الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

مسائل من هذه الأبواب

تقول : (هذا معطي زيد أمس الدراهم) بعد الإضافة أضفت (الدراهم).

قال أبو العباس : وليس كذلك لأنك أعملت فيها (معطي) هذه التي ذكرنا ولكن جاءت الدراهم بعد الإضافة فحملت في النصب على المعنى ؛ لأنك ذكرت اسما يدل على فعل ولا موضع لما بعده إذا كان قد استغنى بالتعريف فحملته على المعنى الذي دل عليه ما قبله وكذلك لو قلت : هذا ضارب زيد أمس وعمرا لجاز والوجه الجر لأنهما شريكان في الإضافة ولكن الحمل على المعنى يحسن إذا تراخى ما بين الجار والمجرور ومن ذلك حمل على جعل الليل سكنا قول الله عز وجل : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] ؛ لأن الاسم دل على ذلك ولو قال قائل : (مررت بزيد وعمرو) لجاز ؛ لأن (بزيد) مفعول والواصل إليه الفعل بحرف في المعنى كالذي يصل إليه الفعل بذاته ؛ لأن قولك : (مررت بزيد) معناه أتيت زيدا إلا أن الجر الوجه للشركة.

وقولك : خشنت بصدره وصدر زيد وهو إذا نصبت في هذا الموضع أحسن من قولك :مررت بزيد وعمرو ؛ لأن قولك : (خشنت) يجوز فيه حذف الباء ولا يجوز في : (مررت بزيد) حذفها.

وتقول : (عبد الله الضارب زيدا) جميع النحويين على أن هذا في تقدير : الذي ضرب زيدا ولم يجيزوا الإضافة وزعم الفراء : أنه جائز في القياس على أن يكون بتأويل : (الذي هو ضارب زيد) وكذا حكم : (زيد الحسن الوجه) عنده أن يكون تأويله الذي هو حسن الوجه وقد ذكرنا أصول هذا وحقائقه فيما تقدم وتقول عبد الله الحسن وجها ولا يجوز : الحسن وجه ؛ لأنه يخالف سائر الإضافات ، وأما أهل الكوفة فيجوز في القياس عندهم إلا أنهم يقولون : (الوجه) مفسر ، وإذا دخل في الأول ألف ولام دخل في مفسره عندهم ومن قولهم : خاصة العشرون الدرهم والخمسة الدراهم والمائة الدرهم ولا يجوزّ هذا البصريون ؛ لأنه نقض لأصول الإضافة والبصريون يقولون : خمسة الدراهم ومائة الدرهم فيدخلون الألف واللام في الثاني

٤٠١

ويكون الأول معرفا به على سبيل الإضافة ويقولون : العشرون درهما والخمسة عشر درهما فيدخلون الألف واللام في الأول فيكون معرفا يقرون الثاني على حده في النكرة.

وقيل لأبي العباس رحمه الله : ألستم تقولون : عبد الله الضاربه والضاربك والضاربي فتجمعون على أن موضع الكاف والهاء خفض قال : بلى قيل له : فهذا يوجب الضارب زيد ؛ لأن المكنى على حد الظاهر ومن قولك أنت خاصة : أن كل من عمل في المظهر جائز أن يعمل في المضمر وكذلك ما عمل في المضمر جائز أن يعمل في المظهر فقال : نحو قول سيبويه : أن هذه الحروف يعني حروف الإضمار قلّت وصارت بمنزلة التنوين لأنها على حرف كما أن التنوين حرف فاستخفوا أن يضيفوا إليها الفاعل لأنها تصير في الاسم كبعض حروفه وحكى لي عنه بعد أنه قال : (الضاربه) (الهاء) في موضع نصب ؛ لأن لا تنوين هاهنا تعاقبه الهاء والضارباه (الهاء) في موضع خفض فإذا أردت النصب أثبت النون بناء على الظاهر وبه اختلف الناس في المضمر فأما الظاهر فلا أعلم أحدا يجيزه الخفض إلا الفراء وحكى لنا عنه أنه قال : وليس من كلام العرب إنما هو قياس ويقول : أعجبني يوم قام زيد ويوم قيامك نسقت بإضافة محضة على إضافة غير محضة ، فإن قلت أعجبني يوم قمته فرددت إلى (يوم) ضميرا في (قام) لم تجز الإضافة قال الله عز وجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] والمضاف إلى غير محض لا يؤكد ولا ينعت.

ومن الكوفيين من يجيز تأكيده.

وقال الأخفش : في قول العرب : اذهب بذي تسلم وإنما هو اذهب لسلامتك أي : اذهب وأنت سالم كما تقول : قام بحمقة وقام بغصة وخرج بطلعته أي خرج وهو هكذا وهذا في موضع حال قال : وإن شئت قلت : معناه معنى سلمك الله وجاء في لفظ ما لا يستغنى وحده ألا ترى أنك تقول زيد بسلامته كما تقول : زيد سلمه الله ولا تقول : إنك بذي تسلم وتقول :إنك مسلمك الله إلا أن تدعو له ، فإن دعوت لم يحسن حتى تجيء له بخبر ؛ لأن لا بد لها من خبر وقد خرج مسلمك الله من أن يكون خبرا وقال : تقول : هذه تمرة قريثاء يا هذا ، وإن شئت قلت : كريثاء وهما لغتان وتمرتا كريثاء إذا أردت الإضافة وهاتان تمرتان قريثاء إذا أردت

٤٠٢

النعت وهذه تمرة دقلة وتمرتان دقلتان إذا نعت وتمرتا دقل إذا أضفت وتقول هذه تمرة إذاذة وتمرتان إذاذتان وتمرتا إذاذ قال : وليس شيء من الأجناس يثنى ويجمع إذا وصف به إلا التمر.

