الأصول في النحو - ج ٢

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-406-X
الصفحات: ٥٣٥

الاتساع

اعلم أن الاتساع ضرب من الحذف إلا أن الفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله أن هذا تقيمه مقام المحذوف وتعربه بإعرابه ، وذلك الباب تحذف العامل فيه وتدع ما عمل فيه على حاله في الإعراب وهذا الباب العامل فيه بحاله وإنما تقيم فيه المضاف إليه مقام المضاف أو تجعل الظرف يقوم مقام الاسم فأمّا الاتساع في إقامة المضاف إليه مقام المضاف فنحو قوله :(سل (الْقَرْيَةَ)(١)) [يوسف : ٨٢] تريد : أهل القرية وقول العرب : بنو فلان يطؤهم الطريق :يريدون : أهل الطريق وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] إنما هو بر من آمن بالله.

وأما اتساعهم في الظروف فنحو قولهم : (صيد عليه يومان) وإنما المعنى : صيد عليه الوحش في يومين ، (وولد له الولد ستون عاما) والتأويل : (ولد له في ستين عاما) ومن ذلك قوله عز وجل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] وقولهم : (نهارك صائم وليلك قائم) وإنما المعنى : (أنّك صائم في النهار وقائم في الليل) وكذلك :

يا سارق اللّيلة أهل الدّار (٢)

__________________

(١) قال أبو عبيد : ومن مجاز ما حذف وفيه مضمر ، قال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) (١٢٨٢) ، فهذا محذوف فيه ضمير مجازه : وسل أهل القرية ، ومن في العير : انظر مجاز القرآن ص / ٧.

(٢) على أنه قد يتوسع في الظروف المنصرفة فيضاف إليها المصدر والصفة المشتقة منه ، فإن الليل ظرف متصرّف ، وقد أضيف إليه سارق وهو وصف.

وقد وقع هذا في كتاب سيبويه. وأورده الفرّاء أيضا في تفسيره ، عند قوله تعالى "فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ" وقال : أضاف سارق إلى الليلة ونصب أهل. وكان بعض النحوييين ينصب الليلة ويخفض أهل ، فيقول : يا سارق الليلة أهل الدار هذا كلامه.

قال ابن خروف في شرح الكتاب : أهل الدار منصوب بإسقاط الجار ، ومفعوله الأول محذوف والمعنى : يا سارق الليلة لأهل الدار متاعا ، فسارق متعد لثلاثة ، أحدهما الليلة على السعة ، والثاني بعد إسقاط حرف الجر ، والثالث مفعول حقيقي. وجميع الأفعال متعديها ولازمها يتعدى إلى الأزمنة والأمكنة. انتهى. ـ وفيه نظر ، فإن أهل اللغة نقلوا : أن سرق يتعدى بنفسه إلى مفعولين ، قال صاحب المصباح وغيره : سرقه مالا يسرقه من باب ضرب ، وسرق منه مالا ، يتعدى إلى الأول بنفسه وبالحرف على الزيادة. انتهى. انظر خزانة الأدب ١ / ٣٤٦.

١٠١

وإنما سرق في الليلة وهذا الاتساع أكثر في كلامهم من أن يحاط به وتقول : (سرت فرسخين يومين) إن شئت نصبت. انتصاب الظروف وإن شئت جعلت نصبهما بأنهما مفعولان على السعة وعلى ذلك قولك : (سير بزيد فرسخان يومين) إذا جعلت الفرسخين يقومان مقام الفاعل ولك أن تقول : سير بزيد فرسخين يومان فتقوم اليومين مقام الفاعل.

اعلم أن الإلغاء إنما هو أن تأتي الكلمة لا موضع لها من الإعراب إن كانت مما تعرب وإنها متى أسقطت من الكلام لم يختل لكلام وإنما يأتي ما يلغى من الكلام تأكيدا أو تبيينا والجمل التي تأتي مؤكدة ملغاة أيضا وقد عمل بعضها في بعض فلا موضع لها من الإعراب والتي تلغى تنقسم أربعة أقسام : اسم وفعل وحرف وجملة.

الأول : الاسم : وذلك نحو : (هو) إذا كان الكلام فصلا فإنه لا موضع له من الإعراب لو كان له موضع لوجب أن يكون له خبر إن كان مبتدأ أو يكون له مبتدأ إن كان هو خبرا وقيل في قوله : (ولباس التقوى ذلك خير) (ذلك) زائدة.

الثاني : الفعل : ولا يجوز عندنا أن يلغى فعل ينفذ منك إلى غيرك ولكن الملغى نحو : (كان) في قولك : (ما كان أحسن زيدا) الكلام ما أحسن زيدا و (كان) إنما جيء بها لتبيّن أنّ ذلك كان فيما مضى.

الثالث : الحرف : وذلك نحو : ما في قوله عز وجل : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] لو كان (لما) موضع من الإعراب ما عملت الباء في (نقضهم) وإنما جيء بها زائدة للتأكيد ومن ذلك (إن) الخفيفة تدخل مع (ما) للنفي في نحو قوله : وما إن طبنا جبن وكذلك (إن) في قولك : (لما إن جاء قمت إليه) المعنى : (لما جاء قمت) وكذلك (ما) إذا كانت كافة فلا موضع لها من الإعراب في نحو قولك : (إنّما زيد منطلق) كفت (ما) (إن) عن

١٠٢

الإعراب كما منعت إن (ما) من الإعراب وكذلك (ربّما) تقول : (ربّما يقوم زيد) لو لا (ما) لما جاز أن يلي (ربّ) فعل ومن ذلك (بعد ما) قال الشاعر :

أعلاقة أمّ الوليّد بعد ما

أفنان رأسك كالشّهاب المخلس (١)

فجميع هذه لا موضع لها من الإعراب وقد جاءت حروف خافضة وذكروا أنها زوائد إلا أنها تدخل لمعان فمن ذلك : (ليس زيد بقائم) أصل الكلام : (ليس زيد قائما) ودخلت الباء لتؤكد النفي وخص النفي بها دون الإيجاب ومن ذلك : (ما من رجل في الدار) دخلت (من) لتبين أن الجنس كله منفي وأنه لم يرد القائل أن ينفي رجلا واحدا.

