الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

والثالث ـ أن يكون النقل عمّن قوله حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان فأما إذا نقلوا عمّن بعدهم بعد فساد لسانهم واختلاف المولّدين فلا.

قال الزركشي : ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهاد بشعر أبي تمام بل في الإيضاح للفارسي ، ووجّه بأنّ الاستشهاد بتقرير النّقلة كلامهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب.

وقال ابن جنّي : يستشهد بشعر المولّدين في المعاني كما يستشهد بشعر العرب في الألفاظ.

والرابع ـ أن يكون الناقل قد سمع منهم حسّا وأمّا بغيره فلا.

والخامس ـ أن يسمع من الناقل حسّا. انتهى.

وقال ابن جنّي في" الخصائص" : من قال : إن اللغة لا تعرف إلّا نقلا فقد أخطأ ؛ فإنها قد تعلم بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر : [البسيط]

قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.

وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية : اعلم أن اللّغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعدّاه ، وأما النّحوي فشأنه أن يتصرّف فيما ينقله اللّغوي ، ويقيس عليه ومثالهما المحدّث والفقيه ، فشأن المحدّث نقل الحديث برمّته ، ثم إن الفقيه يتلقّاه ويتصرّف فيه ويبسط فيه علله ويقيس عليه الأمثال والأشباه.

قال أبو علي فيما حكاه ابن جنّي : يجوز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرنا على شعرهم.

المبحث الخامس : في سعة اللغة :

قال ابن فارس في" فقه اللغة" : باب القول على لغة العرب ، وهل يجوز أن يحاط بها؟

قال بعض الفقهاء : كلام العرب لا يحيط به إلّا نبيّ.

٢١

قال ابن فارس : وهذا كلام حريّ أن يكون صحيحا ، وما بلغنا أن أحدا ممن مضى ادّعى حفظ اللغة كلّها ، فأما الكتاب المنسوب إلى الخليل ، وما في خاتمته من قوله : هذا آخر كلام العرب ، فقد كان الخليل أورع وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.

وقد سمعت عليّ بن محمد بن مهرويه يقول : سمعت هارون بن هزاري يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : من أحبّ أن ينظر إلى رجل خلق من الذّهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد.

وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلل المصاحفي عن النّضر بن شميل قال : كنا نميّل بين ابن عون والخليل بن أحمد أيهما نقدّم في الزهد والعبادة فلا ندري أيهما نقدّم؟

قال : وسمعت النضر بن شميل يقول : ما رأيت أحدا أعلم بالسّنّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.

قال : وسمعت النضر يقول : أكلت الدنيا بأدب الخليل وكتبه وهو في خصّ لا يشعر به.

قال ابن فارس : فهذا مكان الخليل من الدّين ، أفتراه يقدم على أن يقول : هذا آخر كلام العرب؟!

ثم إن في الكتاب الموسوم به من الإخلال ما لا خفاء به على علماء اللغة ، ومن نظر في سائر الأصناف الصحيحة علم صحّة ما قلناه. انتهى كلام ابن فارس.

وهذا الذى نقله عن بعض الفقهاء نصّ عليه الإمام الشافعى رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ، ولا نعلم أن يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيّ ، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامّتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه ، والعلم به عند العرب كالعلم بالسّنة عند أهل الفقه ، لا يعلم رجل جميع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ، وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السّنن ، وإذا فرّق علم كلّ واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ، ثم ما ذهب منها عليه موجود عند غيره ، وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه ، ومنهم الجامع لأقلّ مما جمع غيره ، وليس قليل ما ذهب من السّنن على من جمع أكثرها ، دليلا على أن يطلب علمه عند غير أهل طبقته من أهل

٢٢

العلم بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله ـ بأبي هو وأمي ـ ، فتفرّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها.

وهذا لسان العرب عند خاصّتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلّا من قبله منها ، ولا يشركها فيه إلّا من اتّبعها وقبله منها فهو من أهل لسانها وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمّ من علم أكثر السّنن في العلماء. هذا نص الشّافعي بحروفه.