قال أبو بكر : والذي عندي أن كل جنس اختلف ضروبه جاز أن يثنى ويجمع إذا أردت ضربين منه أو أكثر وتقول : هذا رجل حسن وجه الأخ جميله فتضمن الوجه لأنك قد ذكرته وتقول هذان رجلان حسنا الوجوه جميلاها تضيف (الجميلين) إلى الوجوه وإنما قلت : جميلاها فأنثت ؛ لأن الوجوه مؤنثة وتقول : هذا رجل أحمر الجارية لا أسودها فقلت أحمر وإنما الحمرة للجارية لأنك تجري التأنيث والتذكير على الأول وعطفت الأسود على الأحمر وأضفت الأسود إلى الجارية كما أضفت الأحمر إليها وتقول : هذان رجلان أحمرا الجارية لا أسوداها وهولاء رجال حمر الجواري لا سودها تجعل التثنية والجمع والتأنيث والتذكير على الأول وتقول : هذا رجل أبيض بطن الراحة لا أسوده وإنما قلت : لا أسوده ؛ لأن البطن مذكر وتقول : هذان رجلان أبيضا بطون الراح لا أسوداها وإنما قلت : الراح ؛ لأنه جمع جماعة الراحة وقلت : بطون ؛ لأن كل شيئين من شيئين فهو جماعة وتقول هؤلاء رجال حمر بطون الراح لا سودها ، وأجاز الأخفش : هذان أخواك أبيض بطوح الراح لا أسوديها وقال : لأن أخويك معرفة وأبيض بطون الراح نكرة وقال : تقول : هذه جاريتك بيضاء بطن الراحة لا سوداءه لأنك أضفت إلى البطن وهو مذكر ونصبت بيضاء وسوداء ؛ لأنه نكرة وهؤلاء رجال بيض بطون الراح لا سودها ؛ لأن هذا نكرة وصف بنكرة وتقول : هذا رجل أحمر شرك النعلين إذ جعلت الشراكين من النعلين ، وإن شئت لم تجعلهما من النعلين فقلت : هذا رجل أحمر شراكي النعلين وتقول هاتان حمراوا الشراك لا صفراواها ، وإن شئت حمراوا الشراكين لا صفراوهما وتقول : مررت بنعلك المقوطعتي إحدى الأذنين ومررت برجل مقطوع إحدى الأذنين ولا.

تقول : مررت برجلين مقطوعي إحدى الآذان ؛ لأن (إحدى) لا تثنى ولا تجمع وتقول : مررت برجل مكسور إحدى الجانبين ولا تقول : مررت برجلين مكسوري أحد الجنوب ؛ لأنه يلزمك أن تثني (أحدا) ؛ لأن جنب كل واحد منهما مكسور ولا يجوز تثنية أحد ولا إحدى ؛ لأن موضع أحد وإحدى من الكلام في الإيجاب أن يدلا على أن معهما غيرهما ألا ترى أنك إذا

٤٠٣

قلت : إحداهما أو أحدهم فليس يكون إلا مضافا لا بد من أن يكون معه غيره فلو ثنيت زال هذا المعنى وكذلك (كلا وكلتا) لا يجوز أن يثنى ولا يجمع لأنهما يدلان على اثنين فلو ثنيا لزال ما وضعا له ولو قلت : مررت برجلين مكسوري أحد الجنوب وأنت تريد أن أحدهما مكسور الجنب جاز على قبح ؛ لأن تأويله : مررت برجلين مكسور أحد جنوبهما.

قال الأخفش : ولو قلت : أي النعال المقطوعة إحدى الآذان نعلك وواحدة منهن المقطوعة إحدى الأذنين لجاز على قبحه وقال : ألا ترى أنك لو قلت : ضربت أحد رؤوس القوم وإنما ضربت رأسا واحدا لكان كلاما ولو قلت : قطعت إحدى آذان هؤلاء القوم وإنما قطعت أذنا واحدة لجاز وتقول : هذا رجل لا أحمر الرأس فأقول : أحمره ولا أسوده فأقول : أسود ومررت برجلين لا أحمري الرؤوس فأقول : أحمراهما ولا أسوديهما فأقول : أسوداها ومررت برجال لا حمر الرؤوس فأقول : حمرها ولا سودها فأقول سودها ومررت بامرأة لا حمراء الرأس فأقول : حمراوة ولا سوداية فأقول : سوداية ونصبت (أقول) في كل هذا لأنها بالفاء وهو جواب النفي ورفعت ما بعد القول : لأن ما بعد القول لا يقع إلا مرفوعا وعطفت قولا وما بعده على الذي قبله وكذلك : مررت بامرأتين لا حمراوي الرؤوس فأقول حمراواهما ولا سوداويهما فأقول سوداواها وتقول : هذه امرأة أحمر ما بين عينيها لا أسود.

ترفع (بين) إذا جعلت (ما) لغوا لأنك جعلت الصفة (للبين) فرفعته بها كما ترفع بالفعل.

وقلت : أسود ولم تصف لأنك لم تضف الأول وكذلك تقول : هاتان امرأتان أحمر ما بين عينيهما لا أسود ، فإن جعلت (ما) بمنزلة (الذي) ولم تجعلها زائدة وجعلتها في موضع رفع فرفعتهما بأحمر نصبت البين لأنه ظرف ، فإن أضفت أحمر ونقلت إلى العينين قلت إذا جعلت (ما) لغوا قلت : هذه امرأة حمراء ما بين العينين لا سودائه وهذا رجل أحمر ما بين العينين لا أصفره لما أضفت أحمر إلى ما بين وأضفت أصفر إلى ضميره وتقول : هذان رجلان أحمرا ما بين الأعين لا أصفراه وهؤلاء رجال حمر ما بين الأعين لا صفره إذا ألغيت (ما) ، فإن جعلت (ما) بمنزلة (الذي) جعلتها في موضع جر وأضفت إليها الصفة وجعلت (بين) ظرفا (لما) فقلت :

٤٠٤

هاتان امرأتان حمراوا ما بين الأعين لا صفراواه فهذه الهاء التي في قولك : لا صفراواه (لما) فكأنك قلت : هاتان امرأتان حمراوا الذي بين الأعين.

واعلم أنه من قال : مررت برجل حسن الوجه قال : مررت برجل أحمر الوجه ؛ لأن أحمر لا ينصرف ومن قال : مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بدا من أن يضيف جميلا إلى مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بدا من أن يضيف جميلا إلى ضمير الوجه فكذلك : مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره لم يجد بدا من أن يضيف أصفر إلى ضمير الوجه ، وإذا أضافه أنجز ويشبه هذا مررت برجل ضارب أخاك لا شاتمه لا تجد بدا من أن تقول : لا شاتمه لأنك تجيء بالاسم المفعول فإذا جئت بالاسم المفعول به في هذا الباب مضمرا لم تكن الصفة إلا مضافة إليه نحو : هذان ضاربان غدا فلذلك قلت : أصفره فصرفت (أصفر) لأنك أضفته ولم تجعله يعمل كعمل الأول ؛ لأن المضمر والمظهر يختلفان في هذا الباب ألا ترى أنك تقول :مررت بنسوة ضوارب زيدا لا قواتله تجر الآخر وتفتح ضوارب لأنك أردت معنى التنوين ويدلك على ذلك أنك تقول : مررت برجلين أحمرين الوجوه ولا أصفريها ولا يجوز بوجه من الوجوه أصفرنيها ، فإن قلت : لم لا أقول : لا أصفرين ؛ لأن لم أضف الأول فلا أضيف الآخر فلأن الأول قد وقع على شيء حين صار كالمفعول به فلا بد من أن يكون الثاني أيضا له مفعول نجزت الأسماء المرفوعات والمنصوبات والمجرورات وسنذكر توابعها في إعرابها إن شاء الله.

