الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

لأنه قال : ولا شيء لهذا ورفع على الموضع.

وإن شئت نصبت على التفسير كأنه قال : لا أحد كزيد رجلا.

قال سيبويه : ونظير : لا كزيد في حذفهم الاسم قولهم : لا عليك وإنما يريدون : لا بأس عليك ولا شيء عليك ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.

ومن قال : لا غلام ولا جارية قال : أغلام وألا جارية إنما دخلت في النفي لا في المعطوف عليه.

ألا تراك تقول في النداء : يا بؤس للحرب ولا تقول : يا بؤس زيد وبؤس الحرب فالنفي كالنداء وكذلك إذا قلت : لا غلامي لك ولا مسلمي لك إن كانت لا الثانية نافية غير عاطفة جاز إسقاط النون ، وإن كانت عاطفة لم يجز إلا إثبات النون فتقول : لا غلامين لك ولا مسلمين لك.

وناس يجيزون أن تقول : لا رجل ولا امرأة وهو عندي جائز على قبح لأنك إذا رفعت فحقه التكرير وتقول : لا رجل كان قائما ولا رجل ظننته قائما إن جعلت كان وظننت : صلة لرجل أضمرت الخبر ، وإن جعلتهما خبرين لم تحتج إلى مضمر.

وقوم يجيزون : لا زيد لك ولا يجيزون لا غلام الرجل لك إلا بالرفع ويجيزون : لا أبا محمد لك ولا أبا زيد لك.

يجعلونه بمنزلة اسم واحد ولا يجيزون : لا صاحب درهم لك ؛ لأن الكنية بمزلة الاسم.

ويقولون : عبد الله يجري مجرى النكرة إذ كانت الألف واللام لا يسقطان منه.

وقال الفراء : جعل الكسائي : عبد العزيز وعبد الرحمن بمنزلة عبد الله وإسقاط الألف واللام يجوز نحو قولك : عبد العزيز لك.

وقالوا : الغائب من المكنى يكون مذهب نكرة نحو قولك : لا هو ولا هي ؛ لأنه يوهمك عددا ، وإن شئت قضيت عليه بالرفع والنصب ، فإن جعلته معرفة جئت معه بما يرفعه وحكوا :

٣٦١

إن كان أحد في هذا الفخ ولا هو يا هذا وكذلك : هذا وهذان عندهم ويقولون : لا هذين لك ولا هاتين لك وكذلك ذاك ؛ لأنه غائب.

وجميع هذه الأشياء التي تخالف الأصول التي قدمتها لك لا تجوز في القياس ولا هي مسموعة من الفصحاء.

وتقول : لا رجل أخوك ولا رجل عمك لا يجوز في أخيك وعمك إلا الرفع.

وقد حكي : أنّ كلام العرب أن يدخلوا : هو مع المفرد فيقولون : لا رجل هو أخوك ولا رجل هو عمرو ويقولون : لا بنات لك كما تقول : لا مسلمي لك.

وتقول : ألا رجلا زيدا أو عمرا تريد : ألا أحد رجلا يكون زيدا أو عمرا ويجوز أن يكون بدلا من رجل فإذا جاءت أو مع (ألا) فهو طلب.

وتقول : لا رجل في الدار لا زيد ويدخل عليها ألف الاستفهام فتقول : ألا رجل في الدار ألا زيد.

وتقول : ألا رجل ألا امرأة يا هذا.

وتقول : ألا ماء ولو باردا وهو عند سيبويه : قبيح لأنه وضع النعت موضع المنعوت فلو قلت : ألا ماء ولو باردا لكان جيدا.

وذلك يجوز إلا أنك تضمر بعد (لو) فعلا ينصب ماء.

وكأنك قلت : ولو كان ماء باردا.

فإذا جئت ب (لو) كان ما بعدها أحسن ، قال أحمد بن يحيى ثعلب : كان يقال : متى كان ما بعد (لو) نعتا للأول نصب ورفع ومتى كان غير نعت رفع هذا قول المشايخ.

وقال الفراء : سمعت في غير النعت الرفع والنصب.

وإذا قال : ألا مستعدي الخليفة أو غيره وألا معدي الخليفة أو غيره فالرفع كأنك بينت فقلت : ذاك الخليفة أو غيره أو هو الخليفة أو الخليفة هو أو غيره.

٣٦٢

والنصب على إضمار (يكون) كأنك قلت : يكون الخليفة. أي : يكون المعدي الخليفة أو غيره.

وقوم يجيزون : ألا قائل قولا ألا ضارب ضربا وهذا عندي لا يجوز إلا بتنوين ؛ لأنه قد أعمل في المصدر فطال وقد مضى تفسير هذا.

ويجوز أن تقول : لا قائل قول ولا ضارب ضرب فتضيف إلى المصدر.

وتقول : لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة ، لأنك قلت : لا خير في خير بعده النار ولا شر في شرّ بعده الجنة ويجوز أن تكون هذه الباء دخلت لتأكيد النفي كما تدخل في خبر (ما) وليس فتكون زائدة كأنك قلت : لا خير خير بعده النار ولا شر شرّ بعده الجنة ، فإن جعلت الهاء راجعة إلى خبر الأول الذي مع (لا) قلت : لا خير بعده النار خير.

فصار قولك : بعد النار جملة نعت بها : لا خير والنار مبتدأ وبعده : خبره والجملة صفة لخير كما تقول : لا رجل أبوه منطلق في الدار فرجل : منفي وأبوه : منطلق مبتدأ وخبر.

