الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

أما الأول : وهو النكرة المفردة : فنحو ما خبرتك من قولك : لا رجل عندي ولا رجل في الدار ولا صاحب لك و (لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) [التوبة : ١١٨] ولا صنع لزيد ولا رجل ولا شيء تريد : لا رجل في مكان ولا شيء في زمان وتقول : لا غلام ظريف في الدار.

فقولك : ظريف خبر وقولك : في الدار خبر آخر ، وإن شئت جعلته لظريف خاصة ومن ذلك قول الله عز وجل : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣].

وقال : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ١ ـ ٢] ، وأما قول الشاعر :

لا هيثم الليلة للمطّي (١)

فإنه جعله نكرة أراد لا مثل هيثم ومثل ذلك : لا بصر لكم.

وقال ابن الزبير الأسدي :

أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أميّة في البلاد

__________________

معنى الإضافة (ـ لا أبالك)). فالمضاف نحو : " لا ناصر حق محذول" والشّبيه بالمضاف نحو" لا كريما أصله سفيه"" لا حافظا عهده منسيّ"" لا واثق بالله محذول" ف" لا" في الجميع نافيه للجنس ، وما بعدها اسمها وهو منصوب بها ، والمتأخّر خبرها.

ويقول سيبويه : واعلم أنّ" لا" وما عملت فيه في موضع ابتداء كما أنّك إذا قلت : هل من رجل ، فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدأ. انظر معجم القواعد ٤ / ٢٤.

(١) على أن" لا" النافية للجنس لا تدخل على العلم ، وهذا مؤوّل إمّا بتقدير مضاف وهو مثل ، وإمّا بتأويل العلم باسم الجنس. وقد بيّنهما الشارح المحقّق.

وقد أورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : "فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً" على أنّه على تقدير مثل ملء الأرض ، فحذف مثل كما حذفت من لا هيثم اللّيلة.

قال الفاضل اليمنيّ : وقد اعترض هذا بوجهين : أحدهما : التزم العرب تجرّد الاسم المستعمل عن الألف واللام ، ولم يجوّزوا قضية ولا أبا الحسن ، كما جوّزوا ولا أبا حسن ، ولو كانت إضافة مثل منويّة لم يحتج إلى ذلك.

والثاني : إخبار العرب عن المستعمل ذلك الاستعمال بمثل. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٨٠.

٣٤١

أراد : ولا مثل أمية ، فإن ثنيت المنفي (بلا) قلت : لا غلامين لك ولا جاريتين لا بدّ من إثبات النون في التثنية والجمع الذي هو بالواو والنون قد تثبت في المواضع التي لا تثبت فيها التنوين بل قد يثنى بعض المبنيات بالألف والنون والياء والنون. نحو : هذا والذي. تقول :هذان واللذان.

قال أبو العباس : وكان سيبويه والخليل يزعمان : أنك إذا قلت : لا غلامين لك أن غلامين مع (لا) اسم واحد النون كما تثبت مع الألف واللام في تثنية ما لا ينصرف وجمعه نحو : هذان أحمران وهذان المسلمان وقال : وليس القول عندي كذلك ؛ لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع ما قبلها اسما واحدا لم يوجد ذلك كما لو يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبلهما بمنزلة اسم واحد.

الثاني : النكرة الموصوفة :

اعلم أنك إذا وصفت النكرة في هذا الباب فلك فيها ثلاثة أوجه :

الأول منها : وهو الأحسن أي تجري الصفة على الموصوف وتنون الصفة ، وذلك قولك : لا رجل ظريفا في الدار فتنون ؛ لأنه صفة ويكون قولك : في الدار وهو الخبر وحجة من فعل هذا أن النعت منفصل من المنعوت مستغني عنه وإنما جيء به بعد أن مضى الاسم على حاله ، فإن لم تأت به لم تحتج إليه.

والوجه الثاني : أن تجعل المنفي ونعته اسما واحدا وتبنيه معه فتقول : لا رجل ظريف في الدار بنيت رجل مع ظريف وحجة من رأى أن يجعله مع المنعوت اسما واحدا أن يقول : لما كان موضع يصلح فيه بناء الاسمين اسما واحدا كان بناء اسم مع (اسم) أكثر وأفشى من بناء اسم مع حرف ، فإن قلت : لا رجل ظريفا عاقلا فأنت في النعت الأول بالخيار فأما الثاني : فليس فيه إلا التنوين ؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسما واحدا وكذلك المعطوف لو قلت : لا رجل وغلاما عندك لم يصلح في (غلام) إلا التنوين من أجل واو العطف ؛ لأنه لا يكون في الأسماء مثل حضرموت اسما واحدا إذا كانت بينهما واو العطف.

٣٤٢

والتكرير والنعت : بمنزلة واحدة تقول في النعت : لا رجل ظريف لك والتكرير على ذلك يجري تقول : لا ماء ماء باردا ، وإن فصلت بين الموصوف والصفة بشيء لم يجز في الصفة إلا التنوين ، وذلك قولك : لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقلا من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد وقد فصلت بينهما كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين : عشر وخمسة في خمسة عشر.

والوجه الثالث : أن تجعل النعت على الموضع فترفع ؛ لأن (لا) وما علمت فيه في موضع اسم مبتدأ فتقول : لا رجل ظريف فتجري (ظريف) على الموضع فيكون موضع اسم مبتدأ والخبر محذوف ، وإن شئت جئت بخبر فقلت : (لك) أو عندك كما بينت لك فيما تقدم قال الشاعر :

وردّ جازرهم حرفا مصرّمة

ولا كريم من الولدان مصبوح

والنعت على اللفظ أحسن وكذلك إذا قلت : لا ماء ماء باردا ، وإن شئت قلت : لا ماء ماء بارد ، فإن جعلت الاسمين اسماص واحدا قلت : لا ماء ماء بارد جعلت ماء الأول والثاني اسما واحدا وجعلت (بارد) نعتا على الموضع.

