الأصول في النحو - ج ٢

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-406-X
الصفحات: ٥٣٥

فتستغني عن جواب الجزاء بما تقدم ولا يجوز : إن تأتني آتيك إلّا في ضرورة شاعر على إضمار الفاء ، وأما ما كان سوى (إن) منها فلا يحسن أن يحذف الجواب وسيبويه يجيز : إن أتيتني آتك ، وإن لم تأتني أجزك ؛ لأنه في موضع الفعل المجزوم وينبغي أن تعلم أنّ المواضع التي لا يصلح فيها (إن) لا يجوز أن يجازى فيها بشيء من هذه الأسماء البتة ؛ لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو بها إذا دخل حرف الجر على الأسماء التي يجازى بها لم يغيرها عن الجزاء تقول : على أي دابة أحمل أركبه وبمن تؤخذ أو خذ به وإنما قدم حرف الجرّ للضرورة ؛ لأنه لا يكون متعلقا بالمفعول.

فإن قلت : بمن تمرّ به أمرّ وعلى أيهم تنزل عليه انزل رفعت وصارت بمعنى الذي وصارت الباء الداخلة في (من) لأمرّ والباء في (به) لتمرّ وقد يجوز أن تجزم بمن تمرر أمرر وأنت تريد (به) وهو ضعيف وتقول على ذلك : غلام من تضرب أضربه قدمت الغلام للإضافة كما قدمت الباء وهو منصوب بالفعل ولكن لا سبيل إلى تقديم الفعل على (من) في الجزاء والاستفهام.

وأما الثالث : الذي يحذف فيه حرف الجزاء مع ما عمل فيه وفيما بقي من الكلام دليل عليه ، وذلك إذا كان الفعل جوابا للأمر والنهي أو الاستفهام أو التمني أو العرض تقول : آتني آتك فالتأويل : ائتني فإنّك إن تأتني آتك هذا أمر ولا تفعل يكن خيرا لك وهذا نهي والتأويل لا تفعل فإنّك إن لا تفعل يكن خيرا لك وإلا تأتني أحدثك وأين تكون أزرك وألا ماء أشربه وليته عندنا يحدثنا فهذا تمنّ ألا تنزل تصب خيرا وهذا عرض ففي هذا كلّه معنى (إن تفعل) ، فإن كان للإستفهام وجه من التقدير لم تجزم جوابه.

ولا يجوز : لا تدن من الأسد فإنّك إن تدن من الأسد يأكلك فتجعل التباعد من الأسد سببا لأكلك فإذا أدخلت الفاء ونصبت جاز فقلت : لا تدن من الأسد فيأكلك ؛ لأن المعنى لا يكون دنو ولا أكل وتقول : مره يحفرها وقل له : يقل ذاك فتجزم ويجوز أن تقول : مره يحفرها فترفع على الابتداء ، وقال سيبويه : وإن شئت على حذف (أن) كقوله :

٢١

ألا أيّها الزّاجري احضر الوغى (١)

وعسينا نفعل كذا وهو قليل وقد جاءت أشياء أنزلوها بمنزلة الأمر والنهي ، وذلك قولهم : حسبك ينم الناس واتقى الله امرؤ وفعل خيرا يثب عليه.

__________________

(١) على أن أحضر منصوب بأن مضمرة ، بدليل تمامه :

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وتقدم الكلام عليه في الشاهد العاشر من أوائل الكتاب.

وهذه رواية الكوفيين ، والرفع رواية البصريين. قال سيبويه : وقد جاء في الشعر :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

قال الأعلم : الشاهد فيه رفع أحضر بحذف الناصب وتعريه منه. والمعنى : لأن أحضر الوغى. وقد يجوز النصب بإضمار أن ضرورة ، وهو مذهب الكوفيين. انتهى.

وفي التذكرة القصرية ، وهي أسئلة من أبي الطيب محمد بن طوسي المعروف بالقصري ، وأجوبة من شيخه أبي علي الفارسي ، قال : سألت أبا علي عن أحضر الوغى ، أي شيء موضعه؟ فقال : نصب ، وهو يريد حاضرا.

فقلت : كيف يجوز أن يكون حالا وإنما الحضور مزجور عنه لا عن غيره؟ فقال : قد يجوز أن يكون لم يذكر المزجور عنه. فقلت : قد فهمنا من قوله :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

قد نهاه عن حضور الوغى. قال : صير أن يفهم منه هذا وإن كان ذلك لا يفهم منه إذا قدرته بقولك حاضرا. قلت : فإن الحضور لم يقع ، ونحن نعلم أنه ما نهاه وقد حضر. قال : هذا مثل قولك : هذا صاحب صقر صائدا به غدا. قلت : فما الحاجة إلى أن قدرته حالا. قال : ليتعلق بما قبله ، وإلا فلا سبيل إلى تعلقه بما قبله إلا على هذا الوجه. انتهى. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٥٩.

٢٢

باب إعراب الفعل المعتل اللام

اعلم أن إعراب الفعل المعتل الذي لامه ياء أو واو أو ألف مخالف للفعل الصحيح والفرق بينهما أن الفعل الذي آخره واو أو ياء نحو : يغزو أو يرمي تقول فيهما : هذا يغزو ويرمي فيستوي هو والفعل الصحيح في الرفع في الوقت كما تقول : هو يقتل ويضرب ، فإن وصلت خالف يقتل ويضرب فقلت : هو يغزو عمرا ويرمي بكرا فتسكن الياء والواو ولا يجوز ضمها إلا في ضرورة شاعر ، فإن نصبت كان كالصحيح فقلت : لن يغزو ولن يرمي وإنما امتنع من ضم الياء والواو لأنها تثقل فيهما ، فإن دخل الجزم اختلفا في الوقف والوصل فقلت :لم يغز ولم يرم فحذفت الياء والواو وكذلك في الوصل تقول : لم يغز عمرا ولم يرم بكرا وإنما حذفت الياء والواو في الجزم إذا لم تصادف الجازم حركة يحذفها فحذفت الياء والواو ؛ لأن الحركة منهما وليكون للجزم دليل.

والأمر كالجزم ، تقول : ارم خالدا واغز بكرا فتحذف في الوقف والوصل إلا أنك تضم الزاي من (يغزو) وتكسر الميم من (يرمي) إذا وصلت.

