الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

تفسير الثاني وهو الفعل

اعلم أن كل فعل لا يخلو من أن يكون عاملا وأول عمله أن يرفع الفاعل أو المفعول الذي هو حديث عنه نحو : قام زيد وضرب عمرو وكل اسم تذكره ليزيد في الفائدة بعد أن يستغني الفعل بالاسم المرفوع الذي يكون ذلك الفعل حديثا عنه فهو منصوب ونصبه ؛ لأن الكلام قد تم قبل مجيئه وفيه دليل عليه وهذه العلل التي ذكرناها هاهنا هي العلل الأول وها هنا علل ثوان أقرب منها يصحبها كل نوع من هذه الجمل إن شاء الله.

تفسير الثالث وهو العامل من الحروف

الحروف تنقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول منها يدخل على الأسماء فقط دون الأفعال فما كان كذلك فهو عامل في الاسم.

والحروف العوامل في الأسماء نوعان :

نوع منها يخفض الأسماء (١) ويدخل ليصل اسما باسم أو فعلا باسم.

أما وصله أسما بإسم فنحو قولك : خاتم من فضة ، وأما وصله فعلا بإسم فنحو قولك : مررت بزيد.

والنوع الثاني : يدخل على المبتدأ والخبر فيعمل فيهما مررت الاسم ويرفع الخبر نحو (إن وأخواتها (٢)) كقولك : زيد قائم وجميع هذه الحروف لا تعمل في الفعل ولا تدخل عليه لا تقول : مررت بيضرب وإلى ذهبت إلا قام ولا أن يقعد قائم.

__________________

(١) جمعها ابن مالك في الألفية فقال :

هاك حروف الجر وهي من إلى

حتى خلا حاشا عدا في عن على

مذ منذ رب اللام كي واو وتا

والكاف والباء ولعل ومتى

قال ابن عقيل : هذه الحروف العشرون كلها مختصة بالأسماء وهي تعمل فيها الجر وتقدم الكلام على خلا وحاشا وعدا في الاستثناء وقل من ذكر كي ولعل ومتى في حروف الجر. انظر شرح ابن عقيل ٣ / ٣.

(٢) هذه هي الأحرف المشبّهة بالأفعال وشبّهت بها لأنّها تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده وهنّ سبعة أحرف : " إنّ ، أنّ ، كأنّ ، ليت ، لعلّ ، لكنّ ، ولا النافية للجنس.

٦١

والقسم الثاني من الحروف :

ما يدخل على الأفعال فقط ولا يدخل على الأسماء وهي التي تعمل في الأفعال فتنصبها وتجزمها نحو : (أن) في قولك : أريد أن تذهب فتنصب و (لم) في قولك : لم يذهب فتجزم ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : لم زيد ولا : أريد أن عمرو.

والقسم الثالث من الحروف :

ما يدخل على الأسماء وعلى الأفعال فلم تختص به الأسماء دون الأفعال ولا الأفعال دون الأسماء وما كان من الحروف بهذه الصفة فلا يعمل في اسم ولا فعل نحو ألف الاستفهام تقول : أيقوم زيد فيدخل حرف الاستفهام على الفعل ثم تقول : أزيد أخوك فيدخل الحرف على الاسم وكذلك (ما) إذا نفيت بها في لغة من لم

يشبهها بليس فإنه يدخلها على الاسم والفعل ولا يعملها كقولك : وما زيد قائم ما قام زيد ومن شبهها (بليس) فاعملها لم يجز أن يدخلها على الفعل إلا أن يردها إلى أصلها في ترك العمل ونحن نذكر جميع الحروف منفصلة في أبوابها إن شاء الله.

فإن قال قائل : ما بال لام المعرفة لم تعمل في الاسم وهي لا تدخل إلا على الاسم ولا يجوز أن تدخل هذه اللام على الفعل قيل : هذه اللام قد صارت من نفس الاسم ألا ترى قولك : رجل يدلك على غير ما كان يدل عليه الرجل وهي بمنزلة المضاف إليه الذي يصير مع المضاف بمنزلة اسم واحد نحو قولك : عبد الملك ولو أفردت عبدا من الملك لم يدل على ما كان عليه عبد الملك وكذلك الجواب في السين وسوف إن سأل سائل فقال : لم لم يعملوها في الأفعال إذ كانتا لا تدخلان إلا عليها فقصتهما قصة الألف واللام في الاسم ، وذلك أنها إنما هي بعض أجزاء الفعل فتفهم هذه الأصول والفصول فقد أعلنت في هذا الكتاب أسرار

__________________

وحكم هذه الأحرف : أن كلّ هذه الأحرف تنصب المبتدأ ـ غير الملازم للتّصدير ـ (كأسماء الاستفهام) ويسمّى اسمها وترفع خبره ـ غير الطلبي الإنشائي ـ (الطلبي : كالأمر والنهي والاستفهام والانشائي :كالعقود مثل بعت واشتريت. ويسمّى خبرها. انظر معجم القواعد العربية ٢ / ١١٩.

٦٢

النحو وجمعته جمعا يحضره وفصلته تفصيلا يظهره ورتبت أنواعه وصنوفه على مراتبها بأخصر ما أمكن من القول وأبينه ليسبق إلى القلوب فهمه ويسهل على متعلميه حفظه.

واعلم أنه ربما شذ الشيء عن بابه فينبغي أن تعلم : أن القياس إذا اطرد في جميع الباب لم يعن بالحرف الذي يشذ منه فلا يطرد في نظائره وهذا يستعمل في كثير من العلوم ولو اعترض بالشاذ على القياس المطرد لبطل أكثر الصناعات والعلوم فمتى وجدت حرفا مخالفا لا شك في خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شاذ ، فإن كان سمع ممن ترضى عربيته فلا بد من أن يكون قد حاول به مذهبا ونحا نحوا من الوجوه أو استهواه أمر غلطه.

والشاذ على ثلاثة أضرب : منه ما شذ عن بابه وقياسه ولم يشذ في استعمال العرب له نحو : استحوذ (١) ، فإن بابه وقياسه أن يعل فيقال : استحاذ مثل استقام واستعاذ وجميع ما كان على هذا المثال ولكنه جاء على الأصل واستعملته العرب كذلك ومنه ما شذ عن الاستعمال ولم يشذ عن القياس نحو ماضي يدع ، فإن قياسه وبابه أن يقال : ودع يدع إذ لا يكون فعل مستقبل إلا له ماض ولكنهم لم يستعملوا ودع استغنى عنه (بترك) فصار قول القائل الذي قال : ودعه شاذا وهذه أشياء تحفظ ومنه ما شذ عن القياس والإستعمال فهذا الذي يطرح ولا يعرج عليه نحو ما حكى من إدخال الألف واللام على اليّجدع وأنا أتبع هذا الذي ذكرت من عوامل الأسماء والأفعال والحروف بالأسماء المفعول فيها فنبدأ بالمرفوعات ثم نردفها المنصوبات ثم المخفوضات فإذا فرغنا من الأسماء وتوابعها وما يعرض فيها ذكرنا الأفعال وإعرابها وعلى الله تعالى نتوكل وبه نستعين.

