الأصول في النحو - ج ٢

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-406-X
الصفحات: ٥٣٥

فزعموا : أن هذا لما اضطر فصل بالظرف ؛ لأن الظروف تقع مواقع لا تكون فيها غيرها وأجازوا : (أنا طعامك غير آكل) وكان شيخنا يقول : حملته على (لا) إذ كانت (لا) تقع موقع (غير).

قال أبو بكر : والحق في ذا عندي أن يكون طعامك منصوبا بغير (آكل) هذا ولكن تقدر ناصبا يفسره (هذا) كأنك قلت : أنا لا آكل طعامك واستغنيت (بغير آكل) ومثل هذا في العربية كثير مما يضمر إذا أتى بما يدل عليه.

شرح الرابع : الفاعل :

لا يجوز أن يقدم على الفعل إذا قلت : (قام زيد) لا يجوز أن تقدم الفاعل فتقول : زيد قام فترفع (زيدا) بقام ويكون (قام) فارغا ولو جاز هذا لجاز أن تقول : (الزيدان قام والزيدون قام) تريد : (قام الزيدان وقام الزيدون).

وما قام مقام الفاعل مما لم يسم فاعله فحكمه حكم الفاعل إذا قلت : (ضرب زيد) لم يجز أن تقدم (زيدا) فتقول : (زيد ضرب) وترفع زيدا (بضرب) ولو جاز ذلك لجاز : (الزيدان ضرب والزيدون ضرب) فأما تقديم المفعول على الفاعل وعلى الفعل إذا كان الفعل متصرفا فجائز وأعني بمتصرف أن يقال : منه فعل يفعل فهو فاعل كضرب يضرب وهو ضارب ، وذلك اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل حكمه حكم الفعل.

الخامس : الأفعال التي لا تتصرف :

لا يجوز أن يقدم عليها شيء مما عملت فيه وهي نحو : نعم وبئس وفعل التعجب (وليس) تجري عندي ذلك المجرى لأنها غير متصرفة ومه وصه وعليك وما أشبه هذا أبعد في التقديم والتأخير.

__________________

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

وقال ذو الرمّة : كأن أصوات من إيغالهنّ بنا لآنّ الظرف وحرف الجر يتّسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما.

انظر خزانة الأدب ٣ / ٩٢.

٨١

السادس : ما أعمل من الصفات تشبيها بأسماء الفاعلين وعمل عمل الفعل :

وذلك نحو (حسن وشديد وكريم) إذا قلت : هو كريم حسب الأب ، وهو حسن وجها لم يجز أن تقول : هو وجها حسن ولا هو حسب الأب كريم وما كان من الصفات لا يشبه أسماء الفاعلين فهو أبعد له من العمل والتقديم وكل ما كان فيه معنى فعل وليس بفعل ولا اسم فاعل فلا يجوز أن يتقدم ما عمل فيه عليه.

السابع : التمييز :

اعلم أن الأسماء التي تنتصب انتصاب التمييز لا يجوز أن تقدم على ما عمل فيها ، وذلك قولك : (عشرون درهما) لا يجوز : (درهما عشرون) وكذلك له عندي رطل زيتا لا يجوز : (زيتا رطل) وكذلك إذا قلت : (هو خير عبدا) لا يجوز : (هو عبدا خير) ، فإن كان العامل في التمييز فعلا فالناس على ترك إجازة تقديمه سوى المازني ومن قال بقوله ، وذلك قولك : (تفقأت سمنا) فالمازني يجيز : (سمنا تفقأت) وقياس بابه أن لا يجوز ؛ لأنه فاعل في الحقيقة وهو مخالف للمفعولات ألا ترى أنه إذا قال : (تفقأت شحما) فالشحم هو المفقىء كما أنه إذا قال : (هو خير عبدا) فالعبد هو خير ولا يجوز تعريفه فبابه أولى به ، وإن كان العامل فيه فعلا وفي الجملة أن المفسر إنّما (ينبغي أن) يكون بعد المفسر واختلف النحويون في : بطرت القرية معيشتها وسفه زيد رأيه فقال بعضهم : نصبه كنصب التفسير والمعنى : (سفه رأي زيد) ثم حول السفه إلى زيد فخرج الرأي مفسرا فكأن حكمه أن يكون : (سفه زيد رأيا) فترك على إضافته ونصب كنصب النكرة قالوا : وكما لا يجوز تقديم ما نصب على التفسير لا يجوز تقديم هذا وأجاز بعض التقديم وهو عندي القياس ؛ لأن المفسر لا يكون إلا نكرة وإنما يجري هذا والله أعلم على :جهل زيد رأيه وضيّع زيد رأيه.

وما أشبه هذا وكذلك : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] كأنه : كرهت معيشتها وأحسب البطر أنه كراهية الشيء من غير أن يستحق أن يكره وكان شيخنا رحمه الله لا يجيز :(وجع عبد الله رأسه) في تقديم ولا تأخير ؛ لأن (وجع) لا يكون متعدية وهي جائزة في قول الكسائي والفراء.

٨٢

الثامن : العوامل في الأسماء والحروف التي تدخل على الأفعال :

الأول من ذلك : ما يدخل على الأسماء ويعمل فيها فمن ذلك : حروف الجر لا يجوز أن يقدم عليها ما عملت فيه ولا يجوز أن يفرق بينها وبين ما تعمل فيه ولا يجوز أن يفصل بين الجار والمجرور حشو إلا ما جاء في ضرورة الشعر لا يجوز أن تقول : (زيد في اليوم الدار) تريد : (في الدار اليوم) ولا ما أشبه ذلك وقد أجاز قوم : (لست زيدا بضارب) ؛ لأن الباء تسقط والقياس يوجب أن تضمر فعلا ينصب (زيدا) تفسره (بضارب) ومن ذلك (إنّ وأخواتها) لا يجوز أن يقدم عليهن ما عملنّ فيه ولا يجوز أن تفرق بينهن وبين ما عملنّ فيه بفعل ولا تقدم أخبارهن على أسمائهن إلا أن تكون الأخبار ظروفا ، فإن كان الخبر ظرفا قلت : إنّ في الدار زيدا ، وإن خلفك عمرا والظروف يتسع فيهن خاصة ولكن لا يجوز أن تقدم الظرف على (إنّ) ومن الحروف التي لا يقدم عليها ما يليها : (إلا) وجميع ما يستثنى به ؛ لأن ما بعد حرف الاستثناء نظير ما بعد (لا) إذا كانت عاطفة وقد فسرنا هذا فيما تقدم.