وقال ابن فارس في موضع آخر : باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير ، وأن كثيرا من الكلام ذهب بذهاب أهله.

ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أنّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير ، وأحر بهذا القول أن يكون صحيحا ؛ لأنّا نرى علماء اللّغة يختلفون في كثير مما قالته العرب ، فلا يكاد واحد منهم يخبر عن حقيقة ما خولف فيه ، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان ، ألا ترى أنّا نسألهم عن حقيقة قول العرب في الإغراء : كذبك كذا. وعما جاء في الحديث من قوله صلّى الله عليه وسلّم : " كذب عليكم الحجّ". وكذبك العسل.

وعن قول القائل : [الطويل]

كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا

بي الأرض والأقوام قردان موظبا

وعن قول الآخر : [الكامل]

كذب العتيق وماء شنّ بارد

إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي

ونحن نعلم أن قول : (كذب) يبعد ظاهره عن باب الإغراء.

وكذلك قولهم : عنك في الأرض ، وعنك شيئا.

وقول الأفوه : [الرمل]

عنكم في الأرض إنّا مذحج

ورويدا يفضح الليل النهار

٢٣

ومن ذلك قولهم : أعمد من سيّد قتله قومه. أي : هل زاد على هذا ، فهذا من مشكل الكلام الذي لم يفسّر بعد ، وقال ابن ميّادة : [الطويل]

وأعمد من قوم كفاهم أخوهم

صدام الأعادي حين فلّت نيوبها

قال الخليل وغيره : معناه : هل زدنا على أن كفينا إخواننا.

وقال أبو ذؤيب : [الكامل]

صخب الشّوارب لا يزال كأنّه

عبد لآل أبي ربيعة مسبع

فقوله : (مسبع) ما فسّر حتى الآن تفسيرا شافيا.

ومن هذا الباب قولهم : يا عيد مالك ويا هيء مالك ويا شيء مالك.

ولم يفسّروا قولهم : صه ، وويهك ، وإنيه.

ثم قال : قال : وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رسمه دون علم حقائقه ، فقد اعتاضوا عنه دقيق الكلام في أصول الدّين وفروعه من الفقه والفرائض ، ومن دقيق النحو وجليله ، ومن علم العروض الذي يربأ بحسنه ودقّته واستقامته على كل ما تبجّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة ، ولكلّ زمان علم وأشرف العلوم علوم زماننا ، هذا ولله الحمد. هذا كلّه كلام ابن فارس.

المبحث السادس : في حد الكلمة والكلام والكلم والفرق بينهم :

الكلمة : حروف الهجاء تسعة وعشرون حرفا ، (وهى : أ ـ ب ـ ت ـ ث ـ ج ...) وكل واحد منها رمز مجرد لا يدل إلا على نفسه ، ما دام مستقلا لا يتصل بحرف آخر. فإذا اتصل بحرف أو أكثر ، نشأ من هذا الاتصال ما يسمى : " الكلمة". فاتصال الفاء بالميم ـ مثلا ـ يوجد كلمة : " فم" ، واتصال العين بالياء فالنون ، يوجد كلمة : " عين" ، واتصال الميم بالنون فالزاى فاللام ، يحدث كلمة : " منزل" ... وهكذا تنشأ الكلمات الثنائية ، والثلاثية ، والرباعية ـ وغيرها ـ من انضمام بعض حروف الهجاء إلى بعض.

٢٤

وكل كلمة من هذه الكلمات التى نشأت بالطريقة السالفة تدل على معنى ؛ لكنه معنى جزئى ؛ أى : مفرد ؛ فكلمة : " فم" حين نسمعها ، لا نفهم منها أكثر من أنها اسم شىء معين. أما حصول أمر من هذا الشىء ، أو عدم حصوله ... ، أما تكوينه ، أو وصفه ، أو دلالته على زمان أو مكان ، أو معنى آخر ـ فلا نفهمه من كلمة : " فم" وحدها. وكذلك الشأن فى كلمة : " عين" ، و" منزل" وغيرهما من باقى الكلمات المفردة.