والجملة بأسرها صفة لرجل ، قال أبو بكر : وقد ذكرنا الأسماء المرفوعات والمنصوبات وما ضارعها بجميع أقسامها وبقيّ الأسماء المجرورة ونحن نذكرها إن شاء الله.

٣٦٣

ذكر الجر والأسماء المجرورة

الأسماء المجرورة تنقسم قسمين : اسم مجرور بحرف جر أو مجرور بإضافة اسم مثله إليه وقولي : جر وخفض بمعنى واحد.

ذكر حروف الجر

حروف الجر تصل ما قبلها بما بعدها فتوصل الاسم بالاسم والفعل بالاسم ولا يدخل حرف الجر إلا على الأسماء كما بينا فيما تقدم فأما إيصالها الاسم بالاسم فقولك : الدار لعمرو ، وأما وصلها الفعل بالاسم فقولك : مررت بزيد فالباء هي التي أوصلت المرور بزيد.

وحروف الجر تنقسم قسمين : فأحد القسمين : ما استعملته العرب حرفا فقط ولم يشترك في لفظه الاسم ولا الفعل مع الحرف ولم تجره في موضع من المواضع مجرى الأسماء ولا الأفعال.

والقسم الآخر : ما استعملته العرب حرفا وغير حرف.

فالقسم الأول : وهو الحرف التي استعملته حرفا فقط على ضربين : فالضرب الأول منها :ألزم عمل الجر ، والضرب الثاني : غير ملازم لعمل الجر.

فأما الحروف الملازمة لعمل الجرّ : فمن وإلى وفي والباء واللام.

ولربّ : باب يفرد به لخروجها عن منهاج أخواتها وأنا مبيّن معنى حرف حرف منها.

أما (من) : فمعناها : ابتداء الغاية.

تقول : سرت من موضع كذا إلى موضع كذا.

وفي الكتاب : من فلان إلى فلان : إنما يريد : إبتداؤه فلان.

وسيبويه يذهب إلى أنها تكون لابتداء الغاية في الأماكن وتكون للتبعيض نحو قولك : هذا من الثوب.

وهذا منهم تقول : أخذت ماله ثم تقول : أخذت من ماله فقد دلت على البعض.

٣٦٤

قال أبو العباس : وليس هو كما قال عندي ؛ لأن قوله : أخذت من ماله إنما ابتداء غاية ما أخذ فدل على التبعيض من حيث صار ما بقي إنتهاء له والأصل واحد.

وكذلك : أخذت منه درهما وسمعت منه حديثا أي : أول الحديث وأول مخرج هذه الدراهم وقولك : زيد أفضل من عمرو وإنما ابتدأت في إعطائه الفضل من حيث عرفت فضل عمرو فابتداء تقديمه هذا الموضع فلم يحرج من ابتداء الغاية.

وقال في وقت آخر : من تكون على ثلاثة أضرب لابتداء الغاية كقولك : خرجت من الكوفة إلى البصرة وللتبعيض كقولك : أخذت من ماله.

والأصل يرجع إلى ابتداء الغاية لإنك إذا قلت : أخذت من المال فأخذك إنما وقع ابتداؤه من المال.

ويكون لإضافة الأنواع إلى الأسماء كقول الله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠].

وكقول الله عز وجل : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح : ٢٩]. أي : من هؤلاء الذين آمنوا واجتنبوا الرجس من الأوثان.

فقولك : رجس جامع للأوثان وغيرها.

فإذا قلت : من الأوثان فإنما معناه الذي ابتداؤه من هذا الصنف قال : وكذلك قول سيبويه : هذا باب علم ما الكلم من العربية ؛ لأن الكلم يكون عربيا وعجميا فأضاف النوع وهو الكلم إلى اسمه الذي يبين به ما هو وهو العربية وتكون زائدة قد دخلت على ما هو مستغن من الكلام إلا أنها تجر لأنها حرف إضافة نحو قولهم : ما جاءني من أحد وما كلمت من أحد وكقوله عز وجل : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥] إنما هو : خير ولكنها توكيد وكذلك : ما ضربت من رجل إنما هو : ما ضربت رجلا فهذا موضع زيادتها إلا أنه موضع دلت فيه على أنه للنكرات دون المعارف ألا ترى أنك تقول : ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل ولا تقول : ما جاءني من عبد الله.

٣٦٥

لأن رجلا في موضع الجمع ولا يقع المعروف هذا الموضع ؛ لأنه شيء قد عرف بعينه ألا ترى أنك تقول : عشرون درهما ولا تقول : عشرون الدرهم.

وقال سيبويه : إذا قلت : ما أتاني من رجل أكدت بمن ؛ لأنه موضع تبعيض فأراد أنه لم يأته بعض الرجال والناس وكذلك : ويحه من رجل إنما أراد أن يجعل التعجب من بعض الرجال وكذلك : لي ملؤه من عسل وقال كذلك : أفضل من زيد.

