الأصول في النحو - ج ٢

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-406-X
الصفحات: ٥٣٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرحيم

باب إعراب الأفعال وبنائها

الأفعال تقسم قسمين : مبني ومعرب.

فالمبني ينقسم قسمين : مبني على حركة (١) ومبني على سكون.

فأما المبني على حركة فالفعل الماضي (٢) بجميع أبنيته نحو : قام واستقام وضرب واضطرب ودحرج وتدحرج وأحمر واحمارّ وما أشبه ذلك ، وإنما بني على الحركة ؛ لأنه. ضارع الفعل المضارع في بعض المواضع نحو قولك : إن قام قمت. فوقع في موضع : إن تقم.

ويقولون : مررت برجل ضرب ، كما تقول : مررت برجل يضرب ، فبني على الحركة كما بني (أول وعل) في بابه على الحركة ، وجعل له فضيلة على ما ليس بمضارع المضارع عما حصل (لأول وعل) أو من قبل ومن بعد فضيلة على المبنيات ، وأما المبني على السكون فما أمرت به وليس فيه حرف من حروف المضارعة ، وحروف المضارعة : الألف والتاء والنون والياء ، وذلك نحو قولك : قم واقعد واضرب ، فلما لم يكن مضارعا للاسم ولا مضارعا للمضارع ترك على سكونه ؛ لأن أصل الأفعال السكون والبناء ، وإنما أعربوا منها ما أشبه الأسماء وضارعها ، وبنوا منها على الحركة ما ضارع المضارع ، وما خلا من ذلك أسكنوه وهذه الألف في قولك : اقعد ألف وصل إنما تنطق بها إذا ابتدأت ؛ لأنه لا يجوز أن تبتدىء بساكن وما بعد حروف المضارعة ساكن فلما خلا الفعل منها واحتيج إلى النطق به أدخلت ألف الوصل وحق ألف الوصل أن تدخل على الأفعال المبنية فقط ولا تدخل على الأفعال المضارعة لأنها لا

__________________

(١) الحركات التي يبنى عليها الفعل هي : الفتح والضم ، ولا يدخل الكسر في حركات بناء الأفعال.

(٢) الفعل الماضي الأصل فيه البناء على الفتح دائما ، إلا إذا اتصل بنون النسوة ، أو تاء الفاعل ، فيكون مبني على السكون حينئذ.

٥

تدخل على الأسماء إلا على ابن وأخواته وهو قليل العدد ، وإنما بني فعل التعجب الذي يجيء على لفظ الأمر بني على السكون نحو قولك : أكرم بزيد وأسمع بهم وأبصر. وقد مضى ذكر ذا في باب التعجب.

وأما الفعل المعرب فقد بينا أنه الذي يكون في أوله الحروف الزوائد التي تسمى حروف المضارعة (١) ، وهذا الفعل إنما أعرب لمضارعته الأسماء وشبهه بها والإعراب في الأصل للأسماء وما أشبهها من الأفعال أعرب ، كما أنه إنما أعرب من أسماء الفاعلين ما جرى على الأفعال المضارعة وأشباهها ألا ترى أنك إنما تعمل (ضاربا) إذا كان بمعنى يفعل فتقول : هذا ضارب زيدا ، فإن كان بمعنى (ضرب) لم تعمله فمنعت هذا العمل ، كما منعت ذلك الإعراب واعلم أنه إنما يدخله من الإعراب الذي يكون في الأسماء : الرفع والنصب ولا جرّ فيه وفيه الجزم وهو نظير الخفض في الأسماء ؛ لأن الجرّ يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال ونحن نذكرها نوعا نوعا بعون الله.

الأفعال المرفوعة :

الفعل يرتفع بموقعه موقع الأسماء (٢) كانت تلك الأسماء مرفوعة أو مخفوضة أو منصوبة فمتى كان الفعل لا يجوز أن يقع موقعه اسم لم يجز رفعه ، وذلك نحو قولك : يقوم زيد ويقعد عمرو وكذلك عمرو يقول وبكر ينظر ومررت برجل يقوم ورأيت رجلا يقول ذاك ألا ترى أنك إذا قلت : يقوم زيد جاز أن تجعل زيدا موضع (يقوم) فتقول : زيد يفعل كذا وكذلك إذا قلت : عمرو ينطلق فإنما ارتفع (ينطلق) ؛ لأنه وقع موقع (أخوك) إذا قلت : زيد أخوك فمتى وقع الفعل المضارع في موضع لا تقع فيه الأسماء فلا يجوز رفعه.

وذلك نحو قولك : لم يقم زيد لا يجوز أن ترفعه ؛ لأنه لا يجوز أن تقول : لم زيد فافهم هذا.

__________________

(١) وهو الفعل المضارع ، وإعرابه بالضم ، أو بالنصب إذا سبقه حرف من حروف النصب ، أو يسكن إذا سبقه حرف من حروف الجزم ، أو وقع في جواب الطلب.

(٢) أي سبب قبوله الرفع ، هو وقوعه موقع الأسماء ، وهي مسألة نظرية وقع الاختلاف فيها كثيرا ، ولا طائل عمليا من ورائها.

٦

واعلم أن الفعل إنما أعرب ما أعرب منه لمشابهته الأسماء فأما الرفع خاصة فإنما هو لموقعه موقع الأسماء فالمعنى الذي رفعت به غير المعنى الذي أعربت به.