قال أبو بكر : وحقّ الملغى عندي أن لا يكون عاملا ولا معمولا فيه حتى يلغى من الجميع وأن يكون دخوله كخروجه لا يحدث معنى غير التأكيد وهذه الحروف التي خفض بها قد دخلت لمعان غير التأكيد من الحروف الملغاة (لا) شبهوها (بما) فمن ذلك قولك : (ما قام زيد ولا عمرو) والواو العاطفة ولا لغو و (لا) إنما دخلت تأكيدا للنفي وليزول بها اللبس إذا كان منفيا ؛ لأنه قد يجوز أن تقول : ما قام زيد وعمرو ما قاما معا وقالوا في قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] إنّ (لا) زائدة و (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] إنما هو :لأن يعلم وجملة الأمر أنها لا تزاد إلا في موضع غير ملبس كما لا تزاد (ما) وأما قولك :

__________________

(١) بعد منتصب بما نصب به المصدر الذي هو علاقة ، فكذلك ينبغي أن يكون الفعل على ما كان عليه قبل دخول هذا الحرف ، من اقتضائه للفاعل وإسناده إليه. هذا كلامه. وقوله : ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل يرد عليه زيادة كان في نحو : ما كان أحسن زيدا.

وفيه أيضا دخول فعل على فعل. فقوله : غير موجود ممنوع.

وقوله : ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه تجده دالا إلى آخره ، يرد عليه أن الحرف المكفوف عن عمله باق على معناه ، ولا ينكر أن يكف الفعل عن عمله في الفاعل ، مع بقائه على معناه.

وقوله : ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل انتصابه بالظرف وتعلقه بالفعل ... إلخ ، هذا يشهد عليه لا له ، فإن الكلام في طلب المعمول لا في طلب العامل ، والمعمول لبعد بالإضافة مفقود لوجود المانع ، وهو الكف. وهذا هو المدعى. فلا يرد على سيبويه شيء مما ذكره. والله أعلم.

انظر خزانة الأدب ٤ / ١٧.

١٠٣

(حسبك به) كلام صحيح كما تقول : كفايتك به وفيه معنى الأمر أو التعجب وقولهم : (كفى بالله).

قال سيبويه : إنما هو (كفى الله) والباء زائدة والقياس يوجب أن يكون التأويل : (كفى كفايتي بالله) فحذف المصدر لدلالة الفعل عليه وهذا في العربية موجود.

الرابع : الجملة : وذلك نحو قولك : (زيد ظننت منطلق) بنيت (منطلقا) على (زيد) ولم تعمل (ظننت) وألغيته وصار المعنى زيد منطلق في ظني ، فإن قدمت (ظننت) قبح الإلغاء ومن هذا الباب الإعتراضات ، وذلك نحو قولك : زيد أشهد بالله منطلق ، وإن زيدا فافهم ما أقول رجل صدق ، وإن عمرا والله ظالم ، وإن زيدا هو المسكين مرجوم وعلى ذلك يتأول قوله عز وجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ٣٠ أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) [الكهف] (فأولئك) هو الخبر ، و (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) اعتراض ، ومنه قول الشاعر :

إنّي لأمنحك الصّدود وإنّني

قسما إليك مع الصّدود لأميل (١)

__________________

(١) على أن قسما تأكيد للحاصل من الكلام السابق بسبب إن واللام ، يعني أن قسما تأكيد لما في قوله : وإنني مع الصدود لأميل إليك : من معنى القسم ، لما فيه من التحقيق والتأكيد من إن ولام التأكيد ؛ فلما كان في الجملة منهما تحقيق والقسم أيضا تحقيق صار كأنه قال : أقسم قسما.

وقال ابن خلف : الشاهد فيه أنه جعل قسما تأكيدا لقوله : وإنني إليك لأميل ، وقوله وإنني إليك لأميل جواب قسم ، فجعل قسما تأكيدا لما هو قسم.

وروى أبو الحسن : أصبحت أمنحك كأنه قال : أصبحت أمنحك الصدود ووالله إني إليك لأميل. وهم يحذفون اليمين وهم يريدونها ويبقون جوابها.

وفيه نظر من وجهين : الأول أن الجملة ليست جواب قسم محذوف. والثاني : أن المؤكد لا يحذف.

وجعل ابن السراج في الأصول التوكيد من جهة الاعتراض فقال : قوله قسما اعتراض ، وجملة هذا الذي يجيء معترضا إنما يكون تأكيد للشيء أو لدفعه ، لأنه بمنزلة الصفة في الفائدة يوضح عن الشيء ويؤكده.

وقال ابن جني في إعراب الحماسة : انتصاب قسم ، لا يخلو أن يكون بما تقدم من قوله إني لأمنحك الصدود ، أو من جملة إنني إليك لأميل. ولا يجوز الأول من حيث كان في ذلك الحكم ، لجواز الفصل بين اسم ـ إن وخبرها بمعمول جملة أخرى أجنبي عنها ؛ فثبت بذلك أنه من الجملة الثانية وأنه منصوب بفعل محذوف دل عليه قوله : وإنني إليك لأميل ، أي : أقسم قسما ، وأضمر هذا الفعل ، وإنما سبق الجزء الأول من الجملة الثانية وهو اسم إن ؛ وهذا واضح.

وهذا البيت من قصيدة للأحوص الأنصاري ، يمدح بها عمر بن عبد العزيز الأموي. انظر خزانة الأدب ١ / ١٧٩.

١٠٤

قوله (قسما) اعتراض.

وجملة هذا الذي يجيء معترضا إنما يكون توكيدا للشيء أو لدفعه ؛ لأنه بمنزلة الصفة في الفائدة يوضح عن الشيء ويؤكده.

واعلم أنه لا يجوز أن يعترض بين واو العطف وبين المعطوف بشيء لا يجوز أن تقول :(قام زيد فأفهم عرمو ولا قام زيد ووالله عمرو).

وقد أجاز قوم الإعتراض في (ثمّ وأو ولا) ؛ لأن أو ولا وثمّ (يقمن بأنفسهنّ) فيقولون :(قام زيد ثم والله محمد).

ومما يلغيه الكوفيون ولا يعرفه البصريون : (زيدا قمت فضربت) يلغون القيام كأنهم قالوا : (زيدا ضربت) وهذا رديء في الإلغاء ؛ لأن ما يلغى ليس حقه أن يكون بعد فاء تعلق ما بعدها به.

قال أبو بكر : قد انتهينا إلى الموضع الذي يتساوى فيه كتاب الأصول وكتاب الجمل بعد ذكر (الذي) والألف واللام ثمّ لا فرق بينهما إلا أنّ بعد التصريف زيادة المسائل فيه والجمل ليس فيه ذلك.