__________________

(١) المصدر الموازن : ل" إفعال" نحو" إقوام" و" استفعال" نحو" استقوام" فإنّه" يحمل على فعله في الإعلال فتنقل حركة عينه إلى فائه ثمّ تقلب ألفا لتجانس الفتحة فيلتقي ألفان ، ويجب بعد القلب حذف إحدى الألفين لالتقاء السّاكنين. والصحيح أنّ المحذوف الألف الثّانية ، لزيادتها وقربها من الطّرف ، ثمّ يؤتى بالتاء عوضا من الألف المحذوفة فيقال" إقامة" واستقامة" وقد تحذف التاء فيقتصر فيه على ما سمع كقول بعضهم" أجابه إجابا" و" أراه إراء" ويكثر ذلك مع الإضافة نحو : (وَأَقامَ الصَّلاةَ.)

وجاء تصحيح" إفعال" و" استفعال" وفروعها في الألف نحو : " أعول إعوالا" و" أغيمت السماء إغياما" و" استحوذ استحواذا" و" استغيل الصبيّ استيغالا" وهذا كلّه شاذ. انظر معجم القواعد العربية ٦ / ٥٦.

٦٣

ذكر الأسماء المرتفعة

الأسماء التي ترتفع خمسة أصناف :

الأول : مبتدأ له خبر.

والثاني : خبر لمبتدأ بنيته عليه.

والثالث : فاعل بني على فعل ذلك الفعل حديثا عنه.

والرابع : مفعول به بني على فعل فهو حديث عنه ولم تذكر من فعل به فقام مقام الفاعل.

والخامس : مشبه بالفاعل في اللفظ.

شرح الأول : وهو المبتدأ :

المبتدأ (١) : ما جردته من عوامل الأسماء ومن الأفعال والحروف وكان القصد فيه أن تجعله أولا لثان مبتدأ به دون الفعل يكون ثانيه خبره ولا يستغني واحد منهما عن صاحبه وهما مرفوعان أبدا فالمبتدأ رفع بالابتداء والخبر رفع بهما نحو قولك : الله ربنا ومحمد نبينا والمبتدأ لا يكون كلاما تاما إلا بخبره وهو معرض لما يعمل في الأسماء نحو : كان وأخواتها وما أشبه ذلك من العوامل تقول : عمرو أخونا ، وإن زيدا أخونا وسنذكر العوامل التي تدخل على المبتدأ وخبره فتغيره عما كان عليه في موضعها إن شاء الله.

__________________

(١) المبتدأ هو الاسم العاري عن العوامل اللفظية غير الزائدة مخبرا عنه أو وصفا رافعا المستغنى به ، فالاسم يشمل الصريح والمؤول نحو : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة : ١٨٤) ، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه والعاري عن العوامل اللفظية مخرج لنحو الفاعل واسم كان ، وغير الزائدة لإدخال بحسبك درهم وهل من خالق غير الله ، ومخبرا عنه أو وصفا إلى آخره مخرج لأسماء الأفعال والأسماء قبل التركيب ، ورافعا لمستغنى به يشمل الفاعل نحو أقائم الزيدان ونائبه نحو أمضروب العبدان ، وخرج به نحو أقائم من قولك أقائم أبوه زيد ، فإن مرفوعه غير مستغنى به. وأو في التعريف للتنويع لا للترديد أي المبتدأ نوعان : مبتدأ له خبر ومبتدأ له مرفوع أغنى عن الخبر ، وقد أشار إلى الأول بقوله : (مبتدأ زيد وعاذر خبر) أي له (إن قلت زيد عاذر من اعتذر) وإلى الثاني بقوله : (وأوّل) أي من الجزأين (مبتدأ والثّاني) منهما (فاعل اغنى) عن الخبر (في) نحو (أسار ذان) الرجلان. انظر شرح الأشموني على الألفية ١ / ٩١.

٦٤

والمبتدأ يبتدأ فيه بالاسم المحدث عنه قبل الحديث وكذلك حكم كل مخبر والفرق بينه وبين الفاعل : أن الفاعل مبتدأ بالحديث قبله ألا ترى أنك إذا قلت : زيد منطلق فإنما بدأت (بزيد) وهو الذي حدثت عنه بالإنطلاق والحديث عنه بعده ، وإذا قلت : ينطلق زيد فقد بدأ بالحديث وهو انطلاقه ثم ذكرت زيدا المحدث عنه بالإنطلاق بعد أن ذكرت الحديث.

فالفاعل مضارع للمبتدا من أجل أنهما جميعا محدث عنهما وإنهما جملتان لا يستغني بعضهما عن بعض وحق المبتدأ أن يكون معرفة أو ما قارب المعرفة من النكرات الموصوفة خاصة فأما المعرفة فنحو قولك : عبد الله أخوك وزيد قائم ، وأما ما قارب المعرفة من النكرات (١) فنحو قولك : رجل من تميم جاءني وخير منك لقيني. وصاحب لزيد جاءني.

وإنما امتنع الابتداء بالنكرة المفردة المحضة ؛ لأنه لا فائدة فيه وما لا فائدة فيه فلا معنى للتكلم به ألا ترى أنك لو قلت : رجل قائم أو رجل عالم لم يكن في هذا الكلام فائدة ؛ لأنه لا يستنكر أن يكون في الناس رجل قائما أو عالما فإذا قلت : رجل من بني فلان أو رجل من إخوانك أو وصفته بأي صفة كانت تقربه من معرفتك حسن لما في ذلك من الفائدة ولا يكون المبتدأ نكرة مفردة إلا في النفي خاصة ، فإن الابتداء فيه بالنكرة حسن بحصول الفائدة بها كقولك : ما أحد في الدار وما في البيت رجل ونحو ذلك في لغة بني تميم خاصة : وما أحد حاضر وإنما يراعى في هذا الباب وغيره الفائدة فمتى ظفرت بها في المبتدأ وخبره فالكلام جائز وما لم يفد فلا معنى له في كلام غيرهم.