الأفعال المنصوبة :

وهي تنقسم على ثلاثة أقسام : فعل ينصب بحرف ظاهر ولا يجوز إضماره وفعل ينتصب بحرف يجوز أن يضمر وفعل ينتصب بحرف لا يجوز إظهاره والحروف التي تنصب : أن ولن وكي وإذن.

الأول : ما انتصب بحرف ظاهر لا يجوز إضماره ، وذلك ما انتصب بلن وكي تقول : لن يقوم زيد ولن يجلس فقولك : لن يفعل يعني : سيفعل يقول القائل : سيقوم عمرو فتقول : لن يقوم عمرو وكان الخليل يقول : أصلها لا أن فألزمه سيبويه : أن يكون يقدم ما في صلة (أن) في قوله : زيدا لن أضرب وليس يمتنع أحد من نصب هذا وتقديمه ، فإن كان على تقديره فقد قدم ما في الصلة على الموصول.

وأما (كي) فجواب لقولك : لمه إذا قال القائل : لم فعلت كذا فتقول : كي يكون كذا ولم جئتني فتقول : كي تعطيني فهو مقارب لمعنى اللام إذا قلت : فعلت ذلك لكذا فأما قول من قال : كيمه في الاستفهام فإنه جعلها مثل لمه فقياس ذلك أن يضمر (أن) بعد (كي) إذا قال : كي يفعل ؛ لأنه قد أدخلها على الأسماء.

وكذا قول سيبويه : والذي عندي أنه إنما قيل : كيمه لما تشبيها.

وقد يشبهون الشيء بالشيء ، وإن كان بعيدا منه.

وأما (إذن) فتعمل إذا كانت جوابا وكانت مبتدأة ولم يكن الفعل الذي بعدها معتمدا على ما قبلها وكان فعلا مستقبلا فإنما يعمل بجميع هذه الشرائط ، وذلك أن يقول القائل : أنا أكرمك فتقول : إذن أجيئك إذن أحسن إليك إذن آتيك.

فإن اعتمدت بالفعل على شيء قبل (إذن) نحو قولك : أنا إذن آتيك رفعت وألغيت كما تلغى ظننت وحسبت وليس بشيء من أخواتها التي تعمل في الفعل يلغى غيرها فهي في

٧

الحروف نظير أرى في الأفعال ومن ذلك إن تأتني إذن آتك ؛ لأن الفعل جواب : إن تأتني ، فإن تم الكلام دونها جاز أن تستأنف بها وتنصب ويكون جوابا ، وذلك نحو قول ابن عنمة :

أردد حمارك لا تنزع سويّته

إذن يردّ وقيد العير مكروب (١)

فهذا نصب ؛ لأن ما قبله من الكلام قد استغنى وتمّ ألا ترى أنّ قوله : اردد حمارك لا تنزع سويته كلام قد ثمّ ثم استأنف كأنه أجاب من قال : لا أفعل ذاك فقال :

إذن يردّ وقيد العير مكروب

فإن كان الفعل الذي دخلت عليه (إذن) فعلا حاضرا لم يجز أن تعمل فيه ؛ لأن أخواتها لا يدخلن إلا على المستقبل ، وذلك إذا حدثت بحديث فقلت : إذن أظنه فاعلا وإذن أخالك كاذبا ، وذلك لأنك تخبر عن الحال التي أنت فيها في وقت كلامك فلا تعمل (إذن) ؛ لأنه موضع لا تعمل فيه أخواتها فإذا وقعت (إذن) بين الفاء والواو وبين الفعل المستقبل فإنك فيها بالخيار : إن شئت أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدة منها بين اسمين ، وإن شئت ألغيت فأما الإعمال فقولك : فإذن آتيك فإذن أكرمك.

قال سيبويه : وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف : (وإذن لا يلبثوا (خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٦] ، وأما الإلغاء فقولك : فإذن أجيئك ، وقال عز وجل : فإذن (لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣].

واعلم أنه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بسوى إذن وهي تلغى وتقدم وتؤخر تقول : إذن والله أجيئك فتفصل والإلغاء قد عرفتك إياه وتقول : أنا أفعل كذا إذن

__________________

(١) على أنه يجوز على مذهب الكسائي أن يكون لا يرتع مجزوما بكون لا فيه للنهي ، لا أنه جواب الأمر.

ويرد مجزوما لا منصوبا بكونه جوابا للنهي ، كما هو مذهبه في نحو : لا تكفر تدخل النار. فيكون المعنى لا يرتع ، إن يرتع يرد. وعند غيره : يرد منصوب ، وإذن منقطع عما قبله مصدر ، كأن المخاطب قال : لا أزجره.

فأجاب بقوله : إذن يرد.

أقول : يكون لا يرتع على قول الكسائي بدلا من ازجر ، وهو أوفى من الأول في تأدية المعنى المراد. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٤٦.

٨

فتؤخرها وهي ملغاة أيضا ، وإذا قلت : إذن عبد الله يقول ذلك فالرفع لا غير ؛ لأنه قد وليها المبتدأ فصارت بمنزلة (هل) وزعم عيسى : أن ناسا يقولون : إذن أفعل في الجواب.