فيدلان على ما ذهب للجزم والوقف وإنما تساوي الوقف في الأمر للجزم لأنهما استويا في اللفظ الصحيح فلما كان ذلك في الصحيح على لفظ واحد جعلوا المعتل مثل الصحيح فقالوا :

ارم واغز كما قالوا لم يرم ولم يغز وقالوا : اضربا واضربوا كما قالوا : لم يضربا ولم يضربوا.

٢٣

مسائل من سائر أبواب إعراب الفعل

تقول : انتظر حتى إن يقسم شيء تأخذ تجزم (تأخذ) ؛ لأنه جواب لقولك : إن يقسم وانتظر حتى إن قسم شيء تأخذ تنصب (تأخذ) إن شئت على حتّى تأخذ إن قسم ، وإن شئت جزمت (تأخذ) فجعلته جوابا لقولك : إن قسم هذا قول الأخفش وقبيح أن تفصل بين حتى وبين المنصوب قال : ومما يدلّك على أنه يكون جوابا ولا يحمل على (حتى) أنك تقول : حتى إن قسم شيء أخذته يعني أنه معلق بالجواب فلا يرجع إلى (حتى) ألا ترى أنك لا تقول : حتى أخذت إن قسم شيء وتقول : اجلس حتى إن يقل شيئا فتسمعه تجبنا جزم كله ولا يجوز أن تنصب (تجبنا) على حتى ؛ لأن قولك : إن تفعل مجزوم في اللفظ فلا بد من أن يكون جوابه مجزوما في اللفظ وتقول : أقم حتّى تأكل معنا وأقم حتى أيانا يخرج تخرج معه فأيّ مبتدأ لأنها للمجازاة وحتى معلقة وكذلك اجلس حتى إن يخرج تخرج معه وانتظر حتى من يذهب تذهب معه (فمن) في موضع رفع واجلس حتى (أيا) يأخذ تأخذ معه (أيا) منصوبة (بتأخذ) وتقول : أقم حتى أي القوم تعط يعطك تعمل في (أي) ما بعدها ولا تعمل فيها ما قبلها وتقول : اجلس حتى غلام من تلقّ تكرّم تنصب الغلام (بتعلق) واجلس حتى غلام من تلقه تكرم ترفع الغلام على الابتداء ولو أن (حتّى) تكون معلقة في شيء ما جاز دخولها هاهنا ؛ لأن حرف الجزاء إذا دخل عليه عامل أزاله عن حرف الجزاء ألا ترى أنك تقول : من يزرنا نزره فيكون مرفوعا بالابتداء وتكون للجزاء ، وذلك ؛ لأن حال الابتداء كحال (إن) التي للجزاء والشرط نظير المبتدأ والجواب نظير الخبر.

قال الأخفش : ومما يقوي (من) إذا كانت مبتدأة على الجزاء أن (إن) التي للجزاء تقع موقعها ولو أدخلت إنّ المشددة على (من) لقلت : إنّ من يزرونا نزوره ؛ لأن المجازاة لا تقع ها هنا ، فإن قلت : فلم لا تعمل إنّ في (من) وتدعها للمجازاة كما أعملت إنّ الابتداء فلأن (إن) التي للمجازة لا تقع هاهنا ؛ لأن إنّ المشددة توجب بها والمجازاة أمر مبهم يعني أنه لا تقع (إن) التي للمجازاة بعد (أنّ) الناصبة والمجازاة ليس بشيء مخصوص إنما هو للعامة ، وإن

٢٤

الناصبة للإيجاب وكذلك : ليت من يزورنا نزوره ولعل وكان وليس لأنك إذا قلت من يزورنا نزوره ولعل وكان وليس لأنك إذا قلت من يزورنا نزورثه وما تعطي تأخذ فأنت تبهم ولا توضح وهكذا يجيء الجزاء بمن وأخواته ، فإن أوضحت منه شيئا بصلة ذهب عنه هذا العمل وجرى مجرى (الذي) وتقول : سكت حتى أردنا أن نقوم تقول : افعلوا كذا وكذا فترده على جواب (إذا) ولو رددته على حتى جاز على قبحه وحقّ (حتى) أن لا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه وتقول : لا والله حتى إذا أمرتك بأمر تطيعني ترفع جواب (إذا) ، وإن شئت نصبت على (حتى) على قبح عندي إلا أن الفصل بالظرف أحسن من الفصل بغيره.

وتقول : لا والله حتى إن أقل لك لا تشتم أحدا لا تشتمه.

ولا تشتمه جواب (إن أقل لك) فلا يكون فيه النصب ؛ لأنه لا يرجع إلى : حتى لا والله ، وإذا قلت لك اركب تركب يا هذا تنصب (تركب) على أو وفصلت بالظرف والفصل بالظرف أحسن من الفصل بغيره أردت : ولا والله أو تركب إذا قلت لك اركب ومن رفع ما بعد (أو) في هذا المعنى رفع هذه المسألة وتقول : تسكت حتى إذا قلنا ارتحلوا لا يذهب الليل تخالفنا فلا تذهب (تذهب) معطوف على (تخالفنا) وحتى إن نقل إيت فلانا تصب منه خيرا لا تأته فتصب خيرا جزم على جواب إيت ولا تأته جواب (إن نقل).

وتقول : لئن جئتني لأكرمنّك الأولى توكيد والثانية لليمين ولا يجوز بغير النون ولئن جئتني لإليك أقصد ولإيّاك أكرم ولا تنون أكرم ؛ لأن اللام لم تقع عليه ولو وقعت عليه فقلت أكرمنّك وكذلك : لئن جئتني لأكفلن بك وفي كتاب الله عز وجل : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [آل عمران : ١٥٨] لما وقعت اللام على كلام مع الفعل لم تدخله النون وكذلك :(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران : ١٥٧] وكذلك : لئن جئتني لأهل ، وكذلك : ولئن وصلتك للصلاة أنفع لك.