ومن ذا قول العرب : لا مال له قليل ولا كثير.

قال سيبويه : والدليل على أن (لا رجل) في موضع اسم (مبتدأ) في لغة تميم قول العرب من أهل الحجاز : لا رجل أفضل منك والعطف في هذا الباب على الموضع كالنعت فمن ذلك قول الشاعر وهو رجل من مذحج (١) :

__________________

(١) هذا الشعر لضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم شاعر جاهلي. ويقال : إن ضمرة كان اسمه شقة فسماه النعمان ضمرة بن ضمرة. وكان يبر أمه ويخدمها ، وكانت مع ذلك تؤثر أخا له يقال له جندب ، فقال هذا الشعر. هكذا رواه ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل. ورواه بعضهم : يا ضمر أخبرني وقال : إن قائله ضمرة. وهو خطأ. ونسبه أبو رياش لهمام بن مرة أخي جساس بن مرة قاتل كليب.

وزعم ابن الأعرابي : أنه قيل قبل الإسلام بخمسمائة سنة. وفي شرح أبيات سيبويه : أنه لبعض مذحج ؛ وقال السيرافي : هو لزراقة الباهلي. ـ وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : هو لهني بن أحمر ، من بني الحارث ابن مرة بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة ، جاهلي. وأنشدوا له : يا ضمر أخبرني.

وهني : مصغر هن ، وأصله هنيو فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء لسبقها بالسكون.

ورواه أبو محمد الأعرابي عن أبي الندي : أنه لعمرو بن الغوث بن طيئ ، وأنشدوا له :

يا طي أخبرني ولست بكاذب

انظر خزانة الأدب ١ / ١٧٥.

٣٤٣

هذا لعمركم الصّغار بعينه

لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب

والأجود أن تعطف على اللفظ فتقول : لا حول ولا قوة هذا إذا جعلت لا الثانية مؤكدة للنفي ولم يقدر أنك ابتدأت النفي بها ، فإن قدرت ذلك كان حكمها حكم الأول فقلت : لا حول ولا قوة ، وإن شئت عطفت على الموضع كما خبرتك.

٣٤٤

باب ما يثبت فيه التنوين

والنون من الأسماء المنفية فإن ثنيت فلا بد من النون تقول : لا غلامين ولا جاريتين تثبت النون هنا كما تثبت في النداء والأسماء المبنية فيها ما يبنى وتثبت فيه النون ، وإن كان المفرد مبنيا ألا ترى أنك تثني هذا فتقول : هذان وهذين وكذلك : اللذان واللذين.

وتقول : لا غلامين ظريفين لك ولا مسلمين صالحين لك ولا عشرين درهما لك ونظير هذه النون التنوين إذا لم يكن منتهى الاسم وصار كأنه حرف قبل آخر الاسم وهو قولك : لا خيرا منه ولا حسنا وجهه لك ولا ضاربا زيدا لك ؛ لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الاسم فقبح أن يحذفوا قبل أن ينتهوا منتهى الاسم.

وقال الخليل : كذلك : لا آمرا بالمعروف لك إذا جعلت (بالمعروف) من تمام الاسم وجعلته متصلا به كأنك قلت : لا آمرا معروفا لك.

وإن قلت : لا آمر بمعروف لك فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيت على الأول كلاما.

الثالث : نكرة مضافة :

التنوين يسقط من كل مضاف في هذا الباب وغيره فإذا نصبت مضافا وأعملت (لا) نصبته ولا بد من أن يكون ذلك المضاف نكرة ؛ لأن (لا) لا تعمل في المعارف والمضاف ينقسم في هذا الباب على قسمين : مضاف لم يذكر معه لام الإضافة ومضاف ذكرت معه لام الإضافة.

فأما المضاف المطلق فقولك : لا غلام رجل لك ولا ماء سماء في دارك ولا مثل زيد لك وإنما امتنع هذا أن يكون اسما واحدا مع (لا) ؛ لأنه مضاف والمضاف لا يكون مع ما قبله اسما واحدا ألا ترى أنّك لا تجد اسمين جعلا اسما واحدا وأحدهما مضاف إنما يكونان مفردين : كحضر موت وبعلبك ألا ترى أن قوله : يا ابن أم لما جعل (أم) مع ابن اسما واحدا حذف ياء الإضافة وقال ذو الرمة :

هي الدّار إذ ميّ لأهلك جيرة

ليالي لا أمثالهن لياليا

فأمثالهن نصب ب (لا).

٣٤٥

وأما القسم الآخر المنفي بلام الإضافة :

فالتنوين والنون تقع في هذا الموضع كما وقع مما قبله لما أضفته ، وذلك قولهم : لا أبا لك ولا غلام لك.

وقال الخليل : إن النون إنما ذهبت للإضافة ولذلك لحقت الألف الأب التي لا تكون إلا في الإضافة وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول : لا أباك في موضع : لا أبالك ولو أردت الإفراد : لا أب لزيد فاللام مقحمة ليؤكد بها الإضافة كما وقع في النداء : يا بؤس للحرب هذا مقدار ما ذكره أصحابنا.

ولقائل أن يقول : إذا قلت : أنّ قولهم : لا أباك تريد به : لا أبالك فمن أين جاز هذا التقدير والمضاف إلى كاف المخاطب معرفة والمعارف لا تعمل فيها لا قيل له : إن المعنى إذا قلت : لا أبالك الانفصال كأنك قلت : لا أبا لك فتنون لطول الاسم وجعلت (لك) من تمامه وأضمرت الخبر ثم حذفت التنوين استخفافا وأضافوا وألزموا اللام لتدل على هذا المعنى فهو منفصل بدخول اللام وهو متصل بالإضافة.