__________________

(١) الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة وقد يكون نكرة لكن بشرط أن تفيد وتحصل الفائدة بأحد أمور ذكر المصنف منها ستة

أحدها أن يتقدم الخبر عليها وهو ظرف أو جار ومجرور نحو في الدار رجل وعند زيد نمرة ، فإن تقدم وهو غير ظرف ولا جار ومجرور لم يجز نحو قائم رجل

الثاني أن يتقدم على النكرة استفهام نحو هل فتى فيكم الثالث أن يتقدم عليها نفي نحو ما خل لنا الرابع أن توصف نحو رجل من الكرام عندنا

الخامس أن تكون عاملة نحو رغبة في الخير خير

السادس أن تكون مضافة نحو عمل بر يزين. انظر شرح ابن عقيل ١ / ٢١٨.

٦٥

وقد يجوز أن تقول : رجل قائم إذا سألك سائل فقال : أرجل قائم أم امرأة.

فتجيبه فتقول : رجل قائم وجملة هذا أنه إنما ينظر إلى ما فيه فائدة فمتى كانت فائدة بوجه من الوجوه فهو جائز وإلا فلا فإذا اجتمع اسمان معرفة ونكرة فحق المعرفة أن تكون هي المبتدأ وأن تكون النكرة الخبر لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده فالخبر هو الذي ينكره ولا يعرفه ويستفيده والاسم لا فائدة له لمعرفته به وإنما ذكرته لتسند إليه الخبر وقد يجوز أن تقدم الخبر على المبتدأ ما لم يكن فعلا خاصة فتقول : منطلق زيد وأنت تريد : زيد منطلق (١) ، فإن أردت أن تجعل منطلقا في موضع (ينطلق) فترفع زيدا بمنطلق على أنه فاعل كأنك قلت : ينطلق زيد قبح إلا أن يعتمد اسم الفاعل وهو (منطلق) وما أشبهه على شيء قبله وإنما يجري فجرى الفعل إذا كان صفة جرت على موصوف نحو قولك : مررت برجل قائم أبوه ارتفع (أبوه) (بقائم) أو يكون مبنيا على مبتدأ نحو قولك : زيد قائم أبوه وحسن عندهم : أقائم أبوك وأخارج أخوك تشبيها بهذا إذا اعتمد (قائم) على شيئ قبله فأما إذا قلت قائم زيد فأردت أن ترفع زيدا بقائم وليس قبله ما يعتمد عليه البتة فهو قبيح وهو جائز عندي على قبحه وكذلك المفعول لا يعمل فيه اسم الفاعل مبتدأ غير معتمد على شيء قبله نحو : ضارب وقاتل لا تقول : ضارب بكرا عمرو فتنصب بكرا (بضارب) وترفع عمرا به لا يجوز أن تعمله عمل الفعل حتى يكون محمولا على غيره فتقول : هذا ضارب بكرا جعلوا بين الاسم والفعل فرقا فإذا قلت : قائم أبوك (فقائم) مرتفع بالابتداء وأبوك رفع بفعلهما وهما قد سدا مسد الخبر ولهذا نظائر تذكر في مواضعها إن شاء الله.

فأما قولك : كيف أنت وأين زيد وما أشبهما مما يستفهم به من الأسماء (فأنت وزيد) مرتفعان بالابتداء (وكيف وأين) خبران فالمعنى في : كيف أنت على أي حال أنت وفي : (أين زيد) في أي مكان ولكن الاستفهام الذي صار فيهما جعل لهما صدر الكلام وهو في الحقيقة

__________________

(١) الجامد يتحمل الضمير مطلقا عند الكوفيين ولا يتحمل ضميرا عند البصريين إلا إن أول بمشتق وأن المشتق إنما يتحمل الضمير إذا لم يرفع ظاهرا وكان جاريا مجرى الفعل نحو زيد منطلق أي هو ، فإن لم يكن جاريا مجرى الفعل لم يتحمل شيئا نحو هذا مفتاح وهذا مرمى زيد. انظر شرح ابن عقيل ١ / ٢٠٦.

٦٦

الشيء المستفهم عنه ألا ترى أنك إذا سئلت : كيف أنت فقلت : صالح إنما أخبرت بالشيء الذي سأل عنه المستخبر وكذلك إذا قال : أين زيد فقلت : في داري فإنما أخبرت بما اقتضته أين ولكن جميع هذا ، وإن كان خبرا فلا يكون إلا مبدوءا به وقد تدخل على المبتدأ حروف ليست من عوامل الأسماء فلا تزيل المبتدأ عن حاله كلام الابتداء وحروف الاستفهام (وأما وما (١)) إذا كانت نافية في لغة بني تميم وأشباه ذلك فتقول : أعمرو (قائم) ولبكر أخوك وما زيد قائم ، وأما بكر منطلق فهذه الحروف إنما تدخل على المبتدأ وخبره لمعان فيها ألا ترى أن قولك : عمرو منطلق كان خبرا موجبا فلما أدخلت عليه (ما) صار نفيا وإنما نفيت (بما) ما أوجبه غيرك حقه أن تأتي بالكلام على لفظه وكذلك إذا استفهمت إنما تستخبر خبرا قد قيل أو ظن كأن قائلا قال : عمرو قائم فأردت أن تحقق ذلك فقلت أعمرو قائم وقع في نفسك أن ذلك يجوز وأن يكون وأن لا يكون فاستخبرت مما وقع في نفسك بمنزلة ما سمعته أذنك فحينئذ تقول : أعمرو قائم أم لا لأنك لا تستفهم عن شيء إلا وهو يجوز أن يكون عندك موجبة أو منفية واقعا ولام الابتداء تدخل لتأكيد الخبر وتحقيقه فإذا قلت : لعمرو منطلق أغنت اللام بتأكيدها عن إعادتك الكلام فلذلك احتيج إلى جميع حروف المعاني لما في ذلك من الإختصار ألا ترى أن الواو العاطفة في قولك : قام زيد وعمرو لولاها لاحتجت إلى أن تقول : قام زيد قام عمرو وكذلك جميع الحروف ويوصل بلام القسم فيقال : والله لزيد خير منك لأنك لا

__________________

(١) قال الأشموني : وأما أم فذكر النحاس فيها خلافا وأن أبا عبيدة ذهب إلى أنها بمعنى الهمزة فإذا قلت أقائم زيد أم عمرو فالمعنى أعمرو قائم فتصير على مذهبه استفهامية ، وأما لكن فذهب أكثر النحويين إلى أنها من حروف العطف ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال : أحدها أنها لا تكون عاطفة إلا إذا لم تدخل عليها الواو وهو مذهب الفارسي وأكثر النحويين. والثاني أنها عاطفة ولا تستعمل إلا بالواو والواو مع ذلك زائدة وصححه ابن عصفور ، قال وعليه ينبغي أن يحمل مذهب سيبويه والأخفش لأنهما قالا إنها عاطفة ولما مثلا للعطف بها مثلاه بالواو. والثالث أن العطف بها وأنت مخير في الإتيان بالواو وهو مذهب ابن كيسان. وذهب يونس إلى أنها حرف استدراك وليست بعاطفة والواو قبلها عاطفة لما بعدها على ما قبلها عطف مفرد على مفرد. انظر شرح الأشموني على الألفية ١ / ٢١٠.

