الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

ويكشف ما يكون ، والكتاب الدالّ عليه يسجّل للواقع وحسب! لا يجعل السماء أرضاً ولا الجماد حيواناً ، إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقص ولا أثر لها في سلب أو إيجاب.

إنّ هذه الأوهام (التقدير سالب للاختيار) تكذيب للقرآن والسنّة ، فنحن بجهدنا وكدحنا ننجو أو نهلك ، والقول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك وأنّه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً هذا كلّه تضليل وإفك ، لقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها). (١) (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (٢)

والواقع انّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة ، بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة ، ومن ثمّ فإنّنا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم وغيره : انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ...».

إلى أن قال : وكلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمّد لدين الله ودنيا الناس ، وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهوِّنون من الإرادة البشرية ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله وكأنّهم يقولون للناس أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه ، فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من الخط المرسوم لكم مهما بذلتم.

إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا ، ولا اقتداء

__________________

(١) الأنعام : ١٠٤.

(٢) الكهف : ٢٩.

٨١

دقيقاً بسنّة نبينا انّه تخليط قد جنينا منه المرّ.

وكل أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه ، فحقائق الدين الثابتة بالعقل والنقل لا يهدّها حديث واهي السند أو معلول المتن ، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا تنسى إنّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد وجزر وصعود وهبوط ، والسفينة تحكمها الأمواج ، ولا تحْكم الأمواجَ ، ويعني هذا انّ نُلْزم موقفاً محدداً بإزاء الأوضاع المتغيرة التي تمرّ بنا هذا الموقف من صنعنا وبه نحاسب. (١)

__________________

(١) السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث للشيخ الغزالي : ١٤٤ ـ ١٥٧.

٨٢

الشبهة الثالثة

 الهداية والضلالة بيد الله

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، فإذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (١)

فإذا كانت الهداية والضلالة بيد الله سبحانه فما معنى الاختيار؟

على هامش الشبهة

هذه هي الشبهة أو الاستدلال على القول بالجبر ولكن الإجابة عليها ليست أمراً مشكلاً بشرط أن نقف على أنّ الهداية على أقسام ، ونميز الهداية العامّة التي عليها تبتني مسألة الجبر والاختيار والهداية الخاصة التي مفتاحها بيد الإنسان ، وإليك التفصيل :

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

٨٣

١. الهداية التكوينية العامّة

والمراد منها خلق كلّ شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها : قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى ـ عليه‌السلام ـ : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) ، وجهز كلّ موجود بجهاز يوصله إلى الكمال ، فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته ، فالحبة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة ، ومثله الحيوان والإنسان فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.

قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). (٢)

وقال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (٣)

وقال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). (٤)

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي تنبع من ذات الشيء بما أودع الله فيها من الأجهزة والالهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة من غير فرق بين المؤمن والكافر ، فقوله سبحانه عام يعمّ مجموع البشر مؤمنه وكافره (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (٥)

__________________

(١) طه : ٥٠.

(٢) الأعلى : ٣١.

(٣) البلد : ١٠٨.

(٤) الشمس : ٨٧.

(٥) الروم : ٣٠.

٨٤

ففطرة كلّ إنسان تهديه إلى التوحيد ونبذ الشرك ، ومن أجهزة الهداية التكوينية ، العقل الموهوب للإنسان المرشد له إلى معالم الخير والصلاح. وهذا النوع من الهداية العامة لكلّ موجود فضلا عن الإنسان.

٢. الهداية التشريعية العامّة

المقصود من الهداية العامة التشريعية هو بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الناس ، وهذا الفرع من الهداية يشمل عامّة البشر ، ولا يختص بطائفة دون أُخرى ، قال سبحانه :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (١)

فالآية بظاهرها تثبت الهداية العامة لكافة البشر.

٣. الهداية الخاصة

وهناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءُوا بنور الهداية العامة ، تكوينيّها وتشريعيّها فيقعون مورداً للعناية الإلهية ، فمن اقتفى أثر الأنبياء وعمل بكتابهم يصلح لأن تشمله هداية خاصة وهو تسديده في مزالق الحياة إلى سبيل النجاة.