ولكن الأمر يتغير حين نقول : (الفم مفيد) ـ (العين نافعة) ـ (المنزل واسع النواحى) ، فإن المعنى هنا يصير غير جزئى ؛ أى : غير مفرد ؛ لأن السامع يفهم منه فائدة وافية إلى حدّ كبير ، بسبب تعدد الكلمات ، وما يتبعه من تعدد المعانى الجزئية ، وتماسكها ، واتصال بعضها ببعض اتصالا ينشأ عنه معنى مركب. فلا سبيل للوصول إلى المعنى المركب إلا من طريق واحد ؛ هو :اجتماع المعانى الجزئية بعضها إلى بعض ، بسبب اجتماع الألفاظ المفردة.

ومن المعنى المركب تحدث تلك الفائدة التى يستطيع المتكلم أن يسكت بعدها ، ويستطيع السامع أن يكتفى بها.

وهذه الفائدة ـ وأشباهها ـ وإن شئت فقل : هذا المعنى المركب ، هو الذى يهتم به النحاة ، ويسمونه بأسماء مختلفة ، المراد منها واحد ؛ فهو : (المعنى المركب) ، أو (المعنى التام) ، أو (المعنى المفيد) ، أو (المعنى الذى يحسن السكوت عليه).

يريدون : أن المتكلم يرى المعنى قد أدى الغرض المقصود فيستحسن الصمت ، أو : أن السامع يكتفى به ؛ فلا يستزيد من الكلام. بخلاف المعنى الجزئى ، فإن المتكلم لا يقتصر عليه فى كلامه ؛ لعلمه أنه لا يعطى السامع الفائدة التى ينتظرها من الكلام. أو : لا يكتفى السامع بما فهمه من المعنى الجزئى ، وإنما يطلب المزيد. فكلاهما إذا سمع كلمة منفردة مثل : باب ، أو :ريحان ، أو : سماء ، أو : سواها ... لا يقنع بها.

لذلك لا يقال عن الكلمة الواحدة إنها تامة الفائدة ، برغم أن لها معنى جزئيّا لا تسمى (كلمة) بدونه ؛ لأن الفائدة التامة لا تكون بمعنى جزئى واحد.

٢٥

مما تقدم نعلم أن الكلمة هى : (اللفظة الواحدة التى تتركب من بعض الحروف الهجائية ، وتدل على معنى جزئى ؛ أى : مفرد). فإن لم تدل على معنى عربى وضعت لأدائه فليست كلمة ، وإنما هى مجرد صوت.

الكلام أو الجملة هو : (ما تركب من كلمتين أو أكثر ، وله معنى مفيد مستقل). مثل : أقبل ضيف. فاز طالب نبيه. لن يهمل عاقل واجبا ...

فلا بد فى الكلام من أمرين معا ؛ هما : التركيب ، والإفادة المستقلة ، فلو قلنا : (أقبل) فقط ، أو : (فاز) فقط ، لم يكن هذا كلاما ؛ لأنه غير مركب.

ولو قلنا : أقبل صباحا ... أو : فاز فى يوم الخميس ... أو : لن يهمل واجبه ... ، لم يكن هذا كلاما أيضا ؛ لأنه ـ على رغم تركيبه ـ غير مفيدة فائدة يكتفى بها المتكلم أو السامع ...

وليس من اللازم فى التركيب المفيد أن تكون الكلمتان ظاهرتين فى النطق ؛ بل يكفى أن تكون إحداهما ظاهرة ، والأخرى مستترة ؛ كأن تقول للضيف : تفضل. فهذا كلام مركب من كلمتين ؛ إحداهما ظاهرة ، وهى : تفضل ، والأخرى مستترة ، وهى : أنت. ومثل : تفضل ، أسافر ... أو : نشكر أو : تخرج ... وكثير غيرها مما يعد فى الواقع كلاما ، وإن كان ظاهره أنه مفرد.

