الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

وخالف سائر الموصوفات لأنها لم توصف بالأجناس وإنما يجوز أن تقول بهذا الطويل إذا لم يكن بحضرتك طويلان فيقع لبس فأما إذا كان شيئان طويلان لم يجز إلا أن تذكر الاسم قبل الصفة وهذا المعنى ذكره النحويون مجملا وقد ذكرته مفصلا واعلم أن صفة المعرفة لا تكون إلا معرفة كما أن صفة النكرة لا تكون إلا نكرة ولا يجوز أن تكون الصفة أخص من الموصوف ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد الطويل فالطويل أعم من زيد وحده والأشياء الطوال كثيرة وزيد وحده أخص من الطويل وحده ، فإن قال

قائل : فكان ينبغي إذا وصفت الخاص بالعام أن تخرجه إلى العموم قيل له : هذا كان يكون واجبا لو ذكر الوصف وحده فقلت : مررت بالطويل لكان لعمري أعم من زيد ولكنك إذا قلت : بزيد الطويل كان مجموع ذلك أحسن من زيد وحده ومن الطويل وحده ولهذا صارت الصفة والموصوف كالشيء الواحد.

واعلم أنه لك أن تجمع الصفة وتفرق الموصوف إذا كانت الصفة محضة ولم تكن اسما وصفت به مبهما.

ولك أن تفرق الصفة وتجمع الموصوف في المعرفة والنكرة فتقول : مررت بزيد وعمرو وبكر الطوال تجمع النعت وتفرق المنعوت وتقول : مررت بالزيدين الراكب والجالس والضاحك فتجمع الاسم وتفرق الصفة ولكن المفرق يجب أن يكون بعدد المجموع وليس لك مثل هذا في المبهم لا يجوز أن تقول : مررت بهذين : الراكع والساجد وأنت تريد الوصف ؛ لأن المبهم اسم وصفته اسم فهما اسمان يبين أحدهما الآخر فقاما مقام اسم واحد ولا يجوز أن يفرقا لا يثني أحدهما ويفرد الآخر بل يجب أن يكون مناسبا له في توحيده وتثنيته وجمعه ليكون مطابقا له لا يفصل أحدهما عن الآخر.

٤٢١

مسائل من هذا الباب

تقول : إن خيرهم كلهم زيد ، وإن لي قبلكم كلكم خمسين درهما ، وإن خيرهما كليهما أخوك لا يكون (كليهما) من نعت (خير) ؛ لأن خيرا واحد.

وتقول : جاءني خيرهما كليهما راكبا ، وإن خيرهما كليهما نفسه زيد فيكون (نفسه) من نعت (خير) وتقول : جاءني اليوم خيرهما كليهما نفسه وقال الأخفش : أن عبد الله ساج بابه منطلق فجعل (ساج بابه) في موضع نصب على الحال ؛ لأنه كان صفة للنكرة.

وتقول : مررت بحسن أبوه تريد : رجل حسن أبوه وبأحمر أبوه ولا يجوز : رأيت ساجا بابه تريد : رأيت رجلا ساجا بابه.

وتقول : مررت بأصحاب لك أجمعون اكتعون ؛ لأن في (لك) اسما مضمرا مرفوعا.

ومررت بقوم ذاهبين أجمعون أكتعون ؛ لأن في (ذاهبين) اسما مرفوعا مضمرا وكذلك :مررت بدرهم أجمع أكتع ومررت بدار لك جمعاء كتعاء ومررت بنساء لك جمع كتع ولا يجوز أن تكون هذه الصفة للأول ؛ لأن الأول نكرة وتقول : مررت بالقوم ذاهبين أجمعين أكتعين إذا أكدت القوم ، فإن أجريته على الاسم المضمر في (ذاهبين) رفعت فقلت : أجمعون أكتعون.

وتقول : مررت برجل أيما رجل وهذا رجل أيما رجل وهذان رجلان أيما رجلين وهاتان امرأتان أيتما امرأتين ومررت بامرأتين أيتما امرأتين و (ما) في كل هذا زائدة وأضفت أيا وأية إلى ما بعدها.

وتقول : مررت برجل حسبك من رجل وبامرأة حسبك من امرأة وهذه امرأة حسبك من امرأة وهاتان امرأتان حسبك من امرأتين وتقول : هذا رجل ناهيك من رجل وهذه امرأة ناهيتك من امرأة فتذكر (ناهيا) وتؤنثه ؛ لأنه اسم فاعل ولا تفعل ذلك في (حسبك) ؛ لأنه مصدر وتقول في المعرفة : هذا عبد الله حسبك من رجل وهذا زيد أيما رجل فتنصب (حسبك) وأيما على الحال.

وهذا زيد ناهيك من رجل وهذه أمة الله أيتما جارية.

٤٢٢

وتقول : مررت برجلين لا عطشاني المرأتين فأقول عطشاناهما ولا ريانيهما فأقول : رياناهما وتقول : مررت برجال لا عطاش النساء فأقول : عطاشهن ولا روائهن فأقول : رواؤهن وإنما قلت : رواء ؛ لأنه فعال من رويت.

وتقول : هاتان امرأتان عطشيا الزوجين لا ريياهما وتقول هؤلاء نساء لا عطاش الأزواج فأقول : عطاشهم ولا رواؤهم فإذا جمعت : ريّا وريان فهو على فعال.

وتقول : مررت برجل حائض جاريته ومررت بامرأة خصي غلامها ولو قلت : مررت برجل حائض الجارية لقبح لأنك إن أدخلت الألف واللام جعلت التأنيث والتذكير على الأول فأنت تريد أن تذكر حائضا ؛ لأن قبله رجلا والحائض لا يكون مذكرا أبدا وقال بعضهم : هذا كلام جائز ؛ لأن (حائضا) مذكر في الأصل وقد أجيز مررت بامرأة خصي الزوج ؛ لأن خصيا فعيل مما يكون فيه مفعوله فهذا يكون للمذكر والمؤنث سواء ولا يجوز : مررت برجل عذر الجارية إذا كان الجارية عذرا وكذلك : مررت بامرأة محتلمة الزوج ؛ لأن محتلما مما لا يكون مؤنثا وكذلك : مررت بامرأة آدر الزوج ولا يجوز : مررت برجل أعفل المرأة ؛ لأن أعفل مما لا يكون في الكلام.