كما أنّ من لم يستضئ بنور الهداية التشريعية العامة يحرم من تلك الهداية الخاصّة ، وهذا النوع من الهداية بيد الله تعالى وإليه يشير قوله سبحانه : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٢) ولكن شموله

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

(٢) النحل : ٩٣.

٨٥

لطائفة دون أُخرى ليس اعتباطياً ، بل تشمل من استضاء بالهدايتين الأُوليين فتعمه هذه الهداية الخاصة ، كما أنّ من أعرض عنهما يحرم منها وتكون النتيجة خذلانه في الحياة ، وهذا النوع من الهداية تابع لملاكات خاصة (١) فيشير إليها سبحانه عند البحث عنهما ، يقول :

١. (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ).

فهذه الهداية هداية تشريعية خاصة ولا تشمل إلاّ لمن وُصف بالانابة والتوجّه إلى الله كما يقول (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ، وبما ذكرنا يتّضح معنى كثير من الآيات الباحثة عن الهداية ويصفها بأنّها بيد الله يضلّ ويهدي ، ولكن يهدي من اكتسب لنفسه أهلية خاصة لشمولها ويحرم منها من حرم نفسه عن الهدايتين الأُوليين ، وإليك باقي الآيات :

وقال سبحانه : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (٢)

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٣) فمن أراد وجه الله سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). (٤)

وقال سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً). (٥)

وكما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهبِّ العناية الخاصّة ،

__________________

(١) وهذه الملاكات كما تشير إليها الآيات التالية عبارة عن الإنابة ، والجهاد والاهتداء في أمر الهداية ومقابلاتها في أمر الضلالة.

(٢) الشورى : ١٣.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) محمد : ١٧.

(٥) الكهف : ١٣ و ١٤.

٨٦

علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال وبمعنى الحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (١)

وقال سبحانه : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (٢)

وقال سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ). (٣)

وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ). (٤)

وقال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (٥)

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية والتوفيق الخاص ، لأنّهم كانوا ظالمين وفاسقين. كافرين ومنحرفين عن الحقّ. وبالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلاّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة وحرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والاختيار ، عامة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها. وأمّا الهداية الخاصة والعناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الأُولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على

__________________

(١) الجمعة : ٥.

(٢) إبراهيم : ٢٧.

(٣) البقرة : ٢٦.

(٤) النساء : ١٦٨ و ١٦٩.

(٥) الصف : ٥.

٨٧

مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.

أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكلّ مكلّف بل بكل إنسان ، وأمّا الهداية الخاصة فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ولم تكن مشيئته ، مشيئة جزافية ، بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية ، لأنّه قد استفاد من الهدايتين : التكوينية والتشريعية العامتين ، فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، يذيّله بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، مشعراً بأنّ الإضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة ، فهذا استحقّ الإضلال وذاك استحق الهداية.

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

٨٨

٥

هل الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان؟

إنّ الإيمان بالقدر من المعارف القرآنية وقد ورد في غير واحد من الآيات.

قال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (١)

وقال عزّ اسمه : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). (٢)

فالكون وما فيه ، خُلِق عن علم وتقدير ، فقُدِّر كلّ شيء بما له من الصفات والخصوصيات ، والمقادير والأشكال قبل وقوعها ، وسُجِّل ذلك في كتاب خاص ، قال سبحانه : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (٣)

وقال عزّ شأنه : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (٤)

وقال في المصائب التي تحدث في الأرض وما يواجهه الإنسان من خير و

__________________

(١) القمر : ٤٩.

(٢) الفرقان : ٢.

(٣) يونس : ٦١.

(٤) الأنعام : ٥٩.

٨٩

شر : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (١)

فالمصائب قدرت من حيث الخصوصيات وقضى عليها بالوجود ، في كتاب قبل أن يُخلق الكون وما فيه.