الكلم هو : ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر ؛ سواء أكان لها معنى مفيد ، أم لم يكن لها معنى مفيد. فالكلم المفيد مثل : النيل ثروة مصر ، القطن محصول أساسى فى بلادنا. وغير المفيد مثل : إن تكثر الصناعات.

القول : هو كل لفظ نطق به الإنسان ؛ سواء أكان لفظا مفردا أم مركبا ، وسواء أكان تركيبه مفيدا أم غير مفيد. فهو ينطبق على : (الكلمة) كما ينطبق على : (الكلام) وعلى : (الكلم).

فكل نوع من هذه الثلاثة يدخل فى نطاق : (القول) ويصح أن يسمى : (قولا) على الصحيح ، وقد سبقت الأمثلة. كما ينطبق أيضا على كل تركيب آخر يشتمل على كلمتين لا تتم بهما الفائدة ؛ مثل : إن مصر ... أو : قد حضر ... أو : هل أنت. أو : كتاب علىّ ... فكل تركيب من هذه التراكيب لا يصح أن يسمى : (كلمة) ؛ لأنه ليس لفظا مفردا ، ولا يصح أن يسمى :

٢٦

(كلاما) ؛ لأنه ليس مفيدا. ولا : (كلما) ؛ لأنه ليس مؤلفا من ثلاث كلمات ؛ وإنما يسمى :(قولا).

ويقول أهل اللغة : إن (الكلمة) واحد : (الكلم). ولكنها قد تستعمل أحيانا بمعنى :(الكلام) ؛ فتقول : حضرت حفل تكريم الأوائل ؛ فسمعت (كلمة) رائعة لرئيس الحفل ، و (كلمة) أخرى لأحد الحاضرين ، و (كلمة) ثالثة من أحد الأوائل يشكر المحتفلين. ومثل :اسمع منى" كلمة" غالية ؛ وهى :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

فالمراد بالكلمة فى كل ما سبق هو : (الكلام) ، وهو استعمال فصيح ، يشيع على ألسنة الأدباء وغيرهم.

وللكلمة ثلاثة أقسام ، اسم. وفعل ، وحرف.

المبحث السابع : أقسام الكلمة (الاسم ـ الفعل ـ الحرف) :

الاسم : كلمة تدل بذاتها على شىء محسوس ، ـ مثل : نحاس ، بيت ، جمل ، نخلة ، عصفورة ، محمد ... ، أو شىء غير محسوس ، يعرف بالعقل ؛ مثل : شجاعة ، مروءة ، شرف ، نبل ، نبوغ ... وهو فى الحالتين لا يقترن بزمن.

علاماته : أهمها خمسة ، إذا وجدت واحدة منها كانت دليلا على أن الكلمة (اسم).

العلامة الأولى : الجر ؛ فإذا رأينا كلمة مجرورة لداع من الدواعى النحوية ، عرفنا أنها اسم ؛ مثل : كنت فى زيادة صديق كريم. فكلمة : (زيارة) اسم ؛ لأنها مجرورة بحر الجر (فى) ، وكلمة : (صديق) اسم ؛ لأنها مجرورة ؛ إذ هى (مضاف إليه) ، وكلمة : (كريم) اسم ؛ لأنها مجرورة بالتبعية لما قبلها ؛ فهى نعت لها.

العلامة الثانية : التنوين ؛ فمن الكلمات ما يقتضى أن يكون فى آخره ضمتان ، أو فتحتان ، أو كسرتان ؛ مثل : جاء حامد ، رأيت حامدا ، ذهبت إلى حامد ، طار عصفور جميل ، شاهدت عصفورا جميلا ، استمعت إلى عصفور جميل ... وهذه الكلمات لا تكون إلا أسماء.

