الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

والجبل هما جماعة البلاد وكذلك البطن والظهر إنما يراد بهما جماعة الشخص ، فإن أراد باليد والرجل أنه قد : ضربت جماعة واجتزأ بذكر الطرفين في ذلك جاز.

قال : وقد سمعناهم يقولون : ضربتهم ظهرا وبطنا وتقول : ضربت قومك صغيرهم وكبيرهم على البدل والتأكيد جميعا ، فإن قلت : أو كبيرهم لم يجز إلا البدل وتقول : زيد ضربته أخاك فتبدل (أخاك) من الهاء ؛ لأن الكلام الأول قد تم وقد خبرتك : أن البدل إنما هو اختصار خبرين ، فإن قلت : زيد ضربت أخاك إيّاه لم يجز ؛ لأن الكلام الأول ما تم ، فإن قلت :مررت برجل قائم رجل أبوه فجعلت أباه بدلا من رجل لم يجز ؛ لأنه لا يصلح أن تقول :مررت برجل قائم أبوه وتسكت ولا يتم بذلك الكلام ، فإن قلت : مررت برجل قائم زيد أبوه فقد أجازه الأخفش على الصفة وقال : لأن قولك أبوه من صفة زيد فصار كأنه بعض اسمه ولو كان بدلا من زيد لم يكن كلاما ونظير هذا : مررت برجل قائم رجل يحبه وبرجل قائم زيد الضاربه.

٤٤١

الخامس من التوابع وهو العطف بحرف

حروف العطف عشرة أحرف يتبعن ما بعدهن ما قبلهن من الأسماء والأفعال في إعرابها : الأول الواو : ومعناها إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول وليس فيها دليل على أيهما كان أولا نحو قولك : جاء زيد وعمرو ولقيت بكرا وخالدا ومررت بالكوفة والبصرة فجائز أن تكون البصرة أولا وجائز أن تكون الكوفة أولا قال الله عز وجل : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] والركوع قبل السجود.

الثاني (الفاء) : وهي توجب أن الثاني بعد الأول ، وإن الأمر بينهما قريب نحو قولك :رأيت زيدا فعمرا ودخلت مكة فالمدينة وجاءني زيد فعمرو ومررت بزيد فعمرو فهي تجيء لتقدم الأول واتصال الثاني فيه.

الثالث (ثمّ) : وثم مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا وتجيء لتعلم أن بين الثاني والأول مهلة تقول ضربت زيدا ثم عمرا وجاءني زيد ثم عمرو ومررت بزيد ثم عمرو.

الرابع (أو) : ولها ثلاثة مواضع تكون لأحد الشيئين بغير تعيينه عند شك المتكلم أو قصده أحدهما أو إباحة ، وذلك قولك : أتيت زيدا أو عمرا وجاءني رجل أو امرأة هذا إذا شك فأما إذا قصد بقوله أحدهما فنحو : كل السمك أو اشرب اللبن أي لا تجمعهما ولكن اختر أيهما شئت وكقولك : أعطني دينارا أو اكسني ثوبا والموضع الثالث الإباحة ، وذلك قولك : جالس الحسن أو ابن سيرين وأئت المسجد أو السوق أي قد أذنت لك في مجالسة هذا الضرب من الناس وعلى هذا قول الله عز وجل : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤].

الخامس (إما) : وإما في الشك والخبر بمنزلة (أو) وبينهما فصل ، وذلك أنك إذا قلت :جاءني زيد أو عمرو وقع الخبر في (زيد) يقينا حتى ذكرت (أو) فصار فيه وفي عمرو شك و (إما) تبتدىء به شاكا ، وذلك قولك : جاءني إما زيد وإما عمرو أي أحدهما وكذلك وقوعها للتخيير تقول : اضرب إما عبد الله وإما خالدا فالآمر لم يشك ولكنه خير المأمور كما كان ذلك

٤٤٢

في (أو) ونظيره قول الله عز وجل : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] وكقوله عز وجل : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤].

السادس (لا) : وهي تقع لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول ، وذلك قولك : ضربت زيدا لا عمرا ومررت برجل لا امرأة وجاءني زيد لا عمرو.

السابع (بل) : ومعناها الإضراب عن الأول والإثبات للثاني نحو قولك : ضربت زيدا بل عمرا وجاءني عبد الله بل أخوه وما جاءني رجل بل امرأة.

الثامن (لكن) : وهي للإستدراك بعد النفي ولا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا لترك قصة إلى قصة (تامة) فأما مجيئها للإستدراك بعد النفي فنحو قولك : ما جاءني زيد لكن عمرو وما رأيت رجلا لكن امرأة ومررت بزيد لكن عمرو لم يجز.

التاسع (أم) : وهي تقع في الاستفهام في موضعين : فأحدهما أن تقع عديلة الألف على معنى (أي) ، وذلك نحو قولك : أزيد في الدار أم عمرو وكقولك : أأعطيت زيدا أم أحرمته فليس جواب هذا لا ولا (نعم) كما أنه إذا قال : أيهما لقيت أو أي الأمرين فعلت لم يكن جواب هذا لا ولا (نعم) ؛ لأن المتكلم مدع أن أحد الأمرين قد وقع لا يدري أيهما هو فالجواب أن يقول : زيد أو عمرو ، فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب : أن تقول : لم ألق واحدا منهما أو كليهما فمن ذلك قول الله عز وجل : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] ومثل ذلك : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) [الدخان : ٣٧] فخرج هذا من الله مخرج التوقيف والتوبيخ ومخرجه من الناس يكون استفهاما ويكون توبيخا ويدخل في هذا الباب التسوية ؛ لأن كل استفهام فهو تسوية ، وذلك نحو قولك : ليت شعري أزيد في الدار أم عمرو وسواء عليّ أذهبت أم جئت فقولك : سواء عليّ تخبر أن الأمرين عندك واحد وإنما استوت التسوية والاستفهام لأنك إذا قلت مستفهما : أزيد عندك أم عمرو؟ فهما في جهلك لهما مستويان لا تدري أن زيدا في الدار كما لا تدري أن عمرا فيها ، وإذا قلت : قد علمت أزيد في الدار أم عمرو فقد استويا عند السامع كما استوى الأولان عند المستفهم وأي داخلة في كل موضع تدخل فيه أم مع الألف تقول : قد عملت أيّهما في الدار تريد أذا أم ذا قال الله عز وجل : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها

