الأصول في النحو - ج ١

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »

الأصول في النحو - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن السريّ بن سهل النحوي « ابن السراج »


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣١

وذقت ولمست وجميع ما كان في معاينهن فهو متعد وكذلك حركة الجسم إذا لاقت شيئا كان الفعل من ذلك متعديا نحو : أتيت زيدا ووطئت بلدك ودارك ، وأما قولك : فارقته وقاطعته وباريته وتاركته فإنما معناه : فعلت كما يفعل وساويت بين الفعلين والمساواة إنما تعلم بالتلاقي وتركتك في معنى تاركتك ؛ لأن كل شيء تركته فقد تركك فافهم هذا ، فإن فيه غموضا قليلا (١).

__________________

(١) الأصل في عامل المفعول به أن يذكر ، وقد يحذف إمّا جوازا ، وذلك إذا دلّت عليه قرينة نحو" صديقك" في جواب" من أكرمت؟ ".

وهذا كثير ، نحو قولك" هلّا خيرا من ذلك" أي هلّا تفعل خيرا من ذلك.

ومن ذلك" ادفع الشّرّ ولو إصبعا" أي ولو دفعته إصبعا ومثله تقول لمن قدم : " خير مقدم" ويجوز فيه الرّفع ، ومثله تقول" مبرورا مأجورا". قد يحذف الفعل ويبفى مفعوله لكثرته في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل من ذلك قول ذي الرّمة :

ديار مية إذ ميّ مساعفة

ولا يرى مثلها عجم ولا عرب

كأنه قال : اذكر ديار ميّة ، ومن ذلك قول العرب" كليهما وتمرا" (وفي أمثال الميداني : كلاهما وتمرا ، كلاهما : ةأي زبد وسنام) يريد أعطني كليهما وتمرا.

ومن ذلك قولهم : " كلّ شيء ولا شتيمة حرّ" أي ائت كلّ شيء ، ولا ترتكب شتيمة حرّ ، ومن العرب من يقول : " كلاهما وتمرا" كأنّه قال : كلاهما لي ثابتان وزدني تمرا ، وكلّ شيء قد يقبل ولا ترتكب شتيمة حرّ.

ومما ينتصب في هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهاره ، قوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) (الآية : ١٧١ سورة النساء) " وراءك أوسع لك" والتقدير : انتهوا وأتوا خيرا لكم ، لأنّك حين قلت : انته فأنت تريد أن تخرجه من أمر وتدخله في آخر ، ويجوز في مثل هذا إظهار الفعل ، ومعنى" وراءك أوسع لك" تأخّر تجد مكانا أوسع لك ، ومثله قول ابن الرّقيّات :

لن تراها ولو تأمّلت إلّا

ولها في مفارق الرّأس طيبا

والمعنى : إلّا ورأيت لها طيبا.

ومثله قول ابن قميئة :

تذكّرت أرضا بها أهلها

أخوالها فيها وأعمامها

والمعنى : وتذكّرت أخوالها وأعمامها. انظر معجم القواعد العربية ٢٥ / ٥٩.

١٦١

وقد اختلف النحويون في : (دخلت البيت) هل هو متعد أو غير متعد وإنما التبس عليهم ذلك لإستعمال العرب له بغير حرف الجر في كثير من المواضع وهو عندي غير متعد كما قدمناه وإنك لما قلت : دخلت إنما عنيت بذلك انتقالك من بسيط الأرض ومنكشفها إلى ما كان منها غير بسيط منكشف فالإنتقال ضرب واحد ، وإن اختلفت المواضع و (دخلت) مثل غرت إذا أتيت الغور ، فإن وجب أن يكون (دخلت) متعديا وجب أن يتعدى (غرت) ودليل آخر : أنك لا ترى فعلا من الأفعال يكون متعديا إلا كان مضاده متعديا ، وإن كان غير متعد كان مضاده غير متعد فمن ذلك : تحرك وسكن ، فتحرك غير متعد وسكن غير متعد وأبيض وأسود كلاهما غير متعد وخرج ضد دخل وخرج غير متعد فواجب أن يكون دخل غير متعد وهذا مذهب سيبويه.

قال سيبويه : ومثل : ذهبت الشام دخلت البيت يعني : أنه قد حذف حرف الجر من الكلام وكان الأصل عنده : ذهبت إلى الشام ودخلت في البيت.

هما مستعملان بحروف الجر فحذف حرف الجر من حذفه اتساعا واستخفافا فإذا قلت :ضربت وقتلت وأكلت وشربت وذكرت ونسيت وأحيا وأمات فهذه الأفعال ونحوها هي المتعدية إلى المفعولين نحو : ضربت زيدا وأكلت الطعام وشربت الشراب وذكرت الله واشتهيت لقاءك وهويت زيدا وما أشبه هذا من أفعال النفس المتعدية فهذا حكمه ولا تتم هذه الأفعال المتعدية ولا توجد إلا بوجود المفعول لأنك إن قلت : ذكرت ولم يكن مذكور فهو محال وكذلك. اشتهيت وما أشبهه.

واعلم أن هذا إنما قيل له مفعول به ؛ لأنه لما قال القائل : ضرب وقتل قيل له : هذا الفعل بمن وقع فقال : بزيد أو بعمرو فهذا إنما يكون في المتعدي نحو ما ذكرنا ولا يقال فيما لا يتعدى نحو : قام وقعد لا يقال هذا القيام بمن وقع ولا هذا القعود بمن حل إنما يقال : متى كان هذا القيام وفي أي وقت وأين كان وفي أي موضع والمكان والزمان لا يخلو فعل منهما متعديا كان أو غير متعد فمتى وجدت فعلا حقه أن يكون غير متعد بالصفة التي ذكرت لك ووجدت العرب قد عدته فاعلم أن ذلك اتساع في اللغة واستخفاف وأن الأصل فيه أن يكون متعديا

١٦٢

بحرف جر وإنما حذفوه استخفافا نحو ما ذكرت لك من : ذهبت الشام ودخلت البيت وسترى هذا في مواضع من هذا الكتاب.

