الأصول في النحو - ج ٢

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-406-X
الصفحات: ٥٣٥

في اللفظ فمرفوعة بيكن ؛ لأن المعنى لم يكن إتيان فيكون حديث فقوله مرفوعة يدل على أن الفاء عاطفة عطفت اسما على اسم والكلام جملة واحدة ومن شأن العرب إذا أزالوا الكلام عن أصله إلى شيء آخر غيروا لفظه وحذفوا منه شيئا وألزموه موضعا واحدا إذا لم يأتوا بحرف يدلّ على ذلك المعنى ولم يصرفوه وجعلوه كالمثل ليكون ذلك دليلا لهم على أنهم خالفوا به أصل الكلام فقد دل ما قال سيبويه : على أن النفي والنهي إنما وقعا على المصدرين اللذين دل عليهما الفعلان ويقوى أن الفاء للعطف إذا نصبت ما بعدها الواو إن قصتها في النصب وهما للعطف ، فإن قال قائل : فلم جاءوا بالفعل بعد الفاء وهم يريدون الاسم قيل : لأن الظاهر الذي عطف عليه فعل.

فكان الأحسن أن يعطف فعل على فعل ويغير اللفظ فيكون ذلك التغيير دليلا على المصدرين ألا تراهم في النفي كما قالوا : لا أبالك فأضافوا إلى المعرفة أقحموا اللام ليشبه النكرة والمعطوف بالفاء والواو وغيرهما على ما قبله يجوز أن يكون ما قبله سببا له ويجوز أن لا يكون سببا له إذا كان لفظه كلفظه نحو قولك : يقوم زيد فيضرب ويقوم ويضرب وزيد يقوم فيقعد عمرو.

فيجوز أن يكون القيام سببا للضرب ويجوز أن لا يكون إلا أن الفاء معناه اتباع الثاني الأول بلا مهلة فإذا أرادوا أن يجعلوا الفعل سببا للثاني جاءوا به في الجزاء وفيما ضارع الجزاء وجميع هذه المواضع يصلح فيها المعنى الذي فيها من الإتباع ألا ترى أن الشاعر إذا اضطر فعطف على الفعل الواجب الذي على غير شرط بالفاء وكان الأول سببا للثاني نصب كما قال :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

جعل لحاقه بالحجاز سببا لأستراحته فتقديره لما نصب كأنه قال : يكون لحاق فاستراحة وقد جاء مثله في الشعر أبيات لقوم فصحاء إلّا أنه قبيح أن تنصب وتعطف على الواجب الذي على غير شعر وألحق بالحجاز فإذا لحقت استرحت ، وإن ألحق أسترح ومع ذلك ، فإن الإيجاب على غير الشرط أصل الكلام وإزالة اللفظ عن جهته في الفروع أحسن منها في الأصول لأنها

٤١

أدلّ على المعاني ألا ترى أنهم جازوا بحرف الاستفهام والاستفهام وإنما جازوا بالأخبار لأفعال المستفهم عنها فقال أين بيتك يراد به أعلمني.

والعطف بالفاء مضارع للجزاء ؛ لأن الأول سبب للثاني وهو مخالف له من قبل عقده عقد جملة واحدة ألا ترى أنهم مثلوا ما تأتينا فتحدثنا في بعض وجوهها بما يأتينا محدثنا ، فإن قلت : لا تعص فتدخل النار فالنهي هو النفي كما عرفتك فصار بمنزلة قولك : ما تعصي فتدخل النار فقد نفيت العصيان الذي يتبعه دخول النار. وكذلك قد نهيت عنه.

فالنهي قد اشتمل على الجميع إلا أن فيه من المعنى في النصب ما ذكرنا ، فإن قلت : قم فاعطيك فالمعنى ليكن منك قيام يوجب عطيتي وكذلك اقعد فتستريح أي : ليكن منك قعود تتبعه راحة فيقرب معناه من الجزاء إذا قلت : قم أعطك أي إن تقم أعطك ، وإذا دخلت الفاء في جواب الجزاء فهي غير عاطفة إلّا أنّ معناها الذاتي يخصها تفارقه إنها تتبع ما بعدها ما قبلها في كلّ موضع وقال الشاعر في جواب الأمر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

فقد جعل سير ناقته سببا لراحته فكأنه قال : ليكن منك سير يوجب راحتنا وهذا مضارع لقوله : إن تسيري نستريح ولذلك سمى النحويون ما عطف بالفاء ونصب جوابا لشبهه بجواب الجزاء وكذلك إذا قال : أدن من الأسد يأكلك فهو مضارع لقوله : ادن من الأسد فيأكلك ؛ لأن معنى ذاك إن تدن من الأسد يأكلك ومعنى هذا : ليكن منك دنو من الأسد يوجب أكلك أو يتبعه أكلك إلّا أنّ هذا مما لا يؤمر به ؛ لأن من شأن الناس النهي عن مثل ذلك لا الأمر به ، فإن أردت ذاك جاز فإذا قلت : لا تدن من الأسد يأكلك لم يجز ؛ لأن المعنى :أنك تدن من الأسد يأكلك لم يكن إلّا على المجاز ، وإن السامع يعلم ما تعني ؛ لأن المعنى : إلّا تدن من الأسد يأكلك وهذا محال ؛ لأن البعد لا يوجب الأكل فإذا قلت : لا تدن من الأسد فيأكلك جاز ؛ لأن النهي مشتمل في المعنى على الجميع كأنه قال : لا يكن منك دنو من الأسد.

يوجب أكلك أو يتبعه أكلك وكذلك قوله : ما تدنو من الأسد فيأكلك هو مثل لا تدن لا فرق بينهما.

٤٢

وفي الجزاء قد جعل نفي الدنّو موجبا للأكل.

واعلم أنّ كل نفي معنى تحقيق للإيجاب بالفاء نحو : ما زال ولم يزل لا تقول : ما زال زيد قائما فأعطيك وإنما صار النفي في معنى الإيجاب من أجل أنّ قولهم زال بغير ذكر ما في معنى النفي لأنك تريد عدم الخبر فكأنك لو قلت : زال زيد قائما لكان المعنى زال قيامه فهو ضد كان زيد قائما وكان وأخواتها إنما الفائدة في أخبارها والإيجاب والنفي يقع على الأخبار فلما كان زال بمعنى : ما كان ثم أدخلت (ما) صار إيجابا ؛ لأن نفي النفي إيجاب فلذلك لم يجز أن يجاب بالفاء وقوم يجيزون أنت غير قائم فتأتيك.

قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز لأنّا إنما نعطف المنصوب على مصدر يدلّ عليه الفعل فيكون حرف النفي منفصلا وغير اسم مضاف وليست بحرف فتقول : ما قام زيد فيحسن إلّا حمد وما قام فيأكل إلا طعامه قال الشاعر :

وما قام منّا قائم في نديّنا

فينطق إلا بالّتي هى أعرف (١)

__________________

(١) على أن النفي بالمعنى الثاني ، وهو أن يرجع النفي لما بعد الفاء ، كثير الاستعمال كما في البيت ، فإن النفي منصب على ينطق في المعنى ، وقام مثبت في تأويل المستقبل ، لمناسبة المعطوف.

ولهذا قال الشارح المحقق : أي يقوم ، ولا يقوم إلا بالتي هي أعرف. وإنما جعل النفي هنا بالمعنى الثاني لأجل الاستثناء ، فإن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي ، فلما اعتبر في ينطق صح التفريغ.

وجوز صاحب اللباب أن يكون النفي في البيت على ظاهره من القسم الأول. قال في باب الاستثناء :

والمفرغ لا يكون إلا في الإثبات. إلى أن قال : ويجوز فيما هو جواب النفي. وأنشد هذا البيت.

قال الفالي في شرحه : لا يقال ينبغي أن لا يجوز ، لأن قولك فينطق مثبت ، ولا يصح المفرغ في المثبت ، لأن قوله : فينطق بالنصب بأن المضمرة ، والتقدير : فأن ينطق ، وهذا المصدر معطوف على مصدر منتزع من الأول ، وهو قام ، أي : ما يكون قيام فنطق. فحكم النفي منسحب على القيام والنطق.

فالنطق في المعنى منفيّ فيصح الاستثناء المفرغ فيه. ونظيره : ما تأتينا فتحدثنا ، بالنصب ، أي : ما يكون منك إتيان فتحديث على نفي المركب ، أي : ما يكون منك إتيان كثير ، ولا تحديث عقيبه.

وهذا نص سيبويه في باب الفاء ، قال : وتقول ما أتيتنا فتحدثنا ، والنصب فيه كالنصب في الأول ، وإن شئت رفعت على معنى فأنت تحدثنا الساعة. والرفع فيه يجوز على ما.

٤٣

تقول : ألا سيف فأكون أول مقاتل وليت لي مالا فأعينك.

وقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ)(١) [الأنعام : ٢٧] كان حمزة ينصب ؛ لأنه اعتبر قراءة ابن مسعود الذي كان يقرأ بالفاء وينصب.

__________________

وإنما اختير النصب لأن الوجه هاهنا ، وحد الكلام أن تقول : ما أتيتنا فحدثتنا ، فلما صرفوه عن هذا الحد ضعف أن يضموا يفعل إلى فعلت ، فحملوه على الاسم ، كما لم يجز أن يضموا إلى الاسم في قولهم : ما أنت منا فتنصرنا يعني أنت ونحوه.

وأما الذين رفعوه ، فحملوه على موضع أتيتنا ، لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع ، وتحدثنا هاهنا في موضع حدثتنا. وتقول : ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل. فالمعنى : إنك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل. ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن. وإن شئت رفعت على الشركة ، كأنه قال : وما تكلم إلا بالجميل. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٦٨.

(١) قرأ حمزة ، وحفص : (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ) بنصب الياء والنون ، جعلاه جواب التمني ؛ لأن الجواب بالواو ينصب كما ينصب بالفاء ، قال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وكما تقول : ليتك تصير إلينا ونكرمك.

المعنى : ليت مصيرك يقع وإكرامنا ، ويكون المعنى : ليت ردنا وقع ، ولا نكذب ؛ أي : إن رددنا لم نكذب.

وقرأ ابن عامر : يا ليتنا نرد ولا نكذب بالرفع ، ونكون بالنصب ، جعل الأول نسقا ، والثاني جوابا ؛ كأنه قال : ونحن لا نكذب ، ثم رد الجواب إلى (يا لَيْتَنا.)

المعنى : يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين.

وحجته قوله : (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ....)

وقرأ الباقون : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ) بالرفع فيهما ، جعلوا الكلام منقطعا عن الأول.

قال الزجاج المعنى : أنهم تمنوا الرد ، وضمنوا أنهم لا يكذبون.

المعنى : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أم لم نرد ، ونكون من المؤمنين ؛ أي : عانينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدا ، قال : ويجوز الرفع على وجه آخر على معنى : يا ليتنا نرد ، ويا ليتنا لا نكذب بآيات ربنا ؛ كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق. [حجة القراءات : ١ / ٢٤٦]

٤٤

والفراء يختار في الواو والفاء الرفع ؛ لأن المعنى : يا ليتنا نرد ولسنا نكذب استأنف ومن مسائلهم لعلّي سأحجّ فأزورك ولعلك تشتمنا فأقوم إليك ويقولون (لعل) تجاب إذا كانت استفهاما أو شكا وأصحابنا لا يعرفون الاستفهام بلعل وتقول : إنّما هي ضربة من الأسد فتحطم ظهره كأنه قال : إنّما هي ضربة فحطمه فأضمر (أن) ليعطف مصدرا على مصدر وقالوا : الأمر من ينصب الجواب فيه والنهي يجاب بالفاء ؛ لأنه بمنزلة النفي ويجوز النسق.

وقالوا : العرب تذهب بالأمر إلى الإستهزاء والنهي فتنصب الجواب فيقولون : استأذن فيؤذن لك أي لا تستأذن وتحرك فأصبنك قالوا : والعرب تحذف الفعل الأول مع الاستفهام للجواب ومعرفة الكلام فيقولون : متى فأسير معك وأجازوا : متى فآتيك تخرج ولم فأسير تسر وقالوا : كأنّ ينصب الجواب معها وليس بالوجه وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه نحو قولك : (كأنّك وال علينا فتشتمنا) والمعنى : لست واليا علينا فتشتمنا ، وتقول : أريد أن آتيك فأستشيرك ؛ لأنك تريد إتيانه ومشورته جميعا.