٤٠٥

هذه توابع الأسماء في إعرابها

التوابع خمسة : التوكيد والنعت وعطف البيان والبدل والعطف بالحروف ، وهذه الخمسة : أربعة تتبع بغير متوسط والخامس وهو العطف لا يتبع إلا بتوسط حرف فجميع هذه تجري على الثاني ما جرى على الأول من الرفع والنصب والخفض.

شرح الأول : وهو التوكيد :

التوكيد يجيء على ضربين إما توكيد بتكرير الاسم وإما أن يؤكد بما يحيط به.

الأول : وهو تكرير الاسم :

اعلم أنه يجيء على ضربين ضرب يعاد فيه الاسم بلفظه وضرب يعاد معناه فأما ما يعاد بلفظه فنحو قولك : رأيت زيدا زيدا ولقيت عمرا عمرا وهذا زيد زيد ومررت بزيد زيد وهذا الضرب يصلح في الأفعال والحروف والجمل وفي كل كلام تريد تأكيده فأما الفعل فتقول : قام عمرو قام وقم قم واجلس اجلس قال الشاعر :

ألا فاسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي

ثلاث تحيّات ، وإن لم تكلّمي

وأما الحروف فنحو قولك : في الدار زيد قائم فيها.

فتعيد فيها (توكيدا) وفيك زيد راغب فيك وقال الله عز وجل : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [هود : ١٠٨] إلا أن الحرف إنما يكرر مع ما يتصل به لا سيما إذا كان عاملا ، وأما الجمل فنحو قولك : قام عمرو قام عمرو وزيد منطلق وزيد منطلق والله أكبر الله أكبر وكل كلام تريد تأكيده فلك أن تكرره بلفظه.

الثاني : الذي هو إعادة المعنى بلفظ آخر نحو قولك : مررت بزيد نفسه وبكم أنفسكم وجاءني زيد نفسه ورأيت زيدا نفسه ومررت بهم أنفسهم فحق هذا أن يتكلم به المتكلم في عقب شك منه ومن مخاطبه فتقول : مررت بزيد نفسه كما تقول : مررت بزيد لا أشك ومررت بزيد حقا لتزيل الشك فإذا قلت : قمت نفسك فهو ضعيف ؛ لأن النفس لم تتمكن في التأكيد لأنها تكون اسما تقول : نزلت بنفس الجبل وخرجت نفسه وأخرج الله نفسه فلما وصلتها

٤٠٦

الاسم المضمر في الفعل الذي قد صار كأحد حروفه فأسكنت له ما كان في الفعل متحركا ضعف ذلك من حيث ضعف العطف عليه.

فإن أكدته ظهر ما يجوز أن تحمل النفس عليه فقلت : قمت أنت نفسك وقاموا هم أنفسهم ، فإن أتبعته منصوبا أو مجرورا حسن ؛ لأن المنصوب والمجرور لا يغيران الفعل تقول : رأيتكم أنفسكم ومررت بكم أنفسكم ومررت بكم أنفسكم وتقول : إن زيدا قام هو نفسه فتؤكد المضمر الفاعل المتصل بالمكنى المنفصل وتؤكد المكنى المنفصل بالنفس كالظاهر.

إن زيدا قام نفسه فحملته على المنصوب جاز وكذلك : مررت به نفسه ورأيتك نفسك ؛ لأن المنصوب والمجرور المضمرين لا يغير لهما الفعل.

الضرب الثاني في التأكيد وهو ما يجيء للإحاطة والعموم :

تقول : جاءني القوم أجمعون وجاءني القوم كلهم وجاءوني أجمعون وكلهم ، وإن المال لك أجمع أكتع ترفع إذا أردت أن تؤكد ما في (لك) ، وإذا أردت أن تؤكد المال بعينه نصبت وكذلك : مررت بدارك جمعاء كتعاء أو مررت بنسائك جمع كتع.

ولا يجوز بزيد أجمع ولا بزيد كله وإنما يجوز ذلك فيما جازت عليه التفرقة.

وأجمعون وما تصرف منها وكل إذا كانت مضافة إلى الضمير وجميعهن يجرين على كل مضمر إلا أجمعين لا تكون إلا تابعة لا تقول : رأيت أجمعين ولا مررت بأجمعين لا يجوز أن يلي رافعا ولا ناصبا ولا جارا فلما قويت في الإتباع تمكنت فيه وصلح ذلك في (كلّ) لأنها في معنى (أجمعين) في العموم ، وذلك قولك : إن قومك جاءوني أجمعون ومررت بكم أجمعين فمعناها العموم ، وذلك مخالف لمعنى نفسه وأنفسهم ؛ لأن أنفسهم وأخواتها تثبت بعد الشك فإذا قلت : مررت بهم كلّهم فهو بمنزلة (أجمعين) ومررت بهم جميعهم وتقول : مررت بدارك كلها ولا تقول : مررت بزيد كله ولو قلت : أخذت درهما أجمع لم يجز ؛ لأن درهما نكرة وأجمع معرفة كما لا يجوز : مررت برجل الظريف إلا على البدل ولا يجوز البدل في (أجمع) ؛ لأنه لا يلي العوامل ولكن يجوز أخذت الدرهم أجمع وأكلت الرغيف كله.