ومن قال : مررت برجل كفاك به رجلا قال للجميع : كفاك بهم وللإثنين : كفاك بهما ؛ لأن اسم الفاعل هو الذي بعد الباء والباء زائدة وفي هذا لغتان : منهم من يجريه مجرى المصدر فلا يؤنثه ولا يثنيه ولا يجمعه ومنهم من يجمعه فعلا فيقول : مررت برجل هدك من رجل وبامرأة هدتك من امرأة ، وإن أردت الفعل في (حسبك) قلت : مررت برجل حسبك من رجل ، وبرجلين أحسباك من رجلين ، وبرجال أحسبوك وتقول : مررت برجلين ملازماهما رجلان أمس كما تقول : برجلين عبداهما رجلان ومررت برجل ملازموه رجال أمس ؛ لأن ملازمه هذا اسم مبتدأ ؛ لأنه بمنزلة غلام إذا كان لما مضى وقد بينا ذا فيما تقدم فإذا كان اسما صار مبتدأ ولا بدّ من أن يكون مساويا للخبر في عدته كما تقول : الزيدان قائمان وغلاماك منطلقان وتقول : مررت برجل حسبك ومررت بعبد الله حسبك فيكون حالا فإذا قلت : حسبك يلزمك فحسبك مرتفع بالابتداء والخبر محذوف وهذا قول الأخفش وغيره من النحويين.

٤٢٣

وقال أبو العباس رحمه الله الخبر محذوف لعلتين : إحداهما : أنك لا تقول (حسبك) إلا بعد شيء قد قاله أو فعله ومعناه يكفيك أي ما فعلت وتقديره : كافيك ؛ لأن حسبك اسم فقد استغنيت عن الخبر بما شاهدت مما فعل قال : وكذلك أخوات حسبك نحو (هدك) والوجه الآخر : في الإقتصار على حسب بغير خبر إن معنى الأمر لما دخلها استغنت عن ذلك كما تستغني أفعال الأمر تقول : حسبك ينم الناس كما تقول : اكفف ينم الناس وكذلك (قدك) و (قطك) ؛ لأن معناهما حسبك إلا أن حسبك معربة وهاتان مبنيتان على السكون يعني قد وقط وتقول : حسبك درهمان فأنت تجريه مجرى يكفيك درهمان وتقول : إن حسبك درهمان.

قال الأخفش : إذا تكلمت (بحسب) وحدها يعني إذا لم تضفها جعلتها أمرا وحركت آخرها لسكون السين تقول : رأيت زيدا حسب يا فتى غير منون كأنك قلت : حسبي أو حسبك فأضمر هذا فلذلك لم ينون ؛ لأنه أراد الإضافة.

وقال تقول : حسبك وعبد الله درهمان على معنى يكفيك وعبد الله درهمان ، فإن جررت فهو جائز وهو قبيح وقبحه أنك لا تعطف ظاهرا على مضمر مجرور وأنشدوا :

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد

فمنهم من ينصب (الضحاك) ومنهم من يجر ومنهم من يرفع ، فإن أظهرت قلت : حسب زيد وأخيه درهمان وقبح النصب والرفع لأنك لم تضطر إلى ذلك وتقول مررت برجل في ماء خائضه هو لا يكون إلا هو إذا أدخلت الواو لأنك قد فصلت بينه وبين ماء وتقول : مررت برجل معه صقر صائد وصائد به كما تقول : أتيت على رجل ومررت به قائما إن حملته على الرجل جررت ، وإن حملته على (مررت به) نصبت وتقول : نحن قوم ننطلق عامدون وعامدين إلى بلد كذا وتقول : مررت برجل معه باز قابض على آخر وبرجل معه جبة لابس غيرها ولابسا إن حملته على الإضمار الذي في (معه) وتقول : مررت برجل عنده صقر صائد بباز وصائدا إن حملته على ما في (عنده) من الإضمار وكأنك قلت : عنده صقر صائدا بباز وتقول : هذا رجل عاقل لبيب لم تجعل الآخر حالا وقع فيه الأول ولكنك سويت بينهما في الإجراء على الاسم والنصب فيه جائز ضعيف.

٤٢٤

قال سيبويه : وإنما ضعف ؛ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان لم يكن واحد منهما قبل صاحبه وقد يجوز في سعة الكلام وتقول مررت برجل معه كيس مختوم عليه الرفع الوجه ؛ لأنه صفة الكيس والنصب جائز على قوله : فيها رجل قائما وهذا رجل ذاهبا وتقول : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا تريد مقدرا الصيد به غدا ولو لا هذا التقدير ما جاز هذا الكلام وتقول : مررت برجل معه امرأة ضاربته فهذا بمنزلة معه كيس مختوم عليه ، فإن قلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها جررت ونصبت على ما فسر.

وإن شئت وصفت المضمر في (ضاربها) في النصب والجر فقلت : مررت برجل معه امرأة ضاربها هو أو ضاربها هو ، فإن شئت جعلت (هو) منفصلا فيصير بمنزلة اسم ليس من علامات الإضمار فتقول : مررت برجل معه امرأة ضاربها (هو) كأنك قلت : معه ضاربها زيد وتقول : يا ذا الجارية الواطئها أبوه كما تقول يا ذا الجارية الواطئها زيد والمعنى : التي وطئها زيد.

وتقول : يا ذا الجارية الواطئها أبوه فجعل بها (الواطئها) صفة (ذا) المنادى.