ذكر الذي والألف واللام :

الإخبار بالذي والألف واللام التي في معناه : ضرب من المبتدأ والخبر وموضع (الذي) من الكلام أن يكون مع صلته صفة لشيء وإنما اضطر إلى الصفة (بالذي) للمعرفة ؛ لأن وصف النكرة على ضربين : مفرد وجملة فالمفرد نحو قولك : مررت برجل عاقل وقائم وما

١٠٥

أشبه ذلك والجملة التي توصف بها النكرة تنقسم قسمين : مبتدأ وخبر نحو قولهم : مررت برجل (أبوه منطلق) وفعل وفاعل نحو قولك : مررت برجل قام أبوه فلما كانت النكرات قد توصف بالحديث والكلام التام احتيج في المعرفة إلى مثل ذلك فلم يجز أن توصف المعرفة بما توصف به النكرة ؛ لأن صفة النكرة نكرة مثلها وصفة المعرفة معرفة مثلها فجاز وصف النكرة بالجمل ؛ لأن كلّ جملة فهي نكرة ولو لا أنها نكرة ما كان للمخاطب فيها فائدة ؛ لأن ما يعرف لا يستفاد فلما كان الأمر كذلك وأريد مثله في المعرفة جاءوا باسم مبهم معرفة لا يصح معناه إلا بصلته وهو (الذي) فوصلوه بالجمل التي أرادوا أن يضعوا المعرفة بها لتكون صفة المعرفة معرفة كما أن صفة النكرة نكرة (فالذي) عند البصريين أصله (لذي) مثل (عمى) ولزمته الألف واللام فلا يفارقانه ويثنى فيقال (اللذان) في الرفع (واللذين) في الخفض والنصب ويجمع فيقال : (الذين) في الرفع وغيره ومنهم من يقول : (اللذون) في الرفع (واللذين) في الخفض والنصب والمؤنث (التي واللتان واللاتي واللواتي) وقد حكى في (الذي) (الذي) بإثبات الياء (والذ) بكسر الذال بغير ياء والذ باسكان الذال (والذيّ) بتشديد الياء وفي التثنية (اللذان) بتشديد النون (واللّذا) بحذف النون وفي الجمع (الذين والذون واللاؤن وفي النصب والخفض اللائين واللاء بلا نون واللاي) بإثبات الياء في كل حال والأولى وللمؤنث التي واللاء بالكسر ولا ياء والتي والت بالكسر بغير ياء والت بإسكان التاء واللتان واللتا بغير نون واللتانّ بتشديد النون وجمع (التي) اللاتي واللات بغير ياء واللواتي واللوات بالكسر بغير ياء واللواء واللاء بهمزة مكسورة واللاات مثل اللغات مسدود مكسور التاء وطيء تقول : (هذا ذو قال ذاك) يريدون : الذي قال ذلك.

و (مررت بذو قال ذاك) في كل وجه في الجمع وحكى : أنه يجوز ذوات قلت ذاك ورأيت ذو قال ذاك وللأنثى : ذات قالت ذاك قلت ذاك (فذو) يكون في كل حال رفعا ويكون موحدا في التثنية والجمع من المذكر والمؤنث قالوا : ويجوز في المؤنث أن تقول : (هذه ذات قالت ذاك) في الرفع والنصب والخفض فأما التثنية في (ذو وذات) فلا يجوز فيه إلا الإعراب في كل الوجوه وحكى : أنه قد سمع في (ذات) و (ذوات) الرفع في كل حال.

١٠٦

وقال غير البصريين : إن أصل (الذي) هذا وهذا عندهم أصله ذال واحدة وما قالوه :بعيد جدا ؛ لأنه لا يجوز أن يكون اسم على حرف في كلام العرب إلا المضمر المتصل ولو كان أيضا الأصل حرفا واحدا ما جاز أن يصغر والتصغير لا يدخل إلا على اسم ثلاثي وقد صغرت العرب (ذا) والموجود والمسموع مع ردنا له إلى الأصول من (الذي) ثلاثة أحرف لام وذال وياء وليس لنا أن ندفع الموجود إلا بالدليل الواضح والحجة البينة على أني لا لا أدفع أنّ (ذا) يجوز أن يستعمل في موضع (الذي) فيشار به إلى الغائب ويوضح بالصلة ؛ لأنه تقل من الإشارة إلى الحاضر إلى الإشارة إلى الغائب فاحتاج إلى ما يوضحه لما ذكرنا.

وقال سيبويه : إن (ذا) تجري بمنزلة (الذي) وحدها وتجري مع (ما) بمنزلة اسم واحد فأما إجراؤهم (ذا) بمنزلة (الذي) فهو قولهم : ماذا رأيت فيقول : متاع حسن وقال لبيد :

ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل (١)

وأما إجراؤهم إياه مع (ما) بمنزلة اسم واحد فهو قولك : ماذا رأيت فتقول : خيرا كأنك قلت : ما رأيت ومثل ذلك قولهم : ماذا ترى : فتقول : خيرا وقال الله : (ماذا أنزل ربكم قالوا :خيرا) كأنه قال : ما أنزل ربكم قالوا : خيرا أي أنزل خيرا فلو كان (ذا) لغوا لما قالت العرب :عما ذا تسأل ولقالوا : عمّ ذا تسأل ولكنهم جعلوا (ما وذا) اسما واحدا كما جعلوا (ما وإنّ) حرفا واحدا حين قالوا : (إنّما) ومثل ذلك كأنّما و (حيثما) في الجزاء ولو كان (ذا) بمنزلة (الذي) في هذا الموضع البتة لكان الوجه في (ماذا رأيت) إذا أراد الجواب أن تقول : خير فهذا الذي ذكر سيبويه بيّن واضح من استعمالهم (ذا) بمنزلة (الذي) فأما أن تكون (الذي) هي (ذا) فبعيد جدا ألا ترى أنّهم حين استعملوا (ذا) بمنزلة (الذي) استعملوها بلفظها ولم يغيروها والتغيير لا يبلغ هذا الذي ادعوه والله أعلم ولا يعرف له نظير في كلامهم ومن وما وأي

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة أزيد من خمسين بيتا للبيد بن ربيعة الصحابي ، رضي الله عنه ، رثى بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة .. وأولها :

ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

انظر خزانة الأدب ١ / ٢٤٣.

١٠٧

يستعملن بمعنى (الذي) فيوصلن كما توصل ولكن لا يجوز أن (يوصف بهن) كما وصف (بالذي) لأنها أسماء لمعان تلزمها ولهن تصرف غير تصرف (الذي) لأنهن يكنّ استفهاما وجزاء وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم والألف واللام تستعمل في موضع (الذي) في الوصف ولكنها لا تدخل إلا على اسم فلما كان ذلك من شأنها وأرادوا أن يصلوها بالفعل نقلوا الفعل إلى اسم الفاعل والفعل يريدون فيقولون في موضع (الذي قام) القائم فالألف واللام قد صار اسما وزال المعنى الذي كان له واسم الفاعل هاهنا فعل وذاك يراد به ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : (هذا ضارب زيدا أمس) حتى تضيف ويجوز أن تقول : (هذا الضارب زيدا أمس) لأنك تنوي (بالضارب) الذي ضرب ومتى لم تنو بالألف واللام (الذي) لم يجز أن تعمل ما دخلت عليه وصار بمنزلة سائر الأسماء إلا أن الفاعل هنا إعرابه إعراب (الذي) بغير صلة ؛ لأنه لا يمكن فيه غير ذلك وكان الأخفش يقول : (إنّ زيدا) في قولك : (الضارب زيدا أمس) منصوب انتصاب : الحسن وجها وأنه إنما نصب ؛ لأنه جاء بعد تمام الاسم.

