الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٥

٢. انتفاء فائدة المناهج التربوية

التربية عبارة عن توفير أرضية مناسبة لخروج ما هو بالقوة إلى منصّة الظهور والفعلية ، وهذا كالمزارع والفلاح القائمين بتربية البذور والنباتات فيوفّران ما يحتاجان إليه في إخراج الاستعداد المكنون فيهما إلى حيز الظهور والكمال ، فليس للمربّى دور الخلق والإيجاد ، بل تهيئة الظروف المناسبة لأن يُظهر الشيءُ كمالَه المستور لكي ينقلب البذر زرعاً والنبات شجراً.

وعلى ضوء ذلك فالمناهج التربوية في الإنسان ، شعارها رفع المستوى الفكري له وسوقه نحو الفضائل ومنعه من السقوط في هاوية الرذائل ، ومن المعلوم أنّ تحقّق هذه الغاية رهن وجود الحرية في الإنسان لكي يقع في إطار التربية ، فيسير حسب الضوء الذي يريه المربي ، فلو كان مسيّراً لا مخيّراً فإعمال الأساليب التربوية يُصبح أمراً لغواً غير مؤثر.

٣. تكذيب الكتاب العزيز

إنّ من سبر الكتاب العزيز وتجرد عن عامّة الرواسب يجد انّ القرآن يصوّر الإنسان فاعلاً مختاراً يخاطبه فينصحه تارة ، ويأمره أُخرى ، ويزجره ثالثاً ، ويعده رابعاً ويوعده خامساً ، إلى غير ذلك من علائم الاختيار وآثاره ، ونذكر منها ما يلي :

١. قوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

٢. قوله سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً). (١)

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

٦١

ولله در الشهيد السعيد زين الدين العاملي حينما أنشد :

لقد جاء في القرآن آيةُ حكمة

تدمِّر آياتِ الضلال ومن يُجبر

وتخبر انّ الاختيار بأيدينا

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

٣. قال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ). (١)

٤. قال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ). (٢)

٥. قال سبحانه : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ). (٣)

٦. قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى). (٤)

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الإنسان مخيّر فيما يختار ويترك وليس في حياته عاملُ ضغط باسم القدر والقضاء أو غيره ، يسلب عنه الاختيار ، وأمّا الآيات التي ربّما يستشم منها الجبر ، ككون الهداية والضلال بيد الله سبحانه فسيوافيك تفسيرها.

٤. الجبري في ساحة الحياة ، اختياريّ

كلّ من رفع راية الجبر واتّسم به في الحياة ، وبنى عليه منهجاً فلسفياً ، فهو يغالط نفسه ، فترى أنّه إذا ظُلم وغصب حقّه ، يندِّد بالظالم ويرفع شكواه إلى

__________________

(١) فصلت : ٤٦.

(٢) الطور : ٢١.

(٣) النور : ١١.

(٤) النجم : ٤١٣٩.

٦٢

المحاكم حتّى يأخذ الحاكم حقّه من الغاصب والظالم ، فلو لم يكن لخصمه خيرة واختيار فما معنى التنديد والتعرض له؟ وهذا يدلّ على أنّه يصوّر الخصم المخالف إنساناً مختاراً غصب ما يملكه عن اختيار وله أن يقوم بردّه إلى صاحبه.

وبالجملة كلّ من رفع عقيرته بالجبر فهو حين الجدال والسجال وإن كان جبريّاً ولكنّه في حياته الاجتماعية اختياري على ضد الجبر ولا يقبل أيّ عذر لخصمه!!

٥. الجبر واجهة لنيل المزيد من الحرية

إنّ من دوافع القول بالجبر هو اشباع الميول والغرائز الحيوانية في الحياة ، فالجبري يطلب المزيد من الحرية من وراء ادّعائه الجبر ، ويتستر تحت واجهة الجبر ليخلِّص نفسه من عهدة التكليف والمسئولية ، ففي الحقيقة هو لا يؤمن بالجبر كمنهج للحياة ، بل يعتقد بالحرية فيها ليعيش فيها وفقاً لما تمليه عليه غرائزه الجامحة.