الثاني ما انتصب بحرف يجوز إظهاره وإضماره :

وهذا يقع على ضربين : أحدهما أن تعطف بالفعل على الاسم والآخر أن تدخل لام الجر على الفعل فأما الضرب الأول من هذا وهو أن تعطف الفعل على المصدر فنحو قولك :

يعجبني ضرب زيد وتغضب. تريد : وأن تغضب فهذا إظهار (أن) فيه أحسن.

ويجوز إضمارها فأن مع الفعل بمنزلة المصدر فإذا نصبت فقد عطفت اسما على أسم ولو لا أنك أضمرت (أن) ما جاز أن تعطف الفعل على الاسم ؛ لأن الأسماء لا تعطف على الأفعال ولا تعطف الأفعال على الأسماء ؛ لأن العطف نظير التثنية فكما لا يجتمع الفعل والاسم في التثنية كذلك لا يجتمعان في العطف فمما نصب من الأفعال المضارعة لما عطف على اسم قول الشاعر :

للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (١)

__________________

(١) على أن تقر منصوب بأن بعد واو العطف.

قال سيبويه : لما لم يستقم أن تحمل وتقر وهو فعل ، على لبس وهو اسم ، ولما ضممته إلى الاسم ، وجعلت أحب لهما ، ولم ترد قطعه ، لم يكن بد من إضمار أن.

قال النحاس : قال أبو الحسن : أي لم ترد لبس عباءة أحب إلي. وأن تقر عيني ، لأن هذا يبطل المعنى ، لأنه لم يرد أن لبس عباءة أحب إليه. هذا سخف ، إنما أراد قرة العين ، فلهذا نصب.

وقال الأعلم : نصب تقر بإضمار أن ليعطف على اللبس ، لأنه اسم وتقر فعل ، فلم يمكن عطفه عليه ، فحمل على إضمار إن لأن أن وما بعدها اسم ، فعطف اسما على اسم وجعل الخبر عنهما واحدا ، وهو أحب.

والمعنى : لبس عباءة مع قرة العين ، وصفاء العيش أحب إلي من لبس الشفوف مع سخنة العين ونكد العيش.

والعباءة : جبة الصوف. والشفوف : ثياب رقاق تصب البدن ، واحدها شفّ. انتهى.

فإن قلت : ما الفرق بين واو الجمع ، وواو العطف ، وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت : واو الجمع في الأصل للعطف ، لكنه خص ببعض أحواله ، وذلك أن المعطوف قد يكون قبل المعطوف عليه في الوجود ، وقد يكون بعده ، وقد يكون معه ، نحو : جاء زيد وعمرو قبله أو بعده أو معه.

٩

كأنه قال : للبس عباءة وأن تقرّ عيني.

وأما الضرب الآخر فما دخلت عليه لام الجر ، وذلك نحو قولك : جئتك لتعطيني ولتقوم ولتذهب وتأويل هذا : جئتك ؛ لأن تقوم جئتك ؛ لأن تعطيني ولأن تذهب ، وإن شئت أظهرت فقلت (لأنّ) في جميع ذلك ، وإن شئت حذفت (أن) وأضمرتها ويدلك على أنه لا بدّ من إضمار (أن) هنا إذا لم تذكرها أن لام الجر لا تدخل على الأفعال وأن جميع الحروف العوامل في الأسماء لا تدخل على الأفعال وكذلك عوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء وليس لك أن تفعل هذا مع غير اللام لو قلت : هذا لك بتقوم تريد بأن تقوم لم يجز وإنما شاع هذا مع اللام من بين حروف الجر فقط للمقاربة التي بين كي واللام في المعنى.

الثالث وهو الفعل الذي ينتصب بحرف لا يجوز إظهاره :

وذلك الحرف (أن) والحروف التي تضمر معها ولا يجوز إظهارها أربعة أحرف (حتى) إذا كانت بمعنى إلى أن والفاء إذا عطفت على معنى الفعل لا على لفظه والواو إذا كانت بمعنى الاجتماع فقط وأو إذا كانت بمعنى إلى (أن).

شرح الأول من ذلك وهو حتى :

اعلم أن (حتى) إذا وقعت الموقع الذي تخفض فيه الأسماء ووليها فعل مضارع أضمر بعدها (أن) ونصب الفعل وهي تجيء على ضربين : بمعنى (إلى) وبمعنى (كي) فالضرب الأول قولك : أنا أسير حتى أدخلها والمعنى : أسير إلى أن أدخلها وسرت حتى أدخلها كأنه قال : سرت إلى دخولها فالدخول غاية للسير وليس بعلة للسير وكذلك : أنا أقف حتى تطلع

__________________

ـ فخص واو الجمع بما يكون بمعنى مع ، فهو باعتبار أصل معنى العطف احتاج إلى تقدير مصدر منتزع من الأول. وباعتبار اختصاصه العارض بحال المعية ، صار كأنه قسيم للعطف المطلق الذي لا يتقيد. فواو الجمع عطف مقيد بالمعية ، وواو العطف غير مقيد بها. فهذا هو الفرق.

وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : ولو رفعت وتقر لجاز ، على أن ينزل الفعل منزلة المصدر ، ونحو قولهم : " تسمع بالمعيدي" ، فتسمع منزل منزلة سماعك. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٧٨.