٤٠٧

فأما قولهم : مررت بالرجل كلّ الرجل ، فقال أبو العباس معناه : مررت بالرجل المستحقّ ؛ لأن يكون الرجل الكامل لأنك لا تقول : ذاك إلا وأنت تريد حزمه ونفاذه أو جبنه وشجاعته وما أشبه ذلك فإذا قلت : مررت بالرجل كل الرجل فهو كقولك : مررت بالعالم حقّ العالم ومررت بالظريف حقّ الظريف ولو قلت على هذا : مررت بزيد كل الرجل لم يجز إلا ضعيفا ؛ لأن زيدا اسم علم وليس فيه معنى تقريظ ولا تخسيس وكذلك : مررت برجل كلّ رجل وبعالم حق عالم وبتاجر خير تاجر فجميع هذا ثناء مؤكد وليس بنعت يخلص واحدا من آخر ولو قلت : زيد كلّ الرجل فجعلته خبرا صلح ؛ لأنه ليس بتأكيد لشيء ولكنه ثناء خالص كما تقول : زيد حقّ العالم وزيد عين العالم لأنك لو قلت : مررت بزيد حقّ العالم لم يكن هذا موضعه وتقول : مررت بالرجلين كليهما ومررت بالمرأتين كلتيهما ولك أن تجري ثلاثتهم وأربعتهم مجرى كلهم فتقول : مررت بهم ثلاثتهم ولك أن تنصب كما تنصب (وحده) في قولك : مررت برجل وحده وكذلك المؤنث : مررت بهن ثلاثتهن وأربعتهن ولك أن تقول : أتينني ثلاثتهن وأربعتهن نصبا ورفعا قال الأخفش : فإذا جاوزت العشرة لم يكن إلا مفتوحا إلى العشرين تقول للنساء أتينني ثماني عشرهن وللرجال أتوني ثمانية عشرهم ، وأما نصبك (وحده) فعلى المصدر كأنك قلت : أوحدته إيحادا فصار وحده كقولك : إيحادا كأنك قلت :أفردته إفرادا وتقول : إنّ المال لك أجمع أكتع إذا أردت أن تؤكد ما في (لك).

وأما (كلهم) فالأحسن أن تكون جامعين وقد يجوز أن تلي العوامل وتقول إن القوم جاءوني كلهم وكلهم : النصب إذا أكدت (القوم) والرفع إذا أكدت الفاعلين المضمرين في (جاءوني) ويجوز أن تقول : إن قومك كلهم ذاهب يحسن عند الخايل أن يكون مبتدأ بعد أن تذكر (قومك) فيشبه التوكيد ؛ لأن التوكيد لا يكون إلا جاريا على ما قبله ويجوز أيضا قومك ضربت كلهم لهذه الإضافة الواقعة في (كلّ) فصار معاقبا (لبعضهم) كقولك : ضربت بعضهم وهو على ذلك ضعيف والصواب الجيد : قومك ضربتهم كلهم ؛ لأن المعنى معنى (أجمعين) في العموم والتأكيد فأما قوله عز وجل : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] فالنصب على التوكيد للأمر والرفع على قولك : إن الأمر جميعه لله.

٤٠٨

واعلم أنه لا يجوز أن تقول : مررت بقومك إما بعضهم وإما أجمعين وإما كلهم وإما بعضهم ؛ لأن أجمعين لا تنفرد ولكن تقول : إما بهم كلهم وإما بهم أجمعين ، فإن قلت : مررت بقومك إما كلهم وإما بعضهم جاز على قبح فأما ما يؤكد به (أجمعون) من قولك : جاءني قومك أجمعون أكتعون ونحوه فإنما هو مبالغة ولا يجوز أن يكون أكتعون قبل (أجمعين) وكذلك سائر هذه التوكيدات نحو قولك : ويلة وعولة وهو جائع نائع وعطشان نطشان وحسن بسن وقبيح شقيح وما أشبه هذا إلا يكون المؤكّد قبل المؤكّد وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى (كلهم) فأما النكرة فلا يجوز أن تؤكد بنفسه ولا أجمعين ولا كلهم ؛ لأن هذه معارف ، فإن أكدت بتكرير اللفظ بعينه لم يمتنع أن تقول : رأيت رجلا رجلا وأصبت درة درة فأما قولهم : (مررت برجل كلّ رجل) فإنما هذا على المبالغة في المدح كأنك قلت : مررت برجل كامل.

الثاني من التوابع وهو النعت :

النعت ينقسم بأقسام المنعوت في معرفته ونكرته فنعت المعرفة معرفة ونعت النكرة نكرة والنعت يتبع المنعوت في رفعه ونصبه وخفضه وأصل الصفة أن يقع للنكرة دون المعرفة ؛ لأن المعرفة كان حقها أن تستغني بنفسها وإنما عرض لها ضرب من التنكير فاحتيج إلى الصفة فأما النكرات فهي المستحقة للصفات لتقرب من المعارف وتقع بها حينئذ الفائدة والصفة : كل ما فرق بين موصوفين مشتركين في اللفظ وهي تنقسم على خمسة أقسام :

القسم الأول : حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه.

الثاني : فعل للموصوف يكون به فاعلا هو أو شيء من سببه.

الثالث : وصف ليس بعمل ولا بحلية.

الرابع : وصف ينسب إلى أب أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروب.

الخامس : الوصف (بذي) التي في معنى صاحب لا بذو التي في معنى (الذي).

شرح الأول : وهو ما كان حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه نحو الحلية :

٤٠٩

نحو الزرقة والحمرة والبياض والحول والعور والطول والقصر والحسن والقبح وما أشبه هذه الأشياء تقول : مررت برجل أزرق وأحمر وطويل وقصير وأحول وأعور وبامرأة عوراء وطويلة زرقاء وبرجل حسن وبامرأة حسنة فجميع هذه الصفات قد فرقت لك بين الرجل الأزرق وغيره والأحمر وغيره والرفع والنصب مثل الخفض والرجل والجمل والحجر في الوصف سواء إذا وصفتهنّ بما هو حلية لهن فأما الموصوف بصفة ليست له في الحقيقة وإنما هي لشيء من سببه وإنما جرت على الاسم الأول لأنها تفرق بينه وبين من له اسم مثل اسمه ، وذلك قولك : مررت برجل حسن أبوه ومضيت إلى رجل طويل أخوه وقد تقدم ذكر الصفة التي تجري على الموصوف في الإعراب إذا كان لشيء من سببه عورض بها وقلنا : أنه إنما يجري على الاسم منها ما كان مشبها باسم الفاعل مما تدخله الألف واللام أو يثنى ويجمع بالواو والنون ويذكّر ويؤنث.