إلى هنا تم الحديث عن بعض مضاعفات الجبر.

٦٣

٤

شبهات وحلول

ثمّ إنّ للقائلين بالجبر شبهات مختلفة ربما يغتر بها السذج من الناس ، فها نحن نستعرض تلك الشبهات ونضع أمام القارئ حلولاً لها على نحو لا يبقى لمشكك شك ولا لمريب ريب ، فنقول :

الشبهة الأُولى

 ١. مثلث الشخصية

إنّ فعل الإنسان تعبير عن شخصيّته المكوّنة بأُصول ثلاثة يعبّر عنها بمثلث الشخصية وإن كانت الأضلاع في بنائها ومقدار تأثيرها غير متساوية ، ولكن كلّ ضلع يؤثر فيها تأثيراً قطعيّاً ، وأمّا أضلاعها :

أ. ناموس الوراثة.

ب. الثقافة.

ج. البيئة.

أمّا الأوّل : فهو أمر اعترف به العلم والتجربة ويلمسه كل إنسان واع ، فالولد كما يرث الصفات الجسمانية للوالدين كذلك يرث صفاتهما الخُلقية وينشأ

٦٤

عليها ، يقول الشاعر :

ينشأ الصغير على ما كان والده

انّ الأُصول عليها ينبت الشجر

فاللبنة الأُولى في بناء الشخصية الصالحة أم الطالحة هي ما يرث الولد من الوالدين من الفضائل والرذائل ، وقد كشف العلم أنّ الجينات الموجودة في النطفة الإنسانية سبب طبيعي وعامل لانتقال هذه الصفات من الوالدين إلى الطفل.

وأمّا الثاني فيأتي دوره بعد دور الوراثة حيث إنّ المعلّم يمثِّل المدرسة التربوية الثانية بعد مدرسة الأبوين ، ولهذا يكون دور التعليم في مصير الطفل دوراً حسّاساً في قلبه.

وأمّا الثالث فيأتي دوره إذا أتمّ دراسته وبدأ ممارسة العمل ، فعندئذ يتأثر في سلوكه وخُلقه بالبيئة التي يعيش فيها ، فإذا كانت العوامل الثلاثة متجانسة في الغاية والأثر ، يقع الكلّ في طريق تكوين الشخصية الواحدة بلا صراع بينها ولا نزاع ، وأمّا إذا كان بينها نزاع وصراع في الغاية والدعوة ، فتكون النتيجة من حيث السلوك ، تابعة لأقوى العوامل وأرسخها في الروح وهو يختلف حسب اختلاف تأثير الأوفر سهماً من هذه ، ولأجل ذلك يوجد من يختار سلوك الآباء كما يوجد من يتركه ويقتفي أثر الثقافة أو البيئة.

وعلى كلّ تقدير فالإنسان مختار صورة ، لكنّه مسيّر سيرة يخط مصيره هذه العوامل أو أقواها تأثيراً.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ ما ذكر من تأثير العوامل الثلاثة في بناء الشخصية أمر لا غبار عليه ، إنّما الكلام في كونها علّة تامّة أو معدّات تُوجِد أرضية لنمو مقتضاها ، ولا تُوجِدُ حتمية ، غير قابلة للتغيير :

٦٥

أمّا العامل الأوّل فلا شكّ في تأثيره ، وقد قال سبحانه : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً). (١) وفي الآيات والروايات تصريحات وإشارات إلى ذلك ، لكن أثرها بين غير قابل للتغيير ، كالبُله والحُمق والبلادة ، وبين قابل له في ظلّ عوامل تربوية ، ولأجل ذلك ربما يكون الولد المتولّد من أبوين بارّين ، خائناً وجانياً ، كما ربما يكون الولد المتولّد من أبوين طاغيين ، إنساناً صالحاً مطيعاً ، والأوّل كولد نوح ، والثاني كعمر بن عبد العزيز الأموي.

ومثله العامل الثاني ، فليس عاملاً حتميّ الأثر وقطعيّ النتيجة ، فربّما يسعى الوالدان ، لتغيير ما أوجده التعلّم من الآثار الطيّبة أو الخبيثة.