٤٤٣

أَزْكى طَعاماً) [الكهف : ١٩] وقال : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢] فأي تنتظم معنى الألف مع أم جميعا ، وأما الموضع الثاني من موضعي (أم) ، فإن تكون منقطعة مما قبلها خبرا كان أو استفهاما ، وذلك نحو قولك فيما كان خبرا : إنّ هذا لزيد أم عمرو يا فتى ، وذلك أنك نظرت إلى شخص فتوهمته زيدا فقلت على ما سبق إليك ثم أدركك الظن أنه عمرو فانصرفت عن الأول فقلت : أم عمرو مستفهما فإنما هو إضراب على معنى (بل) إلا أن ما يقع بعد (بل) يقين وما يقع بعد (أم) مظنون مشكوك فيه ، وذلك أنك تقول : ضربت زيدا ناسيا أو غالطا ثم تذكر فتقول : بل عمرا مستدركا مثبتا للثاني تاركا للأول فهي تخرج من الغلط إلى استثبات ومن نسيان إلى ذكر و (أم) معها ظن أو استفهام وإضراب عما كان قبله ومن ذلك : هل زيد منطلق أم عمرو يا فتى قائما أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد وجعل السؤال عن عمرو فهذا مجرى هذا وليس على منهاج.

قولك : أزيد في الدار أم عمرو وأنت تريد : أيهما في الدار ؛ لأن (أم) عديلة الألف ولا تقع (هل) موقع الألف مع (أم) وقد تدخل (أم) على (هل).

قال الشاعر :

أم هل كبير بكى ... (١)

(١) على أنه يجوز أن تأتي هل بعد أم. وليس فيه جمع استفهامين ، فإن أم عند الشارح ، كما تقدم في حروف العطف مجردة عن الإستفهام إذا وقع بعدها أداة استفهام ، حرفا كانت أم اسما.

وأم المنقطعة عن الشارح حرف استئناف بمعنى بل فقط ، أو مع الهمزة بحسب المعنى ، وذلك فيما إذا لم يوجد بعدها أداة استئناف. وليست عاطفة عنده ، وفاقا للمغاربة.

قال المرادي في الجنى الداني : إن قلت : أم المنقطعة هل هي عاطفة أو ليست بعاطفة؟ قلت : المغاربة يقولون : إنها ليست بعاطفة ، لا في مفرد ، ولا في جملة.

وذكر ابن مالك أنها قد تعطف المفرد ، كقول العرب : إنها لإبل أم شاء. قال : فأم هنا لمجرد الإضراب عاطفة ما بعدها على ما قبلها ، كما يكون ما بعد بل فإنها بمعناها. انتهى.

٤٤٤

العاشر (حتى) : تقول ضربت القوم حتّى زيدا وقد ذكرتها كيف تكون عاطفة فيما تقدم حين ذكرناها مع حروف الخفض وأفردنا لها بابا واعلم أن قوما يدخلون ليس في حروف العطف ويجعلونها كلا وهذا شاذ في كلامهم وقد حكى سيبويه أن قوما يجعلونها (كما) فيقولون : ليس الطيب إلا المسك.

واعلم أن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض ، فإن وجدت ذلك في كلام فقد أخرج أحدهما من حروف النسق.

__________________

قال ابن هشام في المغني : لا تدخل أم المنقطعة على مفرد ، ولهذا قدروا المبتدأ في : إنها لإبل أم شاء. وخرق ابن مالك في بعض كتبه إجماع النحويين ، فقال : لا حاجة لتقدير مبتدأ.

وزعم أنها تعطف المفردات كبل ، وقدرها ببل دون همزة. واستدل بقول بعضهم : إن هناك لإبلا أم شاء بالنصب. فإن صحت روايته فالأولى أن يقدر لشاء ناصب ، أي : أم أرى شاء. انتهى.

وممن ذهب إلى أن أم عاطفة ابن يعيش ، ثم اضطرب كلامه في نحو : أم هل ، وفي : أم كيف. فتارة ادعى تجريد أم عن الإستفهام ، وتارة ادعى التجريد عن هل.

قال في فصل حرفي الإستفهام : من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد. فإن قيل : فقد تدخل على هل أم ، وهي استفهام ، نحو : أم هل كبير بكى ... البيت؟ فالجواب أن أم فيها معنيان : أحدهما : الاستفهام.

والآخر : العطف ، فلما احتيج إلى معنى العطف فيها مع هل خلع منها دلالة الاستفهام ، وبقي العطف بمعنى بل للترك ، ولذلك قال سيبويه : إن أم تجيء بمعنى لا بل ، للتحويل من شيء إلى شيء. وليس كذلك الهمزة ، لأنها ليس فيها إلا دلالة واحدة. انتهى كلامه.

وقوله : من المحال اجتماع حرفين بمعنى واحد هو في هذا تابع لابن جني ، وقد ذكرنا في الشاهد السادس بعد التسعمائة : أنه لا مانع من اجتماعهما للتأكيد ، كقوله :

ولا للما بهم أبدا دواء

والعطف هنا على قوله من عطف الجمل ، وليس لها تشريك في غير الوجود.

وقال ابن يعيش أيضا في فصل الحكاية : وأما ما حكاه أبو علي من قولهم : ضرب من منا ، فهي حكاية نادرة.

ووجهها أنها جردت من الدلالة على استفهام حتى صارت اسما كسائر الأسماء ، يجوز إعرابها وتثنيتها وجمعها ، كما جردوا أيا من الاستفهام حيث وصفوا بها ، فقالوا : مررت برجل أي رجل. وقد فعلوا ذلك في مواضع. انظر خزانة الأدب ٤ / ١٨٠.