١٠

الشمس وسرت حتى تطلع الشمس والضرب الآخر أن يكون الدخول علة للسير فتكون بمعنى (كي) كأنه قال : (سرت كي أدخلها) فهذا الوجه يكون السير فيه كان والدخول لم يكن كما تقول : أسلمت حتى أدخل الجنة وكلمته كي يأمر لي بشيء (فحتىّ) متى كانت من هذين القسمين اللذين أحدهما يكون غاية الفعل وهي متعلقة به وهي من الجملة التي قبلها فهي ناصبة ، وإن جاءت بمعنى العطف فقد تقع ما بعدها جملة وارتفاع الفعل بعدها على وجهين :

على أن يكون الفعل الذي بعدها متصلا بالفعل الذي قبلها أو يكون منقطعا منه ولا بدّ في الجميع من أن يكون الفعل الثاني يؤديه الفعل الأول فأما الوجه الأول فنحو قولك : سرت حتى أدخلها ذكرت أن الدخول اتصل بالسير بلا مهلة بينهما كمعنى الفاء إذا عطفت بها فقلت : سرت فأنا أدخلها.

وصلت الدخول بالسير كما قال الشاعر :

ترادى على دمن الحياض ، فإن تعف

فإنّ المندّى رحلة فركوب

وينشد تراد لم يجعل بين الرحلة والركوب مهلة ولم يرد أنّ رحلته فيما مضى وركوبه الآن ولكنه وصل الثاني بالأول ومعنى قولي : إنّك إذا رفعت ما بعد حتى فلا بدّ من أن يكون الفعل الذي قبلها هو الذي أدى الفعل الذي بعدها أن السير به كان الدخول إذا قلت : سرت حتى أدخلها ، ولو لم يسر لم يدخلها.

ولو قلت : سرت حتى يدخل زيد فرفعت (يدخل) لم تجر ؛ لأن سيرك لا يؤدي زيدا إلى الدخول ، فإن نصبت وجعلتها غاية جاز فقلت : سرت حتى يدخل زيد تريد إلى أن يدخل زيد وكذلك : سرت حتى تطلع الشمس ولا يجوز أن ترفع (تطلع) ؛ لأن سيرك ليس بسبب لطلوع الشمس وجاز النصب ؛ لأن طلوع الشمس قد يكون غاية لسيرك.

وأما الوجه الثاني من الرفع : فأن يكون الفعل الذي بعد (حتّى) حاضرا ولا يراد به اتصاله بما قبله ويجوز أن يكون ما قبله منقطعا ومن ذلك قولك : لقد سرت حتى أدخلها وما أمنع حتى أني أدخلها الآن أدخلها كيف شئت ومثل قول الرجل : لقد رأى مني عاما أول شيئا حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء.

١١

ولقد مرض حتى لا يرجونه إنما يراد أنه الآن لا يرجونه وأن هذه حاله وقت كلامه (فحتى) هاهنا كحرف من حروف الابتداء والرفع في الوجهين جميعا كالرفع في الاسم ؛ لأن حتى ينبغي أن يكون الفعل الأول هو الذي أدى إلى الثاني ؛ لأنه لو لا سيره لم يدخل ولو لا ما رأى منه في العام الأول ما كان لا يستطيع أن يكلمه العام ولو لا المرض ما كان لا يرجى وهذا مسألة تبين لك فيما فرق ما بين النصب والرفع تقول : كان سيري حتى أدخلها فإذا نصبت كان المعنى : إلى أن أدخلها فتكون (حتى) وما عملت فيه خبر كان ، فإن رفعت ما بعد (حتى) لم يجز أن تقول : كان سيري حتّى أدخلها لأنك قد تركت (كان) بغير خبر ؛ لأن معنى (حتى) معنى الفاء فكأنك قلت : كان سيري فأدخلها ، فإن زدت في المسألة ما يكون خبرا (لكان) جاز فقلت : كان سيري سيرا متعبا حتى أدخلها وعلى ذلك قرىء : (حتى يقول الرسول) (١) [البقرة : ٢١٤] وحتى يقول : من نصب جعله غاية ومن رفع جعله حالا.

__________________

(١) اختلفوا في نصب اللام ورفعها من قوله جل وعز : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ.)

فقرأ نافع وحده : حتى يقول الرسول برفع اللام.

وقرأ الباقون : حتى يقول الرسول نصبا. وقد كان الكسائي يقرؤها دهرا رفعا ، ثم رجع إلى النصب.

وروى ذلك عنه الفراء ، قال : حدثني به ، وعنه محمد بن الجهم ، عن الكسائي.

قال أبو علي : قوله عز وجل : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) من نصب فالمعنى : وزلزلوا إلى أن قال الرسول.

وما ينتصب بعد حتى من الأفعال المضارعة على ضربين : أحدهما : أن يكون بمعنى إلى ، وهو الذي تحمل عليه الآية. والآخر : أن يكون بمعنى كي ، وذلك قولك : أسلمت حتى أدخل الجنة ، فهذا تقديره : أسلمت كي أدخل الجنة. فالإسلام قد كان ، والدخول لم يكن ، والوجه الأول من النصب قد يكون الفعل الذي قبل حتى مع ما حدث عنه قد مضيا جميعا. ألا ترى أن الأمرين في الآية كذلك.