٢٧

وكان الأصل أن تكتب هى وأشباهها كما يكتبها علماء العروض هكذا : حامدن ، حامدن ، حامدن. عصفورن جميلن ... عصفورن جميلن ... عصفورن جميلن ... أى : بزيادة نون ساكنة فى آخر الكلمة ؛ تحدث رنينا خاصّا ؛ وتنغيما عند النطق بها. ولهذا يسمونها : (والتنوين) أى :التصويت والترنيم ؛ لأنها سببه. ولكنهم عدلوا عن هذا الأصل ، ووضعوا مكان (النون) رمزا مختصرا يغنى عنها ، ويدل ـ عند النطق به ـ على ما كانت تدل عليه ؛ وهذا الرّمز هو : الضمة الثانية ، والفتحة الثانية ، والكسرة الثانية ... على حسب الجمل ... ويسمونه : (التنوين) ، كما كانوا يسمون النون السالفة ، واستغنوا بها الرمز المختصر عن (النون) ؛ فحذفوها فى الكتابة ، ولكنها لا تزال ملحوظة ينطق بها عند وصل بعض الكلام ببعض ، دون الوقف.

ومما تقدم نعلم : أن التنوين نون ساكنة ، زائدة. تلحق آخر الأسماء لفظا ، لا خطا ولا وقفا.

العلامة الثالثة : أن تكون الكلمة مناداة ، مثل : يا محمد ، ساعد الضعيف. يا فاطمة ، أكرمى أهلك. فنحن ننادى محمدا ، وفاطمة. وكل كلمة نناديها اسم ، ونداؤها علامة اسميتها.

العلامة الرابعة : أن تكون الكلمة مبدوءة ب (أل) مثل : العدل أساس الملك.

العلامة الخامسة : أن تكون الكلمة منسوبا إليها ـ أى : إلى مدلولها ـ حصول شىء ، أو عدم حصوله ، أو مطلوبا منها إحداثه ، مثل : علىّ سافر. محمود لم يسافر. سافر يا سعيد. فقد تحدثنا عن (علىّ) بشىء نسبناه إليه. هو : السفر ، وتحدثنا عن (محمود) بشىء نسبناه إليه ؛ هو عدم السفر ، وطلبنا من (سعيد) السفر. فالحكم بالسفر ، أو بعدمه ، أو بغيرهما ، من كل ما تتم به الفائدة الأساسية يسمى : إسنادا ، وكذلك الحكم بطلب شىء من إنسان أو غيره ...

فالإسناد هو : (إثبات شىء لشىء ، أو نفيه عنه ، أو طلبه منه).

هذا ، واللفظ الذى نسب إلى صاحبه فعل شىء أو عدمه أو طلب منه ذلك ، يسمى : (مسندا إليه) ، أى : منسوبا إليه الفعل ، أو الترك ، أو طلب منه الأداء. أما الشىء الذى حصل ووقع ، أو لم يحصل ولم يقع ، أو طلب حصوله ـ فيسمى : (مسندا) ، ولا يكون المسند إليه اسما.

والإسناد هو العلامة التى دلت على أن المسند إليه اسم.

٢٨

الفعل وأقسامه :

(أ) فهم الطالب. سافر الرحالة. رجع الغائب.

كل كلمة من الكلمات : (فهم ، سافر ، رجع) تدل بنفسها مباشرة من غير حاجة إلى كلمة أخرى على أمرين :

أولهما : معنى ندركه بالعقل ؛ وهو : الفهم ، أو : السفر ، أو الرجوع ، ويسمى : الحدث.

وثانيهما : زمن حصل فيه ذلك المعنى ، أى : ذلك الحدث. وانتهى قبل النطق بتلك الكلمة ؛ فهو زمن قد فات ، وانقضى قبل الكلام.

(ب) وإذا غيرنا صيغة تلك الكلمات فقلنا : (يفهم. يسافر. يرجع) دلت الكلمة فى صيغتها الجديدة على الأمرين أيضا ؛ المعنى الحدث والزمن. ولكن الزمن هنا لم يكن قد فات وانقضى ؛ وإنما هو زمن صالح للحال ، والاستقبال.