وأما الحروف التي تدخل على الأفعال فلا تتقدم فيها الأسماء وهي على ضربين : حروف عوامل وحروف غير عوامل فالحروف العوامل في الأفعال الناصبة نحو : (جئتك كي زيد يقول ذاك) لا يجوز : (ولا خفت أن زيد يقول ذاك) ومنها الحروف الجوازم وهي : لم ولمّا ولا التي تجزم في النهي واللام التي تجزم في الأمر لا يجوز أن تقول : (لم زيد يأتك) ؛ لأن الجزم نظير الجر ولا يجوز لك أن تفصل بينها وبين الفعل بحشو كما لا يجوز لك أن تفصل بين الجار والمجرور بحشو إلا في ضرورة شعر ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب كراهية أن تشبه بما يعمل في الأسماء ؛ لأن الاسم ليس كالفعل كذلك (ما يشبهه) ألا ترى كثرة ما يعمل في الاسم وقلة ما يعمل في الفعل وحروف الجزاء يقبح أن يقدم الاسم معها على الأفعال شبهوها بالجوازم التي لا تخلو من الجزم إلا أنّ حروف الجزاء (فقط) جاز ذلك فيها في الشعر ؛ لأن حروف الجزاء يدخلها (فعل ويفعل) ويكون فيها الاستفهام ويجوز في الكلام أن تلي (إن) الاسم إذا لم يجزم نحو قوله :

٨٣

عاود هراة ، وإن معمورها خربا (١)

وإن جزمت فلا يجوز إلا في الشعر لأنها تشبه (بلم) وإنما جاز هذا في (إن) لأنها أم الجزاء لا تفارقه كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا : (إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر) وهي على كل حال : إن لم يلها فعل في اللفظ فهو مقدر في الضمير.

وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيها ضعيف ومما جاء في الشعر مجزوما في غير (إن) قول عدي بن زيد :

فمتى واغل ينبهم يحيّوه

وتعطف عليه كأس السّاقي

وقال الحسام :

صعدة نابتة في حائر

أينما الرّيح تميّلها تمل (٢)

__________________

(١) يجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ ، نحو قوله :

عاود هراة وإن معمورها خربا

فإن جزمت ففي الشعر ، لأنه يشبه بلم. وإنما جاز في الفصل ، ولم يشبه ، لأن لم لا يقع بعدها فعل. وإنما جاز هذا في إن لأنها أصل الجزاء ، ولا تفارقه ، فجاز هذا ، كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعف في الكلام ، لأنها ليست كإن ، فلو جاء في إن وقد جزمت كان أقوى ، إذ جاز فيه فعل. ومما جاء في الشعر مجزوما في غير إن. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٩١.

(٢) تكون الريح فاعلة بفعل محذوف يفسره المذكور ، أي : أينما تميّلها الريح تميلها.

وهذا البيت من قصيدة لابن جعيل ، منها هذه الأبيات :

وضجيع قد تعللت به

طيّب أردانه غير تفل

في مكان ليس فيه برم

وفراش متعال متمهل

فإذا قامت إلى جاراتها

لاحت الساق بخلخال زجل

وبمتنين إذا ما أدبرت

كالعنانين ومرتج رهل

صعدة قد سمتت في حائر.

٨٤

وإذا قالوا في الشعر : (إن زيد يأتك يكن كذا) إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره وهذا يبين في باب ما يضمر من الفعل ويظهر إن شاء الله.

__________________

ـ " الضجيع" : المضاجع ، مثل النديم بمعنى المنادم والجليس بمعنى المجالس ، من الضجوع وهو وضع الجنب على الأرض ؛ وهو مجرور برب المقدرة بعد الواو ؛ وجملة" قد تعللت" جواب رب وهو العامل في مجرورها ؛ وقد وقع جواب رب قبل وصفه. و" التعلل" : التلهي. و" طيب" : صفة ضجيع ، و" أردانه" : فاعله. و" التفل" : بفتح المثناة الفوقية وكسر الفاء ، وصف من تفلت المرأة تفلا فهي تفلة ، من باب : تركت الطيب والأدهان. و" البرم" بفتحتين : مصدر برم به ، بالكسر : إذا سئمه وضجر منه. و" فراش" : معطوف على مكان. و" متمهل" : اسم فاعل من اتمهل الشيء ، على وزن اقشعرّ ، أي : طال واعتدل ؛ وأصل المادة تمهل بمثناة فوقية فميم فهاء فلام. و" زجل" : بفتح الزاي المعجمة وكسر الجيم. أي : مصوت. وذلك أنهم كانوا يجعلون في الخلاخيل جلاجل.

وقوله : " وبمتنين" ، هو تثنية متن ، وهو ـ كما قال ابن فارس ـ مكتنفا الصلب من العصب واللحم ؛ وهو متعلق بمحذوف ، أي : وإذا ما أدبرت أدبرت بمتنين كالعنانين وبمرتج الخ ، وهو مثنى عنان الفرس ؛ وعنانا المتن : حبلاه ؛ أراد أن خصرها مجدول لطيف ؛ وأراد بالمرتج الكفل. و" الرهل" ، بفتح فكسر : المضطرب.

وقوله : " صعدة" أي : هي صعدة ؛ و" الصعدة" : القناة التي تنبت مستوية فلا تحتاج إلى تثقيف وتعديل ؛ وامرأة صعدة : مستوية القامة ، شبهها بالقناة. وأنشده الجوهري ـ في مادة صعد ـ ولم ينسبه إلى أحد. وقال العيني : نسبه الجوهري إلى الحسام بن صداء الكلبي. ولا أدري أين ذكره. و" الحائر" بالحاء المهملة ، قال أبو نصر : يقال للمكان المطمئن الوسط المرتفع الحروف : حائر ـ وأنشد هذا البيت ـ وإنما قيل له حائر ، لأن الماء يتحير فيه فيجيء ويذهب .. قال الأعلم : الحائر : القرارة من الأرض يستقر فيها السيل فيتحير ماؤه. أي :يستدير ولا يجري ، وجعلها في حائر لأن ذلك أنعم لها وأشد لتثنيها إذا اختلفت الريح ١. ه.

وقال أبو بكر الزبيري في كتاب لحن العامة ويقولون تكون في الحظيرة تكون في الدراحير ويجمعونه أحيارا والصواب حائر وجمعه حوران وحيران بالبصرة حائر الحجاج معروف وقال أحمر بن يحيى ثعلب : الحائر هو الذي تسميه العامة حيرا وهو الحائط ١. ه.

وروي بدل نابتة : " قد سمقت" ، أي : طالت وارتفعت.

و" ابن جعيل" صاحب هذا الشعر ، بضم الجيم مصغر جعل. واسمه كعب بن جعيل بن قمير ، مصغر قمر ، ابن عجرة بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب بن وائل. وهو شاعر مشهور إسلامي كان في زمن معاوية. انظر خزانة الأدب ١ / ٣٢٦.