شرح الثاني من النعوت :

وهو ما كان فعلا للموصوف يكون به فاعلا أو متصلا بشيء من سببه ، وذلك نحو :(قائم) وقاعد وضارب ونائم تقول : مررت برجل قائم ، وبرجل نائم وبرجل ضارب وهذا رجل قائم ورأيت رجلا قائما فهذه صفة استحقها الموصوف بفعله ؛ لأنه لما قام وجب أن يقال له : قائم ولما ضرب وجب أن يقال له : ضارب وكذلك جميع أسماء الفاعلين على هذا نحو :مكرم ومستخرج ومدحرج كثرت حروفه أو قلت ولهذا حسن أن توصف النكرة بالفعل فتقول : مررت برجل ضرب زيدا وبرجل قام وبرجل يضرب ؛ لأنه ما قيل له ضارب إلا بعد أن ضرب أو يضرب في ذلك الوقت أو يكون مقدرا للضرب ؛ لأن اسم الفاعل إنما يجري مجرى الفعل فجميع هذا الذي ذكرت لك من أسماء الفاعلين يجري على الموصوفات التي قبلها فيفصل بين بعض المسميات وبعض إذا أخلصتها نحو : مررت برجل ضارب وقاتل ومكرم ونائم وكذلك إن كانت لما هو من سبب الأول نحو قولك : مررت برجل ضارب أبوه وبرجل قائم أخوه ورأيت رجلا ضاربا أخوه عمرا وهذا رجل شاكر أخوه زيدا ولك أن تحذف التنوين وأنت تريده من اسم وتضيف فتقول : مررت برجل ضارب زيد غدا وبرجل قاتل بكر

٤١٠

الساعة وقد بينت ذا فيما تقدم وكذا إن كان الفعل متصلا بشيء من سبب الأول تقول : مررت برجل ضارب رجلا أبوه وبرجل مخالط بدنه داء ولك أن تحذف التنوين كما حذفت فيما قبله فتقول مررت برجل ضارب رجل أبوه وبرجل مخالط بدنه داء.

وحكى سيبويه عن بعض المتقدمين من النحويين أنه كان لا يجيز إلا النصب في : مررت برجل مخالط بدنه داء فينصبون (مخالط) وردّ هذا القول وقال : العمل الذي لم يقع والعمل والواقع الثابت في هذا الباب سواء قال : وناس من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين ويفرقون إذا لم ينونوا بين العمل الثابت الذي ليس فيه علاج يرونه نحو : الآخذ واللازم والمخالط وبين ما كان علاجا نحو : الضارب والكاسر فيجعلون هذا رفعا على كل حال ويجعلون اللازم ما أشبهه نصبا إذا كان واقعا ، فإن جعلت ملازمه وضاربه وما أشبه هذا لما مضى صار اسما ولم يكن إلا رفعا تقول : مررت برجل ضاربه زيد أمس وبرجل ضارب أبيه عمرو أمس ورأيت رجلا مخالطه داء أمس.

شرح الثالث من النعوت : وهو ما كان صفة غير عمل وتحلية :

وذلك نحو العقل والفهم والعلم والحزن والفرح وما جرى هذا المجرى تقول : مررت برجل عالم وبرجل عاقل ورجل عالم أبوه وبرجل ظريفة جاريته فجميع هذه الصفات وما أشبهها وقاربها فحكمها حكم واحد وقياسها قياس ضارب وقائم في إعرابها إذا كانت متصرفة كتصرفها.

شرح الرابع : وهو النسب :

إذا نسبت إلى أب أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروب جرى مجرى النعوت التي تقدم ذكرها ، وذلك قولك : مررت برجل هاشمي وبرجل عربي منسوب إلى الجنس وكذلك عجمي وبرجل بزاز وعطار وسراج وجمّال ونجار فهذا منسوب إلى الأمور التي تعالج وبرجل بصري ومصري وكوفي وشامي فهذا منسوب إلى البلد وتقول : مررت برجل دارع ونابل أي : صاحب درع وصاحب نبل وكذلك برجل فارس فجميع هذه الأشياء إنما صارت صفات بما لها من معنى الصفة وسنبين النسب في بابه فإنه حدّ من النحو كبير إن شاء الله فأما

٤١١

أب وأخ وابن وما جرى مجراهن فصفات ليست منسوبة إلى شيء وهي أسماء أوائل في أبوابها ولا يجوز أن تنسب إليها كنسب هاشمي المنسوب إلى هاشم ولا كعطار المنسوب إلى العطر ولا دارع المنسوب للدرع.

شرح الخامس : وهو الوصف ب (ذي):

وذلك نحو : مررت برجل ذي إبل وذي أدب وذي عقل وذي مروءة وما أشبه ذلك ويفسر بأن معناه (صاحب) ولا يكون إلا مضافا ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر ، وإذا وصفت به نكرة أضفته إلى نكرة ، وإذا وصفت به معرفة أضفت إلى الألف واللام ولا يجوز أن تضيفه إلى زيد وما أشبهه وتقول للمؤنث (ذات) تقول : مررت بامرأة ذات جمال ، وإذا ثنيت قلت :مررت برجلين ذوي مال وهذان رجلان ذوا مال وهاتان امرأتان ذواتا مال وهؤلاء رجال ذوو مال ونساء ذوات مال فأما (ذو) التي بمعنى (الذي) فهي لغة طيء فحقها أن يوصف بها المعارف.

٤١٢

ذكر الصفات التي ليست بصفات محضة

هذه الصفات التي ليست بصفات محضة في الوصف يجوز أن تبتدأ كما تبتدأ الأسماء ويحسن ذلك فيها وهي التي لا تجري على الأول إذا كانت لشيء من سببه وهي تنقسم ثلاثة أقسام مفرد ومضاف وموصول.

فالأول : المفرد نحو قولك : مررت بثوب سبع وقول العرب : أخذ بنو فلان من بني فلان إبلا مائة.

وقال الأعشى :

لئن كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلم (١)

__________________

(١) الأبيات محل الشاهد هي :

وما ضرب بيضاء يأوي مليكها

إلى طنف أعيا براق ونازل

تهال العقاب أن تمرّ بريده

وترمي دروء دونه بالأجادل

تنمّى بها اليعسوب حتّى أقرّها

إلى مألف رحب المباءة عاسل

فلو كان خبلا من ثمانين قامة

وتسعين باعا نالها بالأنامل

تدلّى عليها بالحبال موثّقا

شديد الوصاة نابل وابن نابل

إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عوامل

فحطّ عليها والضّلوع كأنها

من الخوف أمثال السّهام النّواصل

فشرّجها من نطفة رجبيّة

سلاسلة من ماء لصب سلاسل

بماء شنان زعزعت متنه الصّبا

وجادت عليه ديمة بعد وابل

بأطيب من فيها إذا جئت طارقا

وأشهى إذا نامت كلاب الأسافل

ويأشبني فيها الألاء يلونها

ولو علموا لم يأشبوني بطائل

ولم أنّ ما عند ابن بجرة عندها

من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل

فتلك التي لا يبرح القلب حبّها

ولا ذكرها ما أرزمت أمّ حائل

وحتّى يؤوب القارظان كلاهما

وينشر في الهلكي كليب لوائل

٤١٣

__________________

قوله : أساءلت رسم الدار الخ ، المساءلة : مفاعلة تكون من اثنين ، وهذا اتساع على عادتهم. والسكن : جمع ساكن ، مثل تاجر وتجر. وتقديره أساءلت رسم الدار عن السكن ، أم عن عهده بالوائل ، أم لم تسائل ، إذا جعلت عن السكن متعلقة بالفعل الأول. خاطب نفسه على طريق التحزن والتوجع ، فقال : أباحثت رسم الدار فما وقفت عليها عن أخبار سكانها ، كيف انتقلوا ، وإلى اين صاروا ، أو عن مدة عهده بهم ، ومذ كم ارتحلوا ، ومتى ساروا ، أو لا.

