دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

[وإمّا في الانتقال (١)] عطف على قوله ـ إمّا في النّظم ـ أي لا يكون الكلام ظاهر الدّلالة على المراد (٢) لخلل واقع في انتقال الذّهن (٣) من المعنى الأوّل (٤) المفهوم بحسب اللّغة إلى الثّاني المقصود وذلك (٥) بسبب إيراد اللّوازم البعيدة (٦) المفتقرة (٧) إلى الوسائط الكثيرة (٨) مع خفاء القرائن الدّالّة على المقصود.

______________________________________________________

(١) عدل لقوله : «أمّا في النّظم» وهو التّعقيد المعنوي كما أنّ الأوّل تعقيد لفظي.

(٢) أي على المعنى المراد منه.

(٣) أي في توجّه ذهن من قصد إفهامه.

(٤) المراد من «المعنى الأوّل» هو المعنى الأصلي الحقيقي المفهوم من الكلام ابتداء ، ومن المعنى الثّاني ما هو المقصود للمتكلّم ، وله نوع ملابسة بالمعنى الأوّل أعني المعنى الكنائي أو المجازي. فالمعنى الأوّل مثل كثرة الرّماد ، والمعنى الثّاني مثل الكرم والجود في قولك : فلان كثير الرّماد ، فإن كانت الوسائط كثيرة وخفيت القرائن كان الكلام صعب الفهم وإن كانت كثيرة ووجدت القرائن الواضحة لا يكون صعب الفهم ، فمدار صعوبة الفهم الموجب للتّعقيد المعنوي على خفاء القرائن مع كثرة الوسائط لا على كثرة الوسائط فقط ، وقد أشار إلى هذا بقوله : «وذلك بسبب إيراد اللّوازم ...».

(٥) أي الخلل الواقع في الكلام الموجب لخلل في انتقال الذّهن إلى المعنى الكنائي المقصود.

(٦) أي البعيدة من الملزومات الّتي هي المقصودة له.

(٧) بيان لكونها بعيدة ، فهو وصف كاشف لها.

(٨) أي الوسائط الكثيرة بين اللّوازم والملزومات ، وهذا الكلام من الشّارح محمول على الأغلب بمعنى أنّ الخلل غالبا يتحقّق بتعدّد اللّوازم والوسائط وإلّا فقد يكون الخلل المذكور بواسطة واحدة ولازم واحد ، ثمّ كثرة الواسطة إنّما توجب الخلل مع خفاء القرائن ، وأمّا لو كانت القرينة ظاهرة فلا يتحقّق خلل سواء تعدّدت الوسائط كما في قولك : (فلان كثير الرّماد) مريدا به الإخبار عن كرمه أو لم تتعدّد كقولك : (فلان طويل النّجاد) مريدا به الإخبار عن طول قامته ، وإنّما لم يتعرّض الشّارح له لندرة وقوعه ، لأنّ اللّازم القريب قلّما يخفى لزومه. فظهر من هذا البيان أنّ الأقسام أربعة يحصل الخلل في صورتين أعني ما إذا كانت القرينة خفيّة تعدّدت الوسائط ، كما يأتي في قوله :

١٢١

[كقول الآخر] وهو (١) عبّاس بن الأحنف ، ولم يقل كقوله (٢) ، لئلّا يتوهّم عود الضّمير إلى الفرزدق [سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا* وتسكب] بالرّفع وهو الصّحيح (٣) ، وبالنّصب وهم (٤) ، [عيناي الدّموع لتجمدا (٥)]

______________________________________________________

«وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا» أو لم تتعدّد ولا خلل في صورتين منها ، وهما إذا كانت القرينة غير خفيّة سواء تعدّدت الوسائط كما في قولك : (فلان كثير الرّماد) أو لم تتعدّد ، كما في قولك : (فلان طويل النّجاد) وفي المقام كلام طويل أضربنا عنه تجنّبا عن التّطويل المملّ.

(١) أي الآخر.

(٢) أي لم يقل كقوله ، لئلّا يتوهّم عود الضّمير إلى الفرزدق بل قال : كقول الآخر أي قول الشّخص الآخر لئلّا يتوهّم أنّ هذا أيضا من الفرزدق.

(٣) هو الصّحيح رواية ودراية لثبوته عنده بالنّقل الصّحيح ولذا أجرى عليه في بيان معنى البيت كما يأتي.

(٤) أي غلط ، لأنّ نصبه إمّا عطف على «تقربوا» أو على «بعد» وكلاهما لا يصحّ إذ يلزم على الأوّل أن يكون سكب الدّموع علّة لطلب البعد ، وعلى الثّاني يلزم أن يكون الحزن مطلوبا.

(٥) أي العينان ، إنّ قوله «سأطلب» السّين لمجرّد التّأكيد ، وقيل للاستقبال والتّأكيد معا وإنّما أتى به للإشارة إلى أنّ بعد الدّار وإن كان وسيلة للقرب الّذي هو المقصد الأقصى للعشّاق إلّا أنّه من حيث إنّه بعد في نفسه ، ومع قطع النظر عن الغرض المقصود منه حقيق بأنّه سيوف ، ومن أجل ذلك أضافه الشّاعر إلى الدّار لا إلى نفسه وأضاف القرب إلى الأحبّة ، و «أطلب» متكلّم من الطّلب ، «البعد» بالضمّ ضدّ القرب ، «تسكب» بضمّ الكافّ مضارع من السّكب بمعنى الصّبّ أي تصبّ ، «الدّموع» جمع دمع ، وهو ماء العين «تجمد» بكسر الميم مضارع من الجمود وهو الجفاف وانقطاع الدمع للفرح والسّرور.

الإعراب : «سأطلب» السّين لمجرّد التّأكيد ، «أطلب» فعل مضارع مرفوع ، والضّمير المستتر فيه وجوبا فاعله «بعد الدّار» مضاف ومضاف إليه مفعول «أطلب» ، «عنكم» جار ومجرور متعلّق ب «بعد» ، «لتقربوا» اللّام حرف جرّ ، و «تقربوا» فعل مضارع منصوب بأن ، والضّمير المستتر فيه فاعله ، والجملة مؤوّلة بالمصدر ، أي قربكم وهو مجرور باللّام

١٢٢

جعل سكب الدّموع كناية عمّا يلزم فراق الأحبّة من الكآبة والحزن (١)

______________________________________________________

متعلّق ب «أطلب» ، «و» عاطفة ، «تسكب عيناي الدّموع» فعل وفاعل ومفعول «لتجمدا» اللّام حرف جرّ تجمدا فعل مضارع منصوب بتقدير أن ، والضّمير المستتر فيه جوازا فاعله ، والجملة مؤوّلة بالمصدر وهو مجرور باللّام متعلّق ب «تسكب» والجملة عطف على جملة «سأطلب».

والشّاهد فيه : اشتماله على التّعقيد المعنوي حيث إنّ الشّاعر قد جعل جمود العين كناية عن الفرح والسّرور ، وهذا على غير ما ينبغي ، فإنّ الذّهن ينتقل من جمود العين إلى الكآبة والحزن لا إلى الفرح والسّرور حيث إنّ جمود العين معناه العرفي يبس العين من الدّمع حال إرادة البكاء ، وهي حالة الكآبة والحزن لا حالة الفرح والسّرور.