لكن الكلام في أنّ الإيمان بالقدر هل هو ركن من الأركان ، كما عليه أكثر أهل السنّة فيكون الإيمان به في جنب الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ويوم ميعاده ، أو هو أصل ومعرفة قرآنية كسائر المعارف الواردة في الكتاب العزيز؟ والظاهر هو الثاني ، وأمّا الأوّل فلا دليل عليه ، إذ كون شيء معدوداً من المعارف القرآنية غير كونه ركناً من أركان الإيمان ، إذ رب معرفة وردت في القرآن ، وليست ركناً من الإيمان ، كالحياة البرزخية ، والشفاعة ، والتوبة ، ومع ذلك فليست من أركان الإيمان.

ولو كان ركناً من الأركان لجاءت الإشارة إليه في ثنايا الآيات المشيرة إلى أركان الإيمان كقوله سبحانه : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ). (٢)

وقال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (٣)

فقد جاء فيهما أركان الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولم ترد فيهما أية إشارة إلى الإيمان بالقدر ، فلو كانت له هذه المنزلة ، لما أهملها

__________________

(١) الحديد : ٢٢.

(٢) البقرة : ١٧٧.

(٣) البقرة : ٢٨٥.

٩٠

الذكر الحكيم.

وأظنّ انّ الغلو في القدر جاء من قبل الأحبار والرهبان ، وعدّ من أركان الإيمان في عصر الأمويين ، وقد أحصا الأحاديث الواردة فيه ابن الوزير اليمني (١). فبلغت ٢٢٧ حديثاً ، منها ٧٢ حديثاً في وجوب الإيمان بالأقدار ، و ١٥٥ حديثاً في ثبوتها. (٢)

وقد تفلسف بعضهم في عدّه من أركان الإيمان من أنّ الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان بالله ، بل جزء حقيقي منه ، لأنّ معناه الإيمان باحاطة علم الله تعالى بكلّ شيء وشمول إرادته لكلّ ما يقع من الكون ونفوذ قدرته في كلّ. (٣)

أقول : لو كان السرّ في عدّه من أركان الإيمان ، كونه تعبيراً آخر عن إحاطة علمه وشمول إرادته لكلّ شيء ، فلما ذا عدل عن المعنى الواضح إلى المعنى المبهم الذي لا ينتقل إلى ما ذكره إلاّ العلماء. فمقتضى البلاغة أن تُعدّ إحاطة علمه وشمول إرادته لكلّ شيء من أركان الإيمان.

ومن قرأ تاريخ نشوء فكرة القدر ، وانتشاره بين المحدّثين ، يقف على أنّ إكبار القدر وجعله من أركان الإيمان ، كان سياسة أموية ، لأجل تبكيت الناس وكبح جماحهم ، والحط من مظاهراتهم أمام أعمال السلطة ، ولا أظن أنّ معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، كانا ينكران سعة علمه ، أو إرادته سبحانه حتّى ذهب الثاني ضحيّة جهاده ، ومكافحته مع الظالمين وقُتل بفتوى فقيه السلطة «الأوزاعي».

__________________

(١) تقرأ ترجمة ضافية له في كتابنا «الزيدية في موكب التاريخ».

(٢) نقله عنه مؤلّف الإيمان بالقدر.

(٣) الإيمان بالقدر : ٩.

٩١

٦

التفويض ومضاعفاته

لما كانت السلطة الأُموية مروّجة للقدر والقضاء بالمعنى السالب للاختيار وكان ذلك مخالفاً للفطرة الإنسانية وقضاء العقل وسيرة العقلاء ، قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته ولكنّ السلطة اتّهمتهم بنفي القضاء والقدر ثمّ وضعت السيوف على رقاب بعضهم.

هذا هو معبد الجهني اتّهموه بنفي القدر فذهب إلى الحسن البصري فقال له : إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى ، فقال : كذب أعداء الله. (١)

ومثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتّهم به معبد الجهني فقد جاهر بمذهبه أيام هشام بن عبد الملك وأُحضِر الأوزاعي لمناظرته فأفتى بقتله فصُلب على باب كيسان بدمشق. (٢)

ولا أظن انّ الرجلين كانا ينكران القضاء والقدر ، إذ كيف يمكن لمسلم أن ينكر أصلاً قرآنياً يعد من المعارف العليا للقرآن الكريم ، وإنّما كانا ينكران تبرير

__________________

(١) الخطط المقريزية : ٢ / ٣٥٦.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٤٧.