وهذه الأفعال المتعدية تنقسم ثلاثة أقسام : منها ما يتعدى إلى مفعول واحد ومنها ما يتعدى إلى مفعولين ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل فأما ما يتعدى إلى مفعول واحد فقد ذكرنا منه ما فيه كفاية ونحن نتبعه بما يتعدى إلى مفعولين وإلى ثلاثة بعد ذكرنا مسائل هذا الباب إن شاء الله.

١٦٣

مسائل من هذا الباب

اعلم أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع ، وذلك لأنها أجناس كمصادرها ألا ترى أنك تقول :بلغني ضربكم زيدا كثيرا وجلوسكم إلى زيد قليلا كان الضرب والجلوس قليلا أو كثيرا وإنما يثنى الفاعل في الفعل ، فإن قلت فإنك تقول : ضربتك ضربتين وعلمت علمتين فإنما ذلك لإختلاف النوعين من ضرب يخالف ضربا في شدته وقلته أو علم يخالف علما كعلم الفقه وعلم النحو كما تقول : عندي تمور إذا اختلفت الأجناس ومع ذلك ، فإن الفعل يدل على زمان فلا يجوز أن تثنيه كما ثنيت المصدر ، وإن اختلفت أنواعه فالفعل لا بد له من الفاعل يليه بعده إما ظاهرا وإما مضمرا ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع لما بينت لك فإذا قلت : الزيدان يقومان فهذه الألف ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع ، وإذا قلت : الزيدون يقومون فهذه الواو ضمير الجمع والنون علامة الرفع ويجوز : قاموا الزيدون ويقومون الزيدون على لغة من قال : أكلوني البراغيث فهؤلاء إنما يجيئون بالألف والنون وبالواو والنون في : يضربان ويضربون وبالألف والواو في : ضربا وضربوا فيقولون : ضربا الزيدان وضربوا الزيدون ليعلموا أن هذا الفعل لإثنين لا لواحد ولا لجميع ولا لإثنين ولا لواحد كما أدخلت التاء في فعل المؤنث لتفصل بين فعل المذكر والمؤنث فكذلك هؤلاء زادوا بيانا ليفرقوا بين فعل الإثنين وبين الواحد والجميع وهذا لعمري هو القياس على ما أجمعوا عليه في التاء من قولهم : قامت هند وقعدت سلمى ولكن هذا أدى إلى إلباس إذ كان من كلامهم التقديم والتأخير فكأن السامع إذا سمع قاموا الزيدون لا يدري هل هو خبر مقدم والواو فيه ضمير أم الواو عمل الجمع فقط غير ضمير وكذلك الألف في (قاما الزيدان) فلهذا وغيره من العلل ما جمع على التاء ولم يجمع على الألف والواو فجاز في كل فعل لمؤنث تقول : فعلت ولا يحسن سقوطها إلا أن تفرق بين الاسم والفعل فإذا بعد منه حسن نحو قولهم : حضر اليوم القاضي امرأة.

١٦٤

وقال أبو العباس رحمه الله : إن التأنيث (١) معنى لازم غير مفارق إذا لزم المعنى لزمت علامته وليس كذا التثنية والجمع ؛ لأنه يجوز أن يفترق الإثنان والجمع فتخبر عن كل واحد منهما على حياله والتأنيث الحقيقي الذي لا يجوز فعله إلا بعلامة التأنيث هو كل مؤنث له ذكر كالحيوان نحو قولك : قامت أمة الله ونتجت فرسك والناقة إلا أن يضطر شاعر فيجوز له حذف العلامة على قبح ، فإن كان التأنيث في الاسم ولا معنى تحته فأنت مخير إن شئت جئت بالتاء لتأنيث اللفظ ، وإن شئت حذفتها.

قال الله عز وجل : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [البقرة : ٢٧٥] (قالوا) ؛ لأن الموعظة والوعظ سواء.

وقال تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧] ؛ لأن الصيحة والصوت واحد أما قوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) [يوسف : ٣٠] فإنما جاء على تقدير جماعة فهو تأنيث الجمع ولا واحد لزمه التأنيث فجمع عليه فلو كان تأنيث الواحد للزمه التاء كما تقول : قامت المسلمات ؛ لأنه على (مسلمة) وتقول : قامت الرجال ؛ لأنه تأنيث الجمع.

واعلم أن الفاعل لا يجوز أن يقدم على الفعل إلا على شرط الابتداء خاصة وكذلك ما قام مقامه من المفعولين الذين لم يسم من فعل بهم فأما المفعول إذا كان الفعل متصرفا فيجوز تقديمه وتأخيره تقول : ضربت زيدا وزيدا ضربت وأكلت خبزا وخبزا أكلت وضربت هند عمرا وعمرا ضربت هند وغلامك أخرج بكرا وبكرا أخرج غلامك وتقول : أشبع الرجلين

__________________

(١) أصل الاسم أن يكون مذكرا والتأنيث فرع عن التذكير ولكون التذكير هو الأصل استغنى الاسم المذكر عن علامة تدل على التذكير ولكون التأنيث فرعا عن التذكير افتقر إلى علامة تدل عليه وهي التاء والألف المقصورة أو الممدودة والتاء أكثر في الاستعمال من الألف ولذلك قدرت في بعض الأسماء كعين وكتف.