٦٧

تقسم إلا مع تحقيق الخبر (وأما) فإنما تذكرها بعد كلام قد تقدم أخبرت فيه عن اثنين أو جماعة بخبر فاختصصت بعض من ذكر وحققت الخبر عنه ألا ترى أن القائل يقول : زيد وعمرو في الدار فتقول : أما زيد ففي الدار ، وأما عمرو ففي السوق وإنما دخلت الفاء من أجل ما تقدم لأنها إنما تدخل في الكلام لتتبع شيئا بشيء وتعق ما دخلت عليه من الكلام بما قبله (ولأما) موضع تذكر فيه وما لم أذكر من سائر الحروف التي لا تعمل في الأسماء فالمبتدأ والخبر بعدها على صورتهما.

٦٨

شرح الثاني وهو خبر المبتدأ

الاسم الذي هو خبر المبتدأ هو الذي يستفيده السامع ويصير به المبتدأ كلاما وبالخبر يقع التصديق والتكذيب (١) ألا ترى أنك إذا قلت : عبد الله جالس فإنما الصدق والكذب وقع في جلوس عبد الله لا في عبد الله ؛ لأن الفائدة هي في جلوس عبد الله وإنما ذكرت عبد الله لتسند إليه (جالسا) فإذا كان خبر المبتدأ اسما مفردا فهو رفع نحو قولك : عبد الله أخوك وزيد قائم وخبر المبتدأ ينقسم على قسمين : إما أن يكون هو الأول في المعنى غير ظاهر فيه ضميره نحو : زيد أخوك وعبد الله منطلق فالخبر هو الأول في المعنى إلا أنه لو قيل لك من أخوك هذا الذي ذكرته لقلت : زيد أو قيل لك : من المنطلق لقلت : عبد الله أو يكن غير الأول ويظهر فيه ضميره نحو قولك : عمرو ضربته وزيد رأيت أباه ، فإن لم يكن على أحد هذين فالكلام محال.

وخبر المبتدأ الذي هو الأول في المعنى على ضربين فضرب يظهر فيه الاسم الذي هو الخبر نحو ما ذكرنا من قولك : زيد أخوك ، وزيد قائم وضرب يحذف منه الخبر ويقوم مقامه ظرف له ، وذلك الظرف على ضربين : إما أن يكون من ظروف المكان وإما أن يكون من ظروف الزمان.

أما الظروف في المكان فنحو قولك : زيد خلفك وعمرو في الدار.

والمحذوف معنى الاستقرار والحلول وما أشبههما كأنك قلت : زيد مستقر خلفك وعمرو مستقر في الدار ولكن هذا المحذوف لا يظهر لدلالة الظرف عليه واستغنائهم به في الاستعمال.

وأما الظرف من الزمان فنحو قولك : القتال يوم الجمعة والشخوص يوم الخميس كأنك قلت : القتال مستقر يوم الجمعة أو وقع في يوم الجمعة والشخوص واقع في يوم الخميس فتحذف الخبر وتقيم الظرف مقام المحذوف ، فإن لم ترد هذا المعنى فالكلام محال ؛ لأن زيدا

__________________

(١) والمعنى أن الخبر يتضمن الحكم بأمر من الأمور لا يمكن أن تستغنى الجملة عنه فى إتمام معناها الأساسى. انظر النحو الوافي ١ / ٢٩١.

٦٩

الذي هو المبتدأ ليس من قولك : (خلفك) ولا في الدار شيء ؛ لأن في الدار ليس بحديث وكذلك خلفك وإنما هو موضع الخبر.

واعلم أنه لا يجوز أن تقول : زيد يوم الخميس ولا عمرو في شهر كذا ؛ لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث وإنما يجوز ذلك في الأحداث نحو الضرب والحمد وما أشبه ذلك وعلة ذلك أنك لو قلت : زيد اليوم لم تكن فيه فائدة ؛ لأنه لا يخلو أحد من أهل عصرك من اليوم إذ كان الزمان لا يتضمن واحدا دون الآخر والأماكن ينتقل عنها فيجوز أن تكون خبرا عن الجثث وغيرها كذلك والظرف من الأماكن تكون إخبارا عن المعاني التي ليست بجثث يعني المصادر نحو قولك : البيع في النهار والضرب عندك ، فإن قال قائل فأنت قد تقول : الليلة الهلال (١) والهلال جثة فمن أين جاز هذا فالجواب في ذلك : أنك إنما أردت : الليلة حدوث الهلال لأنك إنما تقول ذلك عند توقع طلوعه ألا ترى أنك لا تقول : الشمس اليوم ولا القمر الليلة ؛ لأنه غير متوقع وكذلك إن قلت : اليوم زيد وأنت تريد هذا المعنى جاز وتقول : أكل يوم لك عهد ؛ لأن فيه معنى الملك ويوم الجمعة عليك ثوب إنما جاز ذلك لإستقرار الثوب عليك فيه ، وأما القسم الثاني من خبر المبتدأ : وهو الذي يكون غير الأول ويظهر يفه ضميره فلا يخلو من أن يكون الخبر فعلا فيه ضمير المبتدأ نحو : زيد يقوم والزيدان يقومان فهذا الضمير ، وإن كان لا يظهر في فعل الواحد لدلالة المبتدأ عليه يظهر في التثنية والجمع ، وذلك ضرورة خوف اللبس

__________________

(١) لا يقع الزّمان خبرا عن أسماء الذّوات فلا يقال : " زيد اللّيلة" إلّا إن حصلت فائدة جاز عند الأكثرين ، وذلك في ثلاث حالات :

(أ) أنيكون المبتدأ عامّا والزّمان خاصّا إمّا بالإضافة نحو" نحن في شهر ربيع" فنحن ذات وهو عامّ لصلاحيّته لكلّ متكلّم وفي شهر كذا خاصّ ـ وإمّا بالوصف نحو" نحن في زمان طيّب" مع جرّه ب" في" كما مثّل.

(ب) أن تكون الذّات مشبهة للمعنى في تجدّدها وقتا فوقتا نحو : " الهلال اللّيلة".