وأما قراءة من قرأ : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) بالرفع ، فالفعل الواقع بعد حتى إذا كانا مضارعا لا يكون إلا فعل حال ، ويجييء أيضا على ضربين :

أحدهما : أن يكون السبب الذي أدّى الفعل الذي بعد حتى قد مضى ، والفعل المسبب لم يمض ، مثال ذلك قولهم : (مرض حتى لا يرجونه) و: (شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه). وتتجه على هذا الوجه الآية ،

١٢

شرح الثاني : وهو الفاء :

اعلم أن الفاء عاطفة في الفعل كما يعطف في الاسم كما بينت لك فيما تقدم فإذا قلت : زيد يقوم فيتحدث فقد عطفت فعلا موجبا على فعل موجب ، وإذا قلت : ما يقوم فيتحدث فقد عطفت فعلا منفيا على منفيّ فمتى جئت بالفاء وخالف ما بعدها ما قبلها لم يجز أن تحمل عليه فحينئذ تحمل الأول على معناه وينصب الثاني بإضمار (أن) ، وذلك قولك : ما تأتني فتكرمني وما أزورك فتحدثني لم ترد : ما أزورك وما تحدثني ولو أردت ذلك لرفعت ولكنك لما خالفت في المعنى فصار : ما أزورك فكيف تحدثني وما أزورك إلّا لم تحدثني جمل الثاني على مصدر الفعل الأول وأضمر (أن) كي يعطف اسما على اسم فصار المعنى ما يكون زيارة مني فحديث منك.

وكذا كلما كان غير واجب نحو الأمر والنهي والاستفهام فالأمر نحو قولك : إئتني فأكرمك والنهي مثل : لا تأتني فأكرمك والاستفهام مثل : أتأتني فأعطيك ؛ لأنه إنما يستفهم عن الإتيان ولم يستفهم عن الإعطاء وإنما تضمر (أن) إذا خالف الأول الثاني فمتى أشركت الفاء الفعل الثاني بالأول فلا تضمر (أن) وكذلك إذا وقعت موقع الابتداء أو مبنيّ على الابتداء.

__________________

ـ كأن المعنى : وزلزلوا فيما مضى ، حتى أن الرسول يقول الآن : متى نصر الله ، وحكيت الحال التي كانوا عليها ، كما حكيت الحال في قوله : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) وفي قوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ.)

والوجه الآخر من وجهي الرفع : أن يكون الفعلان جميعا قد مضيا ، نحو : سرت حتى أدخلها ، فالدخول متصل بالسير بلا فصل بينهما ، كما كان في الوجه الأول بينهما فصل. والحال في هذا الوجه أيضا محكيّة ، كما كانت محكية في الوجه الآخر ، ألا ترى أن ما مضى لا يكون حالا؟. وحتى إذا رفع الفعل بعدها ، حرف ، يصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ، وليست العاطفة ولا الجارّة ، وهي ـ إذا انتصب الفعل بعدها ـ الجارّة للاسم ، وينتصب الفعل بعدها بإضمار أن ، كما ينتصب بعد اللام بإضمارها. [الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٣٠٦].

١٣

شرح الثاني : وهو الواو :

الواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء وإنما تكون كذلك إذا لم ترد الإشراك بين الفعل والفعل وأردت عطف الفعل على مصدر الفعل الذي قبلها كما كان في الفاء وأضمرت (أن) وتكون الواو في جميع هذا بمعنى (مع) فقط ، وذلك قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بين أكل السمك وشرب اللبن ، فإن نهاه عن كل واحد منهما على حال قال : ولا تشرب اللبن على حال وتقول : لا يسعني شيء ويعجز عنك فتنصب ولا معنى للرفع في (يعجز) ؛ لأنه ليس يخبر أن الأشياء كلها لا تسعه وأن الأشياء كلها لا تعجز عنه إنما يعني لا يجتمع أن يسعني شيء ويعجز عنك كما قال :

لاتنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (١)

__________________

(١) على أن تأتي منصوب بأن مضمرة بعد واو الجمعية الواقعة بعد النهي.

قال سيبويه : واعلم أن الواو وإن جرت هذا المجرى ، فإن معناها ومعنى الفاء مختلفان.

ألا ترى الأخطل قال :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... البيت

فلو دخلت الفاء هاهنا ، لأفسدت المعنى ، وإنما أراد : لا تجمعن النهي ، والإتيان ، فصار تأتي على إضمار أن.

انتهى.

ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : وأنت تأتي ، ولا يجوز جزمه ، لفساد المعنى. وعار خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عار. وعظيم. صفته. وهذه الجملة دليل جواب إذا. ومعنى البيت من قوله تعالى : "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ".

وقال الحاتمي : هذا أشرد بيت قيل في تجنب إتيان ما نهي عنه. والبيت وجد في عدة قصائد. ومنه اختلف في قائله ، فنسبه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في أمثاله إلى المتوكل بن عبد الله الليثي الكناني. وأورده في باب تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه.

والمتوكل الليثي من شعراء الإسلام ، وهو من أهل الكوفة ، وكان في عصر معاوية وابنه يزيد ، ومدحهما.

ونسبه إليه أيضا الآمدي في المؤتلف والمختلف ، وقال فيمن يقال له المتوكل : منهم المتوكل الليثي ، وهو المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٧٥.