ويستدل على تأنيث ما لا علامة فيه ظاهرة من الأسماء المؤنثة بعود الضمير إليه مؤنثا نحو الكتف نهشتها والعين كحلتها وبما أشبه ذلك كوصفه بالمؤنث نحو أكلت كتفا مشوية وكرد التاء إليه في التصغير ككتيفة ويدية. انظر شرح ابن عقيل ٤ / ٩١.

١٦٥

الرغيفان ويكفي الرجلين الدرهمان وتقول : حرق فاه الخل ؛ لأن الخل هو الفاعل وتقول :أعجب ركوبك الدابة زيدا فالكاف في قولك : (ركوبك) مخفوضة بالإضافة وموضعها رفع والتقدير : أعجب زيدا أن ركبت الدابة فالمصدر يجر ما أضيف إليه فاعلا كان أو مفعولا ويجري ما بعده على الأصل فإضافته إلى الفاعل أحسن ؛ لأنه له كقول الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)(١) [البقرة : ٢٥١].

وإضافته إلى المفعول حسنة ؛ لأنه به اتصل وفيه حل تقول : أعجبني بناء هذه الدار وما أحسن خياطة هذا الثوب فعلى هذا يقول : أعجب ركوب الفرس عمرو زيدا أردت : أعجب أن ركب الفرس عمرو زيدا.

فالفرس وعمرو وركب في صلة أن وزيد منتصب ب (أعجب) خارج عن لا لصلة تقدمه إن شئت قبل (أعجب) ، وإن شئت جعلته بين أعجب والركوب وكذلك : عجبت من دق الثوب القصار ، فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفا ولاما امتنعت إضافته فجرى كل شيء على أصله فقلت : أعجب ركوب زيد الفرس عمرا ، وإن شئت قلت : أعجب ركوب الفرس زيد عمرا ولا يجوز أن تقدم الفرس ولا زيدا قبل الركوب لأنهما من صلته فقد صارا منه كالياء والدال من زيد.

__________________

(١) اعلم أن حذف المبتدأ والخبر منه ما سبيله الجواز كما سلف ، ومنه ما سبيله الوجوب وهذا شروع في بيانه (وبعد لو لا) الامتناعية (غالبا) أي في غالب أحوالها وهو كون الامتناع معلقا بها على وجود المبتدأ الوجود المطلق (حذف الخبر حتم) نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة : ٢٥١) ، أي ولو لا دفع الله الناس موجود ، حذف موجود وجوبا للعلم به ، وسد جوابها مسده ، أما إذا كان الامتناع معلقا على الوجود المقيد وهو غير الغالب عليها ، فإن لم يدل على المقيد دليل وجوب ذكره نحو لو لا زيد سالما ما سلم وجعل منه قوله عليه الصّلاة والسّلام : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم» ، وإن دل عليه دليل جاز إثباته وحذفه نحو لو لا أنصار زيد حموه ما سلم. انظر شرح الأشموني على الألفية ١ / ١٠٦.

١٦٦

وتقول : ما أعجب شيء شيئا إعجاب زيد ركوب الفرس عمرو نصبت (إعجاب) ؛ لأنه مصدر وتقديره : ما أعجب شيء شيئا إعجابا مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك :أعجب ؛ لأن معناه : كما أعجب زيدا أن ركب الفرس عمرو.

وتقول : أعجب الأكل الخبز زيد عمرا على ما وصفت لك وعلى ذلك قال الله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) [البلد : ١٤ ـ ١٥] التقدير : أو أن أطعم. لقوله وما أدراك.

وتقول : أعجب بيع طعامك رخصه المشتريه فالتقدير : أعجب أن باع طعامك رخصه الرجل المشتريه.

فالرخص هو الذي باع الطعام وتقول : أعجبني ضرب الضارب زيدا عبد الله رفعت الضرب ؛ لأنه فاعل ب (أعجبني) وأضفته إلى الضارب ونصبت زيدا ؛ لأنه مفعول في صلة الضارب ونصبت عبد الله بالضرب الأول وفاعله (الضارب) المجرور وتقديره : أعجبني أن ضرب الضارب زيدا عبد الله.

وتقول : أعجب إعطاء الدراهم أخاك غلامك أباك نصبت أباك ب (أعجب) وجعلت غلامك هو الذي أعطى الدراهم أخاك.

وتقول : ضرب الضارب عمرا المكرم زيدا أحبّ أخواك نصبت ضرب الأول ب (أحب) وجررت (الضارب) بالإضافة وعديته إلى (عمرو) ونصبت المكرم زيدا بضرب الأول ، فإن أردت أن لا تعديه إلى عمرو قلت : ضرب الضارب المكرم زيدا أحبّ أخواك وهذا كله في صلة الضرب لأنك أضفته إلى الضارب وسائر الكلام إلى قولك (أحب) متصل به.

وتقول : سر دفعك إلى المعطي زيدا دينارا درهما القائم في داره عمرو نصبت القائم (بسر) ورفعت عمرا بقيامه ولو قلت : سرّ دفعك إلى زيد درهما ضربك عمرا كان محالا ؛ لأن الضرب ليس مما يسرّ ولو قلت : وافق قيامك قعود زيد صلح ومعناه أنهما اتفقا في وقت واحد ولو أردت (بوافق) معنى الموافقة التي هي الإعجاب لم يصلح إلا في الآدميين.

١٦٧

باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين

الفعل الذي يتعدى على مفعولين ينقسم إلى قسمين (١) : فأحدهما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر.

والآخر يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فأما الذي يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فقولك : أعطى عبد الله زيدا درهما وكسا عبد الله بكرا ثوبا فهذا الباب الذي يجوز فيه الاقتصار على المفعول الأول ولا بد أن يكون المفعول الأول فاعلا فيه في المعنى بالمفعول الثاني ألا ترى أنك إذا قلت : أعطيت زيدا درهما فزيد المفعول الأول.