فلذلك عطفت على (أن) ، فإن قلت أريد أن آتيك فيمنعني الشغل رفعت لأنك لا تريد منع الشغل ، فإن أردت ذلك نصبت وقالوا : (لو لا) إذا وليت فعلا فهي بمنزلة هلّا ولو ما تكون استفهاما وتجاب بالفاء ، وإذا وليت الأسماء لم ينسق عليها بلا ولم تجب بالفاء وكانت خبرا نحو قوله : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] و (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) [المنافقون : ١٠] وقالوا : الإختيار في الواجب منها الرفع وقد نصب منها الجواب قال الشاعر :

ولو نبش المقابر عن كليب

فيعلم بالذّنائب أيّ زير (١)

__________________

(١) قد يدّعى أنّ لو التي للتمني شرطية أشربت معنى التمنّي ، كما نقله في المغني عن بعضهم ، وصحّحه أبو حيان في الارتشاف ، وذلك لأنهم جمعوا لها بين جوابين : جواب منصوب بعد الفاء ، وجواب باللام كقوله :

الوافر :

فلو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذّنائب أيّ زير

بيوم الشّعثمين لقرّ عينا

وكيف لقاء من تحت القبور

٤٥

ذهب به مذهب (ليت) والكلام الرفع في قوله عز وجل : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩].

واعلم أن الأسماء التي سمى بها الأمر وسائر الألفاظ التي أقيمت مقام فعل الأمر وليست بفعل لا يجوز أن تجاب بالفاء نحو قولك : تراكها ونزال ودونك زيدا وعليك زيدا لا يجاب ؛ لأنه لا ينهى به.

وكذلك إليك لا يجاب بالفاء ؛ لأنه لم يظهر فعل ومه وصه كذلك.

قالوا : الدعاء أيضا لا يجاب نحو قولك : ليغفر الله وغفر الله لك والكسائي يجيز الجواب في ذلك كله ، وأما الفراء فقال في الدعاء : إنّما يكون مع الشروط : غفر الله لك إن اسلمت ، وإن قلت : غفر الله لك فيدخلك الجنة جاز وهو عندي في الدعاء جائز إذا كان في لفظ الأمر لا فرق بينهما ولا يكون للفاء جواب ثان ولا لشيء جوابان.

وأما قوله عز وجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٥٢].

إنما هو : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون جواب (لا) وقوله : فتطردهم جواب (ما) وتقول : ما قام أحد إلا زيد فتحسن إليه إن كانت الهاء لأحد فجائز ؛ لأن التقدير ما قام أحد فيحسن إليه ، وإن كانت الفاء لزيد فخطأ ؛ لأن الموجب لا يكون له جواب والاستثناء إذا جاء بعد النفي فالمستثنى موجب.

وكذلك إن قلت : ما قام إلّا زيد فتحسن إليه محال ؛ لأن التحقيق لا جواب له.

__________________

ـ فلعله يختار هذا القول ، فتبجّحه على مختاره. فقول ابن الحاجب : ليس من ذا الباب ، أي : من باب لو الشرطية ، ممنوع عنده. انتهى. انظر خزانة الأدب ٤ / ١٨٦.

٤٦

فصل من مسائل المجازاة

إذا شغلت حروف المجازاة بحرف سواها لم تجزم نحو : إن وكان ، وإذا عمل في حرف المجازاة الشيء الذي عمل فيه الحرف لم يغيره نحو قولك : من تضرب يضرب ، وأيا تضرب يضرب ، فمن وأي قد عملت في الفعل وعمل الفعل فيهما.

واعلم أنه لا يجوز الجواب بالواو ولو قلت : من يخرج الدلو له درهمان رفعت (يخرج) وصار استفهاما ، وإن جزمت لم يجز إلا بالفاء وتقول : من كان يأتينا وأيّ كان يأتينا نأتيه أذهبت المجازاة لأنك قد شغلت (أيا ومن) عن (يأتينا).

وحكى الأخفش : (كنت ومن يأتني آته) يجعلون الواو زائدة في (باب كان) خاصة ، وإن توصل (بما) فتقول : أمّا تقم أقم تدغم النون في الميم وتوصل (بلا) تقول : ألا تقم أقم إلا أن (ما) زائدة للتوكيد فقط و (لا) دخلت للنفي والكوفيون يقولون : إذا وليت أنّ الأسماء فتحت يقولون أما زيد قائما تقم ، وإن شرط للفعل وقال الكسائي : إن شرط والجزاء الفعل الثاني وهذا الذي ذكره الفراء مخالف لمعنى الكلام وما يجب من ترتيبه وللإستعمال ، وذلك أنّ كل شيء يكون سببا لشيء أو علة له فينبغي أن تقدم فيه العلة على المعلول فإذا قلت : إن تأتني أعطك درهما فالإتيان سبب للعطية به يستوجبها فينبغي أن يتقدم وكذلك إذا قلت : إن تعص الله تدخل النّار فالعصيان سبب لدخول النار فينبغي أن يتقدم فأما قولهم : أجيئك إن جئتني وإنك إن تأتني فالذي عندنا أن هذا الجواب محذوف كفى عنه الفعل المقدم وإنّما يستعمل هذا على جهتين : إما أن يضطر إليه الشاعر فيقدم الجزاء للضرورة وحقه التأخير وإما أن تذكر الجزاء بغير شرط ولا نية فيه فتقول : أجيئك فيعدك بذلك على كل حال ثم يبدو له ألا يجيئك بسبب فتقول : إن جئتني ويستغنى عن الجواب بما قدم فيشبه الاستثناء وتقول : اضرب إن تضرب زيدا تنصب زيدا بأي الفعلين شئت ما لم يلبس فإذا قدمت فقلت : اضرب زيدا إن تضرب فإنما تنصب زيدا بالأول ولا تنصب بالثاني ؛ لأن الذي ينتصب بما بعد الشروط لا

٤٧

يتقدم وكذلك يقول الفراء ولا يجوز عنده إذا قلت : أقوم كي تضرب زيدا أن تقول : أقوم زيدا كي تضرب والكسائي يجيزه وينشد :

وشفاء غيّك خابرا أن تسألي (١)

وقال الفراء : (خابرا) حال من النفي : قمت كي تقوم وأقوم كي تقوم فهذا خلاف الجزاء ؛ لأن الأول ، وإن كان سببا للثاني فقد يكون واقعا ماضيا والجزاء ليس كذلك وهم يخلطون بالجزاء كل فعل يكون سببا لفعل والبصريون يقتصرون باسم الجزاء على ما كان له شرط وكان جوابه مجزوما وكان لما يستقبل.