نعم ، بعد التّأمّل والتّدقيق في أطراف البيت ينتقل الذّهن إلى الفرح بصعوبة لكثرة الوسائط وخفاء القرينة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الذهن ينتقل من يبس العين من الدّمع حال إرادة البكاء إلى مطلق خلوّ العين من الدّمع على نحو انتقال الذّهن من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ، ثمّ ينتقل منه إلى عدم انفعال القلب وعدم تأثّره من شيء يوجب الحزن كفراق الأحبّة ونحوه ، ثمّ ينتقل منه إلى انتفاء الحزن ، ثمّ ينتقل منه إلى الفرح والسّرور ، ففي المقام تتعدّد الوسائط.

وأمّا الثّاني : أي خفاء القرينة فلأنّ القرينة قوله : «لتقربوا» المتعلّق بقوله : «سأطلب» ، ومعلوم أنّ كونه قرينة على ما هو المقصود من قوله : «لتجمدا» ليس من الوضوح بمكان يلتفت الذّهن إليه بسرعة ، بل إنّما ينتقل إليه بعد التّأمّل والتّدقيق ، لأنّ شهرة استعمال الجمود في خلوّ العين من الدّمع حال إرادة البكاء تعارض هذه القرينة وتصادمها ابتداء بحيث لا يرجّح الذّهن جانب القرينة إلّا بعد تأمّل دقيق ، فالانتقال إلى المقصود يحصل بصعوبة كاملة وهذا معنى التّعقيد.

(١) المراد من الكآبة هو سوء الحال والانكسار النّاشئ من الحزن فعطف الحزن على الكآبة في قول الشّارح من قبيل عطف السّبب على المسبّب ، ثمّ قول الشّارح «جعل سكب الدّموع كناية ...» إشارة إلى أنّ مراد الشّاعر من سكب الدّموع ليس معناه الحقيقي ، بل المراد هو الإخبار بلازمه الّذي هو الكآبة والحزن فيكون كناية عن الشّيء الّذي يلزم فراق الأحبّة أعني : الكآبة والحزن.

١٢٣

وأصاب (١) لك نّه (٢) أخطأ في جعل جمود العين كناية عمّا يوجبه دوام التّلاقي من الفرح والسّرور [فإنّ الانتقال (٣) من جمود العين إلى بخلها بالدّموع] حال إرادة البكاء وهي (٤) حالة الحزن على مفارقة الأحبّة [لا إلى ما قصده من السّرور (٥)] الحاصل بالملاقاة (٦).

______________________________________________________

(١) أي أصاب الشّاعر ـ وهو عبّاس بن الأحنف ـ في الكناية ، لأنّها عبارة عن ذكر اللّازم أعني السّكب ، وإرادة الملزوم أعني الحزن ، إذ يفهم الحزن من سكب الدّموع عرفا ، ولهذا يقال : (أبكاه الدّهر) كناية عن أحزنه ، أو يقال : (أضحكه) كناية عن (أسرّه) فأصاب الشّاعر في جعله سكب الدّموع كناية عن الحزن.

(٢) أي الشّاعر أخطأ في نظر البلغاء حيث إنّ ما صنعه مخالف لموارد استعمالهم ، وذلك لأنّ الجاري على استعمالهم إنّما هو الانتقال من جمود العين ، أي يبسها إلى بخلها بالدّموع وقت طلبها منها ، وهو وقت الحزن على مفارقة الأحبّة فهو الّذي يفهم من جمودها لا دوام الفرح والسّرور كما قصد الشّاعر.

وحاصل الكلام أنّ الشّاعر أخطأ في نظر البلغاء كما عرفت ، لا أنّه أخطأ بالنّظر إلى الواقع ونفس الأمر ، بأن يكون كلامه فاسدا.

ثمّ قوله «السرور» إن كان مصدرا لازما ، كما هو المتبادر من تقرير الصّحاح ، فالأمر ظاهر لوجود التّناسب بينه وبين الفرح ، لأنّ الفرح لازم. وإن كان السّرور متعدّيا ، كما هو المنقول عن كثير من كتب اللّغة أحتيج إلى جعله هنا مبنيّا للمجهول لأنّه المناسب للمقام حيث يكون لازما أيضا.

(٣) علّة لقوله «أخطأ» ، لأنّ الذّهن لا ينتقل من جمود العين إلى دوام تلاقي الأحبّة المستلزم للفرح والسّرور ، بل ينتقل إلى بخل العين بالدّموع حال إرادة البكاء المستلزم للحزن على مفارقة الأحبّة.

(٤) أي حال إرادة البكاء حالة الحزن ، أي حزن الإنسان على مفارقة الأحبّة.

(٥) أي لا ينتقل الذّهن من جمود العين إلى ما قصده الشّاعر من السّرور.

(٦) أي بملاقاة الأصدقاء ومواصلة الأحبّة ، ففي هذا الكلام تعقيد لما عرفت من عدم انتقال الذّهن من جمود العين إلى الفرح والسّرور. ولهذا لا يصحّ عندهم في الدّعاء للمخاطب أن يقال : (لا زالت عينك جامدة) لأنّه دعا عليه بالحزن ، ويصحّ أن يقال : (لا أبكى

١٢٤

ومعنى البيت : إنّي اليوم (١) أطيب (٢) نفسا بالبعد والفراق (٣) وأوطّنها (٤) على مقاساة الأحزان والأشواق وأتجرّع غصصها (٥) وأتحمّل لأجلها (٦)

______________________________________________________

الله عينك) بل الانتقال من جمود العين إلى السّرور يحتاج إلى وسائط خفيّة بأن ينتقل من جمود العين إلى انتفاء الدّمع منها ومن انتفاء الدّمع إلى انتفاء الحزن ومن انتفاء الحزن إلى السّرور ، لكن لمّا كانت هذه الوسائط خفيّة صار الكلام معقّدا.

(١) أتى بالألف واللّام للعهد الحضوري كي يكون إشارة إلى أنّ السّين في قوله «سأطلب» إنّما هي هنا لمجرّد التّأكيد وليست للاستقبال ، وذلك فإنّها وإن كانت موضوعة للاستقبال والتّأكيد معا إلّا أنّها جرّدت في المقام عن بعض معناها وتجريد الكلمة عن بعض معناها شائع في الاستعمال كما في قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ)(١).

(٢) على وزن أبيع ، من طاب ، بقرينة تنكير «نفسا» على التّمييز لا من التّطييب ، من باب التّفعيل إذ لو كان بالتّشديد من باب التّفعيل لقال : أطّيّب نفسي كي يكون نفسي منصوبا على المفعوليّة لا على التّمييز.

(٣) أي بالبعد والفراق عن الأحبّة والأصدقاء.

(٤) أي أذلّل النفس وأعوّدها «على مقاساة الأحزان ...» أي على معالجة شدّة الأحزان والأشواق الّتي تلزم من بعد الأحبّة.

(٥) أي ابتلع غصص الأشواق ، وهي جمع غصّة ، كغرفة وغرف وفيه استعارة بالكناية حيث إنّه شبّه في نفسه الأشواق بمشروب مرّ في تأذّي النّفس منها ، ثمّ ترك أركان التّشبيه سوى المشبّه ، وأراد به معناه ، وأثبت له لازما من لوازم المشروب المرّ ، وهو التّجرّع من جرعة الماء ، فهذا التّشبيه المضمر في النّفس استعارة بالكناية ، وذاك الإثبات استعارة تخييليّة.

(٦) أي لأجل الأشواق أو لأجل راحة النّفس فالعلّة على الأوّل حصوليّة ، أي أتحمّل لأجل حصول الأشواق حزنا يفيض الدّموع من عيني ، وعلى الثّاني تحصيليّة ، أي أتحمّل لأجل تحصيل راحة النّفس حزنا ...