ولا يجوز أن تقول : يا ذا الجارية الواطئها زيد من قبل أن (الواطئها) من صفة المنادى فإذا لم يكن هو الواطىء ولا أحد من سببه لم يكن صفة له كما لا يجوز : يا عبد الله الواطىء الجارية زيد فلم يجز هذا كما لم يجز : مررت بالرجل الحسن زيد وقد يجوز أن تقول : مررت بالرجل الحسن أبوه وتقول : يا ذا الجارية الواطئها هو جعلت (هو) منفصلا كالأجنبي لا يجوز حذفه ، وإن شئت نصبته كما تقول : يا ذا الجارية الواطئها تجريه على المنادى ، فإن قلت : يا ذا الجارية الواطئها وأنت تريد : الواطئها هو لم يجز أن تطرح (هو) كما لا يجوز بالجارية الواطئها هو أو أنت حتى تذكرهما ، فإن ذكرتهما جاز وليس هذا كقولك : مررت بالجارية التي وطئها أو التي وطئتها ؛ لأن الفعل يضمر فيه وتقع فيه علامة الإضمار وقد فسرت هذا فيما تقدم وإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعا إذا لم يوصف به شيء غير الأول ، وذلك قولك : يا ذا الجارية الواطئها ففي هذا إضمار (هو) وهو اسم المنادى والصفة إنما هي للأول المنادى.

٤٢٥

قال سيبويه : ولو جاز هذا لجاز مررت بالرجل الآخذيه تريد : أنت ولجاز : مررت بجاريتك راضيا عنها تريد أنت ويقبح أن تقول : ربّ رجل وأخيه منطلقين حتى تقول : وأخ له ، وإذا قيل : والمنطلقين مجروران من قبل أنّ قوله : وأخيه في موضع نكرة والمعنى : وأخ له والدليل على أنه نكرة دخول (ربّ) عليه ومثل ذلك قول بعض العرب : كلّ شاة وسخلتها.

أي : وسخلة لها ولا يجوز ذلك حتى تذكر قبله نكرة فيعلم أنك لا تريد شيئا بعينه وأنشد سيبويه في نحو ذلك :

وأيّ فتى هيجاء أنت وجارها

إذا ما رجال بالرّجال استقّلت

فلو رفع لم يكن فيه معنى : أي جارها الذي هو في معنى التعجب والمعنى : أي فتى هيجاء وأي جار لها أنت قال الأعشى :

وكم دون بيتك من صفصف

ودكداك رمل وأعقادها

ووضع سقاء وأحقابه

وحلّ حلوس وأغمادها (١)

فجميع هذا حجة لرب رجل وأخيه وهذا المضاف إلى الضمير لا يكون وحده منفردا نكرة ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يشغل به (ربّ) نكرة ثم يعطف عليه ما أضيف إلى النكرة وتقول : هذا رجل معه رجل قائمين فهذا ينتصب ؛ لأن الهاء التي في معه معرفة وانتصابه عندي بفعل مضمر ولا يجوز نصبه على الحال لإختلاف العاملين ؛ لأنه لا يجوز أن يعمل في شيء عاملان وتقول : (فوق الدار رجل وقد جئتك برجل آخر عاقلين مسلمين) فتنصب بفعل آخر مضمر وتقول : (اصنع ما سرّ أخاك وما أحب أبوك الرجلان الصالحان) فترفع على الابتداء وتنصب على المدح كقول الخزنق :

لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر (٢)

__________________

(١) انظر ديوان الأعشى ٩ / ٢.

٤٢٦

__________________

(١) على أنه يجوز قطع نعت المعرفة بالواو ، كما يجوز قطع نعت النكرة بها. فقولها : والطيبون نعت مقطوع بالواو من قومي للمدح والتعظيم ، بجعله خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الطيبون.

وإنما حكم بالقطع مع أنه مرفوع كالمنعوت وهو قومي ، لقطع النازلين قبله ، لما ذكرنا أيضا ، بجعله منصوبا بفعل محذوف تقديره أعني ، أو أمدح ونحوهما. والعرب إذا رجعت عن شيء لم تعد إليه.

وقال ابن السكيت في أبيات المعاني : قال ابن الأعرابي : النازلين تابع لقومي على المعنى ، لأن معناه النصب ، كأنه قال : لا يبعد الله قومي.

قال سيبويه : في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح : وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول ، وإن شئت قطعته فابتدأته ، وذلك قول الله عز وجل : "لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ". فلو كان كله رفعا كان جيدا. فأما المؤتون فمحمول على الابتداء.

وقال تعالى : "وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ" إلى قوله : "وَحِينَ الْبَأْسِ" فلو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيدا ، ولو ابتدأ فرفعه على الابتداء كان جيدا كما ابتدأت : "وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ".

ونظير هذا من الشعر قول الخرنق :

لا يبعدن قومي الذي هم ... البيتين.

فرفع الطيبين كرفع المؤتين. ومثل هذا في الابتداء قول ابن حماط العكلي : البسيط

وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلّا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخلّيها

وزعم يونس أن من العرب من يقول : النازلون بكل معترك والطيبين. ومن العرب من يقول : الظاعنون والقائلين ، فنصبه كنصب الطيبن ، إلا أن هذا شتم لهم وذم ، كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم.

وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول ، وإن شئت ابتدأته جميعا ، فكان مرفوعا على الابتداء. كل هذا جائز في هذين البيتين وما أشبههما. انتهى كلام سيبويه.

وقال الزجاج : اختلف الناس في إعراب المقيمين فقال بعضهم : هو نسق على ما ، المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة ، أي : يؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة.

وقال بعضهم : نسق على الهاء والميم ، المعنى : لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك. وهذا عند النحويين رديء ، لا ينسق بالظاهر على المضمر إلا في شعر :

٤٢٧

وسيبويه يجيز نصب : هذا رجل مع امرأة قائمين على الحال ويجيز : مررت برجل مع امرأة منطلقين على الحال أيضا ويحتج بأن الآخر قد دخل مع الأول في التنبيه والإشارة وأنك قد جعلت الآخر في مرورك فكأنك قلت : هذا رجل وامرأة ومررت برجل وامرأة وتجعل ما كان معناهما واحدا على الحال.