إنما أراد أن يفضله على بعض ولا يعم وجعل زيدا الموضع الذي ارتفع منه أو سفل منه في قولك : شر من زيد وكذلك إذا قال : أخزى الله الكاذبين مني ومنك إلا أن هذا وأفضل لا يستغني عن (من) فيهما لأنها توصل الأمر إلى ما بعدها وقال : وتقول : رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الابتداء

وأما (إلى) فهي للمنتهى تقول : سرت إلى موضع كذا فهي منتهى سيرك ، وإذا كتبت من فلان إلى فلان فهو النهاية فمن الابتداء وإلى الإنتهاء وجائز أن تقول : سرت إلى الكوفة وقد دخلت الكوفة وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها ؛ لأن (إلى) نهاية فهي تقع على أول الحد وجائز أن تتوغل في المكان ولكن تمتنع من مجاوزته ؛ لأن النهاية غاية.

قال أبو بكر : وهذا كلام يخلط معنى (من) بمعنى (إلى) فإنما (إلى) للغاية و (من) لابتداء الغاية وحقيقة هذه المسألة : أنك إذا قلت : رأيت الهلال من موضعي (فمن) لك ، وإذا قلت : رأيت الهلال من خلال السحاب (فمن) للهلال والهلال غاية لرؤيتك فكذلك جعل سيبويه (من) غاية في قولك : رأيته من ذلك الموضع وهي عنده ابتداء غاية إذا كانت (إلى) معها مذكورة أو منوية فإذا استغنى الكلام عن (إلى) ولم يكن يقتضيها جعلها غاية ويدل على ذلك قوله : ما رأيته مذ يومين فجعلتها غاية كما قلت : أخذته من ذلك المكان فجعلته غاية ولم ترد منتهى أي : لم ترد ابتداء له منتهى.

أي : استغنى الكلام دون ذكر المنتهى وهذا المعنى أراد والله أعلم وهذه المسألة ونحوها إنما تكون في الأفعال المتعدية نحو : رأيت وسمعت وشممت وأخذت.

٣٦٦

تقول : سمعت من بلادي الرعد من السماء ، ورأيت من موضعي البرق من السحاب ، وشممت من داري الريحان من الطريق.

(فمن) الأولى للفاعل و (من) الثانية للمفعول وعلى هذا جميع هذا الباب لا يجوز عندي غيره إنما جاز هذا ؛ لأن للمفعول حصة من الفعل كما للفاعل.

وبعض العرب يحذف الأسماء مع (من) وقد ذكرنا بعض ذلك فيما قد مضى قال الله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] والتأويل عند أصحابنا : وما منا أحد إلا له.

والكوفيون يقولون إن (من) تضمر مع (من) وفي التأويل عندهم : إلا من له مقام وما كان بعده شيء لم يسم غاية ، قال سيبويه : (إلى) منتهى لابتداء الغاية يقول : من كذا إلى كذا.

ويقول : الرجل : إنما أنا إليك ، أي : أنت غايتي ، وتقول : قمت إليه فتجعله منتهاك من مكانك.

(في) : وفي معناها الوعاء.

فإذا قلت : فلان في البيت فإنما تريد : أن البيت قد حواه وكذلك : المال في الكيس ، فإن قلت : في فلان عيب فمجاز واتساع لأنك جعلت الرجل مكانا للعيب يحتويه وإنما هذا تمثيل بذاك وكذلك تقول : أتيت فلانا وهو في عنفوان شبابه أي : وهو في أمره ونهيه فهذا تشبيه وتمثيل أي : أحاطت به هذه الأمور قال : وإن اتسعت في الكلام فإنما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشيء وليس مثله.

(الباء) : معناه الإلصاق فجائز أن يكون معه استعانة وجائز لا يكون فأما الذي معه استعانة فقولك : كتبت بالقلم وعمل الصانع بالقيدوم.

والذي لا استعانة معه فقولك : مررت بزيد ونزلت بعبد الله.

وتزاد في خبر المنفي توكيدا نحو قولك : ليس زيد بقائم وجاءت زائدة في قولك : حسبك بزيد وكفى بالله شهيدا وإنما هو كفى الله.

٣٦٧

قال سيبويه : باء الجر إنما هي للإلزاق والإختلاط ، وذلك قولك : خرجت بزيد ودخلت به وضربته بالسوط ألزقت ضربك إياه بالسوط فما اتسع من هذا الكلام فهذا أصله.

(اللام) : اللام : لام الإضافة ، قال سيبويه : معناها الملك والإستحقاق ألا ترى أنك تقول : الغلام لك والعبد لك فيكون في معنى : هو عبد لك وهو أخ لك فيصير نحو : هو أخوك فيكون هو مستحقا لهذا كما يكون مستحقا لما يملك فمعنى هذا اللام معنى إضافة الاسم.

وقال أبو العباس : لام الإضافة تجعل الأول لاصقا بالثاني ويكون المعنى : ما يوجد في الأول تقول : هذا غلام لزيد وهذه دار لعبد الله.

فأما تسميتهم إياها لام الملك فليس بشيء إذا قلت : هذا غلام لعبد الله فإنما دللت على الملك من الثاني للأول فإذا قلت : هذا سيد لعبد الله دللت بقولك على أن الثاني للأول.

وإذا قلت : هذا أخ لعبد الله فإنما هي مقاربة وليس أحدهما في ملك الآخر.

ولام الاستغاثة : هي هذه اللام إلا أن هذه تكسر مع الاسم الظاهر وتلك تفتح وقد مضى ذكر ذلك في حد النداء.

فلام الإضافة حقها الكسر إلا أن تدخلها على مكنى نحو قولك : له مال ولك ولهم ولها فهي في جميع ذلك مفتوحة وهي في الاستغاثة كما عرفتك مفتوحة.