(ج) أن يقدّر مضاف نحو قول امرئ القيس" اليوم خمر" أي شرب الخمر و" الليلة الهلال" أي رؤية الهلال. انظر معجم القواعد العربية ٨ / ٤.

٧٠

ومضمره كظاهره وأنت إذا قلت : زيد قائم فالضمير لا يظهر في واحده ولا في تثنيته ولا في جمعه ، فإن قال قائل : فإنك قد تقول : الزيدان قائمان والزيدون قائمون قيل له : ليست الألف ولا الواو فيهما ضميرين إنما الألف تثنية الاسم والواو جمع الاسم وأنت إذا قلت : الزيدون قائمون فأنت بعد محتاج إلى أن يكون في نيتك ما يرجع إلى الزيدين ولو كانت الواو ضميرا والألف ضميرا والألف ضميرا لما جاز أن تقول القائمان الزيدان ولا القائمون الزيدون أو يكون جملة فيها ضميره والجمل المفيدة على ضربين : إما فعل وفاعل وإما مبتدأ وخبر أما الجملة التي هي مركبة من فعل وفاعل فنحو قولك : زيد ضربته وعمرو لقيت أخاه وبكر قام أبوه ، وأما الجملة التي هي مركبة من ابتداء وخبر فقولك : زيد أبوه منطلق وكل جملة تاتي بعد المبتدأ فحكمها في إعرابها كحكمها إذا لم يكن قبلها مبتدأ ألا ترى أن إعراب (أبوه منطلق) (١) بعد قولك : بكر كإعرابه لو لم يكن بكر قبله فأبوه مرتفع بالابتداء (ومنطلق) خبره فبكر مبتدأ أول وأبوه مبتدأ ثان ومنطلق خبر الأب والأب (منطلق) خبر بكر وموضع قولك : (أبوه منطلق) رفع ومعنى قولنا : الموضح أي لو وقع موقع الجملة اسم مفرد لكان مرفوعا وقد يجوز أن يأتي مبتدأ بعد مبتدأ بعد مبتدأ وأخبار كثيرة بعد مبتدأ وهذه المبتدآت إذا كثروها فإنما هي شيء قاسه النحويون ليتدرب به المتعلمون ولا أعرف له في كلام العرب نظيرا فمن ذلك قولهم : زيد هند العمران منطلقان إليهما من أجله فزيد مبتدأ أول وهند مبتدأ ثان والعمران مبتدأ ثالث وهند وما بعدها خبر لها والعمران وما بعدهما خبر لهما وجميع ذلك خبر عن زيد والراجع الهاء في قولك من أجله والراجع إلى هند (الهاء) في قولك : إليها والمنطلقان هما العمران وهما الخبر عنها.

__________________

(١) شرط حذف صدر الصلة أن لا يكون ما بعده صالحا ؛ لأن يكون صلة كما إذا وقع بعده جملة نحو جاء الذي هو أبوه منطلق أو هو ينطلق أو ظرف أو جار ومجرور تامان نحو جاء الذي هو عندك أو هو في الدار فإنه لا يجوز في هذه المواضع حذف صدر الصلة فلا تقول جاء الذي أبوه منطلق تعني الذي هو أبوه منطلق ؛ لأن الكلام يتم دونه فلا يدرى أحذف منه شيء أم لا. انظر شرح ابن عقيل ١ / ١٦٨.

٧١

وفيهما ضميرهما فكلما سئلت عنه من هذا فهذا أصله فإذا طال الحديث عن المبتدأ كل الطول وكان فيه ما يرجع ذكره إليه جاز نحو قولك : (عبد الله قام رجل كان يتحدث مع زيد في داره) صار جميع هذا خبرا عن (عبد الله) من أجل هذه الهاء التي رجعت إليه بقولك : (في داره) وموضع هذا الجملة كلها رفع من أجل أنك لو وضعت موضعها (منطلقا) وما أشبهه ما كان إلا رفعا فقد بان من جميع ما ذكرنا أنه قد يقع في خبر المبتدأ أحد أربعة أشياء الاسم أو الفعل أو الظرف أو الجملة.

واعلم أن المبتدأ أو الخبر من جهة معرفتهما أو نكرتهما أربعة :

الأول : أي يكون المبتدأ معرفة والخبر نكرة نحو : عمرو منطلق وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الكلام.

الثاني : أن يكون المبتدأ معرفة والخبر معرفة نحو : زيد أخوك (١) وأنت تريد أنه أخوه من النسب وهذا ونحوه إنما يجوز إذا كان المخاطب يعرف زيدا على إنفراده ولا يعلم أنه أخوه لفرقة كانت بينهما أو لسبب آخر ويعلم أن له أخا ولا يدري أنه زيد هذا فتقول له : أنت زيد أخوك أي زيد هذا الذي عرفته هو أخوك الذي كنت علمته فتكون الفائدة في اجتماعهما ، وذلك هو الذي استفاده المخاطب فمتى كان الخبر عن المعرفة معرفة فإنما الفائدة في مجموعهما فأما أن يكون يعرفهما مجتمعين ، وإن هذا هذا فذا كلام لا فائدة فيه ، فإن قال قائل : فأنت تقول : الله ربنا ومحمد نبينا وهذا معلوم معروف قيل له : هذا إنما هو معروف عندنا وعند المؤمنين

__________________

(١) يشترط لجواز الإخبار عن أل ثلاثة شروط زيادة على ما سبق في الذي وفروعه : الأول أن يكون المخبر عنه من جملة تقدم فيها الفعل ـ وهي الفعلية ـ وإلى هذا الإشارة بقوله : فيه الفعل قد تقدما. الثاني أن يكون ذلك الفعل متصرفا. الثالث أن يكون مثبتا فلا يخبر عن زيد من قولك زيد أخوك ولا من قولك عسى زيد أن يقوم ولا من قولك ما قام زيد ، وإلى هذين الشرطين الإشارة بقوله : (إن صحّ صوغ صلة منه لأل) إذ لا يصح صوغ صلة لأل من الجامد ولا من المنفي. ثم مثل لما يصح ذلك منه بقوله : (كصوغ واق من وقى الله البطل) ، فإن أخبرت عن الفاعل قلت : الواقي البطل أو عن المفعول قلت : الواقية البطل ، ولا يجوز لك أن تحذف الهاء ؛ لأن عائد الألف واللام لا يحذف إلا في الضرورة. انظر شرح الأشموني على الألفية ١ / ٣٩١.