وإذا كان معنى ما بينهما يختلف فهو على (أعنى) والقياس المحض يوجب إذا اختلف عاملان في اسمين أو أكثر من ذلك لم يجز أن تثنى صفتهما ولا حالهما لإختلاف العاملين اللذين عملا في الاسمين وكيف يجوز أن يفترقا في الموصوفين ويجتمعا في الصفة ولكن يجوز النصب بإضمار شيء ينتظم المعنيين يجتمعان فيه.

واعلم أنه لا يجوز أن تجيز وصف المعرفة والنكرة كما لا يجوز وصف المختلفين.

وزعم الخليل : أن الرفعين أو الجرين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع ، وذلك قولك : (هذا رجل وفي الدار آخر كريمين) لأنهما لم يرتفعا من جهة واحدة.

__________________

وذهب بعضهم إلى أن هذا وهم من الكاتب. وقال بعضهم : في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها. وهذا القول عند أهل اللغة بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وهم أهل اللغة وهم القدوة ؛ وهم الذين أخذوه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجمعوه.

وهذا ساقط عمن لا يعلم بعدهم ، وساقط عمن يعلم ، لأنهم يقتدى بهم ، فهذا مما لا ينبغي أن ينسب إليهم.

والقرآن محكم لا لحن فيه حتى يتكلم العرب بأجود منه في الإعراب. ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدح ، قد بينوا صحة هذا وجودته.

قال النحويون : إذا قلت مررت بزيد الكريم ، وأنت تريد أن تخلص زيدا من غيره فالخفض هو الكلام ، حتى تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم. وإذا أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت وإن شئت رفعت ، وجاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد ، على معنى أذكر المطعمين وهم المغيثون.

وعلى هذا الآية ؛ لأنه لما قال : بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك علم أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، فقال : والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ، على معنى أذكر المقيمين وهم المؤتون. انظر خزانة الأدب ٢ / ١٢٩.

٤٢٨

وشبه بقوله : هذا لإبن إنسانين عندنا كراما فقال : الجر هاهنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جر الأول ومثل ذلك : هذا جارية أخوي ابنين لفلان كراما ؛ لأن أخوي ابنين اسم واحد والمضاف إليه الآخر منتهاه ولم يأت بشيء من حروف الإشراك ومثل ذلك : هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء الحلماء ؛ لأن هذا في المعرفة مثل ذلك في النكرة ولا يجوز إلا النصب على (أعنى) ولا يكون الكرام العقلاء صفة للأخوين والإبنين ولا يجوز أن يجري وصفا لما انجز من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابه.

وقال سيبويه : سألت الخليل عن : مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما فقال : الرفع على هما صاحباي أنفسهما والنصب على (أعنيهما) ولا مدح فيه ؛ لأنه ليس مما يمدح به وقال : تقول : هذا رجل وامرأة منطلقان وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان لأنهما ارتفعا من وجه وهما اسمان بنيا على مبتدأين وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان لأنهما ارتفعا بفعلين معناهما واحد.

والقياس عندي أن يرتفعا على (هما) ؛ لأن الذي ارتفع به الأول غير الذي ارتفع به الثاني ؛ ولكن إن قدرت في معنى التأكيد ورفعت عبد الله بالعطف من الفعل جازت عندي الصفة ولا يجوز : من عبد الله وهذا زيد الرجلين الصالحين رفعت أن نصبت لأنك لا تثني إلا على من أثبته وعرفته فلذلك لم يجز المدح في ذا ولا يجوز صفتهما لأنك من يعلم ومن لا يعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة.

قال أبو العباس في قولهم : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إلى زيد قد علمنا أن الإختيار : مررت برجل أحسن منه أبوه ومررت برجل خير منه زيد فما باله لم يجز الرفع في قوله : أحسن في عينه الكحل وأبغض إليه الشر فقال : الجواب في ذلك : أنه إن أراد أن يجعل الكحل الابتداء كان الاختيار.

ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل تقديره : ما رأيت رجلا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد وما رأيت رجلا الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد كل جيد كما تقول : زيد أحسن في الدار منه في الطريق ، وزيد في الدار أحسن منه في الطريق فتقدم في

٤٢٩

الدار ؛ لأنه ظرف والتفضيل إنما يقع بأفعل ، فإن أردت أن يكون (أحسن) هو الابتداء فمحال لأنك تضمر قبل الذكر.

لأن الهاء في قولك : (منه) هي الكحل ومنه متصلة (بأفعل) ؛ لأن (أفعل) للتفضيل فيصير التقدير ما رأيت رجلا أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل فتضمر الكحل قبل أن تذكره ؛ لأن الكحل الآن خبر الابتداء ، وإن قدمت الكحل فقلت على أن ترفع (أحسن) بالابتداء ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين (زيد) فهو أردأ ، وذلك ؛ لأنه خبر الابتداء وقد فصلت بين (أحسن) وما يتصل به وليس منهما في شيء فلذلك لم يجز على هذه الشريطة إلا أن الجملة على مثل قولك : مررت برجل خير منه أبوه فتقول : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فترفع الكحل (بأحسن) ويقع (منه) بعده فيكون الإضمار بعد الذكر وتقديره : ما رأيت رجلا يحسن الكحل في عينه كحسنه في عين زيد فالمعرفة والنكرة في هذا واحد إذا كان الفعل للثاني ارتفع به معرفة كان أو نكرة ، وإن كان للأول والثاني معرفة بطل ، وإن كان الثاني نكرة انتصب على التمييز ، وذلك قولك : ما رأيت رجلا أحسن وجها من زيد ولا رأيت رجلا أكرم حسبا منه ؛ لأن أكرم وأحسن للأول ؛ لأن فيه ضميره ، فإن جعلته للثاني رفعته به ورددت إلى الأول شيئا يصله بالثاني كما تقول : رأيت رجلا حسن الوجه ؛ لأن حسن الوجه (لرجل) ، فإن جعلته لغيره قلت : رأيت رجلا حسن الوجه أخوه وحسن الوجه رجل عنده ، فإن قلت : ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من قومك رفعت البعض ؛ لأن (أشبه) له وليس لقوم ؛ لأن المعنى : ما رأيت قوما أشبه بعضهم ببعض كما ذكر ذلك سيبويه في قوله مررت بكلّ صالحا وببعض قائما أنه محذوف من قولك : بعضهم وكلهم والمعنى يدل على ذلك ألا ترى أن تقديره : ما رأيت قوما أشبه بعضهم بعضا كما وقع ذلك في (قومك) وتقول : ما رأيت رجلا أبر أب له بأمّ من أخيك ؛ لأن الفعل للأب ووضعت الهاء في (له) إلى الرجل فلم يكن في (أمّ) ضمير ؛ لأن الأب قد ارتفع به ، فإن لم يرد هذا التقدير قلت : ما رأيت رجلا أبر أبا بأمّ من زيد كما تقول : ما رأيت رجلا أحسن وجها من زيد وكذلك : ما