ولا يقلُّ عنه العامل الثالث ، فقد أثّرت البيئة الفاسدة على امرأة نوح وامرأة لوط ، فأفسدتهما (٢) وفي الوقت نفسه بقيت في بيت نوح عدّة على صلاحهم وفلاحهم. فهذه العوامل بأجمعها معدّات ، لا علّة تامّة في بناء الشخصية الحتمية غير القابلة للتغيير.

ثانياً : أنّ العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية لا تنحصر في العوامل الثلاثة المذكورة التي اختارها المادي ، لأنّها تناسب ما يبتغيه ، كيف وانّ هناك أبعاداً روحية للإنسان وأحاسيس خاصة ، توحي إليه خير الحياة وتدفعه إليها ، بحماس ، وإن لم يكن علّة تامة أيضاً في التخطيط ، وهي عبارة عن الإدراكات النابعة من داخل الإنسان وفطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي ، كإحساسه بالجوع والعطش ، ورغبته في الزواج في سنين معيّنة ، والاشتياق إلى المال والمنصب في فترات من حياته ، وميله إلى ما هو حسن بالذات وهروبه عمّا هو قبيح كذلك ،

__________________

(١) الأعراف : ٥٨.

(٢) لاحظ سورة التحريم ، الآية ١٠.

٦٦

كالإحسان والأمانة والوفاء بالميثاق ، وفي مقابله الظلم ، والخيانة ، ونقض العهد. تلك المعارف ـ وإن شئت سمّيتها بالأحاسيس ـ تنبع من ذات الإنسان وأعماق وجوده.

٦٧

الشبهة الثانية

أفعال الإنسان في إطار القضاء والقدر

القدر بمعنى انّه سبحانه يقدّر وجود الشيء ويحدّده كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلى غير ذلك من الخصوصيات الحافّة بالشيء قبل تحقّقه وايجاده. هذا هو التقدير ، وأمّا القضاء فهو حكمه القطعي بتحقّق ذلك الشيء المقدّر في ظرفه.

هذا حسَب أُصولنا وأمّا على أُصول غيرنا ، «فالقضاء» هو إرادته سبحانه الأزلية ، «والقدر» هو ايجاد الشيء على قدر مخصوص كما سيوافيك. (١)

فقد أخذوا من القدر ، المعنى العيني وغفلوا عن معناه العلمي ، فالتقدير منه علمي قبل الايجاد ، ومنه عيني معه.

والتقدير والقضاء بهذا المعنى يشمل كلّ ما في الكون من الموجودات الممكنة من السماء والأرض وما فيها حتّى الإنسان وجوده وفعله.

وإن أردنا أن نشبه المعقول بالمحسوس فنقول :

__________________

(١) لاحظ ص ٧٨.

٦٨

التقدير والقضاء أشبه بعمل الخياط عند ما يأخذ قياسات الثوب ، ثمّ يشرع بخياطته ولو لا ذلك لتعسّر عليه الخياطة.

ما هو محط النزاع في المقام؟

إنّ محطّ النزاع في القضاء والقدر ، هو أفعال الإنسان ، التي يترتّب عليها الثواب والعقاب ، ويحمد أو يذمّ ، فهل وقوعها في إطار القضاء والقدر يسلب عنه الاختيار ويسود عليها ، الجبر والحتم ، أو لا؟!

وأمّا ما وراء ذلك من الأُمور الكونية سواء أكان له صلة بحياة الإنسان وأفعاله أم لا ، فخارج عن محط النزاع ، فالقول بسيادة الجبر عليه ، نظر إلى الخصوصيات الكامنة في وجوده ، تعبير واضح عن واقع وجوده مثلاً.

١. انّ حركة الشمس والقمر وما بينهما وفوقهما من السيارات والكواكب والمجرّات ، حركات جبرية لأنّه سبحانه قدّر وجودها ، وحركاتها بهذه الخصوصية وقضى عليها به ، يقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١) فالجميع فواعل ، تسخرية غير شاعرة بأفعالها.