والمعنى : أنك أعطيته فأخذ الدرهم والدرهم مفعول في المعنى لزيد وكذلك : كسوت زيدا ثوبا المعنى : أنّ زيدا اكتسى الثوب ولبسه.

والأفعال التي تتعدى إلى مفعول واحد كلها إذا نقلتها من (فعل) إلى (أفعل) كتاب كان من هذا الباب تقول : ضرب زيدا عمرا ثم تقول : أضربت زيدا عمرا أي : جعلت زيدا يضرب

__________________

(١) المتعدي إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، ولا يقتصر في هذا الباب على أحد المفعولين ، يقول سيبويه : وإنّما منعك أن تقتصر على أحد المفعولين ههنا أنّك أردت أن تبيّن ما استقرّ عندك من حال المفعول الأول ، وفائدة هذه الأفعال ظنّ ، أو يقن ، أو كلاهما ، أو تحويل ، فهذه أربعة أنواع : نوع مختصّ بالظن ، ونوع مختصّ باليقين ، ونوع صالح للظن واليقين ، ونوع للتّحويل.

فللأوّل وهو الظن :

" حجا يحجو" و" عدّ" لا للحسبان و" زعم" و" جعل" و" هب" بصيغة الأمر للمخاطب غير متصرّف.

وللثاني وهو اليقين :

" علم" لا لعلمة ، وهي شقّ الشّفة العليا ، و" وجد" و" ألفى" و" درى" و" تعلّم" بمعنى أعلم.

وللثالث وهو الظّن واليقين :

" ظنّ" و" حسب" و" خال" و" وهب" و" ردّ" و" ترك" و" تخذ" و" اتّخذ".

وتنصب هذه الأفعال هي وما يتصرّف منها (إلا : هب وتعلّم فإنّهما لا يتصرّفان) تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. انظر معجم القواعد العربية ٢٥ / ٢٢.

١٦٨

عمرا فعمرو في المعنى مفعول لزيد فهذه هي الأفعال التي يجوز لك فيها الإقتصار على المفعول الأول ؛ لأن الفائدة واقعة به وحده تقول : أعطيت زيدا ولا تذكر ما أعطيته فيكون كلاما تاما مفيدا.

وتقول : أضربت زيدا ولا تقول لمن أضربته.

واعلم أن من الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين في اللفظ وحقه أن يتعدى إلى الثاني بحرف جر إلا أنهم استعملوا حذف خرف الجر فيه فيجوز فيه الوجهان في الكلام.

فمن ذلك قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)(١) [الأعراف : ١٥٥] وسميته زيدا وكنيت زيدا أبا عبد الله ألا ترى أنك تقول : اخترت من الرجال وسميته بزيد وكنيته بأبي عبد الله ومن ذلك قول الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

وقال عمرو بن معد يكرب :

__________________

(١) ما ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر وهي : " أعطى" نحو" أعطى عبد الله زيدا درهما" و" كسا" نحو" كسوت بشرا الثياب الجياد". و" منح" نحو" منحت خالدا كتابا" و" ألبست أحمد قميصا" و" اخترت الرّجال محمّدا" و" سمّيته عمرا" وكنّيت" عمر أبا حفص" و" دعوته زيدا" التي بمعنى سمّيته ، و" أمرتك الخير" و" أستغفر الله ذنبا" وهذا وأمثاله يجوز فيه الاقتصار على المفعول الأول.

ويقول سيبويه في هذا الباب : الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين ، ، فإن شئت اقتصرت على المفعول الأوّل ، ، وإن شئت تعدّى إلى الثاني ، كما تعدّى إلى الأوّل.

وذلك قولك : " أعطى عبد الله زيدا درهما" و" كسوت بشرا الثّياب الجياد" ومن ذلك" اخترت الرّجال عبد الله" ومثل ذلك قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (الآية : ١٥٥ سورة الأعراف) ، وسمّيته زيدا ، وكنّيت زيدا أبا عبد الله ، ودعوته زيدا إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سمّيته ، وإن عنيت الدّعاء إلى أمر يجاوز مفعولا واحدا.

ومنه قول الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

انظر معجم القواعد العربية ٢٥ / ٢٦.

١٦٩

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

أراد : استغفر الله من ذنب وأمرتك بالخير ومن ذلك : دعوته زيدا إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته ، وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحدا فأصل هذا دخول الباء فإذا حذف حرف الجر عمل الفعل ومنه : نبئت زيدا تريد : عن زيد وأنشد سيبويه في حذف حرف الجر قول المتلمس :

آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

والحبّ يأكله في القرية السّوس

وقال : تريد على حب العراق. وقد خولف في ذلك.

قال أبو العباس : إنما هو : آليت أطعم حب العراق ، أي : لا أطعم.

كما تقول : والله أبرح هاهنا أي : لا أبرح.

وخالفه أيضا في نبّأت زيدا فقال : زيدا معناه : أعلمت زيدا ونبّأت زيدا معناه : أعملت زيدا.

واعلم أنه ليس كل فعل يتعدى بحرف جر لك أن تحذف حرف الجر منه وتعدي الفعل إنما هذا يجوز فيما استعملوه وأخذ سماعا عنهم ومن ذلك قول الفرزدق :

منا الّذي أختير الرّجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع

والقسم الثاني : وهو الذي يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر هذا الصنف من الأفعال التي تنفذ منك إلى غيرك ولا يكون من الأفعال المؤثرة وإنما هي أفعال تدخل على المبتدأ والخبر فتجعل الخبر يقينا أو شكا ، وذلك قولك : حسب عبد الله زيدا بكرا وظن عمرو خالدا أخاك وخال عبد الله زيدا أباك وعلمت زيدا أخاك ومثل ذلك : رأى عبد الله زيدا صاحبنا إذا لم ترد رؤية العين.