قال سيبويه : إنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى مضافا إلى بكر باللام يعني بذلك الفعل المضمر الذي أغنت عن إظهاره (يا) وقد مضى تفسير هذا.

فهذه الحروف التي للجر كلها تضيف ما قبلها إلى ما بعدها.

فإذا قلت : سرت من موضع كذا فقد أضفت السبير إلى ما بعدها فإذا قلت : مررت بزيد فقد أضفت المرور إلى زيد بالباء.

٣٦٨

وكذلك إذا قلت : هذا لعبد الله فإذا قلت : أنت في الدار فقد أضفت كينونتك في الدار إلى الدار (بفي) فإذا قلت : فيك خصلة سوء فقد أضفت إليه الرداءة (بفي) فهذه الحروف التي ذكرت لك تدخل على المعرفة والنكرة والظاهر والمضمر فلا تجاوز الجرّ.

واعلم أن العرب تتسع فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني فمن ذلك : الباء تقول : فلان بمكة وفي مكة وإنما جازا معا لأنك إذا قلت : فلان بموضع كذا وكذا.

فقد خبرت عن اتصاله والتصاقه بذلك الموضع ، وإذا قلت : في موضع كذا فقد خبرت (بفي) عن احتوائه إياه وإحاطته به فإذا تقارب الحرفان ، فإن هذا التقارب يصلح لمعاقبة ، وإذا تباين معناهما لم يجز ألا ترى أن رجلا لو قال : مررت في زيد أو : كتبت إلى القلم لم يكن هذا يلتبس به فهذا حقيقة تعاقب حروف الخفض فمتى لم يتقارب المعنى لم يجز وقد حكي : كنت بالمال حربا وفي المال حربا وهو يستعلي الناس بكفه وفي كفه.

وقال في قول طرفة :

وإن يلتق الحيّ الجميع تلاقني

إلى ذروة البيت الكريم المصمد

إنّ (إلى) بمعنى (في) ولا يجوز أن يدخل حرف من هذه التي ذكرت على حرف منها فلا يجوز أن تدخل الباء على (إلى) ولا اللام على (من) ولا (في) على (إلى) ولا شيئا منها على آخر.

٣٦٩

باب (ربّ)

(ربّ) : حرف جر وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصلا له إلى المجرور كأخواته إذا قلت : مررت برجل وذهبت إلى غلام لك ولكنه لما كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة فصار مقابلا (لكم) إذا كانت خبرا فجعل له صدر الكلام كما جعل (لكم) وآخر الفعل والفاعل فموضع ربّ وما عملت فيه نصب كما أن موضع الباء ومن وما عملنا فيه نصب إذا قلت : مررت بزيد وأخذت من ماله.

ويدل على ذلك أن (كم) يبنى عليها وربّ : لا يجوز ذلك فيها ، وذلك قولهم : كم رجل أفضل منك فجعلوه خبرا (لكم) كذلك رواه سيبويه عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء : أن العرب تقوله ولا يجوز أن تقول : ربّ رجل أفضل منك ولا يجوز أن تجعله خبرا لرب كما جعلته خبرا (لكم) ومما يتبين أن ربّ حرف وليست باسم (ككم).

أن (كم) يدخل عليها حرف الجر ولا يدخل على ربّ تقول : بكم رحل مررت وإنك تولي (كم) الأفعال ولا توليها ربّ.

قال أبو العباس : ربّ تنبىء عما وقعت عليه أنه قد كان وليس بكثير.

فلذلك لا تقع إلا على نكرة ولأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز تقول : رب رجل قد جاءني فأكرمته ورب دار قد أبتنيتها وأنفقت عليها وقال في موضع آخر : رب معناها الشيء يقع قليلا ولا يكون ذلك الشيء إلا منكورا ؛ لأنه واحد يدل على أكثر منه ولا تكون رب إلا في أول الكلام لدخول هذا المعنى فيها.

وقال أبو بكر : والنحويون كالمجتمعين على أن ربّ جواب إنما تقول : ربّ رجل عالم لمن قال : رأيت رجلا عالما أو قدرت ذلك فيه فتقول : ربّ رجل عالم تريد : ربّ رجل عالم قد رأيت فضارعت أيضا حرف النفي إذا كان حرف النفي يليه الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة.

فهذا أيضا مما جعلت له صدرا.

٣٧٠

واعلم أن الفعل العامل فيها أكثر ما يستعمله العرب محذوفا ؛ لأنه جواب وقد علم فحذف وربما جيء به توكيدا وزيادة في البيان فتقول : ربّ رجل عالم قد أتيت فتجعل هذا هو الفعل الذي تعلقت به (ربّ) حتى يكون في تقديره : برجل عالم مررت وكذلك إذا قال : ربّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته فها هنا فعل أيضا محذوف فكأنه قال له قائل : ما جاءك رجل فأكرمته وأكرمته فقلت : ربّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته أي : قد كنت فعلت ذاك فيكون جاءني وما بعده صفة رجل والصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد والكلام بعد ما تم ، فإن لم تضمر : قد فعلت وما أشبه ذلك وإلا لم يجز فإذا قال : ما أحسنت إليّ.

قلت : ربّ إحسان قد تقدم إليك مني فكأنك قلت : قد فعلت من إحسان إليك قد تقدم.

فإن قال قائل : لم لزم الصفة قيل : لأنه أبلغ في باب التقليل ؛ لأن رجلا قائما أقل من رجل وحده فخصت بذلك والله أعلم.