٨٥

الضرب الثاني منه الحروف التي لا تعمل فمنها : (قد) وهي جواب لقوله : (أفعل) كما كانت (ما فعل) جوابا لهل (فعل) إذا أخبرت أنه لم يقع ولما يفعل وقد فعل إنما هما لقوم ينتظرون شيئا فمن ثم أشبهت (قد) لما في أنها لا يفصل بينها وبين الفعل ومن هذه الحروف (سوف يفعل) لا يجوز أن تفصل بين (سوف) وبين (يفعل) لأنها بمنزلة (السين) في (سيفعل) وهي إثبات لقوله : (لن يفعل) ومما شبه بهذه الحروف (ربّما وقلما وأشباهما) جعلوا (ربّ) مع (ما) بمنزلة كلمة واحدة ليذكر بعدها الفعل ومثل ذلك (هلّا ولو لا وألا ألزموهن لا) وجعلوا كل واحدة مع (لا) بمنزلة حرف واحد وأخلصوهن للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم قال الشاعر :

صددت فأطولت الصّدود وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم

وهذا لفظ سيبويه.

التاسع : الحروف التي تكون صدور الكلام :

هذه الحروف عاملة كانت أو غير عاملة فلا يجوز أن يقدم ما بعدها على ما قبلها ، وذلك نحو ألف الاستفهام و (ما) التي للنفي ولام الابتداء لا يجوز أن تقول : (طعامك أزيد آكل) ولا (طعامك لزيد آكل) وإنّما أجزنا : إنّ زيدا طعامك لآكل ؛ لأن تقدير اللام أن يكون قبل (إنّ) وقد بينا هذا فيما تقدم هذه اللام التي تكسر (إنّ) هي لام الابتداء وإنما فرق بينهما ؛ لأن معناهما في التأكيد واحد فلما أزيلت عن المبتدأ وقعت على خبره وهي لا يجوز أن تقع إلا على اسم (إنّ) أو يكون بعدها خبره فالاسم نحو قولك : (إنّ خلفك لزيدا) والخبر نحو : (إنّ زيدا لآكل طعامك) ، فإن قلت : (إنّ زيدا آكل لطعامك) لم يجز لأنها لم تقع على الاسم ولا الخبر.

ومن ذلك (ما) النافية تقول : (ما زيد آكلا طعامك) ولا يجوز أن تقدم (طعامك) فتقول :(طعامك ما زيد آكلا) ولا يجوز عندي تقديمه ، وإن رفعت الخبر ، وأما الكوفيون فيجيزون :(طعامك ما زيد آكلا) يشبهونها (بلم) و (لن) وأباه البصريون وحجة البصريين أنهم لا

٨٦

يوقعون المفعول إلا حيث يصلح لناصبه أن يقعه فلما لم يجز أن يتقدم الفعل على ما لم يجز أن يتقدم ما عمل فيه الفعل والفرق بين (ما) وبين (لم ولن) : أنّ (لن ولم لا يليهما إلا الفعل فصارتا مع الفعل بمنزلة حروف الفعل).

وأجاز البصريون : (ما طعامك آكل إلّا زيد) وأحالها الكوفيون إلا أحمد بن يحيى.

ومن ذلك (لا) التي تعمل في النكرة النصب وتبنى معها لا تكون إلا صدرا ولا يجوز أن تقدم ما بعدها على ما قبلها وهي مشبهة (بإنّ) وإنما يقع بعدها المبتدأ والخبر فكما لا يجوز أن تقدم ما بعد (إنّ) عليها كذلك هي والتقديم فيما أبعد ؛ لأن (إنّ) أشبه بالفعل منها فأما (لا) إذا كانت تلي الأسماء والأفعال وتصرفت في ذلك ولم تشبه (بليس) فلك التقديم والتأخير تقول : (أنت زيدا لا ضارب ولا مكرم) وما أشبه ذلك ومن ذلك (إن) التي للجزاء لا تكون إلا صدرا ولا بدّ من شرط وجواب فالجزاء مشبه بالمبتدأ والخبر إذ كان لا يستغنى أحدهما عن الآخر ولا يتم الكلام إلا بالجميع فلا يجوز أن تقدم ما بعدها على ما قبلها لا يجوز أن تقول : (زيدا إن تضرب أضرب) بأي الفعلين نصبته فهو غير جائز ؛ لأنه إذا لم يجز أن يتقدم العامل لم يجز أن يتقدم المعمول عليه وأجاز الكسائي أن تنصبه بالفعل الأول ولم يجزها أحد من النحويين وأجاز هو والفراء أن يكون منصوبا بالفعل الثاني.

قال الفراء : إنما أجزت أن يكون منصوبا بالفعل الثاني ، وإن كان مجزوما ؛ لأنه يصلح فيه الرفع وأن يكون مقدما فإذا قلت : (إن زيدا تضرب آتك) فليس بينهم خلاف (وتضرب جزم) إلا أنهم يختلفون في نصب (زيد) فأهل البصرة يضمرون فعلا ينصب وبعضهم ينصبه بالذي بعده وهو قول الكوفيين وأجازوا : (إن تأتني زيدا أضرب) إلا أنّ البصريين يقولون بجزم الفعل بعد (زيد) وأبى الكوفيون جزمه وكان الكسائي يجيز الجزم إذا فرق بين الفعلين بصفة نحو قولك : (إن تأتني إليك أقصد).

فإذا فرق بينهما بشيء من سبب الفعل الأول فكلهم يجزم الفعل الثاني.

٨٧

العاشر : أن يفرق بين العامل والمعمول فيه بما ليس للعامل فيه سبب وهو غريب منه :

وقد بينا أنّ العوامل على ضربين : فعل وحرف ، وقد شرحنا أمر الحرف فأما الفعل الذي لا يجوز أن يفرق بينه وبين ما عمل فيه فنحو قولك : (كانت زيدا الحمى تأخذ) هذا لا يجوز لأنك فرقت بين (كان) واسمها بما هو غريب منها ؛ لأن (زيدا) ليس بخبر لها ولا اسم ولا يجوز : (زيد فيك وعمرو رغب) إذا أرددت : (زيد فيك رغب وعمرو) لأنك فرقت بين (فيك) ورغب بما ليس منه.