ووجد عبد الله زيدا ذا الحفاظ إذا لم ترد التي في معنى وجدان الضالة.

ألا ترى أنك إذا قلت : ظننت عمرا منطلقا فإنما شكك في إنطلاق عمرو لا في عمرو وكذلك إذا قلت : علمت زيدا قائما فالمخاطب إنما استفاد قيام زيد لا زيدا ؛ لأنه يعرف زيدا كما

١٧٠

تعرفه أنت والمخاطب والمخاطب في المفعول الأول سواء وإنما الفائدة في المفعول الثاني كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر لا في المبتدأ فلما كانت هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ والخبر والفائدة في الخبر والمفعول الأول هو الذي كان مبتدأ والمفعول الثاني هو الذي كان الخبر بقي موضع الفائدة على حاله.

واعلم أن كل فعل متعد لك ألّا تعديه وسواء عليك أكان يتعدى إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين أو إلا ثلاثة لك أن تقول : ضربت ولا تذكر المضروب لتفيد السامع أنه قد كان منك ضرب.

وكذلك ظننت يجوز أن تقول : ظننت وعلمت إلى أن تفيد غيرك ذلك.

واعلم أن ظننت وحسبت وعلمت وما كان نحوهن لا يجوز أن يتعدى واحد منها إلى أحد المفعولين دون الآخر لا يجوز : ظننت زيدا وتسكت حتى تقول : (قائما) وما أشبه.

من أجل أنه إنما يدخل على المبتدأ والخبر فكما لا يكون المبتدأ بغير خبر كذلك : (ظننت) لا تعمل في

المفعول الأول بغير مفعول ثان.

فأما قولهم : ظننت ذاك فإنما جاز السكوت عليه ؛ لأنه كناية عن الظن يعني المصدر فكانه قال : ظننت ذاك الظن فـ (ذاك) : إشارة إلى المصدر تعمل الظن فيه كما تعمل الأفعال التي لا تتعدى في المصدر إذا قلت : قمت قياما ويجوز إذا لم تعد : ظننت أن تقول : ظننت به تجعله موضع ظنك كما تقول : نزلت به ويجوز لك أن تلغي الظن إذا توسط الكلام أو تأخر ، وإن شئت أعملته تقول : زيد ظننت منطلق وزيد منطلق ظننت فتلغي الظن إذا تأخر ولا يحسن الإلغاء إلا مؤخرا فإذا ألغيت فكأنك قلت : زيد منطلق في ظني ولا يحسن أن تلغيه إذا تقدم.

١٧١

مسائل من هذا الباب

تقول : ظننته أخاك قائما تريد : ظننت الظن فتكون الهاء كناية عن الظن كأنك قلت :ظننت أخاك قائما الظن ثم كنيت عن الظن وأجاز بعضهم : ظننتها أخاك قائما يريد : الظنة وكذلك إن جعلت الهاء وقتا أو مكانا على السعة تقول : ظننت زيدا منطلقا اليوم ثم تكني عن اليوم فتقول : ظننت زيدا منطلقا فيه ثم تحذف حرف الجر على السعة فتقول : ظننته زيدا منطلقا تريد : ظننت فيه والمكان كذلك وإذا ولي الظن حروف الاستفهام وجوابات القسم بطل في اللفظ عمله وعمل في الموضع تقول : علمت أزيد في الدار أم عمرو وعلمت إن زيدا لقائم وأخال لعمرو أخوك وأحسب ليقومن زيد ومن النحويين من يجعل ما ولا كـ (أن) واللام في هذا المعنى فيقول : أظن ما زيد منطلقا وأحسب لا يقوم زيد ؛ لأنه يقول : والله ما زيد محسنا وو الله لا يقوم وزيد.

وتقول : ظننته زيد قائم تريد ظننت الأمر والخبر وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول.

وتقول ظننته هند قائمة فتذكر لأنك تريد الأمر والخبر وظننته تقوم هند ويجوز في القياس : ظننتها زيد قائم تريد : القصة ولا أعلمه مسموعا من العرب.

فأما الكوفيون فيجيزون تأنيث المجهول وتذكيره إذا وقع بعده المؤنث يقولون : ظننته هند قائمة وظننتها هند قائمة وتقول : ظننته قائم زيد والهاء كناية عن المجهول.

والكوفيون يجيزون إذا ولي هذه الهاء فعل دائم النصب فيقولون : ظننته قائما زيد ولا أعرف لذلك وجها في القياس ولا السماع من العرب وتقول : زيد أظنّ منطلق فتلغي (أظنّ) كما عرفتك.

وتقول : خلفك أحسب عمرو قام وقائم أظن زيد فتلغي ، وإن شئت أعملت والكوفيون لا يجيزون إذا تقدمه ماض أو مستقبل أن يعملوا.

ويجيزون أن يعمل إذا تقدمه اسم أو صفة والإلغاء عندهم أحسن.

قال أبو بكر ، وذلك عندنا سواء.

١٧٢

قال الشاعر :

أبا الأراجيز يا ابن اللّؤم توعدني

وفي الأراجيز خلت اللوم والخور (١)

فألغى : (خلت) ويلغي المصدر كما يلغي الفعل وتقول : عبد الله ظني قائم وفي ظني وفيما أظن وظنا مني فهذا يلغي وهو نصب تريد : أظن ظنا ، وإذا قلت : في ظني (ففي) من صلة كلامك جعلت ذلك فيما تظن.

وحكي عن بعضهم : أنه جعله من صلة خبر عبد الله ؛ لأن قيامه فيما يظن وتقول : ظننت زيدا طعامك آكلا وطعامك ظننت زيدا آكلا.

