علم المعاني.

(٢) وهذا القيد يمكن أن يكون توضيحيّا فيكون مفاده عدم الإفادة أصلا عند عدم التّركيب ، كما نسب إلى الشّيخ.

ويمكن أن يكون تخريجيّا بناء على أنّ الإفادة لا تنحصر في التّركيب ، بل قد توجد من دون التّركيب ، كما إذا أردت أن تلقي على الحاسب أجناسا ليرفع حسابها ، فنقول : غلام ، ثوب ، مكواة ، وهكذا ، فإنّ تلك الألفاظ المفردة مفيدة ، فالإفادة غير منحصرة في التّركيب.

(٣) أي بيان كون البلاغة صفة راجعة للّفظ باعتبار إفادة المعنى بالتّركيب.

(٤) شروع في بيان تفريع قوله : «فالبلاغة ...» على التّعريف الّذي ذكره لبلاغة الكلام ، وحاصله : إنّ البلاغة على ما مرّ في التّعريف عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال ، ولازم ذلك رجوعها إليه من حيث إفادته الغرض الدّاعي إلى التّكلّم به ، فإنّ المطابقة لمقتضى الحال ليس من أوصاف الألفاظ المجرّدة عن المعاني والأغراض المصوّغ لها الكلام ، كيف وإلّا لزم صحّة اتّصاف كلّ كلام بها ، وهو باطل جزما ، فليس اتّصاف الألفاظ بالبلاغة إلّا لأجل إفادتها المعاني والأغراض المصوّغ لها الكلام ، كردّ الإنكار مثلا ، وبالجملة إنّ رجوع البلاغة إلى اللّفظ إنّما هو باعتبار إفادته المعنى والغرض المصوّغ له الكلام.

(٥) علّة لرجوع البلاغة إلى اللّفظ.

(٦) أي في مقام التّعريف.

١٥٧

لمقتضى الحال (١) ، وظاهر (٢) أنّ اعتبار المطابقة وعدمها (٣) إنّما يكون باعتبار المعاني (٤) والأغراض الّتي يصاغ لها الكلام (٥) لا باعتبار الألفاظ المفردة (٦) والكلم المجرّدة (٧) ، [وكثيرا ما] نصب (٨) على الظّرفيّة (٩)

______________________________________________________

(١) أي البلاغة عبارة عن مطابقة الكلام ، فقد أضيفت المطابقة الّتي هي البلاغة إلى الكلام الّذي هو اللّفظ ، وهذه الإضافة تكشف عن أنّها راجعة إلى اللّفظ.

(٢) علّة لكون البلاغة صفة راجعة إلى اللّفظ باعتبار المعنى ، فهذا التّعليل يرجع إلى قوله : «باعتبار إفادته المعنى».

(٣) أي عدم المطابقة ، وظاهر عود الضّمير إلى المطابقة هو عطف عدمها على المطابقة ، إذ لو كان عطفا على اعتبار ، لكان الظّاهر أن يقول : (وعدمه) بتذكير الضّمير إلّا أن يقال : إنّه اكتسب التّأنيث من المضاف إليه مع صحّة حذفه ، فيصحّ عطف عدمها على «اعتبار» فتأنيث الضّمير حينئذ إنّما هو بالنّظر إلى المضاف إليه أعني المطابقة.

(٤) أي وجودا وعدما ليطابق قوله : «اعتبار المطابقة وعدمها».

(٥) المراد من الأغراض هي مقتضيات الأحوال أعني الخصوصيّات الزّائدة على أصل المراد ، وتطلق عليها المعاني الثّانويّة أيضا ، فيكون عطف الأغراض على المعاني من عطف مرادف على مرادف ، لأنّ المراد بالمعاني هي الخصوصيّات الزّائدة على أصل المراد أعني المعاني الثّانويّة.

(٦) أي الألفاظ المجرّدة عن اعتبار إفادة المعاني ، وليس المراد من المفردة غير المركّبة ، كما قيل : لأنّ المطابقة ليست من حيث ذات اللّفظ مطلقا مفردا أو مركّبا.

(٧) أي الكلم المجرّدة عن اعتبار المعنى الثّاني الزّائد على أصل المراد ، وحاصل الكلام : إنّ الكلام من حيث إنّه ألفاظ مجرّدة عن إفادة المعنى الثّاني لا يتّصف بكونه مطابقا لمقتضى الحال ولا بعدم المطابقة ، وأمّا من حيث إفادته المعنى الثّاني فيتّصف بهما.

(٨) فيه احتمالات : الأوّل : أن يكون فعلا ماضيّا مبنيّا للمفعول ، أي نصب.

الثّاني : أن يكون مصدرا بمعنى منصوب مجازا.

الثّالث : أن يكون مصدرا بمعناه الحقيقي ، فيجب حينئذ تقدير مضاف ، أي ذو نصب.

(٩) أي على الظّرفيّة الزّمانيّة كما أشار إليه بقوله : «لأنّه من صفة الأحيان» ويمكن أن يكون نصبه على الصّفتيّة لكونه صفة لمصدر محذوف وفي التّقدير : تسميته كثيرا.