__________________

(١) على أن تقدم خابرا على أن نادر ، أو هو منصوب بفعل يدل عليه المذكور ، والتقدير : تسألين خابرا.

ولم يذكر التخريج الثاني في البيت الذي قبله ، لأنه لا يتأتى هنا ، فإن خابرا منصوب.

قال ابن السراج في الأصول : ولا يجوز عند الفراء إذا قلت أقوم كي تضرب زيدا : أقوم زيدا كي تضرب.

والكسائي يجيزه ، وينشد :

وشفاء غيك خابرا أن تسألي

وقال الفراء : خابرا حال من الغي.

ونقله صاحب اللباب ، فقال : ولا يجوز : قمت زيدا كي أضرب ، كما لا يجوز : أريد زيدا أن أضرب ، خلافا للكسائي.

وقوله :

وشفاء غيك خابرا أن تسألي

مما يعضد مذهبه. والفراء يجعل المنصوب حالا من الغي على ما حكاه ابن السراج.

وقول الفراء في البيت لا وجه له ، فإن خابرا اسم فاعل من خبرته أخبره ، من باب نصر ، خبرا بالضم ، إذا علمته. وهو بالخاء المعجمة والباء الموحدة. فالخابر : العالم.

والغي ، بفتح الغين المعجمة : مصدر غوى غيا ، من باب ضرب ، أي : انهمك في الجهل ، وهو خلاف الرشد ، والاسم الغواية بالفتح.

والمصراع عجز ، وصدره :

هلا سألت وخبر قوم عندهم

وشفاء غيك خابرا أن تسألي

انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٣٧.

٤٨

وتقول : إن لم تقم قمت فلم في الأصل تقلب المستقبل إلى الماضي لأنها تنفي ما مضى فإذا أدخلت عليها إن أحالت الماضي إلى المستقبل ، وأما (لا) فتدع الكلام بحا إلا ما تحدثه من النفي تقول : إن لا تقم أقم ، وإن لا تقم وتحسن آتك وقوم يجيزون : إن لا تقم وأحسنت آتك ويقولون : إذا أردت الإتيان بالنسق جاز فيه الماضي فإذا قلت : إن لم تقم وتحسن آتك جاز معه الماضي إذا كان الأول بتأويل الماضي تقول : إن لم تقم ورغبت فينا نأتك وتقول : إن تقم فأقوم فترفع إذا أدخلت الفاء ؛ لأن ما بعد الفاء استئناف يقع قيه كل الكلام فالجواب حقه أن يكون على قدر الأول إن كان ماضيا فالجواب ماض ، وإن كان مستقبلا فكذلك.

وتقول : إن تقم وتحسن آتك تريد : إن تجمع مع قيامك إحسانا آتك وكذلك : إن تقم تحسن آتك تريد : إن تقم محسنا. ولم ترد : إن تقم ، وإن تحسن آتك وهذا النصب يسميه الكوفيون الصرف لأنّهم صرفوه على النسق إلى معنى غيره وكذلك في الجواب تقول : إن تقم آتك وأحسن إليك ، وإن تقم أنك فأحسن إليك ، وإذا قلت : أقوم إن تقم فنسقت بفعل عليها ، فإن كان من شكل الأول رفعته ، وإن كان من شكل الثاني ففيه ثلاثة أوجه : الجزم على النسق على (إن) والنصب على الصرف والرفع على الإستئناف فأمّا ما شاكل الأول فقولك : تحمد إن تأمر بالمعروف وتؤجر ؛ لأنه من شكل تحمد فهذا الرفع فيه لا غير ، وأما ما يكون للثاني فقولك تحمد إن تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر فيكون فيه ثلاثة أوجه : فإن نسقت بفعل يصلح للأول ففيه أربعة أوجه : الرفع من جهتين : نسقا على الأول وعلى الاستئناف والجزم والنصب على الصرف وقال قوم : يرد بعد الجزاء فعل على يفعل ويفعل على فعل نحو قولك : آتيك إن تأتني وأحسنت ، وإن أحسنت وتأتني والوجه الاتفاق ، وإذا جئت بفعلين لا نسق معهما فلك أن تجعل الثاني حالا أو بدلا والكوفيون يقولون موضع بدل مترجما أو تكريرا ، فإن كررت جزمت ، وإن كان حالا رفعته وهو موضع نصب إذا ردّ إلى اسم الفاعل نصب فأما الحال فقولك : إن تأتني تطلب ما عندي أحسن إليك تريد : طالبا والتكرير مثل قولك : إن تأتني تأتني تريد الخير أعطك والبدل مثل قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ثم فسر فقال :(يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩] وكذلك إن تبرر أباك تصل رحمك تفعل ذاك لله

٤٩

تؤجر إذا ترجمت عن الأفعال بفعل ولا يجوز البدل في الفعل إلا أن يكون الثاني من معنى الأول نحو قولك : إن تأتني تمشي أمش معك ؛ لأن المشي ضرب من الإتيان ولو قلت : إن تأتني تضحك معي آتك فجزمت تضحك لم يجز.

قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله عز وجل : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) [الروم : ٥١] فقال المعنى : ليظلّنّ ، وكذلك (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥] وإنما يقع ما بعدها من الماضي في معنى المستقبل لأنها مجازاة نظير ذلك : (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما) [فاطر : ٤١] أي : لا يمسكهما وقال محمد بن يزيد رحمه الله : وأما قوله : والله لا فعلت ذاك أبدا فإنه لو أراد الماضي لقال : ما فعلت فإنما قلبت لأنها لما يقع ألا ترى أنها نفي سيفعل تقول : زيد لا يأكل فيكون في معنى ما يستقبل ، فإن قلت : ما يأكل نفيت ما في الحال.