٤٣٠

رأيت رجلا أشبه وجه له بقفا من زيد ، فإن حذفت له قلت : ما رأيت رجلا أشبه بقفا من زيد ؛ لأن في (أشبه) ضمير رجل.

وأما قولهم : ما من أيام أحبّ إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة ولكنه لما قال : في الأول (إلى الله) لم يحتج إلى أن يذكر (إليه) ؛ لأن الرد إلى واحد وليس كقولك : زيد أحب إلى عمرو منه إلى خالد لأنك رددت إلى اثنين فلا تحتاج إلى أن تقول : زيد عندي أحسن من عمرو عندي ؛ لأن الخبر يرجع إلى واحد فأما قولهم : ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة فإنما هو بمنزلة : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فقوله : فيها بمنزلة قوله : في عينه وإنما أضمرت الهاء في (فيها) وفي عينه لأنك ذكرت الأيام وذكرت رجلا.

وكذلك قلت : (الله عز وجلّ ؛ ما رأيت أياما أحب إليه فيها الصوم) لأضمرته في (إليه) ومنه للصوم كما كان للكحل ، وأما قوله : إلى الله فتبيين لأحب وأحسن لا يحتاج إلى ذلك ألا ترى أنك تقول : زيد أحسن من عمرو فلا تحتاج إلى شيء وتقول : زيد أحب إلى عمرو منك فقولك : إلى عمرو كقولك إلى الله في المسألة الأولى ولو قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل عند عمرو منه في عين أخيك كان بمنزلة ذلك ؛ لأن قولك عند عمرو قد صار مختصرا كقولك إلى الله في تلك المسألة ، وأما قولهم : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ من زيد وما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من زيد فإنما هو مختصر من الأول والمعنى : إنما هو الأول لا أنك فضلت الكحل على زيد ولكنك أخبرت أن الكحل في عين زيد أحسن منه في غيرها كما أردت في الأول ولكنك حذفت لقلة التباسه وليست (من) هاهنا بمنزلتها في قولك : ما رأيت رجلا أحسن من زيد لأنك هنا تخبر أنك لم تر من يتقدم زيدا وأنت في الأول تخبر أنك لم تر من يعمل الكحل في عينه عمله في عين زيد فتقديره : ما رأيت رجلا أحسن كحلا في عين من زيد لما أضمرت رجلا في (أحسن) نصبت كحلا على التمييز ليصح معنى الاختصار.

٤٣١

الثالث من التوابع وهو عطف البيان

اعلم أن عطف البيان كالنعت والتأكيد في إعرابهما وتقديرهما وهو مبين لما تجريه عليه كما يبينان وإنما سمي عطف البيان ولم يقل أنه نعت ؛ لأنه اسم غير مشتق من فعل ولا هو تحلية ولا ضرب من ضروب الصفات فعدل النحويون عن تسميته نعتا ، وسموه عطف البيان ؛ لأنه للبيان جيء به وهو مفرق بين الاسم الذي يجري عليه وبين ما له مثل اسمه نحو : رأيت زيدا أبا عمرو ولقيت أخاك بكرا.

والفرق بين عطف البيان والبدل أن عطف البيان تقديره النعت التابع للإسم الأول والبدل تقديره أن يوضع موضع الأول وتقول في النداء إذا أردت عطف البيان يا أخانا زيدا فتنصب وتنون ؛ لأنه غير منادى ، فإن أردت البدل قلت : يا أخانا زيد وقد بينت هذا الباب في النداء ومسائله وستزداد بيانا في باب البدل إن شاء الله.

الرابع من التوابع وهو عطف البدل البدل على أربعة أقسام :

إما أن يكون الثاني هو الأول أو بعضه أو يكون المعنى مشتملا عليه أو غلطا وحق البدل وتقديره أن يعمل العامل في الثاني كأنه خال من الأول وكان الأصل أن يكونا خبرين أو تدخل عليه واو العطف ولكنهم اجتنبوا ذلك للبس.

الأول ما ابتدلته من الأول وهو هو : وذلك نحو قولك : مررت بعبد الله زيد ومررت برجل عبد الله وكان أصل الكلام : مررت بعبد الله ومررت بزيد أو تقول : مررت بعبد الله وزيد ولو قلت ذلك لظن أن الثاني غير الأول فلذلك استعمل البدل فرارا من اللبس وطلبا للإختصار والإيجاز ويجوز إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمظهر من المضمر البدل في جميع ذلك سواء.

٤٣٢

فأما إبدال المعرفة من النكرة فنحو : قول الله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ) [الشورى] فهذا إبدال معرفة من نكرة فتقول على هذا : مررت برجل عبد الله ، وأما إبدال النكرة من المعرفة.