(ح) وإذا غيرنا الصيغة مرة أخرى فقلنا : (افهم ، سافر ، ارجع) دلت كل واحدة على الأمرين ؛ المعنى (الحدث) وهو : طلب الفهم ، أو : طلب السفر ، أو : طلب الرجوع. والزمن الذى يتحقق فيه الطلب. والزمن هنا مقصور على المستقبل وحده ؛ لأن الشىء الذى يطلبه إنسان من آخر لا يحصل ولا يقع إلا بعد الطلب وانتهاء الكلام ؛ أى : لا يقع إلا فى المستقبل ...

فكل واحدة من تلك الكلمات وأشباهها تسمى : فعلا.

فالفعل : كلمة تدل على أمرين معا ؛ هما : معنى ، أى : حدث ، وزمن يقترن به.

وأقسامه ثلاثة : ماض ، وهو : كلمة تدل على مجموع أمرين ؛ معنى ، وزمن فات قبل النطق بها. ومن أمثلته قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١].

ومضارع : وهو : كلمة تدل على أمرين معا : معنى ، وزمن صالح للحال والاستقبال.

كقوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) [البقرة : ٢٦٣] ، ولا بد أن يكون مبدوءا بالهمزة ، أو النون ، أو التاء ، أو الياء ... وتسمّى هذه الأحرف : (أحرف

٢٩

المضارعة). وفتحها واجب ، إلا فى المضارع الرباعىّ فتضمّ ، وكذا فى : المضارع المبنى للمجهول. أما المضارع : (إخال) فالأفصح كسر همزته لا فتحها.

وأمر ، وهو : كلمة تدل بنفسها على أمرين مجتمعين : معنى ، وهذا المعنى مطلوب تحقيقه فى زمن مستقبل كقوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، ولا بد فى فعل الأمر أن يدل بنفسه مباشرة على الطلب من غير زيادة على صيغته ؛ فمثل (لتخرج) ، ليس فعل أمر ؛ بل هو فعل مضارع ، مع أنه يدل على طلب شىء ليحصل فى المستقبل ؛ لأن الدلالة على الطلب جاءت من لام الأمر التى فى أوله ، لا من صيغة الفعل نفسها.

وقد اجتمعت الأفعال الثلاثة فى قوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [الأحزاب : ٤٨] ، وقول الشاعر :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمو

فطالما استعبد الإنسان إحسان

الحرف ، معناه :من ، فى ، على ، لم ، إن ، إنّ ، حتى.

لا تدل كلمة من الكلمات السابقة على معنى ، أىّ معنى ، ما دامت منفردة بنفسها. لكن إذا وضعت فى كلام ظهر لها معنى لم يكن من قبل ، مثال ذلك : (سافرت" من" القاهرة) ... فهذه جملة ؛ المراد منها : الإخبار بوقوع سفرى ، وأنه يبتدئ من القاهرة. فكأنى أقول : سافرت ، وكانت نقطة البدء فى السفر هى : (القاهرة) ، فكلمة : (من) أفادت الآن معنى جديدا ظهر على ما بعدها وهذا المعنى هو : الابتداء ، لم يفهم ولم يحدد إلا بوضعها فى جملة ؛ فلهذه الجملة الفضل فى إظهار معنى : (من).

ولو قلت : سافرت من القاهرة" إلى" العراق ـ لصار معنى هذه الجملة : الإخبار بسفرى الذى ابتداؤه

القاهرة ، ونهايته العراق. فكلمة : (إلى) أفادت معنى ظهر هنا على ما بعدها ؛ وهذا المعنى هو الانتهاء. ولم يظهر وهى منفردة ، وإنما ظهر بعد وضعها فى جملة ؛ كانت السبب فى إظهاره.

٣٠

وكذلك : حضرت من البيت إلى النهر ؛ فقد أفادت الجملة كلها الإخبار بحضورى ، وأن أول هذا الحضور وابتداءه : (البيت) ، وأن نهايته وآخره : (النهر). فأفادت : (إلى) الانتهاء ، وصبّته على ما بعدها. وهذا الانتهاء لم يفهم منها إلا بسبب التركيب الذى وضعت فيه.