٧٢

وإنما نقوله ردا على الكفار وعلى من لا يقول به ولو لم يكن لنا مخالف على هذا القول لما قيل إلا في التعظيم والتحميد لطلب الثواب به ، فإن المسبح يسبح وليس يريد أن يفيد أحدا شيئا وإنما يريد أن يتبرر ويتقرب إلى الله بقول الحق وبذلك أمرنا وتعبدنا وأصل ذلك الإعتراف بمن الله عليه بأن عرفه نفسه وفضله على من لا يعرف ذلك وأصل الكلام موضوع للفائدة ، وإن اتسعت المذاهب فيه ولكن لو قال قائل : النار حارة والثلج بارد لكان هذا كلاما لا فائدة فيه ، وإن كان الخبر فيهما نكرة.

الثالث : أن يكون المبتدأ نكرة والخبر نكرة وقد بينا أن الجائز من ذلك ما كانت فيه فائدة.

فأما الكلام إذا كان منفيا ، فإن النكرة فيه حسنة ؛ لأن الفائدة فيه واقعة نحو قولك : ما أحد في الدار وما فيها رجل.

الرابع : أن يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة وهذا قلب ما وضع عليه الكلام وإنما جاء مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر فتعمل لضرورة الشاعر نحو قوله :

كأنّ سلافة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

فجعل اسم (كأن) عسل وهو نكرة وجعل مزاجها الخبر وهو معرفة بالإضافة إلى الضمير ومع ذلك فإنما حسن هذا عند قائله أن عسلا وماء نوعان وليسا كسائر النكرات التي تنفصل بالخلقة والعدد نحو : تمرة وجوزة والضمير الذي في (مزاجها) راجع إلى نكرة وهو قوله : سلافة فهو مثل قولك : خمرة ممزوجة بماء.

وقد يعرض الحذف في المبتدأ وفي الخبر أيضا لعلم المخاطب بما حذف والمحذوف على ثلاث جهات (١) :

__________________

(١) مثال حذف المبتدأ أن يقال كيف زيد فتقول صحيح أي هو صحيح ، وإن شئت صرحت بكل واحد منهما فقلت زيد عندنا وهو صحيح

ومثله قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل صالحا فعمله لنفسه ومن أساء فإساءته عليها. انظر شرح ابن عقيل ١ / ٢٤٦.

٧٣

الأولى : حذف المبتدأ وإضماره إذا تقدم من ذكره ما يعلمه السامع فمن ذلك أن ترى جماعة يتوقعون الهلال فيقول القائل : الهلال والله أي : هذا الهلال فيحذف هذا وكذلك لو كنت منتظرا رجلا فقيل : عمرو جاز على ما وصفت لك ومن ذلك : مررت برجل زيد لأنك لما قلت : مررت برجل أردت أن تبين من هو فكأنك قلت هو زيد وعلى هذا قوله تعالى : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج : ٧٢].

الجهة الثانية : أن تحذف الخبر لعلم السامع فمن ذلك أن يقول القائل : ما بقي لكم أحد فتقول : زيد أو عمرو أي : زيد لنا ومنه لو لا عبد الله لكان كذا وكذا فعبد الله مرتفع بالابتداء والخبر محذوف وهو في مكان كذا وكذا فكأنه قال : لو لا عبد الله بذلك المكان ولو لا القتال كان في زمان كذا وكذا ولكن حذف حين كثر استعمالهم إياه وعرف المعنى فأما قوله : لكان (كذا وكذا) فحديث متعلق بحديث (لو لا) وليس من المبتدا في شيء ومن ذلك : هل من طعام فموضع (من طعام) رفع كأنك قلت : هل طعام والمعنى : هل طعام في زمان أو مكان و (من) تزاد توكيدا مع حرف النفي وحرف الاستفهام إذا وليهما نكرة وسنذكرها في موضعها إن شاء الله.

وقد أدخلوها على الفاعل والمفعول أيضا كما أدخلوها على المبتدأ فقالوا : ما أتاني من رجل في موضع : ما أتاني رجل. (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) و (هل تحس منهم من أحد).

وكذلك قولك : هل من طعام وإنما هو : هل طعام فموضع (من طعام) رفع بالابتداء.

الجهة الثالثة : أنهم ربما حذفوا شيئا من الخبر في الجمل ، وذلك المحذوف على ضربين : إما أن يكون فيه الضمير الراجع إلى المبتدأ نحو قولهم : السمن منوان بدرهم (١) يريد : منه وإلا كان كلاما غير جائز ؛ لأنه ليس فيه ما يرجع إلى الأول وإما أن يكون المحذوف شيئا ليس فيه راجع

__________________

(١) من أمثلة الخصوص أن تكون موصوفة اما بصفة مذكورة نحو (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) (ولعبد مؤمن خير من مشرك) أو بصفة مقدرة كقولهم السّمن منوان بدرهم فالسمن مبتدأ أوّل ومنوان مبتدأ ثان وبدرهم خبره والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول والمسوّغ للابتداء بمنوان أنه موصوف بصفة مقدرة أي منوان منه. انظر شرح شذور الذهب ١ / ٢٣٥.

٧٤

ولكنه متصل بالكلام نحو قولك : الكر بستين درهما فأمسكت عن ذكر الدرهم بعد ذكر الستين لعلم المخاطب.

وتعتبر خبرا لمبتدأ بأنك متى سألت عن الخبر جاز أن يجاب بالمبتدأ ؛ لأنه يرجع إلى أنه هو هو في المعنى.

ألا ترى أن القائل إذا قال : عمرو منطلق فقلت : من المنطلق قال : عمرو وكذلك إذا قال :عبد الله أخوك فقلت : من أخوك قال : عبد الله وكذلك لو قال : عبد الله قامت جاريته في دار أخيه فقلت : من الذي قامت جاريته في دار أخيه لقال : عبد الله وخبر المبتدأ يكون جواب (ما) واي وكيف وكم وأين ومتى يقول القائل : الدينار ما هو فتقول : حجر فتجيبه بالجنس ويقول الدينار أي الحجارة هو فتقول : ذهب فتجيبه بنوع من ذلك الجنس وهذا إنما يسأل عنه من سمع بالدينار ولم يعرفه.

ويقول : الدينار كيف هو فتقول : مدور أصفر حسن منقوش ويقول : الدينار كم قيراطا هو فتقول : الدينار عشرون قيراطا فيقول : أين هو فتقول : في بيت المال والكيس ونحو ذلك ولا يجوز أن تقول : الدينار متى هو وقد بينا أن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث إلا على شرط الفائدة والتأول ولكن تقول : القتال متى هو فتقول : يوم كذا وكذا فأما إذا كان الخبر معرفة أو معهودا فإنما يقع في جواب (من وأي) نحو قوله : زيد من هو والمعنى : أي الناس هو وأي القوم هو فتقول : أخوك المعروف أو أبو عمرو أي الذي من أمره كذا وتقول : هذا الحمار أي الحمير هو فتقول : الأسود المعروف بكذا وما أشبهه.