٩٢

ظلم الظالمين وتعدّي الجائرين ، بالقضاء والقدر.

نعم صار ذلك سبباً بعد فترة من الزمن لظهور نظرية التفويض التي تدّعي تفويض الأُمور إلى العباد وانّه ليس لله سبحانه أيّ صنع في أفعالهم فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ، مستغنياً عن الله سبحانه في ايجاد أفعاله ، فصار الإنسان على حسب هذه النظرية كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء والقدر عند الجبريّين حاكماً على كلّ شيء ولا يمكن تغييره إلى صورة أُخرى من الصور ، فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد ويميلان إلى جانبي الإفراط والتفريط. وإليك نقد النظرية على وجه الإيجاز :

١. القول بالتفويض يلازم الشرك

إنّ القول بالتفويض يلازم الشرك الخفي ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين في الخلق والإيجاد : أحدهما العلّة العليا التي خلقت الموجودات والكائنات والإنسان ، والأُخرى الإنسان نفسه فإنّه يستقل بعد الخلقة في أفعاله وتنقطع حاجته إلى الله بعد وجوده وهو نفس تصوير المِثْل لله سبحانه.

٢. الإنسان في دوّامة الحدوث

إنّ الموجود الطبيعي في النظرة الأُولى له حدوث وبقاء ولكنّه في النظرة الدقيقة كلّه حدوث بعد حدوث ، لأنّ مقتضى الحركة الجوهرية هو كون العالم في تبدل مستمر وتجدّد دائم ، بأعراضها وجواهرها ، فذوات الأشياء في تجدد واندثار متواصل ، وما أشبه العالم بالصورة المنعكسة في الماء الجاري ، فهي ثابتة في النظرة الأُولى ، ولكنّها في النظرة الدقيقة متعددة متبدّلة حسب تبدّل الماء وقال سبحانه :

٩٣

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ). (١)

وبما أنّ المروي عن المفوضة انّ الإنسان محتاج إلى الله في حدوثه لا في بقائه ، ولذلك قالوا باستغنائه في الفعل عنه تعالى ، فليبين موقف الوجود الإمكاني إلى الواجب تبارك وتعالى حتّى يتبيّن حاجته إليه حدوثاً وبقاءً ونأتي بمثال :

انّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب كمثل المصباح الكهربائي المضيء فالحس الخاطئ يزعم انّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل ، ويتصور انّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء دون استمراره.

والحال انّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في ضوئها إلى ذلك المولّد في كلّ لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي.

فينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه وبين المولد ، فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً فهو لكونه فاقداً للوجود بالذات يحتاج إلى العلّة (الواجب الوجود) في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ الوجود ـ عنه تعالى ـ آناً بعد آن وزماناً بعد زمان.

فإذا كان هذا حال الفاعل وذاته ، فكيف حال الفعل فالإنسان المحتاج إلى الواجب في كلّ آن ، محتاج إليه في الفعل والإيجاد ، لأنّ الفعل رهن الذات وموقوف عليها ، والذات في كلّ آن رهن العلّة العليا وموقوفة عليها ، فينتج انّ الفعل رهن العلّة العليا وموقوف عليها.

__________________

(١) النمل : ٨٨.

٩٤

٧

الأمر بين الأمرين

كان الرأي السائد في المسألة أحد الرأيين ، إمّا الجبر ، وإمّا التفويض ؛ وبذلك ضلّ القائلون إمّا في متاهات الجبر أو بوقوعهم في حبال الشرك.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار أحد المذهبين هو انّ القائلين بالجبر زعموا أنّ صيانة التوحيد في الخالقية (لا خالق ولا مؤثر إلاّ الله سبحانه) رهن القول بالجبر ، فلو قلنا بالاختيار يلزم أن يكون الإنسان خالقاً لفعله ، جاعلاً لعمله وهو ينافي التوحيد الأفعالي الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.