٢. ما يقوم به النحل والنمل من الأفاعيل العجيبة ، المحيّرة للعقول حركات تسخرية ، يقوم به عن شعور ، ولكن لا بحرية واختيار فقد كتبت عليهما بقلم الفضاء ان يتخذ من الجبال بيوتاً والشجر وممّا يعرشون يقول سبحانه حاكياً عن القضاء المحتوم على النحل : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

__________________

(١) النحل : ١٢.

٦٩

ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (١)

فالنحل ذاته ووجوده وعمله وصنعه واقع في إطار التقدير والقضاء والنظام السائد على ذلك ، هو سيادة الجبر عليه وأشباهه.

٣. انّ خلقة الإنسان ونشؤه من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة إلى العظام إلى غير ذلك ممّا يجري عليه إلى أن يؤكد وينمو ويشبّ ويشيب ، ويموت كلّها واقع في إطار التقدير والقضاء ، لا خيار للإنسان فيه ، شاء أم لم يشأ ، فالقول بسيادة الجبر عليه في هذه المرحلة تعبير واقعي ، لا ينافي حكم العقل والشرع.

٤. انّ ما يواجهه الإنسان في حياته ، ممّا يبتلي به غير مريد به كالطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، والسيل العارم الذي يهدم منزله وبيته ، والزلزال الشديد ، الذي يزعزع بنيانه وبالتالي يخسر ويتضرر ، كلّها بقدر من الله سبحانه لا يُلام بها الإنسان ولا يذمّ وهو أيضاً كسوابقه خارج عن محطّ البحث.

فالذي تدور عليه رحى النزاع والدراسة ، ما يصدر عن الإنسان من الأفعال التي في وسعه تركها أو فعلها ، فهل وقوعها في إطار التقدير يجرّنا إلى القول بالجبر ، أولا صلة بين القول بالقضاء والقدر ، واستنتاج الجبر منه؟

وهذا موضوع بحثنا ودراستنا.

إنّ كثيراً من الناس زعموا انّ القول بالقضاء والقدر يضادّ كون الإنسان مخيراً ، وقد كان ذلك الزعم سائداً في عصر الإمام أمير المؤمنين حيث أقبل شيخ إلى الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ عند منصرفه من صفين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاء الله وقدره؟

__________________

(١) النحل : ٦٦.

٧٠

فقال : «أجل يا شيخُ ما علَوتُم من تلْعة ولا هبطتم من واد إلاّ بقضاء من الله وقدره فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. (١)

فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي مقامكم إذ أنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، لم تكونوا في شيء من حالاتكم مُكْرَهين ، ولا إليه مضطرّين».

فقال الشيخ : فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ، ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟!

فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «أتظن أنّه كان قضاءً حتماً ، وقدراً لازماً ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزجر من الله تعالى ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن لائمة للمذنب ، ولا مَحْمَدَة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، وتلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها ، وانّ الله كلّف تخييراً ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعص مغلوباً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يملِّك مفوِّضاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النار». (٢)

والحديث جمع بين القول بين القدر والقضاء وكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً. وانّ الإيمان بالقدر ، لا يجعل الإنسان مكتوف اليدين بل هو مختار غير مكرَه.

ولقد بقيت الفكرة بعد رحيل الإمام علي ـ عليه‌السلام ـ وتسرّبت إلى كثير من الأوساط

__________________

(١) ومعنى هذه الجملة : انّي لم أقم بعمل اختياري ، ولأجل ذلك احتسب عنائي عند الله.

(٢) الصدوق : التوحيد : ٣٨٠ ، الحديث ٢٨.

٧١

فجعلوا القضاء والقدر من أدلّة الجبر.