والسؤال عن السكن أنفسهم غير السؤال عن مدة العهد بهم ، فلهذا فرق. والأوائل هم السكن ، ولكن فخم شأنهم بأن أعاد اسمهم الظاهر ، ولم يقل عن عهده بهم ، ودعته القافية إليه أيضا. وحسن ذلك ، لما لم يهجنه التكرير ، اختلافهما.

ويجوز أن يريد بالسكن الوحش التي استبدلتها من قطانها قبل ، وتلك الحالة من الدار ، مما يزيد في جزع الواقف عليها ، ويستمد السؤال على جهة التلهف لها ، كما قال : الطويل

يعزّ عليّ أن يرى عوض الدّمى

بحافاته هام وبوم وهجرس

وقوله : لمن طلل الخ ، هذا وجه آخر من التحزّن ، كأنه استنكر أن تكون دارهم بالحالة التي رآها ، فجعل سؤاله سؤال من لا يثبتها ، تعظيما للأمر. والمنتصي : ملتقى الواديين حيث يناصي أحدهما صاحبه.

وقال الباهلي : المنتصي : موضع. وروى أبو عمرو : المنتضي بالضاد معجمة ، وقال : هو موضع. وقوله : غير حائل ، قال الباهلي : أراد عفا بعد عهد من قطار ووابل ، ولم يمر حول. والمشهور أن يقال : أحال الشيء. إذا أى عليه حول ، إلا أن بعضهم حكى أن حال لغة فيه.

ويجوز أن يكون حائل بمعنى متغير ، يقال : حال الشيء ، واحتال إذا تغير ، كأنه كان دارس البعض باقي البعض ، فلم يعد ذلك تغيرا كاملا ، ومتى كانت الرسوم بهذه الصفة ذكرت العهود أشد ، وجددت الغموم أجد.

ولذلك تمنى بعض الشعراء شمول الدروس عليها ليستريح منها ، فقال : الوافر

ألا ليت المنازل قد بلينا

فلا يرمين عن شزن حزينا

وقوله : بعد عهد يجوز أن يريج بعد إلمام ، ويجوز أن يكون مصدر عهدت الروضة ، إذا أتى عليها العهد ، وهو كل مطر بعد مطر ؛ وجمعه عهاد.

وإنما قال من قطار ووابل ، لأن الوابل المطر المروي ، والقطار : جمع قطر ، وهو لما دونه.

وقوله : عفا بعد عهد الحي الخ ، ابتدأ يبين كيف عفا ، والمعنى : عفا الطلل والمكان بعد أن كان للحي فيه عهد.

٤١٤

ومررت بحية ذراع فإذا قلت : مررت بحية ذراع طولها رفعت (الذراع) وجعلت ما بعد (حية) مبتدأ وخبرا وكذلك مررت بثوب سبع طوله ومررت برجل مائة إبله.

__________________

والعهد : المنزل الذي لا يزالون إذا بعدوا عنه يرجعون إليه ، كأنهم تركوا النزول به ، وفارقوه فعفا ، يريد عفا منهم بعد عهدهم ، أي : بعد أن كانوا يعهدونه ، وقد بقي من آثارهم ومبارك إبلهم ما يستدل به على أنه ربعهم.

والدعس : شدة الوطء. وقال أبو نصر : هو تتابع الآثار. والجامل : اسم للجمع يقع على الذكور والإناث ، كالإبل ، وإن كان من لفظ الجمل.

وقوله : عفا غير نؤي الخ ، عفت آثار الدار ، وانمحت إلا نؤيا لا يستبان منها وأقطاعا من خوص المقل تمزقت لقدمها ، فتفرقت في الساحات وكثرت بترديد الرياح لها.

والنؤي : حاجز يمنع به السيل عن البيت والطفي واحدتها طفية. ومعنى عفا : درس. وعفت في المعاقل :كثرت. وهذا من الأضداد ، يقال : عفا المكان ، إذا درس ، عفاء وعفوا ، وعفته الرياح عفاء وعفوا. وعفا الشيء عفوا : كثر ، وعفوته أنا. والمعاقل : جمع المعقل ، وهو هاهنا المنزل الذي نزلوه وحفظوا ما لهم فيه. والعقل :الحفظ.

وقوله : وإن حديثا منك الخ ، ترك وصف الدار ودروسها وعطف إلى خطابها يغازلها. يقول : إن حلاوة حديثك لو تفضلت به حلاوة العسل مشوبا باللبن. والجنى أصله الثمر المجتنى ، فاستعاره. والعوذ : الحديثات النتاج ، واحدها عائذ.

ومطافل : جمع مطفل ، وهي التي معها طفلها. وإنما نكر قوله حديثا منك ، ليبين أن موقع كلامها منه على كل وجه ذلك الموقع. ودل بقوله : لو تبذلينه على تمنعها ، وتعذر ذلك من جهتها.

وقوله : مطافيل أبكار الخ ، مطافيل بدل من قوله عوذ مطافل ، وأشبع في الفاء للزومها فحدثت الياء.

والأبكار : التي وضعت بطنا واحدا ، لأن ذلك أول نتاجها ، فهي أبكار وأولادها أبكار ، ولبنها أطيب وأشهى ، فلذلك خصه وجعله مزاجا.

ويشاب صفة لألبان ، أي : مشوبة بماء متناه في الصفاء. وقيل في المفاصل إنها المواضع التي ينفصل فيها السهل من الجبل حيث يكون الرضراض ، فينقطع الماء به ويصفو إذا جرى فيه.

وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو. واعترض عليه فقيل : هلا قال بماء من مياه المفاصل ، وماله يشبهه به ولا يجعله منه؟ فقيل : هذا كما يقال مثل فلان لا يفعل كذا ، والمراد أنه في نفسه لا يفعل ، لأنه أثبت له مثل ينتفي ذلك عنه. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٦٣.