فنحو قولك : مررت بزيد رجل صالح كما قال الله عز وجل : (بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق] فهذا إبدال نكرة من معرفة ، وأما إبدال الظاهر من المضمر فنحو قولك : مررت به زيد وبهما أخويك ورأيت الذي قام زيد تبدل زيدا من الضمير الذي في (قام) ولا يجوز أن تقول : رأيت زيدا أباه والأب غير زيد لأنك لا تبينه لغيره.

الثاني ما أبدل من الأول وهو بعضه : وذلك نحو قولك : ضربت زيدا رأسه وأتيت قومك بعضهم ورأيت قومك أكثرهم ولقيت قومك ثلاثتهم ورأيت بني عمّك ناسا منهم وضربت وجوهها أولها.

قال سيبويه : فهذا يجيء على وجهين : على أنه أراد أكثر قومك وثلثي قومك وضربت وجوه أولها ولكنه ثني الاسم تأكيدا.

والوجه الآخر : أن يتكلم فيقول : رأيت قومك ثم يبدو أن يبين ما الذي رأى منهم.

فيقول : ثلاثتهم أو ناسا منهم ومن هذا قوله عز وجل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] والمستطيعون بعض الناس.

الثالث ما كان من سبب الأول : وهو مشتمل عليه نحو : سلب زيد ثوبه وسرق زيد ماله ؛ لأن المعنى : سلب ثوب زيد وسرق مال زيد ومن ذلك قول الله عزّ وجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] ؛ لأن المسألة في المعنى عن القتال في الشهر الحرام ومثله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج] وقال الأعشى :

لقد كان في حول ثواء ثويته

تفضى لبانات ويسأم سائم

وقال آخر :

وذكرت تقتد برد مائها

وعتك البول على أنسائها

٤٣٣

الرابع وهو بدل الغلط والنسيان : وهو البدل الذي لا يقع في قرآن ولا شعر ، وذلك نحو قولهم : مررت برجل حمار كأنه أراد أن يقول : مررت بحمار فغلط فقال : برجل أو بشيء.

واعلم أن الفعل قد يبدل من الفعل وليس شيء من الفعل يتبع الثاني الأول في الإعراب إلا البدل والعطف والبدل نحو قول الشاعر :

إنّ على الله أن تبايعا

تؤخذ كرها أو تجيء طائعا (١)

وإنما يبدل الفعل من الفعل إذا كان ضربا منه نحو هذا البيت.

__________________

(١) على أن الفعل قد يبدل من الفعل ، إذا كان الثاني راجح البيان على الأول كما في البيت. فتؤخذ بدل من تبايع ، وتجيء : معطوف على تؤخذ. وهذا البدل أبين من المبدل منه ، والبدل في الحقيقة ، إنما هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، إذ لا تكون المبايعة إلا على أحد الوجهين من إكراه أو طاعة. وهو كقولهم : الرمان حلو حامض ، وإن كان يقال باعتبار اللفظ إن تجيء معطوف على تؤخذ ، كما يقال في مثل ذلك من الخبر والحال.

والآية قبل البيت من بدل الكل ، قال الخليل : لأن مضاعفة العذاب هي لقي الأثام. والظاهر أن بدل الفعل من الفعل عند الشارح المحقق إنما يكون في بدل الكل ، وهو مذهب السيرافي ، قال : لا يبدل الفعل إلا من شيء هو في معناه لأنه لا يتبعض ولا يكون فيه اشتمال ، فتؤخذ كرها أو تجيء طائعا هو معنى المبايعة ، لأنها تقع على أحدهما.

وقد يظهر من كلام سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين.

وقد جوز المتأخرون الأبدال الأربعة في الفعل ، منهم الشاطبي في شرح الألفية قال : يتصور في بدل الفعل من الفعل ، ما تصور في بدل الاسم من الاسم فقد يكون فيه بدل الكل من الكل ، ومنه قوله : الطويل

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

وقد يكون فيه بدل البعض كقولك : إن تصل تسجد لله يرحمك. وبدل الاشتمال أيضا ، ومنه قوله :

إنّ على الله أن تبايعا ... البيت

لأن الأخذ كرها ، والمجيء طوعا من صفات المبايعة. وظاهر كلام سيبويه يقتضي أنه أنشده شاهدا على بدل الاشتمال.

انظر خزانة الأدب ٢ / ١٧٩.

٤٣٤

ونحو قولك : إن تأتني تمشي أمشي معك ؛ لأن المشي ضرب من الإتيان ولا يجوز أن تقول : أن تأتي تأكل آكل معك ؛ لأن الأكل ليس من الإتيان في شيء.