والحروف تغلب الأفعال ألا ترى أنك تدخل (لم) على المستقبل فيصير في معنى الماضي تقول : لم يقم زيد : فكذلك حروف الجزاء تقلب الماضي إلى المستقبل تقول : إن أتيتني أتيتك قال أبو العباس رحمه الله : مما يسأل عنه في هذا الباب قولك : إن كنت زرتني أمس أكرمتك اليوم فقد صار ما بعد (إن) يقع في معنى الماضي فيقال للسائل عن هذا : ليس هذا من قبل (إن) ولكن لقوة كان ، وأنها أصل الأفعال وعبارتها جاز أن تقلب (إن) فتقول : إن كنت أعطيتني فسوف أكافيك فلا يكون ذلك إلا ماضيا كقول الله عز وجل : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦] والدليل على أنه كما قلت ، وإن هذا لقوة (كان) أنه ليس شيء من الأفعال يقع بعد (إن) غير (كان) إلا ومعناه الإستقبال لا تقول : إن جئتني أمس أكرمتك اليوم.

قال أبو بكر : وهذا الذي قاله أبو العباس رحمه الله لست أقوله ولا يجوز أن تكون (إن) تخلو من الفعل المستقبل ؛ لأن الجزاء لا يكون إلا بالمستقبل وهذا الذي قال عندي نقض لأصول الكلام.

٥٠

فالتأويل عندي لقوله : (إن كنت زرتني أمس أكرمتك اليوم) إن تكن كنت ممن زارني أمس أكرمتك اليوم ، وإن كنت زرتني أمس زرتك اليوم فدلت (كنت) على (تكن) وكذلك قوله عز وجل : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦] أي : إن أكن كنت (أو) إن أقل كنت قلته أو أقر بهذا الكلام ، وقد حكي عن المازني ما يقارب هذا ورأيت في كتاب أبي العباس بخطه موقعا عند الجواب في هذه المسألة ينظر فيه وأحسبه ترك هذا القول وقال : قال سيبويه في قوله عز وجل : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] : إنما دخلت الفاء لذكره تفرون ونحن نعلم أنّ الموت ليس يلاقيكم من أجل أنهم فروا كقولك : الذي يأتينا فله درهمان فإنما وجب له الدرهمان من أجل الإتيان ولكن القول فيه والله اعلم إنما هو مخاطبة لمن يهرب من الموت ولم يتمنّه قال الله عز وجل : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦].

فالمعنى : أي أنتم إن فررتم منه فإنه ملاقيكم ودخلت الفاء لإعتلالهم من الموت عن أنفسهم بالفرار نحو قول زهير :

ومن هاب أسباب المنيّة يلقها

وإن رام أسباب السّماء بسلّم

ومن يهبها أيضا يلقها ولكنه قال هذا لمن يهاب لينجو ومثل ذلك : إن شتمتني لم اشتمك وهو يعلم أنه إن لم يشتمني لم اشتمه ولكنه قيل هذا ؛ لأنه كان في التقدير أنه إن شتم شتم كما كان في تقدير الفارّ من الموت : أن فراره ينجيه.

وقال : قال سيبويه : إنّ حروف الجزاء إذا لم تجزم جاز أن يتقدمها أخبارها نحو : أنت ظالم إن فعلت ثم أجرى حروف الجزاء كلها مجرى واحدا وهذه حكاية قول سيبويه وقد تقول : إن أتيتني آتيك أي : آتيك إن أتيتني قال زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم (١)

__________________

(١) لا يحسن إن تأتيني آتيك ، من قبل أن إن هي العاملة. وقد جاء في الشعر ، قال جرير بن عبد الله البجلي

٥١

ولا يحسن : إن تأتني آتيك من قبل أنّ (إن) هي العاملة.

وقد جاء في الشعر قال :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

أي : أنّك تصرع إن يصرع أخوك.

ومثل ذلك قوله :

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب (١)

__________________

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

أي : إنك تصرع إن يصرع أخوك.

ومثل ذلك قوله : البسيط

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

أي : والمرء ذئب إن يلق الرشا. قال الأصمعي : هو قديم أنشدنيه أبو عمرو.

وقال ذو الرمة : الطويل

وإني متى أشرف على الجانب الذي

به أنت من بين الجوانب ناظر

انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٩٣.

(١) على أن الضمير في يدرسه راجع إلى مضمون يدرس ، أي : يدرس الدرس ، فيكون راجعا للمصدر المدلول عليه بالفعل ؛ وإنما لم يجز عوده للقرآن لئلا يلزم تعدي العامل إلى الضمير وظاهره معا.

واستشهد به أبو حيان في شرح التسهيل على أن ضمير المصدر قد يجيء مرادا به التأكيد ، وأن ذلك لا يختص بالمصدر الظاهر على الصحيح.

وأورده سيبويه على أن تقديره عنده : والمرء عند الرشا ذئب إن يلقها.

وتقديره عند المبرد : إن يلقها فهو ذئب.

وهذا من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يقف على قائلها أحد. قال الأعلم : هجا هذا الشاعر رجلا من القراء نسب إليه الرياء. وقبول الرشا. والحرص عليها وكذلك أورده ابن السراج في الأصول.

وزعم الدماميني في الحاشية الهندية : أن هذا البيت من المدح لا من الهجاء ، وظن أن سراقة هو سراقة بن جعشم الصحابي

٥٢

أي : المرء ذيب إن يلق الرّشا فجاز هذا في الشعر وشبهوه فالجزاء إذا كان جوابه منجزما ؛ لأن المعنى واحد قال : ثم قال في الباب الذي بعده.

فإذا قلت : آتي من أتاني فأنت بالخيار إن شئت كانت بمنزلتها في (إن) وقد يجوز في الشعر : آتي من يأتيني قال الشاعر :

فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها

مطبّعة من يأتها لا يضيرها

كأنه قال : لا يضيرها من يأتها ولو أريد أنه حذف الفاء جاز وأنشد في باب بعده :

وما ذاك أن كان ابن عمّي ولا أخي

ولكن متى ما أملك الضّرّ أنفع (١)

__________________

مع أنه في البيت غير معلوم من هو ـ فيه تحريفات ثلاثة : الأول : أن الرشا بضم الراء ـ والقصر : جمع رشوة ؛ فقال : هو بكسر الراء مع المد : الحبل ، وقصره للضرورة وأنثه على معنى الآلة. وكلامه هذا على حد : زناه وحده.