واعلم أن خبر المبتدأ إذا كان اسما من أسماء الفاعلين وكان المبتدأ هو الفاعل في المعنى وكان جاريا عليه إلى جنبه أضمر فيه ما يرجع إليه وانستر الضمير نحو قولك : عمرو قائم وأنت منطلق فأنت وعمرو الفاعلان في المعنى ؛ لأن عمرا هو الذي قام وقائم جار على (عمرو) وموضوع إلى جانبه لم يحل بينه وبينه حائل فمتى كان الخبر بهذه الصفة لم يحتج إلى أن يظهر الضمير إلا مؤكدا ، فإن أردت التأكيد قلت : زيد قائم هو ، وإن لم ترد التأكيد فأنت مستغن عن ذلك وإنما احتمل (ضارب وقائم) وما أشبههما من أسماء الفاعلين ضمير الفاعل

٧٥

ورفع الأسماء التي تبنى عليه لمضارعته الفعل فأضمروا فيه كما أضمروا في الفعل إلا أن المشبه بالشيء ليس هو ذلك الشيء بعينه فضمنوه الضمير متى كان جاريا على الاسم الذي قبله وإنما يكون كذلك في ثلاثة مواضع : إما أن يكون خبرا لمبتدأ نحو قولك : عمرو منطلق كما ذكرنا أو يكون صفة نحو : مررت برجل قائم أو حالا نحو : رأيت زيدا قائما ففي اسم الفاعل ضمير في جميع هذه المواضع ، فإن وقع بعدها اسم ظاهر ارتفع ارتفاع الفاعل بفعله ومتى جرى اسم الفاعل على غير من هو له فليس يحتمل أن يكون فيه ضمير الفاعل كما يكون في الفعل ؛ لأن انستار ضمير الفاعل إنما هو للفعل ولذلك بنيت لام (فعل) مع ضمير الفاعل المخاطب في (فعلت) والمخاطب والمخاطبة أيضا في (فعلت) وفعلت كما بينا فيما مضى.

فإن قلت : هند زيد ضاربته (١) لم يكن بد من أن تقول : هي من أجل أن قولك : (ضاربته) ليس لزيد في الفعل نصيب وإنما الضرب كان من هند ولم يعد عليها شيء من ذكرها والفعل لها فإنما (ضاربته) خبر عن زيد وفاعله هند في المعنى ولم يجز إلا إظهار الضمير فقلت حينئذ هي مرتفعة (بضاربته) كما ترتفع هند إذا قلت : زيد ضاربته هند فالمكنى هاهنا بمنزلة الظاهر ولا يجوز أن تتضمن (ضاربته) ضمير الفاعل ، فإن أردت أن تثني قلت : الهندان الزيدان ضاربتهما هما ؛ لأن (ضاربه) ليس فيه ضمير الهندين إنما هو فعل فاعله المضمر هذا على قول من قال : أقائم أخواك فأما من قال : أكلوني البراغيث فيجعل في الفعل علامة التثنية والجمع ولم يرد الضمير ليدل على أن فاعله مثنى أو مجموع كما كانت التاء في (فعلت هند) فرقا بين فعل المذكر والمؤنث فإنه يقول : الهندان الزيدان ضاربتاهما هما فإذا قلت : هند زيد ضاربته هي (فهند)

__________________

(١) هذا مثال ما أمن فيه اللبس زيد هند ضاربها هو وهند زيد ضاربته هي فيجب الإبراز أيضا لجريان الخبر على غير من هو له. وقال الكوفيون لا يجب الإبراز حينئذ ووافقهم الناظم في غير هذا الكتاب واستدلوا لذلك بقوله :

قومي ذرى المجد بانوها وقد علمت

بكنه ذلك عدنان وقحطان

انظر شرح الأشموني على الألفية ١ / ٩٦.

٧٦

مرتفعة بالابتداء (وزيد) مبتدأ ثان وضاربته خبر زيد (وهي) هذه اللفظة مرتفعة بأنها فاعلة والفعل (ضاربته) والهاء ترجع إلى زيد وهي ترجع إلى هند والجملة خبر عنها ، فإن جعلت موضع فاعل يفعل فقلت : زيد هند تضربه أضمرت الفاعل ولم تظهره فهذا مما خالفت فيه الأسماء الأفعال ألا ترى أنك تقول : زيد أضربه وزيد تضربه ، فإن كان في موضع الفعل اسم الفاعل لم تقل إلا زيد ضاربه أنا أو أنت ؛ لأن في تصاريف الفعل ما يدل على المضمر ما هو كما قد ذكرنا فيما قد تقدم وليس ذلك في الأسماء وحكم اسم المفعول حكم اسم الفاعل تقول : زيد مضروب فتكون خبرا لزيد كما تكون (ضارب) ويكون فيه ضميره كما يكون في الفاعل فتقول : عمرو الجبة مكسوته ، إذ كان في (مكسوته) ضمير الجبة مستترا ، فإن كان فيه ضمير (عمرو) لم يجز حتى تقول : عمرو الجبة مكسوها هو فحكم المفعول حكم الفاعل كما أن فعل (كفعل) في عمله وحق خبر المبتدأ إذا كان جملة أن يكون خبرا كاسمه يجوز فيه التصديق والتكذيب ولا يكون استفهاما ولا أمرا ولا نهيا وما أشبه ذلك مما لا يقال فيه صدقت ولا كذبت ولكن العرب قد اتسعت في كلامها فقالت : زيد كم مرة رأيته فاستجازوا هذا لما كان زيد في المعنى والحقيقة داخلا في جملة ما استفهم عنه ؛ لأن الهاء هي زيد وكذلك كل ما اتسعوا فيه من هذا الضرب.

٧٧

شرح الثالث من الأسماء المرتفعة وهو الفاعل (١)

الاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو الذي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل ، ويجعل الفعل حديثا عنه مقدما قبله كان فاعلا في الحقيقة أو لم يكن كقولك : جاء زيد ومات عمرو وما أشبه ذلك ومعنى قولي : بنيته على الفعل الذي بني للفاعل أي : ذكرت الفعل قبل الاسم لأنك لو أتيت بالفعل بعد الاسم لأرتفع الاسم بالابتداء وإنما قلت على الفعل الذي بني للفاعل لأفرق بينه وبين الفعل الذي بني للمفعول إذ كانوا قد فرقوا بينهما فجعلوا (ضرب) للفاعل مفتوح الفاء و (ضرب) للمفعول مضموم الفاء مكسور العين وقد جعل بينهما في جميع تصاريف الأفعال ماضيها ومستقبلها وثلاثيها ورباعيها وما فيه زائد منها فروق في الأبنية وهذا يبين لك في موضعه إن شاء الله.