وقال أبو بكر : ليس عندي كما قال ؛ لأن الأسماء التي تنتصب عن تمام الاسم إنما يكنّ نكرات والحسن وما أشبهه قد قال سيبويه : إنه مشبه باسم الفاعل وقد ذكرنا ذا فيما تقدم.

ذكر ما يوصل به الذي :

اعلم أنّ (الذي) لا تتم صلتها إلا بكلام تام وهي توصل بأربعة أشياء : بالفعل والمبتدأ والظرف والجزاء بشرطه وجوابه ولا بد من أن يكون في صلته ما يرجع إليه ، فإن لم يكن كذلك فليس بصلة له والفعل الذي يوصل به (الذي) ينقسم انقسامه أربعة أقسام قبل أن يكون صلة : فعل غير متعد وفعل متعد لى مفعول واحد وفعل متعد إلى مفعولين وفعل متعد إلى ثلاثة مفاعيل وفعل غير حقيقي نحو (كان) و (ليس) فهذه الأفعال كلها يوصل بها (الذي) مع جميع ما عملت فيه ، وذلك قولك : الذي قام والذي ضرب زيدا والذي ظنّ زيدا منطلقا والذي أعطى زيدا درهما والذي أعلم زيدا عمرا أبا فلان (والذي كان قائما والذي ليس منطلقا) ففي هذه كلها ضمير (الذي) وهو يرجع إليه وهو في المعنى فاعل فاستتر في الفعل ضمير الفاعل ؛ لأنه قد جرى على من هو له ، فإن كان الفعل لغيره لم يستتر الضمير وقلت :

١٠٨

(الذي قام أبوه أخوك) والذي ضرب أخوه زيدا صاحبك ، وأما وصله بالمبتدأ فنحو (الذي هو زيد أخوك) والذي زيد أبوه غلامك والذي غلامه في الدار عبد الله.

وأما صلته بالظرف فنحو قولك : (الذي خلفك زيد) كأنّك قلت : (الذي استقرّ خلفك زيد) والذي عندك والذي أمامك وما أشبه ذلك ، وأما وصله بالجزاء فنحو قولك : (الذي إن تأته يأتك عمرو) و (الذي إن جئته فهو يحسن إليك) ولا يجوز أن تصل (الذي) إلا بما يوضحه ويبينه من الأخبار فأما الإستخبار فلا يجوز أن يوصل به (الذي) وأخواتها لا يجوز أن تقول : (الذي أزيد أبوه قائم) وكذلك النداء والأمر والنهي وجملة هذا أن كل ما تمكن في باب الأخبار ولم يزد فيه معنى على جملة الأخبار وصلح أن يقال فيه صدق وكذب وجاز أن توصف به النكرة فجائز أن يوصل به (الذي) ويجوز أن تصل بالنفي فتقول : (الذي ما قام عمرو) ؛ لأنه خبر يجوز في الصدق والكذب ولأنك قد تصف به النكرة فتقول : (مررت برجل ما صلى).

وكل فعل تصل به (الذي) أو تصف به النكرة لا يجوز أن يتضمن ضمير الموصول أو الموصوف فغير جائز أن تصل به (الذي) لو قلت : (مررت برجل نعم الرجل) لما جاز إلا أن تريد : (هو نعم الرجل) فتضمر المبتدأ على جهة الحكاية.

ومن ذلك فعل التعجب لا يجوز أن تصل به ولا تصف لا تقول : (مررت برجل أكرم به من رجل) ؛ لأن الصفة موضعها من الكلام أن تفصل بين الموصوفات وتبين بعضها من بعض وإنما تكون كذلك إذا كانت الصفة محدودة متحصلة فأما إذا كانت مبهمة غير متحصلة فلا يجوز ، ألا ترى أنك إذا قلت : (أكرم بزيد وما أكرمه) فقد فضلته في الكرم على غيره إلا أنك لم تذكر المفضول إذ كان أبلغ في المدح أن يظن به كل ضرب من الكرم فإذا قلت : أكرم من فلان فقد تحصّل وزال معنى التعجب وجاز أن تصف به وتصل به فنعم وبئس من هذا الباب ، فإن أضمرت مع جميع هذه القول جاز فيهنّ أن يكنّ صفات وصلات ؛ لأن الكلام يصير خبرا فتقول : مررت برجل يقال له : ما أحسنه ويقال : أحسن به وبرجل تقول له : اضرب زيدا وبالذي يقال له : اضرب زيدا ، وبالذي يقول : اضرب زيدا ، ومررت برجل نعم الرجل هو ، أي : تقول نعم الرجل هو وبالذي نعم الرجل هو أي : بالذي يقول : نعم الرجل هو.

١٠٩

واعلم أنّ الصلة والصفة حقهما أن تكونا موجودتين في حال الفعل الذي تتذكره ؛ لأن الشيء إنما يوصف بما فيه فإذا وصفته بفعل أو وصلته فالأولى به أن يكون حاضرا كالاسم ألا ترى أنك إذا قلت : مررت برجل (قائم) فهو في وقت مرورك في حال قيام ، وإذا قلت : (هذا رجل قام أمس) فكأنك قلت : (هذا رجل معلوم) أي : (أعلمه) الساعة أنه قام أمس ولأنك محقق ومخبر عما تعلمه في وقت حديثك وكذلك إذا قلت : (هذا رجل يقوم غدا) فإنما المعنى : (هذا رجل معلوم الساعة أنّه يقوم غدا) وعلى هذا أجازوا : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا فنصبوا (صائدا) على الحال ؛ لأن التأويل (مقدرا الصيد به غدا) ، فإن لم يتأول ذلك فالكلام محال وكل موصوف فإنما ينفصل من غيره بصفة لزمته في وقته وكذلك الصلة إذا قلت : (الذي قام أمس والذي يقوم غدا) ، فإن وصلت (الذي) بالفعل المقسم عليه نحو قولك : (ليقومنّ) لم تحتج إليه ؛ لأن القسم إنما يدخل على ما يؤكد إذا خيف ضعف علم المخاطب بما يقسم عليه والصفة إنما يراعى فيها من الكلام مقدار البيان وبابها : أن يكون خبرا خالصا لا يخلطه معنى قسم ولا غيره ، فإن وصل به فهو عندي جائز ؛ لأن التأكيد لا يبعده من أن يكون خبرا ، وأما إنّ وأخواتها فحكم (إنّ) من بين أخواتها حكم الفعل المقسم عليه إن لم تذكرها في الصلة فالكلام غير محتاج إليها ، وإن ذكرتها جاز فقلت : (الذي إنّ أباه منطلق أخوك) وفي (إنّ) ما ليس في الفعل المقسم عليه ؛ لأن خبر (إنّ) قد يكون حاضرا وهو بابها وفعل القسم ليس كذلك إنما يكون ماضيا أو مستقبلا فحكمه حكم الفعل الماضي والمستقبل إذا وصف به و (ليت ولعلّ) لا يجوز أن يوصل بهما لأنهما غير أخبار ولا يجوز أن يقال فيهما صدق ولا كذب و (لكنّ) لا يجوز أن يوصل بها ولا يوصف لأنهما لا تكون إلا بعد كلام.

