الأصول في النحو - ج ٢

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-406-X
الصفحات: ٥٣٥

الإدغام في حروف طرف اللسان والثنايا

الدال مع الطاء :

اضبطّلامه يريد : اضبط دلامه تدغم وتدع الإطباق على حاله فلا تذهبه ؛ لأن الدّال ليس فيها إطباق وبعض العرب يذهب الإطباق حتى يجعلها كالدّال سواء والدال في الظاء ، وذلك قولك : أفقد ظالما.

الطاء مع التاء :

تدغم وتدع الإطباق بحاله وذهاب الإطباق مع الدال أمثل ؛ لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وكلّ عربيّ وذلك : أنفتّوأما تدغم وكذلك التاء في الطاء ، وذلك قولك : انعطّالبا وهذا لا يجحف فيه بالإطباق.

التاء مع الدّال :

كلّ واحدة منهما تدغم في صاحبتها إلّا أنّ إدغام التاء في الدال أحسن ؛ لأن الدّال مجهورة والأحسن إدغام الناقص في الزائد ، وذلك قولك : انعدّلاما وانقتّلك فتدغم ولو بينت فقلت :اضبط دلاما واضبط تلك وانعت دلاما لجاز وهو يثقل الكلام به.

٥٠١

باب الصاد والزاي والسين

الصاد مع السين : (افحسّالما) تدغم فتصير سينا وتدع الإطباق لأنّها مهموسة مثلها ، وإن شئت أذهبته وإذهاب الإطباق مع السين أمثل من إذهاب الإطباق إذا أدغمت الطاء وتدغم السين في الصاد ، وذلك احبصّابرا.

الزاي مع الصاد :

وتدغم الزاي في الصاد وذلك : أو جصّابرا.

الزاي والسين :

احبزّردة تدغم وكذلك الزاي في السين ورسّلمة تدغم.

باب الظاء والذال والثاء

الظاء مع الذال :

احفذّلك تدغم وتدع الإطباق ، وإن شئت أذهبته لأنّها مجهورة مثلها وتدغم الذّال في الظاء نحو : خظّالما.

الثاء مع الظاء :

ابعظّالما تدغم.

الذّال مع الثاء :

تدغم كلّ واحدة منهما في صاحبتها وذلك : خثّابتا وابعذّلك والبيان فيهنّ أمثل منه في الصاد والسين والزاي.

إدغام مخرج في مخرج يقاربه

الطاء والدال والتاء يدغمن كلهنّ في الصاد والزاي والسّين لقرب المخرجين وذلك : ذهبسّلمى وقسّمعت فتدغم واضبزّردة فتدغم وانعصّابرا.

وقرأ بعضهم : (لا يسّمّعون). يريد : (لا يتسمّعون) والبيان عربيّ حسن.

٥٠٢

وكذلك : الظاء والذال والثاء تدغم في الصاد وأختيها ، وذلك قولك : ابعسّلمة واحفسّلمة وخصّابرا واحفزّردة سمعناهم يقولون : مزّمان فيدغمون الذّال في الزاي ومسّاعة فيدغمونها في السين والبيان فيها أمثل منه في الظاء وأختيها.

والظاء والثاء والذال أخوات.

الطاء والتاء والدال لا يمتنع بعضهنّ من بعض في الإدغام ، وذلك أهبظّالما وابعذّلك وانعثّابتا واحفطّالبا وخدّاود وابعتّلك وحجته قولهم : ثلاث دراهم تدغم الثاء في التاء التي هي بدل من الهاء التي في الدارهم وقالوا : حدّتّهم فجعلوها تاء والبيان فيه جيد فأمّا الصاد والسين والزاي فلا تدغمهن في هذه الحروف لأنّهن حروف الصفير وهنّ أندى في السمع فامتنعت كما امتنعت الراء أن تدغم في اللام وتدغم الطاء والدال والتاء في الضاد ، وذلك اضبضّرمة وانقضّرمة وانعضّرمة.

قال سيبويه : وسمعنا من يوثق بعربيته قال : ثار فضجّضّجّة ركائبه فأدغم التاء في الضاد.

والظاء والثاء والذال يدغمن في الضاد وذلك : احفضّرمة وخضّرمة وابعضّرمة ولا تدغم الضاد في الصاد والسين والزاي لإستطالة الضّاد كما امتنعت الشين وهي قريبة منها ولا تدغم الصاد وأختاها في الضاد فالضاد لا تدغم فيما تدغم فيها والبيان عربيّ جيّد وتدغم الطاء والتاء والدال في الشين لإستطالتها حين اتصلت بمخرجها وذلك : اضبشّبثا وانقشّبتا والإدغام في الضاد أقوى وتدغم الظاء والذال والثاء في الشين لأنّهم أنزلوها منزلة الضاد ، وذلك قولك :احفشّنباء وابعشّنباء وخشّنباء والبيان عربيّ جيّد وهو أجود منه في الضاد.