وإذا قلت : (زيد راغب نفسه فيك) فجعلت (نفسه) تأكيدا (لزيد) لم يجز لأنك فرقت بين (راغب وفيك) بما هو غريب منه ، فإن جعلت (نفسه) تأكيدا لما في (راغب) جاز وكذلك الموصولات لا يجوز أن يفرق بين بعض صلاتها وبعض بشيء غريب منها تقول : (ضربي زيدا قائما) تريد : إذا كان قائما (فقائما) حال لزيد وقد سدت مسدّ الخبر ؛ لأن (ضربي) مبتدأ ، فإن قدمت (قائما) على زيد لم يجز ؛ لأن (زيدا) في صلة (ضربي) و (قائما) بمنزلة الخبر فكما لا يجوز :(ضربي حسن زيدا) تريد : (ضربي زيدا حسن) كذاك لا يجوز هذا وكذلك جميع الصلات.

الحادي عشر : تقديم المضمر على الظاهر في اللفظ والمعنى :

أما تقديم المضمر على الظاهر الذي يجوز في اللفظ فهو أن يكون مقدما في اللفظ مؤخرا في معناه ومرتبته ، وذلك نحو قولك : (ضرب غلامه زيد) كان الأصل : ضرب زيد غلامه فقدمت ونيتك التأخير ومرتبة المفعول أن يكون بعد الفاعل فإذا قلت : (ضرب زيدا غلامه) كان الأصل : (ضرب غلام زيد زيدا) فلما قدمت (زيدا) المفعول فقلت : ضرب زيدا قلت : غلامه وكان الأصل : (غلام زيد) فاستغنيت عن إظهاره لتقدمه قال الله عز وجل : وإذا (ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤].

وهذه المسألة في جميع أحوالها لم تقدم فيها مضمرا على مظهر ، إنما جئت بالمضمر بعد المظهر إذا استغنيت عن إعادته فلو قدمت فقلت : (ضرب غلامه زيدا) تريد : ضرب زيدا غلامه لم يجز لأنك قدمت المضمر على الظاهر في اللفظ والمرتبة ؛ لأن حق الفاعل أن يكون قبل

٨٨

المفعول فإذا كان في موضعه وعلى معناه فليس لك أن تنوي به غير موضعه إنما تنوي بما كان في غير موضعه موضعه فافهم هذا ، فإن هذا الباب عليه يدور.

فإذا قلت : (في بيته يؤتى الحكم) جاز ؛ لأن التقدير (يؤتى الحكم في بيته) فالذي قام مقام الفاعل ظاهر وهو (الحكم) ولم تقدم ضميرا على ظاهر مرتبته أن يكون قبل الظاهر ، فإن قلت : (في بيت الحكم يؤتى الحكم) جاز أن تقول : (يؤتى) وتضمر استغناء عن إظهاره إذ كان قد ذكره كما تقول : إذا ذكر إنسان زيدا قام وفعل وكذلك إذا ذكر اثنين قلت : (قاما وفعلا) فتضمر اسم من لم تذكر استغناء بأنّ ذاكرا قد ذكره ، فإن لم تقدره هذا التقدير لم يجز ، فإن قدمت فقلت : (يؤتيان في بيت الحكمين) تريد : (في بيت الحكمين يؤتيان) لم يجز ومن هذا :زيدا أبوه ضرب أو يضرب أو ضارب فحقه أن تقول : (زيدا أبو زيد ضرب).

واختلفوا في قولهم : (ما أراد أخذ زيد) فأجازه البصريون ورفعوا زيدا (بأخذ) وفي (أراد) ذكر من زيد وأبى ذلك الكوفيون ففرقوا بينه وبين (غلامه ضرب زيد) بأن الهاء من نفس الاسم بمنزلة التنوين فصار بمنزلة : غلاما ضرب زيد ويقول قوم من النحويين : إذا كان المخفوض ليس في نية نصب فلا يقدم مكنيه تقول (في داره ضربت زيدا) ولا يجوز عندهم :(في داره قيام زيد) وهذا الذي لم يجيزوه هو كما قالوا من قبل أني إذا قلت قيام زيد فقيام مبتدأ ويجوز أن يسقط (زيد) فيتم الاسم فهو بمنزلة ما ليس في الكلام ؛ لأنه من حشو الاسم وليس بالاسم وإنما أجزت : (قيام زيد في داره) استغناء بذكر (زيد) ولو قلت : قيام زيد في دار تمّ الكلام ولم يضطر فيه إلى إضمار فإذا جاء الضمير والكلام غير مضطر إليه كان بمنزلة ما لم يذكر فإذا كان الضمير مؤخرا بهذه الصفة فهو في التقديم أبعد.

واختلفوا في قولهم : (لبست من الثياب ألينها) فمنهم من يجيزها كما يجيز درهمه أعطيت زيدا ومن أباه قال : الفعل واقع على (ألين) دون الثياب وأجازوا جميعا : (أخذ ما أراد زيد) (وأحبّ ما أعجبه زيد) (وخرج راكبا زيد) لم يختلفوا إذا قدموا الفعل وأهل البصرة أجازوا (راكبا خرج زيد) ولم يجزها الفراء والكسائي وقالا : فيها ذكر من الاسم فلا يقدم على الظاهر ولو كان لا يقدم ضمير البتة على ظاهر لوجب ما قالا ولكن المضمر يقدم على الظاهر إذا كان

٨٩

في غير موضعه بالصفة التي ذكرت لك وأجمعوا على قولهم : (أحرز زيدا أجله) وفي القرآن :(لا ينفع نفسا إيمانها) ؛ لأنه ليس في ذا تقديم مضمر على ظاهر وأجمعوا على : (أحرز زيدا أجله) وعلى : (زيدا أحرز أجله) ، فإن قالوا : (زيدا أجله أحرز) فأكثر النحويين المتقدمين وغيرهم يحيلها إلّا هشاما وهي تجوز ؛ لأن المعنى : (أجل زيد أحرز زيدا) فلما قلت : (زيدا أجل زيد أحرز) لم تحتج إلى إظهار زيد مع الأجل واختلفوا في (ثوب أخويك يلبسان) وهي عندي جائزة ؛ لأن المعنى : (ثوب أخويك يلبس أخواك) فاستغنى عن إعادة الأخوين بذكرهما فأضمرا.