والثاني : أن قوله يلقها بفتح الياء من اللقي ، وهو ضبطه بضم الياء من الإلقاء.

والثالث : أن قوله ذيب بكسر الذال وبالهمزة المبدلة ياء وهو الحيوان المعروف ؛ وهو صحفه ذنبا بفتح الذال والنون ، وقال : قوله عند الرشا متعلق بذنب لما فيه من معنى التأخر.

والمعنى : إن يلق إنسان الرشا فهو متأخر عند إلقائها ، يريد أن سراقة درس القرآن فتقدم والمرء متأخر عند اشتغاله بما لا يهم كمن امتهن نفسه في السقي وإلقاء الأرشية في الآبار. هذا كلامه ؛ وتبعه فيه الشمني. انظر خزانة الأدب ١ / ١٦٤.

(١) والقوافي مرفوعة ، كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضر ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء ، وما لغو. ولم تجد سبيلا إلى أن تكون بمنزلة من فتوصل ، ولكنها كمهما. انتهى كلام سيبويه.

فشرط جواز وقوع أداة الشرط بعد لكن تقدير الضمير بينهما ، وحينئذ لا ضرورة فيه ، بل هو حسن للفصل ، كما قال سيبويه.

ولم يصب الأعلم في قوله : الشاهد في هذا البيت حذف المبتدأ بعد لكن ضرورة ، والمجازاة بعدها ، والتقدير : ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد. اه؟.

وإن لم يقدر الضمير ، فلا يجوز وقوع الأداة بعد لكن إلا في الشعر.

والشارح المحقق أخل بهذا التفصيل ، ولم يذكره ، وقد أخذ به أبو علي في التذكرة القصرية. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٩٩.

٥٣

كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ ، قال أبو العباس رحمه الله : أما قوله : آتيك إن أتيتني فغير منكر ولا مرفوع استغنى عن الجواب بما تقدم.

ولم تجزم (إن) شيئا فيحتاج إلى جواب مجزوم أو شيء في مكانه.

وأما قولهم : وإن أتاه خليل يوم مسألة تقول على القلب فهو محال ، وذلك كان الجواب حقه أن يكون بعد (إن) وفعلها الأول وإنما يعني بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه نحو : ضرب غلامه زيد ؛ لأن حد الكلام أن يكون بعد زيد وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء فلو جاز أن يعني به التقديم لجاز أن تقول : ضرب غلامه زيدا. تريد : ضرب زيدا غلامه ، وأما ما ذكره من (من ومتى) وسائر الحروف فإنه يستحيل في الأسماء منها والظروف من وجوه في التقديم والتأخير لأنك إذا قلت : آتي من أتاني وجب أن تكون (من) منصوبة بقولك : أتى ونحوه وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها فليس يجوز هذا إلا أن تريد بها معنى الذي و (متى) إذا قلت : آتيك متى أتيتني فمتى للجزاء وهي ظرف (لأتيتني) ؛ لأن حروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها ولكن الفعل الذي قبل متى قد أغنى عن الجواب كما قلت في الجواب : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، منقطع من (إن) وقد سدّ مسدّ جواب (متى) و (إن) لم تكن منها في شيء ؛ لأن (متى) منصوبة (بيأتيني) ؛ لأن حروف الجزاء من الظروف والأسماء إنما يعمل فيها ما بعدها وهو الجزاء الذي يعمل فيه الجزم.

والباب كله على هذا لا يجوز غيره ولو وضع الكلام في موضعه لكان تقديره : متى أتيتني فآتيك أي : فأنا آتيك وإنما قوله (من) يأتها فمحال أن يرتفع (من) بقولك : لا يضيرها ومن مبتدأ كما لا تقول : زيد يقوم فترفعه (بيقوم) وكل ما كان مثله فهذا قياسه وهذه الأبيات التي أنشدت كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب.

كقوله : (الله يشكرها) لا يجوز إلا ذلك.

وتقول : إن الله أمكنني من فلان فعلت : فتلى (إن) الاسم إلا أنك تضمر فعلا يليها يفسره (أمكنني) كما تفعل بألف الاستفهام.

وزعم سيبويه أنه جاز فيها ما امتنع في غيرها لأنها أصل الجزاء.

٥٤

قال : والدليل على ذلك أنها حرفه الذي لا يزول عنه لأنها لا تكون أبدا إلا للجزاء ومن تكون استفهاما وتكون في معنى الذي وكذلك ما وأيّ وأين ومتى تكون استفهاما وجميع الحروف تنقل غيرها.

قال أبو العباس رحمه الله : فيقال له : (إن) قد تكون في معنى (ما) نحو : (إن الكافرون إلا في غرور) وتكون مخففة من الثقيلة وتكون زائدة نحو قوله :

وما إن طبنا جبن (١) ...

ثم قال : والدليل على ما قال سيبويه : أنّ هذا السؤال لا يلزم أنّ (من) تكون لما يعقل في الجزاء والاستفهام ومعنى الذي فهي حيث تصرفت واحدة و (ما) واقعة على كل شيء غير الناس وعلى صفات الناس وغيرهم حيث وقعت فهي واحدة وكذلك هذه الحروف و (إن) للجزاء لا تخرج عنه وتلك الحروف التي هي (إن) للنفي ومخففة من الثقيلة وزائدة ليس على معنى (إن) الجزاء ولا منها في شيء ، وإن وقع اللفظان سواء فإنهما حرفان بمنزلة الاسم والفعل إذا وقعا في لفظ وليس أحدهما مشتقا من الآخر : نحو قولك : هذا ذهب وأنت تعني التّبر وذهب من الذهاب ونحو قولك : زيد على الجبل وعلا الجبل فهذا فعل والأول حرف قال : وسألت أبا عثمان عن (ما) و (من) في الاستفهام والجزاء أمعرفة هما أم نكرة فقال : يجوز

__________________

(١) على أنّ" ما الحجازيّة" إذا زيد بعدها" إن" لا تعمل عمل ليس ، كما في هذا البيت.