وإنما فعل في هذا الباب وخصوه كما خصوا النداء بأشياء ليست في غيره.

وإنما يجوز في اللام وحدها أن تقحم بين المضاف والمضاف إليه ؛ لأن معنى الإضافة معنى اللام ألا ترى أنك إذا قلت : غلام زيد فمعناه : غلام لزيد فدخول اللام في هذا يشبه قولهم : يا تيم تيم عدي أكد هذه الإضافة بإعادة الاسم كما أكد ذلك بحرف الإضافة فكأنه قد أضافه مرتين.

والشاعر قد يضطر فيحذف اللام ويضيف قال :

أبا الموت الذي لا بدّ أنّي

ملاق لا أباك تخوّفيني (١)

__________________

(١) قال شارح أبي عليّ الفارسيّ : هو لأبي حيّة النّميريّ قاله أبو عمرو ، قال : جلبه أبو عليّ شاهدا على حذف هذه اللام ضرورة ، فثبوت الألف في أبا دليل الإضافة والتعريف ، ووجود اللام دليل الفصل والتنكير.

حذف لام الجرّ وهو يريدها ؛ ولو لا أنّها في حكم الثّابت في اللفظ لما عملت لا ، لأنّها لا تعمل إلّا في نكرة. فأمّا دلالة الألف فيه وحذف النون من نحو لا يدي بها لك على إرادة الإضافة ، فلأنّ وجود العمل مانع فيها من

٣٤٦

وقال الآخر :

فقد مات شمّاخ ومات مزوّد

وأيّ كريم لا أباك مخلّد (١)

__________________

اللفظ ، فضعف اقتضاء المعنى مع وجود المانع اللفظيّ. فإنّ هذا مثل لم يقصد به نفي الأب وإنّما قصد به الذمّ.

وكذلك لا يدي لك ، إنّما المراد لا طاقة لك بها.

وهو قياس من النّحويين على قولهم لا أبا لك. وفي الكتاب : لا أبا فاعلم لك ؛ وفيه دليل على أنّه ليس بمضاف. ويجوز أن تكون الألف لام الكلمة كما قال : " الرجز" إنّ أباها وأبا أباها فأمّا قوله تخوّفيني ، فإنّه أراد تخوفينني فحذف إحدى النونين : فقيل حذف الأولى كما حذف الإعراب ، في قول امرئ القيس : " السريع" فاليوم أشرب غير مستحقب وقال المبرّد حذف الثانية ، وهو أولى لأنّها إنما زيدت مع الياء لتقي الفعل من الكسرة ، والأولى علامة الرفع انتهى كلامه.

وإذا كان الأمر كذلك علم أنّ قولهم لا أبا لك إنّما فيه تعادي ظاهره ، واجتماع صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظا لا معنى. ونحن إنّما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلا كثيرا. هذا ما لا يدّعيه مدّع. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٩٦.

(١) وقوله : " وفد مات شمّاخ ومات مزرّد" هما أخوان لأب وأمّ ، وصحابيان ، وشاعران. وقد تقدّمت ترجمة الشمّاخ في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة.

واسمه معقل بن ضرار ، والمزرّد اسمه يزيد بن ضرار ، وإنّما سمّي مزرّدا بقوله : " الطويل".

فقلت تزرّدها عبيد فإنّني

لدرد الموالي في السّنين مزرّد

ولهما أخ آخر شقيقهما وهو جزء بن ضرار ، بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. ومات الشمّاخ وجزء متهاجرين.

وسبب ذلك على ما روى الكلبيّ أنّ الشمّاخ كان يهوى امرأة من قومه يقال لها كلبة بنت جوّال ، وكان يتحدّث إليها ويقول فيها الشعر ، فخطبها فأجابته وهمّت أن تتزوجه ، ثم خرج إلى سفر له فتزوّجها أخوه جزء ، فآلى الشمّاخ أن لا يكلمه أبدا ، وهجاه بقصيدته التي يقول فيها : " الطويل"

لنا صاحب قد خان من أجل نظرة

سقيم فؤاد حبّ كلبة شاغلة

فماتا متهاجرين.

وقوله : " لا أبا لك" ، جملة اعتراضيّة بين أيّ عزيز وهو موصوف ، وبين يمنع وهو صفة لأيّ. وكذلك يخلّد ومخلّد على تلك الرواية. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٩٥.

٣٤٧

فإن قال : لا مسلمين صالحين : لك فوصف المنفي قبل مجيئك (بلك) لم يكن بد من إثبات النون من قبل أن الصالحين نعت للمنفي وليس بمنفي وإنما جاء التخفيف في النفي.

الرابع : المضارع للمضاف :

المضارع للمضاف في هذا الباب ما كان عاملا فيما بعده كما أن المضاف عامل فيما بعده فهو منصوب كما أن المضاف منصوب وما بعده من تمامه كما أن المضاف من تمام الأول إلا أن التنوين يثبت فيه ولا يسقط منه ؛ لأنه ليس منتهى الاسم فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم.

فالتنوين هنا والنون يثبتان إذا كان المنفي عاملا فيما بعده فهو وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد فمن ذلك قولهم : لا خيرا منه ولا حسنا وجهه لك ولا ضاربا زيدا لك ؛ لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الاسم.

فجميع هذا قد عمل فيما بعده ومثل ذلك قولك : لا عشرين درهما لك لو لا درهم لجاز أن تقول : لا عشرين لك وعشرون عملت في درهم فنصبته.

وقال الخليل : كذلك : لا آمرا بالمعروف لك إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلته متصلا به كأنك قلت : لا آمرا معروفا لك ، وإذا قلت : لا آمر بمعروف فكأنك جئت بمعروف تبيينا بعد أن تم الكلام وتقول : لا آمر يوم الجمعة لك إذا نفيت جميع الآمريين وزعمت : أنه ليسوا له يوم الجمعة ، فإن أردت أن تنفي الأمرين يوم الجمعة خاصة قلت : لا آمر يوم الجمعة لك جعلت يوم الجمعة من تمام الاسم فصار بمنزلة قولك : لا آمرا معروفا لك.