وأجاز الفراء : دار قومك يهدم هم (ويهدمون هم) وتقول : (حين يقوم زيد يغضب) لأنك تريد : (حين يقوم زيد يغضب زيد) فلو أظهرته لجاز واستغنى عن إضماره بذكر زيد ولو أظهرته لظن أنه زيد آخر وهو على إلباسه يجوز وليس هذا مثل : (زيدا ضرب) إذا أردت :(ضرب نفسه) لأن هذا إنما امتنع ؛ لأنه فاعل مفعول وقد جعلت المفعول لا بدّ منه وحقّ الفاعل أن يكون غير المفعول إلا في الظن وأخواته فإذا أردت هذا المعنى قلت : (ضرب زيدا نفسه) (وضرب زيد نفسه) وقالوا : فإن لم تجيء بالنفس فلا بدّ من إظهار المكنى ليقوم مقام ما هو منفصل من الفعل ؛ لأن الضمير المنفصل بمنزلة الأجنبي فتقول : (ضرب زيدا هو) (وضرب زيد إيّاه) واحتجوا بقوله عز وجل : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] كأنه في التقدير : (وما يعلم جنود ربك إلّا ربّك) ولو جاز أن تقول : ضربتني وضربتك فأوقعت فعلك على نفسك ومن تخاطبه للزمك أن تقول : (ضربه) للغائب فتوقع فعل الغائب على نفسه بالكناية فلا يعلم لمن الهاء فإذا قلت : (ضرب نفسه) بأنّ لك ذلك وما الذي يجوز فيه تعدى فعل الفاعل إلى نفسه فقولك : (ظننتي قائما وخلتني جالسا) ، فإن هذا وما أشبهه يتعدى فيه فعل المضمر إلى المضمر ولا يتعدى فعل المضمر إلى الظاهر ؛ لأنه يصير في المفعول الذي هو فضلة لا بدّ منه وإلا بطل الكلام.

وهذه مسألة شرحها أبو العباس وذكر قول أصحابه ثم قوله قال : قال سيبويه : (أزيدا ضربه أبوه) ؛ لأن ما كان من سببه موقع به الفعل كما يوقعه ما ليس من سببه ولا أقول : (أزيدا

٩٠

ضرب) فيكون الضمير في (ضرب) هو الفاعل وزيد مفعول فيكون هو الضارب نفسه وأضع الضمير في موضع أبيه حيث كان فاعلا قيل له : لم لا يجوز هذا وما الفصل بينه وبين أبيه وقد رأينا ما كان من سببه يحلّ محله في أبواب فالجواب في ذلك : أن المفعول منفصل مستغن عنه بمنزلة ما ليس في الكلام وإنما ينبغي أن يصحح الكلام بغير مفعول ثم يؤتي بالمفعول فضلة وأنت إذا قلت : (أزيدا ضرب) فلو حذفت المفعول بطل الكلام فصار المفعول لا يستغنى عنه وإنما الذي لا بدّ منه مع الفعل الفاعل.

وكذلك لا تقول : (أزيدا ظنه منطلقا) ؛ لأن الفاعل إذا مثل بطل فصرت إن قدمته لتضعه في موضعه صار (ظنّ زيدا منطلقا) فأضمرت قبل الذكر ولكن لو قلت : (ظنه زيد قائما) وإياه ظن زيد أخا كان أجود كلام ؛ لأن فعل زيد يتعدى إليه في باب (ظننت وعلمت وأخواتهما) ولا يتعدى إليه في (ضرب) ونحوه ألا ترى أنك تقول : غلام هند ضربها فترد الضمير إليها لأنها مستغن عنها لأنك لو قلت (غلام هند ضرب) لم تحتج إلى المفعول فلما كانت في ذكرك رددت إليها وحلت محل الأجنبي ولو قلت : (غلام هند ضربت) تجعل ضمير هند الفاعل لكان غلطا عند بعضهم ؛ لأن هندا من تمام الغلام والغلام مفعول فقد جعلت المفعول الذي هو فضلة لا بدّ منه ليرجع الضمير الذي هو الفاعل إليه ، فإن قلت : فما بالي أقول : (غلام هند ضاربته هي) فيجوز واجعل هي إن شئت إظهار الفاعل وهو (لهند) ، وإن شئت ابتداء وخبرا فالجواب فيه أنه إنما جاز هنا ؛ لأن الغلام مبتدأ و (ضاربته) على هذا التقدير مبتدأ والفاعل يسدّ مسدّ الخبر فهو منفصل بمنزلة الأجنبي ألا ترى أنّك لو وضعت مكان (هي) جاريتك أو غيرها استقام والفاعل المتصل لا يحل محلّه غيره ، فإن قلت أفتجيز : (غلام هند ضاربته هي) تجعل (هي) إن شئت ابتداء مؤخرا ، وإن شئت جعلت (ضاربته) ابتداء و (هي) فاعل يسدّ مسد الخبر فكل هذا جيد ؛ لأن (هي) منفصل بمنزلة الأجنبي ولو قلت : (غلام هند ضربت أمّها) كان جيدا ؛ لأن الأم منفصلة وإنّما أضفتها إلى هند لما تقدم من ذكرها فهند هاهنا وغيرها سواء ألا ترى أني لو قلت : غلام هند ضربت أمّ هند كان بتلك المنزلة إلا أن الإضمار أحسن لما تقدم الذكر والضمير المتصل لا يقع موقعه المنفصل المذكور إلا على معناه وتقديره وإنما هذا

٩١

كقولك : (زيدا ضرب أبوه) ؛ لأن الأب ظاهر ولو حذفت ما أضفت إليه صلح فقلت : أب وغلام ونحوهما والأول بمنزلة : (زيدا ضرب) الذي لا يحل محله ظاهر فلذلك استحال.

قال أبو العباس : وأنا أرى أنه يجوز : (غلام هند ضربت) وباب جوازه أنّك اضمرت (هندا) لذكرك إياها وكان التقدير غلام هند (ضربت هند) فلم تحتج إلى إظهارها لتقدم ذكرها وكان الوجه (غلامها ضربت هند) ويجوز الإظهار على قولك : (ضرب أبا زيد زيد) ولو قلت : (أباه) كان أحسن فإنما أضمرتها في موضع ذكرها الظاهر ولكن لا يجوز بوجه من الوجوه : (زيدا ضرب) إذا جعلت ضمير زيد ناصبا لظاهره لعلتين : إحداهما : أنّ فعله لا يتعدى إليه في هذا الباب لا تقول : (زيد ضربه) إذا رددت الضمير إلى (زيد) ولا تقول : ضربتني إذا كنت الفاعل والمفعول وقد بين هذا والعلة الأخرى : ما تقدم ذكره من أن المفعول الذي فضلة يصير لازما ؛ لأن الفاعل الذي لا بدّ منه معلق به ولهذا لم يجز : زيدا ظنّ منطلقا إذا أضمرت (زيدا) في (ظنّ) ، وإن كان فعله في هذا الباب يتعدى إليه نحو : (ظننتي أخاك) ولكن لم يتعد المضمر إلى الظاهر لما ذكرت لك ، وأما (غلام هند ضربت) فجاز ؛ لأن هندا غير الغلام ، وإن كانت بالإضافة قد صارت من تمامه ألا ترى أنك تقول : (غلام هند ضربها) ولا تقول : (زيد ضربه).