وكذلك لو قلت : رب رجل جاهل ضربت إن جعلت : ضربت هو العامل في رب ؛ ، فإن جعلته صفة أضمرت فعلا نحو ما ذكرنا ، فصار معنى الكلام : ربّ رجل جاهل ضربت قد فعلت ذاك.

واعلم أنّه لا بد للنكرة التي تعمل فيها (ربّ) من صفة إما اسم وإما فعل لا يجوز أن تقول : ربّ رجل وتسكت حتى تقول : ربّ رجل صالح أو تقول : رجل يفهم ذاك ورب حرف قد خولف به أخواته واضطرب النحويون في الكلام فيه.

وهذا الذي خبرتك به ما خلص لي بعد مباحثة أبي العباس رحمه الله وأصحابنا المنقبين الفهماء ، وسأخبرك ما قال سيبويه والكوفيون فيه قال سيبويه : إذا قلت : رب رجل يقول ذاك فقد أضفت القول إلى الرجل برب وكذلك يقول من تابعه على هذا القول إذا قال : رب رجل ظريف قد أضافت رب الظريف إلى رجل وهذا لا معنى له ؛ لأن إتصال الصفة بالموصوف يغني عن الإضافة.

وأما الكوفيون ومن ذهب مذهبهم فيقولون : رب وضعت على التقليل نحو : ما أقل من يقول ذاك وكم وضعت على التكثير نحو قولك : ما أكثر من يقول ذاك وإنما خفضوا (لكم) ؛

٣٧١

لأن من تصحبها تقول : كم من رجل ثم تسقط من وتعمل فكذلك : ربّ ، وإن لم تر (من) معها كما قال : ألا رجل ومن رجل وهم يريدون : أمّا من رجل وحكي عن الكسائي أو غيره من القدماء : أن بعض العرب يقول : ربّ رجل ظريف فترفع ظريفا تجعله خبرا (لرب) ومن فعل هذا فقد جعلها اسما وهذا إنما يجيء على الغلط والتشبيه وفي رب لغات : ربّ وربّ يا هذا ومن النحويين من يقول : لو سكنت جاز : وربت.

واعلم أن (ربّ) تستعمل على ثلاثة وجوه :

فالوجه الأول : هو الذي قد ذكرت من دخولها على الاسم الظاهر النكرة وعملها فيه وفي صفته الجر.

والوجه الثاني : دخلوها على المضمر على شريطة التفسير فإذا أدخلوها على المضمر نصبوا الاسم الذي يذكرونه للتفسير بعد المضمر فيقولون : ربّه رجلا والمضمر هاهنا كالمضمر في (نعم) إذا قلت : نعم رجلا زيد إلا أن المضمر في (نعم) مرفوع ؛ لأنه ضمير الفاعل وهو مع ربّ مجرور وإنما جاز في ربّ وهي لا تدخل إلا على نكرة من أجل أن المعنى تؤول إلى نكرة وليس هو ضمير مذكور وحق الإضمار أن يكون بعد مذكور ولكنهم ربما خصوا أشياء بأن يضمروا فيهاه على شريطة التفسير وليس ذلك بمطرد في كل الكلام وإنما يخصون به بعضه فإذا فعلت ذلك نصبت ما بعد الهاء على التفسير فقلت : ربه رجلا وهذه الهاء على لفظ واحد ، وإن وليها المذكر أن المؤنث أو الاثنان أو الجماعة موحدة على كل حال.

الوجه الثالث : أن تصلها فتستأنف ما بعدها وتكفها عن العمل فتقول : ربما قام زيد وربما قعد وربما زيد قام وربما فعلت كذا ولما كانت رب إنما تأتي لما مضى فكذلك ربما لما وقع بعدها الفعل كان حقه أن يكون ماضيا فإذا رأيت الفعل المضارع بعدها فثم إضمار كان قالوا : في قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] أنه لصدق الوعد كأنه قد كان كما قال : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) [سبأ : ٥١]. ولم يكن فكأنه قد كان لصدق الوعد.

٣٧٢

ولا يجوز : ربّ رجل سيقوم وليقومن غدا إلا أن تريد : ربّ رجل يوصف بهذا تقول : رب رجل مسيء اليوم ومحسن غدا أي : يوصف بهذا ويجوز : ربما رجل عندك فتجعل : (ما) صلة ملغاة.

واعلم أنّ العرب تستعمل الواو مبتدأة بمعنى : (ربّ) فيقولون : وبلد قطعت يريدون وربّ بلد وهذا كثير.

وقال بعض النحويين : أن الواو التي تكون مع المنكرات ليست بخلف من (ربّ) ولا كم وإنما تكون مع حروف الاستفهام فتقول : وكم قد رأيت (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : ١٠١] يدل على التعجب ثم تسقط كم وتترك الواو ولا تدخل مع ربّ ولو كانت خلفا من (كم) لجاز أن يدخل عليها النسق كما فعل بواو اليمين وهي عندي : واو العطف وهذا أيضا مما يدل على أن رب جواب وعطف على كلام.

٣٧٣

مسائل من هذا الباب

تقول : ربّ رجل قائم وضارب وربّ رجل يقوم ويضرب.