٣١

ترجمة المصنف

اسمه وشهرته وموطنه : (٠٠٠ ـ ٣١٦ ه‍) (٠٠٠ ـ ٩٢٩ م)

هو : محمد بن السري بن سهل البغدادي ، أبو بكر : المشهور ب (ابن السراج). أديب نحوي لغوي ، من أهل بغداد.

شيوخه وتلاميذه :

أخذ عن المبرد وهو من أكابر أصحابه ، وقرأ عليه كتاب سيبويه في النحو.

وأخذ عنه العلم :

١ ـ عبد الرحمن الزجاجي.

٢ ـ وأبو سعيد السيرافي.

٣ ـ وأبو علي الفارسي.

٤ ـ وعلي بن عيسى الرمان.

أقوال أهل العلم فيه :

ـ قال الذهبي : إمام النحو ، وقال : له شعر رائق ، وكان مكبا على الغناء ، واللذة ، هوي ابن يانس المطرب ، وله أخبار سامحه الله.

ـ قال الفيروزآبادي : أحد العلماء المشهورين باللغة والنحو والأدب.

ـ وقال الزركلي : أحد أئمة الأدب والعربية. وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا. ويقال : ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. وكان عارفا بالموسيقى.

ـ عول على مسائل الأخفش والكوفيين ، وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة.

ومن أشعاره الرائقة :

منه ما قاله في أم ولده وكان يحبها ، وأنفق عليها ماله وجفته :

قايست بين جمالها وفعالها

فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي

حلفت لنا ألا تخون عهودنا

فكأنما حلفت لنا ألا تفي

٣٢

والله لا كلمتها ولو أنها

كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي

وفاته :

مات شابا في ذي الحجة ، سنة ٣١٦ ه‍.

مصنفاته :

١ ـ الأصول في النحو (كتابنا هذا).

٢ ـ و (شرح كتاب سيبويه في النحو).

٣ ـ و (الشعر والشعراء).

٤ ـ و (الخط والهجاء).

٥ ـ و (المواصلات والمذكرات). في الأخبار.

٦ ـ و (الموجز في النحو ـ ط).

٧ ـ و (العروض ـ خ).

٨ ـ و (احتجاج القراء في القراءة).

٩ ـ و (جمل الأصول).

١٠ ـ و (الاشتقاق).

١١ ـ وكتاب (الرياح والهواء).

مصادر ترجمته :

١ ـ طبقات النحويين واللغويين : ١١٢ ـ ١١٤.

٢ ـ فهرست ابن النديم : ٩٣.

٣ ـ تاريخ بغداد : ٥ ـ ٣٢٠.

٤ ـ الأنساب : ٢٩٥ / أ.

٥ ـ نزهة الألباء : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٦ ـ المنتظم : ٦.

٣٣

٧ ـ معجم الأدباء : ١٨ ـ ٢٠١.

٨ ـ الكامل في التاريخ : ٨ ، ١٩٩ ٣١٥ ـ ٣١٦.

٩ ـ إنباه الرواة : ٣ ١٤٥.

١٠ ـ سير أعلام النبلاء ١٤.

١١ ـ وفيات الأعيان : ٤ ـ ٣٤٠.

١٢ ـ العبر ٢.

١٣ ـ الوافي بالوفيات : ٣.

١٤ ـ مرآة الجنان : ٢.

٣٤

عملنا في الكتاب

قمنا بالاستعانة بالله سبحانه وتعالى بالقيام بالتالي في تحقيقنا للكتاب :

١ ـ الرجوع إلى نسخة خطية للكتاب وهي من الخزانة العامة بالرباط وتقع في ٣٦٢ ورقة ، ومتوسط عدد الأسطر في كل ورقة (١٣) سطرا ، وهي نسخة جيدة ، كتبت بقلم نسخي نفيس ، قد تعود إلى القرن السابع ، وعلى حواشيها بعض التصحيحات والتعليقات التي أفادتنا كثيرا في تحقيقنا لهذا الكتاب.