قال الأخفش : المعنى : والله للصلة أنفع ، وإن وصلتك كما أن قولك : لئن جئتني لأكرمنك إنما هي : والله لأكرمنك إن جئتني قال : واللام التي في (لئن جئتني) زائدة وقوله عز وجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ١٠٣] على معنى اليمين كأنه قال

٢٥

والله أعلم والله لمثوبة من عند الله خير لهم ولو آمنوا وقال لا تقول : إنّ زيدا لقام وتقول : إنّ زيدا إليك كفيل ، وإن زيدا له ولك منزل ؛ لأن اللام لا تقع على فعل فإذا كان قبلها كلام ضمته معها جاز دخول اللام وتقول : سرت حتى أدخل أو أكاد ترفعهما جميعا لأنك تقول :حتى أكاد والكيدودة كائنة وكذلك سرت حتى أدخلها أو أقرب منها ؛ لأنه قد كان القرب أو الدخول وكذلك : سرت حتى أكاد أو أدخل وأشكل عليّ كلّ شيء حتى أظن أني ذاهب العقل فجميع هذا مرفوع ؛ لأنه فعل وهو فيه قال الجعدي :

وننكر يوم الرّوع ألوان خيلنا

من الطّعن حتى تحسب الجون أشقرا (١)

قال : يجوز في (تحسب) الرفع والنصب والرفع على الحال والنصب على الغاية وكأنك أردت إلى أن تحسب وحكى الأخفش إن النحويين ينصبون إذا قالوا : سرت أكاد أو أدخل يا هذا ينصبون الدخول ويقولون : الفعل لم يجب. والكيدودة قد وجبت.

قال : وهذا عندي يجوز فيه الرفع يعني الدخول ؛ لأنه في حال فعل إذا قلت : حتى أكاد يعني إذا كنت في حال مقاربة و (حتى) لا تعمل في هذا المعنى إنما تعمل في كل فعل لم يقع بعد والكيدودة قد وقعت وأنت فيها وتقول : الذي يأتيني فله درهم والذي في الدار فله درهم فدخول الفاء لمعنى المجازاة ولا يجوز. : ظننت الذي في الدار فيأتيك.

تريد : ظننت الذي في الدار يأتيك والأخفش يجيزه على أن تكون الفاء زائدة وقال : قول الله عز وجل : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] ولكن زدت (إن) توكيدا وقال : لو قلت : إن هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة كان صالحا لأنك إذا قلت :

إن الذي يأتينا فله درهم فمعناه : الذي يأتينا فله درهم ولا يحسن ليت الذي يأتينا فله درهم ولا لعل الذي يأتينا فنكرمه ؛ لأن هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة ولا يحسن (كأنّ الذي يأتينا فله درهم) ؛ لأن معنى الجزاء إنما يكون على ما يأتي لا على ما كان ، فإن قدرت فيه زيادة الفاء جاز على مذهب الأخفش.

__________________

(١) انظر خزانة الأدب ١ / ٣٦٤.

٢٦

فصل يذكر فيه قلّ وأقلّ

اعلم أنّ قلّ : فعل ماض وأقلّ : اسم إلّا أن أقلّ رجل قد أجروه مجرى قلّ رجل فلا تدخل عليه العوامل وقد وضعته العرب موضع (ما) ؛ لأنه أقرب شيء إلى المنفى القليل كما أن أبعد شيء منه الكثير وجعلت (أقلّ) مبتدأة صدرا إذا جعلت تنوب عن النفي كما أن النفي صدر فلا يبنون أقلّ على شيء فتقول : أقلّ رجل يقول ذاك ولا تقول : ليت أقلّ رجل يقول ذاك ولا لعل ولا إنّ إلا أن تضمر في (إنّ) وترفع أقلّ بالابتداء قال الأخفش : هو أيضا قبيح ؛ لأن أقلّ رجل يجري مجرى : قلّ رجل وربّ رجل لو قلت : كان أقلّ رجل يقول ذاك فرفعت (أقلّ) على (كان) لم يجز ولكن تضمر في (كان) وترفع أقلّ على الابتداء وأقلّ رجل وقلّ رجل قد أجروه مجرى النفي فقالوا : أقلّ رجل يقول ذاك إلا زيد.

وقال سيبويه : لأنه صار في معنى : ما أحد فيهما إلا زيد وقال : وتقول : قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد فليس زيد بدلا من الرجل في (قلّ) ولكن : قلّ رجل في موضع أقلّ رجل ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه والمستثنى بدل منه لأنك تدخله في شيء يخرج من سواه.

قال : وكذلك : أقلّ من وقلّ من إذا جعلت (من) بمنزلة رجل.

حدثنا بذلك يونس عن العرب يجعلونه نكرة كما قال :

ربّما تجزع النّفوس من الأمر

له فرجة كحلّ العقال (١)

__________________

(١) قال ابن المستوفي في شرح الشواهد للمفصل : وجدت قوله ربما تكره النفوس من الأمر البيت ، في أبيات لأبي قيس صرمة بن أبي أنس ، من بني عدي بن النجار ، ووجد أيضا في أبيات لحنيف بن عمير اليشكري ، قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة ، وهي :

يا سعاد الفؤاد بنت أثال

طال ليلي بفتنة الرجال

إنها يا سعاد من حدث الده

ر عليكم كفتنة الرجال

إن دين الرسول ديني وفي القو

م رجال على الهدى أمثالي

أهلك القوم محكم بن طفيل

ورجال ليسوا لنا برجال

ربما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقال

٢٧

يريد أنّ (ربّ) دخلت على (ما) وهي لا تدخل إلا على نكرة فتنكير (ما) كتنكير (من) قال : وتقول : قلّ ما سرت حتى أدخلها من قبل أنّ قلّما نفي لقوله كثر ما كما أنّ ما سرت نفي لقوله : سرت ألا ترى أنه قبيح أن تقول : قلما سرت فأدخلها كما يقبح في ما سرت إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل إنما قبحه ؛ لأنه إذا لم يكن سير لم يكن دخول فكذلك قلّما لمّا أريد بها النفي كان حكمها حكم قال وتقول : قلّما سرت فأدخلها فاتنصب بالغاءها هنا كما تنصب فيما قال.

وتقول : قلّما سرت إذا عنيت سيرا واحدا. أو عنيت غير سير كأنك قد تنفي كثير من السير الواحد كما تنفيه من غير سير يريد بقوله : من غير سير أي سيرا بعد سير.