كما أنّ القائلين بالتفويض زعموا أنّ صيانة عدله سبحانه وتنزيهه عن الظلم والتعدّي ، رهن القول بالتفويض وتصوير انّ الإنسان فاعل مختار مستغن في فعله عن الواجب سبحانه بل محتاج في حدوثه إلى الله لا في بقائه فكيف في فعله؟

وعلى كلّ تقدير فالجبري يعتقد بانقطاع فعل الإنسان عنه ، وانّه فعل الله تماماً من دون أن يكون له صلة بالفاعل إلاّ كونه ظرفاً لفعل الخالق.

والقائل بالتفويض يعكس الأمر ويعتقد بانقطاع نسبة الفعل إلى الخالق ، وكونه مخلوقاً للإنسان تماماً من دون أن يكون هناك صلة بين فعله وخالق الكون. فالطائفة الأُولى يحسبون أنّهم بالقول بالجبر يرفعون راية التوحيد في الخالقية ، كما أنّ

٩٥

الطائفة الثانية يزعمون أنّهم بالقول بالتفويض ينزهون الرب عن كلّ عيب وشين.

كان الرأيان سائدين ولكن أئمّة أهل البيت ضربوا على وجه الرأيين وقالوا : إنّ موقف الإنسان بالنسبة إلى الله غير موقف الجبر المشوِّه لسُمعة المذهب ، وغير موقف التفويض المُلْحِق للإنسان بمكان الشرك ، بل موقفه أمر واقع بين الأمرين.

إنّ صيانة التوحيد في الخالقية ليس منوطاً بالقول بالجبر ، أو صيانة عدله وقسطه ليس منحصراً بالقول بالتفويض ، بل يمكن الجمع بين الرأيين برأي ثالث ، وهو انّ الإنسان ذاته وفعله قائمان بذاته سبحانه ، وبذلك لا يصحّ فصل فعل الإنسان عنه سبحانه لافتراض قيامهما وعامة العوالم بوجوده سبحانه.

وفي الوقت نفسه انّ فعله غير منقطع عنه ، وذلك لأنّ مشيئة الله تعلّقت بنظام قائم على أسباب ومسببات ، وصدور كلّ مسبب (فعل الإنسان) عن سببه وهو الإنسان ، فلا يصحّ فصل المسبّب عن سببه ، فالنتيجة هو انّ لفعل الإنسان صلة بالله وصلة بسببه ، وهذا هو الأمر بين الأمرين.

نحن نعتقد بالتوحيد في الخالقية الذي يعبر عنه بالتوحيد الأفعالي ، ولكن لا بمعنى إنكار العلل والأسباب وإنكار الروابط بين الظواهر الكونية ونفي أيّ سبب ظلّي يعمل بإذنه سبحانه ، فإنّ إلغاء الأسباب مخالف للضرورة والوجدان والذكر الحكيم.

بل بمعنى انّ العوالم الحسيّة والغيبيّة بذواتها وأفعالها قائمة به سبحانه ، وكما انّ تأثيرها وسببيّتها بإذنه ومشيئته ، فكلّ ظاهرة كونية لها نسبة إلى أسبابها ، كما أنّ لها نسبة إلى خالق أسبابها ، فإلغاء كلّ سبب وعلّة ، ونسبة الظاهرة إلى ذاته سبحانه ، غفلة عن تقديره سبحانه لكلّ شيء سبباً ، كما أنّ نسبة الفعل إلى السبب القريب وفصله عن الله سبحانه غفلة عن واقع السبب وانّه بوجوده وأثره قائم بالله

٩٦

سبحانه ، فكيف يمكن فصل أثره عنه تعالى؟!

ولأجل إيضاح الموضوع نقول : إنّ الأسباب الطبيعية على أقسام :

١. سبب مؤثر ـ بإذن الله ـ فاقد للشعور.

٢. سبب مؤثر ـ بإذن الله ـ واجد للشعور ، لكن فاقد للاختيار كحركة المرتعش.

٣. سبب مؤثر ـ بإذن الله ـ واجد للشعور والاختيار كتحريك الإنسان ليده.

فالحرارة تصدر من النار بإذنه سبحانه بلا شعور.

وحركة يد المرتعش تصدر منه مع علم الفاعل بلا اختيار.

والأفعال التي يُثاب بها الإنسان أو يعاقب وبها تناط سعادته وشقاؤه يوم القيامة تصدر منه عن علم واختيار ، كلّ ذلك بإذنه ومشيئته.