١٤

أي : لا يجتمع أن تنهي وتأتي ولو جزم كان المعنى فاسدا.

ولو قلت بالفاء : لا يسعني شيء فيعجز عنك كان جيدا ؛ لأن معناه : لا يسعني شيء إلا لم يعجز عنك ولا يسعني شيء عاجزا عنك.

فهذا تمثيل كما تمثل : ما تأتيني فتحدثني إذا نصبت بما تأتيني إلّا لم تحدثني وبما تأتيني محدثا وتنصب مع الواو في كل موضع تنصب فيه مع الفاء وكذلك إذا قلت : زرني فأزورك تريد ليجتمع هذان قال الشاعر :

ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء (١)

أراد : ألم يجتمع هذان ولو أراد الإفراد فيهما لم يكن إلا مجزوما والآية تقرأ على وجهين (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] وإنما وقع النصب في باب الواو والفاء في غير الواجب ؛ لأنه لو كان الفعل المعطوف عليه واجبا لم يبن الخلاف فيصلح إضمار (أن).

شرح الرابع وهو (أو):

اعلم أن الفعل ينتصب بعدها إذا كان المعنى معنى إلا أن تفعل تقول : لألزمنّك أو تعطيني كأنه قال : ليكوننّ اللزوم والعطية وفي مصحف أبي (تقاتلونهم أو يسلموا) على معنى :

إلا أن يسلموا أو حتى يسلموا وقال امرؤ القيس :

فقلت له : لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (٢)

__________________

(١) انظر الأغاني ٢ / ٣٦٤.

(٢) على أن سيبويه جوز الرفع في قوله : نموت إما بالعطف على نحاول ، أو على القطع ، أي : نحن نموت.

وهذا نص سيبويه : واعلم أن معنى ما انتصب بعد أو على إلا أن ، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء.

تقول : لألزمنك ، أو تقضيني حقي ، ولأضربنك أو تسبقني. فالمعنى لألزمنك إلا أن تقضيني ، ولأضربنك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب.

قال امرؤ القيس :

١٥

أي : إلا أن نموت فنعذرا فكل موضع وقعت فيه أو يصلح فيه إلا أن وحتى فالفعل منصوب ، فإن جاء فعل لا يصلح هذا فيه رفعت ، وذلك نحو قولك أتجلس أو تقوم يا فتى والمعنى : أيكون منك أحد هذين وهل تكلمنا أو تنبسط إلينا لا معنى للنصب هنا وقال الله عز وجل : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ٧٢ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء] فهذا مرفوع لا يجوز فيه النصب ؛ لأن هذا موضع لا يصلح فيه (إلّا أن).

الأفعال المجزومة :

الحروف التي تجزم خمسة : (لم ولمّا ولا في النهي ، واللام في الأمر ، وإن التي للجزاء) وهذه الحروف تنقسم قسمين : فأربعة منها لا يقع موقعها غيرها ولا تحذف من الكلام إذا أريدت وهي لم ولمّا ولا في النهي ولام الأمر والقسم الآخر حرف الجزاء قد يحذف ويقع موقعه غيره من الأسماء وحذف حرف الجزاء على ضربين : ضرب يقوم مقامه اسم يجازى به وضرب يحذف البتة ويكون في الكلام دليل عليه والأسماء التي يجازى بها على ضربين : اسم غير ظرف واسم ظرف وهو نحو : ما ومن وأي وأين ومتى وحيثما ومتهما وإذ ما.

شرح القسم الأول وهو الأحرف الأربعة : (لم ولمّا ولا في النهي ، ولام الأمر) أما لم فتدخل على الأفعال المضارعة واللفظ لفظ المضارع والمعنى معنى الماضي تقول : لم يقم زيد أمس ولم يقعد خالد ، وأما (لمّا) لم ضمت إليها (ما) وبنيت معها فغيرت حالها كما غيرت لو (ما) ونحوها ألا ترى أنك تقول : لمّا ولا يتبعها شيء ولا تقول ذلك في (لم) وجواب (لمّا) قد فعل يقول القائل : لمّا يفعل فيقول : قد فعل ويقول أيضا للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره وتقول : لما جئت جئت فيصير ظرفا ، وأما (لا في

__________________

فقلت له لا تبك عينك ... البيت

والقوافي منصوبة ، فالتمثيل على ما ذكرت لك ، والمعنى على إلا أن نموت فنعذرا. ولو رفعت لكان عربيا جيدا على وجهين : على أن تشرك بين الأول والآخر ، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأول ، يعني أو نحن ممن يموت. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٦٩.

١٦

النهي) فنحو قولك : لا تقم ولا تقعد ولفظ الدعاء لفظ النهي كما كان كلفظ الأمر تقول : لا يقطع الله يدك ولا يتعس الله جدك ولا يبعد الله غيرك ولا في النهي بمعنى واحد لأنك إنّما تأمره أن يكون ذلك الشيء الموجب منفيا ألا ترى أنّك إذا قلت : قم إنّما تأمره بأن يكون منه قيام فإذا نهيت فقلت : لا تقم فقد أردت منه نفي ذلك فكما أنّ الأمر يراد به الإيجاب فكذلك النهي يراد به النفي ، وأما لام الأمر فنحو قولك : ليقم زيد وليقعد عمرو ولتقم يا فلان تأمر بها المخاطب كما تأمر الغائب وقال عز وجل : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] ويجوز حذف هذه اللام في الشعر وتعمل مضمرة قال متمم بن نويرة :

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي

لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى (١)

أراد : ليبك ولا يجوز أن تضمر لم ولا في ضرورة شاعر.