قال الأخفش : الدليل على أن أقلّ رجل يجري مجرى ربّ وما أشبهها أنّك تقول : أقلّ امرأة تقول ذاك فتجعل اللفظ على امرأة وأقلّ امرأتين يقولان ذاك فينفي أقلّ كأنه ليس له خبر

__________________

وحنيف أدرك الجاهلية والإسلام ، ولا تعرف له صحبة. وقال ابن حجر في الإصابة : هو مخضرم ، ذكره المزرباني ، وروى له هذه الأبيات عمر بن شبة ، ووجد أيضا في أبيات لأعرابي. وهي :

يا قليل العزاء في الأهوال

وكثير الهموم والأوجال

اصبر النفس عند كل ملمّ

إن في الصبر حيلة المحتال

لا تضيقن بالأمور فقديك

شف غماؤها بغير احتيال

ربما تكره النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقال

قد يصاب الجبان في آخر الص

ف وينجو مقارع الأبطال

ورواها صاحب الحماسة البصرية لحنيف بن عمير المذكور ، وقيل أنها لنهار ابن أخت مسيلمة الكذاب ، لعنه الله. ونسبها العيني لأمية بن أبي الصلت. وهذا لا أصل له. وقوله : يا قليل العزاء هو بالفتح ، بمعنى الصبر والتجلد. وقوله : اصبر النفس ، أي : احبسها. والملم : الحادث من حوادث الدهر ، وهو اسم فاعل من ألم ، إذا نزل. وغماؤها : مبهمها ومشكلها ؛ وهو بالغين المعجمة ، يقال : أمر غمة ، أي : مبهم ملتبس. ويقال :صمنا بالغمى ، بفتح الغين وضمها ، وصمنا للغماء على فعلاء ، بالفتح والمد ، إذا غم الهلال على الناس وستره عنه غيم ونحوه. وصحفه العيني فقال : عماؤها بالعين المهملة وتشديد الميم للضرورة. والعماء في اللغة :

السحاب الرقيق ، سمي بذلك لكونه يعمي الأبصار عن رؤية ما وراءه. وأراد بها ما يحول بين النفس ومرادها. هذا كلامه. انظر خزانة الأدب ٢ / ٣٠٥.

٢٨

ولا تحمله إلا على الآخر يعني : لا تحمل الفعل إلا على الذي أضفت إليه أقلّ فهذا يدل على أنه لا يشبه الأسماء يعني إذا كان الخبر يجيء على الثاني وكذلك : أقلّ رجال يقولون ذاك ولا يحسن كذلك لو قلت : أقلّ رجلين صالحان لم يحسن ولا يحسن من خبره إلا الفعل والظرف أقلّ رجلين صالحين في الدار وأقلّ امرأة ذات جمة في الدار وأقلّ رجل ذي جمة في الدار كان جيدا ولو ألغيت الخبر كان مذهبه كمذهب (ربّ) ، فإن قلت : فمالي إذا قلت : قلّ رجل يقول ذاك وقلّ رجل قائل ذاك وهو صفة لا يجوز حذفه فلأنك إنما قللت الموصوفين ولم تقلل الرجال مفردين في الوصف ألا ترى أنك لا تقول : قلّ رجل قائل ذاك إلا وأنت تريد القائلين ولست تريد أن تقلل الرجال كلهم.

٢٩

فصل من مسائل الدعاء والأمر والنهي

اعلم أن أصل الدعاء أن يكون على لفظ الأمر وإنما استعظم أن يقال أمر والأمر لمن دونك والدعاء لمن فوقك ، وإذا قلت : اللهم اغفرلي فهو كلفظك إذا أمرت فقلت : يا زيد أكرم عمرا وكذلك إذا عرضت فقلت : انزل فهو على لفظ اضرب وقد يجيء الأمر والنهي والدعاء على لفظ الخبر إذا لم يلبس تقول : أطال الله بقاءه فاللفظ لفظ الخبر والمعنى دعاء ولم يلبس لأنك لا تعلم أنّ الله قد أطال بقاءه لا محالة فمتى ألبس شيء من ذا بالخبر لم يجز حتى يبين فتقول على ذا : لا يغفر الله له ولا يرحمه ، فإن قلت : لا يغفر الله له ويقطع يده لم يجز أن تجزم (يقطع) ؛ لأنه لا يشاكل الأول ؛ لأن الأول دعاء عليه ، وإذا جزمت (يقطع) فقد أردت : ولا يقطع الله فهذا دعاء له فلا يتفق المعنى ، وإذا لم يتفق لم يجز النسق.

وكذلك إذا قلت : ليغفر الله لزيد ويقطع يده لم يجز جزم (يقطع) لإختلاف المعنى ولكن يجوز في جميع ذا الرفع فيكون لفظه لفظ الخبر والمعنى الدعاء ، وإذا أسقطت اللام ولا رفعت الفعل المضارع فقلت : يغفر الله

لك وغفر الله لك وقال الله عز وجل : (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) [يوسف : ٩٢] وقال : (فَلا يُؤْمِنُوا) وقال الله تبارك وتعالى : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) باللام [يونس : ٨٨].

وقال قوم : يجوز الدعاء بلن مثل قوله : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص : ١٧].

وقال الشاعر :

لن تزالوا كذلكم ثم لا زلت لهم

خالدا خلود الجبال (١)

__________________

(١) قوله : لن يزالوا بالياء التحتية بضمير الغيبة الراجع لمجموع من ذكر ممن قتلوا ، وأسروا ، ونهبوا من الأعداء ، وممن غزا معه وقتل وغنم من الأولياء. وقوله : لا زلت بالخطاب ، ولهم بضمير الغيبة. فظهر من هذا أن روايته في كتب النحو لن تزالوا بالخطاب ولا زلت لكم بالتكلم والخطاب ، على خلاف الرواية الصحيحة.

وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب. وهو شاعر جاهلي.