قال الأعلم : " إن" كافة لما عن العمل ، كما كفت" ما" إن عن العمل. والطّبّ بالكسر هاهنا بمعنى العلّة والسبّب ، أي : لم يكن سبب قتلنا الجبن وإنّما كان ما جرى به القدر من حضور المنية ، وانتقال الحال عنّا والدّولة.

وقال في" الصحاح" : تقول ما ذلك بطبّي ، أي : دهري وعادتي. وانشد هذا البيت للكميت. وهذه النسبة غير صحيحة كما يأتي بيانه قريبا.

و" الجبن" : ضدّ الشّجاعة ، وهو مصدر جبن جبنا كقرب قربا ، فهو جبان أي : ضعيف القلب. والجبن المأكول فيه ثلاث لغات ، أجودها سكون الباء ، والثانية ضمّ الباء للاتباع ، والثالثة وهي أقلّها التشديد كذا في" المصباح". و" المنايا" : جمع منيّة ، وهي الموت ، لأنّها مقدّرة ، مأخوذة من المنا بوزن العصا وهو القدر ، يقال : مني له ، أي : قدّر بالبناء للمفعول فيهما. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٩٨.

٥٥

أن يكونا معرفة وأن يكونا نكرة فقلت : فأيّ : ما تقول فيها قال : أنا أقول : إنّها مضافة معرفة ومفردة نكرة والدليل على ذلك أنك تقول : أية صاحبتك ولو كانت معرفة لم تتصرف.

قال : وكان الأخفش يقول : هي معرفة ولكن أنون ؛ لأن التنوين وقع وسط الاسم فهو بمنزلة امرأة سميتها خيرا منك وكان غيره لا يصرفها ويقول : أيّة صاحبتك لأنّها معرفة.

وشرح أبو العباس ذلك فقال : إن من وما وأيّ مفردة نكرات ، وذلك أنّ أيا منونة في التأنيث إذا قلت : أيّة جاريتك وقول الأخفش : التنوين وقع وسطا غلط وذاك ؛ لأن (أيّ) في الجزاء والاستفهام لا صلة لها (ومن وما) إذا كانتا خبرا فإنهما يعرفان بصلتهما.

فقد حذف ما كان يعرفهما فهما بمنزلة (أي) مفردة ومن الدليل على أنهن نكرات أنك تسأل بمن سؤالا شائعا ولو كنت تعرف ما تسأل عنه لم يكن للسؤال عنه وجه فالتقدير فيها على ما ذكرنا إذا قلت : ما زيد وأيّ زيد وما عندك وأيّ رجل وأي شيء فإذا قلت : أيهم وأيّ القوم زيد فقد اختصصته من قوم فأضفته إليهم والتقدير : أهذا زيد من القوم أم هذا للاختصاص.

فلذلك كانت بالإضافة معرفة وفي الإفراد نكرة.

وقال سيبويه : سألت الخليل عن (كيف) : لم لم يجازوا بها فقال : هي فيه مستكرهة وأصلها من الجزاء ذلك ؛ لأن معناها على أي حال تكن أكن.

وقال محمد بن يزيد : والقول عندي في ذلك : إنّ علة الجزاء موجودة في معناها فما صحّ فيه معنى الجزاء جوزي به وما امتنع فلا جزاء فيه وإنما امتنعت (كيف) من المجازاة ؛ لأن حروف الجزاء التي يستفهم بها كانت استفهاما قبل أن تكون جزاء والدليل على تقديم الاستفهام وتمكنه أنّ الاستفهام يدخل على الجزاء كدخوله على سائر الأخبار فتقول : أإن تأتني آتك ونحوه ولا يدخل الجزاء على الاستفهام ثم رأيت أنه ما كان من حروف الاستفهام متمكنا يقع على المعرفة والنكرة جوزي به : لأن حروف الجزاء الخالصة تقع على المعرفة والنكرة تقول إن تأتني زيد آته ، وإن يأتني رجل أعطه فكذلك من وما وأي وأين ومتى وأنّى.

٥٦

وذلك إذا قلت في الاستفهام : من عندك جاز أن تقول : زيد أو رجل أم امرأة وكذلك كلما ذكرنا من هذه الحروف.

وأما كيف فحقّ جوابها النكرة ، وذلك قولك كيف زيد فيقال صالح أو فاسد ولا يقال الصالح ولا أخوك لأنّها حال والحال نكرة وكذلك كم لم يجازوا بها ؛ لأن جوابها لا يكون نكرة إذا قام كم مالك فالجواب : مائة أو ألف أو نحو ذلك والكوفيون يدخلون (كيف وكيفما) في حروف الجزاء ولو جازت العرب بها لأتبعناها وتقول : إن تأمر أن آتيك تريد إنّك إن تأمر بأن آتيك ، وإن أسقطت (إن) قلت : إن تأمر آتيك آتك ولا يجوز عندي إن تأمر لا أقم لا أقم إلا على بعد وقوم يجيزونه وتقول : إن تقم إنّ زيدا قائم تضمر الفاء تريد : فإن زيدا قائم ، وإن تقم لا تضرب زيدا.

يريد : فلا تضرب زيدا : وإن تقم أطرف بك أي فأطرف بك وتقول : إن تقم يعلم الله أزرك تعترض باليمين ويكون بمنزلة ما لم يذكر أعني قولك : يعلم الله ، وإن جعلت الجواب للقسم أتيت باللام فقلت : إن تقم يعلم الله : لأزورنّك وتضمر الفاء وكذلك : إن تقم يعلم الله لآتينك تريد : فيعلم الله لأزورنك ويعلم الله لآتينك.

٥٧

باب الأفعال المبنية

الأفعال التي تبنى على ضربين : فعل أصله البناء فهو على بنائه لا يزول عنه وفعل أصله الإعراب فأدخل عليه حرف للتأكيد فبني معه.

فأما الضرب الأول فقد تقدم ذكره وهو الفعل الماضي وفعل الأمر ، وأما الضرب الثاني فهو الفعل الذي أصله الإعراب فإذا دخلت عليه النون الثقيلة والخفيفة بني معها.