٤١٥

قال سيبويه وبعض العرب يجره كما يجر الخزّ حين تقول : مررت برجل خزّ صفته وهو قليل : كما تقول : مررت برجل أسد أبوه إذا كنت تريد أن تجعله شديدا ومررت برجل مثل الأسد أبوه إذا كنت تشبهه ، فإن قلت : مررت بدابة أسد أبوها فهو رفع لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السبع قال : فإن قلت : مررت برجل أسد أبوه على هذا المعنى رفعت لأنك لا تجعل أباه خلقته كخلقة الأسد ولا صورته هذا لا يكون ولكنه يجيء كالمثل ومن قال : مررت برجل أسد أبوه قال : مررت برجل مائة إبله وزعم يونس : أنه لم يسمعه من ثقة ولكنهم يقولون : هو نار جمرة لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها فالرفع فيما كان بهذه الحال الوجه قال : ومن قال : مررت برجل سواء والعدم كان قبيحا حتى تقول : هو والعدم ؛ لأن في (سواء) اسما مضمرا مرفوعا كما تقول : مررت بقوم عرب أجمعون فارتفع (أجمعون) على مضمر في (عرب) في النية فالعدم هنا معطوف على المضمر الثاني المضاف ، وذلك قولهم : مررت برجل أي رجل وبرجل أيما رجل وبرجل أبي عشرة وبرجل كلّ رجل وبرجل مثلك وغيرك وبرجل أفضل رجل وما أشبهه فجميع هذا يجري على الموصوف في إعرابه في رفعه ونصبه وجره إذا أخلصتها له ، فإن جعلت شيئا من هذه الصفات رافعا لشيء من سببه لم يجز أن تصف به الأول ولا تجريه عليه ورفعته فقلت : مررت برجل أبو عشرة أبوه وبرجل أفضل رجل أبوه وبرجل مثلك أخوه وبرجل غيرك صاحبه : وكلّ ما ورد عليك من هذا النحو فقسه عليه.

الثالث : النعت الموصول المشبه بالمضاف :

وإنما أشبه المضاف ؛ لأنه غير مستعمل إلا مع صلته ، وذلك نحو : أفضل منك وأب لك وأخ لك وصاحب لك فجميع هذه لا يحسن أن تفردها من صلاتها لو قلت : مررت برجل أب وبرجل أخ لك وبرجل خير وبرجل شرّ لم يجز حتى تقول : مررت برجل أب لك وبرجل أخ لك وبرجل خير منك فجميع هذه إذا أخلصتها للموصوف ولم تعلقها بشيء من سببه أجريتها على الأول فقلت : هذا رجل خير منك وصاحب لك وأب لك ورأيت رجلا خيرا منك وأبا لك ومررت برجل خير منك وأب لك ، فإن علقتها بشيء من سببه رفعت وغلبت عليها الاسمية فقلت : مررت برجل أب لك أبوه وبرجل صاحب لك أخوه وبرجل خير منه

٤١٦

أبوه ترفع جميع هذا على الابتداء والخبر والجر لغة وليست بالجيدة وتقول : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشرّ منه إليه وما رأيت آخر أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فإنما جرى : (أبغض وأحسن) على (رجل) في إعرابه.

وإن كان قد وقع بهما الشر والكحل ؛ لأن الصفة في المعنى له وليس هنا موصوف غيره ؛ لأنه هو المبغض للشر وهو الحسن بالكحل فلهذا لم يشبه : مررت برجل خير منه أبوه ؛ لأن أباه غيره وليس له في الخبر الذي في (أبيه) نصيب وقد تخفض العرب هذا الكلام فتقول : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل من زيد وما رأيت أبغض إليه الشرّ منه فإذا فعلوا هذا جعلوا الهاء التي كانت في (منه) للمذكر المضمر وكانت للكحل والشرّ وما أشبههما قال الشاعر :

مررت على وادي السّباع ولا أرى

كوادي السّباع حين يظلم واديا

أقلّ به ركب أتوه تئية

وأخوف إلّا ما وقى الله ساريا (١)

__________________

(١) على أن أفعل فيه من قبيل : ما رأيت كعين زيد أحسن فيها الكحل.

قال سيبويه : إنما أراد أقل به الركب تئية منهم. ولكنه حذف استخفافا ، كما تقول : أنت أفضل ، ولا تقول من أحد. وتقول : الله أكبر ، ومعناه الله أكبر من كل شيء. انتهى.

قال ابن خلف : حذف منهم وبه اختصارا ، لعلم السامع. والهاء في به الأولى ضمير واديا ، والهاء في به التي بعد منهم ضمير وادي السباع.

وقال الجاربردي في رسالة ألفها لمسألة الكحل على عبارة الكافية : ولوقوع التغيير الكثير في العبارة الثالثة من الحذف والتقديم والتأخير ، ربما يتوهم أنها غير جائزة ، فلذلك احتاج إلى إيراد نظير لها جاء في كلام العرب ، وقد أنشده سيبويه ، وهو قوله :

مررت على وادي السباع ... البيت

والاستشهاد إنما يحصل من البيتين بقوله : ولا أرى كوادي السباع أقل به ركب أتوه تئية في وادي السباع.

فأفعل هاهنا وهو أقل ، جرى لشيء وهو في المعنى لمسبب هو الركب مفضل باعتبار من هو له ، وهو قوله به ، على نفسه ، باعتبار وادي السباع. انتهى.

وقد شرح الشارح المحقق البيتين بما لم يسبق به.

وقوله : الواو في ولا أرى اعتراضية ، هذا بالنظر إلى ما يأتي بعد البيت الثاني.

وجعل العيني جملة : ولا أرى حالية.

٤١٧

قال سيبويه : إنما أراد : أقلّ به الركب تئية منهم ولكنه حذف ذلك استخافا كما تقول : أنت أفضل ولا تقول من أحد وتقول : الله أكبر ومعناه : أكبر من كلّ كبير وكلّ شيء.

وكما تقول : لا مال ولا تقول لك.

واعلم أن ما جرى نعتا على النكرة فإنه منصوب في المعرفة على الحال ، وذلك قولك :مررت بزيد حسنا أبوه ومررت بعبد الله ملازمك وما كان في النكرة رفعا غير صفة فهو في المعرفة رفع فمن ذلك قوله عز وجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) [الجاثية : ٢١] لأنك تقول : مررت

__________________

وقوله : وهو بمعنى المفعول يعني أن أخوف في البيت مأخوذ من الفعل المبني للمجهول ، أي : أشد مخوفية ، كما أخذ أشهر وأحمد من المبني للمجهول ، أي : أشد مشهورية ومحمودية.