٤٣٥

مسائل من هذا الباب

تقول : بعت متاعك أسفله قبل أعلاه واشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كبارها ودفعت الناس بعضهم ببعض وضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا وتقول : مررت بمتاعك بعضه مرفوعا وبعضه مطروحا كأنك قلت مررت ببعض متاعك مرفوعا وببعض مطروحا لأنك مررت به في هذه الحال ، وإذا كان صفة للفعل لم يجز الرفع وتقول : بعت طعامك بعضه مكيلا وبعضه موزونا إذا أردت أن الكيل والوزن وقعا في حال البيع ، فإن رفعت فإلى هذا المعنى ولم يكن متعلقا بالبيع فقلت : بعت طعامك بعضه مكيل وبعضه موزون أي بعته وهو موجود كذا فيكون الوزن والكيل قد لحقاه قبل البيع وليسا بصفة للبيع وتفهم هذا بأن الرجل إذا قال : بعتك هذا الطعام مكيلا وهذا الثوب مقصورا فعليه أن يسلمه إليه مكيلا ومقصورا ، وإذا قال : بعتك وهو مكيل فإنما باعه شيئا موصوفا بالكيل ولم يتضمنه البيع تقول : خوفت الناس ضعيفهم وقويهم كأنك قلت :خوفت ضعيف الناس قويهم وكان تقدير الكلام قبل أن ينقل فعل إلى (فعلت) خافه الناس ضعيفهم قويهم فلما قلت : خوّفت صار الفاعل مفعولا وقد بينت هذا فيما تقدم ومثل ذلك ألزمت الناس بعضهم بعضا كان الأصل : لزم الناس بعضهم بعضا فلما قلت ألزمت صار الفاعل مفعولا وصار الفعل يتعدى إلى مفعولين وتقول : دفعت الناس بعضهم ببعض على قولك : دفع الناس بعضهم بعضا فإذا قلت : دفع صار ما كان يتعدى لا يتعدى إلا بحرف جر فتقول : دفع الناس بعضهم ببعض وتقول : فضلت متاعك أسفله على أعلاه كأنه في التمثيل :فضل متاعك أسفله على أعلاه فلما قلت : فضّلت صار الفاعل مفعولا ومثله : صككت الحجرين أحدهما بالآخر كان التقدير : اصطك الحجران أحدهما بالآخر فلما قلت : صككت صار الفاعل مفعولا ومثل ذلك : ولو لا دفاع الله الناس بعضهم ببعض والمعنى : لو لا أن دفع الناس بعضهم ببعض ولو قلت : دفع الناس بعضهم بعضا لم يحتج إلى الباء ؛ لأنه فعل يتعدى إلى مفعول قلت دفع الله الناس واستتر في الفعل عمله في الفاعل ولم يجز أن يتعدى إلى مفعول ثان إلا بحرف جرّ فعلى هذا جاءت الآية ولذلك دخلت الباء وتقول : عجبت من دفع الناس

٤٣٦

بعضهم بعضا إذا جعلت الناس فاعلين كأنك قلت عجبت من أن دفع الناس بعضهم بعضا ، فإن جعلت الناس مفعولين قلت : عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض ؛ لأن المعنى : عجبت من أن دفع الناس بعضهم ببعض وتقول : سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض جرى على قولك : وقعت أنيابه بعضها فوق بعض فأنيابه هنا فاعلة وتقول : عجبت من إيقاع أنيابه بعضها فوق بعض جرا فأنيابه هنا مفعولة قامت مقام الفاعل ولو قلت : أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض لقلت : عجبت من إيقاعي أنيابه بعضها فوق بعض فنصبت أنيابه وتقول : رأيت متاعك بعضه فوق بعض إذا جعلت (فوق) في موضع الاسم المبني على المبتدأ وجعلت المبتدأ بعضه كأنك قلت : رأيت متاعك بعضه أجود من بعض ، فإن جعلت (فوق) وأجودها حالا نصبت (بعضه) ، وإن شئت قلت : رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض فتنصب (أحسن) على أنه مفعول ثان وبعضه منصوب بأنه بدل من متاعك.

قال سيبويه : والرفع في هذا أعرف والنصب عربي جيد فما جاء في الرفع : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠].

ومما جاء في النصب : (خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها) قال : حدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت لعبدة بن الطبيب :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكّنه بنيان قوم تهدّما (١)

__________________

(١) قال السيرافي : النصب في هذه الأبيات على البدل جيد ، ولو رفع على الابتداء لكان أكثر وأعرف ، فيقول : هلكه هلك واحد ، وما ألفيتني حلمي مضاع ، وتكون الجملة في موضع الحال ، وتؤخذ كرها ، أو تجيء طائعا على معنى أنت تؤخذ كرها ؛ فيكون أنت تؤخذ في موضع الحال. انتهى.

وهذا كقوله : الطويل

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

رفع تعشو بين المجزومين ، أعني الشرط والجزاء لأنه قصد به الحال ، أي : متى تأته عاشيا ، أي : ناظرا إلى ضوء ناره. وكذلك كل ما وقع بين مجزومين. وعليه قراءة : يرثني ويرث من آل يعقوب بالرفع ، لم يجعله جوابا ، وإنما جعله وصفا ، أي : وارثا من يعقوب. فتدبره فإنه كثير. كذا في أبيات المعاني لابن السيد.

٤٣٧

وقال رجل من خثعم أو بجيلة :

ذريني إنّ أمرك لن يطاعا

وما ألفيتني حلمي مضاعا (١)

وتقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض كما قلت : رأيت متاعك بعضه فوق بعض وأنت تريد رؤية العين وتنصب (فوق) بأنه وقع موقع الحال فالتأويل : جعلت ورأيت متاعك

__________________

ـ وقوله : كرها مفعول مطلق ، أي : تؤخذ أخذا كرها. ويجوز أن يكون حالا بتأويله باسم الفاعل. وهو المناسب لقوله : طائعا ، فإنه حال.

وهذا البيت قلما خلا عنه كتاب نحوي ، ومع شهرته لا يعلم قائله ، وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها. والله أعلم.

وأنشد بعده ، الشاهد الثالث والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات س : الطويل

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت

على أنه يروى رجل بالجر على أنه بدل مع أخرى مفصل من رجلين. ويروى بالرفع على أنه بدل مقطوع.

أنشده سيبويه في باب مجرى النعت على المنعوت والبدل على المبدل منه ، قال : ومثل ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل ، قوله جل وعز : "قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ". ومن الناس من يجر ، والجر على وجهين : على الصفة وعلى البدل. انظر خزانة الأدب ٢ / ١٨١.

(١) على أن قوله حلمي بدل اشتمال من الياء في : ألفيتني.

قال ابن جني في إعراب الحماسة : إنما يجوز البدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب إذا كان بدل البعض أو بدل الاشتمال ، نحو قولك : عجبت منك عقلك ، وضربتك رأسك. ومن أبيات الكتاب :

ذريني إنّ أمرك لن يطاعا ... البيت

فحلمي : بدل من ني. ولو قلت : قمت زيد ، أو مررت بي جعفر ، أو كلمتك أبو عبد الله على البدل لم يجز ، من حيث كان ضمير المتكلم والمخاطب غاية في الاختصاص ، فبطل البدل ، لأن فيه ضربا من البيان ، وقد استغنى المضمر بتعرفه. انتهى.