وقد اشتبه على العيني فقال : قائل :

رب رفد هرقته ذلك اليو ... م ... البيت

٣٠

والدعاء (بلن) غير معروف إنما الأصل ما ذكرنا أن يجيء على لفظ الأمر والنهي ولكنه قد تجيء أخبار يقصد بها الدعاء إذا دلت الحال على ذلك الا ترى أنك إذا قلت : (اللهم افعل بنا) لم يحسن أن تأتي إلا بلفظ الأمر وقد حكى قوم : اللهم قطعت يده وفقئت عينه قال الشاعر :

لا هم ربّ الناس إن كذبت ليلى

وإن قدمت الأسماء فقلت : زيد قطعت يده كان قبيحا ؛ لأنه يشبه الخبر وهو جائز إذا لم يشكل ، وإذا قلت : زيد ليقطع الله يده كان أمثل ؛ لأنه غير ملبس وهو على ذلك اتساع في الكلام ؛ لأن المبتدأ ينبغي أن يكون خبره يجوز فيه الصدق والكذب والأمر والنهي ليسا بخبرين والدعاء كالأمر وإنما قالوا : زيد قم إليه وعمرو اضربه اتساعا كما قالوا : زيد هل ضربته فسدّ الاستفهام مسد الخبر وليس بخبر على الحقيقة وقال : إذا اجزت افعل ولا تفعل أمروا ولم ينهوا ، وذلك في المصادر والأسماء والأدوات فتقول : ضربا ضربا والله تريد : اضرب ضربا واتق الله.

وهلمّ وهاؤم إنما لم يجز في النهي ؛ لأنه لا يجوز أن يضمر شيئان لا والفعل ولو جاءوا (بلا) وحدها لم يجز أيضا أن يحال بين (لا) والفعل لأنها عاملة وتقول : ليضرب زيد وليضرب عمرو وتقول : زيدا اضرب تنصب زيدا (باضرب) وقال قوم : تنصب زيدا بفعل مضمر ودليلهم على ذلك أنك تدخل فيه الفاء فتقول : زيدا فاضرب وقالوا : إنّ الأمر والنهي لا يتقدمها منصوبهما ؛ لأن لهما الإستصدار والذين يجيزون التقديم يحتجون بقول العرب بزيد امرر ويقولون : إن الباء متعلقة بامرر ولأنه لا يكون الفعل فارغا وقد تقدمه مفعوله ويضمرون إذا شغلوا نحو قولهم : زيدا اضربه ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله.

__________________

أعشى همدان ، واسمه عبد الرحمن بن عبد الرحمن.

ولا يخفى أن هذا الشاعر إسلامي في الدولة المروانية زمن الحجاج ، ولم يكن في زمن الأسود بن المنذر. انظر خزانة الأدب ٣ / ٤٤٢.

٣١

وتقول : ضربا زيدا تريد : اضرب زيدا.

وقوم يجيزون. ضرب زيد وأنت تريد : ضربا زيدا ثم تضيف وهذا عندي قبيح ؛ لأن ضربا قام مقام اضرب واضرب لا يضاف والألف في الأمر تذهب إذا اتصلت بكلام نحو قولك :

اضرب اضرب واذهب اذهب ويقولون : ادخل ادخل واذهب ادخل ويختارون الضم إذا كانت بعد مضموم والكسر جائز تقول : اذهب ادخل.

وقد حكوا : ادخل الدار للواحد على الإتباع وهو رديء ؛ لأنه ملبس وقالوا : يجوز الإتباع في المفتوح مثل قولك : اصنع الخير.

وقالوا : لا نجيزه ولم نسمعه لأنّا قد سمعناه إذا حرك نحو قول الشاعر :

يحسبه الجاهل ما لم يعلما (١) ...

__________________

(١) شبهه بالجزاء حيث كان مجزوما وكان غير واجب ، وهذا لا يجوز إلا في اضطرار ، وهي في الجزاء أقوى. انتهى.

وكذا قل الفراء إنه ضرورة ، قال عند تفسير قوله تعالى : "ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ" ما نصه : فمن ذلك قوله تعالى : "يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ".

والمعنى والله أعلم : إن لم تدخل حطمتن. وهو نهي محض ، لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة.

ألا ترى أنك لا تقول : إن تضربني أضربنك ، إلا في ضرورة شعر ، كقوله :

فمهما تشأ منه فزارة البيت

انتهى.

وكذا في المفصل ، قال : فإن دخلت في الجزاء بغير ما ، ففي الشعر ، تشبيها للجزاء بالنهي.

وكذا في كتاب الضرائر لابن عصفور.

وخالف ابن مالك فأجازه في الكلام ، قال في التسهيل : وقد تحلق جواب الشرط اختيارا ، وقال قبله :

وتلحق الشرط مجردا من ما. وكذا قال في الألفية.

قال الشاطبي : فإذا قلت إن تقومن أكرمتك ، ومهما تطلبن أعطك ، ومهما تأتيني أكرمك ، وحيثما تكونن أذهب إليك ، وكذلك سائر أدوات الشرط ، فهو جائز ، ولكنه قليل.

٣٢

وقوله :

أجّره الرّمح ولا تهاله ...

لما كان قبله فتح اتبع.

فأما قول القائل : ما لم يعلما فقد قيل فيه أنه يريد النون الخفيفة ، وأما قوله لا تهاله فإنه حرك اللام لالتقاء الساكنين ؛ لأنه قد علم أنه لا بد من حذف أو تحريك وكان الباب هنا الحذف وأن تقول لا تهل ولكن فعل ذلك من أجل القافية ؛ لأن الالف لازمة لحرف الروي فرده إلى أصله فالتقى ساكنان الألف واللام التي أسكنت للجزم فحرك اللام بالفتح لفتحة ما قبلها ولما منه الفتح وهي الألف وأدخل الهاء لبيان الحركة وتقول : زرني ولأزرك فتدخل اللام ؛ لأن الأمر لك فإذا كان المأمور مخاطبا.

ففعله مبني غير مجزوم وقد بينا هذا فيما تقدم وقوم من النحويين يزعمون أنّ هذا مجزوم وأن أصل الأمر أن يكون باللام في المخاطب إلا أنه كثر فأسقطوا التاء واللام يعنون أن أصل اضرب لتضرب فأسقطوا اللام والتاء قال محمد بن يزيد وهذا خطأ فاحش ، وذلك ؛ لأن الإعراب لا يدخل من الأفعال إلا فيما كان مضارعا للأسماء وقولك : اضرب وقم ليس فيه شيء من حروف المضارعة ولو كانت فيه لم يكن جزمه إلا بحرف يدخل عليه.

