دروس في البلاغة - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في البلاغة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٤

إليه السّيوف [أو كالسّراج في البريق واللّمعان (١)]

______________________________________________________

(١) وهذا التّفسير نقل عن ابن سيدة ، هذا إجمال الكلام في المقام ، وأمّا تفصيل ذلك مع التّوضيح فيتوقّف على البحث عن جهات :

الأولى : بيان معاني الكلمات المذكورة في الشّعر المذكور.

الثّانية : بيان إعرابها.

الثّالثة : بيان غرابة كلمة مسرّج ، في قوله : «مسرّجا» فنقول : إنّ بيان معاني الكلمات يتوقّف على ذكر صدر الشّعر وهو قوله :

أزمان أبدت واضحا مفلجا

ومقلة وحاجبا مزجّجا

أغرّ برّاقا وطرفا أبرجا

وفاحما ومرسنا مسرّجا

الشّرح : (أزمان) اسم امرأة ، (أبدت) أي أظهرت (واضحا) أي شيئا واضحا هو السّنّ ، (مفلجا) أي مباعدا بينه ، (أغرّ) أي أبيض ، (برّاقا) أي لمّاعا ، (وطرفا) أي عينا (أبرجا) بأن يكون بياض العين محدّقا بالسّواد ، و (مقلة) كغرفة بياض العين مع سوادها وقد تستعمل في حدقة العين (مزجّجا) بالزّاء المعجمة والجيمين كمعظّم اسم مفعول من زجّجت المرأة الحاجب أي رقّتها ولطّفتها ، ولذا فسّره الشّارح بقوله : «مدقّقا مطوّلا» أي مطوّلا مع تقوّس (فاحما) أي شديدة السّواد كالفحم و (مرسنا) بالرّاء والسّين المهملتين هو الأنف كما في القاموس وفي غيره ، هو موضع الرّسن من أنف البعير ، ثمّ أطلق على أنف الإنسان على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل (مسرّجا) بالسّين والرّاء المهملتين كمعظّم ، إمّا بمعنى كالسّريجي المنسوب إلى سريج اسم قين أي حدّاد ، أو بمعنى كالسّراج.

الإعراب : «أزمان» مبتدأ ، «أبدت واضحا» فعل وفاعل ومفعول ، خبر ل «أزمان» ، «مفلحا وأغرّ وبرّاقا» نعوت ل «واضحا» ، و «أبرجا» نعت ل «طرفا» ، و «مزجّجا» نعت ل «حاجبا» ، ثمّ كلّ واحد من قوله «طرفا ومقلة وحاجبا» عطف على «واضحا» ، و «فاحما» نعت لموصوف مقدّر أي شعرا فاحما ، و «مسرّجا» نعت ل «مرسنا».

والشّاهد في قوله : «مسرّجا» حيث يكون غريبا ، لأنّ اسم المفعول في الأصل معناه ذات وقع عليها الفعل ، وأمّا كونه بمعنى ذات شبيهة بذات أخرى ـ كما هو المقصود هنا

١٠١

فإن قلت : لم لم يجعلوه اسم مفعول من سرّج الله وجهه أي بهّجه وحسّنه (١).

______________________________________________________

كما يأتي تفصيله ـ فبعيد ، فلذا يكون غريبا.

وأمّا تفصيل الكلام في غرابة (مسرّج) فلأنّ «مسرجا» تارة فسّر بالسّيف السّريجي في الدّقّة والاستواء ، وأخرى بالسّراج في البريق واللّمعان ، والتّفسير الأول نسب إلى ابن دريد ، والثّاني إلى ابن سيدة ، وكلّ منهما بيان لحاصل المعنى ، فإنّ نفس المعنى المستعمل فيه «مسرّجا» هو مفهوم منسوب إلى السّراج من حيث إنّه شبيه به في البريق واللّمعان أو إلى السّريجيّ من حيث إنّه شبيه به في الدّقّة والاستواء.

ثمّ وجه الغرابة في قوله «مسرّجا» أنّهم لمّا رأوا أنّ قوله «مسرّجا» لمكان أنّه اسم مفعول مشتقّ لا بدّ فيه من أصل يرجع إليه قضاء لحقّ الاشتقاق ففتّشوا كتب اللّغة ولم يجدوا فيها التّسريج ، بل وجدوا من هذه المادّة السّراج والسّريجي هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى رأوا أنّه لا يصحّ أن يلتزموا بخطأ قوله : «مسرّجا» لكونه صادرا من شخص عارف باللّغة ، ومن ناحية ثالثة رأوا أنّ الفعل المشتقّ من التّفعيل يستعمل كثيرا في نسبة الشيء إلى مبدئه المجرّد حقيقيّا كان أو جعليّا ، كقولهم فسّقته وكرّمته وتمّمته أي نسبته إلى الفسق والكرم والتّميم ، وكذلك اسم مفعول مشتقّ منه ، فعلى ضوء تلك النّواحي التزموا بأنّ قوله «مسرجا» يكون للنّسبة إلى السّراج أو السّريجي.

ثمّ إنّه لمّا كانت النّسبة محتاجة إلى ملاك مصحّح لها مثل كثرة بيع اللّبن والتّمر في لابن وتامر ، وكثرة الفسق والكرم في فسّقته وكرّمته ، وكثرة التّولد من التّميم في تمّمته ولم يكن في المقام ما يكون صالحا لا يكون ملاكا لنسبة الأنف إلى السّراج أو السريجي إلّا كونه شبيها بهما التزموا بأنّ قوله : «مسرّجا» للنّسبة التّشبيهيّة وإن كان هذا بعيدا لعدم كونه متعارفا لأنّ الفعل المشتقّ من التّفعيل أو الصّفات المشتقّة منه ، وإن كان يجيء للنّسبة كثيرا إلّا أنّه يجيء لنسبة غير تشبيهيّة ، فحمل «مسرّجا» على النّسبة التّشبيهيّة بعيد جدّا ، ومن ذلك يعدّ غريبا ، فوجه الغرابة عدم مجيء الوصف للنّسبة التّشبيهيّة في محاوراتهم ، وهنا وجوه أخرى للغرابة تركناها رعاية للاختصار.

(١) حاصل السّؤال أنّا نجعل «مسرّجا» اسم مفعول من سرّج الله وجهه أي نوّره ، فمعنى «مسرّجا» منوّرا ، وحينئذ يكون قوله «مسرّجا» خاليا من الغرابة إذ ليست فيه نسبة تشبيهيّة فيكون فصيحا.

١٠٢

قلت : هو أيضا من هذا القبيل (١) أو مأخوذ من السّراج على ما صرّح به الإمام المرزوقي رحمه‌الله حيث قال : السّريجي منسوب إلى السّراج (٢) ويجوز أن يكون وصفه بذلك لكثرة مائه ورونقه حتّى كأنّ فيه سراجا (٣). ومنه (٤) ما قيل : سرّج الله أمرك ، أي حسّنه ونوّره. [والمخالفة] أن تكون الكلمة على خلاف قانون مفردات الألفاظ الموضوعة أعني على خلاف ما ثبت عن الواضع (٥)

______________________________________________________

(١) أي من قبيل كون «مسرّجا» منسوبا إلى السّراج أو السّريجيّ في الغرابة ، فمعنى «سرّج» على هذا ، أي جعله ذا سراج بالمشابهة وهو بعيد غريب ، لأنّ الظّاهر أنّه جعله ذا سراج حقيقة لا مشابهة ، هذا هو الجواب الأوّل.