٤٤٥

وذلك مثل قولهم : لم يقم عمرو ولا زيد الواو نسق (ولا) توكيد للنفي وكذلك قولك :والله لا فعلت ثم والله لا فعلت ثم نسق والواو قسم وحروف العطف لا يفرق بينها وبين المعطوف بشيء مما يعترض بين العامل والمعمول فيه والأشياء التي يعترض بها : الأيمان والشكوك والشروط.

وقد يجوز ذلك في (ثم وأو ولا) لأنها تنفصل وتقوم بأنفسها وقد يجوز الوقوف عليها فتقول : قام زيد ثم والله عمرو وثم أظن عمرو و (لا) التي للعطف يصح أن تلي الماضي ؛ لأنه قد غلب عليه الدعاء وقد يجوز أن يكون مع الماضي بمنزلة (لم) ، وذلك قولك : زيد قام لا قعد فيلتبس بالدعاء ، فإن لم يلتبس جاز عندي وقد جاءت (لا) نافية مع الماضي في غير خبر كما جاءت (لم) ، وذلك قوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] وتقول : لم يقم زيد ولم يقعد ولا يجوز : ولا يقعد إلا أن ترفعه وكذلك : لن يقوم زيد ولا يقعد بواو وغير واو.

٤٤٦

باب العطف على الموضع

الأشياء التي يقال أن لها موضعا غير لفظها على ضربين : أحدهما اسم مفرد مبني والضرب الآخر اسم قد عمل فيه عامل أو جعل مع غيره بمنزلة اسم فيقال : إن الموضع للجميع ، فإن كان الاسم معربا مفردا فلا يجوز أن يكون له موضع لأنا إنما نعترف بالموضع إذا لم يظهر في اللفظ الإعراب فإذا ظهر الإعراب فلا مطلوب.

الضرب الأول : وهو الاسم المضمر والمبني

، وذلك نحو : هذا تقول : إن هذا أخوك فموضع (هذا) نصب لأنك لو جعلت موضع هذا اسما معربا قلت : إن زيدا أخوك فمن أجل هذا جاز أن تقول : إن هذا وزيدا قائمان ولهذا جاز أن تقول : يا زيد العاقل فتنصب على الموضع وإنما جاز الرفع على اللفظ ؛ لأنه مبني يشبه المعرب لاطراده في الرفع وقد بينت هذا في باب النداء وليس في قولك (هذا) حركة تشبه الإعراب فإذا قلت : يا زيد وعمرو فحكم الثاني حكم الأول ؛ لأنه منادى فهو مضموم وقد قالوا على ذلك : يا زيد والحارث كما دخلت الألف واللام و (يا) لا تدخل عليهما ومن قال : إن موضع الاسم الذي عملت فيه (إنّ) رفع فقد غلط من قبل أن المعرب لا موضع له ومن أجل أنه يلزمه أن يكون لهذا موضعان في قولك : إن هذا وزيدا أخواك ؛ لأن موضع زيد عنده إذا قال : إن زيدا رفع فيلزمه أن يكون موضع (هذا) نصبا ورفعا.

الضرب الثاني : ينقسم أربعة أقسام :

جملة قد عمل بعضها في بعض أو اسم عمل فيه حرف أو اسم بني مع غيره بناء أو اسم موصول لا يتمّ إلا بصلته.

[القسم] الأول جملة قد عمل بعضها في بعض :

اعلم أن الجمل على ضربين ضرب لا موضع له وضرب له موضع.

فأما الجملة التي لا موضع لها فكل جملة ابتدأتها فلا موضع لها نحو قولك : مبتدئا : زيد في الدار وعمرو عندك فهذه لا موضع لها.

٤٤٧

الضرب الثاني : الجملة موقع اسم مفرد نحو قولك : زيد أبوه قائم فأبوه قائم جملة موضعها رفع لأنك لو جعلت موضعها اسما مفردا نحو : منطلق لصلح وكنت تقول : زيد منطلق فتقول على هذا هند منطلقة وأبوها قائم فيكون موضع أبوها (قائم) رفعا لأنك لو وضعت موضع هذه الجملة (قائمة) لكان رفعا ، فإن قلت : هند أبوها قائم ومنطلقة جاز والأحسن عندي أن تقدم (منطلقة) ؛ لأن الأصل للمفرد والجملة فرع ولا ينبغي أن تقدم الفرع على الأصل إلا في ضرورة شعرهم وكذلك : مررت بامرأة أبوها شريف وكريمة حقه أن يقول : بامرأة كريمة وأبوها شريف ؛ لأن الأصل للمفرد ، وإن وصفه مثله مفردا وتقديم الجملة في الصفة عندي على المفرد أقبح منه في الخبر إذا قلت : هند أبوها كريم وشريفة ؛ لأن أصل الصفة أن تكون مساوية للموصوف تابعة له في لفظها ومعرفتها ونكرتها وليس الخبر من المبتدأ بهذه المنزلة فإذا قلت : زيد أبوه قائم وكريم لزيد لم يحسن ؛ لأنه ملبس يصلح أن يكون لزيد وللأب والأولى أن يكون معطوفا على (قائم) لما خبرتك ، فإن لم يلبس صلح وكذلك حق حروف العطف أن تعطف على ما قرب منها أولى.

القسم الثاني اسم عمل فيه حرف :

هذا القسم على ضربين :

ضرب يكون العامل فيه حرفا زائدا للتوكيد سقوطه لا يخل بالكلام بل يكون الإعراب على حقه والكلام

مستعمل.

والضرب الآخر أن يكون الحرف العامل غير زائد ومتى أسقط لم يتصل الكلام بعضه ببعض.