ولو قلت : لا خير عند زيد ولا آمر عنده لم يجز إلا بحذف التنوين لأنك لم تصله بما يكمله اسما ولكنه اسم تام فجعلته مع (لا) اسما واحدا.

٣٤٨

باب ما إذا دخلت عليه (لا) لم تغيره عن حاله

هذا الباب ينقسم على ثلاثة أقسام : اسم معرفة واسم منفي بلا بعده اسم منفي بلا وهما جواب مستفهم قد ثبت عنده أحد الشيئين واسم قد عمل فيه فعل أو هو في معنى ذلك.

أما الأول : فالاسم المعرفة :

وقد عرفتك أن (لا) لا تنصب المعارف ، فإن عطفت معرفة منفية على نكرة وقد عملت فيها لم تعملها في المعرفة وأعملتها في النكرة ، وذلك قولك : لا غلام لك ولا العباس لك ولا غلاملك ولا أخوة لك.

قال سيبويه : فأما من قال : كل نعجة وسخلتها بدرهم فينبغي أن يقول : لا رجل لك وأخا له ولا يحسن أن تدخل (لا) على معرفة مبتدأة غير معطوفة على كلام فقد تقدم فيه (لا) ، فإن كررت لا جاز.

فأما الذي لا يجوز فقولك : لا زيد في الدار ؛ لأن هذا موضع (ما) إلا أن يضطر شاعر فيرفع المعرفة ولا يثني (لا) قال الشاعر :

بكت حزنا واسترجعت ثمّ آذنت

ركائبها أن لا إلينا رجوعها

فأما الذي يحسن ويجوز فقولك : لا زيد في الدار ولا عمرو ولما ثنيت حسن.

الثاني : الاسم المنفي بلا وبعده اسم منفي أيضا بلا :

وهذا الصنف إنما يجيء على لفظ السائل إذا قال : أغلام عندك أم جارية إذا ادعى أن عنده أحدهما إلا أنه لا يدري : أغلام هو أم جارية فلا يحسن في هذا إلا أن تعيد (لا) فتقول : لا غلام عندي ولا جارية ، وإذا قال : لا غلام فإنما هو جواب لقوله : هل من غلام ولم يثبت أن عنده شيئا فعملت لا فيما بعدها ، وإن كان في موضع ابتداء ومن ذلك قول الله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٣].

وقال الشاعر :

وما ضرمتك حتّى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا ولا جمل

٣٤٩

وكذلك إذا فصلت بين (لا) والاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد الثانية ؛ لأن جعل جواب إذا عندك. أم ذا فمن ذلك قوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٧].

ولا يجوز : لا فيها أحد إلا على ضعف ، فإن تكلمت به لم يكن إلا رفعا ؛ لأن (لا) لا تعمل إذا فصل بينها وبين الاسم رافعة ولا ناصبة ومعنى قولي : رافعة إذا أعملت عمل ليس تقول :لا أحد أفضل منك في قول من جعلها كـ (ليس).

الثالث : وهو ما عمل فيه فعل أو كان في معنى ذلك :

اعلم أن هذا يلزمك فيه تثينة (لا) كما لا تثنى لا في الأفعال ، وذلك قولك : لا مرحبا ولا أهلا ولا كرامة ولا مسرة ولا سقيا ولا رعيا ولا هنيئا ولا مريا ؛ لأن هذه الأسماء كلها عملت فيها أفعال مضمرة فالفعل مقدر بعد (لا) كأنك قلت : لا أكرمك كرامة ولا أسرك مسرة فعلى هذا جميع هذه الأسماء وما لم يجز أن يلي (لا) من الأفعال لم يجز أن يليها ما عمل فيه ذلك الفعل لا يجوز أن تقول : لا ضربا وأنت تريد الأمر ؛ لأنه لا يجوز : لا أضرب إنما تدخل على الدعاء إذا كان لفظه لفظ الخبر وأضربه على ذلك نحو : لا سقيا ولا رعيا كأنك قلت : لا سقاه الله ولا رعاه.

وكذلك إذا ولي (لا) مبتدأ في معنى الدعاء لم تعمل فيه كما لم تعمل فيما بني على الفعل ن ومعناه الدعاء ، وذلك قولهم : لا سلام عليكم.

قال سيبويه : قولهم : لا سواء إنما دخلت هاهنا لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء فجاز هذا كما جاز : لاها الله ذا حين عاقبت فلم يجز ذكر الواو يعني أن قولهم : لا سواء أصله : هذان لا سواء وهذان مبتدأ ولا سواء خبرهما كما تقول : هذان سواء ثم أدخلت (لا) للنفي وحذفت (هذان) وجعلت (لا) تعاقب (هذان).

وقال أبو العباس : وقول سيبويه : ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء أي : لا تكاد تقول ولو قلته جاز.

وقالوا : لا نولك أن تفعل جعلوه معاقبا لقولك لا ينبغي وصار بدلا منه.

٣٥٠

واعلم أنه قبيح أن تقول : مررت برجل لا فارس حتى تقول : ولا شجاع وكذلك : هذا زيد فارسا لا يحسن حتى تقول : لا فارسا ولا شجاعا ، وذلك أنه جواب لمن قال : أبرجل شجاع مررت أم بفارس ولقوله : أفارس زيد أم شجاع وقد يجوز على ضعفه في الشعر.