واعلم أنّ جميع ما أدغمته وهو ساكن يجوز لك فيه الإدغام إذا كان متحركا كما تفعل ذلك في المثلين وحاله فيما يحسن فيه ويقبح الإدغام وما يكون فيه حسن وما كان خفيا وهو بزنته متحركا قبل أن يخفى كحال المثلين ، وإذا كانت هذه الحروف المتقاربة في حرف واحد ولم يكن الحرفان منفصلين ازداد ثقلا واعتلالا كما كان المثلان إذا لم يكونا منفصلين أثقل ؛ لأن الحرف لا يفارقه ما يستثقلون فمن ذلك قولهم في (مثترد) : مثّرد وقد ذكر باب (افتعلّ) في التصريف وما يدغم منه وما يبدل ولا يدغم.

٥٠٣

ذكر ما امتنع من الحروف المتقاربة :

وهي تجيء على ضربين : منها ما يدغم في مقاربه ولا يدغم مقاربه فيه ومنها ما لا يدغم في مقاربه ويدغم مقاربه فيه.

فالحروف التي تدغم فيما قاربها ولا يدغم فيها مقاربها : الهمزة والألف والواو لا تدغم ، وإن كان قبلها فتحة في شيء من المقاربة وكذلك الواو لو كانت مع هذه الياء التي ما قبلها مفتوح ما هو مثلها سواء لأدغمتها ولم تستطع إلّا ذلك ، وإذا كانت الواو قبلها ضمة والياء قبلها كسرة فهو أبعد للإدغام.

الحروف التي لا تدغم في المقاربة :

فيها : الميم والراء والفاء والشين.

فالميم لا تدغم في الباء لأنّهم يقلبون النون ميما في قولهم : العنبر ومن بك ، وأما إدغام الباء في الميم فنحو : اصحمّطرا تريد : اصحب مطرا.

والفاء لا تدغم في الباء والباء تدغم فيها وذلك : اذهفّي ذلك.

والرّاء لا تدغم في اللام ولا في النون لأنّها مكررة وتدغم اللام والنون في الراء.

والشّين لا تدغم في الجيم وتدغم الجيم فيها.

وجملة هذا أنّ حقّ الناقص أن يدغم في الزّائد وحقّ الزائد أن لا يدغم في الناقص وأصل الإدغام في حروف الفم واللسان وحروف الحلق وحروف الشّفة أبعد من الإدغام فما أدغم من الجميع فلمقاربة حروف الفم واللسان.

هذا باب الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه :

والحرف الذي يضارع به ذلك الحرف وليس من موضعه فأمّا الذي يضارع به الحرف الذي من مخرجه فالصاد الساكنة إذا كان بعدها الدال نحو : مصدر وأصدر والتقدير فما لم يمكن أن يعلّ ضارعوا بها أشبه الحروف بالدال من موضعه وهي الزاي.

٥٠٤

قال سيبويه : وسمعنا الفصحاء يجعلونها زايا خالصة ، وذلك قولك في التّصدير : التّزدير وفي الفصد : الفزد وفي أصدرت : أزدرت ولم يجسروا على إبدال الدال لأنّها ليست بزائدة كالتاء في (افتعل) ، فإن تحركت الصاد لم تبدل ؛ لأنه قد وقع بينهما شيء ولكنّهم قد يضارعون بها نحو صاد (صدقت) والبيان أحسن فربّما ضارعوا بها وهي بعيدة نحو : مصادر والصّراط ؛ لأن الطاء كالدال والمضارعة هنا ، وإن بعدت كما قالوا : صويق ومصاليق ، فأبدلوا السين صادا ، والبيان هنا أحسن.

فإن كان موضع الصاد سينا ساكنة أبدلت فقلت في التّسدير : التّزدير وفي يسدل ثوبه :يزدل ثوبه ؛ لأنه ليس فيها إطباق يذهب والبيان فيها أحسن ، وأما الحرف الذي ليس من موضعه فالشين ، وذلك أشدق فتضارع بها الزاي والبيان أكثر وهذا عربيّ كثير والجيم أيضا يقولون في (الأجدر) أشدر ولا يجوز أن يجعلها زايا خالصة ولا الشين لأنّهما ليستا من مخرجهما وقد قالوا : اجدمعوا في اجتمعوا واجدرؤوا يريدون : اجترؤوا.

هذا باب ما يقلب فيه السين صادا في بعض اللغات :

تقلبها القاف إذا كانت بعدها في كلمة واحدة نحو صقت وصبقت والصّملق ولم يبالوا ما بين السين والقاف من الحواجز وكذلك الغين والخاء يقولون (صالغ) في (سالغ) وصلخ في (سلخ) ، فإن قلت : زقا وزلق لم تغيرها لأنّها حرف مجهور وإنّما يقول : هذا من العرب بنو العنبر وقالوا : صاطع في (ساطع) ولا يجوز في ذقتها أن تجعل الذال ظاء ، وأما الثاء والتاء فليس يكون في موضعهما هذا.

هذا باب ما كان شاذا : ممّا خفّفوا على ألسنتهم وليس بمطرد :

فمن ذلك (ستّ) وأصلها (سدس) أبدل من السين تاء ثمّ أدغم ومن ذلك قولهم : ودّ إنما أصله : وتد وهي الحجازية الجيدة ولكنّ بني تميم أسكنوا التاء فأدغموا ولم يكن مطردا لما ذكرت من الإلتباس حتّى تجشموا : وطدا ووتدا وكان الأجود عندهم : تدة وطدة وممّا بينوا فيه (عتدان) وقد قالوا : (عدّان) شبهوه (بودّ) وقلما تقع التاء في كلامهم ساكنة في كلمة قبل الدال.