وأما (كأنّ) فجائز أن يوصل بها ويوصف بها وهي أحسن من (إنّ) من أجل كاف التشبيه تقول : (الذي كأنّه الأسد أخوك ومررت بالذي كأنّه الأسد) ؛ لأنه في معنى قولك :مثل الأسد واعلم أنّه لا يجوز أن تقدم الصلة على الموصول ولا تفرق بين الصلة والموصول بالخبر ولا بتوابع الموصول بعد تمامه كالصفة والبدل وما أشبه ذلك.

١١٠

ذكر الإخبار عن (الذي)

اعلم أنّ (الذي) إذا تمت بصلتها كان حكمها حكم سائر الأسماء التامة فجاز أن تقع فاعلة ومفعولة ومجرورة ومبتدأة وخبرا لمبتدأ فتقول : (قام الذي في الدار ورأيت الذي في الدار ومررت بالذي في الدار وزيد الذي في الدار) فيكون خبرا والذي في الدار زيد فتكون (الذي) مبتدأة وزيد خبر المبتدأ ، وإذا جعلت مبتدأة فحينئذ تكثر المسائل وهو الباب الذي أفرده النحويون وجعلوه كحدّ من الحدود فيقولون إذا قلت : (قام زيد) كيف تخبر عن زيد بالذي وبالألف واللام فيكون الجواب : (الذي قام زيد والقائم زيد) فتكون الذي مبتدأ وقام صلته وفيه ضمير يرجع إليه وبه تمّ.

وهو في المعنى : (زيد) ؛ لأن الضمير هو الذي والذي هو زيد فهو في المعنى : الفاعل كما كان حين قلت : (قام زيد) وكذلك إذا دخلت الألف واللام بدلا من الذي قلت : (القائم زيد) فالألف واللام قد قامتا مقام الذي و (قائم) قد حلّ مقام (قام) وفي (قائم) ضمير يرجع إلى الألف واللام والألف واللام هما زيد إلا أنك أعربت (القائم) بتمامه بالإعراب الذي يجب (للذي) وحدها إذ لم يكن سبيل إلى غير ذلك وكل اسم قيل لك أخبر عنه فحقه أن تنتزعه من الكلام الذي كان فيه وتضع موضعه ضميرا يقوم مقامه ويكون ذلك الضمير راجعا إلى الذي أو الألف واللام وإنما كان كذلك ؛ لأن كل مبتدأ فخبره إذا كان اسما مفردا في المعنى هو هو فإذا ابتدأت (بالذي) وجعلت اسما من الأسماء خبره فالخبر هو (الذي) والذي هو الخبر وهذا شرط المبتدأ والخبر وإنما الأخبار عن (الذي والألف واللام) ضرب من المبتدأ والخبر وقد كنت عرفتك أن الصلة كالصفة للنكرة فإذا أشكل عليك شيء من ذلك فاجعل الصلة صفة ليبين لك إن قال قائل إذا قلت : (ضربت زيدا) كيف تخبر عن زيد قلت : (الذي ضربته زيد) فجعلت موضع (زيد) الهاء وهي مفعولة كما كان (زيد وهو) (الذي والذي هو زيد) ، فإن جعلته صفة قلت : (رجل ضربته زيد) إلا أنّ حذف الهاء في صلة (الذي) حسن لأنهم استثقلوا اجتماع ثلاثة أشياء في الصلة (فعل وفاعل ومفعول) فصرن مع (الذي) أربعة أشياء

١١١

تقوم مقام اسم واحد فيحذفون الهاء لطول الاسم ولك أن تثبتها على الأصل ، فإن أخبرت عن المفعول بالألف واللام قلت : (الضاربه أنا زيد) وكان حذفها قبيحا وقد أجازوه على قبحه.

وقال المازني : لا يكاد يسمع من العرب وحذف الهاء من الصفة قبيح إلا أنه قد جاء في الشعر.

والفرق بينه وبين الألف واللام أنّ الهاء ثمّة تحذف من اسم وهي في هذا تحذف من فعل ، وإن قيل لك : أخبر عن (زيد) من قولك : (زيد أخوك) قلت : (الذي هو أخوك زيد) أخذت زيدا من الجملة وجعلت بدله ضميره وهو مبتدأ كما كان زيد مبتدأ وأخوك خبره كما كان وقولك : هو وأخوك جميعا صلة (الذي) وهي راجعة إلى (الذي) والذي هو (زيد) ، وإن أردت أن تجعله صفة فتعتبره بهاء قلت : (رجل هو أخوك زيد) فقولك : هو أخوك جملة وهي صفة لرجل وزيد الخبر ، فإن أردت أن تخبر عن (أخوك) قلت : (الذي زيد هو أخوك) فجعلت الضمير موضع (الذي) انتزعته من الكلام وجعلته خبرا وإنما قال النحويون أخبر عنه وهو في اللفظ خبر ؛ لأنه في المعنى محدث عنه ولأنه قد يكون خبرا ولا يجوز أن يحدث عنه نحو الفعل والألف واللام لا مدخل لهما في المبتدأ والخبر كما عرفتك وهذه المسائل تجيء في أبوابها مستقصاة إن شاء الله ، فإن كان خبر المبتدأ فعلا أو ظرفا غير متمكن لم يجز الإخبار عنه إذا قال لك : (زيد قام) كيف تخبر عن (قام) لم يجز ؛ لأن الفعل لا يضمر.

وكذا لو قال : (زيد في الدار) أخبر عن (في الدار) لم يجز ؛ لأن هذا مما لا يضمر وقد بينا أن معنى قولهم : أخبر عنه ، أي : انتزعه من الكلام واجعل موضعه ضميرا ثم اجعله خبرا فهذا لا يسوغ في الأفعال ولا الحروف.