٣٥١

باب (لا) النافية إذا دخلت عليها ألف الاستفهام

الألف إذا دخلت على (لا) جاز أن يكون الكلام استفهاما وجاز أن يكون تمنيا والأصل الاستفهام فإذا كان استفهاما محضا فحالها كحالها قبل أن يلحقها ألف الاستفهام ، وذلك قولك : ألا رجل في الدار الأعلام أفضل منك ومن قال : لا رجل قائم في الدار قال : هاهنا ألا رجل قائم في الدار وكذلك من نون ومن رفع ثم رفع هاهنا وقال الشاعر :

حار بن كعب ألا أحلام تزجركم

عنّا وأنتم من الجوف الجماخير (١)

فإذا دخلها مع الاستفهام معنى التمني ، فإن النحويين مختلفون في رفع الخبر ويجرون ما سراه على ما كان عليه قبل.

فأما الخليل وسيبويه والجرمي أكثر النحويين فيقولون : ألا رجل أفضل منك ولا يجيزون رفع : أفضل وحجتهم في ذلك أنهم قالوا : كنا نقول : لا رجل أفضل منك فيرفع ؛ لأن (لا) ورجل في موضع ابتداء وأفضل : خبره فهو خبر اسم مبتدأ ، وإذا قلت متمنيا : ألا رجل أفضل منك فموضعه نصب وإنما هو كقولك : اللهم غلاما أي : هب لي غلاما فكأنك قلت : ألا أعطي ألا أصيب فهذا مفعول.

وكان المازني وحده يجيز فيه جميع ما جاز في النافية بغير الاستفهام فتقول : ألا رجل أفضل منك وتقول فيمن جعلها كليس : ألا أفضل منك ويجريها مجراها قبل ألف الاستفهام.

واعلم أن (لا) إذا جعلت كـ (ليس) لم تعمل إلا في نكرة ولا يفصل بينها وبين ما عملت فيه لأنها تجري رافعة مجراها ناصبة.

وأما قول الشاعر :

__________________

(١) يجوز حذف أدوات النّداء ، وتحذف" يا" بكثرة ، نحو : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) (الآية : ٢٩ سورة يوسف) ، (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (الآية : ٣١ سورة الرحمن) ، يقول سيبويه : وإن شئت حذفتهنّ كلّهنّ كقولك : حار بن كعب أي يا حارث بن كعب. انظر معجم القواعد ٩ / ٢٦.

٣٥٢

ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصلة تبيت (١)

فزعم الخليل : أنه أراد : الفعل وأنه ليس لـ (لا) هاهنا عمل إنما أراد ألا ترونني ، وأما يونس فكان يقول : إنما تمنى ولكنه نوّن مضطرا وكان يقول في قول جرير :

فلا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدا إذا ذكر الجدود

إنما نوّن مضطرا وكذا يقول أبو الحسن الأخفش.

ومن قال : لا رجل ولا أمراة لم يقل في التمني إلا بالنصب وعلى مذهب أبي عثمان يجوز الرفع كما كان قبل دخول الألف.

كان أبو عثمان يقول : اللفظ على ما كان عليه ، وإن كان دخله خلاف معناه ألا ترى أن قولك : غفر الله لزيد معناه الدعاء ولفظه لفظ ضرب فلم يغير لما دخله في المعنى.

وكذلك : حسبك رفع بالابتداء إن كان معناه النهي.

__________________

(١) قال سيبويه : وسألت الخليل عن هذا البيت ، فزعم أنه ليس على التمني ، ولكن بمنزلة قول الرجل : فهلا خيرا من ذاك؟ كأنه قال : ألا تروني رجلا جزاه الله خيرا! قال ابن هشام في المغني : " ومن معاني ألا العرض والتحضيض ، ومعناهما طلب الشيء ؛ ولكن العرض طلب بلين ، والتحضيض طلب بحث ؛ وتختص ألا هذه بالفعلية ، ومنه عند الخليل هذا البيت ، والتقدير عنده : ألا تروني رجلا هذه صفته! فحذف الفعل مدلولا عليه بالمعنى.

وزعم بعضهم : أنه محذوف على شريطة التفسير ، أي : ألا جزى الله رجلا جزاه خيرا. وألا على هذا للتنبيه.

وقال يونس : ألا للتمني ، ونوّن الاسم للضرورة .. وقول الخليل أولى ، لأنه لا ضرورة في إضمار الفعل بخلاف التنوين. وإضمار الخليل أولى من إضمار غيره ، لأنه لم يرد أن يدعو لرجل على هذه الصفة ، وإنما قصد طلبه.

وأما قول ابن الحاجب في تضعيف هذا القول : إنّ" يدلّ" صفة لرجل فيلزم الفصل بينهما بالجملة المفسرة وهي أجنبية ، فمردود بقوله تعالى : "إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ" ثم الفصل بالجملة لازم وإن لم تقدّر مفسرة إذ لا تكون صفة لأنها إنشائية. كلام المغني.

وقدّر العامل غير الخليل ألا أجد رجلا. وقدّره بعضهم ألا هات رجلا. وروي أيضا" ألا رجل" بالرفع والجر ، فالرفع اختاره الجوهري على أنه فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور ، أي : ألا يدل رجل. وقيل : " رجل" : مبتدأ تخصص بالاستفهام والنفي ، وجملة" يدل" خبره. والجر على تقدير ألا دلالة رجل ، فحذف المضاف وبقي لا مضاف إليه على حاله. انظر خزانة الأدب ١ / ٣٢٨.

٣٥٣

باب تصرف (لا)

لـ (لا) في الكلام مواضع وجملتها النفي ومواضعها تختلف فتقع على الأسماء نحو قولك :ضربت زيدا لا عمرا وجاءني زيد لا أخوه وتقع على الأفعال في القسم وغيره تقول : لا يخرج زيد وأنت مخبر ولا ينطلق عبد الله ويكون للنهي في قولك : لا ينطلق عبد الله ولا يخرج زيد وتجزم بها الفعل فيكون بحذاء قولك في الأمر : ليخرج عبد الله ولتقم طائفة منهم معك.