٥٠٥

ومن الشاذّ : أحست ومست وظلت فحذفوا كما حذفوا التاء من قولهم : يستطيع استثقلوا التاء مع الطاء وكرهوا أن يدغموا التاء في الطاء فتحرك السين وهي لا تحرك أبدا ومن قال :يسطيع فإنّما زاد السين على (أطاع يطيع).

ومن الشاذّ : قولهم : تقيت يتقى ويتسع حذفوا الفاء ، لأنّ التاء تبقى متحركة ومن قال تتقى يقدر أنّه مخفف من اتّقى ومن قال : تقى مثل ترى يبدل التاء من الواو وقال بعض العرب : استخذ فلان أرضا يريد : اتّخذ أبدلوا السين مكان التاء كما أبدلت التاء مكانها في (ستّ) ومثل ذلك قول بعض العرب : اطّجع في اضطجع كراهية التقاء المطبقين فأبدل مكانها أقرب الحروف منها وفي (استتخذ) قول آخر أن يكون (استفعل) فحذف التاء للتضعيف من (استتخذ) كما حذفوا (لام) ظلت.

وقال بعضهم : (يستيع) في يستطيع ، فإن شئت قلت : حذف الطاء كما حذف لام (ظلت) وتركوا الزيادة كما تركوا في (تقيت) ، وإن شئت قلت : أبدلوا التاء مكان الطاء ليكون ما بعد السين مهموسا مثلها كما قالوا : ازدان ليكون ما بعده مجهورا فأبدلوا من موضعها أشبه الحروف بالسين فأبدلوها مكانها كما تبدل هي مكانها في الإطباق.

ومن الشاذّ قولهم في بني العنبر وبني الحارث : بلحرث وبلعنبر فحذفت النون وكذلك يفعلون بكلّ قبيلة تظهر فيها لام المعرفة فإذا لم تظهر اللام فلا يكون ذلك لأنّها لمّا كانت ممّا كثر في كلامهم وكانت اللام والنون قريبتي المخارج حذفوها وشبهوها (بمست) لأنّهما حرفان متقاربان ولم يصلوا إلى الإدغام كما لم يصلوا في (مسست) لسكون اللام وهذا أبعد ؛ لأنه اجتمع فيه أنّه منفصل وأنّه ساكن لا يتصرف تصرف الفعل حين تدركه الحركة ومثل هذا قول بعضهم : علماء بنو فلان فحذفوا اللام وهو يريد : على الماء بنو فلان وهي عربية.

٥٠٦

باب ضرورة الشّاعر

ضرورة الشاعر : أن يضطرّ الوزن إلى حذف أو زيادة أو تقديم أو تأخير في غير موضعه وأبدال حرف أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل أو تأنيث مذكر على التأويل وليس للشاعر أن يحذف ما اتفق له ولا أن يزيد ما شاء بل لذلك أصول يعمل عليها فمنها ما يحسن أن يستعمل ويقاس عليه ومنها ما جاء كالشاذّ ولكنّ الشاعر إذا فعل ذلك فلا بدّ من أن يكون قد ضارع شيئا بشيء ولكنّ التشبيه يختلف فمنه قريب ومنه بعيد.

ذكر الذي يحسن من ذلك ويقاس عليه :

اعلم أنّ أحسن ذلك ما ردّ فيه الكلام إلى أصله وهو في جميع ذلك لا يخلو من زيادة أو حذف فالزيادة صرف ما لا ينصرف وإظهار التضعيف وتصحيح المعتلّ ويتبعه في الحسن تحريك الساكن في القافية بحركة ما قبله ، فإن كان في حشو البيت فهو عندي أبعد وقطع ألف الوصل في أنصاف البيوت.

وأمّا الحذف : فقصر الممدود وتخفيف المشدد في القوافي فأمّا ما لا يجوز للشاعر في ضرورته فلا يجوز له أن يلحن لتسوية قافية ولا لإقامة وزن بأن يحرك مجزوما أو يسكن معربا وليس له أن يخرج شيئا عن لفظه إلّا أن يكون يخرجه إلى أصل قد كان له فيرده إليه ؛ لأنه كان حقيقته وإنّما أخرجه عن قياس لزمه أو اطراد استمرّ به أو استخفاف لعلّة واقعة.

الأول من الضرب الأول

وهو صرف ما لا ينصرف للشاعر أن يصرف في الشّعر جميع ما لا ينصرف ، وذلك أنّ أصل الأسماء كلّها الصرف ، وذلك قولهم في الشعر : مررت بأحمر ورأيت أحمرا ومررت بمساجد يا فتى كما قال النابغة :

فلتاتينك قصائد وليركبن

جيش إليك قوادم الأكوار (١)

__________________

(١) الأكوار : جمع كور بالضم وهو رحل الناقة بأداته وهو كالسّرج وآلته للفرس. وقد تكرر في الحديث مفردا ومجموعا وكثير من الناس يفتح الكاف وهو خطأ ، وفي حديث علي ليس فيما تخرج أكوار النّحل صدقة ـ واحدها كور بالض وهو بيت النّحل والزّنابير والكوار والكوارة شيء يتّخذ من القضبان للنّحل يعسّل فيه أراد أنه ليس في العسل صدقة [النهاية في غريب الحديث : ٤ / ٢٠٩].