فالضرب الأول : نحو قولك : لست بقائم ولا قاعد الباء زائدة لتأكيد النفي ، ولو أسقطتها لم يخل بالكلام واتصل بعضه ببعض فموضع (بقائم) نصب ؛ لأن الكلام المستعمل قبل دخولها (لست قائما) فهذا لك أن تعطف على موضعه فتقول لست بقائم ولا قاعدا ومن ذلك : هل من رجل عندك وما من أحد في الدار فهذا لك أن تعطف على الموضع ؛ لأن موضع (من رجل) رفع وكذلك : خشّنت بصدره وصدر زيد ولو اسقطت الباء كان جيدا فقلت

٤٤٨

خشنت صدره وصدر زيد وكذلك : كفى بالله إنما هو : كفى الله فعلى ذا تقول : كفى بزيد وعمرو ومن ذلك : إن زيدا في الدار وعمرا ولو أسقطت (إنّ) لكان : زيد في الدار وعمرو ، فإن مع ما عملت فيه في موضع رفع وينبغي أن تعلم أنه ليس لك أن تعطف على الموضع الذي فيه حرف عامل إلا بعد تمام الكلام من قبل أن العطف نظير التثنية والجمع ألا ترى أن معنى قولك : قام الزيدان إنما هو : قام زيد وزيد فلما كان العاملان مشتركين في الاسم ثنيا ولو اختلفا لم يصلح فيهما إلا الواو فكنت تقول : قام زيد وعمرو فالواو نظير التثنية وإنما تدخل إذا لم تكن التثنية فلما لم يكن يجوز أن يجتمع في التثنية الرفع والنصب ولا الرفع والخفض ولا أن يعمل في المثنى عاملان كذلك لم يجز في المعطوف والمعطوف عليه.

فإذا تم الكلام عطفت على العامل الأول وكنت مقدرا إعادته ، وإن كنت لا تقيده في اللفظ لأنك مستغن عنه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : إن زيدا وعمرو منطلقان لما خبرتك به ولأن قولك (منطلقان) يضير خبرا لمرفوع ومنصوب وهذا مستحيل فإذا قلت : (إن زيدا منطلق وعمرو) صلح ؛ لأن الكلام قد تم ورفعت ؛ لأن الموضع للابتداء ، وإن زائدة فعطفت على موضع (إنّ) وأعملت الابتداء وأضمرت الخبر وحذفته اجتراء بأن الأول يدل عليه ، فإن أختلف الخبران لم يكن بد من ذكره ولم يجز حذفه نحو قولك : إن زيدا ذاهب وعمرو جالس ؛ لأن (ذاهبا) لا يدل على (جالس) فإذا تم الكلام فلك العطف على اللفظ والموضع جميعا ، وإذا لم يتم لم يجز إلا اللفظ فقط وكذلك لو قلت : (هل من رجل وحمار موجودان) ، فإن قلت : وحمار جاز كما تقول : إن عمرا وزيدا منطلقان وكذلك إذا قلت : خشنت بصدره وصدر زيد عطفت على (خشنت) ولم يعرج على الباء وجاز ؛ لأن الكلام قد تم فكأنك قد أعدت : خشنت ثانية فالفرق بين العطف على الموضع والعطف على اللفظ أن المعطوف على اللفظ كالشيء يعمل فيهما عامل واحد لأنهما كاسم واحد والمعطوف على المعنى يعمل فيها عاملان والتقدير تكرير العامل في الثاني إذا لم يظهر عمله في الأول وتصير كأنها جملة معطوفة على جملة وكل جملتين يحذف من أحدهما شيء ويقتصر بدلالة الجملة الأخرى على ما حذف فهي كالجملة الواحدة ونظير هذا قولهم : ضربت وضربني زيد اكتفوا بذكر زيد عن أن يذكروا أولا إلا أن

٤٤٩

هذا حذف منه المعمول فيه وكان الثاني دليلا على الأول وذاك حذف العامل منه إلا أن حذف العامل إذا دل عليه الأول أحسن مع العطف ؛ لأن الواو تقوم مقام العامل في كل الكلام.

الضرب الآخر : أن يكون الحرف العامل غير زائد ، وذلك نحو قولك : مررت بزيد وذهبت إلى عمرو ومرّ بزيد وذهب إلى عمرو فتقول : إن موضع (بزيد) في : (مررت بزيد) منصوب وموضع إلى عمرو في ذهبت إلى عمرو نصب وموضع بزيد في مر بزيد رفع وإنما كان ذلك لأنك لو جعلت موضع : (مررت) ما يقارب معناه من الأفعال المتعدية لكان زيد منصوبا نحو : أتيت زيدا ولو أسقطت الباء في قولك : مررت بزيد لم يجز ؛ لأن الأفعال التي هي غير متعدية في الأصل لا تتعدى إلا بحرف جر وقد بينت فيما تقدم صفة الأفعال المتعدية والأفعال التي لا تتعدى فتقول على هذا إذا عطفت على الموضع : مررت بزيد وعمرا وذهبت إلى بكر وخالدا ومرّ بزيد وعمرو كأنك قلت : وأتى عمرو وأتيت عمرا ودل (مررت) على (أتيت) فاستغنيت بها وحذفت قال الشاعر :

جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل أسرة منظور بن سيار (١)

كأنه قال : أو هات مثل أسرة منظور ؛ لأن جئني بمثل بني بدر يدل على : هات أو أعطني وما أشبه هذا.

القسم الثاني اسم بني مع غيره :

وذلك نحو : خمسة عشر وتسعة عشر فحكم هذا حكم المبني المفرد تقول : إن خمسة عشر درهما ويكفيك خمسة دنانير وخمسة دنانير النصب على (إنّ) والرفع على موضع (إنّ) وقولك :لا رجل في الدار بمنزلة : خمسة عشر في البناء إلا أن (رجل) مبني يضارع المعرفة فجاز لك أن تقول : لا رجل وغلاما لك فتعطف عليه ؛ لأن (لا) تعمل في النكرة عمل (إنّ) فبنيت مع (لا) على الفتح الذي عملته (لا) ومنعت التنوين ليدل منع التنوين على البناء ؛ لأنه اسم نكرة منصوب متمكن ودل على ذلك قولهم : لا ماء ماء باردا لك ألا تراهم بنوا ماء مع ماء فعلمت

__________________

(١) انظر الأغاني ٣ / ٣٦١.