ولو أضمرا لالتبس الأمر بالإيجاب.

شرح القسم الثاني وهو حرف الجزاء :

اعلم أنّ لحرف الجزاء ثلاثة أحوال حال يظهر فيها وحال يقع موقعه اسم يقوم مقامه ولا يجو أن يظهر معه والثالث أن يحذف مع ما عمل فيه ويكون في الكلام دليل عليه.

__________________

(١) قال الأعلم : هذا من أقبح الضرورة ، لأن الجازم أضعف من الجار ، وحرف الجر لا يضمر. وقد قيل :

إنه مرفوع حذفت لامه ضرورة ، واكتفي بالكسرة منها. وهذا أسهل في الضرورة وأقرب.

وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يقول : سمعت محمد بن يزيد ينشد هذا البيت ، ويلحن قائله ، وقال : أنشده الكوفيون ، ولا يعرف قائله ، ولا يحتج به ، ولا يجوز مثله في شعر ولا غيره ؛ لأن الجازم لا يضمر ؛ ولو جاز هذا ، لجاز يقم زيد ، بمعنى : ليقم. وحروف الجزم لا تضمر ، لأنها أضعف من حروف الخفض ، وحرف الخفض لا يضمر.

فبعد أن حكى لنا أبو الحسن هذه الحكاية ، وجدت هذا البيت في كتاب سيبويه يقول فيه : وحدثني أبو الخطاب أنه سمع هذا البيت ممن قاله.

قال أبو إسحاق الزجاج احتجاجا لسيبويه : في هذا البيت حذف اللام ، أي : لتفد. قال : وإنما سماه إضمارا ، لأنه بمنزلته.

وأما قوله : أو يبك من بكى ، فهذا البيت لفصيح ، وليس هذا مثل الأول ، وإن كان سيبويه قد جمع بينهما.

انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٨٣.

١٧

فأما الأول الذي هو حرف الجزاء : فإن الخفيفة ويقال لها : أم الجزاء ، وذلك قولك : إن تأتني آتك ، وإن تقم أقم. فقولك : إن تأتني شرط وآتك جوابه ولا بدّ للشرط من جواب وإلا لم يتم الكلام وهو نظير المبتدأ الذي لا بدّ له من خبر ألا ترى أنّك لو قلت : (زيد) لم يكن كلاما يقال فيه صدق ولا كذب فإذا قلت : منطلق تمّ الكلام فكذلك إذا قلت : إن تأتني لم يكن كلاما حتى تقول : آتك وما أشبه وحقّ (إن) في الجزاء أن يليها المستقبل من الفعل لأنك إنما تشترط فيما يأتي أن يقع شيء لوقوع غيره ، وإن وليها فعل ماض أحالت معناه إلى الإستقبال ، وذلك قولك : إن قمت قمت إنما المعنى : إن تقم أقم (فإن) تجعل الماضي مستقبلا كما أنّ (لم) إذا وليها المستقبل جعلته ماضيا تقول : لم يقم زيد أمس والمعنى : ما قام فعلى هذا يجوز أن تقول :

إن لم أقم لم أقم فلا بد لشرط الجزاء من جواب والجواب يكون على ضربين : بالفعل ويكون بالفاء فالفعل ما خبرتك به فأما الفاء فنحو قولك : إن تأتني فأنا أكرمك ، وإن تأت زيدا فأخوه يحسن إليك ، وإن تتّق الله فأنت كريم فحق الفاء إذا جاءت للجواب أن يبتدأ بعدها اللام ولا يجوز أن تعمل فيما بعدها شيء مما قبلها وكذلك قولك : إن تأتني فلك درهم وما أشبه هذا وقد أجازوا للشاعر إذا اضطر أن يحذف الفاء.

وأما الثاني : فأن يقع موقع حرف الجزاء اسم والأسماء التي تقع موقعه على ضربين : اسم غير ظرف واسم ظرف.

فالأسماء التي هي غير الظروف : من وما وأيّهم تقول : من تكرم أكرم وكان الأصل : إن تكرم زيدا وأشباه زيد أكرم فوقعت (من) لما يعقل كما وقعت (من) في الاستفهام مبهمة لما في ذلك من الحكمة وكذلك : ما تصنع أصنع وأّيّهم تضرب أضرب تنصب أيهم بتضرب ؛ لأن المعنى : إن تضرب أيا ما منهم أضرب ولكن لا يجوز أن تقدم (تضرب) على (أي) ؛ لأن هذه الأسماء إذا كانت جزاء أو استفهاما فلها صدور الكلام كما كان للحروف التي وقعت مواقعها فكذلك من وما إذا قلت : من تكرم أكرم وما تصنع أصنع.