__________________

ـ ويحتمل أن كلام الناظم أن أدوات الشرط مسوغة لدخول النون مطلقا ، سواء أكان الفعل معها في جملة الشرط ، أو في جملة الجزاء. إذ لم يقيد ذلك بفعل الشرط. فيجوز على هذا أن تقول : إن تكرمنني أكرمنك.

انتهى.

وقوله : فمهما تشأ ... إلخ. قال الأعلم : أراد مهما تشأ فزارة إعطاءه تعطكم ، ومهما تشأ منعه تمنعكم ، فحذف الفعل لعلم السامع ، وإدخال النون الخفيفة على تمنعا ، وهو جواب الشرط ضرورة ، وليس من مواضع النون ، لأنه خبر يجوز فيه الصدق والكذب.

إلا أن الشاعر إذا اضطر أكده بالنون تشبيها بالفعل في الاستفهام ، لأنه مستقبل مثله. انتهى.

والبيت غير موجود في ديوان ابن الخرع ، وإنما هو من قصيدة للكميت بن ثعلبة ، أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب. انظر خزانة الأدب ٤ / ٢١١.

٣٣

ويروى عن رسول الله أنه قرأ : (فبذلك فلتفرحوا (١)) فإذا لم يكن الأمر للحاضر فلا بد من إدخال اللام تقول : ليقم زيد وتقول : زر زيدا وليزرك إذا كان الأمر لهما جميعا ؛ لأن زيدا غائب فلا يكون الأمر له إلا بإدخال اللام وكذلك إذا قلت : ضرب زيد فأردت الأمر من هذا قلت : ليضرب زيدا ؛ لأن المأمور ليس بمواجه والنحويون يجيزون إضمار هذه اللام للشاعر إذا اضطر وينشدون لمتمم بن نويرة :

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي

لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى (٢)

أراد : ليبك وقول الآخر :

__________________

(١) قرأ رويس بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة.

(٢) قال الأعلم : هذا من أقبح الضرورة ، لأن الجازم أضعف من الجار ، وحرف الجر لا يضمر. وقد قيل :

إنه مرفوع حذفت لامه ضرورة ، واكتفي بالكسرة منها. وهذا أسهل في الضرورة وأقرب.

وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يقول : سمعت محمد بن يزيد ينشد هذا البيت ، ويلحن قائله ، وقال : أنشده الكوفيون ، ولا يعرف قائله ، ولا يحتج به ، ولا يجوز مثله في شعر ولا غيره ؛ لأن الجازم لا يضمر ؛ ولو جاز هذا ، لجاز يقم زيد ، بمعنى : ليقم. وحروف الجزم لا تضمر ، لأنها أضعف من حروف الخفض ، وحرف الخفض لا يضمر.

فبعد أن حكى لنا أبو الحسن هذه الحكاية ، وجدت هذا البيت في كتاب سيبويه يقول فيه : وحدثني أبو الخطاب أنه سمع هذا البيت ممن قاله.

قال أبو إسحاق الزجاج احتجاجا لسيبويه : في هذا البيت حذف اللام ، أي : لتفد. قال : وإنما سماه إضمارا ، لأنه بمنزلته.

وأما قوله : أو يبك من بكى ، فهذا البيت لفصيح ، وليس هذا مثل الأول ، وإن كان سيبويه قد جمع بينهما.

وذلك أن المعطوف يعطف على اللفظ وعلى المعنى ، فعطف الشاعر على المعنى ، لأن الأصل في الأمر أن يكون باللام ، فحذفت تخفيفا ، والأصل : فلتخمشي ، فلما اضطر الشاعر عطف على المعنى ، فكأنه قال :

فلتخمشي ، ويبك ، فيكون الثاني معطوفا على معنى الأول.

والبعوضة : موضع بعينه قتل في رجال من قومه ، فحض على البكاء عليهم.

وحذا ابن هشام في المغنى هذا الحذو ، وقال : وهذا الذي منعه المبرد أجازه الكسائي في الكلام ، بشرط تقدم قل ، وجعل منه : "قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ" ، أي : ليقيموا. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٨٣.

٣٤

محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

قال أبو العباس : ولا أرى ذا على ما قالوا : لأن عوامل الأفعال لا تضمر وأضعفها الجازمة ؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الخفض في الأسماء ولكن بيت متمم يحمل على المعنى ؛ لأنه إذا قال : فاخمشي فهو في موضع فلتخمشي فعطف الثاني على المعنى.

وأما هذا البيت الأخير فليس بمعروف على أنه في كتاب سيبويه على ما ذكرت لك وتقول : ليقم زيد ويقعد خالد وينطلق عبد الله لأنك عطفت على اللام.

ولو قلت : قم ويقعد زيد لم يجز الجزم في الكلام.

ولكن لو اضطر إليه الشاعر فحمله على موضع الأول ؛ لأنه مما كان حقه اللام جاز وتقول : لا يقم زيد ولا يقعد عبد الله لأنك عطفت نهيا على نهي ، فإن شئت قلت : لا يقم زيد ويقعد عبد الله وهو بإعادتك (لا) أوضح لأنك إذا قلت : لا يقم زيد ولا يقعد عبد الله تبين أنك قد نهيت كل واحد منهما على حياله فإذا قلت : لا يقم زيد ويقعد عبد الله بغير (لا) ففيه أوجه : قد يجوز أن يقع عند السامع أنك أردت لا يجتمع هذان ، فإن قعد عبد الله ولم يقم زيد لم يكن المأمور مخالفا وكذلك إن لم يقم زيد وقعد عبد الله.

ووجه الاجتماع إذا قصدته أن تقول : لا يقم زيد ويقصد عبد الله ، أي : لا يجتمع قيام عبد الله وأن يقعد زيد (فلا) المؤكدة تدخل في النفي لمعنى تقول : ما جاءني زيد ولا عمرو إذا أردت أنه لم يأتك واحد منهما على الإنفراد ولا مع صاحبه لأنك لو قلت : لم يأتني زيد وعمرو وقد أتاك أحدهما لم تكن كاذبا (فلا) في قولك : لا يقم زيد ولا يقعد عمرو يجوز أن تكون التي للنهي وتكون المؤكدة التي تقع لما ذكرت لك في كل نفي.