فلا القول بالتوحيد الأفعالي (لا مؤثر ولا خالق إلاّ هو) يصادم الاختيار ، لأنّ حصر الخالقية المستقلّة بالله لا ينافي نسبة الخالقية غير المستقلة وغير النابعة من ذاته إلى الإنسان ، ولا القول بالاختيار يزاحم سلطانه وقدرته ، فالفعل فعل الإنسان ، لأنّه السبب القريب وفي الوقت نفسه منسوب إليه سبحانه لكونه السبب البعيد (١) الذي أوجد الإنسان وأفاض عليه القدرة وزوّده بالاختيار.

هذا بيان موجز لهذا القول الموروث من أئمّة أهل البيت واستقبل المفكّرون من أهل السنّة هذه الفكرة ، كالإمام الرازي والشيخ عبده في رسالة التوحيد ، لمّا رأوا انّ في القول بالجبر الأشعري مضاعفات لا تحتمل ، وقد شاع ذلك القول بين المفكّرين المصريّين في العصر الأخير لما تأثّروا بالأفكار الغربية المروّجة للحرية والاختيار.

__________________

(١) قد استخدمنا «السبب البعيد» لأجل تقريب المطلب ، وإلاّ فالواقع فوق ذلك.

٩٧

وتتجلّى قيمة هذا المذهب ببيان برهانه العقلي أوّلا ، وتحليل ما يدلّ عليه من الذكر الحكيم ثانياً ، والأحاديث الصحيحة ثالثاً.

١. نسبة الفعل إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة

إنّ نسبة فعل العبد إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة ، فإنّ الله سبحانه وهب الوجود والحياة والعلم والقدرة لعباده وجعلها في اختيارهم ، وانّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء فيُنسب الفعل إلى الله تعالى لكونه مفيضَ الأسباب ، وإلى العبد لكونه هو الذي يصرفها في أي مورد شاء. وهناك مثال يبين حال النظريات الثلاث : الجبر ، والتفويض ، والأمر بين الأمرين.

لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد ، فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم انّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويُهلكه ، فإذا وقع السيف وقتله ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف ، دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

ولو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلاّ بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن ، انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزاً. فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره وقتل إنساناً ، والرجل يعلم بما

٩٨

فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن ، حتّى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، كان متمكناً من قطع القوة عنه في كلّ آن شاء وأراد.

فالجبري يمثِّل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال الأوّل ، حيث إنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار ومضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصور أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاءً والعلّة الأُولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك ، فكان الإنسان محتاجاً إلى رجل آخر في أخذ السيف ، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

والقائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث ، فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لو قُطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء.

والحاصل إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته ؛ وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كلّ آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. (١)

وهناك مثال آخر ذكره شيخنا المفيد ، فقال :

__________________

(١) المحاضرات : ٢ / ٨٨٨٧ ؛ أجود التقريرات : ١ / ٩٠.

٩٩

نفترض انّ مولى من الموالي العرفيّين يختار عبداً من عبيده ويزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود ولأجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى وملّكه ما ملك ، لكنّه لا يملك ، وأين العبد من الملك؟ كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا : إنّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه ، جعله مالكاً وانعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبدُ ، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، وقلنا : إنّ المولى مقامه في المولوية ، وللعبد مقامه في الرقية ، وانّ العبد يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في حين انّ العبد مالك ، فهنا ملك على ملك.

كان ذلك القول الحق الذي رآه أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وقام عليه البرهان. (١)

وفي بعض الروايات إشارات واضحة إلى الأمر بين الأمرين.

روى الصدوق في توحيده عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «قال الله عزّ وجلّ : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (٢)

ترى أنّه يجعل مشيئة العبد وإرادته تلوَ مشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعرّفهما مفصولتين عن الله سبحانه ، بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد ، لها نسبة إلى الله سبحانه.

__________________

(١) الميزان : ١ / ١٠٠.

(٢) التوحيد : ٣٤٠ ، باب المشيئة والإرادة ، الحديث ١٠.

١٠٠