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٨١.

١٢٥

حزنا يفيض الدّموع من عيني (١) لأتسبّب بذلك (٢) إلى وصل يدوم ومسرّة لا تزول ، فإنّ الصّبر مفتاح الفرج ، ولكلّ بداية نهاية ، ومع كلّ عسر يسرا ، وإلى هذا أشار الشّيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز (٣) ، وللقوم ههنا كلام فاسد أوردناه في الشّرح (٤).

______________________________________________________

(١) أي يجري بسبب الحزن الدّموع من عيني ، ربّما يقال : إنّ هذا ينافي ما تقدّم منه حيث إنّه جعل سكب الدّموع كناية عن الحزن فسكب الدّموع حينئذ ملزوم ، والحزن لازم ، لأنّ معنى الكناية على مذهب المصنّف هو ذكر الملزوم وإرادة اللّازم ، ثمّ مقتضى قوله «يفيض الدّموع» عكس ذلك ، حيث إنّ السّبب وهو الحزن ملزوم ، والمسبّب وهو سكب الدّموع لازم. وقد أجيب عن ذلك أنّ الحزن وسكب الدّموع متلازمان فيصحّ لكلّ أن يعتبر لازما وملزوما.

(٢) علّة لجميع الأفعال المتقدّمة في كلام الشّارح لا لقوله : «أتحمّل» فقط ، أو ناظر إلى قول الشّاعر ، أعني «لتقربوا» كما أنّ «أتحمّل ...» ناظر إلى قوله «تسكب» و «مسرّة لا تزول» إلى قوله «لتجمدا» ، والاحتمال الأوّل أظهر.

(٣) إنّ ما ذكره الشّارح نقلا عن دلائل الإعجاز إنّما هو حاصل معنى البيت ولبّه لا معناه المطابقي بأن كان قد جعل طلب البعد مجازا عن طيب النّفس ، وسكب الدّموع مجازا عن تحمّل الحزن هكذا ، فإنّ ارتكاب التّجوّز من دون سبب يدعو إليه لا مجال له ، وليس في المقام ما يدعونا إلى الالتزام بالمجاز ، قوله «لأتسبّب بذلك» أي بما ذكر من توطين النّفس على مقاساة الأشواق ، وتحمّل الحزن «إلى وصل يدوم ومسرّة لا تزول» فإنّ الصّبر إشارة إلى أنّ علّة التّوطين والتّحمّل في نظر الشّاعر هو هذا ، لا مغالطة الزّمان والإخوان «مفتاح الفرج» كما قيل : (ألا بالصّبر تبلغ ما تريد ، وبالتّقوى يلين لك الحديد) و (مع كل عسر يسرا) كما قيل : (إذا ضاقت بك الدّنيا ففكّر في سورة الانشراح تجد يسرين بعد العسر ، فإنّ فكّرته تفرح) ، هذا ما هو المفهوم من دلائل الإعجاز.

(٤) أي للقوم كلام فاسد في معنى البيت ذكره الشّارح في الشّرح أعني المطوّل ، وملخّص ما في الشّرح : أنّ الشّاعر يقول : أبكي وأحزن ليظنّ الدّهر أنّ الحزن هو المطلوب ، فيأتي بضدّه وهو السّرور ، لأنّ عادة الزّمان والإخوان المعاملة بنقيض المقصود.

ووجه الفساد : أنّ الزّمان والأحبّة إنّما يأتون بخلاف المراد في الواقع لا في الظّاهر والّذي طلبه الشّاعر مراد له في الظّاهر لا في الواقع.

١٢٦

[قيل :] فصاحة الكلام : خلوصه ممّا ذكر (١) [ومن كثرة التّكرار (٢) وتتابع الإضافات (٣) كقوله :] * وتسعدني في غمرة بعد غمرة (٤) * [سبوح] أي فرس حسن الجري

______________________________________________________

(١) أتى الشّارح بقوله : «قيل : فصاحة الكلام ...» للإشارة إلى أنّ قول المصنّف وهو «من كثرة التّكرار» عطف على مقدّر في كلام هذا القائل أعني «ممّا ذكر» ، والمجموع خبر لمقدّر في كلامه أيضا أعني «خلوصه» ومجموع المبتدأ والخبر خبر أيضا لمقدّر في كلامه ، أعني «فصاحة الكلام» ، ثمّ هذا المجموع مقول للقول ، والمراد من «ممّا ذكر» الأمور الثّلاثة المذكورة في كلام المصنّف أعني : ضعف التّأليف وتنافر الكلمات والتّعقيد ، فمعنى الكلام : فصاحة الكلام خلوصه ممّا ذكر «ومن كثرة التّكرار ...».

(٢) أي ذكر الشّيء مرّة بعد أخرى ، والمراد منه في المقام ذكر لفظ واحد مرّة أو مرّات سواء كان ذلك اللّفظ اسما أو فعلا أو حرفا ، ثمّ الاسم ظاهرا كان أو مضمرا وإنّما شرط هذا القائل الكثرة ، لأنّ التّكرار بلا كثرة لا يخلّ بالفصاحة وإلّا للزم عدم فصاحة ما يشتمل على التّأكيد اللّفظي مطلقا فيكون حينئذ التّأكيد اللّفظي قبيحا ، وليس الأمر كذلك.

(٣) أي من تتابع الإضافات فيكون «تتابع الإضافات» عطفا على «كثرة التّكرار» لا على التّكرار ، فيكون صاحب هذا القول مشترطا في فصاحة الكلام خلوصه من تتابع الإضافات وإن لم يكن كثيرا ، والدّليل على ذلك قول الشّارح فيما سيأتي «وتتابع الإضافات مثل قوله» ولم يقل : (وكثرة تتابع الإضافات مثل قوله) ثمّ إنّ الفرق بين تتابع الإضافات وكثرتها واضح ، لأنّ الأوّل يتحقّق بتعاقب الإضافتين ، والثّاني لا يتحقّق إلّا بتعاقب أربع إضافات ، هذا على تقدير أن يكون المراد بالجمع ما فوق الواحد كالجمع عند المنطقي ، وإلّا فالأوّل يتحقّق بتتابع ثلاث إضافات ، والثّاني بتتابع ستّ إضافات ، لكنّ المراد بالجمع هو الأوّل في المقام.

(٤) وبعده (سبوح لها منها عليها شواهد) ، قوله «تسعدني» مضارع من الإسعاد ، وهو بالمهملات بمعنى الإعانة «غمرة» بالغين المعجمة والرّاء المهملة في الموضعين كطلحة في الأصل ما يغمرك من الماء وهنا بمعنى الشّدّة «سبوح» بالمهملة والموحّدة كصبور من سبح الفرس إذا اشتدّ به عدوّه ، وأراد به حسن الجري ، وهو فعول بمعنى فاعل.

١٢٧

لا تتعب راكبها كأنّها تجري على الماء [لها] صفة سبوح [منها] حال من شواهد [عليها] متعلّق بشواهد [شواهد] فاعل الظّرف أعني لها يعني أنّ لها من نفسها علامات دالّة على نجابتها.

قيل (١) : التّكرار ذكر الشّيء مرّة بعد أخرى ، ولا يخفى أنّه لا يحصل كثرته بذكره ثالثا.