فهذا بين جدا واختلفوا في : (ضربني وضربت زيدا) فرواه سيبويه وذكر : أنهم أضمروا الفاعل قبل ذكره على شريطة التفسير وزعم الفراء : أنه لا يجيز نصب (زيد) وأجاز الكسائي على أن (ضرب) لا شيء فيها وحذف (زيدا) وقال بعض علمائنا (رحمه الله) : والذي قال الفراء : لو لا السماع لكان قياسا.

وأما (عبد الله زيد ضارب أباه) فالبصريون يجيزون : (أباه عبد الله زيد ضارب) وغيرهم لا يجيزها وهو عندي : قبيح لبعد العامل من الذي عمل فيه.

و (طعامك زيد يأكل أبوه) لا يجيزها الفراء ولا يجيز : (آكل) أيضا ويجيزها الكسائي إذا قال : (طعامك زيد آكل أبوه) ؛ لأن زيدا ارتفع عنده (بآكل) فأجاز تقديم الطعام ولما كان

٩٢

يرتفع بما عاد عليه من الذكر لم يجزه وقال الفراء : هو في الدائم غير جائز ؛ لأنه لا يخلو من أن أقدره تقدير الأفعال فيكون بمنزلة الماضي والمستقبل إذا قدره تقدير الأسماء فلا يجوز أن أقدم مفعول الأسماء ولكني أجيزه في الصفات ويعني بالصفات (الظروف) وهذه المسألة لم يقدم فيها مضمر على ظاهر.

والمضمر في موضعه إلا أن (أبوه) فاعل (يأكل) وطعامك مفعول وقد بعد ما بينهما وفرقت بين الفاعل والمفعول به (بزيد) وليس له في الفعل نصيب ولكن يجوز أن تقوله من حيث قلت : (طعامك زيد يأكل) فالفاعل مضمر فقام (أبوه) مقام ذلك المضمر.

الثاني عشر : التقديم إذا ألبس على السامع أنه مقدم :

وذلك نحو قولك : (ضرب عيسى موسى) إذا كان (عيسى) الفاعل لم يجز أن يقدم (موسى) عليه ؛ لأنه ملبس لا يبين فيه إعراب وكذلك : (ضرب العصا الرجى) لا يجوز التقديم والتأخير ، فإن قلت : (كسر الرحى العصا) وكانت الرحى هي الفاعل وقد علم أنّ العصا لا تكسر الرحى جاز التقديم والتأخير ومن ذلك قولك : (ضربت زيدا قائما) إذا كان السامع لا يعلم من القائم الفاعل أم المفعول لم يجز أن تكون الحال من صاحبها إلا في وضع الصفة ولم يجز أن تقدم على صاحبها ، فإن كنت أنت القائم قلت : (ضربت قائما زيدا) ، وإن كان زيد القائم قلت : ضربت زيدا قائما ، فإن لم يلبس جاز التقديم والتأخير وكذلك إذا قلت :(لقيت مصعدا زيدا منحدرا) لا يجوز أن يكون المصعد إلا أنت والمنحدر إلا (زيد) لأنك إن قدمت وأخرت التبس ولو قلت : (ضرب هذا هذا) تريد تقديما وتأخيرا لم يجز فإذا قلت :(ضرب هذا هذه) جاز التقديم والتأخير فقلت : (ضربت هذه هذا) ؛ لأنه غير ملبس ولو قلت : (ضرب الذي في الدار الذي في البيت) لم يجز التقديم والتأخير لإلباسه ومن ذلك إذا قلت : (أعطيت زيدا عمرا) لم يجز أن تقدم (عمرا) على (زيد) وعمرو هو المأخوذ ؛ لأنه ملبس إذا كان كل واحد منهما يجوز أن يكون الآخذ فإذا قلت : (أعطيت زيدا درهما) جاز التقديم والتأخير فقلت : (أعطيت درهما زيدا) ؛ لأنه غير ملبس والدرهم لا يكون إلا مأخوذا.

٩٣

الثالث عشر : إذا كان العامل معنى الفعل ولم يكن فعلا :

لا يجوز أن يقدم ما عمل فيه عليه إلا أن يكون ظرفا ، وذلك قولك : (فيها زيد قائما) لا يجوز أن تقدم (قائما) على فيها ؛ لأنه ليس هنا فعل وإنما أعملت (فيها) في الحال لما تدل عليه من الاستقرار وكذلك إذا قلت : (هذا زيد منطلقا) لا يجوز أن تقدم (منطلقا) على (هذا) ؛ لأن العامل هنا دلّ على ما دل عليه (هذا) وهو التنبيه وليس بفعل ظاهر ومن ذلك : (هو عبد الله حقا) لا يجوز أن تقدم (حقا) على (هو) ؛ لأن العامل هو المعنى وإنما نصبت (حقا) لأنك لما قلت : هو عبد الله دلّك على (أحق دلك) فقلت (حقا) فأما الظرف الذي يقدم إذا كان العامل فيه معنى فنحو قولك : (أكلّ يوم لك ثوب) العامل في (كلّ) معنى (لك) وهو الملك.

٩٤

ذكر ما يعرض من الإضمار والإظهار

اعلم أنّ الكلام يجيء على ثلاثة أضرب : ظاهر لا يحسن إضماره ومضمر مستغمل إظهاره ومضمر متروك إظهاره.

الأول : الذي لا يحسن إضماره : ما ليس عليه دليل من لفظ ولا حال مشاهدة لو قلت :زيدا وأنت تريد : كلم زيدا فأضمرت ولم يتقدم ما يدل على (كلم) ولم يكن إنسان مستعدا للكلام لم يجز وكذلك غيره من جميع الأفعال.

الثاني : المضمر المستعمل إظهاره : هذا الباب إنما يجوز إذا علمت أنّ الرجل مستغن عن لفظك بما تضمره فمن ذلك ما يجري في الأمر والنهي وهو أن يكون الرجل في حال ضرب فتقول : زيدا ورأسه وما أشبه ذلك تريد : اضرب رأسه وتقول في النهي : الأسد الأسد نهيته أن يقرب الأسد وهذا الإضمار أجمع في الأمر والنهي وإنما يجوز مع المخاطب ولا يجوز مع الغائب ولا يجوز إضمار حرف الجر ومن ذلك أن ترى رجلا يسدد سهما فتقول : (القرطاس والله) أي يصيب القرطاس أو رأيته في حال رجل قد أوقع فعلا أو أخبرت عنه بفعل فقلت : (القرطاس والله) أي : أصاب القرطاس وجاز أن تضمر الفعل للغائب ؛ لأنه غير مأمور ولا منهيّ وإنما الكلام خبر فلا لبّس فيه كما يقع في الأمر وقالوا : (الناس مجزيون بأعمالهم) إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر يراد إن كان خيرا.