٥٠٧

فقال قوم : كلّ شيء مما لا ينصرف مصروف في الشعر إلّا أفعل (الذي معه من كذا نحو :هذا أفعل منك ورأيت أكرم منك وذهبوا إلى أنّ (منك) يقوم مقام المضاف إليه وهذا منهم خطأ وإنّما منع الصرف ؛ لأنه (أفعل) وتمّ (بمنك) نعتا فصار كأحمر ألا ترى أنّك تقول : مررت بخير منك وشرّ منك فمنك على حالها وصرفت خيرا وشرا) ؛ لأنه قد نقص عن وزن (أفعل) وقال قوم : يجوز في الشعر ترك صرف ما ينصرف.

قال محمد بن يزيد : وهذا خطأ عظيم ؛ لأنه ليس بأصل للأسماء أن لا تنصرف فتردّ ذلك إلى أصله قال : وممّا يحتجون به قول العباس بن مرداس :

أتجعل نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

وإنّما الرواية الصحيحة (يفوقان شيخي في مجمع) ومن ذلك روايتهم في هذا البيت لذي الأصبع العدواني :

وممن ولدوا عامر

ذو الطّول وذو العرض

وإنّما عامر اسم قبيلة فيحتجون بقوله (وذو الطول) ولم يقل (ذات) فإنّما ردّه للضرورة إلى (الحيّ) كما قال :

قامت تبكيّه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدّار ذا غربة

قد ذلّ من ليس له ناصر

فإنّما أراد للضرورة إنسانا ذا غربة فهذا نظير ذلك وهذا الذي ذكر أبو العباس كما قال :إنّه القياس أن يردّ للضرورة الشيء إلى أصله ولكن لو صحت الرواية في ترك صرف ما ينصرف في الشعر لما كان حذف التنوين بأبعد من حذف الواو في قوله : فبنياه يشري رحله .. ؛

٥٠٨

لأن التنوين زائد ولأنّه قد يحذف في الوقف والواو في (هو) غير زائدة فلا يجوز حذفها في الوقف كلاهما رديء حذفهما في القياس.

قال أبو العباس : فأمّا قول ابن الرقيات :

ومصعب حين جدّ

الأمر أكثرها وأطيبها

فزعم الأصمعي : أنّ ابن الرقيات ليس بحجة وأنّ الحضرية أفسدت عليه لغته قال : ومن روى هذا الشعر ممّن يفهم الإعراب ويتبع الصواب ينشد :

وأنتم حين جدّ الأمر

أكثرها وأطيبها

قال : ومن الشعراء الموثوق بهم في لغاتهم كثير ممّن قد أخطأ ؛ لأنه ، وإن كان فصيحا فقد يجوز عليه الوهل والزلل من ذلك قول ذي الرّمة :

وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم

وما بال تكليم الدّيار البلاقع

وهذا لا يعرف إلّا منونا في شيء من اللغات وقوله :

حتى إذا دومت في الأرض راجعه

كبر ولو شاء نجّى نفسه الهرب

إنّما يقال : دوّى في الأرض ودوّم في السّماء كما قال :

والشّمس حيرى لها في الجوّ تدويم

فأمّا ما يضطر إليه الشاعر ممن ينون الاسم المفرد في النداء فقد ذكرناه في النداء.

الثاني من الضرب الأول :

وهو إظهار التضعيف وهو زيادة حركة إلّا أنّها حركة مقدرة في الأصل يجوز في الشعر ولا يجوز في غيره تضعيف المدغم فيقول في (ردّ) : ردد ؛ لأنه الأصل ويقول في (رادّ) : هذا رادد وفي (أصمّ) أصمم فاعلم.

قال معنب بن أم صاحب :

مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي

أني أجود لأقوام ، وإن ضننوا

يريد : ضنّوا وقال : آخر :

٥٠٩

الحمد لله العليّ الأجلل

يريد : الأجلّ.

وقال أبو العباس في قولهم :

قد علمت ذاك بنات ألببه

يريد : بنات أعقل هذا الحي.

وقال : ولا أجيز هذا إلّا في الشعر كقولك : (ضننوا).

فأمّا في الكلام فلا يجوز إلّا بنات ألبّه.

الثالث من الضرب الأول :

وهو تصحيح المعتلّ يجوز في الشعر ولا يصلح في الكلام تحريك الياءات المعتلة في الرفع والجرّ للضرورة نحو قولك في الشّعر : هذا قاضي ومررت بقاضي ؛ لأنه الأصل من ذلك قول ابن الرقيات :

لا بارك الله في الغواني هل

يصبحن إلّا لهنّ مطّلب

وقال جرير :

فيوما يجازين الهوى غير ماضي

ويوما ترى منهنّ غولا تغوّل

فهذه الياء حكمها على هذا الشرط أن تفتح في موضع الجرّ إذا وقعت في اسم لا ينصرف كما ترفع في موضع الرفع ، فإن اضطرّ شاعر إلى صرف ما لا ينصرف حرّكها في موضع الجر بالكسر ونوّنها كما يفعل في غير المعتلّ فأجراها في جميع الأشياء مجرى غير المعتلّ وكذلك حكمها في الأفعال أن ترفع في الياء والواو فتقول : زيد يرميك ويغزوك كما قال :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

هذا جزمه من قوله : (هو يأتيك) ، وأما الأسماء فقوله :

قد عجبت مني ومن يعيليا

لمّا رأتني خلقا مقلوليا

٥١٠

ففتح (يعيلى) ؛ لأنه لا ينصرف ولم يلحقه التنوين ؛ لأنه جعله بمنزلة غير المعتلّ ومثل ذلك قوله :

أبيت على معاري فاخرات

بهنّ ملوّب كدم العباط

فهذا لو أسكن فقال : معار فاخرات لم ينكسر الشعر ولكن فرّ من الزحاف ومثل ذلك :

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكنّ عبد الله مولى مواليا

وأمّا قول القائل (١) :

سماء الإله فوق سبع سمائيا

ففيه ثلاثة أشياء.