واعلم أنه إذا كان صلة (الذي) فعلا جاز أن يدخل الفاء في الخبر نحو (قام فله درهم) والذي جاءني فأنا أكرمه شبه هذا بالجزاء ؛ لأن قولك : فله درهم تبع المجيء وكذلك هو في الصفة تقول : (كلّ رجل جاءني فله درهم وكلّ رجل قام فإني أكرمه) والأصل في جميع هذا طرح الفاء وأنت في ذكرها مخير إلا أنها إذا دخلت ضارع الكلام الجزاء ويبين أن الخبر من

١١٢

أجل الفعل ولذلك لم يجز أن تدخل الفاء في كل حال وبأن لو قلت : (الذي إن قمت قام فله درهم) لم يجز ؛ لأن معنى لجزاء قد تمّ في الصلة ولكن لو قلت : (الذي إن قمت قام فله درهم إن أعطاني أعطيته) جاز ؛ لأنه بمنزلة قولك : (زيدق إن أعطاني أعطيته) وكذلك إذا قلت : (الذي إن أتاني فله درهم له دينار) لا يجوز أن تدخل الفاء على (له دينار) فالفاء إذا دخلت في خبر (الذي) أشبه الجزاء من أجل أنه يقع الثاني بالأول ألا ترى أنك إذا قلت : الذي يأتيني له درهم قد يجوز أن يكون له درهم لا من أجل إتيانه ويجوز أن يكون له درهم من أجل إتيانه فإذا قلت : الذي يأتيني فله درهم دلت الفاء على أنّ الدرهم إنما يجب له من أجل الإتيان إلا أن الفرق بين الذي وبين الجزاء الخالص أنّ الفعل الذي في صلة (الذي) يجوز أن يكون ماضيا وحاضرا ومستقبلا والجزاء لا يكون إلا مستقبلا ، وإذا جاءت الفاء فحق الصلة أن تكون على اللفظ الذي يحسن في الجزاء في اللفظ ، وإن اختلف المعنى.

فمن أجل هذا يقبح أن تقول : (الذي ما يأتني فله درهم) ؛ لأنه لا يجوز أن تقول : (إن ما أتاني زيد فله درهم و (لا) كلّ رجل ما أتاني فله درهم) إذا أردت هذا المعنى قلت : (الذي لم يأتني فله درهم وكلّ رجل لم يأتني فله درهم) والقياس يوجب إجازته للفرق الذي بين (الذي وبين الجزاء) ؛ لأنه إذا جاز أن يلي الذي من الأفعال ما لا يلي (إن) وكان المعنى مفهوما غير مستحيل فلا مانع يمنع من إجازته وإنما أجزنا دخول الفاء في هذا ؛ لأن الذي ما فعل قد يجب له شيء بتركه الفعل إذا كان ممن يقدر منه ذلك الفعل وإنما لم يجز (ما) مع (إن) في الجزاء ؛ لأن (ما) لا تكون إلا صدرا والجزاء لا يكون إلا صدرا فلم يجز ؛ لأن (إن) تعمل فيما بعد (ما) فلما أرادوا النفي أتوا (بلم) وبنوها مع الفعل حتى صارت كأنها جزء منه أو (بلا) فقالوا (إن لم تقم قمت ، وإن لم تقم لا أقم).

واعلم أن كل اسم لا يجوز أن تضمره وترفعه من الكلام وتكني عنه فلا يجوز أن يكون خبرا في هذا الباب من أجل أنك متى انتزعته من الكلام وهو اسم ظاهر أو مضمر فلا بد من أن تضمر في موضعه كما خبرتك.

١١٣

ولك اسم مبني إلا المبهمات والمضمرات والذي وما كان في معناه فإنهن في أصول الكلام لا يجوز أن يكنّ خبرا (للذي) وكذلك كلّ ظرف غير متمكن في الإعراب ليس مما يرفع لا يجوز أن يكون خبرا للذي ؛ لأن جميع الأسماء إذا صارت أخبارا (للذي) والذي مبتدأ لم يكن بد من رفعها فكلّ ما لا يرتفع لا يجوز أن يكون خبرا لو قلت : الموضع الذي فيه زيد عندك لم يجز ؛ لأنه كان يلزم أن يرفع (عنه) وهو لا يرتفع وكذلك ما أشبهه.

ولو قلت : الموضع الذي قمت فيه خلفك. جاز ؛ لأن (خلف) قد يرفع ويتسع فيه فيقال : (خلفك واسع) ، وأما ما يجوز من المبهمات والمضمرات فنحو قولك : (الذي في الدار هذا والذي في الدار الذي كان يحبّك والذي في الدار هو) وكذلك : ما كان في معنى (الذي) تقول : (الذي في الدار من تحبّ والذي في الدار ما تحبّ) فيكون الخبر (ما ومن) بصلتهما وتمامهما ، فإن كانتا مفردتين لم يجز أن يكونا خبرا (للذي) وكذلك الذي لا يجوز أن يكون خبرا وهو بغير صلة إلا على نحو ما جاء في الشعر مثل قوله :

بعد اللتيّا واللتيّا والتي (١) ...

فإن هذا حذف الصلات لعلم المخاطب بالقصة ولا يجوز أن تخبر عن النعت لأنك تحتاج أن تضمره فإذا أضمرته زال أن يكون نعتا ولو قيل لك أخبر عن العاقل في قولك : (زيد العاقل أخوك) فأخبرت لزمك أن تقول : (الذي زيد هو أخوك العاقل) فتضع موضع (العاقل) هو فيصير نعتا لزيد وهو لا يكون نعتا.

ولا يجوز أن تخبر عن (زيد) وحده في هذه المسألة ؛ لأنه يلزمك أن تقول : (الذي هو العاقل أخوك زيد فتصف (هو) بالعاقل وهذا لا يجوز ولكن إذا قيل لك أخبر عن مثل هذا فانتزع زيدا وصفته جميعا من الكلام وقل : (الذي هو أخوك زيد العاقل) ومما لا يجوز أن يكون خبرا المضاف دون المضاف إليه لو قيل : (هذا غلام زيد) أخبر عن (غلام) ما جاز ؛ لأنه كان

__________________

(١) لم يأت للموصولين الأولين بصلة ، لأن صلة الموصول الثالث دلت على ما أراد. ومثله : من اللواتي والتي واللاتي ... البيت. انظر خزانة الأدب ٢ / ٣١٨.

١١٤

يلزم أن تضمر موضع غلام وتضيفه إلى (زيد) والمضمر لا يضاف فأما المضاف إليه فيجوز أن يكون خبرا ؛ لأنه يجوز أن يضمر وجميع ما قدمت سيزداد وضوحا إذا ذكرت الأبواب التي أجازها النحويون.