(٢) حاصل الجواب الثّاني عن السّؤال المذكور أنّه يحتمل أن يكون قوله «سرّج» مستحدثا ومولّدا من السّراج بمعنى أنّه لفظ أحدثه المولّدون بعد العجّاج وأخذوه من السّراج واستعملوه بمعنى حسّن ، فإذا لا يمكن جعل «مسرّجا» في قول العجّاج الّذي هو من الجاهليّين مشتقّا منه لاستحالة اشتقاق السّابق من اللّاحق ، ثمّ ما استعمله المولّدون ليس معتبرا ، وإنّما المعتبر ما وقع في كلام العرب الخلّص.

(٣) هذا اعتراض على الجواب الثّاني ، وحاصله : أنّه يجوز أن يكون وصف المرسن يعني الأنف بالمسرّج لكثرة صفائه ورونقه حتّى كأنّ فيه سراجا ، فلا يكون «مسرّجا» حينئذ غريبا ، فيكون فصيحا.

(٤) أي من المأخوذ من السّراج ، ما قيل : سرّج الله أمرك أي حسّنه ونوّره من دون أن يكون فيه غرابة ، ولو لم يكن من المولّدين.

(٥) أي المخالفة أن تكون الكلمة على خلاف القانون ثمّ القانون لفظ سرياني أو يوناني موضوع في الأصل لمسطّر الكتابة ، وفي الاصطلاح : قاعدة كليّة يستنبط منها أحكام جزئيّات موضوعها ، كقولهم : كلّ فاعل مرفوع ، فإنّه يستنبط منه حكم جزئيّات الفاعل ، والمراد به في المقام القانون الصّرفي ، كقولهم : كلّ كلمة فيها حرف علّة متحرّكة ، وما قبلها حرف صحيح ساكن يجب قلبها ألفا ، وكلّ كلمة اجتمع فيها مثلان يجب الإدغام ونحوهما. إلّا أنّ ظاهر الشّارح أن المراد بالقانون ما ثبت عن الواضع ، فالمخالفة أن تكون الكلمة على خلاف ما ثبت عن الواضع ، سواء خالف القانون الصّرفي أو وافقه كما أشار

١٠٣

[نحو] الأجلل بفكّ الإدغام في قوله : [* الحمد لله العليّ الأجلل (١) *] والقياس الأجلّ بالإدغام فنحو آل وماء وأبى يأبى وعور يعور فصيح لأنّه ثبت عن الواضع (٢) كذلك.

______________________________________________________

إليه بقوله : «أعني على خلاف ما ثبت عن الواضع».

(١) هو من قول أبي النّجم من شعراء الدّولة الأمويّة ، فالأجلل في قول الشّاعر على خلاف القانون ، لأنّ مقتضى القانون الصّرفي المستنبط من استقراء الألفاظ الموضوعة الثّابتة من الواضع هو الإدغام ، فالأجلل بفكّ الإدغام غير فصيح لكونه على خلاف القانون الصّرفي الثّابت من الواضع. لا يقال : إنّ الأجلل لا يكون غير فصيح ، لأنّ عدم الإدغام فيه لضرورة الشّعر ، فمخالفة القياس لا تكون موجبة لعدم فصاحته.

فإنّه يقال : إنّ مقتضى الضّرورة الشّعريّة هو الجواز ، والجواز لا يلازم الفصاحة لأنّها متقوّمة على كثرة الدّوران في ألسنة العرب العرباء ، لا على الجواز ، فالجواز الّذي تقتضيه الضّرورة الشّعريّة لا ينافي انتفاء الفصاحة.

(٢) قوله : «فنحو آل ...» تفريع على قوله «أعني على خلاف ما ثبت عن الواضع».

وحاصل التّفريع أنّ ما ذكر وإن كان على خلاف القياس الصّرفي ، إلّا أنّه ثبت عن الواضع فيكون فصيحا ، لأنّ الملاك في الفصاحة ما ثبت عن الواضع لا ما يكون على القياس الصّرفي كي يكون ما ذكر غير فصيح لكونه مخالفا للقياس الصّرفي لأنّ آل وماء كان أصلهما أهل بدليل أهيل وأهلون ، وموه بدليل مياه فأبدلت الهاء فيهما همزة وليس هذا الإبدال من القياس. وفعل مفتوح العين لا يأتي مضارعه مفتوح العين أيضا إلّا إذا كان عين ماضيه أو لامه حرف حلق كمنع يمنع مثلا ، وأبى ليس كذلك مع أنّ مضارعه جاء مفتوح العين ، وهو مخالف للقياس ، وكذلك عور يعور ، لأنّ مقتضى القياس فيهما عار يعار بقلب الواو فيهما ألفا لتحرّك حرف العلّة وانفتاح ما قبلها ، فإثبات الواو مخالف للقياس ، و «عور» يقال لمن ذهب أحد عينيه.

حاصل الكلام : إنّ ما ذكر وإن كان على خلاف القياس ومع ذلك فصيح ولا نلتزم بكون ما ذكر غير فصيح ، لأنّ المراد بالمخالفة هي مخالفة ما ثبت عن الواضع ، لا مطلق المخالفة.

١٠٤

[قيل (١):] فصاحة المفرد : خلوصه ممّا ذكر (٢) [ومن الكراهة في السّمع (٣)] بأن تكون اللّفظة بحيث يمجّها السّمع ويتبرّأ عن سماعها (٤) [نحو] الجرشى في قول أبي الطّيّب (٥) :

مبارك الاسم أغرّ اللّقب (٦)

كريم الجرشى شريف النّسب

[كريم الجرشى] أي النّفس (٧) [شريف النّسب] والأغرّ من الخيل الأبيض

______________________________________________________

(١) القائل هو من بعض معاصريّ المصنّف.

(٢) أي التّنافر والغرابة ومخالفة القياس اللّغوي.

(٣) المراد بالسّمع هنا القوّة السّامعة لا المعنى المصدريّ.

(٤) أي بأن تكون اللّفظة متلبّسة بحالة يدفعها ويكرهها السّمع. وقوله : «ويتبرّأ» عطف تفسيريّ على قوله : «يمجّها» أي يتبرّأ السمع عن سماع تلك اللّفظة.

(٥) أي قول أبي الطّيّب في مدح سيف الدّولة إنّه مبارك الاسم لموافقة اسمه لاسم علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٦) وقوله : «أغرّ اللّقب» أي كونه ملقّبا بسيف الدّولة مشهور كالبياض في الجبهة فإنّ الأغرّ بالغين المعجمة والرّاء المهملة المشدّدة أفعل تفضيل من الغرّة وهو بياض الجبهة ، ثمّ استعير لكلّ واضح مشهور ، واللّقب هنا من أفراد ذلك المشهور ، وأنّه كريم النّفس وأنّه شريف النّسب لأنّه من بني العبّاس.

(٧) تفسير للجرشى فمعنى «كريم الجرشى» هو كريم النّفس. وحاصل الكلام في قول أبي الطّيّب في مدح سيف الدّولة أنّه مبارك الاسم لموافقة اسمه لاسم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأنّه (أغرّ اللّقب) لأنّ لقبه سيف الدّولة مشهور كالبياض في الجبهة.

الإعراب : «مبارك الاسم» مضاف ومضاف إليه خبر لمبتدأ محذوف أي هو مبارك الاسم ، «أغرّ اللّقب» مضاف ومضاف إليه خبر ثان له ، «كريم الجرشى» مضاف ومضاف إليه خبر ثالث له ، «شريف النّسب» عطف على ما قبله.

والشّاهد في قوله : «الجرشى» فإنّه كريه في السّمع ، فلا يكون فصيحا.