٤٥٠

بذلك أن هذا الفتح قد ضارعوا به المبني وأشبه خمسة عشر وكان هو الدليل على أن (لا) مبنية مع النكرة المفردة إذا قلت : لا ماء لك وقد بينت هذا في باب النفي فلهذا جاز أن تقول لا رجل وغلاما لك على اللفظ ولا رجل وغلام لك على موضع (لا) ويدل على بناء رجل في قولك : لا رجل أنه لا يجوز أن تقول : لا رجل وغلام لك فلو لم يعدلوا فتحة النصب إلى فتحة البناء لما جاز ؛ لأن الواو تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول ولو وجدنا في كلامهم اسما نكرة متمكنا ينصب بغير تنوين لقلنا أنه منصوب غير مبني فكما تقول أن المنادى المفرد بني على الضم كالمعرب المرفوع تقول في هذا أنه معرب كالمبني المفتوح ولهذا لا يجوز أن ينعت الرجل على الموضع فيرفع ؛ لأن موضع (رجل) نصب ؛ لأن لو كان موضعه مضافا ما كان إلا نصبا فلهذا قلنا أنه بني على التقدير الذي كان له وموضع (لا) مع رجل رفع موضع ابتداء كما كانت إن مع ما عملت فيه إلا أن النحويين أجازوا : لا رجل ظريف وقالوا : رفعناه على موضع : لا رجل وإنما جاز هذا مع (لا) ولم يجز مع (أن) ؛ لأن (لا) مع رجل بمنزلة اسم واحد وليست (إنّ) مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد لو قلت : إن زيدا العاقل منطلق لم يجز وقد ذكرت هذا في باب إنّ ويدلك أيضا على أن (لا) مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل بين (لا) والاسم ومتى فعلت ذلك لم يكن إلا الرفع ، وذلك قولك : لا لك مال ولا تقول : لا لك مال ؛ لأن (لك) قد منع البناء وقد حكي عن بعضهم : لا رجل وغلام لك فحذف التنوين من الثاني وشبهه بالعطف على النداء وهذا شاذ لا يعرج عليه وإنما حكمنا على (لا) أنها نصبت في قولك : لا رجل لقولهم : لا رجل وغلاما لك وأنه يجوز أن تقول لا رجل وغلاما منطلقان فلو لم تكن (لا) نصبت لم يجز أن تعطف على رجل منصوبا فهذا الفرق بين (لا) رجل وخمسة عشر.

وقد عرفتك من أين تشابها ومن أين افترقا ، وأما عطف المفرد على المفرد في النداء فلا يجوز أن تعطفه على الموضع لو قلت : يا زيد وعمرا لم يجز من قبل أن زيدا إنما بني ؛ لأنه منادى مخاطب باسمه.

٤٥١

والصلة التي أوجبت البناء في زيد هي التي أوجبت البناء في عمرو وهما في ذلك سواء ألا ترى أنهم يقولون : يا عبد الله وزيد فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولو لا ذلك لما جاز وليس مثل هذا في سائر ما يعطف عليه.

القسم الرابع وهو ما عطف على شيء موصول لا يتم إلا بصلته :

وذلك قولك : ضربت الذي في الدار وزيدا عطفت على الذي مع صلتها ولو عطفت على الذي مفردا لم يجز ولم يكن اسما معلوما وكذلك (من) إذا كانت بمعنى الذي تقول ضربت من في الدار وزيدا ومثل ذلك (ما) إذا كانت بمعنى (الذي) تقول : أخرجت ما في الدار وزيدا فالذي ومن وما مبهمات لا تتم في الإخبار إلا بصلات وما يوصل فيكون كالشيء الواحد (أن) مع صلتها تكون كالمصدر نحو قولك : يعجبني أن تقوم فموضع أن تقوم رفع ؛ لأن المعنى : يعجبني قيامك وكذلك إن قلت : كرهت أن تقوم فموضع أن تقوم نصب وعجبت من أن تقوم خفض فتقول على هذا : عجبت من أن يقوم زيد وقعودك تريد : من قيام زيد وقعودك.

٤٥٢

باب العطف على عاملين

اعلم أن العطف على عاملين لا يجوز من قبل أن حرف العطف إنما وضع لينوب عن العامل ويغني عن إعادته ، فإن قلت : قام زيد وعمرو فالواو أغنت عن إعادة (قام) فقد صارت ترفع كما يرفع قام وكذلك إذا عطفت بها على منصوب نحو قولك : إن زيدا منطلق وعمرا فالواو نصبت كما نصبت (إنّ) وكذلك في الخفض إذا قلت : مررت بزيد وعمرو فالواو جرت كما جرت الباء فلو عطفت على عاملين أحدهما يرفع والآخر ينصب لكنت قد أحلت لأنها كان تكون رافعة ناصبة في حال قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن تقول : مرّ زيد بعمرو وبكر خالد فتعطف على الفعل والباء ولو جاز العطف على عاملين لجاز هذا واختلفوا إذا جعلوا المخفوض يلي الواو فأجاز الأخفش ومن ذهب مذهبه : مرّ زيد بعمرو وخالد بكر واحتجوا بأشياء منها قول الشاعر :

هوّن عليك ، فإن الأمور

بكفّ الإله مقاديرها (١)

فليس بآتيك منهيّها

ولا قاصر عنك مأمورها

__________________

(١) قال البغدادي : وثانيهما : لجماعة من البصريين ، وهو ابن الطراوة ، وابن طاهر ، وابن خروف ، وأبو علي الرندي ، وأبو الحجاج بن معزوز ، والأستاذ أبو علي في أحد قوليه. زعموا أن على اسم دائما ، ولا تكون حرفا.