وكذلك الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ". الحلم : منصوب بالإلفاء على التكرير ، يعني البدل ، ولو رفعه كان صوابا. وأورده أيضا عند قوله تعالى : "وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ". انظر خزانة الأدب ٢ / ١٧٥.

٤٣٨

بعضه مستقرا فوق بعض أو راكبا فوق بعض أو مطروحا فوق بعض أو ما أشبه هذا المعنى (ففوق) ظرف نصبه الحال وقام مقام الحال كما يقوم مقام الخبر في قولك : زيد فوق الحائط إذا قلت : رأيت زيدا في الدار فقولك (في الدار) يجوز أن يكون ظرفا لرأيت ويجوز أن يكون ظرفا لزيد كما تقول : رميت من الأرض زيدا على الحائط فقولك : على الحائط ظرف يعمل فيه استقرار زيد كأنك قلت : رميت من الأرض زيدا مستقرا على الحائط ونحو هذا ما جاء في الخبر كتب عمر إلى أبي عبيدة بالشام : الغوث الغوث وأبو عبيدة وعمر رحمه الله كتب إليه من الحجاز فالكتاب لم يكن بالشام ولك أن تعدى (جعلت) إلى مفعولين فتقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض فتجعل (فوق بعض) مفعولا ثانيا كما يكون في (ظننت) متاعك بعضه فوق بعض (فجعلت) هذه إذا كانت بمعنى (علمت) تعدت إلى واحد مثل رأيت إذا كانت من رؤية العين ، وإذا كانت جعلت ليست بمعنى علمت وإنما تكلم بها عن توهم أو رأي أو قول كقول القائل : جعلت حسني قبيحا وجعلت البصرة بغداد وجعلت الحلال حراما فإذا لم ترد فجعلت العلاج والعمل في التعدي بمنزلة (رأيت) إذا أردت بها رؤية القلب ولم ترد رؤية العين ولك أن تعدي (جعلت) إلى مفعولين على ضرب آخر على أن تجعل المفعول الأول فاعلا في الثاني كما تقول : أضربت زيدا عمرا تريد أنك جعلت زيدا يضرب عمرا فيكون حينئذ قولك : فوق بعض مفعول مفعول وموضعه نصب تعدى إليه الفعل بحرف جرّ لأنك إذا قلت : مررت بزيد فموضع هذا نصب وهذا نحو : صكّ الحجران أحدهما بالآخر فإذا جعلت أنت أحدهما يفعل بالآخر قلت : صككت الحجرين أحدهما بالآخر ولم يكن بد من الباء ؛ لأن الفعل متعدّ إلى مفعول واحد فلما جعلت المفعول في المعنى فاعلا احتجت إلى مفعول فلم يتصل الكلام إلا بحرف جرّ وقد بينت ذا فيما تقدم وأوضحته فهذه ثلاثة أوجه في نصب (جعلت) متاعك بعضه على بعض وهي النصب على الحال والنصب على أنه مفعول ثان والنصب على أنه مفعول مفعول فافهمه فإنه مشكل في كتبهم ويجوز الرفع فتقول : جعلت متاعك بعضه على بعض وتقول : أبكيت قومك بعضهم على بعض فهذا كان أصله بكى قومك بعضهم على بعض فلما نقلته إلى (أبكيت) جعلت الفاعل مفعولا وهو في المعنى فاعل

٤٣٩

إلا أنك أنت جعلته فاعلا وقولك : على بعض لا يجوز أن يقع موقع الحال لأنك لا تريد أنّ بعضهم مستقر على بعض ولا مطروح على بعض كما كان ذلك في المتاع.

قال سيبويه : لم ترد أن تقول : بعضهم على بعض في عون ولا أن أجسادهم بعضا على بعض وقولك : بعضهم في جميع هذه المسائل منصوب على البدل ، فإن قلت : حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض كان الرفع حسنا ؛ لأن الآخر هو الأول ، وإن شئت نصبت على الحال يعني (أفضل) فقلت : حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض كأنك قلت : حزنت بعض قومك فاضلين بعضهم.

قال سيبويه : إلا أن الأعرف والأكثر إذا كان الآخر هو الأول أن يبتدأ والنصب عربي جيد وتقول : ضرب عبد الله ظهره وبطنه ومطرنا سهلنا وجبلنا ومطرنا السهل والجبل وجميع هذا لك فيه البدل ولك أن يكون تأكيدا كأجمعين لأنك إذا قلت : ضرب زيد الظهر والبطن فالظهر والبطن هما جماعة زيد ، وإذا قلت : (مطرنا) فإنما تعني : مطرت بلادنا والبلاد يجمعها السهل والجبل.

قال سيبويه : وإن شئت نصبت فقلت ضرب زيد الظهر والبطن ومطرنا السهل والجبل وضرب زيد ظهره وبطنه والمعنى : حرف الجر.

وهو (في) ولكنهم حذفوه قال : وأجازوا هذا كما أجازوا دخلت البيت وإنما معناه :دخلت في البيت والعامل فيه الفعل وليس انتصابه هنا انتصاب الظروف قال : ولم يجيزوا حذف حرف الجر في غير السهل والجبل والمظهر والبطن نظير هذا في حذف حرف الجر نبئت زيدا تريد : عن زيد وزعم الخليل : أنهم يقولون مطرنا الزرع والضرع ، وإن شئت رفعت على البدل على أن تصيره بمنزلة أجمعين توكيدا.

قال سيبويه : إن قلت : ضرب زيد اليد والرجل جاز أن يكون بدلا وأن يكون توكيدا ، وإن نصبته لم يحسن والبدل كما قال جائز حسن والتوكيد عندي يقبح إذا لم يكن الاسم المؤكد هو المؤكد واليد والرجل ليستا جماعة زيد وهو في السهل والجبل عندي يحسن ؛ لأن السهل

٤٤٠