١٠٥

الجبهة ثمّ استعير لكلّ واضح معروف (١) [وفيه نظر (٢)] لأنّ الكراهة في السّمع إنّما هي من جهة الغرابة المفسّرة بالوحشيّة مثل تكأكأتم (٣) وافرنقعوا (٤) ونحو ذلك (٥). وقيل (٦) : لأنّ الكراهة في السّمع وعدمها يرجعان إلى طيب النّغم وعدم الطّيب لا إلى نفس اللّفظ.

______________________________________________________

(١) كلمة «من» في قوله : «من الخيل الأبيض» تبعيضيّة ، ومن الخيل خبر للأغرّ ، الأبيض الجبهة بيان له ، فيكون المعنى : الأغرّ هو بعض الخيل الّذي هو الأبيض الجبهة ، ثمّ استعمال الأغرّ في سيف الدّولة على نحو الاستعارة المصرّحة لأنّ الاستعارة عبارة عن أن يشبّه شيء بشيء في النّفس ثمّ تركت أركان التّشبيه سوى لفظ المشبّه به ، ويراد به المشبّه ، والمقام من هذا القبيل حيث شبّه الشّاعر في نفسه سيف الدّولة ببياض جبهة الفرس في الوضوح والظّهور ، ثمّ ترك أركان التشبيه سوى لفظ المشبّه به أعني الأغرّ ، وأراد منه المشبّه أعني سيف الدّولة.

(٢) أي في اشتراط الخلوص من الكراهة في السّمع في الفصاحة نظر ، وحاصل الإشكال أنّ الكراهة في السّمع على زعم الشّارح مسبّب عن الغرابة ، واشتراط الخلوص عن الغرابة في الفصاحة يغني عن اشتراط الخلوص من الكراهة ، لأنّ الخلوص عن الغرابة مستلزم للخلوص عن الكراهة في السّمع ، ضرورة أنّ انتفاء العلّة مستلزم لانتفاء معلولها. وقد أشار إلى ما ذكرناه في وجه النّظر بقوله : «لأنّ الكراهة في السّمع إنّما هي من جهة الغرابة ...».

(٣) أي اجتمعتم.

(٤) أي تفرّقوا.

(٥) مثل اطلخمّ اللّيل ، بمعنى اظلمّ.

(٦) أي قيل في بيان وجه النّظر إنّ الكراهة في السّمع ليست راجعة إلى جوهر اللّفظ وذاته ، بل إنّما هي راجعة إلى الصّوت أي عدم طيب الصّوت لأنّ النّغم جمع نغمة وهي الصّوت ، يقال : فلان حسن النّغمة إذا كان حسن الصّوت ، أو قبيح النّغمة إذا كان أنكر الصّوت ، فإذا لا يمكن اعتبار الخلوص منها في فصاحة الكلمة ، إذ يلزم من ذلك أن تصير الألفاظ الفصيحة غير فصيحة إذا أدّيت بنغم قبيحة ، والألفاظ الغير الفصيحة فصيحة إذا أدّيت بنغم حسنة ، وفساد هذا غنيّ عن البيان.

١٠٦

وفيه نظر (١) للقطع باستكراه الجرشى دون النّفس مع قطع النّظر عن النّغم. [و] الفصاحة (٢) [في الكلام : خلوصه من ضعف التّأليف وتنافر الكلمات (٣)

______________________________________________________

(١) أي في هذا التّعليل المحكيّ ب «قيل» نظر ، وحاصل وجه النّظر : أنّا لا نسلّم ما ذكر من أنّ الكراهة في السّمع وعدمها يرجعان إلى حسن الصّوت وقبحه ، لا إلى نفس اللّفظ ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لزم أن يكون الجرشى غير مكروه في السّمع ، إلّا إذا سمع من قبيح الصّوت ، وليس الأمر كذلك ، وذلك لما أشار إليه الشّارح بقوله : «للقطع باستكراه الجرشى دون النّفس مع قطع النّظر عن النّغم» ، أي للقطع بكراهة الجرشى دون مرادفه ، وإن نطق به حسن الصّوت ، وحينئذ فحصر الكراهة في السّمع على قبح النغم باطل ، فتعيّن ما ذكره الشّارح من انحصار سبب الكراهة في السّمع في الغرابة ، فالكراهة في السّمع إنّما هي من جهة الغرابة المفسّرة بالوحشيّة.

وبالجملة إنّ الكراهة في السّمع الكائنة في اللّفظ ليست راجعة إلى النّغم ، بل إنّما هي ناشئة من غرابة اللّفظ وعدم شهرة استعماله.

(٢) إنّ تقدير لفظ الفصاحة إشارة إلى تقدير المبتدأ ، فيكون عطف قوله : «والفصاحة في الكلام ...» على قوله : «والفصاحة في المفرد ...» من عطف الجملة على الجملة بلا لزوم العطف على معمولي عاملين مختلفين ، فلو لم تقدّر الفصاحة لزم عطف قوله : «في الكلام» على قوله : «في المفرد» والعامل فيه (الكائنة) المقدّرة ، وعطف قوله : «خلوصه» على قوله : «خلوصه» المتقدّم ، والعامل فيه المبتدأ ، ولا يجوز العطف كذلك على الأصحّ فتحرّزا عن ذلك التزم بتقدير المبتدأ أعني قوله «الفصاحة» ليصبح العطف في عبارة المصنّف من عطف الجملة على الجملة.

(٣) عطف على قوله «ضعف التّأليف» ، وكذا قوله «والتّعقيد». فمعنى العبارة أنّ الفصاحة في الكلام هو خلوصه وخلوّه عن الأمور الثّلاثة بأن لا يكون شيء منها موجودا فيه ، ثمّ المراد بالتّنافر في المقام كون الكلمات بحيث يوجب اجتماعها ثقلها على اللّسان.

نعم ، كان الأولى أن يأتي المصنّف بمن في قوله «تنافر الكلمات» وقوله «التّعقيد» ، فيقول : (والفصاحة في الكلام خلوصه من ضعف التّأليف ومن تنافر الكلمات ومن التّعقيد) ليصير كلامه نصّا في السّلب الكلّي وعدم الإتيان بها يوهم سلب العموم المقتضي كون

١٠٧

والتّعقيد مع فصاحتها (١)] هو حال من الضّمير في خلوصه (٢) واحترز به (٣) عن مثل

______________________________________________________

المدار في فصاحة الكلام الخلوص من المجموع لا من كلّ واحد ، مع أنّ الأمر بالعكس.

(١) أي مع فصاحة الكلمات ، ثمّ كلمة «مع» في قوله : «مع فصاحتها» لأحد معان ثلاث ، لمكان الاجتماع نحو جلست مع زيد ، وزمانه نحو جئت مع زيد ، وبمعنى عند نحو جلست مع الدّار ، لأنّ كلمة (مع) عند إضافتها تأتي للمعاني المذكورة.

(٢) يعني قوله : «مع فصاحتها» حال من الضّمير في خلوصه ، فالمعنى أنّ الفصاحة في الكلام خلوصه ممّا ذكر مع فصاحة كلماته ، فيكون مبيّنا لهيئة صاحبه ، وهو الكلام الّذي هو مرجع الضّمير فيكون الكلام مع خلوّه عن الأمور الثّلاثة مقارنا بفصاحة كلماته ويكون الحال قيدا لنفس الخلوص ، وحينئذ فالمعنى والفصاحة في الكلام : هو انتفاء ضعف تأليفه وتنافر كلماته وتعقيده حالة كون فصاحة كلماته تقارن ذلك الانتفاء.

فإن قلت : إنّ كون الظّرف حالا من الضّمير في خلوصه ينافي تصريحهم بأنّ ظرف اللّغو لا يقع حالا ولا خبرا ولا صفة ، وذلك لأنّ العامل فيه عندئذ الخلوص ، حيث إنّ العامل في الحال وصاحبه واحد فيكون ظرفا لغوا.