وتقول : رب رجل قائم نفسه وعمرو ورب رجل قائم ظريفا فتنصب على الحال من (قائم) وتقول : رب رجل ضربته وزيدا ورب رجل مررت به فتعيد الباء ؛ لأن المضمر المجرور لا ينسق عليه بالاسم الظاهر وتقول : رب رجل قائم هو وزيد فتؤكد ما في (قائم) إذا عطفت عليه ويجوز أن تقول : رب رجل قام وزيد فتعطف على المضمر من غير تأكيد وتقول : رب رجل كان قائما وظننته قائما ففي (كان) ضمير رجل وهو اسمها وقائما خبرها.

وكذلك : الهاء في (ظننته) ضمير رجل وهو مفعولها الأول. وقائما مفعولها الثاني ، وإذا قلت : رب رجل قد رأيت ورب امرأة فالإختيار أن تعيد الصفة فتقول : ورب امرأة قد رأيت لأنك قد أعدت رب وقد جاء عن العرب إدخال (ربّ) على (من) إذا كانت نكرة غير موصولة إلا أنها إذا لم توصل لم يكن بد من أن توصف لأنها مبهمة حكي عنهم : مررت بمن صالح ورب من يقوم ظريف وقال الشعر :

يا ربّ من تغتشّه لك ناصح

ومؤتمن بالغيب غير أمين

وتدخل رب على مثلك وشبهك إذ كانتا لم تتصرفا بالإضافة وهما نكرتان في المعنى.

وتقول : رب رجل تختصم وامرأة وزيد ولا يجوز الخفض ؛ لأنه لا يتم إلا بإثنين ، فإن قلت : رب رجلين مختصين وامرأتين جاز لك الخفض والرفع فتقول : وامرأتان وامرأتين أما الخفض : فبالعطف على (رجلين) والرفع : بالعطف على ما في مختصمين ولو قلت : ربّ رجلين مختصمين هما وامرأتان فأكدت ثم عطفت لكان أجود حكي عن بعضهم : أنه يقول : إذا جاء فعل يعني بالفعل اسم الفاعل بعد النعت رفع نحو قولك : رب رجل ظريف قائم والكلام الخفض وزعم الفراء : أنهم توهموا (كم) إذ كانوا يقولون : كم رجلا قائم.

وتقول : رب ضاربك قد رأيت ورب شاتمك لقد لقيت ؛ لأن التنوين في تينك يريد ضارب لك ، وإن قلت : ضاربك أمس لم يجز ؛ لأنه معرفة.

٣٧٤

والأخفش يعترض بالأيمان فيقول : ربّ والله رجل قد رأيت وربّ رجل قد رأيت وهذا لا يجوز عندنا ؛ لأن حروف الجر لا يفصل بينها وبين ما عملت فيه وسائر النحويين يخالفونه.

وحكى الكوفيون : ربه رجلا قد رأيت وربهما رجلين وربهم رجالا وربهن رجالا وبهن نساء وربه نساء من وحد.

فلأنه رد كناية عن مجهول ومن لم يوحد فلأنه كلام كأنه قال : له ما لك جوار فقال : ربهن جوار قد ملكت.

وكان الكسائي يجيز : رب من قائم على أنّه استفهام ويخفض (قائما) والفراء يأباه ؛ لأن كل موضع لم تقعه المعرفة لم يستفهم بمن فيه.

والضرب الثاني من حروف الجر :

وهو ما كان غير ملازم للجر ، وذلك حتى والواو.

فواو القسم وهي بدل من الباء وأبدلت لأنها من الشفة مثلها.

والتاء : تستعمل في القسم في الله عز وجل وهي بدل من الواو والتاء قد تبدل من الواو في مواضع ستراها وقد خصوا القسم بأشياء ونحن نفرد بابا للأسماء المخفوضة في القسم ، وأما الواو التي تقع موقع رب فقد مضى ذكرها.

٣٧٥

باب (حتى)

(حتى) : منتهى لابتداء الغاية بمنزلة (إلى) إلا أنها تقع على ضربين :

إحداهما : أن يكون ما بعدها جزءا مما قبلها وينتهي الأمر به.

والضرب الآخر : أن ينتهي الأمر عنده ولكنها قد تكون عاطفة وتليها الأفعال.

ويستأنف الكلام بعدها ولها تصرف ليس (لإلى) و (لإلى) أيضا مواقع لا تقع (حتى) فيها.

فأما الضرب الأول : وهو ما ينتهي به الأمر فإنه لا يجوز : أن يكون الاسم بعد حتى إلا من جماعة كالاستثناء لا يجوز : أن يكون بعد واحد ولا إثنين ؛ لأنه جزء من جماعة وإنما يذكر لتحقير أو تعظيم أو قوة أو ضعف ، وذلك قولك : ضربت القوم حتى زيد فزيد من القوم وانتهى الضرب به فهو مضروب مفعول ولا يخلو أن يكون أحقر من ضربت أو أعظمهم شأنا وإلا فلا معنى لذكره وكذلك المعنى إذا كانت عاطفة كما تعطف الواو تقول : ضربت القوم حتى عمرا ، فعمرو من القوم به انتهى الضرب ، وقدم الحاج حتى المشاة والنساء.

فهذا في التحقير والضعف وتقول : مات الناس حتى الأنبياء والملوك فهذا في التعظيم والقوة ولك أن تقول : قام القوم حتى زيد جر ، وإن كان في المعنى : جاء لأنك أنتهيت بالمجيء إليه بحتى فتقدير المفعول وقد بينا فيما تقدم أن كل فعل معه فاعله تعدى بحرف جر إلى اسم فموضعه نصب.