وقد تكون من النفي في موضع آخر وهو نفي قولك : إيت وعمراظ فإذا أردت نفي هذا قلت : لا تأت زيدا وعمرا لم يكن هذا نفيه على الحقيقة ؛ لأنه إن أتى أحدهما لم يعصه ؛ لأنه نهاه عنهما جميعا ، فإن أراد أن تمتنع منهما معا فنفي ذلك : لا تأت زيدا ولا عمرا فمجيئها هاهنا لمعنى انتظام النهي بأمره ؛ لأن خروجها إخلال به.

ويقع بعدها في القسم الفعل الماضي في معنى المستقبل ، وذلك قولك : والله لا فعلت إنما المعنى : لا أفعل ؛ لأن قولك في القسم : لا أفعل إنما هو لما يقع فأما قولهم : لا أفعل نفي لقولك : لأفعلنّ ولذلك يجوز أن تحذف (لا) وأنت تريد النفي وجائز أن تقول : لا قام زيد ولا قعد عمرو تريد الدعاء عليه. وهذا مجاز.

وحق هذا الكلام أن يكون نفيا لقيامه وقعوده فيما مضى.

وقال الله عز وجل : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١].

ومن هذا قول [الأعرابي] للنبي صلّى الله عليه وسلّم : (أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهلّ؟) (١) أي : من لم يأكل ولم يشرب ، يعني : الجنين.

فإذا قلت : والله أفعل ذاك فمعناه : لا أفعل فلو قلت : والله أقوم تريد : لأقومنّ كان خطأن لأنها حذفت استخفافا لاستبداد الإيجاب باللام والنون.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١٦٨٤) ، وأخرجه الترمذي (١٤٠١) ، وأخرجه النسائي (٤٨٢١). ونص النسائي : أنّ رجلا من هذيل كان له امرأتان ، فرمت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فأسقطت ، فقيل : أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهلّ؟ فقال : " أسجع كسجع الأعراب؟ " ، فقضى فيه رسول الله : " بغرّة عبد أو أمة ، وجعلت على عاقلة المرأة".

٣٥٤

ولهذا موضع آخر يذكر فيه ويكون في موضع (ليس اقتحم العقبة) وقد مضى ذكرها وقد تكون (لا) مؤكدة كما كانت (ما) في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] و (مما خطاياهم).

فمن ذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] إنما هو : فأقسم يدلك على ذلك قوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦] وكذلك قال المفسرون في قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] إنما هو : أقسم فوقع القسم على قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧].

قال أبو العباس : فقيل لهم في عروض ذلك : أن الزوائد من هذا الضرب إنما تقع بين كلامين أو بعد كلام كقولك : جئتك لأمر ما فكان من جوابهم : أن مجاز القرآن كله مجاز سورة واحدة بعد ابتدائه وأن بعضه متصل ببعض فمن ذلك قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) [الحديد : ٢٩].

وقوله : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [فصلت : ٣٤] وإنما هو : لا تستوي الحسنة والسيئة ومعناه ينبئك عن ذلك إنما هو : لا تساوي الحسنة السيئة.

٣٥٥

مسائل من باب (لا)

تقول : لا غلامين ، ولا جاريتي لك.

إذا جعلت الآخر مضافا ولم تجعله خبرا له وصار الأول مضمرا له كأنك قلت : لا غلامين في ملكك ، ولا جاريتي لك. كأنك قلت : ولا جاريتك في التمثيل.

قال سيبويه : ولكنهم لا يتكلمون به يعني بالمضمر واختص (لا) بهذا النفي ، وإن شئت قلت : لا غلامين ولا جاريتين لك إذا جعلت (لك) خبرا لهما وهو قول أبي عمرو.

وكذلك لو قلت : لا غلامين لك وجعلت (لك) خبرا.

فإذا قلت : لا أبالك فها هنا إضمار مكان ولكنه يترك استخفافا واستغناء.

وتقول : لا غلامين ولا جاريتين لك ، وغلامين وجاريتين لك ، كأنك قلت : لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا.

فجاء (بلك) بعد ما بني على الكلام الأول في مكان كذا وكذا كما قال : لا يدين بها لك حين صيره كأنه جاء (بلك) بعد ما قال : لا يدين بها في الدنيا لك وقبيح أن تفصل بين الجار والمجرور فتقول لا أخا هذين اليومين لك.

قال سيبويه : وهذا يجوز في ضرورة الشعر ؛ لأن الشاعر إذا اضطر فصل بين المضاف والمضاف إليه.

قال الشاعر :

كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (١)

__________________

(١) فصل لضرورة الشعر ، بالظرف بين المتضايفين. والأصل : كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهنّ بنا إنقاض الفراريج.

في الأصول لابن السرّاج : وقبيح أن تفصل بين الجارّ والمجرور فتقول لا أخا هذين اليومين لك.

قال سيبويه : هذا يجوز في ضرورة الشعر لأنّ الشاعر إذا اضطرّ فصل بين المضاف إليه. وأنشد هذا البيت.

و" من" للتعليل و" الإيغال" : الإبعاد ، يقال أوغل في الأرض ، إذا أبعد فيها ، حكاه ابن دريد قال : وكل داخل في شيء دخول مستعجل فقد أوغل فيه.

٣٥٦

ومن قال : كم بها رجل فأضاف فلم يبال الفتح قال : لا يدري بها لك ولا أخا يوم الجمعة لك ولا أخا فاعلم لك والجر في : (كم) بها وترك النون في : لا يدي بها لك قول يونس.

واحتج بأن الكلام لا يستغني ورد ذلك عليه سيبويه بأن قال : الذي يستغني به الكلام والذي لا يستغني قبحهما واحد إذا فصلت بين الجار والمجرور وتقول : لا غلام وجارية فيها ؛ لأن (لا) إنما تجعل وما تعمل فيه اسما إذا كانت إلى جنب الاسم لكنك يجوز أن تفصل بين خمسة وعشر في قولك : خمسة عشر كذلك لا يجوز أن تفصل بين (لا) وبين ما بني معها وتقول : لا رجل ولا امرأة يا فتى.