قلت : إطلاق الحال على نفس الظّرف مسامحة من قبيل إطلاق اسم الكلّ على الجزء ، لأنّ الحال في الحقيقة هو الظّرف مع متعلّقه ولازم ذلك كون الظّرف مستقرّا ، لأنّ العامل هو الفعل المقدّر.

(٣) أي احترز المصنّف بقوله : «مع فصاحتها» عن مثل زيد أجلل ، وشعره مستشزر ، وأنفه مسرّج ، إذ لو لا هذا القيد لما حصل الاحتراز عن هذه الأمثلة ونظائرها بمجرّد الإتيان بضعف التّأليف وتنافر الكلمات والتّعقيد في التّعريف ، لكونها خالية عن هذه الأمور. نعم ، شعره مستشزر مشتمل على كلمة متنافرة ، ولكن لا يوجب ذلك عدم خلوصه من تنافر الكلمات ، لعدم اشتماله على كلمتين متنافرتين فصاعدا ، فهو خالص عن تنافر الكلمات ولا يكون خالصا عن كلمة حروفها متنافرة ، فمن ذلك أتى بقوله : «مع فصاحتها» للاحتراز عن هذه الأمثلة فإنّها لعدم كونها مشتملة على فصاحة جميع مستشزر ، وأنفه مسرّج

١٠٨

زيد أجلل ، وشعره وقيل : هو حال من الكلمات (١) ، ولو ذكره بجنبها (٢) لسلم من الفصل بين الحال وذيها بالأجنبي. وفيه نظر (٣) ، لأنّه (٤) حينئذ (٥) يكون قيدا للتّنافر لا للخلوص ويلزم أن يكون الكلام المشتمل على تنافر الكلمات الغير الفصيحة فصيحا (٦) لأنّه يصدق عليه أنّه

______________________________________________________

كلماتها تخرج بقوله «مع فصاحتها» فإنّ الأمثلة المذكورة مشتملة على كلمة غير فصيحة ، لما عرفت من أنّ في أجلل مخالفة القياس ، وفي مستشزر التّنافر ، وفي مسرّج الغرابة.

(١) أي قيل قوله : «مع فصاحتها» حال من الكلمات.

(٢) هذا الكلام من مقول قيل ، إذ بعد فرض «مع فصاحتها» حالا للكلمات يلزم الفصل بين الحال وذي الحال بالأجنبي ، وهو التّعقيد ، فقال : «ولو ذكره» أي الحال بجنب الكلمات «لسلم من الفصل ...» لأنّ التّعقيد الفاصل بين الحال وذيها ليس بمعمول لعامل الحال أعني التّنافر ، بل معمول للخلوص.

(٣) أي فيما قيل من أنّ قوله «مع فصاحتها» حال عن الكلمات نظر وإشكال.

(٤) أي «مع فصاحتها» قيد للتّنافر لا للخلوص ، لأنّ الحال قيد لعامل ذيها ، والعامل فيه على هذا الفرض هو التّنافر لا الخلوص.

(٥) أي حين جعل «مع فصاحتها» حالا من الكلمات.

(٦) حاصل الكلام في تقريب النّظر والإشكال ـ على القول بأنّ «مع فصاحتها» حال من الكلمات ـ هو أنّ الحال حينئذ قيد للتّنافر الدّاخل تحت النّفي وهو الخلوص ، فيكون النّفي داخلا على المقيّد بالقيد المذكور ، أي على التّنافر المقيّد ب «مع فصاحتها» ، والقاعدة أنّ النّفي إذا دخل على مقيّد بقيد يتوجّه إلى القيد فقط ، ولازم ذلك أن يكون المعتبر في فصاحة الكلام انتفاء فصاحة الكلمات مع وجود التّنافر وهو عكس المقصود ، لأنّ المقصود هو انتفاء التّنافر مع وجود فصاحة الكلمات ، وحينئذ يلزم على ذلك القول أن يدخل في الفصيح ما ليس بفصيح ، فلا يكون التّعريف مانعا. وعلى هذا فكان الأولى للشّارح أن يقول : (فيلزم أن يكون الكلام ...) ، بالفاء التّفريعيّة.

ويلزم الفساد حتّى إذا قلنا بأنّ النّفي إذا دخل على المقيّد بقيد يتوجّه إلى القيد والمقيّد معا ، إذ معنى عبارة المصنّف حينئذ أنّ الفصاحة في الكلام خلوصه من ضعف

١٠٩

خالص عن تنافر الكلمات حال كونها فصيحة ، فافهم (١).

______________________________________________________

التّأليف والتّعقيد وتنافر الكلمات مع فصاحتها بأن يكون الكلام الفصيح خالصا عن التّنافر وفصاحة الكلمات معا ، وهو خلاف المقصود فإنّ المقصود هو خلوصه عن تنافر الكلمات فقط.

نعم ، إذا قلنا بأنّ النّفي يتوجّه إلى المقيّد فقط دون القيد فيكون مفاد كلام المصنّف نفس ما هو المقصود ، إلّا أنّ هذا الاحتمال إنّما هو على خلاف القاعدة أو المتعارف فلا يجوز الالتزام به ، وإن حصل به المقصود ولعلّ إليه أشار بقوله «فافهم».

(١) لعلّه إشارة إلى دفع الإشكال المذكور باحتمال رجوع النّفي إلى المقيّد فقط إلّا أنّه على خلاف القاعدة إذ مقتضاها رجوع النّفي إلى القيد فقط ، فيلزم المحذور المذكور.

وتتميم الكلام في المقام هو أنّ النّفي إذا دخل على شيء مقيّد بقيد ما ، فلا يخلو في مقام الثّبوت حاله من وجوه ثلاثة : فإنّه إمّا أن يتوجّه إلى المقيّد فقط ، وإمّا أن يتوجّه إلى القيد فقط ، وإمّا أن يتوجّه إلى القيد والمقيّد معا ، مثلا كلمة ما في قولنا : (ما جاءني زيد راكبا) إمّا أن تكون متوجّهة إلى الحال فقط ، فيكون المعنى حينئذ انتفاء الرّكوب وثبوت المجيء ، وإمّا أن تكون متوجّهة إلى العامل فقط ، فيكون المعنى انتفاء المجيء وثبوت الرّكوب ، وإمّا أن تكون متوجّهة إليهما معا ، فيكون المعنى حينئذ انتفاء المجيء والرّكوب معا ، وأمّا في مقام الإثبات فالظّاهر توجّه النّفي إلى القيد كما صرّح به الشّيخ عبد القادر ويساعده الفهم العرفي.

وتطبيق ذلك في المقام : أنّ النّفي الكائن في ضمن الخلوص ، بناء على كون «مع فصاحتها» حالا من الكلمات يكون داخلا على التّنافر المقيّد ب «مع فصاحتها» ، فإمّا أن يكون متوجّها إلى «مع فصاحتها» فقط ولازم ذلك انحصار الكلام الفصيح فيما يكون غير واجد لضعف التّأليف والتّعقيد وفصاحة الكلمات وواجدا للتّنافر فيها ، وعدم كون ما لا تكون كلماته متنافرة فصيحا أصلا فيلزم المحذور المتقدّم ذكره.

وإمّا أن يكون متوجّها إلى تنافر الكلمات فقط ولازم ذلك انحصار الكلام الفصيح فيما يكون غير واجد لضعف التّأليف والتّعقيد وتنافر الكلمات وواجدا للفصاحة فيها.