وقوله : وهو منصوب على التمييز من أقل ، هذا هو الظاهر وعليه اقتصر شارح اللباب ، قال : التئية : التوقف والتثبت. وتئية تمييز ، من قوله : أقل ، أي : أقل توقفا. فأقل : أفعل من القلة منصوب لأنه صفة لمفعول أرى.

وقال الجاربردي : تئية إما مصدر على أصله ، لأن الإتيان قد يكون تئية ، أي : بتوقف ، وقد يكون بغيره. وإما مصدر في تأويل المشتق ، أي : متوقفين ، فيكون حالا. وأخوف عطف على أقل أو على تئية إن جعلت حالا.

وإلا ما وقى الله : استثناء مفرغ ، أي : في كل وقت إلا وقت وقاية الله الساري. انتهى.

ومحصل المعنى أن ثبوت الركب في وادي السباع أقل من ثبوته في غيره.

والشعر لسحيم بن وثيل ، وهو شاعر عصري الفرزدق ، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين.

وادي السباع : اسم موضع بطريق البصرة. قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : وادي السباع جمع سبع ، بالبصرة معروف ، وهو الذي قتل فيه الزبير بن العوام ، سمي بذلك لأن أسماء بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.

وقال الكلبي : هي أسماء بنت دريم ، بن القين بن أهود بن بهراء كانت تنزله. ويقال ، لها أم الأسبع ، لأن ولدها أسد ، وكلب ، والذئب ، والدب ، والفهد ، والسرحان. وأقبل وائل بن قاسط ، فلما نظر إليها رآها امرأة ذات جمال ، فطمع فيها ، ففطنت له ، فقالت : لو هممت بي لأتاك أسبعي! فقال : ما أرى حولك أسبعا. فدعت بنيها فأتوا بالسيوف من كل ناحية. فقال : والله ما هذا إلا وادي السباع : فسمي به. انتهى. انظر خزانة الأدب ٣ / ٢٠٧.

٤١٨

برجل سواء محياه ومماته وتقول : مررت بعبد الله خير منه أبوه ومن أجرى هذا على الأول في النكرة نصبه هنا على الحال فقال : مررت بعبد الله خيرا منه أبوه وهي لغة رديئة وقد يكون حالا ما لا يكون صفة ؛ لأن الحال زيادة في الخبر فأشبهت خبر المبتدأ الذي يجوز أن يكون صفة ويجوز أن يكون اسما والصفة ما كانت تفرق بين اسمين والحال ليست تفرق بين اسمين وقد يجوز أن يكون من اسم لا شريك له في لفظه ولكنها تفرق بين صاحب الفعل فاعلا كان أو مفعولا وبين نفسه في وقتهن فمما استعملوه حالا ولم يجز أن يكون صفة.

قولهم : مررت بزيد أسدا شدة ، قال سيبويه : إنما قال النحويون : مررت برجل أسدا شدة وجرأة إنما يريدون : مثل الأسد وهذا ضعيف قبيح ؛ لأنه لم يجعل صفة إنما قاله النحويون تشبيها بقولهم : مررت بزيد أسدا شدة وقد يكون خبرا ما لا يكون صفة واعلم أنهم ربما وصفوا بالمصدر نحو قولك : رجل عدل وعلم فإذا فعلوا هذا فحقه أن لا يثنى ولا يجمع ولا يذكّر ولا يؤنث والمعنى إنما هو ذو عدل ، فإن ثنى من هذا شيء فإنما يشبه بالصفة إذا كثر الوصف به والنكرة توصف بالجمل وبالمبتدأ والخبر والفعل والفاعل ؛ لأن كلّ جملة فهي نكرة لأنها حديث وإنما يحدث بما لا يعرف ليعيده السامع فيقول : مررت برجل أبوه منطلق فرجل صفته مبتدأ وخبره وتقول : مررت برجل قائم أبوه فهذا موصوف بفعل وفاعل ولا يجوز أن تصف المعرفة بالجمل ؛ لأن الجمل نكرات والمعرفة لا توصف إلا بمعرفة فإذا أردت ذلك أتيت (بالذي) فقلت : مررت بزيد الذي أبوه قائم وبعمرو الذي قائم أبوه.

٤١٩

ذكر وصف المعرفة

وهو ينقسم بأقسام المعارف إلا المضمر فإنه لا يوصف به وأقسام الأسماء المعارف خمسة العلم الخاص والمضاف إلى المعرفة والألف واللام والأسماء المبهمة والإضمار.

فالموصوف منها أربع :

الأول : وهو العلم الخاص : يوصف بثلاثة أشياء بالمضاف إلى مثله وبالألف واللام نحو :مررت بزيد أخيك والألف واللام نحو : مررت بزيد الطويل وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللام.

وأما المبهمة فنحو : مررت بزيد هذا وبعمرو ذاك والمرفوع والمنصوب في أتباع الأول كالمجرور.

الثاني : المضاف إلى المعرفة : يوصف بثلاثة أشياء بما أضيف كإضافته وبالألف واللام والأسماء المبهمة ، وذلك مررت بصاحبك أخي زيد ومررت بصاحبك الطويل ومررت بصاحبك هذا.

الثالث : الألف واللام : يوصف بالألف واللام وربما أضيف إلى الألف واللام ؛ لأنه بمنزلة الألف واللام ، وذلك قولك مررت بالجميل النبيل ومررت بالرجل ذي المال.

الرابع : المبهمة : توصف بالأسماء التي فيها الألف واللام والصفات التي فيها الألف واللام جميعا.

قال سيبويه : وإنما وصفت بالأسماء لأنها والمبهمة كشيء واحد.

والصفات التي فيها الألف واللام هي بمنزلة الأسماء في هذا الموضع وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو يعني أنك إذا قلت : هذا الطويل فإنما تريد : الرجل الطويل أو الرمح الطويل أو ما أشبه ذلك ؛ لأن هذا مبهم يصلح أن تشير به إلى كل ما بحضرتك فإذا ألبس على السامع فلم يدر إلى الرجل تشير أم إلى الرمح وجب أن تقول : بهذا الرجل أو بهذا الرمح فالمبهم يحتاج إلى أن يميز بالأجناس عند الإلباس فلهذا صار هو وصفته بمنزلة شيء واحد

٤٢٠