وموضعها نصب ، وإذا أردت أن تبين مواضعها من الإعراب فضع موضعها (إن) حتى يتبين لك ، وإذا قلت : من يقم أقم إليه فموضع (من) رفع لأنها غير معقولة وكذا ايهم يضرب

١٨

زيدا أضربه وأيهم يأتني أحسن إليه ، وأما (مهما) فقال الخليل : هي (ما) أدخلت معها (ما) لغوا وأبدلوا الالف هاء.

قال سيبويه : ويجوز أن تكون كإذ ضمت إليها (ما) ، وأما الظروف التي يجازى بها : فمتى وأين وأنّى وأي حين وحيثما وإذ ما لا يجازى بحيث وإذ حتى يضم إليهما (ما) تصير مع كل واحد منهما بمنزلة حرف واحد.

فتقول إذا جازيت بهن : متى تأتني آتك وأين تقم أقم وأنى تذهب أذهب وأي حين تصل أصل (فأيّ) إلى أي شيء أضفتها كانت منه إن أضفتها إلى الزمان فهي زمان.

وإن أضفتها إلى المكان فهي مكان وتقول : حيثما تذهب أذهب وإذ ما تفعل أفعل قال الشاعر :

إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي

أصعّد سيرا في البلاد وأفرع (١)

فإنّي من قوم سواكم وإنّما

رجالي فهم بالحجاز وأشجع

__________________

(١) قال ابن يعيش : إن قيل : إذ ظرف زمان ماض ، والشرط لا يكون إلا بالمستقبل ، فيكف يصح المجازاة بها؟ فالجواب من وجهين.

أحدهما : أن إذ هذه التي تستعمل في الجزاء مع ما ، ليست الظرفية ، وإنما هي حرف غيرها ضمت إليها ما ، فركبا دلالة على هذا المعنى كإما.

والثاني : أنها الظرفية ، إلا أنها بالتركيب غيرت ونقلت ، وغيرت عن معناها بلزوم ما إياها إلى المستقبل ، وخرجت بذلك إلى حيز الحروف.

ولذلك قال سيبويه : ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحدة منهما ما ، إلخ. اه؟.

ورواه أهل السير ، منهم ابن هشام :

إما أتيت على النبي فقل له

وعليه لا شاهد فيه ، وأصله إن ما ، وهي إن الشرطية ، وما الزائدة.

والبيت من قصيدة للعباس بن مرداس الصحابي ، قالها في غزوة حنين يخاطب بها النبي صلّى الله عليه وسلم ، ويذكر بلاءه وإقدامه مع قومه في تلك الغزوة وغيرهما من الغزوات ، وعدتها ستة عشر بيتا. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٨٨.

١٩

قال سيبويه : والمعنى : إما.

وإذا لا يجازى بها إلا في الشعر ضرورة وهي توصل بالفعل كما توصل (حيث) ويقع بعدها مبتدأ وكل الحروف والأسماء التي يجازى بها فلك أن تزيد عليها (ما) ملغاة ، فإن زدت (ما) على (ما) لم يحسن حتى تقول : مهما فيتغير فأمّا (حيثما وإذ ما) لا يجازى بهما إلّا و (ما) لازمة لهما.

واعلم أن الفعل في الجزاء ليس بعلة لما قبله كما أنه في حروف الاستفهام ليس بعلة لما قبله.

واعلم أن الفعل إذا كان مجزوما في الجزاء وغيره فإنه يعمل عمله إذا كان مرفوعا أو منصوبا تقول إن تأتني ماشيا أمش معك ، وإن جعلت (تمشي) موضع (ماشيا) جاز فقلت : إن تأتني تمشي أمش معك ، وإن تأتني تضحك أذهب معك تريد (ضاحكا) ، فإن جئت بفعل يجوز أن يبدل من فعل ولم ترد الحال جزمت فقلت : إن تأتني تمش أمش معك وإنّما جاز البدل ؛ لأن المشي ضرب من الإتيان ولو لم يكن ضربا منه لم يجز لا يصلح أن تقول : إن تأتني تضحك أمشي معك فتجزم (تضحك) وتجعله بدلا وقد كنت عرفتك أنّ جميع جواب الجزاء لا يكون إلا بالفعل أو بالفاء وحكى الخليل : أنّ (إذا) تكون جوابا بمنزلة الفاء لأنها في معناها ؛ لأن الفاء تصحب الثاني الأول وتتبعه إياه ، وإذا وقعت لشيء يصحبه ، وذلك قوله عز وجل :

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦].

والمعنى : إن أصابتهم سيئة قنطوا ونظيره : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) [الأعراف : ١٩٣] بمنزلة : أم صمتم ولا يجوز : إن تأتني لأفعلنّ.

ويجوز : إن أتيتني لأكرمنّك ، وإن لم تأتني لأغمنك ؛ لأن المعنى : لئن أتيتني لأكرمنّك فما حسن أن تدخل اللام على الشرط فيه حسن أن يكون الجواب لأفعلنّ وما لم يحسن في الشرط اللام لم يحسن في الجواب ؛ لأن الجواب تابع فحقه أن يكون على شكل المتبوع ولا يحسن أن تقول : لإن تأتني لأفعلنّ فلما قبح دخول اللام في الشرط قبح في الجواب ولو قلت ذاك أيضا لكنت قد جزمت (بإن) الشرط وأتيت بجوابها غير مجزوم ويجوز أن تقول : (آتيك إن تأتني)

٢٠