وإمّا أن يكون متوجّها إليهما معا ، ونتيجة ذلك انحصار الكلام الفصيح فيما يكون غير

١١٠

[فالضّعف] أن يكون تأليف الكلام على خلاف القانون النّحوي (١) المشهور بين الجمهور كالإضمار قبل الذّكر لفظا ومعنى وحكما نحو [ضرب غلامه زيدا (٢)]

______________________________________________________

واجد لضعف التّأليف والتّعقيد وتنافر الكلمات وفصاحتها فجميع هذه الاحتمالات في عبارة المصنّف باطل إلّا واحدا منها ، وهو أن يكون النّفي الضّمني متوجّها إلى التّنافر

فقط ، لكن هذا الاحتمال أضعف الاحتمالات في مقام الإثبات لكونه على خلاف القاعدة أو المتعارف ، لأنّ المتعارف هو توجّه النّفي إلى القيد فقط.

وكذلك قوله «فافهم» لعلّه إشارة إلى أنّ الظّاهر وإن كان رجوع النّفي إلى القيد فقط ، إلّا أنه لا مانع من رفع اليد عن ظهور الكلام إذا كانت قرينة على الخلاف ، ففي المقام لزوم فساد التّعريف على تقدير رجوع النّفي إلى القيد قرينة على عدم رجوعه إليه بل إنّما هو راجع إلى المقيّد. والقاعدة الّتي ذكرها الشّيخ ليست كلّيّة ، بل هي قاعدة غالبيّة. فصحّ الالتزام بكون «مع فصاحتها» حالا من الكلمات مع حمل المقام على خلاف الأغلب لمكان القرينة المذكورة.

(١) لا يقال : إنّ العرب لم تعرف القانون النّحوي ، فكيف يكون الخلوص عن مخالفة القانون النّحوي معتبرا في مفهوم الفصاحة في لغتهم ، فالصّواب أن يقال : وعلامة الضّعف أن يكون تأليف الكلام على خلاف قانون لغة العرب.

فإنّه يقال : إنّ القانون النّحوي هو قانون لغة العرب وهم يعرفونه ، غاية الأمر نسب القانون إلى النّحوي ، لأنّ أهله هم المتكفّلون ببيان حال تأليف الكلام على طبق القانون النّحوي.

(٢) هذا مثال الضعف لعدم تقدّم المرجع لفظا ومعنى وحكما ، فهو غير فصيح لمخالفته المشهور بين الجمهور ، وإن أجازه الأخفش وتبعه ابن جنّي.

وتفصيل ذلك أنّه قد تداول في ألسنتهم أنّه لا بدّ في الضّمير الغائب من تقدّم مرجعه لفظا أو معنى أو حكما ، ثمّ التقدّم اللّفظي أن يكون المرجع ملفوظا به قبل الضّمير صريحا سواء كان من حيث الرّتبة والمعنى أيضا مقدّما كما في نحو (ضرب زيد غلامه) أو لا ، كما في نحو (ضرب زيد أغلامه) ، والتقدّم المعنوي أن لا يكون المرجع مصرّحا به قبل الضّمير ، لكن كان هناك ما يقتضي ذكره قبله ، ككون رتبة الفاعل والمفعول الأوّل التّقديم على المفعول ، والمفعول الثّاني كما في قولهم : (ضرب غلامه زيد) ، و (أعطيت درهمه

١١١

[والتّنافر] أن تكون الكلمات ثقيلة على اللّسان (١) وإن كان كلّ منها فصيحا [كقوله : وليس قرب قبر حرب]

______________________________________________________

زيدا) ، وكتضمّن الكلام السّابق المرجع كما في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(١) فإنّ الفعل متضمّن لمصدره وهو العدل في المثال.

والتّقدّم الحكميّ أن لا يكون المرجع مصرّحا به قبل الضّمير ، ولم يكن هناك ما يقتضي ذكره قبله إلّا أنّه ذكر مؤخّرا وأضمر قبله لنكتة ، وحيث إنّه لا مانع من تقديمه إلّا وجود النّكتة ، فكأنّه في حكم المتقدّم ، وتلك النّكتة كالإيهام ، ثمّ البيان ليتمكّن في ذهن السّامع عند اقتضاء المقام ، وذلك كما في ضمير الشّأن في نحو قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ،) وضمير ربّ في قولهم : (ربّه رجلا) وضمير القصّة في قولهم : (هي هند مليحة) فإنّ مضمون الجملة الّذي يعبّر عنه بالشّأن والقصّة ، وكذلك ما يقع بعد الضّمير المجرور بربّ ، وإن لم يكن مذكورا قبل صريحا ولا يكون هناك ما يقتضي ذكره إلّا أنّه لا مانع من تقديمه إلّا النكتة المذكورة فيعدّ بمنزلة المتقدّم وبحكمه ، ثمّ الفرق بين الإضمار قبل الذّكر حكما الموجب لضعف التّأليف ، وبين الإضمار الحكميّ الغير الموجب لضعف التّأليف هو وجود النّكتة وعدمها.

وكيف كان فنحو «ضرب غلامه زيدا» كلام غير فصيح عند المشهور ، والسّبب هو الإضمار قبل الذّكر الموجب لضعف التّأليف.

فإن قلت : إنّ قول غير المشهور يمكن أن يكون أقرب إلى اللّغة وتكون شواهده أظهر من شواهد قول المشهور فينبغي حينئذ الالتزام بفصاحة ما يخالف المشهور ويوافق غيرهم ، فلا وجه للحكم بفصاحة ما يخالف قول غير المشهور على نحو الإطلاق.

قلت : إنّ هذا الاحتمال وإن كان ممكنا في حدّ ذاته إلّا أنّه مجرّد احتمال ليس له تحقّق في الخارج. ولذا حكم بعدم فصاحة ما يخالف الجمهور على نحو الإطلاق.

(١) أي بسبب اجتماع بعضها مع بعض ، وإن كان كلّ منها فصيحة من حيث الانفراد ، وقد ذكر الشّارح في فصاحة المفرد أنّ التّنافر وصف في المركّب يوجب ثقلها على اللّسان.

فالأنسب أن يقول هنا : إنّ التّنافر وصف في المركّب يوجب ثقله على اللّسان ، ثمّ التّنافر

__________________

(١) سورة المائدة : ٨.

١١٢

وهو اسم رجل (١) [قبر] وصدر البيت : * وقبر حرب بمكان قفر (٢) * أي خال عن الماء والكلأ ، ذكر في عجائب المخلوقات أنّ من الجنّ نوعا يقال له الهاتف فصاح واحد منهم على حرب بن أميّة فمات ، فقال ذلك الجنّي هذا البيت.

______________________________________________________

على قسمين : منه ما هو متناه في الثّقل ، ومنه ما هو دون ذلك وسيأتي ذكرهما في كلام الشّارح فانتظر.

(١) أي حرب اسم رجل وقد مات في مكان خال عن الماء والكلأ بصيحة الجنّ.

(٢) إنّ المقصود من ظاهر البيت هو التّأسّف والتّحسّر على كون قبره كذلك.

وملخّص الكلام في البيت المذكور من حيث المعنى والإعراب أنّ «حرب» بالحاء والرّاء المهملتين والموحّدة كفلس اسم رجل ، «قفر» بالقاف والفاء والرّاء المهملة كفلس ، الأرض الخاليّة من الماء والكلأ ، «قرب» ضدّ البعد ، والمعنى واضح.

الإعراب : «قبر حرب» مضاف ومضاف إليه مبتدأ ، «بمكان» جار ومجرور متعلّق بمحذوف خبر ل «قبر حرب» ، «قفر» قيل : هو نعت مقطوع ، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي هو قفر.