وزاد الأخفش على سيبويه موضعا آخر من اسميتها ، وذلك : إذا كان مجرورها ، وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد ، ومنه قوله تعالى : "أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ" ، وقول الشاعر :

هون عليك فإن الأمور

بكف الإله مقاديرها

لأنه لا يتعدى فعل الضمير المتصل إلى ضميره المتصل في غير باب ظن ، وفقد ، وعدم.

قال أبو حيان : ولا بدل على اسميتها ما ذكره الأخفش ؛ فقد جاء : " وهزي إليك" ، و" اضمم إليك جناحك" ولا نعلم أحدا ذهب إلى أن إلى اسم.

وقال ابن هشام : وفيما قاله الأخفش نظر ، لأنها لو كانت اسما في هذه المواضع ، لصح حلول فوق محلها ، ولأنها لو لزمت اسميتها لما ذكر ، لزم الحكم باسمية إلى في نحو : " فصرهن إليك" وهذا كله يتخرج ، إما على التعليق بمحذوف كما قيل : في سقيا لك ، وإما على حذف مضاف ، أي : هون على نفسك ، واضمم إلى نفسك.

انظر خزانة الأدب ٣ / ٤٩٢.

٤٥٣

وقال النابغة :

فليس بمعروف لنا أن نردّها

صحاحا ولا مستنكرا أن تعقّرا (١)

وما يحتجون به : (ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة) فعطف على كل وما ومن ذلك :

أكلّ امريء تحسبين امرأ

ونار توقّد بالليل نارا

ومذهب سيبويه في جميع هذه أن لا يعطف على عاملين ويذكر أن في جميعها تأويلا يرده إلى عمل واحد ونحن نذكر ما قاله سيبويه في باب (ما) تقول : ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها ترفع لأنك لو قلت : ما أبو زينب مقيمة أمها لم يجز لأنها ليست من سببه ومثل ذلك قول :الأعور الشني هوّن عليك فأنشد البيتين ورفع ولا قاصر عنك مأمورها وقال : لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي ومعنى كلامه أنه لو كان موضع ليس (ما) لكان الخبر إذا تقدم في (ما) على الاسم لم يجز إلا الرفع لا يجوز أن تقول : ما زيد منطلقا ولا خارجا معن ، فإن جعلت في (خارج معن) شيئا من سبب زيد جاز النصب وكان عطفا على الخبر ؛ لأنه يصير خبرا لزيد ؛ لأنه معلق بسبب له فكذلك لو قلت : فما يأتيك منهيها

__________________

(١) وفد الجعديّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلما ، وأنشده ، ودعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وكان من اول ما أنده قوله في قصيدته الرائية :

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى

ويتلو كتابا كالمجرة نيرا

وجاهدت حتى ما أحس ومن معي

سهيلا إذا ما لاح ثمّت غوّرا

أقيم على التقوى وأرضى بفعلها

وكنت من النار المخوفة أحذرا

إلى أن قال :

وإنا لقوم ما نعوّد خيلنا

إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا

وننكر يوم الروع ألوان خيلنا

من الطعن حتى تحسب الجون أشقرا

وليس بمعروف لنا ان نردها

صحاحا ولا مستنكرا أن تعقّرا

بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

انظر خزانة الأدب ١ / ٣٦٥.

٤٥٤

ولا قاصر عنك مأمورها غير قولك منهيها ثم قال : وجره قوم فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي هو الأمور ؛ لأنه من الأمور وهو بعضها فأجراه وأنثه كما قال جرير :

إذا بعض السّنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبى اليتيم (١)

__________________

(١) الشاهد : هو أنّ" بعضا" اكتسب التأنيث ممّا بعده بالإضافة ؛ ولهذا قال" تقرّقتنا" بالتأنيث.

قال ابن جنّي في" سرّ الصناعة" عند ما أنشد قول الشاعر : " البسيط" سائل بني أسد ما هذه الصّوت إنّما أنّثه لأنّه أراد الاستغاثة. وهذا من قبيح الضرورة ، أعني تانيث المذكّر ؛ لأنّ التذكير هو الأصل ، بدلالة أنّ الشيء مذكّر وهو يقع على المذكّر والمؤنث ، فعلمت بهذا عموم التذكير وأنّه هو الأصل الذي لا ينكسر. ونظير هذا في الشذوذ قوله ـ وهو من أبيات الكتاب ـ :

إذا بعض السنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

وهذا أسهل من تأنيث الصّوت قليلا ، لأنّ بعض السنين سنة ، وهي مؤنثة ، وهي من لفظ السنين ؛ وليس الصّوت بعض الاستغاثة ولا من لفظها. انتهى.

وزاد المبرّد في" الكامل" على هذا الوجه وجها آخر فقال : قوله :

إذا بعض السنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

يفسّر على وجهين : أن يكون ذهب إلى أنّ بعض السّنين يؤنّث لأنّه سنة وسنون. والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه فأقحم المضاف إليه توكيدا ، لأنّه" غير" خارج من المعنى.

وفي كتاب الله عز وجلّ : " فظلت أعناقهم لها خاضعين" والخضوع بيّن في الأعناق ، فأخبر عنهم فأقحم الأعناق توكيدا ـ وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول : أعناقهم : جماعتهم ـ والأوّل قول عامّة النّحويّين. انتهى المراد منه.

و" بغض" : فاعل فعل محذوف يفسّره" تعرّقتنا" المذكور ؛ يقال تعرقت العظم : إذا أكلت ما عليه من اللّحم. يريد أنها أذهبت أموالنا ومواشينا. و" السّنة" هنا : القحط والجدب : ضدّ الخصب والرّخاء.