ولا يجوز : ظننت طعامك زيدا آكلا من حيث قبح : كانت زيدا الحمّى تاخذ وهذه المسألة توافق : كانت زيدا الحمى تأخذ من جهة وتخالفها من جهة أما الجهة التي تخالفها ، فإن (كانت) خالية من الفاعل وظننت معها الفاعل والفعل لا يخلو من الفاعل.

__________________

(١) يعتري هذه الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أمران :

أوّلهما : الإلغاء ، والثاني : التّعليق.

فالإلغاء إبطال تعدّيهما إلى مفعولين لفظا ومحلّا ، إمّا بتدّم العامل ، أو بتوسّطه ، أو بتأخّره.

فالأوّل نحو : " ظننت زيدا قائما" ويمتنع الرفع عند البصريين ، ويقبح ، ويجب عندهم نصب الجزأين : " زيد وقائم وهو الصحيح ، ويجوز عند الكوفيين والأخفش ولكنّ الإعمال عندهم أحسن أمّا قول بعض بني فزارة :

كذاك أدّبت حتى صار من خلقي

إني وجدت ملاك الشيمة الأدب

فالرّواية الصّحيحة نصب ملاك والأدب كما في الحماسة.

والثاني : ويجوز بلا قبح ولا ضعف في توسّط العامل نحو" زيدا ظننت قائما" والإعمال أقوى ، ومن توسّط العامل قول اللّعين المنقري أبو الأكيدر يهجو العجّاج :

أبا الأراجيز يابن اللّؤم توعدني

وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور

والاصل : اللؤم الخورا ، والمفعول الثاني متعلّق وفي الأراجيز ومثله في تأخير العامل تقول : " عمرو آت ظننت" يجوز الإلغاء ، والإعمال ، ولكنّ الإلغاء هنا أقوى من إعماله ؛ لأنه كما يقول سيبويه إنما يجيئ بالشّك ، بعد ما يمضي كلامه على اليقين ومن التأخير قول أبي أسيدة الدّبيري :

هما سيّدانا يزعمان وإنّما

يسوداننا إن أيسرت غنماهما

انظر معجم القواعد العربية ٢٥ / ٢٣.

١٧٣

والتفريق بينه وبين الفاعل أقبح منه بينه وبين المفعول.

والذي يتفقان فيه أن (كان) تدخل على مبتدأ وخبر وظننت ما عملا فيه بما لم يعملا فيه.

فإن أعملت : (ظننت) في مجهول جاز كما جاز في (كان) ورفعت زيدا وخبره فقلت : ظننته طعامك زيدا آكل ويجوز : ظننته آكل زيد طعام ويجوز في قول الكوفيين نصب آكل.

وقد أجاز قوم من النحويين : ظننت عبد الله يقوم وقاعدا وظننت عبد الله قاعدا ويقوم.

ترفع (يقوم) وأحدهما نسق على الآخر.

ولكن إعرابهما مختلف وهو عندي قبيح من أجل عطف الاسم على الفعل والفعل على الاسم ؛ لأن العطف أخو التثنية فكما لا يجوز أن ينضم فعل إلى اسم في تثنية كذلك لا يجوز في العطف ألا ترى أنك إذا قلت : زيدان فإنما معناه : زيد وزيد فلو كانت الأسماء على لفظ واحد لاستغني عن العطف.

وإنما احتيج إلى العطف لإختلاف الأسماء تقول : جاءني زيد وعمرو لما اختلف الاسمان ولو كان اسم كل واحد منهما عمرو لقلت : جاءني العمران فالتثنية نظير العطف ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول : جاءني زيد وزيد فحق الكلم التي يعطف بعضها على بعض أن يكون متى اتفقت ألفاظها جاز تثنيتها وما ذكروا جائز في التأويل لمضارعة (يفعل) لفاعل وهو عندي قبيح لما ذكرت لك.

وتقول : ظن ظانا زيدا أخاك عمرو تريد : ظن عمرو ظانا زيدا أخاك رفعت عمرا وهو المفعول الأول إذ قام مقام الفاعل ونصبت (ظانا) ؛ لأنه المفعول الثاني فبقي على نصبه.

ويجوز أن ترفع ظانا وتنصب عمرا فتقول : ظن ظان زيدا أخاك عمرا كأنك قلت : ظن رجل ظان زيدا أخاك عمرا فترفع (ظانا) بأنه قد قام مقام الفاعل وتنصب زيدا أخاك به وتنصب عمرا ؛ لأنه مفعول (ظن).

وهو خبر ما لم يسم فاعله وتقول : ظن مظنون عمرا زيدا.

١٧٤

كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمرا زيدا فترفع (مظنون) بأنه قام مقام الفاعل وفيه ضمير رجل والضمير مرتفع ب (مظنون) وهو الذي قام مقام الفاعل في مظنون وعمرا منصوب ب (مظنون) وزيدا منصوب ب (ظن).

وتقول : ظن مظنون عمرو أخاه زيدا كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمرو أخاه زيدا و (مظنون) في هذا وما أشبهه من النعوت يسميه الكوفيون خلفا يعنون أنه خلف من اسم.

ولا بد من أن يكون فيه راجع إلى الاسم المحذوف.

والبصريون يقولون : صفة قامت مقام الموصوف والمعنى واحد فيرفع (مظنون) بأنه قام مقام الفاعل وهو ما لم يسم فاعله وترفع عمرا ب (مظنون) ؛ لأنه قام مقام الفاعل في مظنون.

ونصبت أخاه ب (مظنون) ورجعت الهاء إلى الاسم الموصوف الذي (مظنون) خلف منه ونصبت زيدا ب (ظن) فكأنك قلت : ظن رجل زيدا ولو قتل : ظن مظنون عمرو أخاك زيدا لم يجز ؛ لأن التأويل : ظن رجل مظنون عمرو أخاك زيدا فـ (مظنون) صفة لرجل ولا بد من أن يكون في الصفة أو فيما تشبثت به الصفة ما يرجع إلى رجل.