لكن يرد عليه أنّ مورد صحّة قطع النّعت إنّما هو إذا كان المنعوت معيّنا من دونه ، ولم يكن محتاجا إليه في الوضوح والبيان ، وليس المقام كذلك ، فإنّ المكان من دون قفر مجمل من حيث كونه ذا كلأ وماء أو قفرا.

وقد أجاب بعضهم ـ عن الإيراد المذكور ـ بأنّ المقام وإن لم يكن بطبعه من موارد صحّة قطع النّعت ، إلّا أنّ الضّرورة اقتضت ذلك حيث إنّه لو لم يقطع من النّعتيّة لما يحصل التّواطؤ والتّوافق بين الشّطرين من حيث العجز ، ويمكن أن يقال : أنّ «قفر» خبر «قبر» ، وقوله : «بمكان» بمعنى مع مكان ، وحاصل المعنى حينئذ أنّ القبر مع مكانه ومحلّه قفر.

«و» عاطفة أو حاليّة ، «ليس» من الأفعال النّاقصة ، «قرب» بمعنى مقارب خبر مقدّم ل «ليس» ومضاف إلى «قبر» إضافة لفظيّة ، لأنّ إضافة المصدر معنويّة فيما إذا كان باقيا على معناه الحقيقي ، وقد جعلنا بمعنى مقارب ، فلا يرد أنّ جعل «قرب» المضاف إلى المضاف إلى العلم خبرا ل «ليس» ، غير جائز لكونه مستلزما لكون الخبر معرفة ، والاسم وهو «قبر» نكرة ، وذلك لم يرد في كلام العرب أصلا ، ولك أن تجعل القرب ظرفا لخبر «ليس» أي

١١٣

[وكقوله :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدي (١)]

______________________________________________________

ليس ثابتا قرب قبر حرب قبر.

الشّاهد في قوله : «وليس قرب قبر حرب» حيث يكون مشتملا على تنافر الكلمات أوجب ثقله على اللّسان غاية الثّقل ، فمن ذلك يكون غير فصيح. فالتّنافر في هذا البيت من القسم الأوّل أي ما هو متناه في الثّقل.

(١) أي لا يشاركني أحد في ملامته معي ، ويشارك الخلق جميعا في مدحه معي ، وهذا البيت من قصيدة يعتذر أبو تمّام فيها إلى ممدوحه وهو أبو المغيث موسى بن إبراهيم الرافيعي ، إذ قد اتّهمه جماعة بأنّه قد هجاه فعاتبه بذلك ، فقال أبو تمّام القصيدة معتذرا متبرّئا ممّا نسب إليه ، «كريم» صفة مشبّهة من الكرم ، وهو ضدّ اللّوم «أمدحه» متكلّم من المدح وهو ضدّ الذّمّ «الورى» بمعنى الخلق «لمته» متكلّم من اللّوم بمعنى العذل.

الإعراب : «كريم» خبر لمبتدأ محذوف ، أي هو كريم «متى» اسم متضمّن لمعنى الشّرط منصوب على الظّرفيّة ب «أمدحه» ، «أمدحه» فعل وفاعل ومفعول ، والجملة فعل شرط ل «متى» ، و «أمدحه» الثّاني فعل وفاعل ومفعول جزاء شرط ل «متى» ، والواو في قوله : «والورى معي» للحال «والورى» مبتدأ وخبره «معي» والجملة حال عن فاعل «أمدحه» ، وإنّما جعل الواو للحال مع أنّ الأصل فيه العطف لأمور :

الأوّل : أنّ كونه للحال متبادر إلى الفهم في المقام.

الثّاني : أنّ وقوعه في مقابل «وحدي» وهو حال يقتضي كونه أيضا حالا.

الثّالث : خلوص كونه للحال من لزوم اتّحاد الشّرط والجزاء ، ولزوم توقّف مدح الورى على مدحه ، وفيه قصور في مقام المدح ، بخلاف ما إذا جعل الواو للعطف ، فإنّه يلزم حينئذ الاتّحاد والتّوقّف إن التزمنا بعطف الجملة على الجملة والتّوقّف فقط إن جعلناه من قبيل عطف المفرد على المفرد ، والتّفصيل في كتاب (المفصّل في شرح المطوّل) للمرحوم الشّيخ موسى البامياني. «و» حرف عطف و «إذا» متضمّن لمعنى الشّرط منصوب على الظّرفيّة ل «لمته» ، «ما» زائدة «لمته» فعل وفاعل ومفعول ، والجملة فعل الشّرط ل «إذا» و «لمته» الثّاني فعل وفاعل ومفعول «وحدي» حال من فاعل «لمته» ، والجملة جزاء ل «إذا».

١١٤

والواو في والورى للحال ، وهو مبتدأ (١) وخبره قوله معي ، وإنّما مثّل بمثالين (٢) ، لأنّ الأوّل متناه في الثّقل ، والثّاني دونه (٣) ، أو لأنّ (٤) منشأ الثّقل في الأوّل نفس اجتماع الكلمات ، وفي الثّاني حروف منها وهو تكرير أمدحه دون مجرّد الجمع بين الحاء والهاء ، لوقوعه (٥) في التّنزيل مثل (فَسَبِّحْهُ) فلا يصحّ القول بأنّ مثل هذا الثّقل مخلّ بالفصاحة (٦) ،

______________________________________________________

الشّاهد في قوله : «أمدحه أمدحه» حيث إنّه لمكان التّكرار أصبح ثقيلا على اللّسان فيكون غير فصيح إلّا أنّ ثقله دون الثّقل المذكور في البيت السّابق فيكون التّنافر فيه من القسم الثّاني.

(١) أي «الورى» مبتدأ.

(٢) أحدهما هو البيت الأوّل وثانيهما هو البيت الثّاني.

(٣) أي التّنافر في المثال الأوّل أكثر ثقلا من التّنافر في المثال الثّاني.

(٤) هذا هو الفرق الثّاني بين البيتين المذكورين ، فالفرق الأوّل : أنّ الأوّل متناه في الثّقل ، والثّاني دونه. والفرق الثّاني : أنّ منشأ الثّقل في الأوّل نفس اجتماع الكلمات حيث إنّ حروف قرب ، وقبر ، وحرب ، من دون ملاحظة اجتماع هذه الثّلاثة غير متنافرة أصلا وإنّما التّنافر بين نفس هذه الكلمات عند اجتماعها باعتبار حروفها ، ومنشأ الثّقل في الثّاني ، ـ أعني بيت أبي تمّام ، حروف منها أي الكلمات أريد بالجمع ما فوق الواحد. فلا يرد أنّ البيت فيه كلمتان متنافرتان فلا مجال لقوله : وفي الثّاني حروفها بتأنيث الضّمير ، ثمّ المراد من الحروف مجموع الحاءين والهاءين الّتي في قوله «أمدحه أمدحه» وفي عدّ الهاء من الحروف مع كونه اسما لأنّه ضمير تجوّز ومسامحة لكونه على صورة الحرف أو تغليب.

(٥) أي لوقوع الجمع بين الحاء والهاء في التنزيل مثل (فَسَبِّحْهُ ،) وحاصل الكلام في المقام : أنّ الثّقل في «أمدحه» ليس لما يتوهّم من أنّ منشأ الثّقل هو الجمع بين الحاء والهاء إذ لو كان قوله : «أمدحه» غير فصيح لما في الجمع بين الحاء والهاء من الثّقل لكان مثل (فَسَبِّحْهُ) أيضا غير فصيح لوجود هذا الملاك فيه أيضا ، والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح ممّا لا يجترئ عليه مؤمن ، فمراد المصنّف أنّ في «أمدحه» شيئا من الثّقل فإذا انضمّ إليه «أمدحه» الثّاني تضاعف ذلك ويحصل التّنافر.