و" كفى" بمعنى أغنى يتعدّى إلى مفعولين ، أوّلهما" الأيتام" وثانيهما" فقد" ، ومصدره الكفاية ، قال تعالى : "وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ" أي : كفى الأيتام فقد آبائهم ، لأنّه أنفق عليهم واعطاهم ما يحتاجون إلأيه ، وكان في الكفاية لهم الحراسة والتّفقدّ لأحوالهم بمنزلة آبائهم.

وأراد أن يقول : كفى الأيتام فقد أبائهم فلم يمكنه فقال : فقد أبي اليتيم ؛ لأنّه ذكر الأيتام أوّلا ، ولكنّه أفرد حملا على المعنى ؛ لأنّ الأيتام هنا اسم جنس ، فواحدها ينوب مناب جمعها ، وبالعكس. وكان المقام مقام الإضمار فأتى بالاسم الظاهر.

وهذا البيت من قصيدة لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان. انظر خزانة الأدب ٢ / ٣١.

٤٥٥

فصار تأويل الخبر ليس : بآتيك الأمور ولا قاصر بعضها فجعل : بعض الأمور أمورا وكذلك احتج لقول النابغة في الجر فقال : يجوز أن تجر وتحمله على الرد ؛ لأنه من الخيل يعني في قوله : أن تردها ؛ لأن (أن تردها) في موضع ردها كما قال ذو الرمة :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

كأنه قال : تسفهتها الرياح فهذا بناء الكلام على الخيل ، وذلك ردّ إلى الأمور وقال : كأنه قال : ليس بآتيك منهيها وليست بمعروفة ردها حين كان من الخيل والخيل مؤنثة فأنث وهذا مثل قوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١٢] أجرى الأول على لفظ الواحد والآخر على المعنى هذا مثله في أنه تكلم به مذكرا ثم أنث كما جمع وهو في قوله : ليس بآتيتك منهيها كأنه قال : ليس بآتيتك الأمور وفي ليس بمعروف ردها وكأنه قال : ليست بمعروفة خيلنا صحاصا قال : وإن شئت نصبت فقلت : ولا مستنكرا ولا قاصرا.

قال أبو العباس : قال الأخفش : وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه يعني في الجر ؛ لأنه يجوز عند العطف وأن يكون الثاني من سبب الأول وأنكر ذلك سيبويه ؛ لأنه عطف على عاملين على السين والباء فزعم أبو الحسن : أنها غلط منه وأن العطف على عاملين جائز نحو قول الله عز وجل في قراءة بعض الناس : (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ)(١) فجر الآيات

__________________

(١) سورة الجاثية : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.)

قرأ حمزة ، والكسائي : (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ ،) (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ) بالخفض فيهما.

وقرأ الباقون بالرفع فيهما ، قوله : (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ) جاز الرفع فيها من وجهين :

أحدهما : العطف على موضع (إن) وما عملت فيه ، فيحمل الرفع على الموضع ، فتقول : إن زيدا قائم وعمرا وعمرو ، فتعطف ب (عمرو) على (زيد) إذا نصبت ، وإذا رفعت فعلى موضع (إن) مع (زيد).

والوجه الآخر : أن يكون مستأنفا على معنى : وفي خلقكم آيات ، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة ، قال سيبويه : (آيات) رفع بالابتداء. ـ ووجه قراءة حمزة ، والكسائي في قوله : (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ ،) (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ) فعلى أنه لم يحمل على موضع (إن) كما حمل الرفع في الموضعين ، ولكن حمل على لفظ (إن) دون موضعها ، فحمل (آيات) في الموضعين على نصب (إن) في قوله : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) وإنما كسرت التاء ؛ لأنها غير أصلية [حجة القراءات ١ / ٦٥٩].

٤٥٦

وهي في موضع نصب ومثل قوله : (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] عطف على خبر (إنّ) وعلى (الكل).

قال أبو العباس : وغلط أبو الحسن في الآيتين جميعا ولكن قوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٥] وابتدأ الكلام : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ.)

بعد هذه الآية ، وإن جرّ آيات فقد عطف على عاملين وهي قراءة عطف على (إن) و (في) قال وهذا عندنا غير جائز ؛ لأن الذي تأوله سيبويه بعيد وقال : لأن الرد غير الخيل والعقر راجع إلى الخيل فليس بمتصل بشيء من الخيل ولا داخل في المعنى.

وقال : أما قوله : فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها فهو أقرب قليلا وليس منه ؛ لأن المأمور بعضها والمنهي بعضها وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور وقال : وليس يجوز الخفض عندنا إلا على العطف على عاملين فيمن أجازه.

وأما قولهم : ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة فقال سيبويه : كأنك أظهرت كلّ مضمر فقلت : ولا كلّ بيضاء فمذهب سيبويه أنّ (كلّ) مضمرة هنا محذوفة وكذلك :

أكلّ امرىء تحسبين أمرأ

ونار توقّد بالليل نارا (١)

__________________

(١) نقل الخلاف ابن الأنباريّ في هذه المسألة في" كتابه الإنصاف ، في مسائل الخلاف" فقال : ذهب الكوفيّون إلى أنّه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض ، لضرورة الشعر ،

٤٥٧

يذهب إلى أنه حذف (كلّ) بعد أن لفظ بها ثانية وقال : استغنيت عن تثنية (كلّ) لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب قال : وجاز كما جاز في قوله : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه ، وإن شئت قلت : ولا مثل أخيه فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه وتفريقه أن تقول : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يكره ذاك قال : ومثل ذلك : ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذلك فلما جاز في هذا جاز في ذاك.