ومن العرب من يقول : (إن خيرا فخيرا) كأنه قال : (إن كان ما فعل خيرا جزي خيرا) والرفع في الآخر أكثر ؛ لأن ما بعد الفاء حقه الإستئناف ويجوز : (إن خير فخير) على أن تضمر (كان) التي لها خبر وتضمر خبرها ، وإن شئت أضمرت (كان) التي بمعنى (وقع) ومثل ذلك قد مررت برجل إن طويلا ، وإن قصيرا ولا يجوز في هذا إلا النصب وزعم يونس : أنّ من العرب من يقول : (إن لا صالح فطالح) على إن : لا أكن مررت بصالح فطالح.

وقال سيبويه : هذا ضعيف قبيح قال : ولا يجوز أن تقول عبد الله المقتول وأنت تريد (كن عبد الله) ؛ لأنه ليس فعلا يصل من الشيء إلى الشيء ومن ذلك : أو فرقا خيرا من حبّ) ولو

٩٥

رفع جاز كأنه قال : (أو امرىء فرق) وألا طعام ولو تمرا أي : (ولو كان الطعام تمرا) ويجوز :(ولو تمر) أي : ولو كان تمر ومن هذا الباب : (خير مقدم) أي قدمت ، وإن شئت قلت : (خير مقدم) فجميع ما يرفع إنما تضمر في نفسك ما تظهر وجميع ما ينصب إنما تضمر في نفسك غير ما تظهر فافهم هذا ، فإن عليه يجري هذا الباب ألا ترى أنك إذا قلت : خير مقدم فالمعنى : قدمت فقدمت فعل وخير مقدم اسم والاسم غير الفعل فانتصب بالفعل فإذا رفعت فكأنّك قلت : قدومك خير مقدم فإنما تضمر قدومك خير مقدم فقدومك (هو خير مقدم) وخبر المبتدأ هو المبتدأ ، وإذا قلت : (خير مقدم) فالذي أضمرت (قدمت) وهو فعل وفاعل والفعل والفاعل غير المفعول فافهم هذا ، فإن عليه يجري هذا الباب ومن هذا الباب قولهم : (ضربت وضربني زيد) تريد : (ضربت زيدا وضربني) إلا أن هذا الباب أضمرت ما عمل فيه الفعل ، وذلك أضمرت الفعل نفسه وكذلك كلّ فعلين يعطف أحدهما على الآخر فيكون الفاعل فيهما هو المفعول فلك أن تضمره مع الفعل وتعمل المجاوز له فتقول على هذا متى ظننت أو قلت :زيد منطلق ؛ لأن ما بعد القول محكي وتقول : (متى قلت أو ظننت زيدا منطلقا) فإذا قلت : (ضربني وضربت زيدا) ثنيت فقلت : (ضرباني وضربت الزيدين) فأضمرت قبل الذكر ؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل ولو لا أنّ هذا مسموع من العرب لم يجز وإنما حسن هذا لأنك إذا قلت : (ضربت وضربني زيد) وضربني وضربت زيدا فالتأويل : تضاربنا فكل واحد فاعل مفعول في المعنى فسومح في اللفظ لذلك.

ومن ذلك : (ما منهم يقوم) فحذف المبتدأ كأنه قال : (أحد منهم يقوم) ومن ذلك قوله عز وجل : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(١) [يوسف : ١٨]. أي : (أمرى صبر جميل).

__________________

(١) فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل. وقرأ أبي ، والأشهب ، وعيسى بن عمر : فصبرا جميلا بنصبهما ، وكذا هي في مصحف أبيّ ، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي. ونصبه على المصدر الخبري أي : فاصبر صبرا جميلا. قيل : وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، وكذلك يحسن النصب في قوله :شكا إلي جملي طول السرى.

٩٦

الثالث : المضمر المتروك إظهاره : المستولي على هذا الباب الأمر وما جرى مجراه وقد يجوز فيه غيره فمن ذلك ما جرى على الأمر والتحذير نحو قولهم : (إياك) إذا حذرته والمعنى : (باعد إياك) ولكن لا يجوز إظهاره.

وإياك والأسد وإياك الشرّ كأنه قال : إياي لأتقينّ وإياك فأتقينّ فصارت (إياك) بدلا من اللفظ بالفعل ومن ذلك : (رأسه والحائط وشأنك والحجّ وامرأ ونفسه) فجميع هذا المعطوف إنما يكون بمنزلة (إياك) لا يظهر فيه الفعل ما دام معطوفا ، فإن أفردت جاز الإظهار والواو ها هنا بمعنى (مع) ومما جعل بدلا من الفعل : (الحذر الحذر والنجاء النجاء وضربا ضربا) انتصب على (الزم) ولكنهم حذفوا ؛ لأنه صار بمعنى (افعل) ودخول (إلزم) على (افعل) محال وتقول : (إياك أنت نفسك أن تفعل) ونفسك إن وصفت المضمر الفاعل رفعت ، وإن أضفت إياك نصبت ، وذلك ؛ لأن (إياك) بدل من فعل ، وذلك الفعل لا بدّ له من ضمير الفاعل المأمور ، وإن وصفت (إياك) نصبت وتقول : (إياك أنت وزيد وزيدا) بحسب ما تقدر ولا يجوز : (إياك زيدا) بغير واو وكذلك : (إياك أن تفعل) إن أردت : (إياك والفعل) ، وإن أردت :إياك أعظ مخافة أن تفعل جاز وزعموا أن ابن أبي إسحاق أجاز :

إيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعاء وللخير زاجر (١)

__________________

(١) الشاهد فيه أنه أتى بالمراء وهو مفعول به ، بغير حرف عطف. وعند سيبويه أن نصب المراء بإضمار فعل ، لأنه لم يعطف على إياك. وسيبويه وابن أبي اسحاق ينصبه ويجعله كأن والفعل وينصبه بالفعل الذي نصب إياك يقدر فيه : اتق المراء ، كما يقدر فعلا آخر ينصب إياك. وقال المازني : لما كرر إياك مرتين ، كان أحدهما عوضا من الواو. وعند المبرد : المراء بتقدير أن تماري ، كما تقول : إياك أن تماري : أي مخافة أن تماري.