١١٥

باب ما جاز أن يكون خبرا

اعلم أن أصول الكلام جملتان : فعل وفاعل ومبتدأ وخبر وقد عرفتك كيف يكون الفاعل خبرا وأن الفعل لا يجوز أن يكون خبرا مخبرا عنه في هذا الباب وذكرت لك المبتدأ والخبر والإخبار عن كل واحد منهما وأبواب هذا الكتاب تنقسم بعدد أسماء الفاعلين والمفعولين وبحسب ما يتعدى من الأفعال وما لا يتعدى فكلّ ما يتعدى إليه الفعل ويعمل فيه إلا ما استثنيناه مما تقدم فهو جائز أن تخبر عنه إلا أن يكون اسما نكرة لا يجوز أن يضمر فيعرف فإنه لا يجوز الإخبار عنه نحو ما ينتصب بالتمييز فجميع الأبواب التي يجوز الإخبار عن الأسماء التي فيها مميز أربعة عشر بابا :

الأول : الفعل الذي لا يتعدى.

والثاني : الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد.

والثالث : ما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما.

والرابع : ما يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما.

والخامس : ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين.

والسادس : الفعل الذي بني للمفعول الذي لم يذكر من فعل به.

والسابع : الذي تعداه فعله إلى مفعول واسم الفاعل والمفعول لشيء واحد.

والثامن : الظروف من الزمان والمكان.

والتاسع : المصدر.

والعاشر : المبتدأ والخبر.

والحادي عشر : المضاف إليه.

والثاني عشر : البدل.

والثالث عشر : العطف.

والرابع عشر : المضمر.

١١٦

وقد كان يجب أن يقدم باب ما يخبر فيه (بالذي) ولا يجوز أن يخبر عنه بالألف واللام ولكنا أخرناه ليزداد وضوحه بعد هذه الأبواب.

فأما ما قاسه النحويون من المحذوفات في الكلام ومن إدخال (الذي) على (الذي) و (التي) وركبوه من ذلك فنحو نفرده بعد إن شاء الله.

الأول : باب الفعل الذي لا يتعدى الفاعل إلى المفعول :

وهو (ذهب زيد وقعد خالد) وكذلك جميع ما أشبهه من الأفعال التي لا تتعدى إذا قيل لك أخبر عن (زيد) بالذي قلت : (الذي ذهب زيد) فالذي مبتدأ و (ذهب) صلته وفيه ضمير الفاعل وهو يرجع إلى (الذي) فقد تم (الذي) بصلته وخبره زيد ، فإن قيل لك أخبر عنه بالألف واللام قلت : (الذاهب أخوك) فرفعت الذاهب ؛ لأنه اسم ومعناه : (الذي ذهب) ولم يكن بد من رفعه ؛ لأن اللام لا تنفصل من الصلة كإنفصال (الذي) وهي جزء من الاسم ولكن المعنى معنى (الذي) ، فإن ثنيت (الذي) قلت : (اللذان قاما أخواك) ، فإن جعلت (موضع) الذي الألف واللام قلت : (القائمان أخواك) ثنيت (القائم) إذ لم يكن سبيل إلى ثنية الألف واللام والتأويل : (اللذان قاما) ويرجع إلى الألف واللام الضمير الذي في (القائمين) وليست الألف بضمير في (قائمان) وإنما هي ألف التثنية مثلها في سائر الأسماء التي ليس فيها معاني الأفعال كما تقول : الزيدان أخواك ، فإن جمعت قلت : (الذين قاموا إخوتك) وبالألف واللام : (القائمون إخوتك) وتفسير الجمع كتفسير التثنية ومن استفهم قال القائمون إخوتك و (القائمان أخواك) ولا يجوز أن تقول القائم اخوتك على قول من قال أقائم أخوتك ؛ لأن قولهم : (أقائم أخوتك) تجري مجرى : أيقوم أخوتك وما كان فيه الألف واللام لا يجري هذا المجرى ؛ لأنه قد تكملّ اسما معرفة والمعارف لا تقوم مقام الأفعال ؛ لأن الأفعال نكرات ولكن لا يجوز أن تعمل ما في صلة الألف واللام وهو (قائم) فتقول : (القائم أبوه وأخوك والقائم أبوهما أخواكض) ولا يجوز أن تقول : (القائمان أبواهما أخواك) من أجل أنّ (قائم) قد عمل عمل الفعل وما تمت الألف واللام بعد بصلتهما وما لم يتم فلا يجوز أن يثنى فإذا أعملت (ما) في صلة الألف واللام في (فاعل) امتنعت التثنية وإنّما جاز أن تقول : (القائمان أخواك) ؛ لأن

١١٧

الاسم قد تم والضمير الذي في (القائم) لا يظهر فأشبه ما لا ضمير فيه وإنما احتمل الضمير الاسم إذا كان في صلة ما هو له وجاريا عليه استغناء بعلم السامع وليس باب الأسماء أن تضمر فيها إنما ذلك للأفعال فإذا لم يكن اسم الفاعل فعلا في الحقيقة للألف واللام أو لما يوصف به أو يكون خبرا له لم يحتمل الضمير البتة وقد بينت ذا فيما تقدم.

وتقول : (القائم أخواه زيد والقائم أخوته عمرو) ؛ لأن الفعل للأخوين وللأخوة وهو مقدم فالضمير أبدا عدته بحسب الألف واللام إن عنيت بهما واحدا كان واحدا ، وإن عنيت اثنين كان مثنى ، وإن عنيت جميعا كان جمعا وكذلك الألف واللام والذي إنما هي بحسب من تضمر في العدة ، وإذا قلت : (اللذان ذهبا أخواك) قلت (الذاهبان أخواك) ، وإذا قلت (الذين يذهبون قومك) قلت : (الذاهبون قومك) تثنى اسم الفاعل في الموضع الذي تثنى فيه الفعل ألا ترى أنك تقول : (الزيدان ذاهبان) لما كنت تقول (الزيدان يذهبان) ولا يجوز أن تقول (الزيدان ذاهب) وتضمرهما وتقول : (الزيدان ذاهب أبوهما) كما كنت تقول : (الزيدان يذهب أبوهما) إلا أنّ تقدير الالف في (ذاهبان) غير تقديرها في (يذهبان) ؛ لأن ألف (يذهبان) للتثنية والضمير وهي في (ذاهبان) تثنية وإنما الضمير في النية.

الثاني : الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد :

وذلك قولك : (ضرب زيد عمرا) اعلم أن هذا الباب لا بد من أن يكون في جميع مسائله اسمان في كل مسألة فاعل ومفعول ، فإن قيل لك : (أخبر عن الفاعل بالذي) قلت : (الذي ضرب عمرا زيد) فالذي رفع بالابتداء (وضرب عمرا) صلته وفي (ضرب) ضمير (الذي) هو راجع إليه وضرب وعمرو في صلة (الذي) وبهما تم اسما والخبر زيد وزيد هو (الذي).