__________________

وذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز ذلك بغيرهما. أما الكوفيّون فاحتجوا بأن قالوا : إنّما قلنا ذلك لأنّ العرب قد استعملته كثيرا في أشعارها ، قال الشاعر :

فزججتها بمزجة ... البيت

وقال الآخر :

تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت ... البيت

وقال الآخر : " الطويل"

يطفن بحوزيّ المراتع لم يرع

بواديه من قرع القسيّ الكنائن

والتقدير من قرع الكنائن القسيّ. وقال : " المنسرح"

وأصبحت بعد خطّ بهجتها

كأنّ قفرا رسومها قلما

والتقدير بعد بهجتها ، ففصل بين المضاف الذي هو بعد والمضاف إليه الذي هو بهجتها ، بالفعل الذي هو خطّ. وتقدير البيت : فأصبحت قفرا بعد بهجتها كأن قلما خطّ رسومها. وقد حكى الكسائيّ عن العرب : هذا غلام والله زيد. وحكى أبو عبيدة سماعا عن العرب : إنّ الشاة لتجترّ فتسمع صوت والله ربّها. وإذا جاء هذا في الكلام ، ففي الشعر أولى.

وأمّا البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنّما قلنا لا يجوز ذلك لأنّ المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد ، فلا يجوز أن يفصل بينهما. وإنّما جاز الفصل بالظرف وحرف الجرّ كما قال ابن قميئة : لله درّ اليوم من لامها وقال أبو حيّة النميريّ : " الوافر"

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

وقال ذو الرمّة : كأن أصوات من إيغالهنّ بنا لآنّ الظرف وحرف الجر يتّسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما.

انظر خزانة الأدب ٢ / ٩٣.

٤٥٨

وأبو العباس رحمه الله لا يجيز : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يكره ذاك والذي بدأ به سيبويه الرفع في قولك : ما كلّ سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة والنصب في (ونارا) هو الوجه وهذه الحروف شواذ فأما من ظنّ أن من جر آيات في الآية فقد عطف على عاملين فغلط منه وإنما نظير ذلك قولك : إنّ في الدار علامة للمسلمين والبيت علّامة للمؤمنين فإعادة علامة تأكيد وإنما حسنت الإعادة للتأكيد لما طال الكلام كما تعاد (إن) إذا طال الكلام وقد ذكرنا هذا في باب إنّ وأنّ ولو لا أنا ذكرنا التأكيد وأحكامه فيما تقدم لذكرنا هاهنا منه طرفا كما أنك لو قلت : إنّ في الدار الخير والسوق والمسجد والبلد الخير كان إعادته تأكيدا وحسن لما طال الكلام فآيات الأخيرة هي الأولى وإنما كانت تكون فيه حجة لو كان الثاني غير الأول حتى يصيرا خبرين ، وأما من رفع وليست (آيات) عنده مكررة للتأكيد فقد عطف أيضا على عاملين نصب أو رفع ؛ لأنه إذا قال : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإذا رفع فقد عطف (آيات) على الابتداء وإختلافا على (في) ، وذلك عاملان ولكنه إذا قصد التكرير رفع أو نصب فقد زال العطف على عاملين فالعطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموع من العرب ولو جاز العطف على عاملين لجاز على ثلاثة وأكثر من ذلك ولو كان الذي أجاز العطف على عاملين أي شاهد عليه بلفظ غير مكرر نحو : (إنّ في الدار زيدا والمسجد عمرا) وعمرو غير زيد لكان ذلك له شاهدا على أنه إن حكى مثله حاك ولم يوجد في كلام العرب شائعا فلا ينبغي أن تقبله وتحمل كتاب الله عز وجل عليه.

٤٥٩

باب مسائل العطف

نقول : مررت بزيد أنيسك وصاحبك ، فإن قلت : مررت بزيد أخيك فصاحبك والصاحب زيد لم يجز وتقول : اختصم زيد وعمرو ولا يجوز أن تقتصر في هذا الفعل وما أشبهه على اسم واحد ؛ لأنه لا يكون إلا من اثنين ولا يجوز أن يقع هنا من حروف العطف إلا الواو لا يجوز أن تقول : اختصم زيد فعمرو لأنك إذا أدخلت الفاء وثم اقتصرت على الاسم الأول ؛ لأن الفاء توجب المهلة بين الأول والثاني وهذا الفعل إنما يقع من اثنين معا وكذلك قولك جمعت زيدا وعمرا ولا يجوز أن تقول جمعت زيدا فعمرا وكذلك المال بين زيد وعمرو ولا يجوز : بين زيد فعمرو وتقول : زيد راغب فيك وعمرو تعطف (عمرا) على الابتداء ، فإن عطفت على (زيد) لم يكن بد من أن تقول : زيد وعمرو راغبان فيك ، فإن عطفت عمرا على الضمير الذي في (راغب) قلت : (زيد راغب هو وعمرو فيك) ، فإن عطفت على ابتداء والمبتدأ لم يجز أن تقول : زيد راغب وعمرو فيك ؛ لأن (فيك) معلقة براغب فلا يجوز أن تفصل بينهما وقد أجازوا تقديم حرف النسق في الشعر فتقول على ذاك : قام وزيد عمرو وقام ثمّ زيد وعمرو وتقول : زيد وعمرو قاما ويجوز : زيد وعمرو قام فحذف (قام) من الأول اجتزاء بالثاني وتقول : زيد ثم عمرو قام وزيد فعمرو قام.

وقد أجازوا التثنية فتقول : زيد فعمرو قاما وزيد ثم عمرو قاما ولا يجيزون مع (أو ولا) إلا التوحيد لا غير نحو : زيد لا عمرو قام وزيد أو عمرو قام لا يجوز أن تقول : زيد لا عمرو قاما لأنك تخلط من قام بمن لم يقم وكذلك لو قلت قاما لجعلت القيام لهما إنما هو لأحدهما ومن أجاز : لقيت وزيدا عمرا لم يجز ذلك في المخفوض لا تقول : مررت وزيد بعمرو تريد :مررت بعمرو وزيد ؛ لأنه قد قدم المعطوف على العامل وإنما أجازوا للضرورة أن يقدم معمول فيه على معمول فيه والعامل قبلهما وذا ليس كذلك وقد حلت بينه وبين ما نسقته عليه بغيره وهو الباء.

وأجاز قوم : قام ثم زيد عمرو ولا يجيزون : إن وزيدا عمرا قائمان ؛ لأن (إنّ) أداة.

٤٦٠