وليس في هذه المسألة ما يرجع إلى رجل فمن أجل ذلك لم يجز ويجوز في قول الكوفيين : ظن زيد قائما أبوه على معنى أن يقوم أبوه.

ولا يجيز هذا البصريون ؛ لأنه نقض لباب (ظن) وما عليه أصول الكلام وإنما يجيز هذا الكوفيون فيما عاد عليه ذكره.

وينشدون :

أظنّ ابن طرثوث عتيبة ذاهبا

بعاديتي تكذابه وجعائله

١٧٥

باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين (١)

اعلم أن المفعول الأول في هذا الباب هو الذي كان فاعلا في الباب الذي قبله فنقلته من فعل إلى (أفعل) فصار الفاعل مفعولا وقد بينت هذا فيما تقدم تقول رأى زيد بشرا أخاك فإذا نقلتها إلى (أفعل) قلت : أرى الله زيدا بشرا أخاك وأعلم الله زيدا بكرا خير الناس.

وقد جاء (فعلت) في هذا النحو تقول : نبأت زيدا عمرا أبا فلان ولا يجوز الإلغاء في هذا الباب كما جاز في الباب الذي قبله لأنك إذا قلت : علمت وظننت وما أشبه ذلك فهي أفعال غير واصلة فإذا قلت : (أعلمت) كانت واصلة فمن هنا حسن الإلغاء في (ظننت وعلمت) ولم يجز إلغاء : (علمت) لأنك إذا (ظننت) فإنما هو شيء وقع في نفسك لا شيء فعلته.

وإذا قلت : (أعلمت) فقد أثرت أثرا أوقعته في نفس غيرك.

ومع ذلك فإن : (ظننت وعلمت) تدخلان على المبتدأ والخبر فإذا ألغينا بقي الكلام تاما مستغنيا بنفسه تقول : زيدا ظننت منطلقا فإذا ألغيت : (ظننت) بقي زيد ومنطلق فقلت : زيد منطلق ثم تقول (ظننت) والكلام مستغن والملغى نظير المحذوف فلا يجوز أن يلغى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غير تام ولو ألغيت : (أعلمت ورأيت) من قولك : أريت زيدا بكرا خير الناس وأعلمت بشرا خالدا شر الناس والملغى كالمحذوف لبقي زيد بكر خير الناس فزيد بغير خبر والكلام غير مؤتلف ولا تام.

__________________

(١) ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل وهو سبعة أحدها أعلم المنقولة بالهمزة من علم المتعدية لاثنين تقول أعلمت زيدا عمرا فاضلا.

الثاني أرى المنقولة بالهمزة من رأى المتعدية لاثنين نحو أريت زيدا عمرا فاضلا بمعنى أعلمته قال الله تعالى (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) فالهاء والميم مفعول أول و (أعمالهم) مفعول ثان و (حسرات) مفعول ثالث.

والبواقي ما ضمّن معنى أعلم وأرى المذكورتين من أنبأ ونبّأ وأخبر وخبّر وحدّث تقول أنبأت زيدا عمرا فاضلا بمعنى أعلمته وكذلك تفعل في البواقي وإنما أصل هذه الخمسة أن تتعدى لاثنين إلى الأول بنفسها وإلى الثاني بالياء أو عن نحو (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) وقد يحذف الحرف نحو (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) انظر شرح شذور الذهب ١ / ٤٨٤.

١٧٦

واعلم أن هذه الأفعال المتعدية كلها ما تعدى منها إلى مفعول وما تعدى منها إلى اثنين وما تعدى منها إلى ثلاثة إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين فلم يكن بعد ذلك متعدي تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعول من المصدر والظرفين والحال ، وذلك قولك : أعطى عبد الله زيدا المال إعطاء جميلا وأعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين إعلاما لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدى.

١٧٧

مسائل من هذا الباب

تقول : سرقت عبد الله الثوب الليلة فتعدى (سرقت) إلى ثلاثة مفعولين على أن لا تجعل (الليلة) ظرفا ولكنك تجعلها مفعولا على السعة في اللغة كما تقول : يا سارق الليلة زيدا الثوب.

فتضيف (سارقا) إلى الليلة وإنما تكون الإضافة إلى الأسماء لا إلى الظروف وكذلك حروف الجر إنما تدخل على الأسماء لا على الظروف فكل منجر بجار عامل فيه فهو اسم وتقول : أعلمت زيدا عمرا هند معجبها هو.

كان أصل الكلام : علم زيدا عمرا هند معجبها هو.

فزيد مرفوع ب (علم) وعمرو منصوب بأنه المفعول الأول وهند مرتفعة بالابتداء (ومعجبها) هو الخبر و (هو) هذه كناية عن عمرو وراجعة إليه فلم يجز أن تقول : معجبها ولا تذكر (هو) ؛ لأن أسماء الفاعلين إذا جرت على غير من هي له لم يكن بد من إظهار الفاعل.

وقد بينا هذا فيما تقدم (وهند) وخبرها الجملة بأسرها قامت مقام المفعول الثاني وموضعها نصب فإذا نقلت (علم) إلى (أعلمت) صار زيد مفعولا فقلت : أعلمت زيدا عمرا هند معجبها هو ، فإن قيل لك أكن عن (هند معجبها هو).

قلت : أعلمت زيدا عمرا إياه ؛ لأن موضع الخبر نصب.