وإنما قلت : كان فاعلا في الحقيقة أو لم يكن ؛ لأن الفعل ينقسم قسمين : فمنه حقيقي ومنه غير حقيقي والحقيقي ينقسم قسمين :

أحدهما : أن يكون الفعل لا يتعدى الفاعل إلى من سواه ولا يكون فيه دليل على مفعول نحو : قمت وقعدت.

والآخر : أن يكون فعلا وأصلا إلى اسم بعد اسم الفاعل.

والفعل الواصل على ضربين : فضرب واصل مؤثر نحو : ضربت زيدا وقتلت بكرا.

والضرب الآخر واصل إلى الاسم فقط غير مؤثر فيه نحو : ذكرت زيدا ومدحت عمرا وهجوت بكرا ، فإن هذه تتعدى إلى الحي والميت والشاهد والغائب ، وإن كنت إنما تمدح الذات وتذمها إلا أنها غير مؤثرة.

ومنها الأفعال الداخلة على الابتداء والخبر وإنما تنبىء عن الفاعل بما هجس في نفسه أو تيقنه غير مؤثرة بمفعول ولكن أخبار الفاعل بما وقع عنده نحو : ظننت زيدا أخاك. وعلمت زيدا خير الناس.

__________________

(١) الفاعل : هو ما قدّم الفعل او شبهه عليه وأسند إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه ك علم زيد ومات بكر وضرب عمرو و (مختلف الوانه). انظر شرح شذور الذهب ١ / ٢٠٤.

٧٨

القسم الثاني : من القسمة الأولى : وهو الفعل الذي هو غير فعل حقيقي فهو على ثلاثة أضرب فالضرب الأول : أفعال مستعارة للإختصار وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولون نحو : مات زيد وسقط الحائط ومرض بكر.

والضرب الثاني : أفعال في اللفظ وليست بأفعال حقيقية وإنما تدل على الزمان فقط ، وذلك قولك : كان عبد الله أخاك وأصبح عبد الله عاقلا ليست تخبر بفعل فعله إنما تخبر أن عبد الله أخوك فيما مضى وأن الصباح أتى عليه وهو عاقل.

والضرب الثالث : أفعال منقولة يراد بها غير الفاعل (١) الذي جعلت له نحو قولك : لا أرينك هاهنا فالنهي إنما هو للمتكلم كأنه ينهي نفسه في اللفظ وهو للمخاطب في المعنى وتأويله : لا تكونن هاهنا ، فإن (من) حضرني رأيته ومثله قوله تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] لم ينههم عن الموت في وقت ؛ لأن ذلك ليس المهم تقديمه وتأخيره ولكن معناه : كونوا على الإسلام ، فإن الموت لا بد منه فمتى صادفكم صادفكم عليه وهذا تفسير أبي العباس رحمه الله.

فالاسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو والفعل جملة يستغني عليها السكوت وتمت بها الفائدة للمخاطب ويتم الكلام به دون مفعول والمفعول فضلة في الكلام كالذي تقدم فأما الفعل فلا بد له من فاعل وما يقوم مقام الفاعل بمنزلة الابتداء والخبر ألا ترى أنك إذا قلت : قام زيد فهو بمنزلة قولك : القائم زيد.

فالفاعل رفع إذا أخبرت عنه أنه (فعل) وسيفعل أو هو في حاذل الفعل أو استفهمت عنه هل يكون فاعلا أو نفيت أن يكون فاعلا نحو : قام عبد الله ويقوم عبد الله. وسيقوم عبد الله.

وفي الاستفهام : أيقوم عبد الله؟ وفي الجزاء : إن يذهب زيد أذهب ، وفي النفي : ما ذهب زيد ولم يقم عمرو فالعامل هو الفعل على عمله أين نقلته لا يغيره عن عمله شيء أدخلت عليه ما يعمل فيه أو لم يعمل فسواء كان الفعل مجزوما أو منصوبا أو مرفوعا أو موجبا أو منفيا أو

__________________

(١) فكأن الخطاب فيها قد وجه للمفعول.

٧٩

خبرا أو استخبارا هو في جميع هذه الأحوال لا بدّ من أن يرفع به الاسم الذي بني له فالأفعال كلها ماضيها وحاضرها ومستقبلها يرفع بها الفاعل بالصفة التي ذكرناها ومن الأفعال ما لا يتصرف في الأزمنة الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل ويقتصر به على زمان واحد فلا يتصرف في جميع تصاريف الأفعال وقد أفردناها وقد أعملوا اسم الفعل وتأملت جميع ذلك فوجدت الأشياء التي ترتفع بها الأسماء ارتفاع الفاعل ستة أشياء : فعل متصرف وفعل غير متصرف وأسم الفاعل والصفة المشبهة باسم الفاعل والمصدر والأسماء التي سموا فيها الفعل في الأمر والنهي.

فأما الأول : وهو الفعل المتصرف فنحو : قام وضرب وتصرفه أنك تقول : يقوم وأقوم وتقوم ، وضرب ويضرب وأضرب ، وجميع تصاريف الأفعال جارية عليه ويشتق منه اسم الفاعل فتقول : ضارب.

والثاني : وهو الفعل الذي هو غير متصرف نحو : ليس وعسى وفعل التعجب ونعم وبئس لا تقول منه يفعل ولا فاعل ، ولا يزول عن بناء واحد وسنذكر هذه الأفعال بعد في مواضعها إن شاء الله.

الثالث : وهو اسم الفاعل (١) الجاري على فعله نحو قولك : قام يقوم فهو قائم : وضرب يضرب فهو ضارب وشرب يشرب فهو شارب فضارب وشارب وقائم أسماء الفاعلين.

وقد بينا أن اسم الفاعل لا يحسن أن يعمل إلا أن يكون معتمدا على شيء قبله ، وذكرنا ما يحسن من ذلك وما يقبح في باب خبر الابتداء.

والرابع : الصفة المشبهة باسم الفاعل نحو قولك : حسن وشديد تقول : الحسن وجه زيد والشديد ساعدك وما أشبهه.

__________________

(١) اسم الفاعل وهو ما اشتقّ من فعل لمن قام به على معنى الحدوث كضارب ومكرم ، فإن صغّر أو وصف لم يعمل وإلّا ، فإن كان صلة لأل عمل مطلقا وإلّا عمل إن كان حالا أو استقبالا واعتمد ولو تقديرا على نفي أو استفهام أو مخبر عنه أو موصوف. انظر شرح شذور الذهب ١ / ٤٩٦.

٨٠