(٦) أي لا يصحّ القول بأنّ مثل هذا الثّقل الحاصل بمجرّد الجمع بين الحاء والهاء مخلّ

١١٥

وذكر الصاحب إسماعيل بن عبّاد أنّه أنشد هذه القصيدة بحضرة الأستاذ ابن العميد (١) ، فلمّا بلغ هذا البيت قال له الأستاذ هل تعرف فيه شيئا من الهجنة (١) ، قال : جنعم ، مقابلة المدح باللوم ، وإنّما يقابل بالذّمّ أو الهجاء ، فقال الأستاذ : غير هذا (٢) أريد ، فقال : لا أدري غير ذلك ، فقال الأستاذ : هذا التّكرير في أمدحه أمدحه ، مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج (٣) عن حدّ الاعتدال نافر (٤) كلّ التّنافر ، فأثنى عليه الصّاحب. [والتّعقيد] أي كون الكلام معقّدا (٥)

______________________________________________________

بالفصاحة ، وإلّا لزم القول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح وهو باطل.

(١) بمعنى العيب ، وقد أراد الشّارح بهذه الحكاية التّأييد لكون هذا التّكرير موجبا للثّقل يخرج به الكلام عن الفصاحة.

(٢) المشار إليه لهذا في قوله : «غير هذا أريد» هو مقابلة المدح باللّوم ، فمعنى العبارة :

فقال الأستاذ : غير مقابلة المدح باللّوم أريد ، «فقال الصّاحب : لا أدري غير ذلك» أي غير مقابلة المدح باللّوم.

(٣) قوله : «خارج» خبر عن قوله : «هذا التّكرير» في «أمدحه أمدحه» مع الجمع بين الحاء والهاء ... خارج عن حدّ الاعتدال.

(٤) خبر بعد خبر عن هذا التّكرير ، وقيل المناسب : نافر كلّ النّفور أو متنافر كل التّنافر ، فمفاد هذا الكلام أنّ التّنافر فيه قويّ وكامل ، وهذا ينافي ما سبق للشّارح من أنّ التّنافر في المثال الثّاني دون التّنافر في المثال الأوّل ، أي أنّه ليس قويّا كالمثال الأوّل ، إلّا أن يقال : بأنّ التّنافر الكامل مقول بالتّشكيك فلا ينافي ما سبق من الشّارح ، لأنّه أكمل من هذا.

(٥) وتوضيح الكلام في المقام يتوقّف على بيان أمرين :

الأمر الأوّل : أنّ المصنّف اكتفى بالمثال فقط في بيان كلّ واحد من ضعف التّأليف والتّنافر حيث قال : «فالضّعف نحو ضرب غلامه زيدا ، والتّنافر كقوله : وليس قرب قبر حرب قبر» ولم يكتف في بيان التّعقيد بالمثال ، بل عرّفه بقوله «أن لا يكون الكلام ظاهر الدّلالة على المراد» فلا بدّ من الفرق بين التّعقيد ونظائره.

__________________

(١) الأستاذ ابن العميد هو شيخ إسماعيل بن عبّاد الّذي هو شيخ الشّيخ عبد القاهر الجرجاني مدوّن هذا الفنّ ، كما في مختصر الدّسوقي على مختصر المعاني.

١١٦

[أن لا يكون الكلام ظاهر الدّلالة على المراد لخلل] واقع [إمّا في النّظم (١) بسبب

______________________________________________________

وقيل في الفرق : إنّ المصنّف عرّف التّعقيد دون نظائره ، لأنّ له سببين :

الأوّل : هو الخلل في النّظم.

والثّاني : هو الخلل في الانتقال.

فلو اقتصر المصنّف في التّعقيد على مجرّد التّمثيل لم يعلم المراد ، هذا بخلاف الضّعف والتّنافر حيث يكون كلّ منهما سبب واحد وهو خلاف القانون النّحوي في الأوّل ، والثّقل على اللّسان في الثّاني.

الأمر الثّاني : بيان ما هو الوجه لتفسير الشّارح «التّعقيد» بقوله : «أي كون الكلام معقّدا» فنقول : إنّ الشّارح قد أشار بهذا التّفسير إلى أنّ المصدر أعني «التّعقيد» ليس بمعناه المصدري ، ولا بمعنى اسم فاعل ، بأن يكون من المبنيّ للفاعل لأنّه على كلا التّقديرين من صفات المتكلّم ، فإنّ التّعقيد بمعنى إيجاد العقدة من صفات المتكلّم كما أنّ «التّعقيد» بمعنى معقّد من صفات المتكلّم ، فلا يصحّ حمل «أن لا يكون الكلام ظاهر الدّلالة على المراد» على التّعقيد بهذا المعنى ، لأنّ عدم ظهور الدّلالة على المعنى المراد ، إنّما هو من صفات الكلام دون المتكلّم ، فلا بدّ من تفسير التّعقيد بكون الكلام معقّدا كي يكون من صفات الكلام فيصحّ حمل قوله : «أن لا يكون الكلام ...» عليه ، فهذا التّفسير في الحقيقة جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ التّعقيد بمعنى إيجاد الفعل من صفات المتكلّم ، فكيف جعله المصنّف من صفات الكلام؟

والجواب : إنّ التّعقيد بمعنى كون الكلام معقّدا ليس من صفات المتكلّم ، بل هو من صفات الكلام ، غاية الأمر يكون المصدر من المبنيّ للمفعول لا بمعنى اشتقاق المصدر من الفعل المجهول كي يقال : إنّ المصدر لا يؤخذ من الفعل ، بل الفعل يؤخذ منه ، بل بمعنى أنّ المصدر كان في الأصل فعلا مجهولا ، ثمّ أوّل إلى المصدر بسبب أداة المصدر ، وقد ذهب الشّارحين في المقام إلى اليمين والشّمال تركناه رعاية للاختصار.

(١) أي في التّركيب سواء كان نظما أو نثرا ، وهذا هو التّعقيد اللّفظي وما يأتي في قوله «وإمّا في الانتقال» هو التّعقيد المعنوي ، وظاهره أنّ القضيّة حقيقيّة أي مانعة الجمع والخلوّ ، وقيل : إنّها مانعة الخلو فيجوز الجمع.

١١٧

تقديم (١) أو تأخير أو حذف أو إضمار (٢) أو غير ذلك (٣) ممّا يوجب صعوبة فهم المراد (٤) [كقول الفرزدق في] مدح [خال هشام] بن عبد الملك (٥) ، وهو (٦) إبراهيم بن هشام بن إسماعيل (٧) المخزومي (٨) :

وما مثله في النّاس إلّا مملّكا

أبو أمّه حيّ (٩) أبوه يقاربه (١٠)

______________________________________________________

(١) المراد من التّأخير والتّقديم هو تقديم اللّفظ عن محلّه الأصلي أو تأخيره عنه وبينهما وإن كان تلازم ، ولذا قد يكتفى بذكر أحدهما في بعض الموارد إلّا أنّ ذكرهما في المقام إشارة إلى أنّ كلّ منهما مستقلّ بالإخلال ، فيندفع حينئذ ما ربّما يتخيّل من أنّ ذكر التّأخير بعد التّقديم مستدرك لا فائدة فيه أصلا ، وذلك لأنّ تقديم لفظ عن مكانه الأصلي مستلزم لتأخير لفظ آخر في محلّه ، ويقال : إنّ مجرّد التّلازم بينهما لا يوجب كون ذكر التّأخير بعد التّقديم مستدركا لإمكان أن يكون ذكره للإشارة إلى أنّه يوجب كلّ منهما الخلل من دون ملاحظة الآخر ، ثمّ المراد بالحذف هو الحذف من قرينة واضحة دالّة على المحذوف ، كقولنا : (دنف) بحذف المبتدأ في جواب (كيف زيد)؟

(٢) المراد بالإضمار : الإتيان بضمير لا يظهر مرجعه بسهولة فيكون مخلّا كما في قول ابن مالك :

كذا إذا عاد عليه مضمر

ممّا به عنه مبنيّا يخبر

(٣) أي كالفصل بين المبتدأ والخبر ، وبين الصّفة والموصوف ، والبدل والمبدل منه بالأجنبي.