وهذا إذا كنيت عن معنى الجملة لا عن الجملة وتقول : أعلمته زيدا أخاك قائما تريد :أعلمت العلم فتكون الهاء كناية عن المصدر كما كانت في (ظننته زيدا أخاك) ، فإن جعلت الهاء وقتا أو مكانا على السعة جاز كما كان في (ظننته) وقد فسرته في باب مسائل (ظننت).

ومن قال : (ظننته زيد قائم) فجعل الهاء كناية عن الخبر والأمر وهو الذي يسميه الكوفيون المجهول لم يجز له أن يقول في (أعلمت زيدا عمرا خير الناس) أعلمته زيدا عمرو خير الناس لما خبرتك به من أنه يبقى زيد بلا خبر وإنما يجوز ذلك في الفعل الداخل على المبتدأ والخبر فلا يجوز هذا في (أعلمت) كما لا يجوز الإلغاء لأنك تحتاج إلى أن تذكر بعد الهاء خبرا

١٧٨

تاما يكون هو بجملته تلك الهاء والأفعال المؤثرة لا يجوز أن يضمر فيها المجهول إنما تذكر المجهول مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر ونحو : كان وظننت وأن وما أشبه ذلك ألا ترى أن تأويل ظننته زيد قائم ظننت الأمر والخبر زيد قائم وكذلك إذا قلت : إنّه زيد قائم فالتأويل : أن الأمر زيد قائم وكذلك : كان زيد قائم إذا كان فيها مجهول التأويل كان الأمر زيد قائم ولا يجوز أن تقول : أعلمت الأمر ولا أريت الأمر هو ممتنع من جهتين : من جهة أن زيدا يكون بغير خبر يعود إليه ولو زدت في المسألة أيضا ما يرجع إليه ما جاز من الجهة الثانية.

وهي أنه لا يجوز : أعلمت الخبر خبرا إنما يعلم المستخبر وتقول : أعلمت عمرا زيدا ظانا بكرا أخاك كأنك قلت : أعلمت عمرا زيدا رجلا ظانا بكرا أخاك.

فإن رددت إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم عمرو زيدا ظانا بكرا أخاك ولك أن تقيم (زيدا) مقام الفاعل وتنصب عمرا فتقول : أعلم زيد عمرا ظانا بكرا أخاك ولا يجوز : أعلم ظان بكرا أخاك عمرا زيدا.

من أجل أن حق المفعول الثالث أن يكون هو الثاني في المعنى إذ كان أصله المبتدأ والخبر وقد تقدم تفسير ذلك ، فإن كان عمرو هو زيد له إسمان جاز وجعلته هو على أن يغني غناه ويقوم مقامه كما تقول : زيد عمرو أي : أن أمره وهو يقوم مقامه جاز وإلا فالكلام محال ؛ لأن عمرا لا يكون زيدا.

١٧٩

شرح الثالث : وهو المفعول فيه

المفعول فيه (١) ينقسم على قسمين : زمان ومكان أما الزمان ، فإن جميع الأفعال تتعدى إلى كل ضرب منه معرفة كان أو نكرة ، وذلك أن الأفعال صيغت من المصادر بأقسام الأزمنة كما بينا فيما تقدم فما نصب من أسماء الزمان فانتصابه على أنه ظرف وتعتبره بحرف الظرف أعني (في) فيحسن معه فتقول : قمت اليوم وقمت في اليوم فأنت تريد معنى (في) ، وإن لم تذكرها ولذلك سميت إذا نصبت ظروفا لأنها قامت مقام (في) ألا ترى أنك إذا قلت : قمت اليوم ثم قيل لك : أكن عن اليوم قلت : قمت فيه وكذلك : يوم الجمعة ويوم الأحد والليلة وليلة السبت وما أشبه ذلك وكذلك : نكراتها نحو قولك : قمت يوما وساعة وليلة وعشيا وعشية وصباحا ومساء.

فأما سحر إذا أردت به سحر يومك وغدوة وبكرة هذه الثلاثة الأحرف فإنها لا تتصرف تقول : جئتك اليوم سحر وغدوة وبكرة يا هذا وسنذكرها في موضعها فيما يتصرف وما لا يتصرف إن شاء الله.

__________________

(١) قال ابن هشام : المفعول فيه وهو ما ذكر فضلة لأجل أمر وقع فيه من زمان مطلقا أو مكان مبهم أو مفيد مقدارا أو مادّته مادّة عامله ك صمت يوما أو يوم الخميس وجلست أمامك وسرت فرسخا وجلست مجلسك والمكانيّ غيرهنّ يجرّ بفي ك صلّيت في المسجد ونحو قالا خيمتي أمّ معبد وقولهم دخلت الدّار على التّوسّع

وأقول الرابع من المنصوبات الخمسة عشر المفعول فيه ويسمى الظرف وهو عبارة عما ذكرت

والحاصل أن الاسم قد لا يكون ذكر لأجل أمر وقع فيه ولا هو زمان ولا مكان وذلك كزيدا في ضربت زيدا وقد يكون إنما ذكر لأجل أمر وقع فيه ولكنه ليس بزمان ولا مكان نحو رغب المتقون أن يفعلوا خيرا ، فإن المعنى في أن يفعلوا وعليه في أحد التفسيرين قوله تعالى (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) وقد يكون العكس نحو (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) ونحو (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) ونحو (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فهذه الأنواع لا تسمى ظرفا في الاصطلاح بل كلّ منها مفعول به وقع الفعل عليه لا فيه يظهر ذلك بأدنى تأمّل للمعنى وقد يكون مذكورا لأجل أمر وقع فيه وهو زمان أو مكان فهو حينئذ منصوب على معنى في وهذا النوع خاصة هو المسمى في الاصطلاح ظرفا وذلك كقولك صمت يوما أو يوم الخميس وجلست أمامك. انظر شرح شذور الذهب ١ / ٢٩٩.

١٨٠