وفيه نظر (٢) : لأنّ المراد بالكثرة ههنا ما يقابل الوحدة (٣) ،

______________________________________________________

الإعراب : «تسعدني» فعل ومفعول «في غمرة» جار ومجرور متعلّق ب «تسعدني» ، «بعد غمرة» مضاف ومضاف إليه ظرف مستقرّ نعت ل «غمرة» ، «سبوح» مرفوع فاعل «تسعدني» ، «لها» جار ومجرور ظرف مستقر نعت ل «سبوح» ، «منها» ظرف مستقرّ حال ل «شواهد» ، «عليها» ظرف لغو متعلّق ب «شواهد» ، «شواهد» فاعل ل «لها» لكونه ظرفا مستقرّا معتمدا على الموصوف ، أي قوله : «سبوح» ، فإنّ النّحاة اشترطوا في عمل الظّرف الاعتماد بأحد من الأمور أعني : النّفي والاستفهام وذا حال وموصوفا وذا خبر وموصولا ، ثمّ «الشّواهد» هنا بمعنى العلامات الدّالّة على نجابتها.

والشّاهد : في تكرار الضمائر الّتي ترجع إلى السّبوح كقوله «لها منها عليها» ، فيكون في البيت كثرة التّكرار.

(١) حاصل ما قيل : إنّ التّكرار ذكر الشّيء مرّتين ، فهو عبارة عن مجموع الذّكرين ، لا يتحقّق تعدّده إلّا بالتّربيع ، ولا يتكثّر التّكرار إلّا بالتّسديس وحينئذ فلا يصحّ التّمثيل بهذا البيت لكثرة التّكرار ، إذ لم يحصل فيه تعدّد التّكرار فضلا عن الكثرة ، لأنّ الضّمائر فيه ثلاثة فقط.

(٢) أي بما قيل نظر وإشكال وحاصله : أنّا لا نسلم أنّ التّكرار اسم لمجموع الذّكرين ، بل هو الذّكر الثّاني المسبوق بذكر آخر ، ثمّ المراد بالكثرة ما زاد على الواحد فحينئذ يحصل الكثرة بالذّكر ثالثا.

(٣) يعني أنّ التّكرار الواحد يحصل بالذّكر الثّاني ، فالتّكرار الكثير يقابل التّكرار الواحد والكثير يحصل بالثّالث ، فصحّ التّمثيل بالبيت المذكور.

١٢٨

ولا يخفى حصولها (١) بذكره ثالثا [و] تتابع الإضافات مثل [قوله :

حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي]

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع (٢)

ففيه (٣) إضافة حمامة إلى جرعى وجرعى إلى حومة وحومة إلى الجندل ، والجرعى تأنيث الأجرع ، قصرها للضّرورة (٤) وهي أرض ذات رمل لا تنبت شيئا

______________________________________________________

(١) أي حصول الكثرة بذكر الواحد ثالثا.»

(٢) قوله «حمامة» كسماحة ، مؤنّث حمام ، وهو طائر معروف «جرعى» بالجيم والرّاء والعين المهملتين كسكرى مقصور جرعاء للضّرورة وهي كحمراء أرض ذات رمل مستوية لا تنبت شيئا «حومة» بالحاء المهملة والواو كطلحة معظم الشّيء «الجندل» بالجيم والنّون والدّال المهملة كجعفر الحجارة ، وروي (دومة الجندل) بالدّال المهملة مكان حائه وهو مركّب إضافي ، اسم موضع «اسجعي» أمر من السّجع ، وهو صوت الحمام «مرأى ومسمع» للمكان من الرّؤية والسّمع ، يقال : (أنت بمرأى ومسمع منّي) ، أي بحيث أراك وأسمع صوتك ، «سعاد» بالمهملات كغراب أو مرخّمة سعادة كسماحة اسم امرأة.

حاصل معنى البيت : أمر الحمامة بالإسجاع ، لأنّها في موضع النّشاط والطّرب برؤية المحبوبة أي سعاد وسماع صوتها ، لأنّ رؤية المحبوبة تفوق رؤية الأزهار وسماع صوتها يفوق على سماع صوت الأوتار ، فليس المراد أمر الحمامة بالسّجع لكونها في موضع تراها المحبوبة وتسمع صوتها ، كما توهّمه بعضهم.

الإعراب : «حمامة» منادى بحذف حرف النّداء ومضاف إلى «جرعى» ، «جرعى» مضاف إلى «حومة» ، «حومة» مضاف إلى «الجندل» ، «اسجعي» فعل أمر وفاعله الضّمير المستتر فيه ، «فأنت» الفاء للسّببيّة والعطف ، و «أنت» مبتدأ «بمرأى» جار ومجرور متعلّق بمقدّر خبر «أنت» ، «من سعاد» جار ومجرور متعلّق ب «مرأى» «و» حرف عطف «مسمع» عطف على «مرأى» أي مسمع منها. الشّاهد : في كون هذا البيت بحسب مصراعه الأوّل مشتملا على تتابع الإضافات ، فيكون غير فصيح على زعم هذا القائل.

(٣) أي ففي هذا البيت.

(٤) أي للضّرورة الشّعريّة.

١٢٩

والحومة معظم الشّيء ، والجندل (١) أرض ذات حجارة والسّجع هدير الحمام ونحوه وقوله : فأنت بمرأى أي بحيث تراك سعاد وتسمع صوتك (٢) ، يقال : فلان بمرأى منّي ومسمع ، أي بحيث أراه وأسمع قوله ، كذا في الصّحاح (٣). فظهر فساد ما قيل : إنّ معناه أنت بموضع ترين منه سعاد وتسمعين كلامها ، وفساد ذلك ممّا يشهد به العقل والنّقل (٤).

______________________________________________________

(١) أي الجندل أرض ذات حجارة على ما في الأساس. والّذي في الصّحاح إنّ الجندل بسكون النّون ، نفس الحجارة. وأمّا الأرض ذات الحجارة فيقال لها : جندل بفتح الجيم والنّون وكسر الدّال ، فعلى ما في الصّحاح يكون تفسير الشّارح ناظرا إلى ما في أصل اللّغة ، فيكون إرادة الأرض من الجندل من قبيل إرادة المحلّ من اللّفظ الموضوع للحالّ ، ويمكن أن يقال : إنّ الشّارح قد ثبت عنده بالنّقل الصّحيح قراءة «الجندل» بكسر الدّال فتكون النّون عندئذ مسكّنة للضّرورة ، ثمّ إنّ الدّاعي على ما ذكر من أحد الأمرين أنّ «جرعى» قد حملت على نفس الأرض ، فيناسب ذلك أن يكون «الجندل» أيضا كذلك أي نفس الأرض فحينئذ تكون إضافة «جرعى» إلى «حومة» بيانيّة ، وإضافة «حومة» إلى «الجندل» بتقدير في.

(٢) أي كأنّه أنت في مكان تراك فيه سعاد وتسمع صوتك منه ، ف «حيث» ظرف مكان ، والباء بمعنى في.

(٣) يعني أنّ ما في الصّحاح يفيد أنّ المجرور بمن بعد «مرأى ومسمع» هو فاعل الرّؤية والسّماع ، أي هو الرّائي والسّامع ، فعليه لا وجه لما ذكره الزّوزني من أنّ المعنى (أنت بحيث ترين سعاد وتسمعين صوتها) فإنّه مخالف لما ذكره الصّحاح ، وأيضا لا يساعد ما ذكره الزّوزني العقل ، وذلك لأنّه إذا كانت الحمامة تسمع صوت سعاد المحبوبة كان عليها السّكوت لا السّجع ، فإنّه مخلّ بالسّماع.

(٤) أمّا فساده نقلا فلما ذكره عن الصّحاح من أنّه يفيد أنّ فاعل الرّؤية هو المجرور بمن ، وكلام الزّوزني يقتضي أن يكون المجرور بمن مفعولا.