٢ ـ مطابقة نص الكتاب مرتين مطابقة دقيقة.

٣ ـ الاهتمام بضبط النص وتقويمه ، ووضع علامات الترقيم المناسبة.

٤ ـ تخريج الآيات القرآنية والدلالة على مواضعها من المصحف الشريف.

٥ ـ ضبط الشعر ضبطا كاملا.

٦ ـ التعليق على ما يشكل أو يلبس فهمه.

٧ ـ التعليق على بعض المواضع التي تحتاج إلى شرح أو إيضاح أو بسط.

٨ ـ التعليق على بعض أبيات الشواهد وشرحها ، وبيان موضع الشاهد منها ونظرائها.

٩ ـ صنع فهارس بأبواب الكتاب.

هذا هو جهد المقل ، وإني أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في إخراج هذا الكتاب ، ونسأل الله تعالى النفع به ، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم تسليما كثيرا.

٣٥

٣٦

٣٧

٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[مقدمة مؤلف]

قال أبو بكر محمد بن السري النحوي :

النحو (١) إنما أريد به أن ينحو المتكلم إذا تعلمه كلام العرب ، وهو علم استخرجه المتقدمون فيه من استقراء كلام العرب حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة ، فباستقراء [كلامهم ما علم](٢) أن الفاعل رفع ، والمفعول به نصب ، وأنّ فعل مما عينه ياء أو واو تقلب عينه من قولهم : [قام وباع](٣).

واعتلالات النحويين على ضربين :

١ ـ ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب [كقولنا : كل فاعل مرفوع](٤).

__________________

(١) النحو في الاصطلاح هو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها. قاله صاحب المقرب ، فعلم أن المراد هنا بالنحو ما يرادف قولنا : علم العربية لا قسيم الصرف ، وهو مصدر أريد به اسم المفعول ، أي : المنحو كالخلق بمعنى المخلوق ، وخصته غلبة الاستعمال بهذا العلم ، وإن كان كل علم منحوا ، أي : مقصودا ، كما خصت الفقه بعلم الأحكام الشرعية الفرعية ، وإن كان كل علم فقها ، أي : مفقوها ، أي : مفهوما.

وجاء في اللغة لمعان خمسة :

القصد يقال : نحوت نحوك ، أي : قصدت قصدك. والمثل نحو : مررت برجل نحوك ، أي مثلك. والجهة نحو : توجهت نحو البيت ، أي : جهة البيت ، والمقدار نحو : له عندي نحو ألف ، أي : مقدار ألف ، والقسم نحو : هذا على أربعة أنحاء ، أي أقسام. شرح الأشموني على ألفية ابن مالك ١ / ٤.

(٢) هكذا بالأصل ، وفي (ط) : كلام العرب فاعلم.

(٣) في الأصل : قومه وبيعه.

(٤) في الأصل : كما مثلنا.

٣٩

٢ ـ وضرب آخر يسمى : علّة العلة ، مثل أن يقولوا : لم صار الفاعل مرفوعا والمفعول به منصوبا [والمضاف إليه مجرورا](١) ، ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحا قلبتا ألفا ، وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب ، وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها ، ويبيّن بها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات ، وقد وفّر الله تعالى من الحكمة [بحفظها](٢) ، وجعل فضلها غير مدفوع.

وغرضي في هذا الكتاب [ذكر](٣) العلة التي إذا طردت (٤) وصل بها إلى كلامهم فقط ، وذكر الأصول والشائع لأنه كتاب إيجاز.

__________________

(١) ما بين المعكوفتين ساقط في (ط).

(٢) في الأصل : حظها

(٣) ما بين المعكوفتين ساقط من الأصل.

(٤) أي تكررت وكثر دورانها في كلام العرب.

٤٠