واعلم أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر يجري على لفظه وتقول ائتني أكرمك وأين بيتك أزرك وهل تأتيني أعطك وأحسن إليك ؛ لأن المعنى : فإنّك إن تفعل أفعل فأما قول الله عز وجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ثم قال :

٣٥

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ،) فإن أبا العباس رحمه الله يقول : ليس هذا الجواب ولكنه شرح ما دعوا إليه والجواب : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ) [الشعراء : ١٠ ـ ١٢].

فإن قال قائل : فهلا كان الشرح (أن تؤمنوا) ؛ لأنه بدل من تجارة؟ فالجواب في ذلك : أن الفعل يكون دليلا على مصدره فإذا ذكرت ما يدل على الشيء فهو كذكرك إياه ألا ترى أنهم يقولون : من كذب كان شرا له يريدون : كان الكذب.

وقال الله عز وجل : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١٨٠] ؛ لأن المعنى البخل خير لهم فدل عليه بقوله : (يَبْخَلُونَ) وقال الشاعر :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

المعنى : عن أن أحضر الوغى فأن والفعل كقولك : عن حضور الوغى فلما ذكر (أحضر) دل على الحضور وقد نصبه قوم على إضمار (أن) وقدموا الرفع.

فأما الرفع فلأن الفعل لا يضمر عامله فإذا حذف رفع الفعل وكان دالا على مصدره بمنزلة الآية.

وهي : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ثم قال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ،) وذلك لو قال قائل : ما يصنع زيد؟ فقلت : يأكل أو يصلي لأغناك عن أن تقول : الأكل والصلاة.

ألا ترى أنّ الفعل إنّما مفعوله اللازم له إنما هو مصدره ؛ لأن قولك : قد قام زيد بمنزلة قولك : قد كان منه قيام.

فأما الذين نصبوا فلم يأبوا الرفع ولكنهم أجازوا معه النصب ؛ لأن المعنى (بأن) وقد أبان ذلك بقوله فيما بعده (وأن أشهد) فجعله بمنزلة الأسماء التي تجيء بعضها محذوفا للدليل عليه ، وفي كتاب الله عز وجل : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٢٩] قال :

والقول عندنا أنّ (من) مشتملة على الجميع لأنها تقع للجميع على لفظها للواحد.

وقد ذهب هؤلاء إلى أن المعنى : ومن في الأرض وليس القول عندي كما قالوا.

٣٦

وقالوا في بيت حسان بن ثابت :

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

إنما المعنى : ومن يمدحه وينصره وليس الأمر عند أهل النظر كذلك ولكنه جعل (من) نكرة وجعل الفعل وصفا لها ثم أقام في الثانية الوصف مقام الموصوف فكأنه قال : وواحد يمدحه وينصره ؛ لأن الوصف يقع موضع الموصوف إذا كان دالا عليه.

وعلى هذا قول الله عز وجل : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النساء : ١٥٩] وقال الشاعر :

كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ (١)

يريد : كأنك جمل ولذلك قال : يقعقع خلف رجليه. وقال في أشد من ذا :

__________________

(١) على أن حذف الموصوف هنا بدون أن يكون بعضا من مجرور بمن أو في لضرورة الشعر ، والتقدير :

كأنك جمل بني أقيش. وهذا مثال لقيام الظروف مقام الموصوف لضرورة الشعر ، والبيتان قبله لقيام الجملة مقامه كذلك.

وقد أورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية كما أورده الشارح المحقق. وفيه أن البيت من القسم الأول ، وهو أن الموصوف بالجملة أو الظرف إذا كان بعضا من مجرور بمن أو في يجوز حذفه كثيرا.

وبيانه أن الموصوف يقدر هنا قبل يقعقع ، والجملة صفة له ، أي : كأنك جمل يقعقع ، وهو بعض من المجرور بمن ، ويكون قوله من جمال بني أقيش حالا من ضمير يقعقع الراجع إلى جمل المحذوف.

وقد أورده الزمخشري في المفصل وصاحب اللباب فيما يجوز حذف الموصوف منه ، إلا أنهما جعلاه خبرا لكان كالشارح المحقق. وهما في ذلك تابعان لسيبويه ، فإنه قال في باب حذف المستثنى استخفافا ، قال : وذلك قولك ليس غير ، وليس إلا ، كأنه قال : ليس إلا ذاك وليس غير ذاك ، ولكنه حذفوا ذلك تخفيفا واكتفاء بعلم المخاطب ما يعنى.

وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول : ما منهما مات حتى رأيته فيي حال كذا ، وإنما يريد ما منهما واحد مات.

ومثل ذلك قوله تعالى جده : "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" ، ومثل ذلك من الشعر :

كأنّك من جمال بني أقيش

أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش. انظر خزانة الأدب ٢ / ١٣٧.

٣٧

ما لك عندي غير سهم وحجر

وغير كبداء شديدة الوتر

جادت بكفّي كان من أرمى البشر (١)

قال أبو بكر : وهذا كله قول أبي العباس ومذهبه.

__________________

(١) على أن جملة كان مع ضميره المستتر صفة لموصوف محذوف ضرورة ، أي : بكفي رجل أو إنسان كان.

والأولى بكفي رام ، للقرينة.

قال ثعلب في أماليه : لم أسمع من في موضع الاسم إلا في ثلاثة مواضع ، قوله : جادت بكفي كان من أرمى البشر وقوله : ألا ربّ منهم من يقوم بمالكا وقوله : ألا ربّ منهم دارع وهو أشوس انتهى.

وإنما قال لم أسمع لأن كان فعل ، ورب حرف ، ولا يليهما إلا الأسماء. وبهذا يستدل على حرفية من التبعيضية ، لأن رب لا تجر إلا النكرة.

وأقول : لو لا وقوع هذا الموصوف مضافا إليه هنا لجاز أن يكون من قبيل : وكلمتها ثنتين كالماء منهما وقال ابن جني في الخصائص : روي أيضا بفتح ميم من أي : بكفي من هو أرمى البشر ، وكان على هذا زائدة. انتهى.