قال أبو بكر : والأحسن عندي في هذا إذا أردت أن تخبر عن زيد بفعله أن تقول : القوم حتى زيد فإذا رفعت فحكمه حكم الفاعل في أنه لا بد منه فإذا خفضت فهو كالمنصوب الذي يستغني الفاعل دونه ، وأما قول الشاعر :

ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله

والزّاد حتّى نعله ألقاها (١)

__________________

(١) على أن حتى وإن كانت يستأنف بعدها الكلام ، إلا أنها ليست متمحضة للاستئناف ، فلم يكن الرفع بعدها أولى ، فهي كسائر حروف العطف. يعني أنه يجوز في نعله النصب ، والرفع.

٣٧٦

فلك فيه الخفض والرفع والنصب فالخفض : على ما خبرتك به والنصب فيه وجهان :

فوجه أن يكون منصوبا (بألقى) ومعطوفا على ما عمل فيه (ألقى) ويكون ألقاها توكيدا.

والوجه الثاني : أن تنصبه بفعل مضمر يفسره (ألقاها) والرفع على أن يستأنف بعدها والمعنى ألقى ما في رحله حتى نعله هذه حالها ، وإذا قلت : العجب حتى زيد يشتمني فالمعنى :العجب لسبّ الناس إياي حتى زيد يشتمني.

قال الفرزدق :

__________________

أما النصب فمن وجهين : أحدهما نصبه بإضمار فعل يفسر ألقاها كأنه قال : حتى ألقى نعله ألقاها ، كما يقال في الواو وغيرها من حروف العطف.

ثانيهما : أن يكون نصبه بالعطف على الصحيفة ، وحتى بمعنى الواو ، كأنه قال : ألقى الصحيفة حتى نعله ، يريد ونعله ، كما تقول : أكلت السمكة حتى رأسها بنصب رأسها ، أي : ورأسها ، فعلى هذا الهاء عائدة على النعل أو الصحيفة ، وألقاها تكرير وتوكيد.

فإن قلت : شرط المعطوف بحتى أن يكون إما بعضا من جمع ، كقدم الحجاج حتى المشاة. أو جزءا من كل ، نحو : أكلت السمكة حتى رأسها ، أو كجزء ، نحو : أعجبتني الجارية حتى حديثها ؛ فكيف جاز عطف نعله ، مع أنه ليس واحدا مما ذكر؟ قلت : جاز ، لأن ألقى الصحيفة والزاد ، في معنى ألقى ما يثقله ؛ فالنعل بعض ما يثقل.

وأما الرفع فعلى الابتداء ، وجملة ألقاها هو الخبر. فحتى ، على هذا. وعلى الوجه الأول. من وجهي النصب ، حرف ابتداء ، والجملة بعدها مستأنفة.

وزعم ابن خلف : أن حتى هنا عاطفة والجملة بعدها معطوفة على الجملة المتقدمة ، وهذا شيء قاله ابن السيد ، نقله عنه ابن هشام في المغني ، ورده بقوله : لأن حتى لا تعطف الجمل ، وذلك لأن شرط معطوفها أن يكون جزءا مما قبلها أو كجزء ؛ وهذا لا يتأتى إلا في المفردات. وقد نازعه الدماميني في هذا التعليل.

وأنشد سيبويه هذا البيت على أن حتى فيه حرف جر ، وأن مجرورها غاية لما قبله ، كأنه قال : ألقى الصحيفة والزاد وما معه من المتاع حتى انتهى الإلقاء إلى النعل. وعليه فجملة ألقاها للتأكيد ، والضمير يجوز فيه أيضا أن يعود على النعل وعلى الصحيفة. فقوله : حتى نعله ألقاها روي على ثلاثة أوجه. وهذا البيت لأبي مروان النحوي. انظر خزانة الأدب ١ / ٣١٨.

٣٧٧

فيا عجبا حتّى كليب تسّبني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (١)

__________________

(١) على أن حتى فيه ابتدائية ، وفائدتها هنا التحقير.

أنشده سيبويه ، وقال : فحتى هنا بمنزلة إذا ، وإنما هي هاهنا كحرف من حروف الابتداء.

وقال الأندلسي في شرح المفصل : يقع بعدها الجملة الفعلية والاسمية. وتسمى حرف ابتداء ، وتفيد معناها الذي هو الغاية ، إما في التحقير ، أو في التعظيم ، كما في بيت الفرزدق :

فوا عجبا حتى كليب تسبني

أي : تعجبوا لسب الناس إياي ، حتى كليب ، كأنه يقول : كل الناس تسبني حتى كليب على حقارتها. ولو خفض هنا كليب لجاز ، ويكون تسبني إما حال من كليب ، أو مستأنف ، وحتى كليب متعلق به.

قال ابن المستوفي بعد أن نقله : قوله أي تعجبوا في تفسير وا عجبا ، غير صحيح لأنه ينادي العجب على ما ذكره العلماء تأدبا لا يأمر أحدا به.

وقوله : ولو خفض كليب هنا لجاز محال ، لان الخفض بعد حتى إما أن يكون بالعطف على المجرور قبلها ، أو يكون بمعنى إلى ، ولا مجرور قبلها فتعطف عليه. وليست بمعنى الغاية إذ ليس ما قبلها مفردا من جنس ما بعدها. فبقي الرفع لا غير. وذكر قسميها في التعظيم والتحقير. ولم يأت إلا بالتحقير.