منها أنّه جمع (سماء) على (فعائل) كما تجمع سحابة على سحائب وكان حقّ ذلك أن يقول : سمايا فبلغ به الأصل فقال : سماء ثم فتح فجعله بمنزلة الصحيح فقال : سماي يا فتى في موضع الجرّ كما تقول سمعت برسائل يا فتى فردّ (سمايا) إلى الأصل من جهات ردّ الألف التي هي طرف (سمايا) إلى الياء فصارت (سماي) ثمّ ردّ الياء الأولى التي تلي الألف إلى الهمزة فصارت (سماي) ثمّ أعرب الياء إعراب الصحيح فلم يصرف والياء في مثل هذا الجمع يلحقها التنوين فيقول : هؤلاء جوار فاعلم ومررت بجوار فاعلم. ورأيت جواري يا هذا.

__________________

(١) من مشطور الرجز ، قال أبو جعفر النحاس في" شرح شواهد س" ، نقلا عن الأخفش ، ومثله ابن جني في" شرح تصريف المازني" واللفظ له قال : " قد خرج هذا الشاعر عما عليه الاستعمال من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جمع" سماء" على فعائل فشبهها بشمال وشمائل ، والجمع المعروف فيها إنما هو" سمي" على فعول ، ونظيره عناق وعنوق. ألا ترى أن سماء مؤنثة كما أن عناقا كذلك؟ والثاني : أنه أقر الهمزة العارضة في الجمع مع أن اللام معتلة ، وهذا غير معروف ، ألا ترى أن ما تعرض الهمزة في جمعه ولامه واو أو ياء أو همزة فالهمزة العارضة فيه مغيرة مبدلة نحو خطيئة وخطايا ، ومطية ومطايا ، ولم يقولوا : خطائي ولا مطائي!.

والثالث : أنه أجري الياء في" سمائي" مجرى الباء في ضوارب ، ففتحها في موضع الجر ، والمعروف عندهم أن تقول : هؤلاء جوار ومررت بجوار ، فتحذف الياء وتدخل التنوين. وللنحويين في ذلك احتجاج لما يذهبون إليه من أن أصل مطايا مطائي ، ألا ترى أن الشاعر لما اضطر جاء به على أصله فقال : " سمائيا" كما أنه لما اضطر إلى إظهار أصل" ضن".

٥١١

الرابع من الضرب الأول من الزيادة :

وهو قطع ألف الوصل في أنصاف البيوت يجوز ابتداء الأنصاف بألف الوصل ؛ لأن التقدير الوقف على الأنصاف التي هي الصدور ثمّ تستأنف ما بعدها فمن ذلك قول لبيد :

ولا يبادر في الشّتاء وليدنا

ألقدر ينزلها بغير جعال

وقال :

أو مذهب جدد على ألواحه

ألنّاطق المزبور والمختوم

وقال :

لا نسب اليوم ولا خلّة

إتّسع الخرق على الراقع

ويقبح أن يقطع ألف الوصل في حشو البيت وربّما جاء في الشعر وهو رديء.

الضرب الثاني : ممّا يستحسن للشاعر إذا اضطر أن يحذفه : الحذف نوعان :

الأول : قصر الممدود

؛ لأن المدّ زيادة فإذا اضطر الشاعر فقصر فقد ردّ الكلام إلى أصله وليس له أن يمدّ المقصور كما لم يكن له أن لا يصرف ما ينصرف ؛ لأنه لو فعل ذلك لأخرج الأصل إلى الفرع والأصول ينبغي أن تكون أغلب من الفروع وهو في الشعر كثير ولكن لا يجوز أن يمدّ المقصور.

الثاني : تخفيف المشدد في القوافي :

يجوز تخفيف كل مشدد في قافية ؛ لأن الذي بقي يدلّ على أنّه قد حذف منه مثله ؛ لأن المشدد حرفان وإنّما اقتطعته القافية ؛ لأن الوزن قد تمّ فمن ذلك قوله :

أصحوت اليوم أم شاقتك هر

ومثله :

حتّى إذا ما لم أجد غير الشّري

كنت امرأ من مالك بن جعفر

لا بدّ من تخفيف ياء الشرى ومثل هذا :

٥١٢

قتلت علباء وهند الجملي

وابنا لصوحان على دين علي

وقد ذكرنا في القوافي ما يجوز تحريك الساكن فيه للقافية فما يجوز في الشعر ولا يكون في غيره فمنه أن يكون الاسم على ثلاثة أحرف مسكن الأوسط فتحركة بالحركة التي للحرف الأول ، وذلك أن يكون على (فعل) أو (فعل) أو (فعل) فتحرك للضرورة.