إذا كانت (لا) بمنزلتها في (ليس) مؤكدة للنفي حين تقول : ليس لك رجل ولا امرأة قال رجل من بني سليم وهو أنس بن العباس :

__________________

وقال الأصمعيّ في شرح هذا البيت : " الإيغال" : سرعة الدخول في الشيء ، يقال أوغل في الأمر : إذا دخل فيه بسرعة. والضمير للإبل في بيت قبله. و" الأواخر" : جمع آخره ، بوزن فاعله ، وهي آخره الرحل ، وهو العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب ، ويقال فيه مؤخر الرحل.

قال ابن حجر في" فتح الباري" : هو بضمّ أوله ثم همزة ساكنة ، وأما الخاء فجزم أبو عبيد بكسرها وجوّز الفتح ، وأنكر ابن قتيبة الفتح ، وعكس ذلك ابن مكّيّ فقال : لا يقال مقدم ومؤخر بالكسر إلّا في العين خاصة ، وأمّا في غيرها فيقال بالفتح فقط. ورواه بعضهم بفتح الهمزة وتشديد الخاء. انتهى.

وقال صاحب" الصحاح" : ومؤخر العين ، مثل مؤمن : الذي يلي الصّدغ ، ومقدمها : الذي يلي الأنف ، ومؤخرة الرحل أيضا لغة قليلة في آخره الرحل ، وهي التي يستند الراكب إليها. قال يعقوب : ولا تقل مؤخرّة انتهى.

و" الميس" : بفتح الميم : شجر يتخذ منه الرحال والأقتاب ، وإضافة الأواخر إليه كإضافة خاتم فضّة. و" الإنقاض" : مصدر أنقضت الدّجاجة : إذا صوّتت ـ وهو بالنون والقاف والضاد المعجمة ـ وروي بدله : " أصوات الفراريج" جمع فرّوجة ، وهي صغار الدّجاج. يريد أنّ رحالهم جدد وقد طال سيرهم فبعض الرحل يحكّ بعضا فتصوّت مثل أصوات الفراريج ، من شدّة السير واضطراب الرحل. وهذا البيت من قصيدة لذي الرّمّة. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٩٧.

٣٥٧

لا نسب اليوم ولا خلّة

اتّسع الفتق على الرّاتق (١)

وتقول : لا رجل ولا امرأة فيها فتعيد (لا) الأولى كما تقول : ليس عبد الله وليس أخوه فيها فيكون حال الآخرة كحال الأولى وتقول : لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقتحم العقبة). اقلا إذا جعلت (فيها) خبرا ولا رجل فيك راغبا من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد. وقد فصلت بينهما.

وتقول : لا ماء سماء باردا ولا مثله عاقلا من قبل أن المضاف لا يجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر فإذا قلت : لا ماء ولا لبن ثم وصفت اللبن فأنت بالخيار في التنوين وتركه ، فإن جعلت الصفة للماء لم يكن إلا منونا ؛ لأنه لا يفصل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد.

وحكى سيبويه عن العرب : لا كزيد أحدا تنون لأنك فصلت بين (لا) و (أحد).

__________________

(١) قول المصنف وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه معناه أنه يذكر الخبر بعد اسم لا مرفوعا والرافع له لا عند المصنف وجماعة وعند سيبويه الرافع له إن كان اسمها مضافا أو مشبها بالمضاف ، وإن كان الاسم مفردا فاختلف في رافع الخبر فذهب سيبويه إلى أنه ليس مرفوعا بلا وإنما هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ ؛ لأن مذهبه أن لا واسمها المفرد في موضع رفع بالابتداء والاسم المرفوع بعدهما خبر عن ذلك المبتدأ ولم تعمل لا عنده في هذه الصورة إلا في الاسم وذهب الأخفش إلى أن الخبر مرفوع بلا فتكون لا عاملة في الجزءين كما علمت فيهما مع المضاف والمشبه به.

وأشار بقوله والثاني اجعلا إلى أنه إذا أتى بعد لا والاسم الواقع بعدها بعاطف ونكرة مفردة وتكررت لا نحو لا حول ولا قوة إلا بالله يجوز فيهما خمسة أوجه وذلك ؛ لأن المعطوف عليه إما أن يبنى مع لا على الفتح أو ينصب أو يرفع ، فإن بني معها على الفتح جاز في الثاني ثلاثة أوجه

الأول البناء على الفتح لتركبه مع لا الثانية وتكون لا الثانية عاملة عمل إن نحو لا حول ولا قوة إلا بالله.

الثاني النصب عطفا على محل اسم لا وتكون لا الثانية زائدة بين العاطف والمعطوف نحو لا حول ولا قوة إلا بالله ومنه قوله :

لا نسب اليوم ولا خلة

اتسع الخرق على الراقع

انظر شرح ابن عقيل ٢ / ١٢.

٣٥٨

وحكى سيبويه عن العرب : لا كزيد أحد ولا مثله أحد فحمله على الموضع والموضع رفع ، وإن شئت حملته على (لا) فتونته ونصبته ، وإن شئت قلت : لا مثله رجلا على التمييز كما تقول : لي مثله غلاما قال ذو الرمة :

هي الدّار إذ ميّ لأهلك جيرة

ليالي لا أمثالهنّ لياليا (١)

__________________

(١) على أنّ" زائرا" قيل منصوب على تقدير فعل ، أي : لا أرى كعشية اليوم زائرا. وإنما لم يجعل الكاف اسما ل" لا" مضافا إلى العشيّة ويكون زائرا عطف بيان للكاف تبعه على اللفظ أو صفة على طرز البيت الذي قبله ، لأنّ الزّائر غير العشية ، فلما كان الثاني غير الأوّل لعدم صحّة الحمل جعلت" لا" نافية للفعل المقدّر دون كونها نافية للجنس.