وهذا البيت نسبه أبو بكر محمد التاريخي في طبقات النحاة ـ وكذلك ابن بري في حواشيه على درة الغواص الحريرية ، وكذلك تلميذه ابن خلف في" شرح شواهد سيبويه" ـ للفضل بن عبد الرحمن القرشي ، يقوله لابنه القاسم بن الفضل. قال ابن بري : وقبل هذا البيت :

من ذا الذي يرجو الأباعد نفعه

إذا هو لم تصلح عليه الأقارب

و" الأباعد" : فاعل يرجو. يريد : كيف يرجو الأجانب نفع رجل أقاربه محرومون منه.

٩٧

كأنه قال : (إياك) ثم أضمر بعد (إياك) فعلا آخر فقال : اتق المراء.

وقال الخليل : لو أنّ رجلا قال : إياك نفسك لم أعنفه يريد أن (الكاف) اسم وموضعها خفض.

قال سيبويه : وحدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول : (إذا بلغ الستين فإيّاه وإيّا الشواب) ومن ذلك : (ما شأنك وزيدا) كأنه قال : (وما شأنك وملابسة زيدا) وإنما فعلوا ذلك فرارا من العطف على المضمر المخفوض وحكوا ما أنت وزيدا وما شأن عبد الله وزيدا كأنه قال ما كان : فأما : ويله وأخاه فانتصب بالفعل الذي نصب ويله كأنّك قلت ألزمه الله ويله.

وإن قلت : ويل له وأخاه نصبت ؛ لأن فيه ذلك المعنى ومن ذلك سقيا ورعيا وخيبة ودفرا وجدعا وعقرا وبؤسا وأفة وتفة له وبعدا وسحقا وتعسا وتبّا وبهرا وجميع هذا بدل من الفعل كأنه قال : سقاك الله ورعاك ، وأما ذكرهم (لك) بعد (سقيا) فليبينوا المعنى بالدعاء وليس بمبني على الأول ومنه : (تربا) وجندلا أي : ألزمك الله وقالوا : فاها لفيك يريدون : الداهية ومنه هنيئا مريا ومنها ويلك وويحك وويسك وويبك وعولك لا يتكلم به مفردا ولا يكون إلا بعد (ويلك) ومن ذلك سبحان الله ومعاذ الله وريحانه وعمرك الله إلا فعلت وقعدك الله إلا فعلت بمنزلة : نشدتك الله وزعم الخليل : أنه تمثيل لا يتكلم به ومنه قولهم : كرما وصلفا وفيه معنى التعجب كأنه قال : (ألزمك الله) وصار بدلا من أكرم به وأصلف به ومنه : لبيك وسعديك وحنانيك وهذا مثنى وجميع ذا الباب إنما يعرف بالسماع ولا يقاس وفيما ذكرنا ما يدلّك على الشيء المحذوف إذا سمعته ومن ذلك قولهم : (مررت به فإذا له صوت صوت

__________________

و" المراء" : مصدر ماريته أماريه مماراة ومراء. أي : جادلته. ويقال ماريته أيضا : إذا طعنت في قوله ، تزييفا للقول ، وتصغيرا للقائل. ولا يكون المراء إلا اعتراضا ، بخلاف الجدال : فإنه يكون ابتداء ، واعتراضا. والجدال مصدر جادل : إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب كذا في" المصباح". انظر خزانة الأدب ١ / ٣٣٢.

٩٨

حمار) ؛ لأن معنى : (له صوت) هو يصوت فصار له صوت بدلا منه ومن هذا : (أزيدا ضربته) تريد : أضربت زيدا ضربته فاستغنى (بضربته) وأضمر فعل يلي حرف الاستفهام وكذلك يحسن في كل موضع هو بالفعل أولى كالأمر والنهي والجزاء تقول : (زيدا اضربه) وعمرا لا يقطع الله يده وبكرا لا تضربه وإن زيدا تره تضربه.

وكذلك إذا عطفت جملة على جملة فكانت الجملة الأولى فيها الاسم مبني على الفعل كان الأحسن في الجملة الثانية أن تشاكل الأولى ، وذلك نحو : (ضربت زيدا وعمرا كلمته) والتقدير : ضربت زيدا وكلمت عمرا فأضمرت فعلا يفسره (كلمته) وكذلك إن اتصل الفعل بشيء من سبب الأول تقول : (لقيت زيدا وعمرا ضربت أباه) كأنك قلت (لقيت زيدا وأهنت عمرا وضربت أباه) فتضمر ما يليق بما ظهر ، فإن كان في الكلام الأول المعطوف عليه جملتان متداخلتان كنت بالخيار ، وذلك نحو قولك : (زيد ضربته وعمرو كلمته) إن عطفت على الجملة الأولى التي هي الابتداء والخبر رفعت ، وإن عطفت على الثانية التي هي فعل وفاعل ، وذلك قولك : ضربته نصبت ومن ذلك قولهم : أمّا سمينا فسمين ، وأما عالما فعالم ومنه قولهم :(لك الشاء شاة بدرهم) ومنه قولهم : (هذا ولا زعماتك) أي لا أتوهم زعماتك وكليهما وتمرا.

ومن العرب من يقول : (كلاهما وتمرا كأنه قال (كلاهما لي ثابتان وزدني تمرا) ومن ذلك : (انتهوا خيرا لكم ووراءك أوسع لك وحسبك خيرا لك) لأنّك تخرجه من أمر وتدخله في آخر ولا يجوز ينتهي خيرا لي لأنّك إذا نهيته فأنت ترجيه إلى أمر ، وإذا أخبرت فلست تريد شيئا من ذلك ومن ذلك : (أخذته فصاعدا وبدرهم فزائدا).

أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أولا ثم قررت شيئا بعد شيء لأثمان شتى ولا يجوز دخول الواو هنا ويجوز دخول (ثمّ) وممّا انتصب على الفعل المتروك إظهاره المنادى في قولك : (يا عبد الله) وقد ذكرت ذلك في باب النداء.

قال سيبويه : ومما يدلّك على أنه انتصب على الفعل قولك : (يا إيّاك) إنما قلت : يا إياك أعني ولكنهم حذفوا وذكر أمّا أنت منطلقا انطلقت معك فقال : إنها (إن) ضمت إليها (ما) وجعلت عوضا من اللفظ بالفعل تريد : إن كنت منطلقا قال : ومثل ذلك : (إمّا لا) كأنّه قال :

٩٩

(افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره) وإنما هي (لا) أميلت في هذا الموضع لأنّها جعلت مع ما قبلها كالشيء الواحد فصارت كأنها ألف رابعة فأميلت لذاك ومن ذلك : مرحبا وأهلا زعم الخليل أنه بدل من : رحبت بلادك ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمر هو ما يظهر.

واعلم أن جميع ما يحذف فإنهم لا يحذفون شيئا إلا وفيما أبقوا دليل على ما ألقوا.

١٠٠