قال زهير :

ثمّ استمرّوا وقالوا : إنّ مشربكم

ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك

وإنّما اسم الموضع (ركّ) ومثل ذلك قول رؤبة :

هاجك من أروى كمنهاض الفكك

وإنّما هو (الفكّ) يقال : فكّه يفكه فكّا وقال آخر :

يلعج الجلدا ...

يريد الجلد فحرك اللام لإتباع ما قبلها وقد فعل رؤبة ما هو أشدّ من هذا قال :

ولم يضعها بين فرك وعشق

يريد : عشق فكان حكم هذا في الضرورة أن يقول : عشق ولكنّه كره الجمع بين كسرتين ؛ لأن هذا عزيز في الأسماء.

فلو قال : (الجلد) كما قال رؤبة لكان حسنا كما يفعلون بالجمع بالتاء في غير الضرورة فيقولون في المضموم والمكسور : ظلمة وظلمات كسرة وكسرات ، وإن شاءوا فتحوا لتوالي الكسرات والضّمات.

ذكر ما جاء كالشاذّ الذي لا يقاس عليه : وهو سبعة أنواع :

زيادة وحذف ووضع الكلام غير موضعه وإبدال حرف مكان حرف وتغيير وجه الإعراب للقافية تشبيها بما يجوز وتأنيث المذكر على التأويل وهو زيادة إلّا أنّا أفردناها لمعناها.

٥١٣

الأول : الزيادة :

فمن ذلك أن ينقص الوزن فيحتاج الشاعر إلى تمامه فيشبع الحركة حتى يصير حرفا ، وذلك نحو قوله (١) :

نفي الدراهيم تنقاد الصّياريف

وقال محمد بن يزيد : إنّما نظر إلى هذه الياءات التي تقع في هذا المكان في الجمع فإذا هي تقع لعلل إمّا أن تكون كانت في الواحد فرجعت في الجمع نحو : مصباح ومصابيح وقنديل وقناديل وجرموق وجراميق وإمّا وقعت لشيء حذفته من الاسم فجعلتها عوضا ، وذلك قولك في (منطلق) : مطالق حذفت النون لزيادتها شئت قلت (مطاليق) فجئت بالياء عوضا ، وذلك أنّ الكسرة تلزم هذا الموضع فوضعت العوض من جنس الحركة اللازمة فلمّا اضطرّ أدخل هذه الياء تابعة للحركة ، وإن لم تكن للواحد وجعل الصورة بمنزلة ما عوض للكسرة منه وقد كان يستعمل هذا في الكلام تشبيعا للكسرة في غير موضع العوض ولا الضرورة ، وذلك قولك : دانق ثمّ تقول : دوانيق وتقول في جمع (خاتم) : خواتيم.

الثاني : إجراؤهم الوصل كالوقف :

من ذلك قولهم في الشعر للضرورة في نصب (سبسب وكلكل) : رأيت سبسبّا وكلكلا ولا يجوز مثل هذا في الكلام إلّا أن يقول : رأيت سبسبّا وكلكلا وإنّما جاز هذا في الضرورة لأنّك كنت تقول في الوقف في الرفع والجرّ : هذا سبسبّ ومررت بسبسبّ فتثقل لتدلّ على أنّه متحرك الآخر في الوصل لأنّك إذا ثقّلت لم يجز أن يكون الحرف الآخر إلّا متحركا ؛ لأنه لا يلتقي ساكنان قلّما اضطر إليه في الوصل أجراه على حاله في الوقف وكذلك فعل به في القوافي المجرورة والمرفوعة في الوصل فمن ذلك قوله :

إن تنجلي يا جمل أو تعتلّي

أو تصبحي في الظّاعن المولى

ثمّ قال :

ببازل وجناء أو عيهلّ

__________________

(١) البيت للفرزدق في وصف الناقة.

٥١٤

فثّقل وقال :

كأنّ مهواها على الكلكلّ

موضع كفّيّ راهب يصلّي

وقال في النصب :

ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا

فهذا أجراه في الوصل على حده في الوقف.

الثالث منها : ومن ذلك إدخال النون الخفيفة والثقيلة في الواجب نحو قوله (١) :

ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات

وهذا قديم يقوله جذيمة الأبرش.

الرابع منها : ومن ذلك إثبات الألف في (أنا) في الوصل وإنّما يثبت في الوقف روى الأعشى :

فكيف أنا وانتحالي القوافي

بعد المشيب كفى ذاك عارا

فأثبت الألف ووصل واحتجّ النحويون بأنّ الألف منقلبة من ياء أو واو فردوا ما ذهب من الاسم.

__________________

(١) البيت لجذيمة الأبرش : وهو جذيمة الملك بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب.

أحد الشعراء المعمرين في الجاهلية ، وكان أعز من سبقه من ملوك دولة تنوخ ، وهو أول من غزا بالجيوش المنظمة ، وأول من عملت له المجانيق في الحرب من ملوك العرب.

طمع إلى امتلاك الشام وأرض الجزيرة فغزاها وقتل ملكها أبا الزباء عمرو بن الظرب إلا أن إبنته الزباء استطاعت الثأر لأبيها وقتلت جذيمة في قصة مشهورة.