وأمّا فساده عقلا : فلأنّ الحمامة إذا كانت تسمع صوت المحبوبة فلا يحسن في نظر العقل طلب تصويتها ، لأنّه يفوت سماعها ، بل اللّائق طلب الإصغاء ، فكان الواجب على الشّاعر أن يقول اسمعي أو اسكتي أو انصتي.

١٣٠

[وفيه نظر (١)] ، لأنّ كلّا من كثرة التّكرار وتتابع الإضافات إن ثقل اللّفظ بسببه على اللّسان فقد حصل الاحتراز عنه بالتّنافر ، وإلّا فلا يخلّ بالفصاحة (٢) وكيف وقد وقع في التّنزيل (٣) : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ)(١) ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)(٢) ـ

______________________________________________________

(١) أي في القول باشتراط الفصاحة بالخلوص عن كثرة التّكرار وتتابع الإضافات نظر وإشكال ، وحاصله : إنّ ذلك القائل يدّعي بأنّ كثرة التّكرار وتتابع الإضافات مخلّ بالفصاحة مطلقا ، فلا بدّ من اشتراط الخلوص منهما.

وحاصل الرّدّ عليه : أنّا لا نسلم ذلك الإطلاق ، بل الحقّ التّفصيل ، وهو إن حصل في اللّفظ ثقل بهما ، كانا مخلّين بالفصاحة ، لكنّ الاحتراز عنهما حصل بالاحتراز عن التّنافر لما عرفت من أنّ التّنافر عبارة عن كون الكلمات ثقيلة على اللّسان ، وإن لم يحصل في اللّفظ ثقل بسببهما ، فلا يخلّان بالفصاحة ، فلا يصحّ الاحتراز عنهما أصلا.

وبالجملة إنّ كلّ من كثرة التّكرار وتتابع الإضافات لا يخلو عن أحد الاحتمالين :

أحدهما : أن يكون كلّ منهما موجبا للثّقل.

وثانيهما : أن لا يكون كذلك ، ولا يصحّ اشتراط خلوص الكلام عنهما في الفصاحة على كلا التّقديرين ، إذ على التّقدير الأوّل كلّ منهما داخل في التّنافر ، فيكفي الخلوص عنه في الخلوص عنهما ، وعلى الثّاني لا يخلّ بالفصاحة ، كي يجب الاحتراز عنهما.

(٢) فلا يلزم الاحتراز عنهما في الفصاحة.

(٣) «كيف» استفهام إنكاريّ تعجّبيّ ، أي أتعجّب كيف يصحّ القول بأنّهما يخلّان بالفصاحة مطلقا ، وقد وقع كلّ منهما في التّنزيل ، ويحتمل أن يكون فاعل وقع (مِثْلَ) في قوله : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ ،) ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا يعود على كلّ واحد من كثرة التّكرار وتتابع الإضافات فقوله : (مِثْلَ دَأْبِ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي ذلك مثل دأب قوم نوح.

__________________

(١) سورة المؤمن : ٣٢.

(٢) سورة مريم : ١.

١٣١

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ٧ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(١) (١). [و] الفصاحة [في المتكلّم ملكة (٢)] وهي (٣) كيفيّة راسخة في النّفس (٤) ، والكيفيّة عرض (٥) لا يتوقّف تعقّله على تعقّل الغير

______________________________________________________

(١) المثال الأوّل والثّاني لتتابع الإضافات ، والثّالث أعني (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) مثال لكثرة التّكرار ، وقد وقع كلّ منهما في السّنّة أيضا كقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصف يوسف الصّدّيق عليه‌السلام : (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم).

ومن اشتمال هذه الآيات على كثرة التّكرار وتتابع الإضافات نستكشف أنهما لا يخلّان بالفصاحة ، وإلّا لما وقعا في القرآن ، لأنّه كلام الله وكلام الله منزّه عن كلّ عيب ونقص.

(٢) تقدير الفصاحة إشارة إلى أنّ عطف «في المتكلّم» على ما ذكر سابقا عطف جملة على جملة.

(٣) أي الملكة كيفيّة ، يعني صفة وجوديّة ولم يقل : وهي صفة ، بل قال : «وهي كيفيّة» للإشارة إلى أنّ الملكة من مقولة الكيف الّذي هو مع الكمّ من الأعراض الغير النّسبيّة.

والأعراض النّسبيّة سبعة ، وهي : الإضافة ، متى ، الأين ، الوضع ، الملك ، الفعل ، الانفعال.

ثمّ مجموع الأعراض تسعة ، وهي مع الجوهر عشرة ، يقال لها : المقولات العشرة ، أي المحمولات ، إذ ما من محمول إلّا أن يكون من هذه المقولات.

وحاصل الكلام أنّ الصّفة الحاصلة للنّفس في أوّل حصولها تسمّى حالا ، وبعد الثّبوت والتّقرّر في محلّها تسمّى ملكة وكيفيّة. ثمّ الكيفيّة على أربعة أقسام : الكيف المحسوس ، الكيف النّفساني ، الكيف الاستعدادي ، الكيف المختصّ بالكمّ كالزّوجيّة والفرديّة.

ثمّ تقييدها بالرّاسخة احتراز عن الغير الرّاسخة كحمرة الخجل والفرح واللّذة والألم.

(٤) أي لا في الجسم كالبياض مثلا ، وإلّا فلا تسمّى ملكة ، والحاصل أنّ الكيفيّة إذا استقرّت وثبتت في النّفس يقال لها ملكة ، وإن اختصّت بالجسم عبّر عنها بالكيفيّة والعرض.

(٥) أتى بالاسم الظّاهر ـ حيث قال : «والكيفيّة عرض» مع أنّ المقام مقام الضّمير لسبق المرجع ، أي فالأولى أن يقول : وهي عرض ـ للإشارة إلى أنّ المراد مطلق الكيفيّة الشّاملة للرّاسخة ولغيرها ، ثمّ قوله «عرض» وهو ما لا يقوم بنفسه ، بل يحتاج في حصوله إلى موضوع.

__________________

(١) سورة الشّمس : ٧.

١٣٢

ولا يقتضي القسمة واللّاقسمة في محلّه اقتضاء أوّليّا (١) فخرج بالقيد الأوّل الأعراض النّسبيّة مثل الإضافة والفعل والانفعال ونحو ذلك (٢) ، وبقولنا لا يقتضي القسمة الكمّيّات (٣) ، وبقولنا : واللّا قسمة النّقطة والوحدة (٤) ، وقولنا أوّليّا ليدخل فيه مثل العلم بالمعلومات المقتضية للقسمة واللّا قسمة (٥)

______________________________________________________

(١) هذا التّعريف للكيفيّة مشتمل على جنس وفصول أربعة ، فالعرض جنس حيث يشتمل على جميع الأعراض التّسعة المذكورة. وقوله : «لا يتوقّف تعقّله على ...» فصل يخرج به ما يتوقّف تعقّله على تعقّل الغير كالأعراض النّسبيّة السّبعة. وقوله : «ولا يقتضي القسمة» فصل يخرج به الكمّ فإنّه يقبلها لذاته كالعدد والمقدار كالخطّ والسّطح والجسم. وقوله : «واللّا قسمة» أي أنّه لا يستلزم اللّا قسمة فصل يخرج به ما يقتضي اللّاقسمة كالنّقطة والوحدة. وقوله : «اقتضاء أوّليّا» فصل يخرج به ما يقتضي القسمة أو اللّا قسمة اقتضاء أوّليّا كالأمثلة المتقدّمة ولكن يدخل بهذا القيد العلم ، فهذا القيد إنّما هو لإدخال العلم في تعريف الكيفيّة ، وذلك فإنّ معنى قوله «اقتضاء أوّليّا» أي لذاته ، فالمراد من الاقتضاء الأوّلي هو الاقتضاء الذّاتي ، ثمّ العلم عرض لا يتوقّف تعقّله على الغير ولا يقتضي القسمة ولا عدمها لذاته بل يقتضي القسمة واللّا قسمة بواسطة معلومه. فإذا تعلّق العلم بالشّيء الواحد البسيط فإنّه يقتضي عدم القسمة لكن لا لذاته ، بل باعتبار المتعلّق وإذا تعلّق بالشّيئين أو أكثر يقتضي القسمة ، لكن لا لذاته بل باعتبار المتعلّق.