١٥٨

لأنّه (١) من صفة الأحيان (٢) وما لتّأكيد معنى الكثرة (٣) ، والعامل فيه (٤) قوله : [يسمّى ذلك] الوصف المذكور (٥) [فصاحة أيضا (٦)] كما يسمّى بلاغة فحيث يقال :إنّ إعجاز القرآن من جهة كونه في أعلى طبقات الفصاحة يراد بها (٧) هذا المعنى (٨) [ولها] أي لبلاغة الكلام (٩) ،

______________________________________________________

ولا يقال : إنّ لازم كون «كثيرا» صفة المصدر تأنيثه ، وذلك لوجوب مطابقة الصّفة والموصوف في التّذكير والتّأنيث.

فإنّه يقال : إنّ صفة المصدر وخبره لا يجب تأنيثها كما في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(١).

(١) أي كثيرا من صفة الأحيان ، فيكون قوله : «لأنّه» تعليلا لنصب «كثيرا» على الظّرفيّة.

(٢) وليس المراد من كونه صفة الأحيان أنّه صفة لها فعلا ، وذلك لوجوب تأنيثه حينئذ ، بل المراد أنّه كان في الأصل صفة الأحيان ، ثمّ أقيم مقامها بعد حذفها ، وصار بمعناها وقد أعرب إعرابها أعني النّصب على الظّرفيّة الزّمانيّة ، لأنّ الظّرف منحصر في الزّمان والمكان.

(٣) أي كلمة «ما» تكون زائدة وقد أوتي بها «لتأكيد معنى الكثرة» فإنّ من المؤكّدات الحروف الزّائدة.

(٤) أي في الظّرف ما يقع بعد «ما» وهو قوله : «يسمّى في المقام».

(٥) المراد من «الوصف المذكور» هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال الّتي تقدّمت في تعريف البلاغة حيث قال : «والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال».

(٦) وعلى هذا التّقدير تكون الفصاحة والبلاغة مترادفتين ، لأنّ مطابقة الكلام لمقتضى الحال يسمّى «فصاحة أيضا» أي كما يسمّى بلاغة.

(٧) أي يراد بالفصاحة.

(٨) أي مطابقة الكلام لمقتضى الحال فتكون الفصاحة حينئذ بمعنى البلاغة ، فلا ينافي ما ذكره الشّارح في مرجع الضّمير في قوله : «لها» حيث فسّره بقوله : «أي لبلاغة الكلام».

(٩) أي التّفسير المذكور من الشّارح لعلّه لدفع توهّم رجوع الضّمير إلى الفصاحة.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٥٦.

١٥٩

[طرفان (١) أعلى وهو (٢) حدّ الإعجاز] وهو (٣) أن يرتقى الكلام (٤) في بلاغته (٥) إلى أن يخرج عن طوق البشر (٦) ويعجزهم (٧)

______________________________________________________

(١) أي مرتبتان ، أي مرتبة أعلى ومرتبة أدنى وبينهما ، وهذا إشارة إلى أنّ البلاغة تختلف بمراعاة تمام الخصوصيّات المناسبة للمقام وعدم مراعاة جميعها ، بل واحدة منها.

فعلى الأوّل : يتحقّق الطّرف الأعلى للبلاغة وهو حدّ الإعجاز ، أي مرتبة الإعجاز. وعلى الثّاني : يتحقّق الطّرف الأسفل ، ثمّ المراتب المتوسّطة بينهما تتحقّق بحسب مراعاة كثرة الاعتبارات المناسبة للمقام وقلّتها ، وفي قوله : «ولها طرفان» استعارة بالكناية أي شبّه في نفسه البلاغة في الكلام بشيء ممتدّ له طرفان في الامتداد ، ثمّ ترك أركان التّشبيه سوى لفظ المشبّه ، وأراد به معناه الحقيقي وأثبت له لازما من لوازم المشبّه به أعني «الطّرفان» فالتّشبيه المضمر في النّفس استعارة بالكناية وإثبات الطّرفين للبلاغة استعارة تخييليّة.

(٢) أي الأعلى حدّ الإعجاز ، أي مرتبته فيكون الحدّ بمعنى المرتبة وإضافته إلى الإعجاز بيانيّة.

(٣) أي الإعجاز.

(٤) أي يرتفع شأن الكلام.

(٥) أي بسبب بلاغته لا بسبب أمر آخر كالإخبار عن المغيبات مثلا ، فكلمة «في» للسّببيّة كما في قوله : (... في هرّة حبستها).

(٦) أي عن قدرتهم وطاقتهم.

(٧) أي الكلام يعجز البشر عن المعارضة ، فالضّمير المستتر راجع إلى الكلام ، والبارز إلى البشر.

لا يقال : إنّ ما ذكر في تفسير الإعجاز من أنّه أن يرتقى الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ممنوع ، لأنّ البلاغة متقوّمة بركيزتين : إحداهما المطابقة ، والأخرى الفصاحة ، وعلم البلاغة أعني المعاني والبيان متكفّل لإتمام هاتين الرّكيزتين ، فمن أحاط بهذين العلمين يمكن أن يراعيهما حقّ الرّعاية فيأتي بكلام هو في الطّرف الأعلى من البلاغة.

فإنّه يقال : لا يعرف بهذا العلم إلّا أنّ هذا الحال يقتضي ذلك الاعتبار مثلا ، وأمّا الاطّلاع على جميع الأمور الّتي بها يطابق الكلام لمقتضى الحال فلا يمكن إلّا لله تعالى ، فلا

١٦٠