وهو ملك من ملوك الخيرة القدماء ، وشاعر من الشعراء الأوائل عند ابن سلّام الجمعي ، وأغلب الظن أنه عاش في القرن الثالث الميلادي.

وهو من ملوك الطوائف ، وله سيرة منثورة في الكتاب وقد حكم مدة طويلة ويقال له أنه تزوج عيس أخت مالك بن زهير.

٥١٥

قال أبو العباس : هذا لا يصلح ؛ لأنه لو كان كما يقولون لم تقلب الياء والواو ألفا لأنّهما لا يكونان إلّا ساكنين ؛ لأن هذا اسم مضمر مبنيّ فلا سبيل إلى القلب فمن هاهنا فسد ولهذا كانت الألف في جميع الحروف التي جاءت لمعنى أصلا لأنّها غير منقلبة ؛ لأن الحروف لا حقّ لها في الحركة وإنّما هي مسكنة فلا تكون ألفاتها منقلبة وذلك : حتى ، وأما وإلا وما أشبهها هذه ألفاتها من الأصل غير منقلبة والاسم والفعل الألف فيهما لا تكون أصلا.

قال أبو العباس : ورواية البيت :

فكيف يكون انتحالي القوافي

بعد المشيب ...

الثاني : الحذف :

الأول منه : حذف التنوين لالتقاء الساكنين نحو قوله :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

وأقبح منه حذف النون. قال الشاعر :

فست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

الثاني منه : أن تحذف للإضافة والألف واللام ما كنت تحذفه للتنوين ؛ لأن هذه الأشياء تتعاقب. قال الشاعر :

كنواح ريش حمامة نجديّة

ومسحت باللّثتين عصف الإثمد

فحذف الياء من (نواحي) لمّا أضافها إلى (ريش) كما كان يحذفها مع التنوين ، وأما حذفها مع الألف فنحو قوله :

وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه

ويصرن أعداء بعيد وداد

الثالث منه : ما رخّم في غير نداء :

قال زهير :

خذوا حظّكم يا آل عكرم واذكروا

أواصركم والرّحم بالغيب تذكر

يريد : عكرمة. وقال :

٥١٦

إنّ ابن حارث إن أشتق لرؤيته

أو أمتدحه ، فإن الناس قد علموا

يريد : ابن حارثة وهذا كثير. وقال في قوله :

قواطنا مكّة من ورق الحمي

إنه حذف الميم التي هي لام الفعل وقلب ألف الحمام ياء وأحسن ما قيل فيه إنّ الشاعر لمّا اضطرّ حذف الألف من الحمام لأنّها مدة كما تحذفها من سائر المدود فصار الحمم فلزمه التضعيف فأبدل من إحدى الميمين ياء كما فعلوا في (تظنيت).

الرابع منه : أن تحذف من المكني في الوصل :

كما كنت تحذفه في الوقف إلّا أنه تبقى الحركة دالة على المحذوف فمن ذلك قوله :

فإن يك غثّا أو سمينا فإنني

سأجعل عينيه لنفسه مقنعا

وقال :

وما له من مجد تليد ولا له

من الريح فضل لا الجنوب ولا الصّبا

فالواو والياء في هذا زوائد في الوصل فحذفها لمّا احتاج وأبعد من هذا قوله :

فبيناه يشري رحله قال قائل

لمن جمل رخو الملاط نجيب

فإنّ هذا حذف الواو من هو والمنفصل كالظاهر تقف على الواو ولا يجوز حذفها فيبقى الاسم على حرف وهو اسم يجوز الابتداء به ولا كلام قبله ومثله :

دار لسعدى اذه من هواكا

وقد جاء في الشعر حذف الياء والواو الزائدة في الوصل مع الحركة كما هي في الوقف سواء قال رجل من أزد السراة :

فظلت لدى البيت العتيق أخليه

ومطواي مشتاقان له أرقان

الخامس منه : حذف الفاء من جواب الجزاء :

وذلك قول ذي الرمة :

وإنّي متى أشرف على الجانب الذي

به أنت من بين الجوانب ناظر

٥١٧

هو عند سيبويه على تقديم الخبر ناظر متى أشرف.

وأجاز أيضا أن يكون على إضمار الفاء والذي عند أبي العباس وعندي فيه وفي مثاله أنّه على إضمار الفاء لا غير ؛ لأن الجواب في موضعه فلا يجوز أن تنوي به غير موضعه إذ وجد له تأويل ومثله :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

فهذا على ما ذكرت لك وكذلك قوله :

فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها

مطبّعة من يأتها لا يضيرها

أراد : لا يضيرها من يأتها وإنّك تصرع إن يصرع أخوك عند سيبويه وهو عندنا على إضمار الفاء.

فأمّا قوله :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشّرّ عند الله مثلان

فإنّه على إضمار الفاء في كلّ قول.