وحاصل الكلام أنّ العلم داخل في تعريف الكيف فهو من الكيفيّة لأنّه ممّا لا يقتضي القسمة واللّا قسمة لذاته وإن كان يقتضيهما نظرا إلى معلومه.

(٢) أي مثل الأين ومتى والوضع والملك.

(٣) أي تخرج الكمّيّات لأنّها تقبل القسمة.

(٤) أي تخرج النقطة والوحدة لأنّهما ممّا لا يقبل القسمة.

(٥) الأوّل : فيما إذا كانت المعلومات من الأمور المركّبة أو المتعدّدة ، والثّاني فيما إذا كانت من الأمور البسيطة.

١٣٣

هذا ملخّص الكلام في هذا المقام ، وأمّا بسط الكلام بحيث يتّضح المرام ، فقد ذكره المرحوم الشّيخ موسى البامياني في شرحه (المفصّل في شرح المطوّل) فنذكر خلاصة ما ذكره لأنّه لا يخلو عن فائدة :

وقد قسّموا ما يتصوّر في الذّهن إلى أقسام ثلاثة : الواجب والممكن والممتنع.

وعرّفوا الأوّل : بأنّه ما يقتضي ذاته الوجود ، والثّاني : بأنّه ما لا يقتضي ذاته الوجود ولا العدم ، والثّالث : بأنّه ما يقتضي ذاته العدم.

وقسّموا الموجود إلى واجب الوجود وممكن الوجود. ثمّ الأوّل ممّا لا يقبل القسمة لكونه منحصر في فرد واحد.

فقسّموا الثّاني إلى الجوهر والعرض ، وقالوا في رسم الأوّل أنّه ماهية لا تحتاج إلى موضوع في وجودها الخارجي بخلاف العرض حيث يحتاج في وجوده الخارجي إلى موضوع.

ثمّ الجوهر ينقسم إلى خمسة أقسام لأنّه إمّا مادّي أو مفارق.

والأوّل إمّا محلّ لجوهر آخر ، وهو الهيولى ، وإمّا حالّ في جوهر آخر وهو الصّورة ، وإمّا مركّب من الحالّ والمحلّ وهو الجسم.

والثّاني ينقسم إلى قسمين : الأوّل : ما يكون مفارقا عن المادّة ذاتا ، ولكن له تعلّق تدبيريّ استكمالي بعالم الصّورة ، وهو النّفس.

والثّاني : ما يكون مفارقا عن المادّة ذاتا وفعلا وهو العقل ، فالمتحصّل أنّ الجوهر على خمسة أقسام.

ثمّ قسّموا العرض إلى أقسام تسعة حيث قالوا : العرض إمّا أن يكون قابلا للقسمة أو النّسبة أو لا هذا ولا ذاك ، فالأوّل هو الكمّ ، والثّالث هو الكيف.

ثمّ عرّفوا الكمّ بأنّه عرض يقبل القسمة الوهميّة بذاته ، وتقييدهم بالوهميّة ، لأنّه لا يقبل القسمة الفكّيّة الخارجيّة لمكان كونه بسيطا في الخارج.

ثمّ قسّموه إلى المتّصل والمنفصل ، وعرّفوا الأوّل بأنّه عرض يقبل القسمة بذاته ، ويمكن أن يفرض لكلّ من جزأيه حدّ واحد مشترك. والثّاني بأنّه عرض يقبل القسمة لذاته ، ولا

١٣٤

يمكن أن يفرض لكلّ من جزأيه حدّ واحد مشترك ، ومرادهم من الحدّ المشترك ما تكون نسبته إلى الجزأين نسبة واحدة كالنّقطة بالقياس إلى جزأي الخطّ ، فإنّها إن اعتبرت بداية لأحد الجزأين يمكن اعتبارها بداية للجزء الآخر ، إن اعتبرت نهاية له يمكن أن نعتبر نهاية للآخر ، فليس لها خصوصيّة بالنّسبة إلى أحد الجزأين لم تكن هذه الخصوصيّة بالقياس إلى الجزء الآخر ، بل نسبتها إليهما على السّويّة ، فالكم المتّصل ما يوجد حدّ مشترك بين كلّ من جزأيه بخلاف الكمّ المنفصل كالعدد ، فإنّ العشرة إذا قسّمتها إلى ستّة وأربعة كان السّادس جزء من السّتّة داخلا وخارجا عن الأربعة ، فلم يكن ثمّة أمر مشترك بين قسمي العشرة ، وهما السّتّة والأربعة ، إذ الأمر المشترك لا بدّ أن تكون نسبته إلى كلّ من الجزأين على حدّ سواء وليس السّادس كذلك ، فإنّه جزء من السّتّة وخارج من الأربعة ، كما أنّ الرابع على عكسه. فلا يوجد الحدّ المشترك في الكمّ المنفصل.

وقسّموا الكمّ المتّصل إلى قارّ الذّاتّ ، وغير قارّ الذّاتّ ، والأوّل ما تكون أجزاؤه مجتمعة في الوجود ، والثّاني ما لا تكون أجزاؤه مجتمعة في الوجود كاليوم والشّهر والسّنة ، والأوّل كالسّطح والجسم التّعليمي والخطّ ، ثمّ السّطح : ما يقبل القسمة في الجهتين أعني الطّول والعرض ، والجسم التّعليمي : ما يقبل القسمة في الجهات الثّلاث أعني الطّول والعرض والعمق ، والخطّ : ما يقبل القسمة في الجهة الواحدة أعني الطّول.

وعرّفوا العرض النّسبي بأنّه عرض يتوقّف تصوّره على تصوّر غيره ، ثمّ قسّموه إلى أقسام سبعة :

الأوّل : الوضع ، وعرّفوه بأنّه هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبتين : نسبة تقع بين أجزائه بعضها إلى بعض ونسبة أخرى تقع بين أجزائه وأشياء خارجة عن ذلك الجسم أو داخلة فيه ، كالقيام فإنّه هيئة للإنسان بحسب نسبته بين أجزائه من الرّأس والرّقبة والصّدر وغيرها حيث إنّ الأوّل فوق الثّاني ، والثّاني فوق الثّالث ، وهكذا وبحسب كون رأسه من فوق ورجله من تحت.

الثّاني : الملك ، ويسمّى الجدة أيضا وعرّفوه بأنّه هيئة تحصل بسبب نسبة الشّيء إلى ملاصق يحيط به إحاطة ما وينتقل بانتقاله كالتّعمّم والتّقمّص.

١٣٥

الثّالث : أن ينفعل ، وعرّفوه بأنّه تأثّر الشّيء من غيره كتسخّن الماء بالنّار.