ولمّا كان في القول بالقضاء والقدر وصمة الجبر ، أنكرت المعتزلة وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد متعلّقة بالقضاء والقدر ، خلافاً للأشاعرة فقد جعلوا الأفعال متعلّقاً للقضاء والقدر ، فقالوا : إنّ قضاء الله هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال ، وقدره إيجادها إيّاها على قدر مخصوص وتقدير معيّن في ذواتها وأحوالها. (١)

أقول : لا شكّ انّ كلّ ما في الكون من كبير وصغير وجليل ودقيق من الجواهر والأعراض كلّها واقعة في إطار القدر والقضاء ، غير أنّ استنتاج الجبر من القدر والقضاء ، استنتاج خاطئ ، بل القول بهما يؤكد الاختيار على خلاف ما يستنتجه القائلون بالجبر. وإليك توضيح المقام فانّه يطلق القضاء والقدر على معنيين :

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ١٨١١٨٠.

٧٢

المعنى الأوّل للقضاء والقدر

 القضاء والقدر : السنن الكونية

يُطلق القضاء والقدر ويراد بهما السنن الكونية الواردة في الكتاب والسنّة السائدة على الكون عامّة ، والإنسان خاصة وبيد الإنسان مفتاح التظلّل تحت أي سنّة من السنن ، ونذكر من هذه السنن ، الشيء القليل من الكثير :

١. قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح ـ عليه‌السلام ـ :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). (١)

فترى أنّ نوحاً ـ عليه‌السلام ـ يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامّة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه ، يسوق المجتمع إلى النظر والعدل والقسط ، إذ في ظلّه تنصبّ القوى على بناء المجتمع على أساس

__________________

(١) نوح : ١٢١٠.

٧٣

صحيح ، فتُصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامّة ؛ كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

وللمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّة من السُّنتين ، فالكلّ قضاء الله وتقديره. فمن تمسّك بالأُولى فقد تمسّك بقضاء الله ، كما أنّ تمسّك بالثانية فقد تمسّك به أيضاً.

٢. قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (١)

٣. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٢)

٤. قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). (٣)

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها وللإنسان الخيار في الأخذ بأيّة من السّنتين.

٥. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). (٤)

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجاباً وسلباً ، وتُبيّن النتيجة المترتّبة على كلّ واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.

٦. وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا

__________________

(١) الأعراف : ٩٦.

(٢) الرعد : ١١.

(٣) الأنفال : ٥٣.

(٤) إبراهيم : ٧.

٧٤

يَحْتَسِبُ). (١)

٧. وقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (٢)

فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبّته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله سبحانه ولا يوفّقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ). (٣)

٨. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (٤)

فالصالحون لأجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

٩. وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (٥)

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه على وجه التمام ، ويترتّب عليه ـ وراء الاستخلاف ـ ما ذكره في الآية من التمكين

__________________

(١) الطلاق : ٣٢.

(٢) إبراهيم : ٢٧.

(٣) إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الأنبياء : ١٠٥.

(٥) النور : ٥٥.

٧٥

وتبديل الخوف بالأمن.

١٠. وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها). (١)

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم ، تبيّن سنّته السائدة على الأُمم جمعاء.

١١. وقال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). (٢)

١٢. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). (٣)

١٣. وقال سبحانه : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ * وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ). (٤)

والآية من أثبت الآيات المبيّنة لسنته تعالى في الذين كفروا ، فلا يصلح للمؤمن أن يغرّه تقلّبهم في البلاد ، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتّى يقف على أنّ للباطل جولة وللحقّ دولة ، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار كما أنّ مردّ المؤمنين إلى الجنة ، والإنسان مخيّر بين

__________________

(١) محمد : ١٠.

(٢) الأنفال : ٢٩.

(٣) آل عمران : ١٣٧.

(٤) غافر : ٦٤.

٧٦

التظلّل تحت أي واحد منهما.

١٤. وقال سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً). (١)

وما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهيّة السائدة على الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبّر في آيات الكتاب العزيز حتّى يقف على سننه تعالى وقوانينه ، ثمّ يرجع إلى تاريخ الأُمم وأحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

فالجميع من قضائه وقدره ، وللبشر أن يتظلل بأي واحد منهما شاء ... وليس في القول بالقضاء والقدر بهذا المعنى ، رائحة الجبر ، بل فيها تأكيد للاختيار. هذا هو المعنى الأوّل لهما وإليك المعنى الثاني.