أقول : جعل من على هذه الرواية نكرة موصوفة أولى من جعلها موصولة.

وقوله : مالك عندي الخ ، لك : ظرف مستقر ، وغير : فاعله ، وعندي : متعلق بلك. وكبداء أي : قوس كبداء ، وهي التي يملأ الكف مقبضها. وجادت أي : أحسنت.

وهذه رواية ثعلب وابن جني وغيرهما ، ووقع في رواية ابن هشام في المغني : ترمي بدل جدل جادت ، ويروي في بعض نسخ هذا الشرح كانت ، وهذا لا يناسب المعنى. انظر خزانة الأدب ٢ / ١٣٦.

٣٨

فصل من مسائل الجواب بالفاء

يقول : (هل يقوم زيد فتكرمه) يجوز الرفع والنصب النصب على الجواب والرفع على العطف وقال الله عز وجل : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ) [الحديد : ١١] يقرأ بالرفع والنصب وتقول : ما أنت الذي تقوم فتقوم إليه الرفع والنصب فالرفع على النسق والنصب على الجواب وتقول : من ذا الذي يقوم فيقوم إليه زيد الرفع والنصب وقوم يجيزون توسط الفاء في الجزاء فيقولون : هل تضرب فيأتيك زيد وهو عندي في الجزاء كما قالوا : لأن ما بعد الفاء إذا نصب فهو مع ما قبله من جملة واحدة والجزاء وجوابه جملتان تنفصل كلّ واحدة منهما عن صاحبتها.

فلا يجوز أن يختلطا ، فإن قال قائل : ينبغي أن يكون غير جائز عليمذهبكم من قبل أن التقدير عندكم : هل يقع ضرب زيدا فإتيانك فلو أجزت (زيدا) في هذه المسألة لم يجز ؛ لأنه في صلة (ضرب) فلا يجوز أن تفصل بين الصلة والموصول بشيء فالجواب في ذلك أنك إذا قلت :

هل تضرب فيأتيك زيدا فإنما العطف على مصدر يدل عليه (يضرب) فأغنى عنه وعلى ذلك فينبغي أن لا يجري على التقديم والتأخير في مثل هذا إلا أن يسمع نحوه من العرب ؛ لأنه قد خولف به الكلام للمعنى الحادث ، وإذا أزيل الكلام عن جهته لمعنى فحقه أن لا يزال بضده ولا يتصرف فيه التصرف الذي له في الأصل إلا أن يقول العرب شيئا فتقوله والفراء يقول :

إنما نصبوا الجواب بالفاء ؛ لأن المعنى كان جوابا بالجواب.

فلما لم يؤت بالجزاء فينسق على غير شكله فنصب مثل قولك : هل تقوم فأقوم وما قمت فأقوم إنما التأويل لو قمت لقمت وشبهه بقولهم : لو تركت والأسد لأكلك.

وتقول : لا يسعني شيء ويضيق عنك ، لم يحسن التكرير فنصبت وقال بعضهم : إنما نصب الجواب بالفاء ، وإن لا تلي إلا المستقبل فشبه (بأن) والفاء في الجزاء تلي كل شيء فبطلت والذي يجيزون توسط الجواب يقولون : ما زيد فنأتيه بمذنب يجيزون النصب ولا يجيزون الرفع ولا يجوز أن تقول : ما زيد نأتيه إلا أن تريد الاستفهام.

٣٩

واعلم أنه لا يجوز أن تلي الفاء (ما) ولا شيء مما يكون جوابا وفي كتاب سيبويه في هذا الباب مسألة مشكلة وأنا ذاكر لفظه وما يجب فيها من السؤال والجواب عنه.

قال سيبويه : لا تدن من الأسد يأكلك قبيح إن جزمت وليس وجه كلام الناس لأنك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سببا لأكله ، فإن رفعت فالكلام حسن ، فإن أدخلت الفاء فحسن ، وذلك قولك : لا تدن منه فيأكلك وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء ألا ترى أنه يقول : ما أتيتنا فتحدثنا والجزاء هاهنا محال وإنما قبح الجزم في هذا ؛ لأنه لا يجىء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء فمما يسأل عنه في هذا أن يقال : لم حسن مع الفاء النصب وقبح في الجزم ولم يفصل بينهما سيبويه بشيء قبحه فالجواب في ذلك أن الفرق بين المنصوب والمجرور أنك إذا جزمت إنما تقدر مع حرف الجزاء الفعل الذي ظهر ، وإن كان أمرا قدرت فعلا موجبا ، وإن كان نهيا قدرت فعلا منفيا ألا ترى أنك إذا قلت : قم أعطك فالتأويل : إن تقم أعطك ، وإذا قلت لا تقم أعطك.

فالتأويل : إلّا تقم أعطك فالإيجاب نظير الأمر والنفي نظير النهي ؛ لأن النهي نفي فهذا الجزاء على أنه لم ينقل فيه فعل إلى اسم ولا يستدل فيه بفعل على اسم ثم عطف عليه ، وإن قال : ما تأتيني فتحدثني فما بعد الفاء في تقدير اسم قد عطف على اسم دل عليه (تأتيني) ؛ لأن الأفعال تدل على مصادرها وكذلك إذا قال : لا تفعل فأضربك فالتأويل على ما قال سيبويه : أن المنصوب معطوف على اسم كأنه إذا قال : ليس تأتيني.

فتحدثني قال : ليس إتيان فحديث ، وإذا قال : لا تفعل فتضرب قد قال : لا يكن فعل فتضرب وهذا تمثيل وقد فسره وقواه ودل على أن الثاني المنصوب من الجملة الأولى ، وإن كانت الأولى مسألة.

قال : اعلم أن ما ينتصب على باب الفاء ينتصب على غير معنى واحد وكل ذلك على إضمار (أن) إلا أن المعاني مختلفة كما أن قولك : (يعلم الله) يرتفع كما يرتفع : يذهب زيد وعلم الله يفتح كما يفتح : ذهب زيد وفيها معنى اليمين قال : فالنصب هنا كأنك قلت : لم يكن إتيان ، فإن تحدث والمعنى غير ذلك كما أن معنى : علم الله لأفعلن غير معنى : رزق الله ، فإن (تحدث)

٤٠