وقوله : ويكن تسبني ، إما حال من كليب أو مستأنف بالرفع فيهما ، وصوابه : النصب فيهما. ولا أعلم ما أراد بقوله : وحتى كليب متعلق به. اه؟.

أقول : أما فوا عجبا فقد روي أيضا : فيا عجبا بتنوين وبدنه.

أما الأول فيحتمل أن يكون عجبا منادى منكرا ، ويحتمل أن يكون يا حرف تنبيه ، وعجبا مصدر منصوب بفعل محذوف ، ي : تعجبوا عجبا. ويحتمل أن تكون يا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، أي : يا قوم ، وعجبا كذلك.

فكلام الأندلسي جار على كل من هذين الوجهين. وأما الثاني فإنه أراد : فيا عجبي ، فقلب ياء المتكلم ألفا ، وهي لغة.

وأما قوله : خفض كليب محال ... إلخ ، فنقول : هي جارة ، والمغيا غير مذكور ، والتقدير : فوا عجبا الناس تسبني حتى كليب. وهذا المذكور لا بد منه في الابتدائية أيضا.

وقوله : ولم يأت إلا بالتحقير نقول : لا يضر ذلك. ومثال التعظيم :؟ حتى ماء دجلة أشكل البيت الآتي وقوله : صوابه النصب فيهما يعني أنه يجب أن يقول : ويكون يسبني إما حالا من كليب ، أو مستأنفا بنصبهما ، لأنه خبر كان ، وكأنه رفع على تقدير يكون ، إما تامة أو زائدة.

٣٧٨

فإذا قلت : مررت بالقوم حتى زيد ، فإن أردت العطف فينبغي أن تعيد الياء لتفرق بين ما أنجر بالباء وبين ما أنجر (بحتى).

الضرب الثاني : المجرور بحتى : وهو ما انتهى الأمر عنده وهذا الضرب لا يجوز فيه إلا الجر ؛ لأن معنى العطف قد زال ، وذلك قولك : إن فلانا ليصوم الأيام حتى يوم الفطر فأنتهت (حتى) بصوم الأيام إلى يوم الفطر ولا يجوز أن تنصب (يوم الفطر) ؛ لأنه لم يصمه فلا يعمل الفعل فيما لم يفعله وكذلك إذا خالف الاسم الذي بعدها ما قبلها نحو قولك : قام القوم اليوم حتى الليل فالتأويل : قام القوم اليوم حتى الليل.

واعلم أنك إذا قلت : سرت حتى أدخلها فحتى على حالها في عمل الجر ، وإن كان لم يظهر هنا (وإن وصلتها) اسم ، وقال سيبويه : إذا قلت : سرت حتى أدخلها فالناصب للفعل هاهنا هو الجار للإسم إذا كان غاية.

__________________

وقوله : لا أعلم ما أراد بقوله : وحتى كليب متعلق به أقول : إنه يريد أن حتى الجارة تكون متعلقة بيسبني ، إذ كل جار لا بد له من متعلق. وهذا ظاهر.

قال ابن هشام في المغني : ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى من هذا البيت ، بكون ما بعد حتى غاية له ، أي : فوا عجبا يسبني الناس حتى كليب يسبني.

والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريرا ، تقدم بعض منها في الشاهد السادس بعد السبعمائة.

وقوله : فوا عجبا هو من قبيل الندية للتوجع ، كأنه يقول : أنا أتوجع لعدم حضورك يا عجبي ، فاحضر لهذا الأمر الذي يتعجب منه.

وكليب : جد رهط جرير ، وهو جرير بن عطية بن الخطفى بن بدر بن سلمة بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. ويجتمع مع الفرزدق في حنظلة بن مالك.

ونهشل ومجاشع أخوان ، ابنا دارم بن مالك بن حنظلة. ومجاشع قبيلة الفرزدق ، وهي أشرف من كليب.

وأما نهشل فهم أعمام الفرزدق لا آباؤه ، وإن كانت العرب تسمي العم أبا. جعلهم في الصفة بحيث لا يسبون مثله لشرفه.

يقول : يا عجبا لسب الناس إياي حتى كليب على ضعفها في القبائل ، وبعدها من الفضائل ، كأنه لها أبا كريما ، وحسبا صميما ، كما لنهشل ومجاشع. والسّبّ : الشتم. والسّبّ ، بالكسر : الذي يسابك وتسابه. انظر خزانة الأدب ٣ / ٤١٣.

٣٧٩

فالفعل إذا كان غاية منصوب والاسم كان غاية جر وهذا قول الخليل.

وقال سيبويه : إنها تجيء مثل كي التي فيها إضمار (أن) وفي معناها ، وذلك قولك : كلمتك حتى تأمر لي بشيء : قال سيبويه : لحتى في الكلام نحو ليس لإلى تقول إنما أنا إليك أي : أنت غايتي ولا تكون حتى هاهنا.

وهي أعم من (حتى) تقول : قمت إليه فجعلته منتهاك من مكانك ولا تقول : حتاه وغير سيبويه يجيز : حتاه وحتاك في الخفض ولا يجيزون في النسق ؛ لأن المضمر المتصل لا يلي حرف النسق لا تقول : ضربت زيدا وك يا هذا ولا قتلت عمرا وه إنما يقولون في مثل هذا : إياك وإياه والقول عندي ما قال سيبويه : لأنه غير معروف إتصال حتى بالكاف وهو في القياس غير ممتنع.

٣٨٠