الرّابع : أن يفعل ، وعرّفوه بأنّه تأثير الشّيء في غيره كتأثير النّار في الماء.

الخامس : الإضافة ، وعرّفوها بأنّها نسبة متكرّرة كالأبوّة والبنوّة.

السّادس : الأين ، وعرّفوه بأنّه هيئة حاصلة من كون الشّيء في المكان.

السّابع : متى ، وعرّفوه بأنّه هيئة حاصلة من كون الشّيء في الزّمان.

وبقي الكلام في القسم الثّالث أعني ما لا يقبل القسمة ولا النّسبة وهو الكيف ، وعرّفوه بأنّه هيئة قارّة لا تقتضي القسمة ولا النّسبة لذاته.

وذكرهم القيد الأوّل ـ أعني قارّة ـ لإخراج الحركة والزّمان والفعل والانفعال والثّاني ـ لا تقتضي القسمة ـ لإخراج الكمّ ، والثّالث أعني ـ ولا نسبة ـ لإخراج سائر الأعراض النسبيّة ، والرّابع أعني ـ لذاته ـ لإدخال الكيفيّات المقتضية للقسمة أو النّسبة بواسطة اقتضاء محلّها ذلك.

ثمّ قسّموا الكيف إلى أربعة أقسام : الأوّل : ما اختصّ بالنّفس ويقال له : الكيفيّات النّفسانيّة كالعلم والإرادة والشّجاعة وغير ذلك.

الثّاني : ما اختصّ بالكمّ ويقال له : الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات كالاستقامة العارضة للخطّ والانحناء للخطّ والسّطح.

الثّالث : الكيف الاستعدادي كاللّينيّة والصّلابة والمصحاحيّة والممراضيّة.

فاللّينيّة : كيفيّة يكون الجسم بها مستعدّا للانغمار أي يقبل الغمر في الباطن. والصّلابة : كيفيّة يكون الجسم بها مستعدّا لعدم الانغمار إلى الباطن. والمصحاحيّة : كيفيّة تقتضي عسر قبول المرض. والممراضيّة : كيفيّة تقتضي سهولة قبول المرض.

الرّابع : ما يدرك بإحدى الحواسّ الظّاهرة ، ويسمّى بالكيفيّات المحسوسة كالحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة واللّطافة والكثافة واللّزوجة والبلّة والخفّة والثّقل ، وكاللّون والضّوء والظلمة والشّكل والأصوات ، وكالحلاوة والحموضة والدّسومة ، وكالرّوائح الطيّبة والمنتنة.

ثمّ الأمور المذكورة بعضها يدرك بالقوى اللّامسة ، وبعضها بالباصرة ، وبعضها

١٣٦

فقوله ملكة (١) إشعار بأنّه لو عبّر عن المقصود بلفظ فصيح لا يسمّى فصيحا في الاصطلاح ما لم يكن ذلك راسخا فيه (٢) ، وقوله [يقتدر بها على التّعبير عن المقصود] دون أن يقول ـ يعبّر ـ إشعار (٣) بأنّه يسمّى فصيحا إذا وجد فيه تلك الملكة سواء وجد التّعبير أو لم يوجد وقوله : [بلفظ فصيح] ليعمّ المفرد والمركّب (٤) ،

______________________________________________________

بالسّامعة ، وبعضها بالذّائقة ، وبعضها بالشّامّة.

ثمّ إنّ ما يدرك بإحدى الحواس الظّاهريّة إمّا راسخة كحلاوة العسل وحرارة النّار وصفرة الذّهب ، وإمّا غير راسخة كصفرة الوجل وحمرة الخجل ، والقسم الأوّل يسمّى بالانفعالي لانفعال الحواسّ ، والثّاني يسمّى بالانفعال لأنّه لسرعة زواله شديد الشّبه بأن ينفعل.

ثمّ ما اختصّ بالأنفس أيضا قد يكون راسخا فيها ، وقد يكون غير راسخ فيها ، فالأوّل يسمّى ملكة ، والثّاني حالّا ، هذا تمام الكلام فيما يناسب المقام.

(١) دون أن يقول : الفصاحة في المتكلّم صفة ، إشعار بأنّه لو عبّر عن المقصود بلفظ فصيح لا يسمّى فصيحا في الاصطلاح ما لم يكن ذلك راسخا فيه ، لأنّ الفصاحة في المتكلّم اصطلاحا من الهيئات الرّاسخة في نفسه فلذا قال : ملكة.

(٢) أي لا يسمّى المتكلّم فصيحا ما لم يكن تعبيره عن المقصود بلفظ فصيح راسخا في نفس ذلك المتكلّم.

(٣) دون أن يقول يعبّر بها ، إشعار إلى أنّه يكفي في كون المتكلّم فصيحا اقتداره على التّعبير بلفظ فصيح ، فهو حينئذ فصيح ، وإن لم يعبّر عن المقصود بلفظ فصيح ، فلو قال : يعبّر بدل «يقتدر» لزم أن لا يسمّى من له ملكة التّعبير عن مقاصده فصيحا حال السّكوت لفقد التّعبير عن المقصود باللّفظ الفصيح في تلك الحالة مع أنّه فصيح جزما. فمن له ملكة التّعبير عن مقاصده بلفظ فصيح يسمّى فصيحا وإن كان ساكتا وفقد التّعبير بالفعل.

(٤) أي قال «بلفظ فصيح» ولم يقل بكلام فصيح «ليعمّ المفرد والمركّب» هذا جواب عن سؤال مقدّر وتقدير السّؤال أنّ المصنّف لم لم يقل : بكلام فصيح مع أنّه أنسب بالقياس إلى عنوان المتكلّم.

وحاصل الجواب : أنّه إنّما لم يقل : بكلام فصيح ، وترك ما هو أنسب لئلّا يتوهّم أنّه يشترط في فصاحة المتكلّم أن يكون مقتدرا على التّعبير عن جميع مقاصده بكلام فصيح ،

١٣٧

أمّا المركّب فظاهر (١) ، وأمّا المفرد فكما تقول عند التّعداد : دار ، غلام ، جارية ، ثوب ، بساط إلى غير ذلك [والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته (٢)] أي فصاحة الكلام (٣) ، والحال : هو الأمر الدّاعي للمتكلّم إلى أن يعتبر مع الكلام الّذي يؤدّى به أصل المراد خصوصيّة ما (٤)

______________________________________________________

وليس الأمر كذلك ، فإنّه محال ، لأنّ من المقاصد ما لا يمكن التّعبير عنه إلّا بالمفرد ، كما إذا أراد شخص أن يلقى على الحاسب أجناسا مختلفة ليرفع حسابها فيقول : دار ، جارية ، ثوب ، وهكذا ، فإنّه عندئذ لا يقتدر على التّعبير عن مقصوده بكلام فصيح ، لا بدّ له أن يعبّر عنه بالمفرد فيكون من قدر على التّعبير عن مقصوده بكلام فصيح وبمفرد فصيح فصيحا.

ثمّ منشأ التّوهّم على التّقدير المذكور هو كون اللّام في المقصود للاستغراق ، كما أنّ الأمر كذلك ، إذ لو لم يحمل على الاستغراق للزم أن يكون فصيحا من له ملكة يقتدر بها على التّعبير عن بعض مقاصده بلفظ فصيح ، وليس الأمر كذلك فإنّ الفصيح على ما اصطلحوا عليه من له ملكة يقتدر بها على التّعبير عن جميع مقاصده بلفظ فصيح.