(٤) قوله : «ممّا» بيان لكلمة «غير» ، «يوجب صعوبة فهم المراد» أي المعنى المراد للمتكلّم.

(٥) قوله : «ابن عبد الملك» صفة لهشام.

(٦) أي خال هشام الّذي هو الممدوح إبراهيم.

(٧) قوله : «ابن هشام ...» صفة ل «إبراهيم».

(٨) نسبة لبني مخزوم وهم قبيلة من قبائل العرب.

(٩) قوله : «حي» وإن كان في الأصل بمعنى خلاف الميّت إلّا أنّ المراد به هنا أحد ،

(١٠) قوله : «يقاربه» يدلّ على أنّ مماثلة المملّك الممدوح ليست بكاملة.

١١٨

[أي ليس (١) مثله] في النّاس [حيّ يقاربه] أي أحد يشبهه (٢) في الفضائل [إلّا مملّكا] ، أي رجلا أعطي الملك والمال يعني هشاما [أبو أمّه] أي أبو أمّ ذلك المملّك [أبوه] أي إبراهيم الممدوح أي لا يماثله (٣) أحد إلّا ابن أخته وهو هشام

______________________________________________________

والمعنى وما مثله في النّاس أحد يقاربه أي إبراهيم. «يقارب» فعل مضارع من باب المفاعلة ومأخوذ من القرابة ، أي أبو أمّ هشام وأبو إبراهيم واحد ، لأنّه خال له.

وأصل البيت كان هكذا :

وما مثله في النّاس حيّ يقاربه

إلّا مملّكا أبو أمّه أبوه

وحاصل المعنى ليس «مثله» أي إبراهيم «في النّاس حيّ يقاربه» أي أحد يشبهه إبراهيم «في الفضائل إلّا مملّكا» أي رجل أعطي الملك أو أعطى الفقراء والمحتاجين المال ، والمراد من الرّجل ابن أخت إبراهيم الممدوح أعني هشام بن عبد الملك الّذي أبو أمّه أي أمّ ذلك المملّك «أبوه» أي أبو إبراهيم.

الإعراب : «ما» نافية ، «مثله» مضاف ومضاف إليه اسم «ما» ، «حيّ» بدل «مثله» ، «يقاربه» فعل وفاعل ومفعول ، والجملة نعت ل «حيّ» ، «إلّا» حرف استثناء ، «مملّكا» منصوب لمكان كونه مقدّما على على المستثنى منه وهو حيّ وإلّا لكان المختار الرّفع ، حيث إنّ الكلام منفيّ «أبو أمّه» مضاف ومضاف إليه مبتدأ ، «أبوه» مضاف ومضاف إليه خبر. والجملة نعت ل «مملّكا» ، «في النّاس» ظرف مستقرّ خبر «ما».

والشّاهد : في هذا البيت كونه مشتملا على التّعقيد لاشتماله على عدّة أمور مذكورة في الشّرح وقد أوجبت تلك الأمور عدم ظهوره في المعنى المراد وهو أنّه ليس مثل إبراهيم إلّا ابن أخته هشام بن عبد الملك ، فيكون غير فصيح.

(١) تفسير «ما» بليس إشارة إلى أنّ كلمة «ما» نافية.

(٢) تفسير «حيّ» بأحد إشارة إلى أنّ المراد به هنا أحد وليس هنا بمعنى خلاف الميّت.

وتفسير «يقاربه» بقوله : «يشبهه» إشارة إلى أنّ المراد بقوله : «يقاربه» المأخوذ من القرابة هو الشّباهة لا القرابة النسبيّة ، وضمير المفعول يرجع إلى إبراهيم فالمعنى : وليس مثل إبراهيم في النّاس أحد يشبه إبراهيم.

(٣) أي لا يماثل إبراهيم أحد إلّا ابن أخته الّذي هو هشام بن عبد الملك ، فحاصل المعنى المراد أنّه ليس مثل إبراهيم إلّا ابن أخته هشام بن عبد الملك.

١١٩

ففيه فصل بين المبتدأ والخبر أعني ـ أبو أمّه أبوه ـ بالأجنبيّ الّذي هو ـ حيّ ـ وبين الموصوف والصّفة أعني ـ حيّ يقاربه ـ بالأجنبي الّذي هو ـ أبوه ـ وتقديم المستثنى أعني : ـ مملّكا ـ على المستثنى منه ، أعني ـ حيّ ـ وفصل كثير بين البدل وهو ـ حيّ ـ والمبدل منه وهو ـ مثله ـ ، فقوله ـ مثله ـ اسم ما ، وـ في النّاس ـ خبره ، وـ إلّا مملّكا ـ منصوب لتقدّمه على المستثنى منه (١). قيل : ذكر ضعف التّأليف يغني عن ذكر التّعقيد اللّفظي (٢).

وفيه نظر (٣) لجواز أن يحصل التّعقيد باجتماع عدّة أمور موجبة لصعوبة فهم المراد وإن كان كلّ واحد منها جاريا على قانون النّحو.

وبهذا (٤) يظهر فساد ما قيل : إنّه لا حاجة في بيان التّعقيد في البيت إلى ذكر تقديم المستثنى على المستثنى منه ، بل لا وجه له ، لأنّ ذلك جائز باتّفاق النّحاة ، إذ لا يخفى أنّه يوجب زيادة التّعقيد وهو (٥) ممّا يقبل الشّدّة والضّعف.

______________________________________________________

(١) أي لو كان المستثنى مؤخّرا عن المستثنى منه لكان المختار فيه الرّفع حيث إنّ الكلام منفي ، وقد حمل بعضهم البيت على وجه لا تعقيد فيه ، فجعل قوله : «مملّكا» مستثنى من ضمير الجار والمجرور ، وجعل قوله «أبو أمّه حيّ» مبتدأ وخبرا ، وقوله «أبوه» خبرا ثانيا ، والجملة صفة لقوله «مملّكا» وجعل قوله : «يقاربه» صفة ثانية.

(٢) القائل هو الخلخالي حيث توهّم أنّ ذكر الضّعف يغني عن ذكر التّعقيد اللّفظي لأنّه السبّب له وذكر السّبب يغني عن ذكر المسبّب.

(٣) أي فيما قيل نظر وحاصله : أنّ ضعف التّأليف لا يغني عن التّعقيد اللّفظي لأنّ المراد بالثّاني مخالفة استعمال الفصحاء ، وبالأوّل مخالفة أصول النّحاة ، فيجوز أن يحصل التّعقيد باجتماع عدّة أمور موجبة لصعوبة فهم المراد ، وإن كان كلّ منها جاريا على قانون النّحو وذلك كتقديم المفعول والمستثنى والخبر على الفاعل والمستثنى منه والمبتدأ.

(٤) أي بما ذكر بقوله : «لجواز أن يحصل» مع قوله : «وإن كان كلّ منها ... يظهر فساد ما قيل إنّه لا حاجة ...». ووجه الفساد ما أشار إليه بقوله : «إذ لا يخفى أنّه لا يوجب زيادة التّعقيد».

(٥) أي التّعقيد ممّا يقبل الشّدّة والضّعف.

١٢٠