فإن قيل لك : ثنّ واجمع قلت : (اللذان ضربا عمرا الزيدان) والذين ضربوا عمرا الزيدون لا بد من أن يكون الخبر بعد المبتدأ مساويا له وكذلك الضمير الذي في الصلة وهي كلها يشار بها إلى معنى واحد الذي والضمير والخبر ، فإن قيل لك : أخبر بالألف واللام عن الفاعل في هذه المسألة قلت (الضارب عمرا زيد) والتفسير كالتفسير في (الذي) ، فإن قيل لك : ثنّ واجمع.

١١٨

قلت : (الضاربان عمرا الزيدان) والضاربون عمرا الزيدون ولا يجوز أن تقول : (الضارب عمرا الزيدان ؛ لأن المبتدأ قد نقص عدده من عدة الخبر والضارب عمرا واحد وليس في الصلة دليل على أن الألف واللام لجماعة فإذا ثنيت وجمعت قام الدليل وقد مضى تفسير ذا وينبغي أن تراعي في التثنية والجمع (اللذين) في الألف واللام أن يكون الاسم الذي فيه الألف واللام بأسره نظير (الذي) وحدها في إعرابه وتثنيته وجمعه ، فإن رفعت (الذي) رفعته ، وإن نصبته نصبته ، وإن خفضته خفضته ، وإن ثنيته وجمعته ثنيته وجمعته وكذلك يكونان إذا قام أحدهما مقام الآخر.

ومن حيث أعرب الفاعل في هذا الباب نحو : (الضارب) كإعراب (الذي) كذلك ثني وجمع تثنيته وجمعه ولو كانت الألف واللام تثنى أو يكون فيها دليل إعراب لأنفصلت كإنفصال (الذي) من الصلة فما فيه الألف واللام مما جاء على معنى الذي لفظه لفظ الاسم غير الموصول ومعناه معنى الموصول ، فإن قيل لك أخبر عن المفعول في قولك : ضرب زيد عمرا قلت : (الذي ضربه زيد عمرو) وحذف الهاء حسن كما خبرتك به ، وإن شئت قلت : الذي ضربه زيد عمرو فالذي مبتدأ وضربه زيد صلته والهاء ترجع إلى (الذي) وعمرو خبر المبتدأ والذي هو عمرو.

فإن ثنيت وجمعت قلت : اللذان ضربهما زيد العمران والذين ضربهم زيد العمرون ، فإن أخبرت بالألف واللام قلت : الضاربه زيد عمرو جعلت : الضاربه مبتدأ والهاء ترجع إلى الألف واللام ورفعت زيدا بأنه خبر الضارب وحذف الهاء في هذه المسألة قبيح وهو يجوز على قبحه ، فإن ثنيت وجمعت قلت : الضاربهما زيد العمران والضاربهم زيد العمرون فإذا قلت : (ضربت زيدا) فقيل لك : أخبر عن (التاء) فهو كالإخبار عن الظاهر وتأتي بالمكنى المنفصل فتقول : (الذي ضرب زيدا أنا).

فإن قيل لك : أخبر عن زيد قلت : (الذي ضربته زيد) ؛ لأن الضمير وقع موقعه من الفعل فلم يحتج إلى المنفصل ، فإن ثنيت أو جمعت الأول في ذا كالفاعل في الذي قبله ، وقال المازني مثل ذلك.

١١٩

قال أبو بكر : والذي عندي أنّ المفعول الأول يجوز أن يقتصر عليه كما (كان) يجوز أن يقتصر على الفاعل بغير مفعول وليس في الأفعال الحقيقية فعل لا يجوز أن تقتصر فيه على الفاعل بغير مفعول.

وكل فعل لا يتعدى إذا نقل إلى (أفعل) تعدى فلما كان يجوز أن أقول : (علم زيد) فاقتصر على الفاعل جاز أن أقول : (أعلم الله زيدا) ولكن لا يجوز أن يقتصر على المفعول الثاني في هذا الباب ؛ لأنه المفعول الأول في الباب الذي قبله وإنما استحال هذا من جهة المعنى لأنّك إذا قلت : (ظننت زيدا منطلقا) فالشكّ إنما وقع في الإنطلاق لا في زيد فلذلك لا يجوز أن تقول : (ظننت زيدا) وتقطع الكلام ويجوز أن تقول : ظننت وتسكت فلا تعديه إلى مفعول وهذا لا خلاف فيه ، وإذا جاز أن تقول : (ظننت وتسكت فيساوي (قمت) في أنه لا يتعدى جاز أن تقول : (أظننت زيدا) إذا جعلته يظن به كما تقول أقمت زيدا ؛ لأنه لا فرق بين (ظنّ زيد) إذا لم تعده وبين قام زيد كما تقول : أقمت زيدا وكل فعل لا يتعدى إذا نقلته إلى (أفعل) تعدّى إلى واحد ، فإن كان يتعدى إلى واحد تعدّى إلى اثنين ، وإن كان يتعدى إلى اثنين تعدى إلى ثلاثة ، فإن نقلت (فعل) إلى (فعل) كان بالعكس ؛ لأنه إن كان لا يتعدى لم يجز نقله إلى (فعل) ، وإن كان يتعدى إلى مفعول واحد أقيم المفعول فيه مقام الفاعل ولم يتعد بعده إلى مفعول ، وإن كان يتعدى إلى مفعولين أقيم أحدهما مقام الفاعل فتعدى إلى مفعول واحد وكذلك إن كان يتعدى إلى ثلاثة مفعولين تعدى إلى مفعولين (ففعل) ينقص من المفعولات و (أفعل) يزيد فيها إذا كان منقولا من (فعل) فإذا أخبرت عن الفاعل (بالذي) من قولك : أعلم الله زيدا عمرا خير الناس قلت : (الذي أعلم زيدا عمرا خير الناس الله) وتفسيره كتفسير ما قبله ، فإن قيل لك ثنّ هذه المسألة بعينها فهو محال كفر ؛ لأن الله عز وجل لا سمي له ولا يجوز تثنيته ولا جمعه ولكن لو قلت : (أعلم بكر عمرا زيدا خير الناس) لجاز تثنية بكر وجمعه على ما تقدم من البيان ، وإن قلته : بالألف واللام وأردت الإخبار عن الفاعل فهو كالإخبار عنه في الباب الذي قبله ، وذلك قولك : (المعلم زيدا عمرا خير الناس الله) والمنبىء زيدا عمرا أخاك الله ، وإن أخبرت عن المفعول الأول قلت : (المعلمه الله عمرا خير الناس زيد) وإثبات الهاء هاهنا هو الوجه

١٢٠