وصاحب هذا القيل هو سيبويه ، وهذا نصّه : وأما قول جرير : لا كالعشيّة زائرا ومزورا فلا يكون إلّا نصبا ، من قبل أنّ العشيّة ليست بالزائر ، وإنما أراد لا أرى كالعشيّة زائرا ، كما تقول ما رأيت كاليوم رجلا ، فكاليوم مثل قولك في اليوم لأنّ الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجّب كما قال تالله رجلا ، وسبحان الله رجلا ، إنّما أراد تالله ما رأيت رجلا وسبحان الله ما رأيت رجلا ؛ لكنه يترك إظهار الفعل استغناء ، لأنّ المخاطب يعلم أنّ هذا الموضع إنّما يضمر فيه هذا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه انتهى.

قال الأعلم : اصله لا أرى زائرا ومزورا كزائر العشيّة ومزورها ، فحذف اختصارا للعلم ، كما قالوا : ما رأيت كاليوم رجلا ، أي : كرجل أراه اليوم. ولا تجيزن في هذا رفع الزائر ، لأنّه غير العشيّة ، وليس بمنزلة لا كزيد رجل ، لأنّ زيدا من الرجال انتهى.

وقد نقل أبو العباس ثعلب في" أماليه" قاعدة لحذف الفعل مع الظرف الزمانيّ ، قال : حكى الكسائيّ نزلنا المنزل الذي البارحة ، والمنزل الذي آنفا ، والمنزل الذي أمس. فيقولون في كلّ وقت شاهدوه من قرب ، ويحذفون الفعل وحده كأنّهم يقولون : نزلنا المنزل الذي نزلنا أمس ، والذي نزلناه اليوم ؛ اكتفوا بالوقت من الفعل ، ٧ ذ كان الوقت يدّل على الفعل وهو قريب. ولا يقولون الذي يوم الخميس ، ولا الذي يوم الجمعة.

وكذا يقولون : لا كاليوم رجلا. ولا كالعشيّة رجلا ، ولا كالسّاعة رجلا ، فيحذفون مع الأوقات التي هم فيها. وأباه الفرّاء مع العلم. وهو جائز وأنشد : لا كالعشية زائرا ومزورا وكلّ ما كان فيه الوقت فجائز أن يكون بحذف الفعل معه ، لأنّ الوقت القريب يدل على فعل لقربه. انتهى.

وقد قدّر أبو عليّ الفارسيّ في" المسائل المنثورة" فعلين ، قال : نصب زائرا لأنّ الفعل مقدّر ، فكأن تقديره :لا أرى زائرا ومزورا له كرجل أراه العشيّة. فنصبه على الفعل وحذف ذلك لما في الكلام من الدّلالة عليه.

٣٥٩

قال سيبويه : وأما قول جرير :

لا كالعشيّة زائرا ومزورا

فلا يكون إلا نصبا من قبل أن العشية ليست بالزائر وإنما أراد : لا أرى كالعشية عشية زائرا كما تقول : ما رأيت كاليوم رجلا فكاليوم كقولك : في اليوم.

لأن الكاف ليست باسم وفيه معنى التعجب كما قال : تالله رجلا ، وسبحان الله رجلا ، إنما أراد : تالله ما رأيت رجلا ، ولكنه يترك إظهار الفعل استغناء.

وتقول : لا كالعشية ولا كزيد رجل.

لأن الآخر هو الأول ولأن زيدا رجل وصار : لا كزيد كأنك قلت : لا أحد كزيد ثم قلت : رجل كما تقول : لا مال له قليل ولا كثير على الموضع قال امرؤ القيس :

ويلمها في هواء الجوّ طالبة

ولا كهذا الذي الأرض مطلوب (١)

__________________

ويجوز الرفع هاهنا ، وهو قبيح لأنّ الزّائر ليس هو العشية ، ويجوز رفعه كأنّك أردت كصاحب العشيّة ، فحذفت صاحبا وجعلت العشيّة إذا رفعتهما دلالة على ما حذفت. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٩٣.

(١) على أنّ قوله : " مطلوب" ، عطفت بيان لاسم" لا" المضاف : فإن الكاف اسم مضاف لاسم الإشارة في محل نصب بلا على أنه اسمها ؛ وقد تبعه البيان بالرفع باعتبار أنّ" لا" مع اسمها في محلّ رفع على الابتداء والخبر محذوف ، أي : موجود ونحوه. ويجوز أن يكون مطلوب صفة اسم لا ، ولا يضرّ إضافة الكاف إلى اسم الإشارة ، فإنها بمعنى مثل ، وهي لا تتعرّف بالإضافة إلى المعرفة. هذا محصّل ما قاله الشارح المحقق.

وفيه أنّهم قالوا : إنّ البيان يكون في الجوامد ، والصفة تكون في المشتقّات ، فكيف لا يكون فرق بين البيان والوصف.

وقد أورد سيبويه هذا البيت من باب الوصف لا غير. قال الأعلم : الشاهد فيه رفع" مطلوب" حملا على موضع الكاف ، لأنّها في تأويل مثل وموضعها موضع رفع ، وهو بمنزلة لا كزيد رجل. ولو نصب حملا على اللفظ أو على التمييز لجاز. انتهى.

ونقل ابن السراج في الأصول عن سيبويه أنّ اسم" لا" في مثل هذا محذوف والكاف حرف ، وهذا كلامه :وتقول لا كزيد رجل ، لأنّ الآخر هو الأوّل ولأنّ زيدا رجل ، وصار لا كزيد كأنّك قلت : لا أحد كزيد ثم قلت رجل ، كما تقول لا مال له قليل ولا كثير على الموضع. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٩١.

٣٦٠