(١) لكثرة أفراده بخلاف المفرد فإنّه ليس له إلّا صورة واحدة وهي ما مثّل لها بقوله : «دار ، غلام ، جارية ، ثوب ، بساط ...» وقيّد هذه الأمثلة بقوله : «عند التّعداد» أي من غير تقدير ما يصير به المفرد جملة ، إذ على فرض التّقدير المذكور تخرج الأمثلة المذكورة عن كونها أمثلة للمفرد.

(٢) أي لمّا فرغ المصنّف من بيان الفصاحة شرع في بيان البلاغة. وهي في الأصل واللّغة وإن كانت بمعنى الانتهاء ، فيقال : بلغت المكان ، أي انتهيت إليه إلّا أنّها في الاصطلاح : «مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته» أي ذلك الكلام.

فقوله : «مع فصاحته» حال من الضّمير المجرور في مطابقته فالمعنى ما ذكرنا من أنّ البلاغة في الكلام يحصل بالمطابقة المقارنة بالفصاحة.

(٣) هذا التّفسير إشارة إلى أنّ البلاغة في الكلام لا تتحقّق إلّا عند تحقّق أمرين :

أحدهما : مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ثانيهما : كون الكلام فصيحا.

(٤) هذا الكلام تفسير للمضاف إليه أعني «الحال» ، حيث إنّه ممّا أضيف إليه قوله :

١٣٨

وهو (١) مقتضى الحال مثلا (٢) كون المخاطب منكرا للحكم حال (٣) يقتضي تأكيد الحكم ، والتّأكيد مقتضى الحال ، وقولك له (٤) : إنّ زيدا في الدّار مؤكّدا (٥) بإنّ ، كلام مطابق لمقتضى الحال (٦).

______________________________________________________

«مقتضى» فالمقتضى مضاف و «الحال» مضاف إليه ، وقدّم بيان المضاف إليه ، لأنّه الأصل ، فلا بدّ للمتكلّم من العلم بالخصوصيّة كي يأتي الكلام على طبق ما تقتضيه ، ف «الحال» هو الأمر الدّاعي سواء كان ذلك الأمر داعيا للمتكلّم في نفس الأمر ، كما لو كان المخاطب منكرا لقيام زيد حقيقة ، فالإنكار أمر داع في نفس الأمر إلى اعتبار المتكلّم الخصوصية في الكلام ، وهي التّأكيد أو غير داع له في نفس الأمر كما لو نزّل المخاطب الغير المنكر بمنزلة المنكر ، فإنّ ذلك الإنكار التّنزيلي أمر داع إلى اعتبار المتكلّم الخصوصيّة في الكلام ، فظهر لك أنّ الحال هو الأمر الدّاعي للمتكلّم مطلقا.

ثمّ في قوله : «أن يعتبر ...» إشارة إلى أنّ التّكلّم بدون الاعتبار والقصد غير معتبر عندهم ، فلو تكلّم بلا قصد واعتبار لم يكن الكلام مطابقا لمقتضى الحال. وقوله : «مع الكلام» دون ـ إلى الكلام ـ إشارة إلى أنّ مقتضى الحال يجب أن يكون زائدا على أصل المعنى المراد ، وفي فرض إيراد الكلام على البليد أو خاليّ الذّهن يكون الاكتفاء على المعنى الأصلي من مقتضيات الأحوال ، ويعدّ أمرا زائدا عليه ، لأنّ هذا مقتضى الحال معهما.

(١) أي تلك الخصوصيّة كالتّأكيد مع المنكر «مقتضى الحال» فهذا الكلام تفسير للمضاف أعني : «مقتضى» حيث يكون مضافا إلى «الحال».

(٢) أي مثلا منصوب بأمثّل المقدّر بمعنى تمثيلا ، أي أمثّل تمثيلا ، فيكون مفعولا مطلقا للمقدّر أو مفعول به إن كان بمعنى المثال أي أمثّل مثالا.

(٣) أي كان الأولى أن يقول الشّارح : إنكار المخاطب للحكم حال تقتضي تأكيد الحكم ، فالفرق بين الحال ومقتضى الحال كالفرق بين السّبب والمسبّب ، والأوّل كالأوّل ، والثّاني كالثّاني.

(٤) أي للمخاطب المنكر.

(٥) قوله : «مؤكّدا» حال من «قولك».

(٦) لأنّ مقتضى الحال فيما إذا كان المخاطب منكرا للحكم هو التّأكيد ، والكلام

١٣٩

وتحقيق ذلك (١) أنّه (٢) جزئيّ من جزئيّات ذلك الكلام الّذي يقتضيه الحال ، فإنّ الإنكار مثلا يقتضي كلاما مؤكّدا ، وهذا (٣) مطابق له (٤) بمعنى أنّه (٥) صادق عليه (٦) ، على عكس (٧) ما يقال : إنّ الكلّي مطابق للجزئيّات. وإن أردت تحقيق هذا الكلام فارجع إلى ما ذكرناه في الشّرح في تعريف علم المعاني (٨)

______________________________________________________

(١) أي كون (إنّ زيدا في الدّار) كلاما مطابقا لمقتضى الحال.

(٢) أي المثال المذكور أعني : (إنّ زيدا في الدّار) ، «من جزئيّات ذلك الكلام الّذي تقتضيه الحال» وهو الكلام المؤكّد.

(٣) أي المثال المذكور مطابق للكلام المؤكّد الّذي يقتضيه إنكار المخاطب.

(٤) أي للكلام المؤكّد.

(٥) أي الكلام المؤكّد الكلّي صادق على المثال المذكور أعني : إنّ زيدا في الدّار.

(٦) أي على المثال المذكور. وحاصل الكلام إنّ الجزئي أعني : إنّ زيدا في الدّار ، مطابق للكلّي أعني الكلام المؤكّد.

(٧) أي على عكس ما يقال في علم المنطق من أنّ الكلّي مطابق للجزئيّات.

هذا ملخّص ما تقتضيه العبارة ، وأمّا ما تقتضيه الدّراية أنّ قوله «وتحقيق ذلك» دفع لتوهّم الاتّحاد بين المطابق والمطابق ، فإنّ المطابق هو الكلام المؤكّد فيما إذا كان المخاطب منكرا والمطابق أعني : مقتضى الحال أيضا هو الكلام المؤكّد.

هذا ما ذكرناه من الاتّحاد بين المطابق والمطابق ، وبعبارة واضحة إنّ مقتضى الحال هو الكلام المكيّف بالكيفيّة الخاصّة كالكلام المؤكّد مثلا ، ومعنى مطابقة الكلام لمقتضى الحال هو الكلام المؤكّد كقولك للمخاطب المنكر : (إنّ زيدا في الدّار) فيلزم الاتّحاد المذكور وهو باطل قطعا لأنّه محال.

وحاصل الدّفع : إنّ المطابق جزئيّ من جزئيّات المطابق والمغايرة بين الكلّي والجزئي واضحة وضوح الشّمس في النهار ، غاية الأمر الجزئيّ هو المطابق والكلّي هو المطابق على عكس ما هو المتعارف في علم المنطق. المذكور مشتمل عليه ، ومعنى مطابقة الكلام لمقتضى الحال : أنّ الحال إن اقتضى التّأكيد كان الكلام مؤكّدا ، وإن اقتضى الإطلاق كان عاريا عن التّأكيد ، وإن اقتضى حذف المسند إليه حذف ، وإن اقتضى ذكره ذكر وهكذا.

(٨) وملخّص ما يذكره في تعريف علم المعاني : إنّ مقتضى الحال عند التّحقيق كلام

١٤٠