__________________

(١) فاطر : ٤٢ ـ ٤٣.

٧٧

٢. المعنى الثانى للقضاء والقدر

علمه الأزلي بتحقّق الشيء مع خصوصياته

المراد من القدر هو علمه سبحانه بالأزل بحد الشيء وخصوصيات وجوده وحدوده ، كما أنّ المراد من القضاء هو علمه بتحقّقه ووجوده ، وهذا ما يسمّى بالتقدير والقضاء العلميّين.

وربما يتوهّم انّ دخول فعل الإنسان في اطار القدر والقضاء يوجب سلب الاختيار عن الإنسان ، لأنّه سبحانه يعلم في الأزل فعل الإنسان حسب ما له من الخصوصيات ، ويعلم تحقّقه في المستقبل ، فإذا كان فعل الإنسان معلوماً لله سبحانه تقديراً وقضاءً فلا يبقى له الاختيار.

على هامش الشبهة

إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق

٧٨

علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً ، وصدور فعله عنه اختياراً ، يؤكّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات ، وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ؛ وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

ونقول توضيحاً لذلك : إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة ، كأعمال الجهاز الدمويّ ، والجهاز المعويّ ، وجهاز القلب ، والأحشاء ، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية ، غير الاختيارية ؛ وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار ، ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية ، كدراسته ، وكتابته ، وتجارته ، وزراعته.

ولمّا كان علم الله تعالى تعبيراً عن الواقع على نحو لا يتخلّف عنه قيدَ شعرة ، فيتعلّق علم الله بأفعال الإنسان على ما هي عليه من الخصائص والألوان. فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل صدور فعل معين في لحظة معيّنة من إنسان معيّن إمّا بالاضطرار ، أو الإكراه ، أو بالاختيار والحرية ، وتعلّق مثل هذا العلم لا يُنتج الجبر ، بل يلازم الاختيار. ولو صدر كلّ قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلّفاً عن الواقع.

ولمّا كان الموضوع ممّا ضلّ فيه كثير من الأفهام ، وزلّت أقدام غير واحد من الباحثين ، ندرس الموضوع على وجه التفصيل ، ونرفع النقاب عن وجه الواقع ،

٧٩

بذكر بعض الأمثلة :

١. إذا كان تعلّق العلم بالفعل سالباً للاختيار وموجباً للجبر يلزم أن يكون سبحانه ـ نعوذ بالله ـ فاعلاً بالجبر ، لعلمه بفعله قبل إيجاده ، والله سبحانه هو الفاعل المختار لا يخضع لشيء.

٢. انّ المعلم الذي يمارس التدريس ، بإمكانه التنبّؤ بنتائج الامتحان الذي سيقام لتلاميذه آخر الفصل الدراسي ، حيث يستطيع أن يميز بين الناجح منهم والراسب وتكون نتيجة الامتحان وفق ما تنبّأ به ، أفيصح للراسب في الامتحان أن يلقي وزر ذلك على عهدة معلمه؟!

فإنّ علم المعلّم وصّاف كشّاف يحكي عن الواقع ولا يؤثّر عليه وإنّما المؤثر على الواقع مؤهّلات التلميذ وسعيه وكدحه.

٣. انّ علمه سبحانه لا يتعلّق بالمسبّب بما هو مسبّب وإنّما يتعلّق بضم المسبّب إلى أسبابه والنتائج إلى مقدّماتها ، فإذا كان السبب والمقدمة أمراً اختيارياً ، فأولى أن يكون المسبب كذلك.

كلمة للشيخ الغزالي حولَ استنتاج الجبر من العلم الإلهي

وللشيخ محمد الغزالي كلمة في نقد انّ العلم الإلهي يسلب الاختيار ، يقول : إنّ عامّة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يُشبه عقيدة الجبر ولكنّهم حياءً من الله يسترون الجبر باختيار خافت موهوم ، وقد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة وتمكينها ، وكانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي وانهيار الحضارة والمجتمع.

إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف ، كشاف ، يصف ما كان ،

٨٠