ذكر النون الثقيلة

هذه النون تلحق الفعل غير الماضي إذا كان واجبا للتأكيد فيبنى معها وهي تجيء على ضربين : فموضع لا بد منها فيه وموضع يصلح أن تخلو منه فأمّا الموضع الذي لا تخلو منه فإذا كانت مع القسم ، وذلك قولك : والله لأفعلنّ وأقسم لأفعلنّ وأشهد لأفعلنّ وأقسمت عليك بالله لتفعلنّ فهذه النون ملازمة للام وهي تفتح لام الفعل الذي كان معربا وتبنى معه وهي إذا كانت مشددة مفتوحة.

قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : لتفعلنّ مبتدأة لا يمين قبلها فقال : جاءت على نية اليمين.

وإذا حكيت عن غيرك قلت : أقسم لتفعلنّ واستحلفته لتفعلنّ.

وزعم : أنّ النون ألحقت (في لتفعلنّ) لئلا يشبه أنه ليفعل.

فإذا أقسمت على ماض دخلت اللام وحدها بغير نون نحو قولك : والله لقد قام ولقام وحكى سيبويه : والله أن لو فعلت لفعلت وتقول : والله لا فعلت ذاك أبدا تريد : لا أفعل وقال الله عز وجل : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) [الروم : ٥١] على معنى : (ليظلّن) وتقول : لئن فعلت ما فعل تريد : ما هو فاعل وتقول : والله أفعل تريد لا أفعل ، وإن شئت أظهرت (لا) وإنما جاز حذف (لا) ؛ لأنه موضع لا يلبس ألا ترى أنك لو أردت الإيجاب ولم ترد النفي قلت : لأفعلن فلما لم تأت باللام والنون علم أنك تريد النفي ، وأما الموضع الذي تقع

٥٨

فيه النون وتخلو منه فالأمر والنهي وما جرت مجراهما من الأفعال غير الواجبة ، وذلك قولك : أفعلنّ ذاك ولا تفعلنّ وهل تقولنّ وأتقولنّ ؛ لأن معنى الاستفهام معنى أخبرني.

وكذلك جميع حروف الاستفهام وزعم يونس أنك تقول : هلا تفعلنّ وألا تقولنّ لأنك تعرض ومعناه أفعل ومثل ذلك : لو لا تقولنّ ؛ لأنه عرض.

ومن مواضعها حروف الجزاء إذا أوقعت بينها وبين الفعل (ما) للتوكيد تقول : إمّا تأتني آتك وأيّهم ما يقولنّ ذاك نجزه وقد تدخل بغير (ما) في الجزاء في الشعر.

وقد أدخلت في المجزوم تشبيها به للجزم ولا يجوز إلا في ضرورة قال الشاعر :

يحسبه الجاهل ما لم يعلما

شيخا على كرسيّه معمّما (١)

والخفيفة والثقيلة سواء ، ويقولون : أقسمت لمّا لم تفعلن ؛ لأن ذا طلب.

وزعم يونس : أنّهم يقولون ربّما تقولنّ ذاك وكثر ما تقولنّ ذاك ؛ لأنه فعل غير واجب ولا يقع بعد هذه الحروف إلا و (ما) له لازمة ، وإن شئت لم تدخل النون فهو أجود فهذه النون تفتح ما قبلها مرفوعا كان أو مجزوما.

فإذا أدخلت النون الشديدة على (يفعلان) حذفت النون التي هي علامة الرفع لإجتماع النونات ولأن حقه البناء فينبغي أن تطرح الذي هو علامة الرفع وكذلك النون في (يفعلون) تقول : ليفعلن ذاك وقد حذفت النون فيما هو أشد من هذا لإجتماع النونات قرأ بعض القراء : (أتحاجونّي) و (فبم تبشرونّ) وسقطت الواو لالتقاء الساكنين فصار ليفعلنّ ، فإن أدخلتها على (تضربين) حذفت أيضا النون لإجتماع النونات لأنها تكون علما للرفع وحذفت الياء لالتقاء الساكنين فقلت : هل تضربين وتقول : اضربن زيدا وأكرمن عمرا وكان الأصل اضربي

__________________

(١) على أن نون التوكيد تدخل بعد لم تشبيها لها بلا النهي عند سيبويه. وأنشد هذا الشعر.

وتقدم نقل كلامه قبل أربعة أبيات ، وأنه عند ضرورة ، وأصله ما لم يعلمن ، فقلبت النون ألفا للوقف.

قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : يدل على أن النون الخفيفة ليست مخففة من الثقيلة أنها تتغير في الوقف ، ويقف عليها بالألف ، قال تعالى : "لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ" ، وقال تعالى : "لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ" أجمع القراء على أن الوقف فيهما بألف لا غير. انظر خزانة الأدب ٤ / ٢١٨.

٥٩

وأكرمي وتقول لجماعة المذكرين : اضربنّ زيدا كان الأصل : اضربوا وأكرموا فسقطت الواو لالتقاء الساكنين وتقول في التثنية : اضربان يا رجلان بكسر النون تشبيها بالنون التي تقع بعد الألف وهي فيما سوى هذا مفتوحة ومتى دخلت النون بعد حرف إضمار تحرك إذا لقيته لام المعرفة حرك لها تقول : ارضونّ زيدا واخشونّ عمرا وارضينّ يا امرأة لأنك تقول : اخشو فتضم وتقول : ارضي الرجل فتكسر فلذلك ضممت وكسرت مع النون ، فإن أدخلت النون على : تضربن الذي هو لجماعة المؤنث قلت : هل تضربنان يا نسوة واضربنان لم تسقط هذه النون لأنها اسم للجماعة وفصلت بين النونات بالألف لئلا تجتمع النونات.

واعلم أن ما يحذف من اللامات في الجزم والأمر إذا أدخلت النون لم يحذفن تقول : ارمين زيدا وكان اللفظ : ارم زيدا ؛ لأن الياء والواو تحذفان في المواضع التي أصلها الإعراب فإذا أدخلت النون عادت لأنها تبنى مع ما قبلها ولا سبيل للجزم.

٦٠