السادس منه : ما حذف منه المنعوت وذكر النعت :

اعلم أنّ إقامة النعت مقام المنعوت في الكلام قبيح إلّا أن يكون نعتا خاصا يخصّ نوعا من الأنواع كالعاقل الذي لا يكون إلا في الناس والكاتب وما أشبه ذلك ممّا تقع به الفائدة ويزول اللبس فإذا اضطر الشاعر فله أن يقيم الصفة مقام الموصوف و (الذي) وضعت ليوصف بها مع صلتها فمن قبيح ما جاء في ضرورة الشّاعر قوله :

من أجلك يالتي تيّمت قلبي

وأنت بخيلة بالودّ عني

فأدخل (يا) على (التي) وحرف النداء لا يدخل على ما فيه الألف واللام إلا في اسم الله عز وجلّ وقد مضى ذكر ذا فشبه الشاعر الألف واللام في (التي) باللام التي في قولك (الله عز وجلّ) إذ كانتا غير مفارقتين للإسمين.

الثالث : مما جاء كالشاذّ وهو وضع الكلام في غير موضعه وتغيير نضده :

٥١٨

أحسن ذلك قلب الكلام إذا لم يشكل فمن ذلك قوله (١) :

ترى الثور فيها مدخل الظّلّ رأسه

وسائره باد إلى الشمس أجمع

فالمعنى : مدخل رأسه الظلّ ولكن جعل الظلّ مفعولا على السعة وأضاف إليه والنحويون يجيزون مثل هذا في غير ضرورة فيقولون :

يا سارق الليلة أهل الدار

فأمّا الذي يبعد فنحو قوله :

مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران أو بلغت سوآتهم هجر

فجعل (هجر) في اللفظ هي التي تبلغ السوآت ؛ لأن هذا لا يشكل ولا يحيل والفرق بين هذا وبين البيت الذي قبله أنّ ذاك قدّم فيه المفعول الثاني على المفعول الأول وهو غير ملبس فحسن ؛ لأنه يجوز أن تضيف (مدخل) إلى (رأسه) ولا تذكر (الظلّ) وتضيفه إلى (الظلّ) ولا تذكر (رأسه) وهذا خلاف ذلك لأنك جعلت الفاعل فيه مفعولا والمفعول فاعلا وينشدون في مثله :

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر

وإنّما يشقى الرجال وقد يحتمل المعنى غير ما قالوا (قد شقى الخزّ بفلان) إذ لم تجعله أهلا له فهذا على السعة والتمثيل يكون المعنى : قد شقي الرمح بأبدان هؤلاء وكقولهم : أتعبت سيفي في رقاب القوم إني فعلت به ما إذا فعل بمن يجوز عليه التّعب تعب.

فأمّا قول الله عز وجلّ : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص : ٧٦] فقد احتمله قوم على مثل هذا وقالوا : إنّما العصبة تنوء بالمفاتيح وتحملها في ثقل.

قال أبو العباس : وليس هكذا التقدير إنّما التقدير : لتنوء بالعصبة : أي : تجعل العصبة مثقلة كقولك : انزل بنا أي : اجعلنا ننزل معك وكقولك : ارحل بنا يا فلان أي : اجعلنا نرحل معك ومثله قول ابن الخطيم :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، أضاف فيه الشاعر مدخل إلى الظل ، وكان الوجه أن يضيف مدخل إلى الرأس.

٥١٩

ديار التي كادت ونحن على منى

تحلّ بنا لو لا نجاء الرّكائب

أي : تجعلنا نحلّ لا أنّها هي تنتقل إلينا ومن هذا الباب قول الشاعر :

صددت فأطولت الصّدود وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم

والكلام : قلّ ما يدوم وصال وليس يجوز أن يرفع (وصال) بيدوم وقد أخّره ولكن يجوز هذا عندي على إضمار (يكون) كأنه قال : قلّ ما يكون وصال يدوم على طول الصدود وحقّ (ما) إذا دخلت كافة في مثل هذا الموضع فإنّما تدخل ليقع الفعل بعدها وكذلك يكون مع الحرف نحو : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)(١) [الحجر : ٢] وإنّما يقوم زيد وما أشبه ذلك مما لا يجوز أن يليه الفعل فإذا كفّ (بما) وبني معها وليه الفعل ومن هذا الباب قول الفرزدق :

وما مثله في النّاس إلا مملكا

أبو أمه حيّ أبوه يقاربه

يريد : ما مثله في الناس حيّ يقاربه إلّا مملك أبو أم ذلك المملك أبوه ولكن نصب مملكا حيث قدّم الاستثناء ومن هذا فصلهم بالظرف بين المضاف والمضاف إليه نحو قوله :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

وكقول الآخر : لله درّ اليوم من لامها.

الرابع : هو إبدال حرف اللين من حرف صحيح :

اعلم أنّ الشاعر يضطر فيبدل حروف اللين من غيرها كما قال :

لها أشارير من لحم تتمّره

من الثّعالي ووخز من أرانيها

يريد (الثعالب وأرانبها) فكان الشعر ينكسر لو ذكر (الباء) في الثعالب وتفسد القافية ؛ لأن رويه الياء فابدل الباء ؛ لأن الحركة لا تدخلها فينكسر الوزن فكذلك أبدل ياء في (الحمي) وهو يريد (الحمام) ومن قبيح ما جاء في الضرورة عند النحويين.

__________________

(١) نافع وعاصم : (ربما) مخفّفا.

وقرأ الباقون مشدّدا ، وهما لغتان فصيحتان غير أنّ الإختيار التّشديد ، لأنّه الأصل ، ولو صغّرت لقلت : ربيب ، ومن خفّف أسقط باء تخفيفا [إعراب القراءات السبع : ١ / ٣٤٠].

٥٢٠